الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 725
- بتاريخ: 26 - 05 - 1947
عجائب الشحاذين وأصحاب الملايين!
للأستاذ عباس محمود العقاد
هذه العجائب وتلك - كلتاهما من عجائب أميركا.
وهي بلاد العجائب بغير حدود من المكان ولا من طبقات السكان؛ فإنها لتجود بالعجائب في الشمال وفي الوسط وفي الجنوب، وإنها لتجود بها على أيدي (المتسولين) كما تجود بها على أيدي أصحاب الملايين.
وأعجب العجائب حقاً ما جاء من الوسط على رواية بعض الأنباء البرقية. ولا عجب. . . فانك لتستطيع أن تقول (اعجب العجائب الوسط) كما تقول خير الأمور الوسط. فلا تعدوا الصواب.
وبلاد المكسيك هي البلاد الوسطى بين الشمال والجنوب في القارتين الأمريكيتين.
وعجيبتها المروية هي عجيبة الشحاذين، وهي أعجب ما سمعناه من بلاد العجائب في هذه الأيام.
روي عن صحيفة (اليونفرسال جرافيكو) المكسيكية أن الشحاذين في عاصمة المكسيك قد اتفقوا على الحد الأدنى الذي ينبغي أن يقبلوه ليكون لهم عمل مجد على قدر المستطاع. وقرروا أن يرفضوا على نصف المليم ولا يمدوا أيديهم إلى مادون خمسة مليمات، وعليهم أن يرفضوا الصدقة إذا نقصت عن القيمة المقررة على الوجه الذي يرونه بالغاً في التأنيب والملامة. حسبما يقتضيه الموقف أو يقتضيه الحال)
هذا هو الخبر العجيب!
وهو ولا شك من (علامات الزمن) كما يقولون. لأننا في زمنالادعاء والطلب بالحق والباطل: كل يزعم له حقاً وكل يطالب بحق، حتى من لا يعمل له ولا معمول له على نفسه. وما من أحد قط تذكر الواجب عليه أو ينظر حقوق الآخرين.
وقد كانت مصر تدعى من قديم الزمن ببلاد العجائب، أو تدعى على الأصح ببلاد المفارقات.
وكان أهل مصر يقولون على سبيل الإغراب في الدلالة على التبجح والصفاقة: (حسنة وأنا سيدك!) ويخيل إليهم أنها غاية الغايات في الإدعاء وقلة الحياء. ولكنه عصر غابر
وعجائب تاريخية وأزمنة متأخرة. . . وما هي في حساب بلاد العجائب على الطراز الحديث إلا من وقائع الصحافة وأخبار كل يوم!
ترى ماذا يمون لو قوبلت هذه (الحقوق) بالرفض والإهمال من فريق (المغتصبين)؟
أيضرب أصحاب الحقوق؟
لو فعلوا لكان خطراً جسيماً على المحسنين. لأنهم يبحثون على أبواب السماء فلايجدونها، ويدورون على أبواب الوجاهة والمظاهر فيقال لهم (يحنن) أو يرزقكم الله. ودقة بدقة أو بدقات، وطرقة على الأبواب بطرقة على الأبواب أو بطرقات! ويكون الجزاء على هذا من جنس العمل، في شريعة من لا يعملون!
إذا صح إن الصدقة باب السماء فقد أصبحت مقاليد السماء أذن في أيدي (سدنة) العصر الحديث، وهم أبناء السبيل أو أبناء محراب الطريق.
وكل ما بقى من منافذ الرجاء للمحسنين المساكين أن يكون للسماء اكثر من باب واحد.
فعسى أن يبحث عنه المحسنون موفقين.
وعسى ألا يسبقهم كهان السبيل على الأبواب.
ومتى أصبحت (الشحاذة) على هذا المنوال فلسوف يصبح كل محسن في العصر الحديث على غرار ذلك المحسن الوحيد الذي قال فيه الشاعر العربي:
تراه إذا ما جئته متهللاً=كأنك تعطيه الذي أنت سائله!
تلك هي أعجوبة الشحاذين.
أما أعجوبة أصحاب الملايين فمن محاصيل الشمال في تلك البلاد التي فاضت بجميع أنواع المحاصيل.
وأما بطلها العجيب فهو رجل يدعى (البرت ايت) باع مصانعه وقصوره وسياراته وقبع هو وزوجتهفي خمس حجرات مزرية في إقليم فلادليفيا. . . وقال لمن سألوه: ولم اكتفيت بهذه الحجرات الخمس وهي من مساكن أصحاب الكفاف؟
فقال إنها جهد ما تستطيع الزوجة العاملة عمله أن تتولاهبالخدمة والرعاية، وهي مع ذلك كافيه لمأواه ومأوى ذويه الأقربين.
لو كان هذا الرجل في الشرق لحجروا عليه، واتهموه بالجنون المطبق ولم يكن قصاراه من
التهمة أنه مخلوق عجيب.
على انه الحق عجيب بين الناس لأنه نادر المثال بينهم، لا لأنه غير مفهوم أو لأنه منحرف عن منهاج العقل السليم.
فالعقل كل العقل ما صنع وحده.
والعجب كل العجب ما يصنعه جميع الناس في كل مكان.
لأن الناس لا يعجبون لرجل يودع عشرين مليوناً من الذهب في مصرف من المصارف ولا يحتاج إلى درهم منها لنفقة يومه أو غد، أو لنفقة أحد ممن تلزمه النفقة عليه.
وما الفرق بين عشرين مليوناً من الذهب باسمك أنت وعشرين مليوناً من الذهب باسم رجل آخر تعرفه أو لا تعرفه بين مخلوقات الله الذين يحسبون بالملايين.
ما الفرق بين مال تملكه ومال لا تملكه على هذا الحساب؟
ما الفرق بين مليم تستغني عنه وألف مليون من الدنانير تستغني عنها؟
لا فرق بينهما في حساب العقل السليم.
بل ربما كان الفرق في هذه الحالة أن المليم أفضل وأوفر من ألف المليون.
لأن هم المليم في التفكير والحساب أهون من هم الألوف والمئات والعشرات.
وكل ما هناك انه تنافس على الهباء أو بطر ومزاح في تلفيق المخاوف والأخطار
تنافس على الهباء ليقال إن صاحب الألف أغنى من صاحب المائة أو العشرة.
وبطر أو مزاح في تلفيق المخاوف والأخطار، لأنك تضحك من تلك المخاوف والأخطار لو لم تكن قادراً على توهم الحاجة واختلاقها من العدم، وأنت لا تخلقها من العدم لو استغنيت عنها واستغنيت عن تلك الأموال.
غنى من الوهم تدفع به حاجة من الوهم. فأنت في عناك وفي حاجتك من الواهمين.
وإنما الغني الصحيح كل مال تحول في نفسك إلى إحساس صحيح. فلا قيمة لمال لا يمثله في خزانة النفس رصيد من الإحساس، وكل ما فيخزائن الأرض من الذهب والفضة هو مالك أنت إذا كان قصاراك من المال أن تجمعه في خزانه أو تكتبه في أوراق المصرف بحروف اسمك بدلا من سائر الحروف.
أكان (البرت لايت) عجيباً كما وصفته الصحفووصفه قراء الخبر من المغرب والمشرق؟
نعم إذا كان العجيب هو النادر المخالف للمألوف.
وكلا وألف مرة كلا كما يقول خطباء الحماسة إذا كان العجيب هو الشائع المخالف للمعقول.
ولك أن تقول إن بلاد العجائب فيها مائة وعشرون مليوناً عجيبون ورجل واحد غير عجيب.
فيقول الناس كلهم: عجيب عجيب، ولا تسلم أنت يومئذ من تهمة العجب أو من تهمة الجنون.
على إن المرأة هنا أعجب من الرجل والله
ولو لم تكن أعجب منه لأخذت بتلابيبه وجرته إلى القضاء وملأت عليه الدنيا صخباً ولجباً كما فعلت إمرة الفيلسوف الروسي تولستوي، أو كما فعلها من قبلها نساء الأجاويد من العرب، وكلهن يلمن على ترك الغنى وكسب الدعة والثناء.
رجل عجيب وامرأة أعجب، وعالم أعجب من الرجل والمرأة معاً لأنه يعجب في غير عجب، وكان من حقه أن يصنع كما صنعا فلا يبتلي بشحاذين من ذلك الطراز، ولا بنزاع على الحقوق من قبيل النزاع الذي يقود الى مثل ذلك الإدعاء، فلا يسمع معه صوت للواجب ولا للأنصاف
عباس محمود العقاد
من أحاديث الإذاعة
في الترام
للأستاذ علي الطنطاوي
يا سادتي ويا سيداتي. كنت راكباً أمس في الترام، أفكر في موضوع أتحدث به إليكم، فأسليكم وافديكم، فلا يكون الحديث لذيذ بلا نفع، ولا نافعاً بلا لذة، فكان يطير الموضوعات من رأسي، هواء بارد يلفح الوجوه، فيبلغ منها مثل ما تبلغ السياط، فقمت إلى الباب لأغلقه فاستعصى علي، فشددته فتأبى فجربت فيه الوسائل فما أجدت، فتركته وقعدت. وصعد شاب مفتول العضل، عريض المنكبين، بادي القوة، فجذبه فما استطاع فأمسكه بكلتا يديه، ووضع قوته كلها في ساعديه، حتى احمر وجهه وانتفخت أوداجه، والباب على حالة، فأغضى بصره حياء منا أن ينظر في وجوهنا وقعد. وركب بعده شيخ وكهل وامرأتان، لم يكن فيهم إلا من جرب مثلما جربنا، وخاب كما خبنا. . .
فلما رأيت ذلك، قلت مقالة أرخميدس في أول الدهر:(أوريكا)، وجدت الموضوع إني سأجعل موضوع حديثي (في الترام)، فالترام يا سادة معرض الناس، ومرآة الأمة، وهو مسلاة لمن نشد تسلية، ومدرسة لمن أراد استفادة، وهو سينما أبطالها أناس صادقون، لا (يمثلون) رواية وضعها كاتب، ولكن يعرضون فطرهم التي فطرهم الله عليها، وأخلاقهم وطباعهم وكل صغيرة (في الترام) تمثل كبيرة في الحياة: هذا الباب المغلق مثلاً عنوان فصل كبير من فصول حياتنا، ونقص في تربيتنا، إذ ربما كان دفاع الباب اقل من قوة اثنين منا، ولكنا أتيناه متفرقين، كما نفعل في كل أمر نرومه، وإصلاح نطلبه، نعمد له فرادى، ونقصده أشتاتاً، فلا نصل إلى المقصد، ولا نبلغ غاية، قد استقرت (الفردية) في سلائقنا، فترى الواحد منا يعمل ما لا تعمله الجماعة، فإذا اجتمعنا أضعف بعضنا بعضاً، أو استبد بعضنا ببعض، وإذا نحن أردنا التخلص من هذا، قفزنا من أول الخط إلى آخره، فجاوزنا حد الاعتدال، وتعدينا نطاق الممكن، وأردنا أن نبني الدار قبل أن نعد الحجارة، ونصلح الأمة قبل أن نصلح الأفراد، كأن الأمة مخلوق مستقل، له طول وعرض وعمق وارتفاع. لا يا سادة، ما الأمة إلا أنا وانتم وهم وهن، فإذا لم يصلح كل منا نفسه لم يكن للامة صلاح.
هذا عيب كبير فينا دل عليه الحادث الصغير، وما أكثر ما تدل الصغائر!
ركبت الترام مرة، وكان مزدحماً يغص براكبيه، فلا تبصر لون أرضه، ولا تعرف من الازدحام طوله من عرضه، وكان على المقعد إلى جنبي شيخ مسن احسبه قد دخل في السبعين، وكان معه لبن سائل في صحن ضحل لا غطاء له ولا قعر، فكلما اهتز الترام، أو تحرك الناس، طار رشاشة على ثوبي الذي كنت أتجمل به أيام الحرب، ولا أجد وأنا موظف السبيل إلى غيره، فكنت أضم ثيابي إلي، وأحاول أن ابتعد عنه، ليدرك أذاه لي فيدفعه عني، فلا يدرك ولا يبالي، فقلت له:(يا عم، قد آذيتنا. . . ولوثتنا بالحليب. . .) فما كان منه إلا انه صرخ تصريخاً جمع على أهل الترام، وقال:(اتق الله، ما هذا الكفر؟ ما هذا الجحود؟ ألا تعرف قدر النعم؟ إنه حليب طاهر، هل هو نجاسة؟ حرام عليك).
فتركته ودخلت بين الناس، ووقفت مع الواقفين، وقد كادت تتلامس الوجوه، وتتلاقى الأنفاس، وكدت أختنق، وإذا بشاب على آخر طراز. . . في فمه سيكار أسود ضخم كأنه ذنب العضرفوط، يخرج منه دخان كان رائحته ضراط الخنافس، فوقف أمامي، حتى أوشك أن يحرق بناره انفي، فقلت له:(انتبه يا أخي)، فصاح:(وأين الحرية الشخصية؟ وبأي حق تكلمني؟) وأمثال هذا الهذيان. . .
فرأيت في ذلك مثالاً لعيب آخر من عيوبنا، إننا نأخذ المسائل مقلوبة، ونفهمها على أضدادها، فلا الشيخ فقه الدين وعرف الحلال من الحرام، قبل أن يعظ ويفتي، ولا الشاب عرف المد نية، وأدرك أحوال أهلها، قبل أن يهذي ويتفلسف، الدين يحرم إيذاء الناس، والمدنية تمنع التدخين في الترام، ولكننا نأخذ ما لا نعرف، ونخوض فيما لا نعلم، فكان في حياتنا الشيء وضده، اجتمعت فيها المتناقضات، وائتلفت المختلفات، كما يكون في عصور الانتقال كلها. . .
وصعدت الترام مرة عجوز متصابية متبرجة، كأن وجهها خريطة حربية، من كثرة الخطوط المرسومة عليه والألوان، ففوق عينها خطان أسودان مقوسان، وعلى خديها بقعتان حمراوان، وشفتاها كأنهما قد غمستا بالماء المغلي فاحترقتا ثم نزفتا، فاجتمع عليهما الدم متجمداً فظيعاً، فلم تعود شفتين ولكن صارتا والعياذ بالله، آفتين مشوهتين، وأظافر يديها كأظافر ذئبة افترست حملاً، فهي طويلة محمرة مخيفة، فوقفت في غرفة الرجال وهي
مملوءة بالناس، والى جنبها النساء فارغة مفتوحاً بابها فنظر الناس إليها معجبين، ثم ردوا أبصارهم عنها منكرين، فقالت:(ما فيكم واحد مؤدب، يقوم للست يا عيب الشوم).
فقال لها أحد الحاضرين (تفضلي، هذه غرفة النساء خالية) فنفضت يدها في وجوهنا، وقالت:
- أنتم (متأخرين) كثير، (متوحشين) ما تعلمتم التمدن.
ورأيت مرة شابين دخلا علي غرفة الترام، يلبسان أردية بلا أردان، وسراويل تكشف السيقان، فألقى أحدهم بنفسه على المقعد فاضطجع اضطجاع العروس على سريرها، ورفع الثاني رجلاً فوق الرجل فعل الراقصة على مسرحها، ثم تحدثا حديثاً مخلوطاً فيه العامية والفرنسية والإنكليزية، بالضحكات الخليعة والإشارات المخنثة، تحدثا في الأدب، فكان من رأيهما أن الزيات والعقاد والمازني تحتاج كتاباتهم إلى ترجمان، لصعوبتها وأنها لا تفهم بلا قاموس، ثم ذكرا الامتحان والدروس، ومع الحب والغرام، وأماكن اللهو والتسلية. . . حتى إني لم اعد أطيق الصبر فنزلت وركبت تراماً أخر. . .
هذان مثالان لطبقة من نسائنا ورجالنا، يبديها الترام إن أخفتها البيوت، طبقة هي في الأمة كالديناميت في البناء، والسم في الجسم، والقذى في العين، وهي وان تكن نادرة فينا، ولم تكن تخلو أمة من مثلها - لا ينبغي للمصلحين منا أن يغفلوا عنها، ويهملوا إصلاحها، لأننا أمة تستعيد اليوم حريتها، وتبدأ جهادهاوتسعى لتصل ما انقطع من أمجادها، ولا ينال المجد إلا بشاب أولي خلق وعلم، ونساء أولات عقل وعفاف.
ولكن في الترام، في مقابل هذه الصور التي لم تؤلم وتسوء صوراً تسر وتفرح، لقيت فيه أمس فلاحاً من فلاحي مصر بجلبابه و (طاقيته) وزيه، وكان معي صديق يتكلم في الجلاء عن مصر، وفي جامعة الدول العربية، فاندفع والله هذا الفلاح في حديث عن السياسة والنزاع بين الدول الكبرى، وموقف هذا الشرق الأدنى، وما يتوقع له، وفصل القول في حالة مصر والشام والعراق والمغرب والحجاز واليمن، فكانت محاضرة مرتجلة استمرت اكثر من نصف ساعة، مشى فيها الترام من الفسطاط إلى شبرا، ولو أن سياسياً دعا الناس إلى أفخم ناد من النوادي، فألقى عليهم مثلها لخرجوا معجبين.
ولقيت في الترام فلاحاً آخر، مر به جابي الترام فناداه، (ياأفندي) فقال له: (ما فيش أفندية
دي الوقت، الفلاحين هم أسياد البلد)! يقظة عجيبة، وكلام عظيم، وسيكون أعظم يوم يصير الفلاحون أسياد البلد حقاً، يوم لا يبقى في مصر شركة أجنبية، ولا مصرف أجنبي، يوم لا يبقى في مصر شحاذ مصري، يوم يكون المصريون أعلم من الأجانب وأنظف منهم وأحرص على الصحة وأفهم للحياة وأسبق إلى المغامرة، وسيجيء هذا اليوم قريباً بحول الله.
أيها السادة والسيدات.
إن الترام يكشف أخلاق الناس، وطبائع البلدان، وهو مدرسة يرى المرء فيها القبيح من جاره فيتركه، والحسن فيتعلمه ويستمع الملاحظ المدقق بعد هذا كله بفصول (الفلم) البشرى المعروض عليه
هذا فصل من الرواية: رفيقان يدعان الأمكنة الخالية، ويجلسان حولك هذا عن يمينك وهذا عن شمالك، ويتحدثان في أمورهما الخاصة بهما، من فوق رأسك، لا يحفلان بك ولا يباليانك، كأنما أنت كرسي أو متكأ أذنيك شباك يتكلمان منه. . .
وهذا فصل أخر: رجل طويل عريض، لا يطيب له أكل (بذر البطيخ) إلا في الترام، فلا يزال يقضمه بأسنانه، ويقذف قشره بلسانه، فإن لم يصب به الناس، آذاهم بقبح منظره، وسوء أدبه. . .
وهذا رجل يأتيك من خلفك وأنت واقف في زاوية الترام، يرجوك أن تفسح له ليمر، فإذا انزحت له اخذ مكانك وتركك حائراً لا تدري أين تقف!
وهذا عامل بثيابه الملوثة بالزيت المعدني، أو الملطخة بالطين يحك بك وأنت بثيابك البيض فلا يدعك حتى ينقل إليك زيته وطينه، فان تكلمت قال: ليه؟ هو إحنا مش بني آدم!
وهذه امرأة ضخمة عريضة القفا، تصعد ومعها ولد على ظهرها، وولد تسحبه بيدها، وسلة كبيرة فيها سمك وبصل وكراث، فتقعد على الارض، فتشغل مكاناً كان يقف فيه عشرة رجال، ثم لا تزال تسب هذا لأنه داس على ثوبها، وتشتم ذاك لأنه مس ولدها.
وهذا عجوز ثرثار لا يفتأ الطريق كله، يذم هذا الشعب لأنه لم يتعلم النزول من مقدم الترام، والركوب من آخره ويعجب من جهلة وقلة تربيته، ولا يزال كذلك حتى يصل إلى محطته، فينسى محاضرته الطويلة، وينزل من خلف لا من قدام
وهذا رجل منتفخ كأنه الديك الرومي، مزهو كالطاووسيقعد أمامك فلا يرضيه إلا يمتد ويبرز بطنه ويؤخر رأسه ويرفع رجله في وجهك، حتى يقابلك نعلها، ويكاد يمسك طرفها. . .
وهذا شيخ له عمامة وعذبه، لا يحب أن يذكر الله إلا على سبحة طويلة يرفعها بيده حتى يراها الناس كلهم، ولا يتمسك بسنة السواك إلا في الترام، فيخرجه من جيبه طويلاً ثخيناً، فيستاك به على أبشع هيئة ثم يعصره بإصبعه ويبصق على الأرض وإذا انتقده أحد نادى: يا ضيعة الدين، ويا بوار الأخلاق. . .
وهذا فصل آخر (يمثله) السائق، يقف في المحطة يشتري طبق الفول ورغيف الخبز، ويتباطأ بعدها في سيره ليأكله، حتى إذا وجد أنه تأخر وفاته الموعد، أسرع إسراع الجنون، ولم يمهل المرأة حتى تركب ولدها وتركب بعده، فيبقى الولد في الترام خائفاً يصيح ويبكي يكاد يلقي بنفسه، وأمه تعدو وراء الترام، والناس يصرخن من كل جانب. . .
وفي الترام دليل على طباع كل قطر، ونموذج من حياته، ففي الشام عراك على النزول والصعود، وتسابق فضيع إلى المقاعد لأن فيه شعباً حديث عهد بالجهاد والنضال، ولأن الترام له أول وله آخر، فالناس يركبون معاً وينزلون، وفي مصر تدور اكثر الترامات، دوران الثواني، وتكر كر الأيام، لا أول لها ولا آخر، والناس ينزلون ويصعدون في كل مكان، وفي مصر شعب وادع أنيس فإذا فرغ مقعد في الدرجة الأولى رأيت كلا يدعو الآخر إليه. والفرق في الشام وبيروت بين ركاب الدرجة الأولى والثانية قليل لا يكاد يظهر في زي ولا حديث، وهو في مصر ظاهر بين، لأن شعار مصر التفاوت في كل شيء فليس في الشام ساحله وداخله، أغنياء من الوزن الثقيل ولكن ليس فيه أيضاً إلا القليل من الفقراء المدقعين، وليس فيه علماء كبار جداً، ولكن ليس فيه أيضاً أميه طاغية، وجهالة منتشرة، أما مصر ففيها اشهد الغنى واشد الفقر، وفيها العلم والجهل، والقصور والأكواخ، بل إن فيها شارعاً واحداً في أوله الملاهي والمسارح فكأنك منه في باريس وفي أوسطه البنوك والمصارف، فكأنه من نيويورك، وآخره شارع من شوارع الرقة أو الميادين والترام في الشام هدف كل مظاهرة، وغاية كل إضراب، فإن كان للشعب احتجاج على الحكومة، كسر الترام، وإن كان للطلاب مطلب من المعارف احرقوا الترام، وإن شكا الناس من سوء
الخبز أو كثرة الضرائب حطموا الترام، لأنه رمز السيادة الاقتصادية الأجنبية، وأهل الشام لا يحتملون لأجنبي سيادة لا في الحكم ولا في المال.
إن حديث الترام طويل، ووقت الحديث القصير، وقد استنفذته كله وزدت عليه، وأنا ارجوا إن أمللتكم عفوكم وأشكر لكم على سماعه صبركم، والسلام عليكم.
(القاهرة)
علي الطنطاوي
القسم الأول:
فرنسا ومستعمراتها
للأستاذ احمد رمزي بك
هذا بحث تحليلي للاستعمار الفرنسي ومتاعبه يعرض له
بطريقة إجمالية، ويستعرض بعض النواحي التاريخية
والاقتصادية وأحياناً العسكرية مع الإشارة إلى الوضع الشاذ
الذي كانت فيه المستعمرات الفرنسية بين ألمانيا والحلفاء مدة
الحرب الماضية. وقد شجعني على نشره المقال الشائق الذي
كتبه الأستاذ إسماعيل مظهر بجريدة الكتلة يوم السبت
1751947 تحت عنوان أعصر جديد؟ أم عودة إلى عصور
العبودية؟ وما جاء بالرسالة تحت عنوان من وراء السور
الحديدي (جامعة عربية أم اتحاد فرنسي).
إن ما لقيته قضية فلسطين في أمريكا وأمام مجلس الأمن تجربة قاسية للعرب، لأن الانتصار على الخصم يستلزم فهم الخصم والإلمام بأساليبه، وفي هذه الكلمة أفكار وآراء قد لا تعجب بها ولكنها في صميم الدفاع عن قضية المغرب وحق شعوبه لأنها مستقاة من أقوال الخصم وهي مدعاة لفهمه ولن تنتصر على خصمك إلا إذا فهمته.
فرنسا ومستعمراتها:
كانت فرنسا دولة استعمارية كبرى في القرن الثامن عشر، خضعت لسلطاتها مساحات واسعة في أميركا الشمالية واكثر من منطقة غنية من مقاطعات الهند، ولكنها فقدت هذه المنزلة في حروب القرن الثامن عشر والثورة الفرنسية، فأخذت تجاهد طول المائة سنة
الماضية لكي تسترجع مقامها كدولة استعمارية. ولقد برهنت تجارب اكثر من قرن على تعذر تحقيق السيادة البحرية لفرنسا وكان ضياع المستعمرات البعيدة في أميركا والهند كافياً لإقناع الفرنسيين أنه بغير أسطول قوي لا يمكن ضمان الدفاع عنهاأمام القوة البحرية برغم جهود القواد والحكام وعبقريتهم. فكان مما فكر فيه نابليون أن يختصر الطريق البحري الذي يفصل فرنسا عن الأراضي التي تخضع لها، فقاد حملة مصر مؤملاً أن يجعل منها قاعدة للتوسع الاستعماري الفرنسي بالمشرق، وكانت بريطانيا تعرف إن هذه الضربة موجهة إليها في الهند فوقفت أمامه وقطعت الطريق البحري عليه وأجبرت جيشه على الجلاء، فالحملة الفرنسية هذه على مصر كانت مدرسة وتجربة برهنت على أن الفن الحربي الحديث قد جعل من السهل التغلب على جيوش المسلمين في أراضيهم، ثم فتحت الأذهان إلى استعمار الجزء الأفريقي المقابل لأوربا، فهي فاتحةالاستعمار الفرنسي في القرن التاسع عشر.
ولا ننس إن فرنسا حينما ألجئت إلى إخلاء مصر كانت تفكر في العودة إليها وتأسيس الإمبراطورية الاستعماريةعن طريق البر إن أمكن، أو قل على الرمال التي أراد أن يسير عليها لويس التاسع لفتح مصر فلقي حتفه في تونس، ولذلك اتجهت أنظار رجالها إلى بقعة من الساحل الأفريقي تكون أقرب إليه وأبعد عن إثارة شكوك ومخاوف بريطانيا فلم تجد اقرب إليها من الساحل المغربي بالجزائر إذ هو اسهل طريق للعبور إلى أفريقيا وأسلم ما يصلح لاتخاذ مرافئه مثلالجزائر ووهران وغيرها كرؤوس جسر للزحف إلى الداخل، وقد خدمتها الظروف حينما اشتد العداء بين مصر وتركيا فانقسم الشرق على نفسه وخلا لها الجو في الجهة التي تطمعبامتلاكها. حينئذ قذفت بجيوشها بين 1830 و 1847 على القطر الجزائري في الوقت الذي كانت جيوش مصر وتركيا تتقاتل فيما بينها قتالاً كانت نتيجة أن انتهى بالفشل للجانبين، بينما اندفعت هي بقوة لترسيخ أقدام جنودها على الأرض الأفريقية التي حملت أعلام دول الموحدين والمرابطين وكانت في وقت ما موئلا للعروبة والإسلام. فأخذت تحارب أهلها وتشتتهم. ولما انتهت حروب الأتراك والمصريين لم يكن بوسع أحد الطرفين أن يمد يد المساعدة أو يجهر بالدعوة لنصرة المجاهدين من قبائل الجزائر المدافعين عن بلادهم، فكان أن سلم الأمير عبد القادر للفرنسيين، وإذا نحن أمام أول هزيمة
للإسلام بشمال أفريقيا، وإذا نحن في بداية الأرزاء التي أعقبت توغل الفرنسيين في المغرب ونتج عنه تأسيس إمبراطورية ضخمة في بلاد عربية.
أوربا تشجع فرنسا في توسعها خارج القارة الأوربية:
وكانت فرنسا في القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر أقوى أمم أوربا وأكثرها سكاناً إذ بلغت 25 مليون نسمة، وهوعدد عظيم لما كانت عليه أوربا في ذلك الوقت، وبذلك تفاءل الساسة الأوربيون بالاتجاه الجديد الذي سارت فيه ووجدوا أن من مصلحة السلام والأمن في القارة الأوربية تشجيع هذاالتوسع والتزام سياسة الصمت إزاء هذا العدوان لأنه سيؤدي إلى إشغال قوى فرنسا البرية والى توزيع جهود هذه الأمة الحربية في ناحية لا تضرهم، خصوصاً إذا وجد ضباط الجيش ورجال الجندية الذين أسكرتهم ذكريات الانتصارات الماضية مجالاً في نشاطهم بلاد بعيدة عن أوربا بعد أن دوخوا أمما كثيرة بحروب دامت جيلين، وقد تم لهم ما أرادوا وقنعت فرنسا ورجالها بهذا الدور وزاد تمسكهم به خصوصاً بعد هزيمتهم في حرب 1870 مع ألمانيا.
فرنسا تجعل من أراضي أفريقيا معسكراً لتموين جيوشها
وضباطها
فكان أن أصبحت فرنسا بعد عدة سنوات تملك الشاطئ الأفريقي وتسيطر على مناطق وأقاليم متسعة في الصحراء تتنقل فيها كتائبها ويتلقى قوادها وضباطها بأنحائها أساليب القتال المختلفة ويأخذون دروساً عملية باتخاذ الحروب ضد الأهالي صناعة دائمة فيدخلون الجديد كل سنة على كتب التدريب والقيادة وأنظمة تعليم عساكر المستعمرات من الجنود الملونة.
وجاءت الحرب العظمى سنة 1914 وفرنسا ثاني دولة استعمارية في العالم، فخاضت غمارها وأعلامها تخفق على الكتائب المؤلفة من جنوب المغرب ومدغشقر والهند الصينية والسنغال تسوق الآلاف منها إلى الموت وتدفع بهم إلى الصفوفالأمامية. ثم أمضيت معاهدة الصلح فإذا بمناطق شاسعة من أملاك ألمانيا الأفريقية تدخل ضمن نطاق الإمبراطورية الفرنسية إما عن طريق تعديل الحدود أو عن طريق الانتداب جزاء وفاقاً على المجهود
الحربي الذي بذل جنود المستعمرات من السمر والسود في كفاحهم لتحرير العالم. فإذا نظرت إلى خريطة الأفريقية تجد الإمبراطورية الفرنسية كتلة ضخمة ملونة بلون واحد تقع جنوب فرنسا وكأنها جزء متمم لها أو امتداد لأراضيهم لا يفصلها عنها غير البحر الأبيض المتوسط، ولكنه طريق سهل قريب لأنه يجمع بين الشاطئين في ساعات معدودة، وهذه الإمبراطورية أو المجموعة من المستعمرات تبدو أمام الناظر والبحر يحيط بها من ثلاث جهات: المتوسط في الشمال، والمحيط الأطلسي في الغرب والجنوب، ويفصلها عن بعضها الصحراء الكبرى وهي في صمتها وتحديها للإنسان لا تزال كالربع الخالي في جزيرة العرب تسخر من الإنسان الذي لم يفك أسرارها بعد ولم يخضعها لأرادته، فقد فكر المستعمرون في استثمار أراضيها وفي اختراقها بعده طرق ممهدة للسيارات أو إنشاء خط حديدي يقطعها من الشمال إلى الجنوب، ولم يتحقق للآن شئ من ذلك لأن مجهودات فرنسا محدودة، وهي لن تسمح لغيرها من الدول أن يتولى هذا العمل عنها. ويخيل إلى الباحث أن هذا العمل الاستعماري الذي بدأ بعد حروب نابليون طفرة فأصبح حقيقة في عصرنا الحالي يبدو كعمل عظيم ساهمت فيه أمة برجالها ودمائها وتفكير أبنائها، وإنه إن دل على شئ فهو يدل على عبقرية الذين جاهدوا في إنشائه وجمعوا بصبر شتاته فحققوا لبلادهم حكم إمبراطورية موحدة كافية لإسعاد أي بلد أوروبي يمكنه أن يتحول باستغلال خيرات هذه الإمبراطورية وثرواتها وأراضيها إلى بلد عظيم في الصف الأول من العالم.
فهل وصلت فرنسا إلى أن تحكم بعقل وحكمة ودراية وهذه الإمبراطورية وأن تحسن سياستها مع الشعوب التي تسكنها فتسعدها وتزيد من عدد سكانها وتأخذ بيدهم في الطريق الحضارة والعلم والحكم الذاتيحتى تجني ما في هذه الأراضي من الخيرات والثمرات؟
الواقع إن فرنسا لم توفق كثيراً في مضمار الاستعمار كما يفهمه العالم الغربي، وان وفقت فلشيء لا يتناسب مع جهودها أو هو ضئيل بجانب ما كان يمكن أن تصل إليه، ذلك لأنها بقيت ولا تزال تعيش على أساليب الماضي في إدارة مستعمراتها وفي علاقتها مع البلاد الخاضعة لها، وإلا فماذا يواجه الباحث في أنحاء إمبراطوريتها ما يشعره انه داخل حصن كبير أو معسكر من المعسكرات وحوله نطاق من الأسلاك الشائكة يحرسه جنود من
السنغال يسيطر عليهم رجال أشداء كل همهم قطع كل العلائق بين هذه البلاد والعالم الخارجي ولا يعرفون سوى قانون البطش في علاقاتهم مع السكان؟.
لماذا يلازم الناس هذا الشعور دائماً؟ لان عيوب الإدارة الفرنسية للمستعمرات ظاهرة واضحة ملموسة وموقف الحكومة المركزية وممثليها يشعرك باستمرار إن فرنسا لم تنجح كأمة حاكمة، ولذلك لم تستطيع أن تقدم دليلاً واحداً على رغبتها في تحرير الشعوب المظلومة ولا في الأخذ بيدها في طريق العلم والنور، ولا في إعطائها ما تطلب من حرية أو حكم ذاتي أو اشتراكها في إدارة الأمور العامة أو تسليمها إلى أهلها، كما أنها لم تقدم للعالم برنامجاً إنسانياً يمكن أن يحقق شيئاً من ذلك.
إننا لا نقر الاستعمار على أي وجه من الوجوه، ونراه نكبة على البلاد والأمم التي أصيبت به، ولكننا مع ذلك ننقل عن كتاب الغرب وعن الفرنسيين أنفسهم ما يعترضون به على هذه الإدارة ونتساءل مع الباحثين لماذا تطور العالم ووقفت فرنسا جامدة لا تتقدم؟ ولماذا غمرت الدنيا موجات التحرير في أفريقيا وآسيا وتسللت إلى الأراضي الفرنسية، وفرنسا واقفة لم تتغير ولم تستفد شيئاً من الدروس الماضي؟ ثم كيف تقدم على إقرار سياسة الإدماج والاتحاد في وقت تبدو فيه عوامل التفكك والانهيار ملموسة واضحة؟ أليس في فرض ساسة الاتحاد دليل على إفلاس السياسة التي اتبعتها الحكومة الفرنسية والتي كانت ترمي إلى إلغاء الجنسيات والقوميات في بعض الجهات وصهرها في بوتقة واحدة؟
نظريات استعمارية:
يقولون الباحثون في الاستعمار وشئونه إنه كمشروع تجاري يجب أن ينتهي بالكسب على أقصر سبيل وأهون طريق، فليس من مصلحة الدولة الحاكمة أن تتحمل تكاليف إدارة المستعمرة وحفظ الأمن فيها، بل هي تساعد على أن تقف المستعمرة معتمدة على مواردها الخاصة، ويكره المستعمرة استعمال العنف والقوة، ويعد التلويح بهما ضعفاً، والالتجاء إليهما مخاطرة يتحاشى الوقوع ما أمكن فيها، فهو كالتاجر الذي يحاسب على الدانق ويحسب للمستقبل ألف حساب، ولذلك يعتمد في حكم الشعوب على نفسيتها وفهمها ليستغل غرائزها لصالحه، ولا يلجا إلى السلاح إلا في الوقت المناسب وبالقدر اللازم، وهو أسرع الناس إلى إزالة اثر القوة من نفوس المحكومين. هذه هي تجارب الأمم التي سارت في هذا
النشاط بعيداً، فهل اتبعت فرنسا أو أخذت بهذه السياسة؟ إن التقاليد التي وضعتها حكومات فرنسا المختلفة في سياستها الاستعمارية كانت جامدة، وصعب في كثير من الأحيان على المسؤولين تغييرها واستبدالها. نعم عملت أحياناً للخروج عنها شخصيات قوية فرضت إرادتها مثل ليوتي في مراكش، ولكن سرعان ما عاد الروتين الاستعماري إلى قواعده وفرض إرادته من جديد. ومن عيوب الاستعمار الفرنسي أن فرنسا بدأت حملاتها بتكاليف باهظة، أي أن كل قطر أو بقعة من الأرض دخلتها أو بسطت حمايتها عليها كلفت دافعي الضرائب الفرنسيين مبالغ لا يستهان بها، وقد جاءت تكاليف الفتح ثقيلة لأن الطبيعة الفرنسية تريد أولاً الغلبة والنصر، فهي قد حكمت السيف، حيث يلزم السيف، ووضعت السيف أيضاً حيث كان يلزم غير السيف؛ وفي ذلك مخالفة لقواعد الاستعمار الذي يسمن البقرة ليستدر أكبر كمية من ألبانها، أما هي فحيثما حلت تحمل الأهالي الكثير من الفقر والفاقة والعنت والتشريد.
ولقد عهدنا المستعمر يتخذ له بطالة من أهل البلاد المستعبدة يروضهم على أغراضه ويوسوس لهم بما يريد، فإذا هم طوع إشارته، يصل بواسطتهم إلى أهدافه وأغراضه من غير أن تظهر نياته أو تشعر بأنفاسه ومن دون ضجة ولا جلبة. وللاستعمار الفرنسي من يخدمه بإخلاص من زعماء البلاد الخاضعة له، ولكن فرنسا اعتادت أن تضع على أكتاف رجال فرنسيين من العسكريين والمدنيين العبء الأكبر على المسؤوليات، وان تسند إليهم مباشرة سلطات التشريع والإدارة والتنفيذ، فان أساءوا التصرف تحملت هي عبء الأخطاء وخسرت عطف الناس بالدفاع عن رجالها، بينما قواعد المستعمرين تحتم على الدولة الغاضبة أن ترسم الخطط الكبرى، وان تترك أمور التنفيذ لأهل البلاد يتولونها بأيديهم حتى إذا أخطئوا، وغالباً هم مخطئون، تبرأت السلطات منهم وألصقت الأخطاء بهم وأتت بفريق جديد يتولى تمثيل نفس الدور. وهذا النظام الأخير يجعل عيوب الإدارة الاستعمارية ملصقة بأهل البلاد دائماً، بينما النظام الفرنسي يضع العيوب على راس الدولة المستعمرة ويحملها الأخطاء والأعباء كما قلنا.
تأخر المستعمرات الفرنسية في ميدان الحضارة وأسبابه:
وهناك ظاهرة أخرى لها أهميتها، وتكاد تنفرد بها المستعمرات الفرنسية وما يشبهها من
ممتلكات بعض الدول الأوربية التي احتفظت بمستعمراتها كتراث تاريخي لماضي قديم، وهذه الظاهرة هي أن التقدم المادي الذي صحب العالم في السنوات الماضية والذي فرض نفسه على أغلب المستعمرات في قارات العالم لم يشمل الإمبراطورية الفرنسية، ولذلك إذا تحدث الفرنسيون عن مجهودهم الاستعماري وملئوا العالم بكتبهم ونشراتهم، فهو مجهود عظيم من وجهة نظرهم وحدهم، ولكنه مجهود متواضع إذا قيس بما قامت به الأمم الاستعمارية الأخرى. فإذا نزلت بشمال أفريقيا، وهي من البقاع الخصبة الغنية بمواردها وثرواتها المعدنية وقارنت ما عملته فرنسا هناك بالمجهود الذي بذله الاستعمار في نواح مماثلة، لوجدت أن مجهودها لم يصل إلى الدرجة التي تسمح بها حضارة القرن العشرين، وبما تضعه بين يدي الإنسان من وسائل تمكنه من السيطرة على الطبيعة ومن إخضاعها لإرادته.
تعليل هذا الوضع:
ويعللون هذا النقص بان فرنسا بلد زراعي في حياته الاقتصادية، وهذا الوضع ينقص من طاقة فرنسا وإمكانياتها كدولة عظمى، ثم هي وطن الملكيات الصغيرة، ولذلك يبرز فبها عامل اقتصادي هام هو عامل الادخار أو التوفير النقدي الشعبي الذي يعتمد في تراكمه وازدياده عاما بعد عام على ملايين من الناس. وقيل إن هذه الأمور مجتمعة تؤثر في سياسة الدولة حينما تواجه عملها في المستعمرات لاستغلال مواردها، وذكر بعض الكتاب أن فرنسا كانت تحسن صنعهاً لو أنها من البداية فتحت أبواب إمبراطوريتها لنشاط الدول الصناعية الكبرى مثل أمريكا الشمالية، أو بعض الدول الأوربية، ولكن رجال الحكم وأساطين الاستعمار حرصوا منذ زمان طويل على وضع العراقيل الجمركية والتشريعية لمنع حدوث هذا النشاط، بل أقفلوا حدود إمبراطوريتهم وجعلوا منها مناطق محرمة وممنوعة لأي تنافس يأتي إليها من الخارج.
ولا نشك أن فرنسا كانت بلداً صناعياً من الدرجة الأولى وكان هذا في القرن الماضي، ولكن ظهور الصناعة الضخمة وتطورها السريع في بلدان أوربية أخرى جعل منها بلداً صناعياً في الدرجة الثانية. ولقد ذكرنا في بحث سابق إن التركيز الاقتصادي بين الدول الصناعية والمستعمرات أو بين المستعمرات وبعضها يعتمد على التفوق الصناعي والمقدرة
الرأسمالية والإنتاج الواسع وهي مجتمعة تمهد للدولة صاحبة الشأن أن تسير بالمستعمرات ومناطق النفوذ نحو التكتل الذي يجعل من هذه الدولة قوة عالمية. أما الاستعمار الفرنسي فلا يزال في الدور البدائي الذي لم يتطور بهذه الوثبة، ولعل شعور الفرنسيين بذلك هو الذي أملى على رجال السياسة مشروع الاتحاد الفرنسي الذي يحاولون تنفيذه.
فرنسا بلد زراعي:
وإذا نظرنا لحالة فرنسا كبلد زراعي نجد إنها من أغنى البلاد الأوربية، بل إحدى الدول القليلة التي تعد في حالة استكفاء بالنسبة إلى غيرها، ومعنى ذلك أنها لا تعاني مشاكل ومتاعب لإطعام سكانها؛ فهي ليست بحاجة إلى مضاعفة المساحات المزروعة في مستعمراتها، فإذا كان هناك بعض الأثر للتطور الإنتاجي الزراعي وزيادته، ويبدو هذا ملموساً في بعض المناطق أو مكللا نسبياً بالنجاح في المزارع التي يملكها الفرنسيون بالمستعمرات، فانه محدود الغاية والوسائل.
رؤوس الأموال:
أما أثر رؤوس الأموال كونها مجمعة من التوفير الشعبي فيبدو في اتجاه أصحابها إلى تفضيل القروض الخارجية للدول الأجنبية الصديقة لتصورهم بان في ذلك ضمانات أكبر من المجازفة في صرفها على مشروعات فيها روح المغامرة بأراضي المستعمرات وهي قاعدة مستمدة من طبيعة الشعب وعقليته.
فرنسا كبلد صناعي:
ونعود إلى الناحية الصناعية إذ هي العامل الأساسي الفعال لكل سياسة استعمارية موفقة نظراً لما تحويه أراضي القارات البعيدة من مواد أولية ضرورية للصناعات، ولأن عظمة الدول الصناعية بنيت على ما تقدمه أراضي مستعمراتها من خامات رخيصة قد تذهب أحيانا إلى تمكين كل واحدة من احتكار بعض هذه المواد وحرمان بقية العالم منها. فإذا نظرنا إلى حالة فرنسا بعد أن انتهت الحرب العظمى الأولى نجد أنهطرأ عليها بعد سنة 1920 تغيير بعيد المدى، فقد بدأ يسطر على مقدراتها طائفة من أصحاب الصناعات الكبرى يدعمهم لرجال المال، واعتمدوا على ما يبثونه في الجماهير من آراء وأفكار عملوا
على أن تصبح راسخة، وأهمها فكرة أمن فرنسا وضمان حدودها، أي إيهام الشعب بوجود خطر دائم يهدد كيانه ليبذل مجهوداً في ناحية معينة أو ليستعد لتلبية التضحيات التي يتطلبها العمل لدرء هذه الأخطار.
فرنسا قبل الحرب العالمية الأولى وبعدها:
ولم تكن فرنسا قبل سنة 1914 في حالة تمكنها من منافسة الدول الصناعية الكبرى أو أتمت بناء هيكلها الآلي الضخم لا في السوق العالمية ولا في طريق استغلال واستثمار أملاكها، وكانت تلجا إلى وسائل شاذة لحماية تجارتها في الأراضي المملوكة لها، فما بالك وقد بدأت بعد الحرب تحمل أعباء إنشاء صناعة على نمط الصناعات الثقيلة - يقصد بها صناعة الحديد والفولاذ والصناعات الكيماوية الكبرى - ولو إن التعبئة المالية والفنية والإنشائية للوصول إلى هذه الغاية كافية لأن تستنفذ مجهودات جيل بأكمله.
وقد بدأ هذا المشروع يسير سيره الطبيعي من يوم استرجاع مقاطعتي الألزاس واللورين إذ جعل ضم هاتين المقاطعتين بين رجال الصناعة بعض ما كان ينقصها من مواد الصلب والحديد، ويا حبذا لو ضم إليها جزء آخر من أراضي ألمانيا وهو الروهر إذن لحصلت فرنسا على ما تحتاجه من الفحم الحجري.
يلتمس الكتاب الفرنسيون بعض العذر لبلادهم في تقصيرها الاستعماري الذي ينسبونه إلى أن هذا المشروع الصناعي الكبير الذي جعل رؤوس الأموال تتجه إلى تحقيقه اتجاها ترك النشاط في أراضي المستعمرات قاصرا على الضروري اللازم، وعليه تأخر تنفيذ المشروعات الكبرى التي وضعت لاستغلال أراضي جبال أطلس بمراكش ونظر إليها والى غيرها نظرة ثانوية أو تأجل تنفيذها باعتبار أنها تكميلية للبرنامج الصناعي في أراضي فرنسا الأوربية.
وعليه فهم لا يسلمون بالنقص الذيبدا من ناحية بلادهم ويقولون ولو أن الفترة بين الحربين نقلت الدول الكبرى الصناعية مرحلة نحو التكتل والتماسك مع المستعمرات بل ذهبت إلى إدخال الصناعات في أراضي المستعمرات نفسها كما حصل في الهند وأستراليا وأفريقيا الجنوبية وبقيت فرنسا تدير مستعمراتها بأساليب قديمة إلا أنها حسناً فعلت لأنها انتظرت الوقت المناسب لكي تستفيد من تجارب غيرها ولكي يحين الوقت الذي تندمج فيه هذه
الأقطار في نظام اتحاد فرنسي يشبه من بعض الوجوه نظام الاتحاد السوفيتي: وحينئذ تظهر للعالم فرنسا الاستعمارية القوية التي لم تضع منها سنوات الانتقال بل كانت تحضر برنامجا صناعياً للمستعمرات سوف تدهش العالم المتمدين به.
احمد رمزي
6 - تفسير الأحلام:
للعلامة سجموند فرويد
سلسلة محاضرات ألقاها في فيينا
للأستاذ محمد جمال الدين حسن
الرقابة في الأحلام:
وهناك طريقة ثالثة تستخدمها الرقابة في الأحلام لا يوجد لها مثيل في حالة الرقابة الصحفية. ولكني أستطيع أن أوضح لكم هذه الطريقة بالرجوع إلى الحلم الوحيد الذي استطعنا أن نحلله إلى الآن وهو الحلم الذي يدور حول (الثلاث تذاكر التي ثمنها فلورن ونصف). رأينا أن المحتوى الباطن لهذا الحلم تبرز فيه صفة (التسرع والتبكير). وقد كان معناه: (لقد كان من الحماقة إني تزوجت (مبكراً)، كما كان من الحماقة أن تحجز المقاعد (مقدما) وكما كان من الحماقة أيضا أن (تتسرع) أخت زوجي بإضاعة نقودها كلها على قطعة من الحلي). ولكن هذه الصفة الرئيسية لم يبد لها اثر مطلقاً في المحتوى الظاهر، وإنما كان الحلم كله مركزا في الذهاب إلى المسرح واخذ التذاكر. وقد كان لإزاحة هذا التركيز وإعادة ترتيب العناصر من جديد أثره في انعدام الشبه بين المحتوى الظاهر والمحتوى الباطن للحلم بحيث لا يتسنى لأحد أن يشك مطلقاً في تستر أحدهما وراء الآخر. وهذه (الإزاحة) تعتبر من أهم الوسائل التي يستخدمها التحريف، وهي السبب الذي يضفي على الحلم هذه الهالة من الغرابة التي تجعل الحالم نفسه يتردد في الاعتراف به على أنه إحدى بنات أفكاره.
وعلى هذا فالحذف والتحوير وإعادة ترتيب العناصر، هذه كلها هي الأساليب التي تتخذها الرقابة في الأحلام وهي الوسائل التي تستخدم في التحريف. والرقابة نفسها هي المولد أو هي أحد المولدات التي ينشأ عنها التحريف. أما التحوير والتغيير في الأوضاع فتدخل عادة تحت عنوان (الإزاحة).
ولننظر الآن إلى الرقابة في الأحلام من الوجهة الديناميكية بعد أن ألممنا ببعض الملحوظات عن أوجه النشاط فيه. لعلكم لا يشط بكم الخيال فتصورون الرقيب لأنفسكم
على هيئة قزم عبوس الوجه قابع في إحدى خلايا المخ حيث يقوم بتأدية أعباء وظيفته، أو تتخيلون أن هناك (مركزاً عصبياً) تنبعث منه تأثيرات رقابية معرضة للزوال إذا زال هذا المركز أو أصابه عطب. ولكن يكفينا في الوقت الحاضر إن ننظر إلى الرقابة على أنها اصطلاح نافع يعبر عن علاقة ديناميكية، على أن لا تعوقنا هذه النظرة عن البحث لمعرفة أي نوع من النزاعات له هذا التأثير وأيها يخضع له، كما انه يجب علينا أن لا نعجب إذا اكتشفنا أننا ربما نكون قد تعرضنا للرقابة من غير أن نتعرف عليها. وهذا ما حدث فعلا. فانتم تذكرون أننا أثناء قيامنا بتطبيق طريقة الترابط المطلق، اكتشفنا إن هناك (مقاومة) ما تعترض الجهود التي نبذلها للنفاذ إلى المحتوى الباطن للحلم من خلال الظاهر. وقلنا إن هذه المقاومة تختلف من ناحية الشدة فتكون في بعض الأحيان ضعيفة جداً فلا تحتاج إلى مجهود كبير لتفسير الحلم وتكون أحيانا أخرى كبيرة جداً فنحتاج إلى سلسلة طويلة من الأفكار المترابطة وإلى التغلب على كثير من الاعتراضات التي تواجه هذه الأفكار. وهذه الظاهرة التي لاقتنا على شكل (مقاومة) أثناء التفسير نعود فنقابلها مرة أخرى على شكل (رقابة) في تكوين الحلم؛ وما المقاومة في الواقع إلا الرقابة على شكل ملموس وهي تثبت لنا أن تأثير الرقابة لا ينعدم بعد القيام بعملية التحريف بل يظل قائما كمنشأة دائمة تعمل على إبقاء التحريف على حالته الراهنة. وكما أن المقاومة تختلف في الشدة باختلاف عناصر الحلم، فكذلك تختلف أيضاً درجة التحريف الذي ينشا عن الرقابة. فالمقارنة بين المحتوى الظاهر والمحتوى الباطن تحرينا أن بعض العناصر الباطنية قد حذفت تماما من المحتوى الظاهر أو حورت تحويراً طفيفاً أو كبيراً، بينما ظل البعض الآخرعلى حالته لتي كان عليها من غير تبديل أو تغيير، بل ربما ازداد وضوحا عن الأول.
قلنا إننا نريد أن نبحث لمعرفة أي نوع من النزعات له هذا التأثير الرقابي وأيها يخضع له والجواب على هذا السؤال، الذي يعتبر جوهريا، الوقوف على معنى الأحلام أو ربما الحياة البشرية بأسرها، يكون من الأمور السهلة إذا فحصنا سلسلة الأحلام التي نجحنا في تفسيرها. فسنرى من ذلك أن هذه النزعات هي التي يحكم عليها الشخص الحالم في حالته اليقظة بأنها جزء من نفسه لا ينفصل عنها. فمن المؤكد أن الشخص الذي لا يريد أن يعترف بالتفسير الصحيح لحلم من الأحلام التي رآها هو، فإنما يفعل ذلك مدفوعا بنفس
العوامل التي تولد الرقابة وتسبب في وقوع التحريف في الحلم حتى يصعب تفسيره. فالمرأة التي في الخمسين من عمرها مثلا قد أصابها الفزع والذهول لبشاعة الحلم الذي رأته رغما عن أنه لم يفسر لها، فما بالكم إذاً لو كانت الدكتورة فون هج - هلموت قد أفضت إليها بطرف من معناه الذي لا يخفي! هذه المرأة أنكرت الحلم ولم تعترف به مدفوعة بنفس الأسباب التي أدت في الحلم إلى استبدال العبارات الجارحة بدمدمة غير واضحة.
أما النزعات التي تخضع لتأثير الرقابة، فإننا إذا اختبرناها بنفس هذا المقياس من النقد التحليلي فإننا نجد أنها عبارة عن نزعات لا تقبلها النفس لأنها تجرح شعور الإنسان من الوجهة الأخلاقية أو الاجتماعية، وتدور في اغلب الأحيان حول أشياء لا يجر المرء على التفكير فيها أو على الأقل يشعر باشمئزاز كبير إذا مرت بخاطره. وهذه الرغبات التي تؤثر فيها الرقابة فتبدو في الحلم بشكل محرف هي فوق كل شيء إظهار للأنانية الفظيعة التي لا حد لها. (فالذات) يبدو أثرها دائما على كل حلم وهي تلعب فيه الدور الرئيسي وإن استطاعت في بعض الأحيان أن تتنكر تنكراً تاماً بالنسبة إلى المحتوى للحلم. وهذه (الأنانية المقدسة) للأحلام ليست في الواقع عديمة الصلة بالحالة العقلية التي تلزم للنوم أي قطع كل صلة بيننا وبين العالم الخارجي.
والذات التي تطرح عنها كل القيود الأخلاقية تحس أنها قد أصبحت على وفاق مع الرغبات التي يتطلبها الدافع الجنسي في الإنسان، وهي الرغبات التي لا تقرها التربية الثقافية والتي تتنافى مع القيود التي تفرضها علينا الأخلاق القويمة. فالطاقة الجنسية لا يحول حائل بينها وبين الأشياء التي يقع عليها اختيارها لجلب اللذة، بل هي في تفضل الأشياء المحرمة كزوجة رجل آخر مثلا، أو ما هو أشد حراما كتلك الأشياء التي اتفق البشر جميعاً على تقديسها كالأم والأخت في حالة الرجل، والأب والأخ في حالة المرأة. وهذه الرغبات التي نعتقد أنها غريبة عن الطبيعة البشرية التي تظهر قوتها على توليد الأحلام. والبغض والكراهية أيضا من الأشياء التي تنطلق في الحلم من غير قيد، فالرغبة في الأخذ بالثأر أو تمني الموت لمن هم أقرب الناس إلينا وأعزهم علينا في الحياة كالآباء والأبناء، والاخوة والأخوات، والأزواج والزوجات ليست قطعاً من الأشياء الغريبة وغير
المألوفة. هذه الرغبات التي تخضع للرقابة يبدو أنها تنبع من جحيم حقيقي فنحن عندما نقف على معناها في أثناء اليقظة يبدو لنا أنه لا توجد رقابة كافية لردع الرغبات. على إن الأحلام ليست مسئولة عن هذا المحتوى الأثيم، فأنتم بالتأكيد لم تنسوا بعد أن وظيفة الحلم التي لا ضرر منها بل النافعة هي المحافظة على النوم من عوامل القلق والإزعاج. فالإثم والفجور ليسا من طبيعة الحلم، وأنتم في الواقع تعلمون أن هناك أحلاماً تعمل على تصريف رغبات مباحة، أو حاجات جسمية ملحة. وصحيح أنه لا يوجد تحريف في هذه الأحلام ولكن ذلك لأنها لا حاجة لها به فهي تستطيع أن تؤدي وظيفتها من غير أن تجرح الشعور الأخلاقي أو الثقافي للذات. تذكروا أيضا أن درجة التحريف تتناسب مع عاملين فهي من ناحية تزداد كلما كانت الرغبات التي تحت المراقبة اشد بشاعة ولكنها كذلك تزداد كلما كانت مطالبة الرقابة اشد صرامة. ولهذا فالرقابة الصارمة في الفتاة المحافظة التي تربت تربية قويمة قد تسبب تحريف أحلام نراها نحن رجال الطب، تصريفاً مباحاً لرغبات جنسية لا ضرر منها، وقد ترى الفتاة نفسها هذا الرأي عندما يتقدم بها العمر عشر سنوات أخرى.
وفضلا عن ذلك فنحن لم نتقدم بعد في طريق النجاح لدرجة تجعلنا نستشيط غضباً للنتيجة التي وصلنا إليها من عملية التفسير فاغلب الظن أننا لم نفهمها بعد كما يجب، ولكن يتحتم علينا قبل كل شيء أن نعمل على تحصين هذه النتيجة ضد الهجمات التي قد تتعرض لها، فإنه لا يصعب عليكم أن تدركوا النقط الضعيفة التي فيها. فنحن بنينا طريقتنا في التفسير على فروض فرضناها من مبدأ الأمر وهي: أن الأحلام ليست خالية من المعنى، وأن النظرية القائلة بأن العمليات قد تكون لا شعورية لبعض الوقت، كما هو الحال في التنويم المغناطيسي، يمكن تطبيقها أيضاً في حالة النوم الطبيعي، وأخيراً أن من الممكن تحديد كل الأفكار المترابطة. فلو أننا تمكنا بمساعدة هذه الفروض من الوصول إلى نتيجة معقولة لحق لنا أن نستنتج من ذلك أننا كنا على صوب في فرضها. ولكن ما هو العمل والنتيجة التي وصلنا إليها كما ترون؟ أظن أنه يبدو طبيعياً في هذه الحالة أن تقولوا: (هذه النتائج من التفاهة بمكان فهي مستحيلة الوقوع أو على أقل تقدير بعيدة الاحتمال، فلا بد إذاً من وجود خطأ ما في الفروض التي فرضناها؛ فإما أن الحلم ليس ظاهرة عقلية كما تخيلنا، أو
أنه لا توجد أفكار لا شعورية لا ندركها في حالتنا الطبيعية، أو أن هناك عيباً ما في طريقة التفسير. أليس من الأفضل إذاً بل من الأسهل علينا أن نسلم بصحة هذا الافتراض بدلاً من الموافقة على هذه النتائج البشعة التي تمجها النفس والتي نعترف بأننا وصلنا إليها عن طريق الفروض التي فرضناها؟).
أجل يا سادة، إني أوافقكم على أنه أفضل وأسهل، ولكن ليس معنى ذلك أنه أصح. وعلى هذا فلننتظر قليلاً، فالمسألة لم تنضج بعد للحكم عليها، وتعالوا بنا كل شيء نقوي الاعتراضات التي تواجه طريقتنا في التفسير. فنحن لا نبالي كثيراً إذا كنتم لم تستسيغوا النتائج غير السارة التي وصلنا إليها، وإنما المشكلة التي تواجهنا حقاً هي أن كثيراً من الحالمين لا يقرون بالنزعات والرغبات التي ننسبها إليهم عندما نقوم بتفسير أحلامهم بل ينكرونها إنكاراً باتاً مبنياً على أساس متين. فقد يقول أحدهم:(ما هذا الذي تزعم! أتريد أن تبرهن لي على أن ما أنفقته على تعليم أخي وعلى بائنة أختي كان على غير رغبة مني؟ أيعقل هذا وأنا الذي قضيت عمري كله أجد وأعمل لأرعى اخوتي وأخواتي ولم يكن لي هم في الحياة إلا أن أقوم بواجبي نحوهم كأخيهم الأكبر حتى أفي بالعهد الذي أخذته على نفسي أمام والدتي وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة؟) وقد تقول امرأة؟: (ما هذا؟ أتريد أن تفرض عليَّ أني أرغب في موت زوجي؟ حقاً إن هذا كلام فارغ لا يصدق. فنحن لسنا سعداء في حياتنا الزوجية فحسب، ولو أنك قد لا تصدق هذا، ولكن بموته سأفقد كل شيء أمتلكه في هذه الحياة الدنيا.) أو قد يجيب شخص آخر بما يأتي: (أتريد أن تزعم أنني أضمر لأختي شعوراً بالرغبة الجنسية؟ ولكن هذا مضحك حقاً فهي لا شيء بالمرة بالنسبة إليّ، فنحن لم نكن على وفاق في يوم من الأيام، بل إنه قد مضت علينا سنوات لم نتبادل فيها كلمة واحدة).
على أنه مازال في إمكاننا أن لا نهتم كثيراً إذا لم يستطع هؤلاء الحالمون أن ينكروا أو يعترفوا بما ننسبه إليهم من نزعات ورغبات، فقد تستطيع أن نقول. إن هذه هي بالذات الأشياء اللاشعورية التي لا يعلمون عنها شيئاً. ولكنهم عندما يحسون في أعماق قلوبهم بعكس الرغبة التي ننسبها إليهم بناء على التفسير، وعندما يبرهنون لنا بسيرتهم وسلوكهم الدائم في الحياة أن الرغبة العكسية هي الغالبة عليهم فمن المؤكد أننا لن نحير جواباً. أ
يكون الوقت قد حان إذاً لكي نطرح كل الجهود التي بذلناها في تفسير الأحلام كشيء أدى بنا نتيجة تافهة
(يتبع)
محمد جمال الدين حسن
من وراء المنظار
ثبات عجيب
أف لهذا المنظار! أزلت عنه التراب والصدأ ووضعته على أنفي بعد طول غيبة، فعاد يريني من دنيا الناس ما يسوؤني في الكثير مرآه، وإن كان لسرني أن أراه. . .
ولا يعجبن القارئ من هذا التناقض. فإن عجب فليعجب من هذا المنظار الذي يقع بي على ما يضحك في ذاته وإن كان لخليقاً بأن يستل من النفس كل ما أوصى به الله من صبر. وأكثر ما يريني منظاري ما يتصل بأقوى سبب بالتحمس والمتحمسين. والمصريون كما أعلم وتعلم أيها القارئ الكريم قوم شديدو التحمس سريعو الانفعال، وإن كانوا رقيقي الحاشية أسخياء الطبع مريحي النفوس. فما أسرع ما ينقلب الرجل الذي تمازحه ويمازحك في مثل ارتداء الطرف إلى نمر هائج لأقل بادرة منك في الحديث. وإننا لنتحمس في كل فصل. . . في الشتاء وفي الربيع وفي هذا الحر الذي يزهق النفوس وكثيراً ما يكون التحمس لغير سبب ظاهر، وهذا عندي أدعى صوره إلى إثارة الضحك كتحمس هذا الذي أريد أن أحدثك عنه. . .
هو شاب في نحو الخامسة والثلاثين، بادي الفتوة، مهندم الثياب؛ تطالعك في وجهه لأول وهلة إمارات الجد، وترى في جلسته ونظراته شيئاً من الصلف والصرامة؛ وتحس من عضلاته المفتولة وصدره العريض المرتفع أنك أمام مصارع محترف. . .
جلس في (المترو) على مقعد في الدرجة الأولى، ولم يبلغ الزحام في ذلك الصباح ما يبلغه اكثر الأيام من شدة: فالممر بين صفي المقاعد خال من الناس، والباب إلى الدرجة الثانية لا يقف فيه أحد. . . وفي مثل هذه الحال لا يتساهل محصلوا الأجرة في أن يركب الراكب حيثما اتفق له. . .
وكان صاحبنا يطالع إحدى صحف الصباح، وكنت على مقعدي تلقاءه، أنظر إليه من وراء منظاري، ولست أدري لم ألقي في روعي أنني أمام متحمس من طراز عجيب؟. . . أكان ذلك لما يبدو من صرامته وصلفه ودلائل قوته؟ أم كان مرد ذلك إلى ما كان يرتسم على وجهه من علامات الاشمئزاز والنفور كلما نقل بصره في الصحيفة من عنوان إلى عنوان؟ فلقد رأيته لا تتشكل أساريره قط بما ينبئ عن ارتياح عن ارتياح لشي مما يقرأ. . .
ومهما يكن من شئ فإني شعرت بأني حيال متحمس من متحمسينا الأشداء. . .
وجاء محصل الأجرة وهو كهل مخيف يردد لفظيه المعتادين: ورق. . . تذاكر؛ ويزيد عليهما بين حين وحين قوله: فلوس، وينقر بقلمه على ظهور المقاعد أو على ظهر الخشبة التي تحمل تذاكره. . .
ومشى نحو صاحبنا، فلما بلغه كان قد بلغ في نداه قوله: فلوس. وناوله الفتى بطاقة يقرض منها بمقصه خانة فيساوي ذلك قرشاً ونصف قرش، ولم يكن في البطاقة إلا الخانة الأخيرة فقال محصل الأجرة لصاحبنا (ادفع الباقي) فلم يرد الفتى وعاد إلى صحيفته ينظر فيها كأن لم يحدث شئ.
ونفخ المحصل في زمارته فوقف (المترو)، واشتد الغيظ بالركاب جميعاً، وصارت القضية على تفاهتها من قضايا الرأي العام، ولكن في مجالها الضيق هذا. . . وأصر صاحبنا إصراراً شديداً وثبت ثباتاً عجيباً لا يكترث لشيء!. . .
وخطر لأحد الركاب حل سلمي فتقدم بالباقي إلى المحصل؛ وهنا وثب الفتى من مقعده ينتهر هذا المعتدي على كرامته ويطلب إليه أن يضع نقوده في جيبه. ونطق فإذا هو فخم اللفظ ينطق الزاي ظاء والتاء طاء والدال ضاداً، وكان كلما انطلق منه لفظ تراجع المسكين الذي تقدم بالنقود خطوة وقد رد نقوده لتوه إلى جيبه وأخرج يده يقلبها في الهواء بيضاء من فرط خوفه، أما المحصل فقد رضي من الغنيمة بالإياب؛ ونظرت ونظر الركاب فإذا ثلاثة أرباعه في الدرجة الثانية وما بقي منه في الدرجة الأولى، ولعله كان يتأهب ليغلق من دونه الباب. . .
وذكرتني ثورة هذا المتحمس بما كنت أقراه عن (الدوتشى) إذ كان يرعد في وجه موظفيه. . . وجلي هذا (الدوتشي) المصري لا يكترث لشيء ولا يجرؤ أحد أن يكلمه كلمة. . . وكم بيننا من أمثال هذا البطل ممن لا يحسبون لأحد حساباً مهما بلغت شناعة ما يصنعون. . .
وكنت اكتم ضحكي تلقاءه، وأخشى أن يغلبني، فأتأهب لألحق بالمحصل وأوصد من خلفي الباب؛ ثم اشغل نفسي بالتفكير في أمره، فأقول لو أن لهذا (الدوتشى) ولأمثاله من المتحمسين الأشداء مثل هذا الثبات في الجد من الأمور، أو مثل هذا الرفض والأباء إذا دعاهم رؤساؤهم إلى غير ما يحبون، لأخرجت أمتنا من الأبطال ما لم تخرج أمة مثله في
غابر الزمن وفي حاضره، ولكن أكثر تحمسنا يأتي حين لا نخشى قوة، وكثيراً ما يكون في التافه من الأمور. .
وظل هذا (الدوتشى) على ثباته وإصراره، وظل القطار في موضعه والناس في العربات الأخرى ينظرون في ساعاتهم ويطلون من النوافذ ويظهرون أشد علامات التبرم والسخط، ويطل بعضهم من الباب ينظرون إلى هذا الذي لا يبالي بشيء.
وجاء قطار آخر وتشاور المحصلون فيما بينهم؛ ثم انطلق بعد حين ذلك القطار الذي يحملنا ويحمل الدوتشى حتى وقف على إحدى المحطات، فنزل مزهواً بالنصر ومشى مرفوع الهامة موفور الكرامة إلى حيث يتضاءل ويتصاغر بين يدي رئيسه.
الخفيف
أعلام معاصرون
محمد عبد المطلب
للشيخ محمد رجب البيومي
يرى المتجول في مديرية جرجا قرية (باصونة) الصغيرة، حل بها لفيف من العرب الخلص الذين ينتمون إلى قبيلة جهينة وهي إحدى القبائل العريقة التي نزحت من الجزيرة العربية إلى مصر في حقب مختلفة وما زالت تنتقل في ربوع الوادي حتى استقر بها المقام في أعلى الصعيد
ومنذ ثمانين عاما كان بهذه البلدة الهادئة بيت مرموق المكانة يقصده الوافدون للتبرك بصاحبه الصوفي الزاهد (عبد المطلب واصل) فهو شيخ وقور تنتظم في بيته حلقات الذكر وتهب لديه النفحات الروحية الصافية، ثم هو عالم متفقه في دينه يعظ الناس كل مساء بما وعاه من الكتاب والسنة، فيهز أوتار القلوب. ويأخذ بمجامع العقول، هذا إلى عربيته الخالصة ونسبة الصريح.
ولد شاعرنا الكبير سنة 1870 في هذا البيت الطيب، فتربى تربية دينية قويمة. وطبع منذ نعومة أظفاره على الخلال العربية الحميدة، وطبيعي أن يسلمه والده إلى معلم القرية فيحفظ القرآن الكريم، ويلم بقواعد القراءة والكتابة، حتى إذا فرغ من ذلك أمكنه من الفقه الإسلامي والحديث النبوي فارتشف ما قدر عليه من معينهما الرائق، ثم أنس من نفسه المعرفة فجلس يعظ الناس مكان والده، وهو يعد في مبدأ العقد الثاني من حياته الزاهرة، فكان من يسمعه في هذه السن الباكرة يؤخذ بلباقته الفائقة، ويدعو له بالنجاح والتوفيق.
وكان العارف بالله الشيخ إسماعيل أبو ضيف شيخ الطريقة يزور مريده (عبد المطلب واصل) في (باصونة) من حين إلى آخر، فشاهد نجله الصغير يعظ الجمع الحافل كعادته، وهو لا يزال طري الأملود غض الإهاب، فتوسم فيه النجابة والذكاء، وزاد به إعجابه فعرض على والده أن يصحبه إلى القاهرةحيث يرتشف العلم الغزير من منهله الرائق بالأزهر الشريف، وكانت فكرة حميدة تلقاها الوالد بالترحاب والقبول، ولم يمض زمن وجيز حتى كان الواعظ الصغير طالباً بالأزهر يقضي فيه بياض نهاره، فإذا جنه الليل توجه إلى منزل حاضنه الشيخ إسماعيل فلازمه حتى الصباح.
وإذا كان الفتى قد شهد مجالس التقوى في صورة مصغرة عند والده بالصعيد فانه في منزل حاضنه الأكبر الشيخ أبى ضيف يرى الصورة المكبرة لهذه المجامع العامرة، ويستمع إلى القصائد الصوفية التي تنشد في الحلقات كل ليلة، فيحس لها رنيناً مشجياً يدعوه إلى تفهمها واستظهارها حتى كونت لديه ملكة حساسة تطرب للتوقيع الجميل، وتتذوق المعنى الرائع، ومهما يكن من شيء فقد كانت هذه المقطوعات الصوفية أول حافز دفعه إلى الانكباب على الدواوين الشعرية في ميعة صباه يستوضح غامضها ويتفهم معانيها حتى خلقت منه فيما بعد شاعراً فحلاً جزل العبارة فخم الأسلوب!
ولقد كان الطالب الأزهري مبرزاً بين لداته، مشمولاً بعطف أساتذته ومشايخه. إذ أن المبادئ الفقهية التي حصلها عند والده قد مهدت له أسباب التفوق والنبوغ، ودفعته إلى التحصيل في لذة وشوق، فاخذ يستوعب كل ما يلقى عليه أتم استيعاب حتى نضج عقله في مدى سبع سنوات قضاها في الأزهر المعمور، ثم هو لا يكتفي بما يأخذه من دروس قيمة في اللغة والدين بل رتب لنفسه جزاءاً خاصاً من رائع الشعر العربي يحفظه يوماً بيوم، حتى خرج من الأزهر إلى مدرسة دار العلوم سنة 1892م وعنده من غرر القوافي ثروة ثمينة ساعدته على النظم في مختلف الأفانين الشعرية، وجعلته يثق بنفسه ويعتد بملكته اكمل اعتداد.
ولقد هيأت له الظروف في سنته الأولى بدار العلوم فرصة طيبة لمع فيها نجمه، فقد وقف يرثي فقيد المعارف علي باشا مبارك في حفل عام أقيم لتأبينه فأتى بالرائع المعجب من الأبيات الرصينة، وخرج أساتذته وزملائه الذين سمعه ينثرون عليه أكاليل الثناء، ويضربون به المثل في قوة الشاعرية وصفاء القريحة، مما حفزه بقوة إلى الإطلاع الدائب، والإنتاج الثمين.
وكان المرحوم الأستاذ الشيخ سليمان العبد إذ ذاك مدرساً في دار العلوم وله ميل شديد إلى النظم. فكان لا ينشئ قطعة إلا عرضها على تلميذه مستنيراً برأيه أمام زملائه، وكثيراً ما ينزل على إرادته فيحذف ويثبت كما يملي عليه تلميذه الناشئ، فإذا ما نشر قصيدته - وكان دائماً يكتب في الوقائع المصرية - قرأها على تلامذته معترفاً بما لعبد الطلب من أثر جميل.
قضي الشاعر أربع سنوات في دار العلوم وتخرج منها في سنة 1896 متوجاً بالنجاح، فنجا من قيود الدراسة التعليمية، وهي كما نعلم - محصورة في علوم خاصة ومناهج محددة، قد لا يكون للشاعر في بعضها رغبة ملحة أو حاجة ماسة، أما الآن فهو حر فيما يقرأ ويدع، وهنا نجد عبد المطلب قد عكف على الكتب الأدبية القديمة يستخلص لبابها ويستظهر أشعارها، ويروى أخبارها، ومن حفظه أن عين مدرساً بمدرسة سوهاج الابتدائية وبها يومئذ صفوة مختارة من عشاق الأدب ورواد المعرفة، أذكر منهم المرحومين الأستاذ عبد الرحمن قراعه، وعبد الله بك الطوير وعلى بك الكيلاني، فنشأت بينهم وبين الشاعر صداقة وليدة تعهدها الأدب بمائه العذب حتى غدت دوحة مورقة وارفة فكانوا يعقدون مجالس السمر الأدبي حافلة بالنادرة الطريفة والملحة البارعة، فإذا جاء دور الشعر فمحمد روايته الفذ وصناجته الحكيم، وكثيرا ما يقترحونعليه أن ينظم في معنى معين فيتحفهم بما يريدون مستعينا ببديهته المواتية وقريحته المتوقدة، وكان الشيخ قراعة أحبهم إلى قلب شاعرنا المجيد، وانك لتجد في ديوانه قصائد عديدة ممتازة قالها في صديقه الوفي تنطق بالود الخالص، وتنبئ عن الحب الأكيد!. .
ولقد نظم الشاعر في هذا العهد طائفة محمودة من الشعر السهل الواضح تتناسب مع تلامذته في المدرسة الابتدائية، فجذبهم إلى الشعر يتذوقونه ويحفظونه بعد إن كانوا لا يجدون منه غير المغلق المستعصي على مداركهم الناشئة مما خلف الأولون، فكان عبد المطلب بهذا أول من خط الصحيفة الأولى في كتاب الشعر المدرسي في وقت صدف فيه التلاميذ عن كل ما يتصل إلى العربية بسبب. وانك لتقرأ أبياته في ذلك، فتراها جليلة الغرض، رائعة المغزى، سهلة التناول، سلسة النسج كأن يقول
إن كنت تبغي المعالي
…
فالعلم أهدى سبيلا
فأحقر الناس من قد
…
طوى الحياة جهولا
تراه بالجهل يمشى
…
بين الأنام ذليلا
نحن الذين اتخذنا
…
نور العلوم دليلا
لعلنا في المعالي
…
بها نجر الذيولا
وهو لا يكتفي بحثهم على العلم في هذا النسق الجميل، بل بجذبهم إلى الأدب بنوع خاص
فهو عنده كل شئ في الحياة، اسمعه حين يصف لتلامذته القلم فيقول
إذا اهتز في طرسه معجبا
…
أذل شعوبا وأحيا شعوبا
فيسعد قوم به تارة
…
وقوم به يصطلون الخطوبا
وطوراً تراه يفض الجموع
…
وطوراً تراه يثير الحروبا
وطوراً ينادى الورى سائلا
…
وطوراً يرد عليهم مجيبا
وفي ديوانه مقطوعات عامرة من هذا الطراز الرقيق، ويقيني أنه أول من حفز صديقه وتلميذه الأستاذ الهراوي إلى سد هذا الفراغ في الأدب، فنظم ما نظم من شعر الأطفال ترضية لأستاذه الحبيب.
(البقية في العدد القادم)
محمد رجب البيومي
الأدب والفنّ في الأسبوع
مدارس الشعر:
نلاحظ في الأنباء الأدبية الواردة إلينا من بعض الشقيقات العربية في هذه الأيام، وفيما يكتب من الحالة الأدبية فيها، كثرة ما يقال من مثل (أدباء الجيل الجديد) و (شعراء المدرسة الحديثة)، وقد يقابل هذا بنحو (الأدب القديم) و (الأدباء المحافظون).
وأكثر ما نجد ذلك في الحجاز، وقد وفدت علينا أخيراً طائفة من دواوين الشعر من إنتاج صفوة من الشباب الحجازيين الناهضين، حوت شعراً جديداً جذب الأنظار إلى منازل وحي الشعر العربي الأصيل. وليس عجيباً أن تترد بينهم كلمة الجديد وكلمة القديم، لأن جيل الكهولة هنالك لم يكد يتجاوز حدود عزلته للمشاركة في نهضة الأدب العصرية في سائر البلاد العربية.
وفي مصر لا نزال نرد الشعراء إلى مدارس تنسب إلى الجديد وإلى القديم، ولكن ذلك خفت حدته في السنوات الأخيرة وقل ترداده، وكان أمره مستشرياً في أوائل هذا العصر رد فعل لعنصر الجمود السابق له، ثم تهيأت الأذهان واستقرت بها الحقائق الأدبية العصرية، فتدانت المدارس واجتيزت الحدود ولم تعد بينها فروق كبيرة، واصبح الاختلاف بين الخصائص الشخصية اكثر من الاختلاف بين الخصائص المدرسية.
لذلك لم يكن الناس يتوقعون ما قاله الأستاذ العقاد عن لجنة الأدب بمجمع فؤاد الأول للغة العربية في الحفل الذي أقيم منذ أسابيع لإعلان نتيجة المسابقات الأدبية، فقد نسب الأستاذ الشعراء إلى مدرستين: ابتداعية حديثة، واتباعية سلفية، على أن الأستاذ نفسه أشار إلى متاخمة المدرستين واقتراب خصائصهما.
وقد قرأت أخيراً من الدواوين الحجازية الجديدة ما يسوغ لي أن أسجل هنا أن الشعر الحجازي الجديد لا يلتزم حدود مدرسة معينة، وهو يسير في ركب الأدب العربي الحديث مقاربا ًومؤاخياً، وأن الشعراء الشباب هناك ليس بينهم وبين أمثالهم في مصر وفي سائر البلدان العربية كبير اختلاف إلا فيما لابد منه بعض السمات المحلية.
الشعر والاستعمار:
ذكرنا ما قال الأستاذ احمد أمين بك الذي كتبه في عدد (الثقافة) الخير بعنوان (الأدب
يناهض الاستعمار) الذي بين فيه أن سقوط أمم الشرق في يد الغرب جعل الناس يشعرون أن الحرب الحقيقية بين المستعمَرين والمستعمرين بدأت بدخول الأجانب بلادهم، لا أنها انتهت بدخولهم، فكان الأدب هو وحده المعبر عن شعورهم، ثم بين اتجاه البارودي في شعره إلى مسائل عامة يعرض فيها قضية الوطن واستثارة الهمم، وكذلك شوقي وحافظ اللذان أذكت زيادة الوعي القومي في عصرهما حرارة الوطنية في شعرهما، وكان يناهض الاحتلال إلى جانبهما شعراء آخرون أمثال أحمد الكاشف وأحمد محرم وأحمد نسيم ومحمد عبد المطلب ومحمد الهراوي.
ذكرنا ذلك بما يلاحظ على شعرائنا الأحياء من ضآلة نصيبهم في ذلك المضمار وقعودهم عن مكافحة الاستعمار، وخصوصاً في هذه الآونة التي استفحلت فيها المنازعات بيننا وبين المستعمرين، وبلغ فيها الوعي القومي مبلغاً كبيراً.
فهل ترجع قلة محصول شعرائنا في هذا الميدان إلى قصور شاعرياتهم، أو ترجع إلى أن الشعر يتجه، في آخر اتجاهاته، اتجاهاً غنائياً، فلا يحفل بحماس الوطنية ولا بمشاكل السياسة؟؟
سفير عربي:
حدثنا الأستاذ محمود تيمور بك عن زيارته لدار الكتب الأهلية في نيويورك في أثناء رحلته إلى أمريكا في العام الماضي، قال يصف تلك الدار:(إنها مبنى عظيم يحتوي على حجر رحبة وقاعات فسيحة، وقد حجبت أرجاءها فاستهوتني تلك الطرافة والتجديد في كل ركن، وذلك التيسير وسرعة الإفادة في كل موضوع، وزهاني أن تقع عيني هنالك على قسم عربي ملحوظ الجانب بين سواه من الأقسام، هذا سفير الشرق العربي يتربع هنا في مهابة وإجلال. . . ألا تراه اعز مكانة واحمد أثراً من مقاعد تعد للشرق في هيأت الأمم ومجلس الأمن أو غيرهما من هيئات السياسة والشئون العالمية ومجامع الشرف والتكريم؟).
والأستاذ تيمور يعمل في تأليف كتاب عن هذه الرحلة اسمه (أبو الهول يطير) يفرغ منه قريباً.
مسابقة المجمع اللغوي:
اجتمعت لجنة الأدب بمجمع فؤاد الأول للغة العربية يوم الاثنين الماضي، ونظرت في موضوع المسابقات الأدبية لسنة1947 - 1948، وقد تناقشت اللجنة في موضوعات الشعر والقصة والبحوث من حيث التقييد والإطلاق، وكان بعض الأعضاء قد اقترح إن تعين موضوعات جائزة الشعر والقصة مثل البحوث، ولكن رأي عدم الأخذ بهذا لأن تحديد الموضوع وإن كان مقبولاً في البحوث الأدبية فإنه لا يستحسن في الشعر والقصة، إذ لا شيء أفسد لهما من صنعهما عن طريق التعمل والتكلف.
واقترح أحد الأعضاء النص على أن الإنتاج المقدم للجنة يجب ألا يكون قد سبق تقديمه للمجمع ولا لأية هيئة علمية أخرى، لأن مثل هذا الإنتاج لا ينبغي إن يجاز مرتين، فأدامت هيئة علمية محترمة قد سبق أن أجازته فمن الحرج مخالفتها، فنوقش هذا الاقتراح بأنه يجب قصر النص على أن لا يكون الإنتاج مما سبق أن أجازه المجمع، أما ما سبق لهيئة علمية أن أجازته فلا ينبغي أن يكون هناك مانع من قبوله، وقد جرت على ذلك المجامع الأوربية ثم استقر الرأي على أن ما يقدم للمجمع يجب ألا يكون مما سبق أن أجازه المجمع. أما النص على ألا يكون مما سبق أن أجازته هيئة علمية محترمة فلا يذكر وتترك المسائلة مطلقة.
وقد تقرر تخصيص مبلغ مائتي جنيه لأحسن إنتاج من الشعر العربي الفصيح، ومبلغ مائتي جنيه لأقوم قصة وضعت بالعربية الفصحى لا تقل عن مائتي صفحة من القطع المتوسط، على ألا يكون كل من الشعر والقصة قد سبق تقديمه للمجمع
وتخصيص مبلغ400 جنيه للبحوث الأدبية على أن توزع على النحو الآتي:
أ - 200 لأحسن بحث بالعربية الفصحى عن البيئة الأدبية في المدينة أيما بنى أمية
ب - 200 جنيه لأقوم بحث بالعربية الفصحى عن مهيار الدبلمى وشعره
على ألا يقل البحث المقدم عن مائتي صفحة من القطع المتوسط وترسل إلى المجمع نسختان من الإنتاج الأدبي المقدم، مطبوعتان أو مكتوبتان على الآلة الكاتبة في موعد لا يتجاوز نوفمبر سنة 1947.
التتويج الأدبي:
كان مجمع فؤاد الأول للغة العربية قد قرر في سنة 1945 (أن يتخذ سنة جديدة فيتوج أعظم الآثار الأدبية كل عام بتقديره ومنح صاحبه جائزة كما سيصنع مع الأستاذ خليل بك مطران) وتم فعلاً بعد ذلك تتويجه للأستاذ خليل بك مطران ومنحه جائزة 800 جنيه. وكان ضمن قراراته في المسابقة الأدبية الماضية تتويج الأنتاج القصصي للأستاذ محمود بك تيمور ومنحه جائزة مائة جنيه.
وقد نظرت لجنة الأدب أخيراً في هذا الموضوع فرأت عدم تتويج أحد في هذا العام، وقررت مبدأً جديداً، أن يكون التتويج معنوياً لا مادياً أي تقديراً أدبياً فحسب فلا يمنح المتوج جائزة مادية، على أن يكون التتويج حسب مشيئة المجمع واختياره من تلقاء نفسه، لا بناء على طلب صاحب الآثار الأدبية
المخطوطات العربية:
من مشروعات اللجنة الثقافية بالجامعة العربية إنشاء معهد لإحياء المخطوطات العربية، ويجرى العمل في سبيل تصوير المخطوطات العربية القيمة وجمعها في هذا المعهد.
وهذا مشروع جليل يستحق أكبر العناية، فلا تزال في المكتبات العربية أسفار مخطوطة عظيمة الشأن، منها مراجع يلقى الدارسون عناء كبيراً في نبش قبورها، كالمنهل الصافي والمستوفى بعد الوافي، وكالمغرب في حلى المغرب.
وتلك المراجع المخطوطة هي أهم ما يستعين به من يضع مؤلفاً في أحد الموضوعين اللذين قررت اللجنة الثقافية وضع جائزتين للتأليف فيهما، وهذا الموضوع هو (تاريخ الأمة العربية من سقوط بغداد إلى أول القرن الثالث عشر الهجري) فجل تاريخ هذه الفترة مما حوته المخطوطات.
وقد أنشأت الجامعة المصرية منذ سنوات كرسياً للأدب المصري، والمقصود أدب تلك العصور، ولا شئ أعون على دراسته من إحياء تلك المخطوطات، فغاية ما نرجو ان يكون حظ الجامعة العربية من التوفيق في ذلك أحسن من حظ الجامعة المصرية.
الإذاعة العامة:
وأخيراً وافق مجلس الوزراء على مذكرة وزارة الشئون الاجتماعية الخاصة بإعادة تنظيم
محطة الإذاعة، بعد أن آلت إدارتها إلى الحكومة ومما تضمنته هذه المذكرة تأليف لجان ثقافية وفنية لاقتراح ما يذاع من الموضوعات واختيار المحدثين والفنانين وما إلى ذلك.
والمأمول من هذا التنظيم الجديد أن يحقق ما يرجى من محطة الإذاعة بحيث يقوى برامجها ويتلافى عيوبها التي استهدفت للنقد في الأيام الأخيرة. ومهما يكن من شئ فإنا لا نستطيع أن نستمر على غض الطرف عن هذه العامية المتفشية في الإذاعة المصرية، في التمثيليات وفي الأحاديث. . . وليس الأمر مقصوراً على العامية منها، بل نسمع كثيراً من المحدثين بالعربية يلحنون ويخطئون في النطق وفي التعبير، وكثيراً ما يقع ذلك ممن يدعون من الوزارات المختلفة للتحدث في موضوعات فنية. فلم لا تكون هناك رقابة لتصحيح لغة الأحاديث وتمرين المحدثين على النطق الصحيح ما داموا لا يهتمون بتقويم ألسنتهم في لغتهم كما يهتمون بتقويمها في اللغات الأجنبية!.
وقد انفردت محطة الإذاعة المصرية من بين سائر المحطات العربية بالإكثار من الإذاعة العامية، فلا تكاد تجد في محطة غيرها حديثاً ولا تمثيلا الا بالعربية الفصيحة.
فيجب أن يلتفت القائمون على أمر الإذاعة في عهدها الجديد إلى أنه، قبل تقوية صوتها ليسمع جلياً في العالم العربي كله، يجب أن يكون هذا الصوت بلسان عربي مبين.
(العباسي)
من صور المجتمع المصري:
عرس في مأتم
للأستاذ علي الجندي
كانت الجنازة تسير في خطى وئيدة إلى مدينة الأموات! وفي أذيالها نوائح متشحات بالسواد، يتبارين في شق الجيوب ولطم الخدود! ومن بينهن فتاة في طراءة السن، بيضاء اللون، فاحمة الذوائب، ساجية العينين، مخطفة الخصر، تتأطر في مشيتها وتبالغ في الإرنان والنحيب! وتحيل على وجنتيها باللطم فيكاد يبض منهما الدم! حتى شق ذلك على صواحبها فقلن لها: ارحمي شبابك يا (جمل).
وقد كنت أظن بادئ النظر أنها تصدر في ذلك عن كبد حرى وفؤاد مقروح، ولكني رأيتها في سر من رفيقاتها تثني سالفتها، وتخزر عينيها، وتقتر عن بسمات الذل والإغراء! فأيقنت أن هذا الدمع زيف، وأن ذلك الحزن مصنوع لا مطبوع! يا للمافرقات العجيبة!!
قطعة زاخرة من الحياة تدلف في ركاب الموت! ونغم حلو شهي يرتفع بين النشيج والعويل! وبسمة وضيئة ترف على عبوس الأحزان!!
لقد استطاعت هذه الحسناء اللعوب أن تذهل الناس عن جلال الموت! ولكنها استطاعت كذلك ان تصلهم بالصانع الحكيم الذي أبدع هذه الدمى الفاتنة فادقها وأجلها!
وقد أوحى إلي هذا المشهد الفريد هذه الأبيات ولكن اشهد أن ما بقي في نفسي من ذلك أعظم وأجل!!
لا تنوحي كما ينوح النساءُ
…
أنتِ نور، وهن طين وماء
أنتِ عرس تطغى على المأتم الصا
…
خب منه الأنغام والأضواء
أنتِ تحت الخشوع في موكب المو
…
ت دلال، وفِتنة شعواء
أنتِ بين النحيب، واللوعة الحرى م
…
نعيم، وبهجة، وصفاء
أنت بين الأحزان، والألم المش
…
بوب زهر، وخمرة، وغناء
اتقي الله في خدودِك، فالور
…
د من اللطم جذوة حمراء
اتقي الله في عيونِك فالنر
…
جس أَدمت أجفانه الأنداء
وبلاءٌ أن يذبل النرجس الغض م
…
ويلهو بوردتيك الفناء
كيف تأسى مَن وجهها في الأسى المب
…
رح روْح، وسلوة، وعزاء
كيف تبكي من ثغرها لمعة الب
…
شر إذا جدَّ بالحزين البكاء
لا تقولي: أبكي رياءً، فما يح
…
سن من حسنك البريء الرياء
لا تقولي: هي المدارة، فالنا
…
س جميعاً - إذا سلمت - هباء
ما عهدنا أن يخمش (البدر) خدي
…
ة وأن تسكب الدموع (ذكاء)
جلّتِ الصنعة العلية أن يُلْ
…
طم وجه يشع منه الضياء
فابسمي للحياة، فالحسن بسا
…
م، وقبح أن تَعْبِس الحسناء
وامرحي في الشباب فالفطرة البي
…
ضاء تأبى أن تستكين الظباء
أي نعشٍ سارت تشيعه الشم
…
س وتسعى وراءه الجوزاء
شغل الحامليه ظبي رخيم
…
لاعب بالعقول كيف يشاء
قد ضمنا أن ينزل (الخلد) ميت
…
لمست عود نعشه (حوْراء)
كيف لم تعبق الجنازة مسكا
…
من شذاها، وتورق (الحدباء)
حسبكِ الله! قد نسينا بك المو
…
ت، وللموت حولنا ضوضاء
بين سود الثياب، والفاحم الفي
…
نان وجه، له الوجوه فداء
عجب الناس أن يروا في الضحا الما_تع بدراً تحفه ظلماء
ومهاةً تحت الأسَى تتثنى
…
خوط بانٍ تهزه النكباء
كلما ماس عطفها انسدل الشعر م
…
فغطى على الصباح المساء
وتنزَّت رمانتان من العا
…
ج، وماجت حقيبة بجراء
ترسل الصوت كالبغام، وترنو
…
بعيون، تفتيرها صهباء
وتندى خدودها عبرات
…
تصف الحزن، وهي منه براء
تصنع الدمع صنعها الدَّلَّ، والتم
…
ثيل فن تجيده (حواء)
وهي حيناً تجلو جُمَانَ لِثات
…
تتمنى سلافها الندماء
بسمات بين الدموع كما افترت م
…
عن البرق مزنة وطفاء
كل شيء فيها يناديك أن تخ
…
لع ثوب الوقار حتى البكاء
ومن الغانيات مَنْ كلها فن م
…
أنيق، وكلها إغراء
ما عليها لو حجَّبَت ناظريها
…
فاستراحت من الجوى الأبرياء
دينها الفتك! لا السوابغ خرز
…
- من ظباها - ولا التروس وقاء
سمت طرفي الإغضاء عنها، فعاصا
…
ني، وصعب عن مثلها الإغضاء
ليت شعري ما رابني من جمال
…
هو لله حجة بيضاء
رب حسن هدى إلى خالق الحس - ن حيارى لم يهدهم أنبياء
ودعاء باسم الملاحة يزجي
…
قد تلقته بالقبول السماء
شقي الناس بالجمال، ويشقى
…
- تحت ظل السعادة - الأغنياء
ليت من أشعلوا البسيطة ناراً
…
عرفوه، فلم يصبنا البلاء
لو دَرَوْا سِرَّه أظلهمو السلم م
…
ورفَّت عليهمو النعماء
علي الجندي
إليها.
. .
للشاعر إبراهيم محمد نجا
طائر الليل وراء الأفْق طارا
…
زوبدا الفجر كأحلام العذارى
فتعالى خففي من لوعتي
…
أو فزيديها - إذا شئت - أُوارا
إن تكن نارك تكوي مهجتي
…
حبذا نارك في المهجة نارا
أنا يا هند خيال شارد
…
سئم الناس، كما عاف الديارا
عشت في الدنيا غريباً حائراً
…
هائماً في كل واد، مستطارا
يستوي عنديَ يومي وغدي
…
وكذا أمسيَ ليلا ونهارا
ملك اليأس زمامي، فأنا
…
لا أسير اليوم إلا حيث سارا
لا تلومني؛ فكم من أمل
…
طاف حولي وتغنى، ثم طارا
معزفي باك، وقلبي خافق
…
لج في الماضي حنيناً وادكارا
فتعالي يتغنى معزفي
…
بالهوى طوعاً، وبالحسن اختيارا
أو فعودي بي إلى الماضي الذي
…
غاب خلف الأفق عنا وتوارى
كلما نبَّه قلبي طيفُه
…
لم يطق قلبي من الشوق اصطبارا
أين مني الآن أفق ضاحك
…
كان للحب مراحاً أو مطارا؟
أين منى الآن وكر هادئ
…
حوله الجدول ينساب نضارا؟
ملك الحب كساه مطرفاً
…
وكسته ربة الطهر شعارا
طالما زرناه يا هند معا
…
ورجعنا منه لم نخلع عذارا
وغرسنا بذرة الحب به
…
ثم عدنا فجنيناها ثمارا
حبذا الحب ملاكا طاهرا
…
لا يرى إثما، ولا بصر عارا
حبذا الحب منارا في الدجى
…
يسكب النور على دنيا الحيارى
حبذا الحب نسيما عاطرا
…
يرتقي بالروح حتى يتوارى
حبذا الحب عيونا تلتقي
…
في ظلال الشوق سرا أو جهارا
تلك دنيا بعد العهد بها
…
ونأت عنا مقاما ومزارا!
أفما زالت على عهد الهوى؟
…
أم أحال الدهر مغناها قفارا؟
أين مني الآن روح طاهر
…
كان في ظلماء أيامي منارا؟
أين مني الآن جسم باهر
…
يأسر اللب انعطافاً ونفارا؟
أين مني الآن ثغر ساحر
…
طاب كالزهرة عطراً وافترارا؟
يسكب الحسن عليه نوره
…
والفراشات إليه تتبارى
رفرف الحب عليه طائراً
…
والمنى رفت حواليه إطارا
أين منى الآن شعر ناعم
…
ضلَّ قلبي في ثناياه وحارا؟
كلما مرت عليه نسمة
…
داعبته، فتعالى واستدارا
أين منى الآن صوت حالم
…
يترك الأطيار في الروض سكارى؟
لي منه نشوة ما تنتهي
…
أتراني أحتسي منه عقارا؟
أين؟. . . لا شيء سوى دمع الأسى
…
وطيوف اليأس في قلبي حيارى!
من لباك ليس يرقا دمعه
…
ومحب ضيع العمر انتظارا؟
طالما حن إلى الماضي الذي
…
غاب خلف الأفق عنه وتوارى
آه يا قلبي! كفانا حيرة!
…
وكفانا أيها القلب عِثارا!
طُوى الماضي! فيا قلبي اتئد!
…
عبثا تطلب للماضي انتشارا!
لم يعد ماضيك إلا ذكرا
…
فاْحيَ في الماضي حنيناً وادكارا
إبراهيم محمد نجا
البريد الأدبي
الجمهورية اللبنانية تكرم النشاشيبي:
سبقت الجمهورية اللبنانية إلى تكريم إمام العربية في هذا العصر العلامة المحقق الأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي فأهدت إليه وسام الاستحقاق اللبناني المذهب تقديرا لجهاده الأدبي الدائب المثمر في سبيل وحدة العرب ونهضة العربية. وليس بدعا أن يسبق لبنان دول العروبة إلى أداء هذا الواجب لرجل قصر جهده وفكره ووقته وماله على خدمة الأدب العربي زهاء أربعين عاماً، فإن لبنان يجري في هذا السبق على أعراق آبائه. فقد كانوا حين تترك العرب وجعلوا يدرسون نحو العربية وصرفها باللغة التركية في مدارس العراق والشام، يتعصبون هم للغة القرآن فيجددون قديمها، وينشرون أدبها، ويصدرون الصحف بها، ويصنفون المعاجم لها، ورحم الله آل البستاني وآل اليازجي!
كلمة أخيرة في أبي هريرة:
قرأت ما كتبه الأستاذ عبد الحسين شرف الدين في العدد 724 من مجلة الرسالة، فوجدته يدعي أنا معشر أهل السنة نذهب إلى عصمة الصحابة من الجرح المسقط لعدالة المجروح، وهذا ليسبصحيح، لأن العصمة خاصة عندنا بالأنبياء، وعدالة الصحابة عندنا لا ترجع إلى عصمتهم، لأنه يجوز عليهم ما يجوز على غيرهم، وإنما ترجع إلى ما كان من تحرزهم في دنيهم، وما يأخذه إخواننا من الشيعة عليهم يرجع إلى رأيهم في الخلافة ومثل هذا لا تسقط به عدالة.
ثم وجدته يعود إلى حديث دخول أبي هريرة على رقية، وإلى تصحيح الحاكم لسنده، مع أن البخارى أعله بالانقطاع، ومع أني أثبت له ضعف هذا السند في روايتي الحاكم، واعتمدت في هذا على كتاب ميزان الاعتدال للذهبي، وقد ذكر الأستاذ أني ضعفت هذا السند بما لا يتنزه عن مثله أسانيد كثير من الصحاح، وفاته أنه يكفر أبا هريرة بهذا الحديث ويتهمه بوضعه، ولا يصح تكفير مثل أبي هريرة إلا إذا لم يكن مطعن ما على غيره، فإذا كان هناك مطعن ما على غيره لم يصح تكفيره، لأن التكفير لا يثبت إلا بقاطع فيه.
على أن تصحيح الحاكم لسند ذلك الحديث لا يفيد الأستاذ فيما يريده من إثبات وضعه، ومن أن واضعه أبو هريرة، لأن الحديث الذي يصح سنده دون متنه لا يكون موضوعاً، وإنما
يكون في متنه غلط أو نحوه، كما تقرر هذا في علم مصطلح الحديث، أما طلب الأستاذ أن ينظر في غير هذا الحديث من كتابه فيمنع منه أن مجلة الرسالة لا تتسع له.
عبد المتعال الصعيدي
إلى الأستاذ الطنطاوي:
أتقول - أيها الأستاذ الفاضل - إن (مؤلف الكتاب - السبيتي - لا يسوق ما ساقه على أنه رأى له، بل على أنه معتقد الشيعة وأن المعتمد عندهم، وأنت تصدقه في ذلك ما لم تر علماء الشيعة يكذبونه وينكرونه عليه).
فتعال معي - حفظك الله - لأدلك على الشباب المثقف في مدينتنا - التي تعد أهم مراكز الشيعة في العراق - لترى أنه لا يعير هذه التقاليد والعقائد اهتمامه بل هو راغب عنها، ثائر عليها، ولا يهتم بهذه النعرة - الطائفية الأثيمة - الجالبة الشر إلينا وعلينا، لأنه عرفها من عمل (المستعمر) الغاشم وأذنابه، ودرى أنها ليست نتيجة للتفكير.
وكن على يقين ثابت من قولي من أن هذا الكتاب - تحت راية الحق - الذي كان بين يديك قبل مدة وقرأته وعلقت عليه، لم يقراه شباب الشيعة المثقف عندنا، ولا يحاول أن يطلع على كتاب - كهذا - يحوي بين دفتيه سفساف الأمور، وأشياء لا تجلب للمسلمين سوى الضرر. وأنهم عجبوا منك حينا طرقت هذا الموضوع، في صحيفة تخدم الأدب والعلم والفن وحقيق بنا أن نعجب!
عفواً، (إن إخوانكم الشيعة لا يعتقدون إن المهاجرين والأنصار لم تصف نفوسهم لفهم الدين، ولم تصل إلى أعماق قلوبهم، وهم يرونهم - كما ترونهم - أئمة الهدى وورثة الرسول) والشباب الواعي لا يسب الصحابة لأنه يراهم (خلاصة الإنسانية ولباب البشر) ولأنه واثق إن الدين الحنيف قام على أكتافهم وشيدت دعائمه ببذل جهودهم المشكورة.
وبعد فإنني لم أرد - بهذا المقال - الدفاع عن الشيعة بل إنما أردت أن أقول الحقيقة، وأدعو المسلمين كافة إلى نبذ أمثال هذه الكتب المفرقة، فحسبنا هذا الاختلاف أربعة عشر قرنا.
فقد اتحد أقوام من أديان مختلفة وانضموا تحت لواء واحد، وبقينا نتنازع، وانقلبنا شيعا بعد
أن كنا كالبنيان المرصوص وأصبنا بما أصبنا.
أليس من العيب علينا ألا نتحد وكلنا يدين بدين محمد!
(كربلاء - العراق)
جواد صالح الطعمة
1 -
في العروض:
في (الرسالة) الغراء في عددها (723) قصيدة حرة سابغة للأستاذ الكبير الشاعر الثائر محمود الخفيف استوقفني فيها ما أردت إثباته للحقيقة.
يقول الأستاذ:
وهاجة شعلتها لا َتنى
…
تضئ لا يحبسها حابسُ
من موطن سارت إلى موطنِ
…
خانقها من موتها يائس
نار سناها ليس في الأعين
…
ملء أبيّات النفوس السنا
. . . . . . الخ
والشاهد أن الأستاذ أسس في الشطر الأول من البيت الأول (بألف التأسيس) في كلمة (لا تنى) وأغلفه في البيتين التاليين وهو ما لا يجوز في شرعة العروضيين أهل السبق والرتق والأذن الواعية.
هذا، للأستاذ الموقر تحية المقدِّر، والسلام.
2 -
منذئذ:
عرضت لي هذه الكلمة في مجلة (العالم العربي) ووقفت عندها موقف الشاك في غير إثم. . .
فأنا أعرف أن (حينئذ وعندئذ ويومئذ وليلئذ. . .) كلها تحدد الزمان حيال أمر مضى أو انقضى. . أما (منذئذ) هذه فأمرها غير أمر أخواتها وإن وقع الشبه. .
(فمنذ) كلمة تحدد الزمان لأمر حدث في الماضي واستمر حتى ساعة الخطاب. . تقول: ما عرفت كعم الكرى منذ رحل أو مذ رحل.
وأما (منذئذ) فأنا أسأل عنها العارفين شاكراً. . . والمرء جاهل ما عاش. . .
(الزيتون)
عدنان
خطأ عروضي شائع:
نشر الأستاذ مختار الوكيل قصيدة في هلال مايو، بعنوان:(إلى أخي) وهي مهداة لكل أخ في جنوب الوادي، ومطلع هذه القصيدة:
أَخي قد شاَء رب الكو
…
نِ أن يُجَمَع قلبانا
وهذا المطلع كما هو ظاهر من بحر الهزج (مفاعيلن مفاعيلن)(وكذا عجزه!) بينما البيت الذي يليه من مجزوء الوافر وهو:
فاسكننا بوادٍ فا
…
ضَ بالخيرات ألوانا
لأن وجود التفعيلة (مفاعلتن) فيه تكفي لجعله من ذلك البحر.
وأكثر أبيات القصيدة خليط من بحرَي الهزج ومجزوء الوافر وهو خطأ يقع فيه كثير من الشعراء المحدثين.
(فلسطين)
خليل إبراهيم الخطيب
في مقال القفجاق:
وقع في مقال الأستاذ رمزي بك المنشور في العدد الماضي خطأ مطبعي في كتابة هذين الاسمين فنعيد نشرهما مصححين:
كابتشاك
وكيبتشاك
الكتب
الحجاج في الميزان
(تأليف الأستاذ طه عبد المجيد الشيمي)
تاريخنا لم يكتب بعد، وما هذه الكتب التي بين أيدينا إلا مصادر له، على أنها مصادر يصدر عنها الخير والشر، والصحيح والباطل، وسبب ذلك أن علماءنا لم يعنوا بنقل التاريخ. عنايتهم بنقل السنة، ولم يتعبوا أنفسهم في تصحيح إسناده، وتمحيص رواياته كما أتبعوا أنفسهم فيها. وإن التاريخ دوَّن في عهد العباسيين فكان فيه من التحامل على بني أمية خاصة شئ كثير، لا سيما وأن أكثر الطعن فيهم ينقله مؤلفونا المعاصرون عن مثل المسعودي واليعقوبي وهما شيعيان متهمان ببغض بني أمية ولا بد من إعادة كتابة هذا التاريخ من جديد.
وهذا الكتاب محاولة صالحة لدرس حياة الحجاج دراسة أراد المؤلف أن ينصفه فيها ويدفع عنه تهم أعدائه، ففعل ولكنه بالغ في ذلك حتى كان نظره إليه نظره إلى صديق يمدح لا يؤرخ ينقد ويزن.
والكتاب للأستاذ طه عبد المجيد الشيمي من علماء الأزهر في مائة صفحة من القطع الصغير يطلب من دار مجلة الإسلام في شارع محمد علي بمصر.
علي الطنطاوي
معرض الأدب والتاريخ الإسلامي
(تأليف الأستاذ محمد عبد الغني حسن)
قال لي صديقي الأستاذ محمد عبد الغني حسن وهو يقدم إليَ كتابه الأخير أكتب عن هذا الكتاب وانقده ما وسعك النقد.
فقلت له لقد قرأت هذا الكتاب يوم صدر، ولم يكن في عزمي أن أقرأه كله، ولكني ما كدت أقرأ الصفحات الأولى منه حتى مضيت في قراءته إلى آخره، لأني وجد فيه متعة ولذة وسهولة مع براعة الاستهلال وحسن الانتقال، ولا أذكر أني وجدت فيه مآخذ تستوقف
النظر. فإن كتبت عنك فلا بد لي من الرجوع مرة ثانية إلى الكتاب لألتمس فيه المغامز التماساً، فلا تكلفني شطاطا.
فقلت كما قال أرسطو: أحب أفلاطون وأحب الحق، ولكن حبي للحق أعظم.
الكتاب يقع في 234 صفحة، وفيه هذه الموضوعات: قصة الأساطيل الإسلامية، ارتياد جزيرة العرب، التجارة الإسلامية على مر العصور، الوزارة والوزراء في الإسلام، مكتبات عربية في الشرق والغرب، دور التحف العربية، الرحلات العربية. . . ثم أربعة عشر موضوعاً خلاف ما ذكرنا، وهذا هو السبب الذي جعل المؤلف يصوغ عنوانه (معرض الأدب والتاريخ الإسلامي).
وأول ما يستوقف القارئ هو هذا العنوان.
هل الإسلامي صفة للتاريخ أم صفة للأدب والتاريخ. إن كانت الصفة للتاريخ فقط فالعنوان صحيح، وإن كانت لهما معاً، فالواجب أن يقال: معرض الأدب والتاريخ الإسلاميين.
ولست حجة في اللغة العربية وقواعدها، ولكن العقل السليم يقتضي ما ذكرت، على الرغم من أن اللغة تتسع لكثير من التخريج والتأويل.
ثم قال في قصة الأساطيل الإسلامية: (ومن العجب أن عمر بن الخطاب الفاتح العظيم، لم يحب ركوب البحر، بل على الضد من ذلك صرف المسلمين عنه. وكتابه إلى معاوية يؤيد هذا، فقد أقسم بالله الذي بعث محمداً بالحق لا يحمل فيعه مسلماً أبداً. وذلك حينما اقترح معاوية وألح في الاقتراح على عمر بركوب البحر وغزو الروم في حمص.
(وعجيب جداً أن يكون هذا موقف عمر من البحر وهو الذي دوخ البلاد فتحاً وغزواً، ولعله أراد أن يركز قوة المسلمين في البر حتى يتهيأ لهم مع الزمن ركوب البحر).
وإذا كان الأستاذ عبد الغني قد اعتمد على هذا النص الموجه إلى معاوية، فهناك نصوص أخرى تفيد هذا المعنى. من ذلك - وأنا أرجع الآن إلى الذاكرة - قول عمر (علموا أولادكم الرماية والسباحة). والسباحة لا تكون إلا بحراً لا براً، وقد قال عمر ذلك في معرض الفروسية وتربية العرب على الحرب والقتال. والذي ينصح بالسباحة لا يمتنع من النصح بركوب البحر.
ومن جهة أخرى لا ينبغي تفسير التاريخ بالنظر إلى وثيقة واحدة. والواقع في المسألة أن
الحروب التي قام بها عمر في فارس والشام، ما كانت تقتضي ركوب البحر، ولو أن الله مد في حياته، لفعل كما فعل عثمان بن عفان.
وقال الأستاذ عبد الغني عند الكلام على (التجارة الإسلامية على مر العصور) ما يأتي (وكانت روح الإسلام المتحرجة من التجارة باقية عند الأمويين، ولم تترك لهم المنازعات السياسية والحزبية مجالا للبيع والشراء. فلما جاء العباسيون تغيرت نظرة الناس إلى الأشياء وأصبح التاجر الغني موضعاً للتبجيل والاحترام).
ويبدو كذلك أن هذا الحكم سريع لا يستند إلى الواقع من التاريخ. فالقول بأن المنازعات السياسية والحزبية لم تترك للأمويين مجالا للبيع والشراء، قول يصح بالنسبة إلى الدولة العباسية فقد كثرت فيها المنازعات السياسية والحزبية.
ومهما يكن من شئ فهذه وجهات من النظر في تفسير التاريخ، ولن تجد في التاريخ تفسيراً واحداً.
ولا أحب في ختام هذه الكلمة أن اذكر المواطن التي أعجبتني في هذا الكتاب، وأن أنبه عليها، حتى لا يقال هذه تحية صديق
أحمد فؤاد الأهواني
1 -
نظرة العجلان في أغرض القرآن
(تأليف محمد كمال الخطيب المحامي)
إذا كان القرآن الكريم قد ظل على طول القرون مقصد العلماء يتناولونه من سائر نواحيه بالدراسة والبحث، فإن هذا الكتاب يلم بناحية فنية من تلك النواحي إذ قصره مؤلفه الفاضل على البحث في وحدة الموضوع في السور وتناسب الأغراض بين الآيات، وعلى هذا تحدث عن جميع سور القرآن مبتدئاً بفاتحة الكتاب حتى بلغ النهاية، وهذا الذي عناه المؤلف مما تناوله المفسرون ورجال البلاغة ولكن في مواضع متفرقة وفي مناسبات استطرادية. فكان من الفضل للمؤلف أن جعل من ذلك وحدة شاملة هي موضوع كتابه النافع وإن كان قد اضطر إلى إجمال الكلام إجمالا لا يشبع.
أما مؤلف هذا الكتاب فهو الأستاذ محمد بك كمال أحمد الخطيب المحامي ومدير مجلة
التمدن الإسلامي التي تصدر بدمشق، وهو معروف بصدق الغيرة الإسلامية، وليس كتابه هذا إلا مظهراً من مظاهر هذه الغيرة الكريمة، ولا شك أن كتابه بما له من جلالة الموضوع سيقع عند القراء موقع الرضا والتقدير.
2 -
ألغاز الحياة والموت
(ترجمة الأستاذ علي عبد الجليل راضي)
الخلق. الروح. البعث. الذرة. الأثير. الأحلام. الضمير، هذه الموضوعات التي تتصل بعالم الكون وعالم الإنسان قد حيرت الأفهام وأرهقت عقول العلماء على أنها لا تزال مورد التساؤل والاستفهام، ومبعث الحيرة والارتباك.
ولقد أحسن الأستاذ الفاضل علي عبد الجليل راضي إذ عني بنقل ما كتبه العلماء الأخصائيون في هذه الموضوعات وما وصلوا فيها من آراء هي نتيجة الدراسة العميقة والخبرة التي تقوم على مدلول التجربة ومنطق العقل، كما أحسن إذ عني بتبسيط المسائل المعقدة وشرح الاصطلاحات الغامضة، فجاء كتابه هذا ثمرة طيبة في الإفادة بالموضوعات العلمية والتعريف بهذه الناحية التي لا تزال مجهولة من الشبان وطلاب المعرفة.
محمد فهمي عبد اللطيف
القصص
المترو
للقصصي النمساوي أيرفين ريجر
كان الحر لافحا خانقاً عندما توقف شاب وفتاة وسط الساحة الكبيرة في (محطة الشرق) بباريس يطلقان حولهما نظرات قلقة حائرة. كان من السهل إدراك أنهما أجنبيان قدما إلى باريس من بعيد، وأنهما فلاحان كما تدل عليه ملابسهما. كانا بولنديين مهاجرين قدما إلى باريس ليبحثا عن عمل في فرنسا
كان الإعياء يبدو عليهما من أثر الرحلة الطويلة. وكانت الفتاة شاحبة اللون تحيط عينيها الوضاءتين هالات سود. ولكن نظرتها كانت تنم عن الاستسلام المطلق والثقة العمياء بالشاب القوي العريض المنكبين
ووضع الشاب الأمتعة التي كان يحملها كلها وحده. ثم أخرج ببطيء من جيبه الداخلي محفظة كبيرة من الجلد وجذب منها ورقة قدمها لأحد المارين الذي ألقى عليها نظرة عاجلة وقال (متروبورت دو كلينيا نكور) ولم يفهم الشاب الأجنبي وسار وراء المار ورفيقته وراءه يستوضحه فأجاب بنفس العبارة
وعرض الشاب نفس الورقة على شيخ قصير القامة يحمل منظارا. ولاحظ العجوز أن الشاب والفتاة أجنبيان يبدو عليهما الوجل والاضطراب فأشار إليهما بمتابعته ففعلا ونزلا وراءه السلم الذي يوصل إلى ممر طويل تحت الأرض كتب على مدخله عبارة (مترو) وبعد خطوات رأيا لافتة كتبت عليها عبارة (متروبورت دو كلينيا نكور)
واشترى العجوز تذكرتين وناولهما للشاب مبتسما وسار في سبيله. وتقدم (بوجدان) يحمل الأمتعة نحو الممر تتبعه (تيريز). لم يكن السير سهلا فقد كان يخرج من تحت الأرض هواء ساخن يخنقها، وكانت الممرات تتقاطع تملؤها الجموع الإنسانية الحاشدة. لذا كان يحدث من لحظة إلى أخرى أن يفصل بين بوجدان وتيريز بالرغم منهما بعض المارين المسرعين في طريقهم. وكان بوجدان يخترق الجموع بجسمه المارد كباخرة عاتية لا تعبأ بما يعترضها من الأمواج. أما تيريز فكانت تجري وراءه بقدر ما تستطيع. وعندما وصلا إلى نهاية السلم وجدا أمامها أفريزا تمتد تحته قضبان حديدية وسط ظلام دامس. ما أغرب
هذا العالم الذي يجري تحت الأرض! وعبر بوجدان بابا وتوقف قطار كهربائي يحمل معه صوتاً أشبه بصوت الرعد. ثم فتح أبوابه وألقى إلى خارجه جموعا إنسانية أخرى وفي نفس اللحظة أغلق باب الافريز صاداً عن المرور تيريز التي كانت تجاهد الزحام بكل قواها دون جدوى؛ فاضطرت أن تنتظر على السلم مع مئات غيرها. وأصابها الذعر حين رأت بوجدان مدفوعا بمجهود نافد الصبر يدخل عربة القطار دون أن ينظر حوله. فصرخت صرخة تمزق القلب (بوجدان! بوجدان!) وفي نفس الوقت أغلقت جميع أبواب القطار ثم دوى صوت صفارة تبعها في الحال تحرك القطار الذي انزلق كالسهم في النفق الأسود المظلم.
بقيت تيريز وحدها يحيط بها جمهور متباين الوجوه، يتكلم لغة لا تفهمها، وامتلأ الرصيف بالخلق يضحكون ويمزحون ولا يأبه أحد لها. ووصل قطار جديد يشبه تماما ذلك الذي ركبه بوجدان منذ دقيقتين وفغرت الأبواب أفواهها واندفعت الجموع. ما العمل؟ هل تنتظر؟ هل تتبع الجموع في يسرها؟ وبغير وعي انساقت تيريز مع الحشود الإنسانية في طريقها كما فعل بوجدان. وبدأت رحلتها في أنحاء باريس تحت الأرض دون أن تعرف إلى أين تذهب. كانت واقفة وسط عربة القطار الذي يخترق الظلام نحو المجهول. أين بوجدان؟ هل هناك أمل في العثور عليه؟ وتملكها الخوف. إلى أين يقودها ذلك القطار الذي يجري في الظلام كالصاعقة، ودار رأسها ولم تعد تستطيع احتمال هذا القلق وهذه الوحدة. ووقف القطار فنزلت منه كمجنونة وسارت يدفعها هذا ويرتطم بها ذاك صاعدة سلما لا ينتهي. ثم أنعشها هواء ناعم ووضحت أمامها الوجوه وعادت إليها الحرية. كانت لا تصدق عينيها. أهي في حلم؟ ما هذه الأضواء العديدة الصارخة؟ ما هذه الموسيقى؟ وجدت نفسها في شارع على جانبيه منازل عالية. تصطف تحتها المطاعم والمقاهي الزاهية بالأنوار. المكتظة بالناس المرحين في ثياب العيد.
ماذا يريد منها هذا الشاب؟ لقد مس ذراعها فرفعت رأسها ونظرت إليه بدهشة أضحكته. إنه يتكلم تلك اللغة الأجنبية. ولاحظت أن صوته ناعم رقيق برغم أنها لم تفهم كلمة واحدة مما تفوه به، وهزت رأسها وافتر ثغرها عن ابتسامة اعتذار أضاءت وجهها المبلل بالدموع. وأدرك (رونيه) أنها جميلة وهو ينظر إلى خصلة الشعر الذهبية التي تبرز من
تحت المنديل الذي يمتص شعرها. وأدرك أنها أجنبية وربما كانت ألمانية. لقد تعلم بضع كلمات ألمانية أثناء اعتقاله مدة الحرب فجمع شتات ذاكرته ووجه إليها عبارة صغيرة آتت ثمرها فقد كانت في وطنها بولونيا تعيش قرب الحدود الألمانية. ما أسعد أن يجد المرء في هذه البلدة القريبة شخصاً يركن إليه ويضع فيه ثقته! لقد فتحت له قلبها وقصت عليه كيف أن والديها لم يقبلا الإنصات إلى حديثها عن بوجدان فهربت معه إلى خارج وطنها، وكيف أنها قدمت فرنسا تبحث عن عمل. وكيف فقدته في محطة المترو وهي قاب قوسين أو أدنى من هدفها. كان يجب أن تأكل الفتاة شيئاً لتسترد قواها فذهبا إلى أحد المطاعم المحيطة بهما وجلسا في الشرفة يحيط بهما جمهور كبير يأكل أشهى الطعام ويشرب أفخر الشراب، كانت تيريز قد جففت دموعها ولكنها كانت خجلة من ملابسها المتواضعة وسط هذا الجمع المتأنق الفاتن، لقد أخذ بوجدان معه جميع ملابسها ونقودها. كانت تنظر إلى رونيه مذهولة لفرط ظرفه ورقته اللذين لم تر لهما نظيراً. وأراد رونيه أن يهدئ من روعها ويرفه عنها فقال:
هذه هي مونمارتر، هي من أبهى أحياء باريس، واليوم يوم عيد. إنك سعيدة الحظ بوصولك إلى باريس في هذا اليوم. يوم 14 يوليو. انظري كيف يضحك الناس وكيف يرقصون. إنها ليلة الحرية.
واستحوذت على تيريز عاطفة جديدة. عاطفة حب الحياة. وتملكها رغبة في الاستقلال والتحرر ولم تشعر طول حياتها بمثلها، كانت كأنها تريد أن تقبل كل هذه الجماهير التي لا تعرفها.
ومرت الشهور والأعوام ولم يعد بوجدان جاورونسكي. لقد اشتغل عاملا في المناجم في بلدة مارل لي مين بإقليم بادوكاليه، وكان إذا ما حل المساء وذهب إلى الحانة وأمامه كأس النبيذ قص على رفاقه ذلك الحادث الغريب الذي فقد به تيريز في المترو يوم وصولهما إلى باريس وأن بحثه عنها ذهب كله أدراج الرياح فلم يرها منذ ذلك اليوم. كان يقول:
لقد تبعتني مغلقة العينين. كانت طوع بناني. مطلقة الثقة بي. وهذا ما يجعل الأمر مرعباً. لم يكن معها فلس واحد. كان معي كل أوراقها، وكل ملابسها.
وأجاب عامل كان النبيذ قد أدفأه قليلا:
نعم! وباريس مدينة خطرة! لا ترقب الخير لفتاتك!
وتظاهر بوجدان بعدم السماع ثم قال:
لقد جبت كل مكان في باريس. لم أترك شارعاً ولا ميداناً لم ابحث فيه. وبعد بضعة أيام ابتدأت تنفذ نقودي وتتلف أحذيتي ولم يكن لدى أصدقائي عمل يعهدون إلي به. وكانت المشكلة الكبرى مشكلة اللغة وعندئذ جمعت ما تبقى معي من النقود وسافرت إلى مارل مع رفيقين، وما بقس بعد ذلك تعرفونه.
ومر الزمان وبوجدان يعيش في مارل لي مين، يحيا حياة العزلة والهدوء لا يشرب كثيراً ولا يمرح إلا قليلا. كان لا يعبأ بأي شئ منذ فقد تيريز. وإذا كانت ذكراها لا تفارقه وطيفها لا يبرح خياله، فإنه كان يذهب بين وقت وآخر إلى المنزل رقم 13 حيث تقيم بائعات اللذة؛ وإن مغامرته مع (ألين) لا دخل فيها للهوى والغرام لقد كانت سيئة الخلق ولكنها كانت تصلح له جواربه. كان لا يحب غير تيريز. كان يعرف ذلك ويعرف أنه لن يحب غيرها. ومن أجلها يتحمل هذه الحياة المريرة الخطرة في المنجم. من أجلها يدخر النقود. إذ سوف يراها يوماً من الأيام ولا يريد أن يبدو أمامها بمظهر المتسول. سوف يقدم إليها أوفر الاعتذار فقد وهبته كل شئ وأساء هو استخدام ما منحته إياه من ثقة. سيبحث دون ملل أو وهن.
في ذلك الوقت كانت تيريز تحيا حياة دعة في باريس. كانت منذ وقت طويل زوجة رونيه ولها منه طفلان: جورج وأخته الصغيرة اتينيت. ومع ذلك لم تنس الليلة الرهيبة، وهل يمكن أن تنساها؟ هل للسعادة أو الراحة أن تمحو هذه الذكرى الدفينة؟ كانت تيريز دائماً مع رونيه زوجة أو على الأصح صديقة مخلصة، ولو أن ذلك لم يكن بالأمر الهين. كان واجباً عليها قبل كل شئ أن تنسى عاداتها وأن تكتسب عادات جديدة وأن تتعلم لغة أجنبية. وسرعان ما أصبحت الفتاة القادمة من صميم الريف باريسية بغير صعوبة. كان ذلك واجباً بعد أن قطع عليها سبيل التقهقر. فقد ولى بوجدان وفصل بينهما وبين منزل والديها. فوالدها لن يغتفر لها هربها. وقريتها تضمر لها السخط والحنق.
وعاشت تيريز نموذجاً للزوجة المقتصدة المدبرة. كانت أكبر عون لزوجها، تساعده في كل أعماله حتى صارا يأملان بأن يكون لديهما بعد ست سنوات سيارة. وبعد عشرين سنة منزل صغير ذو حديقة تقوم هي بزرع الخضراوات فيها كما كانت تفعل في أوائل شبابها
قبل تلك الساعة الرهيبة التي جعلت من حياتها حياتين مختلفتين تماماً.
ومرت عشر سنين منذ الفراق الاضطراري وتيريز تحتفظ دائماً بسر غريب. وفي بعض الأيام تدفعها قوة داخلية إلى الاقتراب - دون أن يعلم أحد - من المكان الذي اختفى فيه صديقها فجأة. كانت تقاوم هذه القوة المجنونة بكثير من الفوز أحياناً. بيد أنها كثيراً ما كانت تضعف وعندئذ تقفز إلى أول سيارة تصادفها مسرعة إلى محطة الشرق كمسافرة كاد يفوتها القطار. فتعبر الردهة الواسعة - باحثة في كل مكان على مقربة من السلم المشئوم. وتنتظر صابرة رغم أنها واثقة من أنه سوف لا يأتي أيضاً هذه المرة كما فعل في المرات السابقة. وفجأة تفيق من جنونها وتعود إلى الواقع. فتقفل راجعة إلى منزلها يغمرها الخجل.
وفي ذات ليلة من ليالي الصيف الحارة عاودتها (الأزمة) كما كانت تسميها بصورة قوية جارفة لم تعهد مثلها من قبل. أحست بأنها تكاد تختنق. بأنه ينتظرها. وأنها ليست مخدوعة هذه المرة فعليها أن تهرول إليه. نزلت إلى الشارع وكان الليل قد أسدل أستاره واتجهت إلى محطة المترو المجاورة للمنزل مخترقة الجموع كمجنونة. ووصلت إلى محطة الشرق. أين هو؟ هل تبحث عنه على الأفاريز الداخلية أم عند شباك التذاكر كما فعلت مراراً دون جدوى؟ وارتبكت عيناها وصعبت عليها الرؤية وظلت هكذا نصف ساعة يدفعها المارون من كل جانب وتخنقها أحاديثهم وأنفاسهم الساخنة. وبلغ ذعرها أوجه حين سمعت صوتاً يناديها وشيئاً يمسك بذراعها. كانت أصابع من حديد! من يكون هذا الوقح؟ واستدارت بسرعة فرأت بوجدان. هل هو حقاً؟ وغشى عينيها حجاب قاتم السواد. وصرخت
وعندما عادت إلى رشدها وجدت نفسها مستلقية على أريكة من القطيفة الحمراء. لقد حملها بوجدان إلى مقهى صغير أمام المحطة. كانت القاعة ذات المرايا العديدة خالية من الناس إذ جلسوا جميعاً في الشرفة يستنشقون الهواء الرطب. وبلل بوجدان جبهة تيريز بالماء البارد وطلب لها فنجاناً من القهوة. وأخيراً فتحت تيريز عينيها ونظر إليها متأملا. وانفرجت شفتاه بحركة عصبية فلمعت أسنانه الكبيرة تحت شاربه. لم تغيره السنون. أما هي فقد أصبحت شيئاً آخر، لقد أصبحت سيدة وقورة حسنة الهندام. كان ينظر إليها معجبا بقبعتها المصنوعة من الخوص الأزرق التي تطفر من تحتها خصلة من الشعر الأصفر الذهبي. وبسترتها الجميلة وقفازها الجلدي وجوربها الحريري الشفاف وحذائها اللامع. من الذي
اشترى لها أو منحها كل هذه الأشياء الجميلة؟ وأفسد هذا الخاطر سعادته العظمى برهة من الزمن ولكن السرور غمره ثانية. فقد عادت وعاد كل منهما للآخر من جديد. وليس في الوجود قوة تستطيع أن تفصل بينهما
وكما تحطم الأمواج المكبوتة زمانا طويلا ما يعترضها من سدود، كذلك انفجر بوجدان شارحاً همومه وآلامه، واصفا أمله وثقته اللذين لازماه طول عشر سنين.
وبلغ التأثر أقصاه بتيريز وانسابت دمعة على خدها ونظرت إليه فأدركت أنه كبر في العمر. لقد فقد شعره بهجته، ووجه ما كان عليه من إشراق في الزمن السالف، ثم يداه المجعدتان! ما أبغضهما إليها الآن بعد أن كانت فيما مضى ترتعش لمجرد لمساتها. وبرغم كل هذا فهاهي تجد تدريجياً على ذلك الوجه الخشن الذي أفلت منه الشباب (بوجدان) الأيام الماضية. تجد القسمات التي أحبتها والتي ستحبها دائماً.
ومرت الساعات دون أن يشعرا. كانا يضحكان ويتمازحان. وفجأة ارتجفت تيريز وألقت نظرة على ساعتها. لقد بلغت الساعة التاسعة وعاد رونيه إلى المنزل منذ وقت طويل ولا بد أنه قلق لتأخرها. وأحست تيريز بوخز ضميرها حين تذكرت أن (اتينيت) لا تنام إلا إذا طبعت على شفتيها قبلة الليل. ووقفت دفعة واحدة وقالت:
- الوقت متأخر. هلم بنا!
فأجاب بوجدان بهدوء:
- هيا بنا يا تيريز. تعالي نأخذ أمتعتي من مخزن المحطة فهنالك أيضاً كل حاجاتك.
ثم نظر إليها وقال بلهجة الانتصار:
- سنقضي هذه الليلة في باريس القذرة. ولكن غداً صباحاً سنعود في أول قطار إلى وطننا. سأشتري حقلا صغيراً ونعيش في هدوء.
ووقفا على باب المقهى ونظرت إلى يديه المنهكتين وكأنها تريد تقبيلهما وقالت:
- بوجدان إنك لا تزال كما كنت عنيداً ونحن لم نعد صغاراً. ماذا كان يحدث لو لم تكن وجدتني؟.
- ما أعجب هذا السؤال؟ لو لم أكن وجدتك؟ هذا محال. كنت أنفق كل نقودي أثناء بضعة أيام في هذه المدينة اللعينة.
ورفعت رأسها وقد علاها الرعب ناظرة إلى وجهه المتهجم وقالت:
ثم ماذا؟
ثم ماذا؟ لا أدري، فحتى لو أردت العودة إلى المنجم فسوف لا أجد عملا. لقد استغنوا عن جميع العمال البولونيين بسبب الكساد. وأخيراً هناك الفرقة الأجنبية.
وعربا معاً متشابكي اليدين ميدان المحطة الواسع المزدحم. كان بوجدان يسير متردداً ينقاد وراءها كطفل في هذه المدينة التي يكرهها والتي تحبها هي. باريس التي جعلت منها السنون وطناً لها. باريس التي تحتمل مرارتها وتفهم عظمتها. إن بوجدان هو الشباب والوطن والحب ولكن الأعوام علمتها شيئاً آخر وهو الواجب. فهي تستطيع أن تهجر رونيه ولكن ماذا تصنع بطفليها؟ إنهما فلذات كبدها.
ووصلا إلى الساحة الكبرى، إلى نفس المكان الذي قابلا فيه منذ عشر سنوات ذلك السيد العجوز اللطيف المعشر بالقرب من سلم المترو. كانت تيريز تندم في تلك اللحظة لأن كِلا الرجلين كان طيباً، فليتها كانت تكره أحدهما. ولم يكن أمامها لحظة واحدة لتضيعها. وخاطرت تيريز وكذبت على الرجل الذي تحبه وقالت:
بوجدان! اذهب وأحضر أمتعتنا. إني أنتظرك هنا، واستدار بوجدان بسرعة وابتعد بخطواته الواسعة الحاسمة التي كانت تحبها فيه وقت شبابها. كانت تتبعه بنظراتها وفي استطاعتها أن تناديه أو تلحق به. واختفى بوجدان. كان أمامها دقيقتان قبل أن يعود. واقتربت - وكأن قوة خفية تدفعها - من السلم الذي يقود إلى تحت الأرض حيث فقدت بوجدان منذ عشر سنوات ووضعت قدمها على أول درجات السلم واندفعت مع الجموع ممزقة القلب ولكن ثابتة الجنان، ممزقة الرابطة التي كانت لا تزال تربطها ببوجدان أثناء أحلامها.
ولم تره بعد ذلك أبداً. . .