الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 726
- بتاريخ: 02 - 06 - 1947
من مذكراتي اليومية
حلوان في يوم الأحد 2 مارس سنة 1947:
ذهبت صباح اليوم إلى نبع حلوان الجديد فإذا عليه أمة من الناس يستقون ويشتفون، بعضهم من مخلفي الجيش، وبعضهم من مرفهي العيش، وكلهم من الممعودين أو المكبودين أو الممرورين فلا تعرف في وجوههم نضرة الشباب، ولا على جسومهم بضاضة العافية.
انبجس هذا النبع منذ سنوات في هذه البقعة التي انطمس فيها معنى الوجود فلا حياة ولا موت، ولا سكون ولا حركة، ولا أمس ولا غد، فأصبحت بعد نبوغ هذا النبع وما جر إليها من النفع، مهوى الشعراء ومراد الأصحاء وملاذ المرضى!
كذلك بنو آدم والدنياّ جناب في أجناب! فلولا الينبوع الذي ولد الواحة، والنهر الذي خلق المملكة، والنبي الذي منح الجنادب أجنحة الملائكة، والحاكم الذي وهب الأجداب خصب الفراديس، لما أخلد بعض إلى بعض، ولما امتازت أرض من أرض!
الأرض لولا الرياض واحدة
…
والناس لولا الفعَال أمثال
تقطع الناس فرقا حول الينبوع يتساقون أقداحه الفاترات العذاب. وقد لاحظت إن الذي قسم هذا الجمع إلى هذه الفرق إنما هو الدين لا الجنس ولا الوطن ولا اللغة؛ فاليهودي مع اليهودي، والمسيحي مع المسيحي، والمسلم مع المسلم. ينظرون إلى الماء بعين واحدة، وينظرون إلى السماء بعيون متعددة! فأين هذا من اجتماع الحجيج حول زمزم؟ إنهم هناك يجتمعون على ينبوع من الإيمان القوي المتحد يجري في أفواههم دعاء وأملا، ويسرى في دمائهم شفاء وقوة.
ذلك ما أكد للمرة السبعين إن الدين أقوى العوامل الروحية والاجتماعية أثرا في توثيق العلائق بين معتقديه، وتوهينها بينهم وبين منكريه. فإذا شاء ربك أن يجعل الناس أمه واحدة أرسل إليهم ذلك الرجل المنتظر فيجمعهم بالرضا أو بالكره على الدين الذي يكفل التعاون بالمؤاخاة، ويضمن العدالة بالمساواة، ويحفظ الكرامة بالحرية، ويرفع الإنسانية بالإيثار. فإذا ما تم له ذلك عمد إلى سماسرة الدين وتجار السياسة وعباد الطمع فأقام لهم المشانق في الساحات العامة من المدن المقدسة. يومئذ تنكسر حد العصبية، وتنقمع شهوة المنافسة، وتنقطع أسباب الحرب، ويغنى الناس عن هذه المؤتمرات والمجتمعات التي
يقيمها ذؤبان البشر للحرية والديمقراطية وهي في الواقع أسواق دولية للرقيق تباع فيها الأمم الصغيرة بالمساومة أو بالمزايدة!!
الينبوع وميدانه الرحب، وفندقه الفخم، وحديقته المنمنمة، ومشربه الريان، ومسبحة العريان، تعج بالناس ولكني وحيد. ولأسماء الصحو، والنسيم الفاتر، وسفح المقطم الحاد الضحيان، وشاطئ النيل الأشجر الفنيان، تغري كلها بالنشاط ولكني مريض. وليس للوحيد المريض إلا أن يعود إلى مثواه عسى أن يجد فيه لساناً حلواً في فم جميل يؤانسه، أو قلباً طيباً في صدر نبيل يواسيه!
أحمد حسن الزيات
قضى الأمر.
. .
للأستاذ محمود محمد شاكر
قضي الأمر، وانتهت الحكومة القائمة عن ترددها، وألفت الوفد الذي سيذهب إلى مجلس الأمن ليعرض موضوع الخلاف الذي بيننا وبين بريطانيا. وعن قليل سيسمع العالم كله لقضية مصر والسودان، ويصغي إلى حجتنا التي ستلقى إليه، وإلى حجج بريطانيا في دفاعها عن الذي تدعيه. ولو كان الأمر أمر عدل وأنصاف وبعد عن التحيز وأنفة من الظلم، لما بالينا أن ندعو حكومتنا أو شعبنا إلى خطة سوى عرض القضية كما هي، بلا حاجة إلى تتبع سوءات بريطانيا وعورات أفعالها. ولكن لا عدل ولا أنصاف، بل هو التحيز والظلم. هذا ما ينبغي أن نتوقعه بعد الذي كان من موقف الأمم الغربية والأمة الروسية من أعظم قضايا الشرق وأوضحها برهانا وأبينها حجة، أعني قضية فلسطين.
ولسنا نقول هذا تثبيطا لوفدنا أو لشعبنا؛ كلا فإن القضية المصرية السودانية قضية للجهاد لا للسياسة. فلنفرض أن المم ظلمتنا وتحيزت لبريطانيا فجارت علينا وضلعت معها فلن يضيرنا ذلك، بل هو الداعي الأعظم إلى الاستماتة في الجهاد إلى أن ننال حقنا غير منقوص ولا مهتضم. ولكن هذا المر المحفوف أو المتوقع يوجب علينا أشياء لا مناص لنا من المحافظة عليها والحرص على أدائها.
فقد كان من سياسة بريطانيا قديما أن تمزق وحدة هذا الشعب وتوقع بين أبنائه العداوة والبغضاء وقد فعلت، فصارت أحزابنا تسيرها شهوات رجال يتطلعون إلي مناصب الحكم كما يتطلع الظمآن إلى الماء أو سراب الماء وكان من سياستها أن تلاين وتساير حتى يصبح السودان شيئا قائما بذاته أو كالقائم بذاته، ففعلت. وكان من سياستها أن تغري شهوات قوم من أهل السودان بالحكم أو بالسلطان، ففعلت، وانقسمت فئة من أبنائه مضللين بوعود كاذبة لن تتحقق، وخرجت عن بقية الشعب مؤزرة بالمال ففجرت ومررت، بريطانيا من ورائهم تنفخ في نيرانهم حتى يأتي اليوم الذي يجعلونهم فيه حربا على بلادهم وهم يظنون إنهم يعملون لخيرها وفلاحها. تم ذلك كله لبريطانيا، ولكننا مع ذلك لا نبالي به قليلا ولا كثيرا، لأننا نعلم أن هذا الشعب المصري السوداني شعب كريم ذكي الفؤاد، تجتمع قلوبه عند المحنة يدا واحدة على عدوة الباغي إليه الغوائل.
بيد إننا الآن في ساعة غير التي كانت بالأمس، فالقضية المصرية السودانية سترفع عن قليل إلى مجلس الأمن، أي مجموعة من الدول لبريطانيا عليها فضل، أو لها عليها تأثير. والزمن الذي ستعرض فيه لن يطول كما كانت تطول سياسة بريطانيا وأذن فقد أصبح واجبنا نحن أن نتآزر ونتداعى ولا ندع هذه الفرصة تقلت منا ونحن عنها غافلون.
ليكن الوفد الذاهب إلى مجلس الأمن وفدا لم تجتمع له الصفات التي تنبغي أن تجتمع لوفد مصر، وليكن رئيس الحكومة الذي سيرأس الوفد رجلا غير الذي كانت ترجوه بعض الأحزاب، وليكن أعضاء الوفد رجالا غير الذين كنا نتوقع أن يكونوا - ليكن كل ذلك، ولكن أليسوا مصريين سودانيين يجاهدون ما استطاعوا في سبيل حق مصر والسودان في الحياة الحرة التي تنبغي أن تكفل لكل حي ولكل أمة؟ أليسوا رجالا منا قد انبروا للمحاماة عنا في مجلس يخشى أن يكون أقرب إلى عداوتنا منه إلى صداقتنا؟ أليس مطلبهم هو مطلب مخالفيهم من سائر الأحزاب فيما يخص مصر والسودان؟ بلى، وما أظن أحدا من مخالفيهم يستطيع أن يقول خلاف هذا أو يدعي نقيضه.
وهذا المجلس الذي هو أقرب إلى العداوة منه إلى الصداقة، لن يفرق بين مصري نختلف عليه أو وصري نتفق عليه. وبريطانيا لن تكون أقل عنفا ولجاجة إذا كان الذي يرتفع بالقضية إلى مجلس الأمن إنسانا اتفق المصريون والسودانيون عليه، لأنها تريد بكل ما تبذله أن تأكل حق هذا الوادي وتحيف على مستقبله، لا تبالي بما يسمى أقلية أو يسمى أكثرية. وإذن فالعقل قاض علينا بأن نلقاها ونلقي مجلس الأمن يدا واحدة وعلى قلب رجل واحد أيا كان هذا الرجل. ونحن نعلم أن هذه دعوة قد كثر الداعون إليها فباءوا بالخيبة مرة بعد مرة، ولكن كان العذر عندئذ قائما، فإن الحكومة لم تكن قد ارتفعت إلى مجلس الأمن بعد، وكان هناك مجال لشهوات الأحزاب أن ينال أحدها فضل التقدم للدفاع عن حقوق مصر السودان أما الآن فقد قضى الأمر، فمصر والسودان تطالب أحزابها بحقها عليها، فإذا أحجم أحدها، أو أحد رجالها، عن الذي تقتضيه عليه حقوق الوطن، فذلك (خائن) خائن بمعنى الصريح التام الشامل الذي تنطوي عليه هذه الكلمة.
وكلمة الخيانة كلمة عظيمة نأنف أن يتصف بمعناها مصري سوداني لأنها تصم صاحبها بأنذل ما يكون في الطبيعة البشر، وهي جريمة لا تغتفر، وجزاؤها جزاء لا يحد. ولا نظن
أحدا أحب أن يعرض نفسه لها راضيا عامدا قط، بل الظن إنه إنما يخطئ وجه الصواب فيقع في أقبح العيب ويخوض في أشنع العار. وقد جاءت الساعة التي توجب على كل مصري سوداني لن يقف ساكنا هادئا مفكرا متورعا خشية أن يقع في هذه الخطيئة أو يلم بهذا الإثم، وأن يحرر نفسه لحظة من شهواتها الجامحة، وينفض عن قلبه غبار أعوام من الأحقاد الحزبية والسخائم الوزارية، ليتطهر لوطنه وبلادة، وليستهدي بهدى الوطن في ساعة المحنة. إنها أعظم خطيئة يفارقها مصري سوداني منذ اليوم، لأنها خذلان لوطنه في ساعة يرى فيها الأعداء يتناهشونه من كل مكان، ويريدونه بالشر من كل ناحية، ويكيدون له أخبث الكيد في كل أرض.
ولن يضير أحد أن يكون له رأي يخالف هؤلاء الرجال الذاهبين إلى مجلس الأمن في شئون لا علاقة لها بمجلس الأمن، فيدع عناد الرأي إلى مناصرة الحق - بل إلى مناصرة وادي النيل في حقه الطبيعي الذي لا يعرف الرجال وأراءهم وسياساتهم، بل يعرف حقه على أبنائه من أي رأي كانوا، وفي أي زمن ولدوا، وعلى أي دين نشأوا. أقول هذا وأنا غير يائس من أن تجتمع كلمة هؤلاء المختلفين إلى هذا الحق البين الذي لا ينازع فيه عاقل.
وأنا أدعو (الكتاب) الذين أنتسب إليهم بهذا القلم، أن يجتمعوا على رأي واحد، ويقومون مرة واحدة لدعوة الشعب إلى الطريق الحق، وأن يبرئوا أقلامهم من الأحقاد الصغيرة التي أنشأتها بينها بريطانيا يوم مزقتنا أحزابا، ليملأوها بالحقد الأعظم على العدو الأعظم الذي لم يدع لنا عرضا إلا هتكه، ولا فضيلة إلا لوثها، ولا كرامة إلا تهجم عليها بالتحقير ولا تشنيع. وإنما أوجه دعوتي إلى الكتاب، لأنهم هم أصحاب الرأي الأول، وهم بناة الأمم، وهم حياة الشعب، وهم القوة التي تؤازر الضعيف حتى يدع الحق لأهله. أن التبعة الملقاة على كواهل الكتاب، فهي أعظم من تبعه الوفد الذاهب إلى مجلس الأمن، لأنه بدونها لا يستطيع أن يواجه هذه الأمم مواجهة الند للند، ومواجهة صاحب الحق لظالمة، ومواجهة المؤمن بقضيته للكافر بهذه القضية. ولو فعل الكتاب ما يوجبه عليهم حق مصر، فلن يستطيع مخالف أيا كان أن يفت في عضد الذاهبين بقضيتنا إلى مجلس الأمن، وليس اليوم لهو ولا لعب ولا شهوات، بل هو يوم الجد والصبر والزهد، وظني بالكتاب إنهم أسرع
الناس إلى معرفة مفصل الصاب في كل أمر، فإن يخطئوا أن يغرفوا ذلك وثرى مصر والسودان يهمس لهم داعيا مؤلبا حافزا على العمل لحرير بلادهم من نير العبودية.
وأنا مؤمن بأننا سننال حقوقنا كلها كاملة، شاء مجلس الأمن أم أبى، وبأننا صائرون إلى ساعة تجتمع فيها القلوب المصرية السودانية على كلمة واحدة، شاء رؤساء أحزابنا أم أبوا، وبأن المستقبل قد بانت لنا معالمه، فإن عميت عنه عيون قد تقادم عليها الزمن فخبا ضوؤها، ففي الوادي عيون ناظرة مبصرة لم تطمس نورها حزازات الماضي ولا شهوات الحكم، وأنهم هم الذين سيحكمون على الرجال حكما لن يرد. إنهم مصر والسودان أيها الساسة، فاحذروا مصر والسودان وأحكامها عليكم، فمن وضعته فهو الموضوع إلى يوم الفصل، ومن رفعته فهو المرفوع إلى آخر الدهر!
محمود محمد شاكر
من أحاديث الإذاعة
بين الزوجين
للأستاذ علي الطنطاوي
يا سادتي ويا سيداتي. قعدت لأكتب هذا الحديث، فما بدأت به حتى هبت العاصفة في بيت الجيران، وعلت الأصوات، وزمجر الرجل وصخب، وولولت المرأة وعيطت، وقام الشيطان يهيج للشر ويضحك، ثم هدأت العاصفة فجأة كما هبت فجأة، وأعقبها سكون ثقيل، سمعت له دويا في أذني شغلني عن الكتابة، فقمت أنظر ماذا جرى. فإذا الزوج قاعد في ركن المنزل ينظر في جريدته عابسا، ولا أظنه يفقه منها حرفا، والمرأة في الركن الأخر تطرز ولا أحسبها تلقي لتطريزها بالا، هو يندب حظه يحسب إنه وحدة الخائب في زواجه، وهي تبكي جدها تحسب أنها وحدها التي فقدت سعادتها ورأيت الولد قد مل هذا السكون. . . فمشى إلى أبيه خائفا يترقب، فقال له:
- بابا. أعطني شوكولاته
- فصرخ به زاجرا: قل لأمك. أتريد أن أخدمكم في السوق وفي البيت، وأن أعمل عمل الرجل والمرأة؟!
فابتعد عنه الولد، ونظر إلى أمه، فصاحت به من غير أن ترفع رأسها عن شغلها:
- ابتعد عني وإلا كسرت رأسك، أنت أصل السبب، يا ضيعت تعبي، أشقى من الصباح إلى المساء فلا أجد من يقول لي: الله يعطيك العافية!
فهم الرجل بالانفجار، ثم تماسك وتجلد، وسكت على غيظ ومضض، ومشى الولد إلى الأريكة فتكوم عليها، ودس وجهه في وسادتها، وراح يبكي بكاء خافتا متصلا موجعا!
وعاد البيت ساكنا كما كان، ومرت دقائق، لمحت فيها على وجه المرأة ظلال نزاع عنيف في نفسها، بين شفقتها على ولدها، وغيظها من زوجها، ثم رأيتها تثب فجأة، فتمضي إلى غرفتها فتنبطح على سريرها وتنشج. . . ويرفع الرجل رأسه، متعجبا منها، ويضيق صبره على هذه المسرحيات (تمثل) في بيته، وهو يريد بيتا فيه الهدوء والمحبة ولا يفهم سر بكائها وهي - عنده - الظالمة، فيمضي إليها بعد تردد، حتى يقوم أمام السرير منتصبا مربد الوجه، كأنه القائد العسكري في جنده، أو النائب العام في مقعده، ويقول لها بصوت
بارد كالثلج متماسك كالجلمد:
- وما آخرة هذه المساخر؟
وكانت تظنه قد جاء يواسيها في كربتها، ويعطف عليها، ويحاول أن يفهم ألمها، ويزيح همها، فلما سمعت ذلك منه، فقدت عقلها، فصاحت:
- مساخر؟ أنتم الرجال ليس عندكم وفاء، ليس لكم قلوب، إنكم. . .
فنسى إنه أمام امرأة، وإنه أمام زوجته، وحسب أن الذي يقول له هذا الكلام قرن له أو خصم، فأجابها جواب الأقران وكلمها كلام الخصوم، ولم يبق بينها وبين الطلاق إلا شعرة واحدة.
فقلت لهما: بس، انتظروا، قولوا ما هي الحكاية؟
فنظرا إلي، وحسباني (وأنا قريبهما) عفريتا قد نبع من الأرض ففزعا منه، ثم اطمأنا لي وعرفاني، وانطلقا يتكلمان بصوت واحد كلاما متواصلا متداخلا، تتلاحق كلماته، كأنه السيل إنهدم فندفع، أو لسان النار غفلت عن فندلع وما فهمت الحكاية حتى كادت نفسي تزهق. . .
و (الحكاية) التي سببت هذه النكبة، وكادت تهد بيت الزوجية، وتطلق الزوجة وتشرد الولد، أنه لما جاء من عمله فوجد الصبي على الباب، والباب مفتوحا، وليس عنده أحد يمنعه أن يمشي فيضل في الحارة، أو تدعسة سيارة، أو تلفحة الشمس، أو يصيبه المرض، وتخيل ألف مصيبة قد حلت بالصبي ونزلت به فاستحال حبه له حنقا على أمه التي أهملته، وتركته على شفا الهلاك، وتدخل مغضبا محنقا، وبدأها بالوم قبل السلام، وكانت قد نظفت الدار وأعدت الطعام، و (لبست. . .) تنتظر وصوله، لتسعد بقربه، وتجد مكافأتها في شكره إياها ومسرتة منها، فلما رأته مخاصما تبدد أملها، وخاب ظنها، وسيطر عليها الغضب، حتى أعماها عن حادثة (الباب المفتوح) والخطر المترقب، فلم ترى فيها إلا حادثة تافهة، لم ينشا عنها شيء ولم يأت منها ضرر.
وبدأ من هنا الخلاف، وتطاير الشرر
يا سادتي ويا سيداتي: هذه صورة ترون كل يوم أمثالها، فاسمحوا لي أن أجعل حديثي هذه العشية تعليقا عليها، وبيانا لها، وليست صورة غريبة عنكم ولا نادرة، بل الغريب النادر أن
تخلو دار منها؛ وأنا قاضي شرعي عملي أن أرى دائما دخائل البيوت، وأن أطلع على أسرار الأسر، فصدقوني إذا قلت لكم، إني لا أعرف زوجين لا يختلفان، ولكن خلاف الأزواج كحريق في كومة من العش ملقاة في رحبة الدار، إذا أطفأته أو تركته ينطفئ همد بعد لحظة، وحمل الريح رماده، فلم يرزأك رزءاً، ولم يعقبك أذى وأن هجته أو دنيت منه ثوبك، أو قربته من بيتك، أحرق الثوب وخرب البيت، ولقد كان بيني وبين زوجتي اليوم خلاف كهذا، فقلت لها:
- تعالىْ أعينيني على كتابة مقالة؟
وكانت هذه المقالات ضرتها، فحسبتني أسخر منها، واندفعت تريد أن (تقول). . . فما زلت بها أكملها بجد، حتى بدا عليها الاهتمام وقالت:
- وكيف أعينك؟
قلت: تقولين لي كيف يختلف الأزواج؟
ومضينا نستعرض حوادث الاختلاف بيننا ونحل أسبابها فانتهينا إلى الضحك منها
يا سادة ويا سيدات: إنه قد يكون بين الزوجين اختلاف مفهوم على مال أو عقار، ولكنه نادرا وأكثر الخلاف تافه مضحك، ليس له عندهما قيمه أو خطر، وأنا أفهم أن تهتم المرأة بهذا، ما دامت تريد أن تشغل عقلها كما تشغل يدها، وما دامت لا تجد مشكلة علمية أو أدبية تبحث فيها وليس لها إلا مشاكل البيت - ولكن ما بال الرجل يهتم بها ويبالغ في تقديرها؟
تقولون: كيف نصنع ليسود البيت السلام ويشمله الهدوء؟
أنا أقول لكم؛ مقالة مجرب حكيم، فاستفيدوا إن شئتم من حكمتي وتجربتي
هذه (أقراص) سهلة البلع، عظيمة النفع، فيها شفاؤكم من هذا الداء:
أولها: إن الزوج يبدأ بالحب والعاطفة، والحب أوله حلاوة وآخره مرارة، فهو يعمي البصر، ويصم الأذن، ويغطي العيوب، فإذا زال الغطاء، ولا بد يوما أن يزول الغطاء، وبدا المحجوب من العيوب، وظهر المستور من الأمور، وافتقد الزوجان لذة الحب فلم يجداها، انتهى شهر العسل، وبدأت سنوات العلقم، فتجرعا العمر كله مرها، وقاسيا ضرها. والدواء ألا يرقب الزوجان المحبة والعشق، فالحب عمره معمر الورد، لا يعيش إلا أمدا
قصيرا، ومن طلبة بعد عشر سنين من الزواج كان كمن يطلب من وسط القبر من العظام والرمم الغادة الحسناء والفاتنة الهيفاء. لا، ولكن مودة وإخلاص وحب كحب الأصدقاء والإخوان.
وثانيها: إن الرجل يغتفر لصديقة ما لا يغتفره لزوجته، ويحمل منه ما لا يحمل منها، ويتسامح معه فيما لا يتسامح فيه معها، وما ذلك إلا لأنه يصدق هذه الخرافة التي تقول إن الرجل والمرأة كليهما مخلوق واحد، فهو يريد منها أن تفكر برأسه، وهي تريد منه أن يحس بقلبها، مع إن الناس كخطوط مستطيلة وفيها اعوجاج يسير، فإذا كانت متباعدة بدت للعين متوازية متوافقة، تضيع من البعد هذه الفوارق الصغيرة بينها، فإذا تدانت وتقاربت، بانت الفجوات، فأنت تصحب الصديق عشرين سنة، فلا ترى بينك وبينه اختلافا، ثم ترافقه أسبوعا في سفرة، تنام معه وتأكل معه وتشرب فترى في هذا الأسبوع ما لم تراه في السنين العشرين، فتشنؤه وتبغضه وقد كنت تحبه وتؤثره.
والله لم يخلق اثنين بطباع واحدة، لا الصديقين ولا الزوجين، فليكن الزوجان متباعدين قليلا، حتى لا يظهر الاختلاف بينهما، وليكن بينهما شئ من الكلفة والرسميات. . . كما يكون في عهدة الخطبة وأوائل الزواج، ولتكتم عنه بعض ما في نفسها، وليكتم عنها بعض ما في نفسه، فإنه ما تكاشف اثنان إلا اختلفا. وما زالت الكلفة إلا زالت معها الألفة، لأن المرء يتظرف ليظرف، ويتلطف ليلطف، ويساير الناس ليحبه الناس، فإن لم يفعل ثقل عليهم، وأنا أعرف رجالا من أهل النكته والظرف، يحرص الناس عليهم في مجالسهم لخفة أرواحهم، وحلاوة أحاديثهم، إذا دخلوا بيوتهم كانوا أجهم الناس وجها، وأيبسهم لسنا، وأثقلهم نفسا، وما ذاك إلا لإسقاط الكلفة، وإذهاب المجاملة.
وثالثها: إن الرجل يمشي في الطريق فلا يرى إلا نساءً في أحسن حالاتهن، قد طلين وجوههن، وجملن ثيابهن، ثم يدخل داره، فيرى زوجته على شر هيئة، وأقبح صورة: مصفرة الوجه، قذرة الثوب منغمسة في أوضار المطبخ، أو غارقة في غبار الكنس، فيظن أن نساء الطريق من طينه غير طينتها، وأن عندهن ما ليس عندها، فيميل إليهن وينصرف عنها، والدواء أن تكون المرأة عاقلة، فلا تجعله يراها إلا في الهيئة التي تخرج فيها من بيتها، وتستقبل عليها ضيفها، ولا تدعه يبصرها نائمة ولا يراها بغير زينة، ولا يطلع
عليها في مباذلها وأعمالها.
ورابعها: إنه لا بد لكل شركة أو جماعة من رئيس، فإن كان في المركب رئيسان غرق المركب، ولو كان في السماء والأرض، فلا بد من ترئيس أحد الزوجين والرجوع عند الاختلاف إلى رأيه، واعتراف الثاني برياسته، وعلى الرئيس بعد أن يكون حاكما بعدل ورفقن وعلى المرؤوس أن يكون طيعا بفهم واحترام.
وخامسها: لابد لدوام المودة من اغتنام الفرصة لإظهار العاطفة المكنونة بحديث حلو، أو مفاجأة منه: هديه ولو صغرت، وطرفة ولو قلت، واهتمام منها بصحته وراحة نفسه ومطعمه وملبس وكتبه، وأن يصبر كل منهما على غضب الآخر وتعبه يا سادة: إن مشاكل البيت هينة سخيفة، ولكنها إن استفحلت نغصت العيش وسودت وجه الدنيا، ولم ينفع معها ملك ولا مال، فلقد كان الإمبراطور نابليون الثالث يجد من مكارهها ما لم ينجه منه ملكه. وكان الرئيس لنكولن يلقي من متاعبها ما لم يخلصه منه سلطانه، وإني لأستأذن السيدات المستمعات بأن أختم هذا الحديث بكلمة لأمراه مثلهن هي (آن شرر). قالت:
(إن بين كل عشر نساء تسعا يحرصن على مضايقة الرجل، وتنكيد عيشه، ولهن إلى ذلك وسائل لا تحصى، وهن يعتقدن إنه لا عمل للرجل إلا الثناء على جمالهن يومه كله، وامتثال أوامرهن، وإجابة رغباتهن، وإذا رأينه مقبلا على قراءة أو كتاب أو عمل له، اقتحمن عليه مكتبه، ونفضن في وجهه من المنغصات ما يحيل عزلته سجناً، وحياته جحيما)
فيا سيداتي المستمعات: أرجو أن لا تكون فيكم واحدة من هؤلاء
(القاهرة)
علي الطنطاوي
القسم الثاني
فرنسا ومستعمراتها
بقلم أحمد رمزي
فرنسا والحرب العالمية الثانية: بين الديمقراطية والفاشية
كانت فرنسا في وسط برامجها لتنفيذ هذه الطفرة الصناعية لكي تعوض ما فات منها حينما قامت الحرب العالمية الثانية، جاءت هذه الحرب وهي منقسمة في الداخل، فالروح الرجعية التي تفشت في عدة بلاد بأوروبا وأفريقيا وآسيا وأخذت في فرنسا مظهر العنف في مظاهرات الكونكورد سنة 1933، وهذه الروح لم تكن ماتت في سنة 1939 بل كانت تمثل مصالح وأغراض تلك الفئة التي أشرنا إليها من أساطين الصناعة الذين أخذوا على عاتقهم تنفيذ هذه البرامج. وكانت هذه الفئة تؤمن بضرورة مسالمة برلين وروما، لا حبا فيهما أو رضوخا لأرادتهما بل لأن الوطنية تملي بأنه يجب تحمل كل شئ في سبيل السلم حتى تستكمل فرنسا بناءها الصناعي ولو كان في ذلك الخروج من ميثاق عصبة الأمم أو إهمال المحالفات والضمانات القائمة.
صداقة بريطانيا:
يقابل هذه الروح تيار الديموقراطية ممثلا في روح الجماعات والأحزاب السياسية والبرلمان، وكانت جميعا لا ترغب في الاندفاع على طريق غير مأمون العاقبة: يفقد فرنسا مركزها الأدبي كدولة عظمى إذا حنثت بالمواثيق والضمانات المأخوذة أو ضربت بالمخالفات والمعاهدات عرض الحائط ويفقدها صداقة حليفتها بريطانيا، تلك الصداقة التي بنيت عليها سياسة فرنسا منذ الاتفاق الودي عام 1904 واكتسابها المواقف الاستعمارية في مؤتمر الجزيرة 1907 وأيام حادث الغدير في مراكش سنة 1911، وكانت العامل الأساسي لكسب حرب 1914 - 1918.
أثر بريطانيا في سياسة فرنسا:
وكانت هناك دواع تملي باستبقاء تلك الصداقة من الجانب البريطاني نفسه، فقد ظهر جلياً بعد تقدم الطيران وموقف إيطاليا المعادي إن أراضي الإمبراطورية الفرنسية ستكون في
السلم والحرب الممر الطبيعي للطائرات البريطانية إذا تحاشت البحر الأبيض المتوسط: لم يكن من السهل إهمال علاقات هذا الجوار وما تمليه عليه المصالح المشتركة للبلدين وما يفرضه تعاشق حقوق الاتفاق بين الإمبراطوريتين، ولهذا لم تترك السياسة البريطانية هذه الناحية تسير طبقا للأقدار بل مالت بقواتها وعبأت أساليبها المختلفة وعضدت الاتجاه المضاد للحركة الأولى، وكان إن حكمت فرنسا حكومات بقيت حريصة على محالفة بريطانيا، وترتب على هذا أن دخلت فرنسا الحرب العالمية الثانية بجانب الإمبراطورية البريطانية.
ومن هنا نفهم حقيقة العرض الذي تقدم به تشرشل قبل تسليم يونيه 1940 وأقترح فيه إدماج الإمبراطوريتين في اتحاد واحد وهو العرض الذي توهم فبه الكثيرون بأنه كان عرضا خياليا لا يسند إلى أساس.
الحرب العالمية الثانية 39 - 1945 والمستعمرات الفرنسية:
جاءت الحرب فمرت شهورها الأولى وتحملها الناس، ثم اشتدت وطأتها على فرنسا وظهرت عيوب الأنظمة الفرنسية وتفكك الأحزاب الحاكمة وخيانة رجال الصناعة وقوات الجيش، وتوالت الهزائم واضطرت فرنسا للتسليم عقب قتال لم يدم طويلا، وكان أن طرأ حادث غريب في التاريخ العالم جاء نتيجة لإبرام عقد الهدنة بين فرنسا وألمانيا عام 1940، وهو أن يحتل العدو بلد أوروبيا أو جزءاً منه بجيوشه وتبقى أراضى المستعمرات من غير احتلال، وليس في ذلك من عجب إذا كانت الهدنة لوقف القتال ثم تعقبها مفاوضات الصلح وينتهي الأمر بإبرامه عقب فترة قصيرة من الزمن كما حدث سنة 1870. أما أن تعقد الهدنة ويتضح من شروطها استثناء الإمبراطورية الفرنسية وبقاء جيوش الجمهورية معبأة للدفاع عنها ويستمر ذلك شهورا ثم سنوات ما دامت الحرب قائمة، فأمر جديد أثار الكثير من المشاكل كلما بعدت نهاية الحرب.
فهناك فريقان يتحاربان حربا مميتة، وهناك إمبراطورية لدولة قبلت التسليم، فما هو حكم الأراضي التي سلمت أهي دار حرب وقتال أم هي على الحياد؟ لاشك في أن القسم الفرنسي الذي يشغله العدو بجيوشه هو دار حرب.
فما هو موقف القسم غير المحتل وأهم جزء فيه تلك الإمبراطورية بأقاليمها المتسعة؟
هدنة سنة 1940 ومستعمرات فرنسا:
كنت في بيروت في بداية الحرب وبعد عقد الهدنة، ولقد شعرنا وشعر الناس جميعا إن الحياد الذي أرادت فرنسا أن تظهر به غير موجود ولا يمكن التمسك به نظريا أو عمليا فقد كانت الطائرات الإيطالية والألمانية تضرب فلسطين وكان بعضها يصاب بنيران المدفعية فيضطر للهبوط في أراضى سوريا ولبنان فاتخذت السلطات الفرنسية معها في الحوادث الأولى الإجراءات التي ينص عليها باب الحياد في القانون الدولي، وكان الألمان لجنة عليا في فيسبادن تشرف على أمور الهدنة مع ألمانيا لا تجعل من فرنسا ومستعمراتها بلدا محايد، وما يسري على المستعمرات يسري على الأراضي المشمولة بالانتداب: وبناء على ذلك أفرجت السلطات العسكرية الفرنسية عن الطائرات والطيارين وسمحت بالمرور والنزول في المطارات، فكان من بريطانيا إن قذفتها بالقنابل ووجهت حملتها لاحتلال أراضي سوريا ولبنان.
حالة شاذة:
هذه الحالة الشاذة لأوضاع الإمبراطورية الفرنسية طول مدة الحرب أوجدت في أراضيها نوعا من الحكم استفاد منه الفرنسيون للوقوف بين الفريقين المتحاربين، ولو إنه أدى في النهاية إلى خسارة أسطولهم واحتلال الألمان والطليان لتونس إلا إن هذه الحالة لفتت أنظار الفرنسيين جميعاً للإمبراطورية وإثرها وأهميتها وما ينتظر منها وإنها قوة المستقبل ودرع الشعب الفرنسي وغير ذلك مما كانت تردده الصحف وتذيعه الأنباء المختلفة من محطات اللاسلكي.
انقسمت فرنسا إلى فريقين: حكومة فيشي وحركة الجنرال ديجول، واتفق كلاهما على أمر واحد هو الاحتفاظ بوحدة الإمبراطورية وعدم التفريط في أي جزء منها، وترجع الأخطاء وأعمال العنف التي ارتكبها ممثلو فرنسا في القطرين الشقيقين سوريا ولبنان إلى تمكن هذه الفكرة منهم تمكنا فأعماهم عن تلمس الحقائق ومواجهة تطور العالم الجديد.
وأغرب من ذلك إن الحلفاء حينما وجهوا حملتهم إلى شمال أفريقيا قام الكتاب الفرنسيون بحملة قلميه في أنحاء العالم تقول: إن الإمبراطورية وشعوبها قد قامت بأسرها لشد أزر
الجنرال ديجول، وإنها سارت تحت لوائه لإنقاذ أراضي الوطن المحتلة؛ واتخذوا هذه الدعاية دليلا على نفوذ فرنسا وقدرتها الاستعمارية، بل من هنا أخذوا ينادون بما صمموا علية من إدخال سياسة الاتحاد الفرنسي وفرضها بقولهم إن المستعمرات قد حملت عبء القتال عن الوطن الأوربي المحتل فهي إذن ساهمت في تحريره ومن حقها أن تندمج فيه وتكون وحدة معه وننقل هنا ما كتبة بول أميل فيار، لأن مارة سلم الوطن الأم وبقيت فرنسا تحارب في مستعمراتها:
لماذا لم تحتل ألمانيا الإمبراطورية الفرنسية:
إن السياسة التي أملت على ألمانيا ترك الإمبراطورية الفرنسية تحت إشراف فرنسا بعد تسليمها لا تزال غامضة بل هي إحدى المعميات التي سيتساءل عنها مؤرخو الحرب طويلا. فقد تكون هناك عوامل عسكرية أو سياسية فرضت هذه السياسة، ومن المحقق أن هناك مفاوضات وأشياء لا يزال العالم يجهلها تماما.
فمن قائل إن التسليم قد تم على يد رجال يؤمنون بعظمة فرنسا إذا تخلصت من أنظمتها الدستورية واتجهت اتجاها فاشيا، فمن الطبيعي تشجيع هذه الحركة وإعطاء هؤلاء الناس بعض التساهل بترك المستعمرات لهم، ومن قائل إن الغرض الأساسي الذي رمى إليه هتلر هو أن يجعل الإمبراطورية الفرنسية يوما ما في صفه أمام الإمبراطورية البريطانية في أفريقية. وذلك لأن:
لفرنسا سياسة أوروبية وللمستعمرات سياسة إمبراطورية:
يقول أصحاب هذا الرأي إنه إذا كان لفرنسا سياسة في القارة الأوربية تعتمد على الأمن والضمان وهي تحتم التحالف مع بريطانيا وغيرها، فإن للإمبراطورية بحكم موقعها الجغرافي ونفوذها وحاجاتها الاقتصادية سياستها الخاصة بها.
ويظهر ذلك جليا في أن الفرنسي في القارة الأوربية يعالج المشاكل بروح تختلف عن روح الفرنسي المقيم بالمستعمرات الذي يفكر بالأسلوب الأفريقي الاستعماري وينظر إلى عظمة فرنسا في إمبراطوريتها نظرة بعيدة عن تطور السياسة الأوربية وما تفرضه من مخالفات
وصداقات.
فإذا تركنا جانبا المستعمرات البعيدة مثل مدغشقر والهند الصينية، تبدو الإمبراطورية الفرنسية لعقول هؤلاء كوحدة جغرافية لها أهمية كبرى وهي في نظرهم كائن حي له ما لفرنسا من مشاكل متعلقة بالأمن والحماية والجيش والبحرية.
وقد تتفق السياستان وقد تختلفان في الشئون الداخلية فقد ظهر أثر الرجال الفرنسيين المقيمين بالمستعمرات في محاربة كل إصلاح يرمي إلى إشراك الوطنيين في الحكم، بل فرضوا أرادتهم وأجبروا الحكومة المركزية على تغيير سياستها مرارا وذلك توهم المختصون بشؤون الاستعمار إلا مخرج لهم من هذا التعارض سوى سياسة الاتحاد التي تجعل من فرنسا والإمبراطورية كتلة واحدة في الخارج والداخل.
وكان من رأى الذين لمسوا هذا النزاع القائم أن المشاكل الإقليمية والحربية في سيرها وتطورها تواجه في النهاية مصالح الإمبراطورية البريطانية في أفريقيا وأكبر ضربة لهدم التحالف الفرنسي البريطاني تأتي من تشجيع فرنسا للأخذ بسياسة إمبراطوريتها في الأمور الخارجية وبنوا نظريتهم على:
المتناقضات القائمة بين إمبراطوريتين عالميتين:
فقالوا إن سياسة الوفاق والصداقة سهلة وتبدو ضرورية في أوروبا ولكنها صعبة وغير محتملة في أفريقية وإذا سار التحالف بانسجام هنا فإنه لا يسير أشواطا بعيدة في أفريقيا من غير أن تبرز المناقضات: وهي الأمور التي تتطور إلى مشاكل أو أزمات فيستعصي حلها لأن مرادها أما إلى السياسات العليا أو إلى القواعد الثابتة الملازمة لطبائع الأشياء: وعلى هذا الضوء تبدو حوادث سوريا ولبنان سنة 1943، ومشاكل بريطانيا في طرابلس الغرب وبرقة، في الوقت الحاضر وتعذر إيجاد حل لها.
أمل ألمانيا في استغلال التنافس بين الدولتين:
كان الألمان على إلمام تام بالحالة النفسية والعسكرية في الجيش الفرنسي وبما يمكن أن تؤديه الفرق المكونة من الجنود الأفريقية، وهم على علم بطاقة هذه الشعوب ومقدار صلاحيتها للحروب الحديثة، ولكنهم ابقوا مع ذلك على وحدة الإمبراطورية الفرنسية
وتركوها بيد الفرنسيين لأنهم توهموا أن التنافس بين البريطانيين والفرنسيين قد ينقلب إلى عداء، وقد مرت حوادث كانت نتيجتها التصادم والقتال ولكن الإمبراطورية الفرنسية لم تتحرك بل إن القتال الذي نشب في سوريا ولبنان انحصر هناك.
أما من الناحية الفرنسية فقد تمكن الأمل من القواد والساسة لدرجة إنهم توهموا بأن لديهم القوة الكافية للدفاع عن الإمبراطورية إذا هوجمت وحشدوا وحداتهم البحرية في شمال أفريقيا أملا في الخروج إلى السلم بالسيادة على البحر وحدود المستعمرات كما كانت قبل الحرب: بل كانوا يجاهدون بأنه إذا لزم الأمر أن يقبلوا التضحية من الأراضي الأوربية إذا ضمنوا المحافظة على وحدة أملاكهم الأفريقية التي هي المدى الحيوي التاريخي للشعب الفرنسي.
ومن الغريب إن هذا الأمل الألماني وهذا المنطق الفرنسي ترك شمال أفريقيا في حالة سهلت للحلفاء احتلالها واتخاذها بمرافئها لجمع قواتهم التي زحفت إلى قلب أوروبا، فكان إن ساهمت الإمبراطورية الفرنسية في تحرير أوروبا بل في تحرير العالم ولكن كقبعة متسعة من الأرض استعملت كمسرح للحوادث والمعارك ليس إلا. . .
الحلفاء يسيطرون على أملاك فرنسا ثم يعيدونها إليها:
تمزق السور الفولاذي لأول مرة عند دخول الحلفاء وقواتهم أراضى شمال أفريقيا، فرأى أهل مراكش وتونس والجزائر جنودا من عناصر أخرى غير فرنسية، ولابد نهم لمسوا وعاينوا أشياء جديدة، ولكن البلاد التي خضعت لسنوات عديدة لأعمال العنف والتشريد كانت تتمخض بانبعاث جديد ووثبة شاملة، ولم تكن حملة الحلفاء لهذه الأرض بأساطين العالم وكانت مقر مؤتمرات: وعرف الناس جميعا أن أراضى تونس والجزائر ومراكش كانت وديعة في يد الحلفاء وقد أعيدت لفرنسا بعد أن تعهد رجالها لرزوفلت أن تسير هذه البقاع في ركب الحضارة نحو الحرية وتقرير المصير كغيرها من بقاع الدنيا التي يسكنها الإنسان لا الحيوان.
أعود إلى الوراء؟ أم عصر جديد؟ هذه كلمة الأستاذ إسماعيل مظهر حينما عرض إلى مشروع الاتحاد الفرنسي ونحن نتفق معه في صيحته ونقول:
إن الخطر الذي يبدو لنا هو أن توفق فرنسا في إقناع العالم إن الاتحاد الفرنسي هو مشروع
إنساني يدعو إلى رفع مستوى شعوب الإمبراطورية، ويعد تنفيذه تحقيقا لما وعدوا به روزفلت في اجتماع الدار البيضاء، أو مرحلة في طريق الرقي الاجتماعي.
ولكن فكرة الاتحاد قديمة وسنعرض لها في الجزء الأخير من هذا البحث ونبرهن إنها أخطر بكثير مما نتصور، وإنها أخطر طعنة يوجهها الاستعمار الأوربي في أفريقيا موطن الشعوب المظلومة
أحمد رمزي
من وراء المنظار
مذياع. . .!
سوف لا تضحك يا قارئي من هذا الذي أكتب، بل إنك ستتحمس مع القوم انقلبوا جميعا على الرغم مما كانوا فيه من ألم وعذاب وضعف من أكبر المتحمسين. وحسبك أن تعلم بادئ الأمر أني أنا الذي طالما تفكهت بكل من يتحمس وضحكت ملء نفسي قد بت في الحماسة أشد الناس أجمعين!
هذا شاب يضطجع على سرير، بيده مجلة ينظر فيها وقد لمح منظاري على غلافها بعض الصور المغرقة في المجون والفتنة، وبجانبه مذياع لا يبتعد عن إذنه إلا بقدر ما بين عينيه والمجلة، والمذياع يرسل صوته كما لو كان في مقهى من أشد المقاهي جلبة وصخبا، وصاحبنا يقرأ ويسمع ويمتع بالجمال العاري ناظريها حرمه الله منهما ولا حرمه من ظرفه وأناقته وحسن ذوقه - كما يمتع بالموسيقى واللحن الصاخب أذنيه.
ولعلك تقول وماذا في ذلك من غرابة؟ وماذا فيه من بواعث التحمس حتى تستعدي عليه القراء على هذا النحو؟ ألا فاعلم رعاك الله ورقاك السوء وجنبك وإيانا مواطن التحمس إن هذا الشاب الظريف كان يضطجع على سريرة في أحد المستشفيات، أي والله في مستشفى يحيط به في الحجرات المجاورة مرضى منهم من يتلوى على سريرة من فرط ما به، ومنهم من يطلب غفوة تنقذه من عذابه، ومنهم من اشتد به الصداع حتى أذهله عما بقى من صوابه، ومنهم من يتراءى له شبح الموت في كل شئ، ومنهم من يطلب الهدوء حتى ليتضجر من وقع أقدام ممرضته أو من مجرد فتحها باب غرفته وإنها لتنتقل كما ينتقل الخيال في الحلم!
والمذياع يجلجل صوته بكل ما هب وما دب، وقد أحضره هذا المريض الظريف، شفاه الله، من بيته، وكانت حجرته لسوء حظ هؤلاء المساكين من حوله في مفرق الطرق من ممرات المستشفى، وكان بابها مفتوحاً إلى آخر ما ينفتح، كما كان صوت مذياعه بالغا في الارتفاع آخر ما يمكن أن يرتفع.
وضج المرضى أو ضج من يستطيع منهم أن يحتج، أما الذين برحت بهم الأوصاب فكانوا يتململون من هذا الطرب المفاجئ الذي نزل بهم فإذا هو يضاف إلى ما يلاقون من ألوان
العذاب!
وغمرت أيديهم الأجراس، وهي من نوع عالي الصوت، فأضيف نغماتها إلي نغمات المذياع، واختلط بهذا كله استنكار الزائرين واستغاثة بعض من استطاعوا المشي من المرضى، فهذا يصفق بيديه، وذاك يتسخط وبتكره ويستعيذ بالله، وذلك ينادي المسؤولين؛ وتألفت من أولئك جميعا ضجة لن يكون فيما يصور الخيال أشد منها نكرا ولا أبغض نشوزا.
كل ذلك وصاحبنا لا يكترث لشيء، كأنه وحدة في البحر أو في الصحراء. وطرقت الباب أستأذن عليه، ودخلت الحجرة فنظر إلي مستفهما بهزات من رأسه المضطجع على الوسادة، فوقع في نفسي إنه ثقيل السمع فهو لذلك يعلي صوت المذياع، ودنوت منه ورفعت بالكلام صوتي فحبس صوت المذياع واستمع إلي، فرجوت منه وأنا أدعو له بالشفاء أن يغض من صوت مذياعه رحمة بالمرضى وبخاصة مريض كنت أعوده وقد اشتد به الألم ولا يفصل بينه وبينه إلا جدار الحجرة الرقيق.
ونظر إلي مستنكرا - كما فهمت - تطفلي وتهجمي على حجرته واعتدائي على حريته، ولم يرد علي أن أدار مفتاح مذياعه فأعاده أشد مما كان إن كان فيه فضل لزيادة!
ونظر في صحيفته كأن لم يكن أمامه أحد! وللقارئ أن يتخيل نفسه في موضعي، ثم لينظر مبلغ ما في نفسه من تحمس حتى لمجرد هذا الخيال! لقد فكرت أن أنتزع المذياع من مكانه فالقي به في الحديقة، ولو إني فعلت ذلك ما فتأ ما كان في نفسي من غضب. على إن مدير المستشفى قد جاء بعد ساعة فأمر بانتزاع هذا المذياع وحرم دخوله إلى حيث كان. . . وكفى الله المؤمنين القتال. . . نحن لعمرك ولعمري أيها القارئ قوم كثيرو العيوب الاجتماعية، ولتتحمس ما شئت إن أنكرت مني هذا القول، وأكثر هذه العيوب ذيوعا وأرذلها فيما أرى وقعا عدم الاهتمام بالغير، مادمنا قد أرضينا أنفسنا، وما يظن أن في الأمم منهم مثلنا في عدم الاهتمام بالمحيط الاجتماعي، وقلما نعنى بما تقتضي به اللياقة. أقول هذا وليغضب القارئ العزيز ما شاء له غضبه، فأنا متحمس كما ذكرت على غير عادتي، وإن كنت ضناً بصحتي أدعو الله مخلصا ألا يريني بعد اليوم ما يعود بي إلى مثل هذه الحماسة!
الخفيف
حقوق المرأة
للأستاذ علي عبد الله
يخيل إلي إن الذين يطالبون بحقوق المرأة. . . ويريدون لها أن تشترك في السياسة، وتعطي صوتها في الانتخابات النيابية، إنما يتآمرون عليها ويعملون على تضييع حقوقها، وإفسادها بإخراجها عن طبيعتها ووظيفتها التي خلقت لها
لأن الله خلق المرأة لتكون أنثى، وجعل وظيفة الأنوثة من أهم وظائف الحياة، وأتاح للمرأة أن تبدع فيها وتنتج ما شاء لها الإبداع والإنتاج؛ وهيأ لها كل فرصة للبلوغ بهذه الأنوثة إلى قمة المجد والعظمة
ولذا كان كل تصرف أو عمل يراد به إبعاد المرأة عن عملها، وإخراجها عن دائرة اختصاصها، وإشراكها مع الرجل فيما هو من عمل الرجولة محاولة طائشة ليست من مصلحة المرأة في شئ
إنهم يطلبون مساومة المرأة بالرجل!! فإذا فرضنا أن هذه المساواة قد تمت؛ بل لنفرض أن المرأة قد أصبحت رجلا بالفعل!! فهل تكون أسعد حظا وأكبر شأنا أو أعظم منزلة مما هي الآن؟
ما ظن ذلك أبدا، وما زالت المرأة في نظري تعتز بجمال الأنوثة، وتباهي بالطرف الكحيل، والخد الأسيل، والخصر النحيل، ولو إنك شبهت امرأة برجل مرة واحدة لاعتبرت ذلك إهانة لها وتجريحاً لجمالها!!
ولعل الذين يطالبون بمساواة النساء بالرجل لا يدرون إن من الخير للمرأة أن تبقى كما هي وألا تؤدي من الأعمال إلا ما يتفق مع رقة الأنوثة وسحر النساء، وإنها في أنوثتها افضل ألف مرة مما لو كانت قربيه من الرجولة
ولاشك إن طلب النساء المساواة بالرجال كطلب الرجال المساواة بالنساء، فإذا أمكن أن يستقيم هذا المنطق مع منهاج الحياة الاجتماعية أمكن للمطالبين بحقوق المرأة أن يحققوا مطالبهم!!
إنني أعتقد إن المرأة ليست في حاجة إلى شئ من الحقوق حتى تطالب به! فهي فيما أرى متمتعة بكافة الحقوق التي منحتها إياها الطبيعة والشريعة، وهي مساوية لحقوق الرجل تماما، وكل ما في الأمر إن هذه الحقوق تختلف باختلاف الجنسين، وقد فرض الله لكل منهما ما يتفق مع فطرته وقدرته وخلقته، وبذلك يمكن النظر إلى ما للرجل وما للمرأة عن طريق المساواة وتوحيد الأعمال، لأن هذا يفسد نظام المجتمع ويضع الأمر في يد غير أهله، وقد يسر الله كل جنس لما خلق له
وبشيء من الموازنة بين ما قررته الشريعة للنساء وللرجال نجد المرأة في الكفة الراجحة، ونرى أنها حين تطلب المساواة بالرجل تنزل عن شئ كثير من امتيازاتها
هذا عقد الزواج الذي يجمع بين المرأة والرجل، يلتزم فيه الرجل بالمهر والنفقة بجميع أنواعها: نفقه المسكن والغداء والكساء وما يتبعها من ملحقات، وهو مع ذلك كله لا يعطي الرجل أكثر من حق الاستمتاع بالمرأة استمتاعا عاطفيا بحتا مجردا عن الماديات والخدمة والتسخير
وقد حددت الشريعة هذا المعنى بنص الآبه الكريمة (ومن آياته أن خلقَ لكم من أنفسكم أزواجاً لِتسكنوا إليها، وجعل بينكم مودة ورحمة إنَّ في ذلك لآيات لقوم يتفكرون)
وإذاً فالعلاقة بين الزوجين يجب أن تقوم على أساس سكون النفس وارتياحها واطمئنانها ورضاها، ولن يأتي هذا السكون إلا بتجاوب الشعور، وتبادل العاطفة وتقارب الثقافة وتكافؤ التربية. وأضافت الشريعة إلى هذا كله وجوب توفر المودة والرحمة، وكلها صفات عاطفية مجردة عن المنفعة والانتفاع، وهذا نوع عجيب من السمو رفع المرأة إلى أرقى المراتب ووضع العلاقة الزوجية في أسمى الدرجات
لقد كانت المرأة في الجاهلية تباع وتشترى، وتكره على الزواج والبغاء، وتورث ولا ترث، وتمنع من التصرف في مالها، وكان قدماء الرومان يشكون في إنها إنسانة ويعتقدون إنها حيوان نجس لم يخلق إلا للخدمة، وكان بعضهم يغالي في اتقاء شرها ويرى تكميم فمها لمنعها عن الكلام كالكلب العقور أو الجمل العضوض!! وأغرب من هذا كان يباح للوالد ذبح ابنته أو دفنها في التراب وهي على قيد الحياة دون أن يؤخذ بجزاء أو قصاص (وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم
هنا نقص ص 619
الجهاد الوطني في مراكش
للأستاذ عبد الكريم غلاب
في جمع ضم نخبة ممتازة من أصحاب الدولة والمعالي من مصريين وشرقيين وعرب تحدث متحدث عن مراكش وما تلاقيه في سبيل الحصول على استقلالها، فرد عليه أحد أصحاب المعالي قائلا: إننا لا نسمع إلا قليلا عن الحركة الوطنية في مراكش، ولذلك لا نستطيع أن نقوم نحوها بشيء جدي. ذلك حديث صاحب المعالي ولست أدرى أأنكر عليه حديثه أم أسرد عليه بعض الحقائق التي تبرهن له على إن مراكش جاهدت في سبيل استقلالها جهاد المستميت، وضحت في سبيل قوميتها تضحية لا أحسب أن أمة شرقية ضحت أكبر منها.
والحقيقة إن مراكش وقعت تحت الحماية الفرنسية، ويكفي أن أقول (الحماية الفرنسية (ليدرك إخواننا العرب في الشرق ما تعانيه هذه الأمة من بطش وجور واضطهاد، وليدركوا أيضاً - إن كانوا قد سمعوا أو رأوا ما وقع في سوريا ولبنان طوال الربع قرن - ما يتجرعه المراكشيون في سبيل كيانه الوطني؛ مع ما يوجد هناك من فارق جوهري بين الحالة في الشرق والحالة في مراكش. وهذا الفارق وأن مراكش وقعت في الركن الغربي في شمال أفريقيا، وبذلك أصبح في إمكان الفرنسيين إن يقفلوا الأبواب في وجهها، ويكتموا أنفاسها حتى لا يسمع صوتها أحد في الشرق أو الغرب. وقد تم لها ذلك. فما إن تتحرك البلاد حتى تقفل جميع الحدود، وتمنع إدارة البرق من أن ترسل أي رسالة إلى الخارج وبذلك يتم للفرنسيين أن ينفردوا بمراكش فيقضوا على حركتها بالحديد والنار - ويخمدوا أنفاسها إلى حين، وبذلك لا يدري أحد ماذا جرى في مراكش.
الست ترى معي إن صاحب المعالي معذور في قوله إن حركة مراكش لا يسمع لها صوت؟ وسنحاول في هذا الحديث أن نلخص جهاد المراكشيين في سبيل استقلالهم وحريتهم.
يبدأ تاريخ الجهاد الوطني منذ فكر الأجانب في احتلال مراكش، وقد فطن لذلك المراكشيون فكانت ثورة المولى عبد الحفيظ وتوليته العرش سنة 1907 قائمين على أساس أبعدا خطر
الأجانب عن البلاد والقيام بالإصلاحات الداخلية التي يتطلبها العهد الجديد كما ورد في الوثيقة التي بويع على أساسها. وقد قام المراكشيون في ذلك العهد ضد المولى عبد العزيز وعملوا على خلعه لأن النفوذ الأجنبي بدأ يتسرب إلى البلاد في عهده. ولما أخفق المولى عبد الحفيظ في إبعاد الفرنسيين عن البلاد وإخراجهم من مدينتي (وجره) و (الدار البيضاء) وأكره على إمضاء معاهدة الحماية سنة 1912، قامت ثورة في مراكش كلها وخاصة في العاصمة (فاس) التي حدثت فيها مصادمات عنيفة بين الشعب المراكشي والجيش الفرنسي. وهذه المصادمات - وإن انتهت بالإخفاق - ترغم الفرنسيين على الجلاء عن العاصمة، لولا الإمدادات القوية التي تلقاها المرشال (ليوطى) قائد الحملة الفرنسية. والمؤرخون الفرنسيون تحدثوا عن هذا العهد يقدرون هذه الحوادث التي يسمونها (أيام فاس السوداء).
ولئن استلم المراكشيون في المدن الكبرى لأنهم غلبوا على أمرهم تحت مدافع الفرنسيين وبنادقهم. فقد استمرت الحرب في القبائل الجبلية وخاصة في الجنوب. استمرت حرب العصابات بين الفرنسيين والمراكشيين اثنتين وعشرين سنة فلم تستلم حاميات الجنوب إلا في سنة 1934.
وفي هذه الفقرة قام الأمير عبد الكريم الريفي ليخلص البلاد من يد الإسبانيين والفرنسيين، ولا نريد أن ننوه بانتصاراته العديدة، وبما لاقته الجيوش الإسبانية، والفرنسية على يديه، فإن القراء في الشرق العربي يعرفون هذه الحروب ويقدمونها، وهم يعرفون إن عبد الكريم بطل مراكش لم يعمل على بناء مراكش الحديثة فحسب، ولكنه ساهم في بعث الروح العربي في الشرق أيضا. ويكفي أن نقول أن انتصاراته أقضت مضجع أوروبا كلها، وجعلت مجلس النواب في كل من فرنسا وإسبانيا يطالبان بسحب الجيوش من مراكش، والتسلم للأمير عبد الكريم، وقد كادت تقوم ثورة شعبية في إسبانيا لتنقذ البلاد من ويلات الحرب الريفية التي استمرت زهاء خمس سنوات كاملة.
ولم يكد الأمير عبد الكريم يلقي سلاحه حتى تلقفته منه الحركة الوطنية السلمية التي أعلنت ابتداء جهادها في مايو سنة 1930. قامت هذه الحركة لتعمل على تخليص البلاد من نير الاستعمار الفرنسي والإسباني، فأخذت تعمل جاهدة لتحقيق المطالب القومية للشعب المراكشي. وقد تمثلت هذه الحركة في حزب واحد هو (كتلة العمل الوطني) وكان لهذه
الكتلة برنامج وطني يشمل الإصلاحات الضرورية التي يجب على كل من فرنسا وإسبانيا أن تعالج بها الحالة في مراكش. وما كادت الكتلة تعلن عن وجودها حتى التف حولها الشعب، وأصبح الفرنسيون يدركون خطرها على مشروعاتهم الاستعمارية، ومن أخذوا يقاومونها مقاومة أدت إلى اصطدامهم بالشعب مرات عديدة، وكان من نتيجة ذلك أن سقط في ميدان الجهاد عدد كبير من المجاهدين المراكشيين.
وكانت سبيل الفرنسيين في محاربة الحركة الوطنية تقوم على إقفال الأبواب في وجه الوطنيين ومنعهم من كل من شأنه أن يقوى نفوذهم من الشعب. فقد كانوا ممنوعين من إصدار صحيفة عربية واحدة تعبر عن آرائهم كما منعوا من فتح نواديهم، ومن إعلان صوتهم بأي طريقة من طرق الإعلان. جاهد الوطنيون ليزيحوا عنهم هذا النير، ولكن الفرنسيين كانوا يمنعون في طرقهم الاستعمارية، وهذا ما جعلهم يصطدمون بالشعب المراكشي فسلطوا جند السنغاليين المعروف بقسوته ووحشيته على الشعب الأعزل. . . وأخيرا أصدرت السلطة قرارا بحل كتلة العمل الوطني وأغلقت نواديها وصحفها، وقبضت على زعمائها، وبقي زعيم الكتلة محمد علال الفاسي في منفاه بالكابون في أفريقيا الاستوائية منذ سنة 1937 إلى الآن
وهكذا أصبحت مراكش مباءة للثورات الجامحة في سبيل الحرية. ولكن لم يكن جهاد الحركة الوطنية ثوريا يعمل على زحزحة النفوذ الأجنبي بالثورات فحسب، ولكنه كان جهاداً يقوم على أسس متينة لبناء صرح الأمة المراكشية. فرجال الحركة رأوا إن الإدارة الفرنسية لا تقوم بشيء يذكر في سبيل التعليم، ولذلك قاموا بحركة تعليمية واسعة النطاق، ففتحوا المدارس الحرة في جميع أرجاء البلاد برغم ما قاسوه من محاربة الإدارة الفرنسية لهم؛ وبذلك أنشأوا جيلا متعلما من الشباب، وكان مجهودهم في سبيل التعليم أضخم من مجهود الإدارة برغم الأموال التي خصصتها الإدارة في ميزانيتها للتعليم. وقاموا أيضاً بحركة تحريرية اجتماعية فجندوا الشباب لمحاربة الجهل والفقر ولتنوير أذهان الشعب، وحملوا حملة منكرة على بعض العادات والتقاليد التي يغذيها الاستعمار الفرنسي. ثم قاموا بحركة خطيرة وهي اقتحام مناطق جبال الأطلس التي منع الفرنسيون دخولها إلا بجواز سفر. وبذلك فضحوا (السياسة البربرية) التي اتبعتها فرنسا في هذه المناطق والتي تقوم
على فصل جنوب مراكش عن شمالها. وقد ساعدت الحركة الوطنية في بعث النشاط الأدبي والفكري في مراكش فقاموا بإصدار مجلات وكتب أدبية تعرضت هي الأخرى للمصادرة والتعطيل. ومما يذكر للحركة الوطنية بالفخر إنها أنشأت صحفاً ونوادي وجمعيات في قلب باريس للدفاع عن مراكش. وكان لمجتلي (مغرب) و (أطلس) الفرنسيتين اللتين كان يحررها الشبان المراكشيون في باريس أثر كبير في الرأي الفرنسي فأوجدت نوايا ووزراء فرنسيين يعطفون على الحركة المراكشية.
وقامت الحرب الأخيرة فقام المراكشيون يساعدون دول الحلفاء ويبذلون أبناءهم الذين حاربوا في كل الميادين الهامة ببسالة شهد لهم بها مستر تشيرشيل في إحدى خطبه، وقدمت الحكومة المراكشية أموالا طائلة مشاركة في المجهود الحربي. ثم قدمت لفرنسا المحاربة وللجنة التحرير الفرنسية قروضا كبيرة استعانت بها في استرجاع بلادها المحتلة. وقد سخرت جيوش الحلفاء أرض مراكش وموانئها ومطاراتها واستفادت من منتجاتها الضخمة. كل ذلك ظننا من المراكشيين بأن الحرب ستخلق مبادئ جديدة وستتيح للشعوب الصغيرة أن تتمتع بمبادئ الميثاق الأطلنطي. ولذلك اتحدت كلمة الأمة تحت زعامة (حزب الاستقلال) الذي قدم وثيقة لدول الحلفاء ومن ضمنهم فرنسا، طالب فيها باستقلال مراكش، وتوحيد أراضيها، وإقامة نظام ديمقراطي دستوري؛ كل ذلك في يناير سنة 1940 ولم تكد تعلن هذه الوثيقة حتى جند الفرنسيون جنودهم، وقبضوا على زعماء الحزب وشردوهم ونفوهم، ثم أطلقوا يد السنغاليين في كل المدن والقرى، فمثلوا مأساة يندى لها جنين الإنسانية، ومنعت الإدارة الفرنسية عن المدن والقرى مواد التموين الضرورية والماء والنور. ولكن المراكشيين ثاروا في وجه الفرنسيين وحلفائهم السنغاليين، فوقعت معارك طاحنة سقط فيها مئات المراكشيين ضحية دفاعهم عن حريتهم واستقلالهم، وحكم بالإعدام على كثير من الوطنيين وبالنفي والسجن مع الأشغال الشاقة على كثير غيرهم ولا يزال زعيم الحزب أحمد بلا فريح منفياً بجزيرة كورسيكا برغم أصابته بأمراض خطيرة. ولكن الحركة لم تمت بل ازداد الشعب إيمانا بحقه في الحياة الحرة الكريمة ولا يزال بعمل برغم ما ينتابه من نكبات إلى أن يصل، وسيصل. . .
عبد الكريم غلاب
الشباب والفراغ والجدة
للأستاذ مصطفى القوني
(هذه الكلمة هي خاتمة الفصل الأخير من الطبعة الثانية من
كتاب الائتمان: عرض جديد لأصول علم الاقتصاد) الذي طبع
في دار الرسالة وظهر في هذا الأسبوع عن مكتبة الأنجلو
المصرية).
يصل المجتمع إلى أقصى قدر من الرفاهية الاقتصادية إذا استغل موارده على النحو الذي يتيح له أقصى قدر من الشباب والفراغ والجدة. ونعني بالجدة الثروة. ونعني بالفراغ أن يقصر وقت العمل بالقدر الذي يهيئ للناس التمتع بثمرات عملهم. ونعني بالشباب علو مستوى الصحة العامة، لأنه لا خير في العيش إذا فسدت آلته، وآلة العيش صحة وشباب.
والمشكلة الاقتصادية هي مشكلة قلة الوقت والموارد، فإذا استطاع المجتمع أن يستغلها أفضل استغلال خفف من حدة قلتها وفاز من القليل بالكثير.
ولكن الثروة والفراغ والقدرة على الاستمتاع وإن كانت نعمة حين تتاح للناس في مجموعهم، فإنها تنقلب نقمة إذا اختص بها أفراد دون آخرين، نقمة تفسر قول من قال:
(إن الشباب والفراغ والجِدَه
…
مفسدة للمرء أيّ مفسدة!)
ولنر الآن طرفا من مفاسد تباين ثروات الناس وتباين دخولهم.
إن ثروات بعض الناس تغنيهم عن السعي لكسب أرزاقهم، ويعيش مثل هؤلاء عيشة بطالة اختيارية. وليس للبطالين ما يشغلهم غير الجري وراء حوافز الاستمتاع ومثيرات الشهوات، فهم يخلقون لأنفسهم (حاجات) ثم يجرون وراء إشباعها. ويقبل البطالون على شرب الخمر، مثلا، تزجيه للفراغ وهرباً من السأم والملالة، ولكن غيرهم يحاول أن يجري مجراهم فتشيع المفاسد بين العامة الذين يحاولون أن يتشبهوا بالخاصة وإن لم يكونوا مثلهم.
ومن هنا كان توجيه جانب من نشاط المجتمع الاقتصادي إلى إشباع (حاجات) البطالين
ومن يجرون مجراهم. والنشاط الاقتصادي، أو السعي للرزق، عبارة عن صنع أشياء أو أداء خدمات يطلبها أناس ويدفعون نظيرها (ثمنا). وإقبال الناس على شرب الخمر يدفع غيرهم إلى التوسل للعيش بالخدمة في المواخير وطالب القوت ما تعدى.
وبعض من ينظرون في كتب الاقتصاد نظرات عابرة، ينعون على الاقتصاديين اعتبارهم الرغبات المحرمة والسافلة (حاجات) وينمون عليهم وصف ما يسد هذه الرغبات بصفة (المنفعة). ولكن الاقتصاديين يحللون النظام الاقتصادي، بما فيه من خير وشر، ويحاولون تفسير دوافع السعي للرزق وغايات هذا السعي. ويسعى المرء للرزق بالقيام بعمل (يطلبه) غيره ويدفع فيه (ثمناً) ًوتدفع الناس ثمناً لما يطلبونه لأنهم يرون فيه منفعة، أي صلاحية لسد رغبة؛ وقد تكون هذه الرغبة عالية أو سافلة، حلالا أو حراماً، خيراً أو شراً، ضرورة أو ترفاً. وإهمالنا دراسة الحاجات التي يجري بعض الناس وراء إشباعها، بالرغم من أن في هذا الجرى خروجا على مبادئ الدين والخلق، نقول إن إهمال هذه الحاجات هروب من الواقع الذي نتناوله بالتحليل للكشف عن علله وأسبابه وهل يتورع من يقومون، في المعامل، بتحليل فضلات الإنسان أو الحيوان، عن مسها لقذارتها أو لنجاستها؟
ولنعد إلى مساوي تباين ثروات الناس. إن الإفراط في الغنى كالإفراط في الفقر، نقمة على صاحبه. وإن أحس الفقير ألم الجوع فإن الغني قد يصاب بالتخمة. وإن لم يجد المعدم ما يستر عريه فإن إفراط الثرى في التأنق يحمله هما كان حريا به أن ينأى عنه. وإن كانت مساكن العامة تزدحم بهم ازدحاما، فإن عناية الخاصة بمساكنهم الرحيبة تشغل بالهم بما لا طائل وراءه.
وانقسام الشعب شعبين، أغنياء وفقراء، جناية على الأخلاق، وبنات المعدمين فريسة سهلة لا غراء المثرين وسماسرتهم الذين يتوسطون بين من يبعن أجسادهن وأرواحهن وبين من يشترونها.
وتحاول الديموقراطية السياسية أن تسوي بين الناس، وإن اختلفت أقدارهم في المجتمع، وذلك بأن تجعل لكل فرد صوتا واحدا في انتخاب السلطات الحاكمة. ولكن الناخبين عرضة لا غراء مرشحي المجالس النيابية الذين يحاولون، وقد ينجحون، شراء أصواتهم بالمال. وليس من السهل سيادة الديموقراطية ما لم تدعم الديموقراطية السياسة ديموقراطية
اقتصادية.
ثم هناك ما يجري من سباق بين المثرين: سباق غايته الخيلاء والزهو الذي لا ينتهي إلى نهاية. وتسابق أفراد الطبقات الموسورة في مظاهر الغنى مصدرهم لهم، لأن كلا يسابق ويخاف أن يسبقه غيره. ومن سلع الترف ما يكاد يكون كل الغرض منه الزهو، ومن السيدات من تقتني جواهر نادرة، تخاف عليها من السرقةفتصنع لها من الحلي المصطنعة نسخة تطابق الاصل، وتخزن الجواهر النادر في خزانتها وتتحلى بالحلى الزائفة. ومن جامعي روائع فن التصوير من يستأجر خبيرا يتعرف له أصلة الصور التي يقبل شرائها، لأنه يشتريها لا عن إحساس بجمالها وإما عن اعتزاز بمقدرته على شرائها.
وقد يرد على ما قدمناه من أمثله على مساوئ توزيع الثروة، بأن الإقبال على شراء شئ، أيا كان هذا الشيء، يدفع إلى عمالة بعض الناس ويسرع من دوران عجلة النشاط الاقتصادي ويشيع الرخاء. ولكن ليس سواء أن يعمل أناس في صنع الخمر أو أن يعملوا في صنع الخبز. وليس سواء أن يشتغل المرء بتجارة الماشية أو بتجارة الرقيق وإنه لإسراف، ومفسدة أي مفسدة، إن تحول بعض موارد المجتمع من إنتاج ما يسد الحاجات الضرورية لجمهرة الناس إلى إنتاج ما يشبع نزوات البطالين والمترفين.
وتقليل التفاوت بين الدخول يقلل من الظلم الاجتماعي ويهئ الفرصة لزيادة رفاهية المجتمع. والقضاء على تباين توزيع الثروة، وعلى تفاوت الفرص، قد يكون عن طريق الثورة كما قد يكون عن طريق التطور التدريجي، ولكل من السبيلين أنصار.
وتتدخل الحكومة محاولة إصلاح، ما فسد، وتفرض ضرائب على الموسورين والقادرين على تحمل عبء الضريبة، وتنفقها على ما يعود بالخير على الجميع. وكلما زاد تدخل الحكومة في هذا الشان قل المدى بين الثورات المختلفة والدخول المختلفة، وسار المجتمع خطوة نحو تحقيق العدالة الاجتماعية.
مصطفى القوتي
أعلام معاصرون
محمد عبد المطلب
1870 -
1931م
للشيخ محمد رجب البيومي
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
ولقد انتقل رحمه الله إلى عدة مدارس ابتدائية وثانوية حتى اختير أستاذا بمدرسة القضاء الشرعي، وكانت قد طارت إليها بما نشرة من حين لآخر في الصحافة، فاستقبل بالتجلة والترحيب ووجد نفسه أمام عقول مستنيرة تفهم آراء وتسير معه في اتجاهه، فاخذ يغرس حب الأدب والفضيلة ويدفعهم إلى التعصب للعربية في وقت هوجمت فيه من أعدائها المغتصبين. ولقد غالى في ذلك مغالاة عدها الكثيرون رجعية وجمودا فكان لا يحفل بما تخرجه المطبعة العربية من الكتب الحديثة، ثم شفع القول بالعمل فأخذ ينهج في إنتاجه نهج القدامى من فطاحل العصر العباسي، فكان يبتدئ قصائده بالغزل الرائق، مكثرا من الغريب المجلجل، مستعينا بخياله البدوي في التوليد والتصوير، وتلك منه كبرى أسداه إلى الأدب العربي، فهو يذكر الناس بين الفنية والفنية بمن ينسج على منوالهم فيفيئون إلى الدواوين القديمة باحثين مستفيدين، ولا شك أن الأدب العربي كان في مبدأ هذه النهضة محتاجا إلى المحافظ اكثر من احتياجه إلى المجدد، وإلا فكيف نتشدق بالإبداع والتجديد، وتراثنا الرائع القويم لا يزال في ظلمات النسيان تشيح عنه الوجوه وتستجمعه الإفهام!!
وأحب أن أكشف عن حقيقة مطموسة، فالذائع المشهور أن أمير الشعراء هو أول من كتب الروايات المسرحية الشعرية، فقد أصدر أولى رواياته (كيلوباتره) سنه 1928 م ثم أعقبها بعدة روايات مشهورة، والواقع أن عبد المطلب قد سبقه إلى ذلك بعشرين عاما، فقد نظم في سنه 1909 وما بعدها بضع روايات شعرية ذات فصول ومناظر تمثيلية، وقد جعلها متينة الحوار، سريعة الحركة، حسنه المفاجأة. وكلها عربية بدوية تتخذ أسماء لامعة في تاريخنا الأدبي (كالمهلهل) و (امرئ القيس) و (ليلى العفيفة) ومن المؤسف حقا إنها لا تزال في غمرة الجحود مخطوطة بدار الكتب المصرية، ولعلنا نجد من يخرجها للناس في ثوبها
اللائق، فهي وحدها الدليل على تجديد عبد المطلب وتنبيهه إلى عنصر هام من عناصر الشعر قد اثبتت الحياة مزيد احتياجنا إليه، فليت الذين يرجفون بجفاف الشاعر وجموده يلتفتون إلى هذه المآثر الخالدة ثم يحكمون!!.
وأنت إذا نظرت إلى المآخذ التي توجه إلى شعرة تجدها منصبة على تغلغله في الأخلية الصحراوية، وهيامه بالأماكن البدوية وإكثاره من الغريب الفحل، مما يعتبره محاكاة وترسما لا تجديدا وابتداعا، في رأيي إن عبد المطلب بالذات غير ملوم في ذلك، لأنه عربي صريح نشأ في بيت يفخر بانتمائه إلى الجزيرة العربية، فهو حين يهتف بنجد والعقيق وسلع إنما عن وجود مشبوب، ويحين حنينا محرقا إلى أماكن يعتز بها مدى الحياة، فلا عليه إذا جال في هذا الميدان وصال، وأحرى بنا أن نوجه هذا النقد إلى غيري كالبارودي مثلا ممن لا ينتمون إلى الجزيرة ولا يشعرون نحوها بعاطفة وانجذاب!!
وإذا كنا نعد من حسنات الفرزدق على اللغة العربية إنه أحيا ثلثها في شعره، فلماذا ننكر على عبد المطلب إكثاره من الغريب المستساغ في وقت جاهر فيه أعداء اللغة بعجزها عن مسايرة الحياة، الا يكون ذلك توجيها صالحا منه إلى تحصيل اللغة ودراسة معاجمها الواسعة حتى تسعفنا بما نفتقر إلية من كلمات!!
هذا وقد شاءت الظروف السياسية أن ينتقل من مدرسة القضاء الشرعي إلى مدارس وزارة الأوقاف!! فحيل بينه وبين العقول الممتازة التي كانت ننتفع بآرائه وتوجيهه، ووجد نفسه أمام طائفة أخرى لا تزال في الدور الأول من التعليم!!
وقد اعتبر الفقيد في مدارس الأوقاف محنة قاسية قابلها بالصبر الجميل، على إنها كانت في الواقع محمدة جميلة. فقد خلص من دروسه العميقة قي القضاء الشرعي، وعكف على الإنتاج الأدب الرفيع، وكانت الحرب العظمى الأولى في ذلك الوقت مندلعة اللهيب، ثم تلتها الثورة المصرية الصاخبة، فوجد الشاعر من أحداث زمانه ميادين شاسعة يحلق فيها بخياله الجموح، وحين نطالع ديوانه نجده حافلا بالقصائد السياسية التي تعتبر في الواقع وثائق تاريخية صحيحة يحتج بها الباحثون، فما من عاصفة سياسية هبت بمصر إلا خلدها عبد المطلب في شعره الرائع - إلى جانب ما كان يكتبه من مقالات طنانة الدوى عميقة التأثير - ولعلك تسال معي لماذا لم تذكر سياسته الشعرية كما ذكرت سياسات حافظ
إبراهيم؟ والجواب على ذلك إن الشعر السياسي شعر شعبي لا يدور على الألسنة إلا إذا كان سهلا واضحا يفهمه العامي قبل المثقف. وقد كان حافظ رحمه الله يأتي في السياسات بنوع خاص بما يناسب عقل الجمهور، فطار شعره السياسي كل مطار. ورواه الريفيون في القرى قبل المثقفين في الاندية، اما عبد المطلب فقد كان محافظا على نسجه الرصين وجزالته القوية، فنجا شعره من العامة وظل منهلا رائقا يرده المثقفون، وإذا شئت الدليل على ذلك فقرأ قصيدة حافظ في سعد زغلول يوم اعتدى عليه ومطلعها
الشعب يدعوا الله يا زغلول
…
أن يستقل على يديك النيل
ثم إقراء قصيدة عبد المطلب في هذا الموضوع
رمى وسهامُ الله في نحره رد
…
فلا تأس حاطتك العناية يا سعد
فإنك بلا شك ستسايرني فيما أقول
وأود أن أنبه القارئ إلى قصيدة عبد المطلب في الحرب العظمى فهي وحدها كافية للتدليل على مذهبه في الشعر. ولقد عبر فيها عن إحساس الشعب المصري أصدق تعبير، فكانت سوطا ناريا يلهب ظهور الإنجليز، وقد مكثنا سبعين عاما نضج من المغتصبين ونرى بأعيننا كتائب الاستعمار رائحة إلى الحانات والمواخير، ينتهكون الحرم. ويصرعون العفة، ولكن لم نجد في شعرائنا من صور هذه المناظر المخجلة في جزالة لفظ وقوة أسر، غير عبد المطلب حين قال:
تبصر خليلي هل ترى من كتائب
…
دلفن بها كالسيل من كل مودق
سراعاً إلى الحانات تحسبهم بها
…
نعاماً تمشي رزدقاً خلف رزدق
يهولك مرآها إذا اصطخبت بهم
…
مواخير تجلو فاسقات لفسَّق
إذا أجلبوا فيها حسبت ضفادعاً
…
تجاذبْن إيقاعاً على صوت نقنق
زعانف شتى من طويل مشذب
…
طرى القرى عاري الأشاجع أعنق
ترى منه بحبوحه الأمن باسلا
…
وان يدعه الداعي إلى الكر يحبق
والقصيدة كلها وقد جاوزت المائتين تضرب على هذه الوتر الرنان، وطبيعي أنها لم تنشر في حينها بل ظلت في مدرجة النسيان حتى قرأناها بالديوان!! والعجيب أن عبد المطلب - بعد انتقاله من سوهاج - لم ينتشر خرائده تباعا في الجرائد اليومية كما فعل قرناؤه بل ظل
محتفظا بها في مسوداتها غير اليسير مما انشده في المحافل العامة وسارعت الصحافة إلى تدوينه!! ولعلك تقف معي من هذا على تواضعه الجم وعزوفه عن الشهرة، ولا لدري اي ذخيرة غالية قدمها الأستاذ الهراوي إلى العربية يوم جمع قصائد الفقيد في سفر خاص فكانت كأس النديم وعبير المشتاق
على أن مدة الشاعر لم تطل بوزارة الأوقاف ففي سنه 1921 تقلد وزارة المعارف المرحوم جعفر والي باشا وكان ذا اتصال حميد بأرباب الفكر وحملة اليراع، فاغتنم عبد المطلب هذه السانحة وتقدم إليه أملا في الأخذ بيده، وكان الوزير الأريحي عند ظنه الحسن به فقد استصدر أمرا من مجلس الوزراء بنقله إلى التدريس في دار العلوم مع إعفائه من الكشف الطبي إذ كان الشاعر يشكو ضعفا في قوة إبصاره، ولا تسل عن فرحته بالعودة إلى وسط ممتاز يشجعه على الدرس الجيد والبحث المفيد، ولم ير غير الشعر مكافأه طيبة يهديها إلى معالي أو زير فشكره بقصيدة عامرة قال فيها
أنا الروض حياه وليٌّ بديمة
…
علية بأسباب الحياة استهلت
عداه الردى أحيا لمصر وأهلها
…
مآثر عهد ابن يحي تولت
(جزى الله عنا جعفراً حين أزلفت
…
بنا نعلنا في الواطئين فزلت)
ولم يلهه التدريس بدار العلوم عن الاتصال بالجمهور عن طريق الصحافة، فقد كان ينشر أبحاثه الأدبية دراكا، وحين ظهر كتاب الشعر الجاهلي للدكتور طه حسين سارع إلى نقده في جريدتي الأهرام والمقطم، ثم تشعب به النقاش فخاض المعركة الحامية بين الجديد والقديم. وأخذت الردود الكثيرة تتوالى على نقده وهو يناقشها مأخذا مأخذا حتى عد عند الكثيرين عميدا للمدرسة القديمة الاتباعية، ولقد طبعته هذه العمادة بطابع خاص، فكان يتعمد في أكثر إنتاجه أن يكون كما عهده الأدباء في صدر شبابه جزلا فحلا. واذكر انه ما أقيمت حفلة أدبية إلا ودعي إليها عبد المطلب باعتباره ممثلا للمذهب القديم اصدق تمثيل. وكان السامعون ينتظرون الديباجة العربية منه في شوق وانجذاب، ففي الحفلة التي بويع فيها شوقي بأمارة الشعر وقف عبد المطلب يلقى قصيدته فهمس أديب كبير في إذن شوقي أمرؤ القيس! أمرؤ القيس! وتكلم عبد المطلب فضج الحفل بالتصفيق الشديد!!
ولقد كان مظهره في الجامعة المصرية يوم ألقى قصيدته العلوية سنه 1919 رائعا جميلا
فقد ركب ناقته ومضى ينشد طويلته متشبها بأجداده البادين، وكان الحفل الحاشد مأخوذا بما يرى ويسمع، فمن تدفق في البيان وطرافة في الموضوع، إلى غرابة في المنظر وبعد في الاتجاه، ولقد طال نفسه فيها حتى جاوزت قصيدته أربعمائة بيت تقرؤها في متعه وارتياح فلا تجد غير القوى الرصين!!
أما أخلاقه الرفيعة فقد كانت دينيه مثاليه تبحث عنها فلا تجدها عند الذين يتظاهرون بالورع ويتشدقون بالعبادة وليسوا من ذلك في قليل أو كثير، فعبد المطلب قد درس التعاليم الإسلامية ثم طبقها على نفسه وأتخذها منهجا يسير عليه. فكان عق اللسان، صلب العقيدة، راسخ الإيمان طاهر الذيل، متمسكا بتقاليد قومه، راغبا في الزهد الصوفي الذي ورثه عن ابيه، وقد أشترك في جمعيات إسلامية كثيرة. كالمواساة الإسلامية والشبان والهداية، والمحافظة على القران الكريم بإذلالها ما يستطيع بذله من مال وعتاد
قال شيخنا الأستاذ الإسكندري (وكان شديد العصبية لسلف هذه الأمة وقوادها وعلمائها وشعرائها فلا يكاد يسمع بحديث مزر عليها أو غاض من كرامتها حتى يغضب لها غضبة الليث الهصور وينبري له تزيفا وتهيجينا نظما وكتابة وخطابة)
هذا وقد أنتدب في سنه 1928 للتدريس في تخصص اللغة العربية بالأزهر الشريف، وظل به حتى لقي ربه راضيا مريضا عنه بما قدم لدينه ولغته من العمل الصالح، وكان قد أحيل إلى المعاش من دار العلوم قبل وفاته بشهر واحد. وحين جاءه اليقين خرجت الدنيا تشيعه في حفل مهيب التقى فيه أصدقاؤه بتلامذته العديدين باكين منتحبين، ورأى الناس الوفاء للأدب والعلم متمثلا حول نعشه في جمع حاشد وصفه الهراوي فقال:
لقد مشت الدنيا وراءك خشعاً
…
وما كنت في سلطان حل ولا عقد
إلا إنها كانت قاوباً تدامعتْ
…
على الود تمشي حول نعشك في حشد
محمد رجب البيومي
تعقيبات
بين العامية والعربية:
تقدم الأستاذ محمد فريد أبو حديد عضو المجمع اللغوي وعميد معهد التربية إلى المجمع ببحث مطول عن موقف اللغة العامية من العربية الفصحى عرض فيه لخصائص العامية ومالها من الآثار الجميلة في معارض الكلام كالزجل والموشحات والقوما والدوبيت، وتناول ما كان لها من تطور في الشرق وفي بلاد الأندلس ثم في باقي الجهات الأخرى، وانتهى منذ ذلك إلى القول بوجوب دراسة العامية ولاهتمام بها ووضع الوسائل للتقريب بينها وبين الفصحى حتى تلتقي لغة الكتابة ولغة الكلام.
وليست هذه الدعوة التي يرتفع بها صوت الأستاذ أبو حديد اليوم بالامر الجديد، ولعلها دعوة قديمة بالية ارتفع بها الصوت في مصر منذ أكثر من خمسين عاما، وثارت فيها عجاجه الكلام واشتجرت حولها أقلام الباحثين، وقد استطاع أساتذة ذلك الجيل أن يصفوا حسائها وأن يفرغوا من تنفيذها وأن يأتوا في ذلك بما لا مزيد علية.
كان رأس تلك الدعوة رجل إنجليزي موظف في مصر يدعى (ويلكوكس)، وكان هذا الرجل داهية، درس اللغة العربية، واللغة العامية أيضاً وكان عمله الأصيل في شئون الري والصرف، ولكنه أثار بين المصريين الدعوة إلى العامية بحجة أنها لغة الكلام، وإنها قريبة منن الإفهام، ومن العجيب إن ذلك الرجل أنشأ مجلة يوم ذاك سماها (الأزهر)، وكان يصطنع الغيرة على العربية كان يحاول أن يسدد الطعنه النجلاء إلى العربية والى الإسلام والى المصريين.
وبيننا كثيرون يذكرون أن الأستاذ الجليل أحمد لطفي السيد باشا كان له مجال في معرض تلك الدعوة، فقد كتب مقالين في (الجريدة) أيام كان يقوم على تحريرها يدعو فيهما إلى تمصير اللغة، فانبرى كثير من الباحثين لمناقشة دعوته وتفنيد حجته، وكان الرجل قد اقتنع بما بدا له في معرض المناقشة إذ سكت عن تلك الدعوة إلى اليوم، بل لقد وقف بعد ذلك يدعو إلى الفصحى ويحبذها في عدة مناسبات. . .
وأنا في الواقع لا أدرى ماذا يريد الأستاذ أبو حديد بالتقريب بين العامية والعربية، وماذا يقصد بان (تلتقي لغة الكتابة ولغة الكلام)؟!
إن موضوع القضية باطل، لأننا إذ نقول العربية فإنا نقصد إلى لغة موحدة الألفاظ والدلالات عند جميع أبناء العربية والذين ينطقون العربية، أما العامية فإنها تتوزع في الألسن إلى لهجات عديدة بل إلى لغات تختلف فيها الألفاظ ودلالاتها إلى حد كبير، ليس في الأقطار العربية فحسب، بل في القطر الواحد منها، وأظن الأستاذ يعلم الفرق الكبير بين شمال مصر والعامية في جنوبها، فأية عامية من هذه كلها يريد أن يتخذها أساسا تلتقي به لغة الكلام م لغة الكتابة.
في جميع أمم الدنيا لغة للكلام ولغة للكتابة، ويوم أن كانت اللغة العربية في أهلها فطرة وسجية كانت هناك لغة للكلام ولغة للكتابة. انه رأى غريب مريب، يعود فيرفع رأسه بعد أن قطعه أستاذه الجيل السابق. والعجيب أن يحفل المجمع بهذا الرأي الذي لا طائل تحته وأن يأمر بطبع هذا الكلام لبحثه وإبداء الرأي فيه، كان هذا المجتمع قد فرغ من أداء واجبه نحو العربية فما بقي علية إلا العناية بالعامية. ومن يدري لعل الشيوخ الإجلاء يقترحون ان يكون اسم مجمعهم (مجمع اللغة العربية والعامية)!!
بشار وروزفلت وزكي مبارك:
يبدو صديقنا الدكتور زكى مبارك في كتاباته التي يكتبها في هذه الأيام على نهج جديد، وطريق كثير الدروب والتعاريج، فهو يكتب كما يتحدث، وهو لا يرتبط مع القارئ بوحدة الموضوع ولكنه يستطرد ثم يستطرد، فيخرج من كلام إلى كلام، ويورد كل ما يبدو من الروايات والذكريات، وهو في هذا يعتمد على الذاكرة اكثر مما يعتمد على المراجعة، والذاكرة مهما كانت قوة وحفظا لا تصدق صاحبها في كل الأحيان.
وطريقة تشقيق الكلام والاستطراد هي الطريقة التي ابتدعها وآثرها كانت العربية الكبير شيخنا أبو عثمان الجاحظ، وليس من قصدي أن استطرد بالقارئ إلى الحديث عن هذه الطريقة، ولكنى أريد هنا أن أشير إلى مقال قرأته للدكتور يوم الثلاثاء الأسبوع الماضي في جريدة (البلاغ) فوقفت فيه على روايتين جديرتين بالتصحيح تقديرا للأدب وإكراما للتاريخ.
ما الأولى فقد قال الدكتور وهو يتحدث عن شهر كانون:
(وكان الشاعر بشار بن برد متهما بالزندقة، فأراد أحد الصوفية أن يحبب إليه الإيمان فقال:
إن للمؤمن الصادق في الجنة غرفة عرضها ألف ميل وطولها ألف فرسخ، فقال بشار: هي إذن أبرد من كانون الثاني)، وليست الرواية هكذا، ولكنهم قالوا:(ومر بشار بقاص فسمعه يقول: من صام رجبا وشعبان ورمضان بني الله له قصرا في الجنة صحنه ألف فرسخ في مثلها، وكل باب من أبواب بيوته ومقاصيره عشرة فراسخ في أمثالها: فالتفت بشار إلى قائده وقال: بئست والله هذه الدرا في شهر كانون الثاني). . . وإذن فلم يكن هناك صوفي يعظ بشارا بهذا الكلام الملفق، وقد كان على الدكتور، وهو مؤلف في التصوف، أن يتحرى الرواية من هذه الناحية فضلا عن الناحية الأدبية. . .
هذه واحدة. . .
أما الثانية فقد قال الدكتور وهو يتحدث عن الشيخ على يوسف صاحب المؤيد: (وكانت للشيخ على وقفة جريئة في وجه الرئيس روزفلت جد الذي كان رئيس جمهوريات الولايات المتحدة قبل سنين، وخلاصة القصة إن روزفلت زار أسوان واظهر عجبه من أن يتمجد المصريون بقصر انس الوجود. فثار شوقي الشاعر فنظم الضادية وفيها يقول:
شاب من حولها الزمان وشابت
…
وشباب الفنون ما زال غضا
وثار الشيخ علي يوسف فشواه بمقالة في جريدة المؤيد. . .)
وليست القصة هكذا ايضا، ولم يكن الأمر أمر أنس الوجود، وإنما القصة أن روزفلت زار السودان وخطب في أحد المعاهد المسيحية هناك فإنهم المصريين بالتعصب الديني، وأشاد بأيادي الإنجليز على تقدم مصر، ثم دعا المصريين إلى ترك التشدق بالقديم البالي والنظر إلى إصلاح حالهم الراهنة، فكان أن غضب المصريون لأنفسهم، وثاروا عليه ثورة عنيفة في دفع تلك الافتراءات التي كان روزفلت يردد فيها كلام المعتمد البريطاني، وكان الشيخ على يوسف ممن حركوا القلم في هذه الثورة، وكان شوقي يوم ذاك موظفا ولكنه خرج عن دائرة (الموظف) كما يقول ونظم قصيدته الضادية في تمجيد حضارة الشعب الذي كفر به روزفلت وقدم لتلك القصيدة بمقدمة قال فيها: (قمت أيها الضيف العظيم في السودان خطيبا، فأنصفت العصر، وانتقصت مصر، واقبل أهلها بعضهم على بعض يتساءلون: كيف خالف الرئيس سنة الأحرار من قادة الأمم وساسة المماليك أمثاله، فطارد الشعور وهو يهب، والوجدان وهو يشب، والحياة وهي تدب؛ في هذا الشعب، ومن حرمة العواطف السامية،
ألا تطارد كأنها وحوش ضارية).
إلى آخر تلك المقدمة التي تعتبر آية من آيات شوقي الخالدة.
وثر حافظ إبراهيم أيضا، وتناول رزوفلت بقصيدة من قصائده الوطنية النارية، ولكن هذه القصيدة لا توجد في ديوانه الذي طبعته الوزارة، وقد سبق أن نشرتها في (الرسالة) مع بعض القصائد والمقطوعات المنسية لحافظ إبراهيم. . .
هذا أمر يهمنا:
تنشر جريدة (المصري) سلسلة من التحقيقات الصحفية عن الحالة في بلاد المغرب الأقصى قام بها الأستاذ إبراهيم موسى الصحفي المعروف، وقد عرض الأستاذ في كتاباته إلى الحديث عن الحياة الثقافية وما يفرض عليها من الحجر الاستعماري في تلك البلاد فقال:(ووجدت مع أحد الزعماء كتبا مصرية قديمة من النوع المستعمل وكانت عليها كتابة تدل على أنها لرجل آخر في طنجة من ثلاث سنوات، وكان الزعيم المغربي شديد الفرح بها وقد دهشت حين علمت أن سبب فرحه هو إنه هربها معه من طنجة لأن الفرنسيين لا يسمحون بدخول الكتب العربية إلى المغرب إلا إذا كانت توافق مزاجهم وقليلا ما يجدون ما يلائم هذا المزاج الرقيق. . .)
ثم قال الكاتب: (وقال لي هذا الزعيم انك لا تتصور مقدار العذاب الذي يعيش فيه رجال الصحافة والعلم في هذه البلاد إذ لا ينشر كتاب ولا صحيفة بدون رقابة وكثيراً ما تخرج الصحف ونصف صفحاتها بيضاء وقد كتب عليها - حذفته الرقابة - بل لا يمكن أن يقبل كتاب في مطبعة قبل تسليم النسخة الأصلية إلى الرقابة وحدث مرة أن الأستاذ عبد العزيز بن عبد الله المحرر بجريدة العلم وضع كتاباً في الجغرافيا فبقيت النسخة الخطية في الرقابة سنتين - نعم سنتين - بقصد التعطيل ثم افرج عن الكتاب بعد تعديلات ومساع كثيرة ومن أمثلة هذه التعديلات انه كان في الكتاب فصل اسمه (المغرب في عهد الاستقلال) ويقصد الكاتب بذلك العهد السابق للعهد الفرنسي فأصرت الرقابة على تغيير العنوان إلى - المغرب قبل الحماية - ولما رضى المؤلف بذلك سمحوا بطبع الكتاب. .)
قلت: وهذه حال تهمنا فمن الواجب على رجال الأدب والعلم وحملة الأقلام في مصر وفي جميع العالم العربي أن يفزعوا لها وأن يقفوا منها موقفاً حازماً لأنها مصادرة للحياة
الفكرية. ومصادرة للكتب العربية وجميع الآثار التي تخرجها حتى لا تجد طريقها إلى تلك البلاد الشقيقة. . . . .
نعم أن من الواجب على الجامعة العربية أن تفزع لهذه المسألة ضمن ما تعنى به من الحالة القائمة في المغرب الأقصى وضمن ما تعنى به من الشئون الثقافية العامة في البلاد العربية، ولكن علينا نحن أن نفزع لهذه المسألة بالذات لأنها مسألتنا ومسألة الثقافة العربية والأمر فيها يسير علينا إذا حزمنا لها الرأي والأمر، وذلك بأن نعمد إلى مقاطعة الكتب الفرنسية في جميع الأقطار العربية ما دامت فرنسا تقصد إلى منع الكتاب العربي من الدخول إلى أي قطر من الأقطار التي تقع تحت نفوذها فإذا عمدنا إلى هذا صادقين فستكون فرنسا هي الخاسرة وستضطر اضطراراً إلى النزوع عن تلك الخطة الشنعاء.
فهل أنتم يا أبناء الثقافة العربية ويا حملة الأقلام فاعلون غضباً لكرامتكم ورعاية لمصلحتكم؟؟
(الجاحظ)
الأدب والفن في أسبوع
من الأدب السياسي:
دعت رابطة الطلبة السودانيين في مصر مكرم عبيد باشا لاختتام موسمها الثقافي بمحاضرة عن (الوحدة الطبيعية الوطنية بين مصر والسودان) فلبى الدعوة وكان يوم الخميس موعد إلقاء هذه المحاضرة بدار جمعية الشبان المسلمين بالقاهرة وقد قدمه رئيس الرابطة بكلمة وصفه فيها بقوله (أديبس ملك من البيان عنانه وخطيب فاق بفنه أقرانه وناثر حر أعجب بل ادهش خصومه وأعوانه)
وهذا الوصف من التقديم هو الذي يلائم المقام في هذا الباب الأدبي فالذي يعنينا هنا هو مكرم عبيد الأديب الذي يسترعى انتباه الأدباء ومحبي جمال الكلام بما يكتب ويخطب ولما كانت هذه المحاضرة من إنتاجه الأدبي السياسي فقد رأينا أن نلم هنا ببعض أجزائها ونقطف شيئاً من ثمراتها.
بين مكرم باشا العوامل الأساسية التي تقوم عليها وحدة وادي النيل فعد منها (النيل نهراً) و (النيل شعورا) ثم قال في بيان العامل الثاني: (ووحدة النيل شعوراً هي عنصر الوحدة المعنوية بين أبناء النيل ولست في هذا أتعمل أو أتخيل بل احلل التحليل العلمي الذي لا جدال فيه ولا دجل. فما من شك أن الطبع وليد الطبيعة، وإذا جمعت بيننا وحدة الطبيعة، فقد جمعت بيننا حتماً وحدة الطبع نعم إن هناك وحدة اللغة ووحدة الدين ولكن هذه قد توجد بين البلاد المستقلة بعضها عن بعض أما وحدة الطبع مستمدة من وحدة الطبيعة فهي الوحدة الأصلية التي تجعل من أبناء البلاد شعباً واحداً فإذا ما أضيفت إليها العناصر الإضافية كالدين واللغة والمصالح الاقتصادية كانت الوحدة مكتملة الأسباب أصولا وفروعاً.
(ولقد أجمع علماء التاريخ والآثار وفي مقدمتهم المسيو ماسبرو على ان المصري والسوداني متفرعان في مجموعها من جنس واحد واصل واحد رغم ان الشمس لم توزع سخاءها عليهما بقدر واحد. . .)
ودلل على التشابه في اللهجة الإقليمية فقال: (كنت منذ أيام قليلة أتحدث إلى بعض إخواننا السودانيين فراعني من هذا الحديث لا وحدة التفكير فحسب بل وحدة التعبير حتى أن لهجتهم في الحديث لا تختلف عن لهجة أبناء الصعيد مما أخجلني - وأنا رجل صعيدي
(تبحرت) - فجعلني أعود معهم إلى القاف الصعيدية الجيمية بدلا من القاف الملطفة الألفية التي تعودناها في لغة عاصمتنا الرشيقة. . .
(ولما كان أهالي الوجه البحري والصعيد شعبا واحدا وإن اختلفت بينهما اللهجة الإقليمية، فلست أرى فارقا - حتى من هذه الناحية الفرعية التفصيلية - بين الصعيد الأدنى في مصر والصعيد الأعلى في السودان)
وقال معقباً على ما حدث أخيرا في الخرطوم من محاكمة الأستاذ أحمد كامل قطب رئيس حزب الفلاح الاشتراكي المصري متهما بالحض على كراهية الحكومة البريطانية والحكومة السودانية في محاضرة ألقاها بنادي الخريجين هناك وقد هتف أمام القاضي بعد أن حكم عليه بالسجن أربعة عشر يوما قائلا: (الله أكبر ويحيا ملك مصر والسودان ويسقط الاستعمار)
قال مكرم باشا معقبا على ذلك: (نعم أيها السادة الله أكبر والله أكبر والله أكبر فلست أعرف نداء جمع بين حكمة الدين وحكمة الدنيا كهذا النداء، الذي يتلاقى فيه الجزاء مع العزاء. فلو أن في الدنيا كبيرا فالله أكبر ولو أن بين الظالمين ظالما يرى نفسه كبيرا فالله منه أكبر ولو ان بين الشعوب شعباً كبيرا يرهق شعبا صغيرا فالله من الكبير أكبر.
(إذن فلا تهنوا ولا تحزنوا وإذا ما أصابكم عسف أو عنت فلا تفقدوا ميزانكم بل زنو ثم وازنوا. . . نعم وازنوا بين عادل سرمدي وبين ظالم وقتي أبى واستكبر وفاته أنه مهما كبر فالله أكبر)
المؤتمر الثقافي العربي:
تضمن ميثاق الجامعة العربية النص على التعاون الثقافي بين بلادها وتوحيد الاتجاه التعليمي فيها وألفت الإدارة الثقافية بها للعمل على تحقيق ذلك وأخيرا قررت دعوة الأمم العربية المشتركة في الجامعة العربية وغيرها إلى مؤتمر ثقافي عربي ينعقد بلبنان في سبتمبر القادم للنظر في توحيد اتجاهات الثقافة العربية والعناية بموادها وأساليب تعليمها في اللغة وفروعها والتربية الوطنية والتاريخ والجغرافيا في مراحل رياض الأطفال والتعليم الأولى والابتدائي والمتوسط والثانوي
ووجهت الدعوة إلى وزارات المعارف في كل من البلاد العربية لتتولى كل وزاره منها
الاتصال بالهيئات الثقافية والتعليمية في بلادها لتعيين من يمثلها في المؤتمر على أن يكون الممثلون الذين يؤلفون هيئة المؤتمر من الهيئات الرسمية أما الهيئات الأخرى فلها كما للأفراد المهتمين بالشئون التعليمية والثقافية أن يكتبوا بآرائهم ومقترحاتهم إلى الإدارة الثقافية لتنسيقها وعرضها على المؤتمر ولهم أن يحضروا اجتماعات المؤتمر متتبعين مستمعين.
وقد ربطت بالدعوة بيانات بالموضوعات التي يرجى البحث فيها للمؤتمر في المواد الدراسية المتقدمة ومن هذه الموضوعات في (اللغة العربية وفروعها) ما يأتي:
(1)
كيف يحقق بث الفكرة العربية بطريق كتب المطالعة؟
(2)
كيف تعالج صعوبات وجود اللغة العامية بجانب اللغة الفصحى؟
(3)
تيسير القراءة والكتابة للمبتدئين ووسائل تحقيقها
(4)
هل يدرس تاريخ الأدب مستقلا أو في ثنايا دراسة النصوص الأدبية بالتعريف بأصحابها وعصرها. . . . . الخ
(5)
في اختيار النصوص الأدبية هل ترتب على حسب العصور أو الموضوعات أو يتدرج فيها من حيث السهولة والصعوبة دون تقيد بعصر؟
(6)
كيف تستغل دراسة الأدب إلى حد ما في بث الروح العربية؟
(7)
القراءة خارج المدرسة
(8)
استغلال الوسائل الحديثة في ترقية اللغة العربية كالإذاعة والتمثيل والمناظرات والمجلات والصحف ودور الكتب
ومن موضوعات التربية الوطنية:
أساليب إعداد المواطن العربي ليكون مواطنا صالحا في مجموعة البلاد العربية كما هو مواطن صالح في قطره الذي ينتمي إليه. ومن موضوعات التاريخ:
(1)
هل يدرس في التعليم الابتدائي تاريخ قطر الطالب فقط، أم تاريخ الأمة العربية كلها أم يجعل تاريخ القطر محورا لدراسة التاريخ العربي أم تدرس سير أبطال العرب وعظمائهم فقط أو يدرس تاريخ المدن ونحو ذلك
(2)
وسائل الاستفادة من التاريخ العربي لتقوية الروح العربية الحق
ومن موضوعات الجغرافيا:
الأسس والمبادئ العامة التي يحدد على أساسها القدر الذي لابد من أن يحصله المواطن العربي من جغرافية البلاد العربية وموضع هذا بالنسبة إلى جغرافية العالم كله ومبلغ التعارض بين هذا وبين الفكرة الدولية التي يتجه إليها العالم الآن.
ويطلب في كل مادة بيان المنهج المثالي الذي يقترحه الباحث فيها ومبلغ اتفاقه مع المناهج المقررة الآن فعلا في بلاده.
وقد وصلت إلى الإدارة الثقافية كتب كثيرة تتضمن آراء ومقترحات مختلفة في تلك الموضوعات وهي تعمل في تنسيقها بطريقة تسهل عرضها على المؤتمر وكان موعد تلقي هذه الردود قد انتهى ولكن رئى مده إلى منتصف يونية الحالي نظرا لحالة بعض البلاد النائية
معرض الكتب والأدوات:
وفي خلال المدة التي يجتمع فيها المؤتمر الثقافي، وفي البلد الذي يكون الاجتماع به (وسيكون في لبنان ولم يعين بعد) يقام معرض للكتب المدرسية المؤلفة في مواد الدراسة المشتركة والتي هي موضوع نظر المؤتمر وللوسائل العملية لتعليم فروع اللغة العربية المختلفة ووسائل الإيضاح لمادتي التاريخ والجغرافيا كالمصورات والمجسمات والأجهزة التي من صنع الأفراد ودور النشر والشركات
وتقدم نسختان من الكتب واثنان من الأدوات للإدارة الثقافية قبل منتصف يولية القادم.
مؤتمر الآثار العربي:
وقد استقر الرأي على عقد مؤتمر للآثار في البلاد العربية بسوريا (أحد بلدانها ولم يعين بعد) في 23 أغسطس القادم
وقد وجهت الدعوة إلى الحكومات العربية لكي تعين ممثليها الرسميين الذين سيمثلونها في هذا المؤتمر والمفهوم بوجه عام أن هذا المؤتمر سيتناول بالبحث أسباب التعاون فيما يتعلق بالشئون الأثرية وتنظيم عمليات التنقيب عن الآثار وترتيب المتاحف.
رحلة إذاعية:
كان مكتب الإذاعة البريطانية بالشرق الأوسط قد رأى أن يقوم بتسجيلات ثقافية وموسيقية في بعض البلاد العربية إلى جانب ما يقوم به من هذه التسجيلات في مركزه بالقاهرة لتذاع في برنامج محطة لندن للإذاعة العربية.
وفي الأسبوعين الماضيين قام بهذه الرحلة الثقافية الفنية الأستاذ يحيى شرارة مدير القسم العربي بالإذاعة البريطانية والأستاذ إيفان جست ممثل محطة لندن في الشرق الأوسط وهو ابن الأستاذ جست المستشرق المعروف وصاحب كتاب (ابن الرومي - حياته وشعره) ومما يذكر استطرادا ان هذا الكتاب موضوع باللغة الإنجليزية ولم يترجم إلى العربية وقد أثبتت به نصوص الشعر باللغة العربية. وكان مع الأستاذ يحيى والأستاذ إيفان موظفون آخرون وآلات للتسجيل وقد قصدوا أولا إلى عمان عاصمة شرق الأردن حيث سجلوا أحاديث لبعض الأدباء هناك منها (الأدب في شرق الأردن) و (نهضة الشعر الحديث في شرق الأردن) ومما وقفنا عليه أن دعائم هذه النهضة الشعرية هم الشباب الذين يتابعون قراءة ما يصدر في مصر من الصحف والمؤلفات بشغف ويتأثرون بها وهم يغشون مجلس جلالة الملك عبد الله الذي يطارحهم الأشعار ويناقلهم الأحاديث الأدبية ومما سجلته إذاعة لندن في شرق الأردن كلمة لجلالته بمناسبة عيد استقلال شرق الأردن
ثم قصدوا بعد ذلك إلى بغداد فقاموا بتسجيل أحاديث، منها (الصحافة في العراق) و (المرأة والمجتمع العراقي) و (البترول في العراق) و (مجموعة من الأشعار يختارها ويلقيها ناظموها) وبين هؤلاء الشعراء الذين القوا ما اختاروه من أشعارهم شاعرات عراقيات تألقن هناك في ميدان الشعر منهن الآنسة عاتكة الخزرجي والآنسة نازك الملائكة.
وسجلوا مجموعة كبيرة من الأغاني والموسيقى وقد روعي في هذه المجموعة أن تمثل الفن العراقي القديم الذي يقوم على الأغنيات القديمة كالتي يكثر فيها ترديد (جانم ياللي) كما تمثل الفن العراقي الحديث الذي تغنى فيه الأناشيد واِلأشعار الحديثة أما الموسيقى فلا تزال في العراق عربية شرقية لم تتغلغل فيها نزعة التفرنج الموسيقى على الرغم من شيوعها في موسيقى الأفلام المصرية الطاغية على السوق هناك والفلم العراقي لم يولد بعد وهناك شركة أجنبية تحاول إنتاج أفلام عراقية ولا يقدر لها النجاح لأن اللهجة العراقية غير مفهومة تماما في خارج العراق والاستهلاك المحلي لا يكفي ولست أدري لم يقال بعدم نجاح
هذه الأفلام ان أنتجت باللغة العربية!
(العباس)
البريد الأدبي
تحقيقات تاريخية:
بين يدي ديوان (صردر) طبعة دار الكتب المصرية بالقاهرة (1934) في الصفحة الرابعة وفي السطر الثاني هذا البيت من الشعر:
جيوش من الأقدار تفنى عُداته
…
بلا ضرب إيثاخ ولا طعن أشناس
وفي الحاشية رقم (2)(إيثاخ وأشناس كذا بالأصل ولعل الأولى (إثباج) جمع (ثبج) وهو بين الكاهل إلى الظهر والثانية لم نوفق إلى مراد الشاعر منها. وصحة البيت:
جيوش من الأقدار تفنى عُداته
…
بلا ضرب إيتاخ ولا طعن أشناس
وإيتاخ وأشناس كلاهما من مشاهير قواد المعتصم الذين ابلوا احسن البلاء في حروب الروم وفتح عمورية (222هجرية - 224) وضربت بقيادتهم وشجاعتهم الأمثال.
قال الطبري: كان على مقدمته أشناس ويتلوه محمد بن إبراهيم وعلى ميمنته إيتاخ وعلى ميسرته جعفر بن دينار بن عبد الله الخياط صفحة 264 الجزء السابع.
قال ابن الأثير: وفي هذه السنة 223 هجرية خرج توفيل ابن ميخائيل ملك الروم إلى بلاد الإسلام وأوقع بأهل زبطرة وغيرها وكان سبب ذلك ان بابك لما يضيق الأفشين عليه واشرف على الهلاك كتب إلى ملك الروم يعلمه إن المعتصم قد وجه عساكره ومقاتليه إليه حتى وجه خياطه يعنى جعفر بن دينار الخياط وطباخه يعنى إيتاخ ولم يبق على بابه أحد فإن أردت الخروج فليس في وجهك أحد يمنعك.
أحمد رمزي
على هامش كتاب (دفاع عن البلاغة):
سيدي الأستاذ العقاد:
لو لم تكن حبسة المرض قد حجبت الأستاذ الجليل أحمد حسن الزيات لجعلته الخصم والحكم في كلمتي هذه ولسرني منه أن يرميني بالدواة والقلم والرسالة ولكن لأمر ما لجأت إليك أيها الأستاذ الكبير وأنت عندي شيخ النقد النزيه وعصارة الأدب في هذا العصر.
قرأت كتاب (دفاع عن البلاغة) للأستاذ أحمد حسن الزيات فأكبرته ووجدت له شأنا أعظم
من شأن غيره من مؤلفات البلاغة وعز على أن يأتيه النقص من أحد جوانبه ضنا بأدب الزيات أن يعتوره غبن في الأجيال المقبلة.
قال الأستاذ - نفعنا الله بعلمه - في كتاب دفاع عن البلاغة صفحة 72 المطبوع سنة 1945 ما يأتي:
(إن بلاغة التوراة والإنجيل في العبرية لا مساغ للشك فيها ولكنك تقرأهما في العربية فلا تجد أثرا لهذه البلاغة ذلك لأن الذين ترجموهما إلى لغة القرآن لم يكن لهم بآدابها علم فوضعوا لفظا مكان لفظ ولم يضعوا أسلوبا مكان أسلوب فجاءت الترجمة موضوعية عجماء لا تشبه لغة من لغات الناس في لون ولا طعم ولا شكل.) انتهى
يشعر الأستاذ الجليل بقوله هذا أن الإنجيل قد كتب باللغة العبرية والإنجيل مكتوبات متى ومرقس ولوقا ويوحنا وربما تناول أيضاً باقي أسفار العهد الجديد باليونانية ومعناه بشارة أو خبر مفرح.
والنصرانية تعتبر الإناجيل الأربعة سندا تاريخيا تغترف منه براهين تاريخية لتأسيسها ونظامها الداخلي وما كانت الأناجيل كتاب بلاغة في العبرية عند اصل وضعها.
فإن متى صاحب السفر الأول من الإنجيل قد كتب سفره ما بين سنة 44 - 50م بلغة التخاطب الشائعة في عهد المسيح بين يهود فلسطين وتلك اللغة هي السورية الكلدانية أو الآرامية
والإنجيل الثاني ينسب إلى مرقس وعلماء آباء النصرانية مجمعون على إن مرقس كتب في رومية للرومانيين تعاليم بطرس الرسول وكتب باللغة اليونانية بعد سنة 62م.
والسفر الثالث من الإنجيل يعزى إلى لوقا وقد كتبه في رومية زهاء سنة 62م باللغة اليونانية أيضا.
أما السفر الرابع من الإنجيل فقد كتبه يوحنا في أواخر القرن الأول من الميلاد يوم كان في جزيرة باطمس ويروى في أفسيس وقد اتخذ اليونانية أداة لكتابته.
يظهر مما سبق أن الأناجيل قد كتبت في غير العبرية ولم تترجم من العبرية إلى العربية. أما بلاغتها في العبرية بعد أن ترجمت إليها فمسألة ليس من السهل الجزم بها ولا يتأتى لمن يجهل العبرية أن يتهجم على مثل هذا الشأن
عندما يتناول القارئ قطعة للأستاذ الجليل أحمد حسن الزيات يحسب أن أمه كبيرة تقمصت فردا واحدا؛ فكان ما ينفحنا به قلمه يمثل لنا أن جماعة عديدة من أمراء الكتاب وقادتهم، يعملون الفكر، ويسدون المنهج لإخراج الكلمة، فيقدرون لكل عبارة قدرا، ولا ينشرون حرفا قبل أن يعرضوه على مقاييس محكمة من فصاحة في اللفظ، وبلاغة في المعنى، وشمل للحقائق؛ أما القطعة التي سبقت الإشارة إليها من كتاب دفاع عن البلاغة صفحة 72 فقد خرجت عن طريقة الزيات إلى طريقة من لا أدري.
فهل تجيز أيها الأستاذ العقاد - شملنا الله بعدلك - قوله إن بلاغة التوراة والإنجيل في العبرية لا مساغ للشك فيها. ولكنك تقراهما في العربية فلا تجد أثرا لهذه البلاغة؛ ذلك لأن الذين ترجموها إلى لغة القران لم يكن لهم بآدابها علم. . .؟
أفلم يكن للشيخ إبراهيم اليازجي علم بآداب اللغة العربية؟ أو ليست أسفار العهد القديم والعهد الجديد، المنسوبة إلى الآباء اليسوعيين في بيروت، من تعريب الشيخ إبراهيم اليازجي؟ فقد نشرت خبر ذلك مجلة الأجيال الجزء الثاني من السنة الثانية؛ ونشرته جريدة الأيام التي كانت تطبع في نيويورك في العدد الصادر بتاريخ 16 شباط سنة 1899؛ ونشريه جريدة البشير في العدد الصادر بتاريخ 16 حزيران سنه 1881؛ وأعادت نشرة مجلة الضياء في أربع صفحات بتاريخ 15 إبريل سنة 1899؛ وذكرته الكتب المدرسية المعنية بتاريخ الآداب العربية.
ومما يشهد به التاريخ أيضاً أن فارس الشدياق قد ترجم العهدين الجديد والعتيق بعناية الجمعية الإنجليزية ونفقتها؛ وطبع العهد الجديد عن هذه الترجمة سنة 1851 - ثم طبع العهدان أيضاً سنه 1857 وذلك في مدينة لندن.
أما النسخة التي قام بترجمتها مرسلو الأمير كان في بيروت فقد وقف عليها المعلم بطرس البستاني وكرنيليوس فإن ديك. (ومن الذين كان الاعتماد عليهم في ضبط الترجمة على قواعد اللغة العربية وفصاحتها الشيخ ناصيف اليازجي اللبناني والشيخ يوسف الأسير الأزهري.) راجع كتاب مرشد الطالبين صفحة 27 - المطبعة الأمريكية بيروت.
فهؤلاء جميعا كانوا ومازالوا يعدون من أولى العرفان الراسخين في علوم العربية وآدابها.
فنرجوا منك ليها الأستاذ العقاد ان تكشف لنا عن هذه الحقيقة وتعلل قول الأستاذ الزيات
أمير البلاغة وصاحب الدفاع عنها بكلمة إنصاف ترد الفضل لذوي الفضل والسلام
(نابلس)
أبو بكر النمري
مولانا أبو الكلام وترجمة القران:
جاء في العدد 722 من الرسالة تحت توقيع الجاحظ ما نصه: (فسر الزعيم أبو الكلام قدرا من القرآن الكريم تفسيرا علميا عصريا، وترجم القرآن كله إلى اللغة الإنكليزية إلى آخره)
والحقيقة أن مولانا أبو الكلام أراد قد فسر القرآن الكريم بالغة الأردية تفسيرا علميا عصريا ولكنه لم يترجم القرآن إلى اللغة الإنجليزية كما ذكر الجاحظ لأنه لا يعرف هذه اللغة ولا يفهمها. أما ترجمة القرآن من العربية إلى الأوردية فهي أحسن التراجم وأصدقها في هذه اللغة.
والسلام عليكم أول وآخرا.
(الكويت)
عبد الحميد يوسف القناعي
القصص
الوالدان
للكاتب الألماني رودولف كرودزر
بعد أن أحيل القاضي هجونوير إلى المعاش اشترى قطعة أرض في الريف واعتزل حياة المدينة التي كانت مسرحا لآلامه وهمومه حيث توفيت زوجتهه قبل الحرب، كما ان ولده الوحيد أنتظم في سلك الجندية وذهب إلى الميدان دون رجعه ولم يعد يؤنسه في وحدته الآن إلا خادمة العجوز.
مضت عشرون عاما وبدا الماضي يمحي بصورة المحزنه من مخيلة الرجل ونفض عنه أعوام مضت قاسي فيها الأهوال ولكن الماضي جاء يقرع بابه بقوة يلح في الدخول.
كان ذلك في يوم من أيام أغسطس وكان القاضي واقفا في حديقة داره بين الأوراد الجميلة التي يتعهدها بنفسه حين جاءته الخادم ومعها بطاقة باسم رجل إنجليزي يدعى جيمس مارلو من جلوسستر. أما حرفته فلم يكن لها ذكر في البطاقة.
لم يعرف الرجل من يكون ضيفة وذهب إليه في حجرة الاستقبال فتقدم الإنكليزي في أدب جم واحترام زائد وهو يقول في همس بأنه سعيد لتشرفه بمعرفة والد الكابتن فرانز هجنوير؛ فدهش القاضي. من أين عرف ذلك الرجل اسم والده؟ ولما أخبره هجنوير بأن ابنه قد توفى في الحرب وكست وجه الرجل الغريب السبعيني الطويل القامة موجه من الحزن والأسف لأنه شعر بآلام الذي ارتسم على وجه القاضي لتجديده تلك الذكرى الحزينه اعتذار من ذلك ثم أوضح شخصيته. فهو والد ضابط إنجليزي يدعى هارلو مارلو، وإن كان فرانز قد مات في الحرب بطلا شهيدا، إلا أن هاري مات بعد أن حوكم عسكريا لما أبداه من جبن أمام العدو وبعدما جردوه من رتبه الشريفة.
قام الرجل العجوز المتهدم وقطع الغرفة جيئة وذهابا وهو يشرح كيف استنكر ذلك من ولده وإلا لغدا أشرف عائلة مارلو في التراب. حاول أن يعرف السبب الذي حوكم ابنه من اجله، لانه عاد منفردا إلى فرقته بينما كان بقية جنوده يقاتلون في الميدان؟ لقد ظل أمر عودته سرا مكتوما بينه وبين نفسه ولم يكتشفه أحد.
هذه هي المشكلة. انه يعرف ولده جيدا فهو شجاع إلى أقصى حدود الشجاعة، ولا يظنه
على ذلك الجبن والخور. جعل يبحث عشرين عاما ليقتنع بان ولده لم يفعل ذلك إلا لسبب جوهري عظيم، ولكنه كان يقابل دائما من الناس بالشفقة والرثاء لتقدم سنه وبإجابات كلها سلبيه؛ فلم يرتح إلى جواب منها يشفى به غليل نفسه. لقد ضحى ماله وكهولته ليعرف السر ولكن دون جدوى إلى ان طرق الباب علية أخيرا فرانز هجنوير. فقد سمع اسمه من جندي إنجليزي قال بان أسيرا ألمانيا مات قبل نهاية الحرب كان دائم التحدث عن الكابتن هجونير الذي كان يقاتل في سالي في اليوم الثامن عشر من أكتوبر عام 1916 في معركة السوم.
حينئذ تذكر القاضي بأن خطابا غربيا كان قد وصلة من ابنه ذلك الحين فقام واتى به كان مؤرخا في التاسع عشر من أكتوبر عام 1916 في بلدة سالي وقرا مارلو الخطاب وكان فيه:
والدي العزيز
اكتب إليك الآن لا لأذكر لك شيئا عن شجاعتي في الميدان أو كيف استولينا على حصن من حصون العدو بل لأطلعك اليوم على حادث غريب. فلقد هاجمنا الأعداء وتمكنا من التقدم في صفوفهم. وكان ضابطهم شابا شجاعا من فرقة جلوسستر جعل يقاتل حتى نفذ منه الرصاص، ولما وجدته اعزل هجمت علية وكدت اقتله إلا أن أحد جنوده دفعني على الأرض؛ وحينئذ تيقنت باني سأموت وأغمضت عيني وأنا أسلم أمري إلى الله. إلا أني حين فتحتهما وجدت ذلك الضابط وقد ألقى بسلاحه ولم يرغب في قتلي وأنا فاقد الحيلة. ولما حاول أحد جنودي قتله من خلفه أنقذته وتمكنت أن أدعه يفر من الأسر. وبذلك خنت زملائي وجنودي ووطني كما فعل هو من قبل. . .)
وضع الرجل الإنجليزي الخطاب بيد مرتعشة وحل الصمت بينهما طويلا ثم قفزت تلك الصورة أمام القاضي. ولده يكاد يشرف على الموت لولا شفقة ذلك الضابط الإنجليزي ورحمته له. كما تراءت له خيانة ولده ومساعدته لعدوه على الفرار. واختلط كل شئ في رأسه وسط ذلك الظلام الذي بدا يغمره الحجرة التي لا ينيرها سوى تلك الذؤابات الباقية من الشموع.
كان للجو الغريب الذي عاش فيه الرجلان في تلك اللحظة كل الرهبة. فها هو الخطاب
ملقى على المكتب وقد اصفرت أوراقه، وها هي الذكريات تتعاقب على مخيلتهما؛ وهاهما ولداهما قد عادا إلى الحياة وارتسمت صورهما واضحة أمام عينهما. صورة البطولة والشجاعة والإقدام والشفقة والرحمة والخيانة العظمى.
شعر الرجلان بأنهما يجهلان كل شئ عن الحرب مع أنهما عاشا في لهبها أربعة أعوام. ولكن هل هذا الذي حدث يعد عملا شريفا أو تشتم منه رائحة الجبن والخيانة حقا؟ هل للحياة تلك المنزلة الغالية في الميدان حتى أن ضابطا يلقي بسلاحه حين يجد عدوه فاقد الحيلة أمامه. . . إنهما لا يعرفان شيئا عن قانون الإنسانية والشباب والحياة. أما القاضي فكل ما يذكره الآن هي تلك الكلمات الأخيرة من خطاب ولده.
(لقد ارتكبنا خطا واحدا بأن ألقينا سلاحينا).
انتشر الظلام في الحجرة ولم يقو أحدهما على إنارتها لأن تلك الذكريات البعيدة وذلك الصوت الذي يتكلم من وراء السنين يجب أن يهيأ له الجو الصامت المظلم حتى تسبح روحهما في ذلك العالم حيث فلذتا كبديهما.
امتدت خيوط القمر المكتمل قرصة وأنارت أجزاء من الحجرة كما نبح الكلب وتمايلت أغصان الشجر إلا إنهما لم يشعرا بكل ذلك، بل كان علمهما الذي يعيشان فيه بعيدا حيث الظلام النار والدخان والدماء.
وأخيرا قال مارلو. أذن لم تكن تلك الحياة التي وهبها الكابتن هجنوير إلى ولدي بل كانت الطريق إلى الموت بمحض إرادته، كما أن حياة هجنوير لم تكن إلا قرضا سرعان ما استعادته قوة غاشمة.
فقال القاضي: نعم هو ذلك الأمر
ولم يشعر إلا وهو يضع في يده الرجل الذي أمامه وكأنهما صديقان قديمان عزيزان. وعاد يقول لعل هناك شيئا من العدل يغشى في ذلك الحادث. العدل الذي لا نعرفه ونحن في دنيانا، والذي يشعرون به هم في ميدان القتال.
فقال مارلو: وتلك المحاكمة. أكانت عادلة؟
فقال القاضي: أما عن المحاكمة فإن ولدك هو الذي حكم على نفسه ولا يدري أحد ان كانت عادلة أو ظالمة
وكان الرجل قد اقتنع بذلك الرأي. فنهض واقفا وهو يطيل النظر في وجه القاضي الهادئ.
كان السكون يعم الكون في الخارج، والنسيم يهب رقيقا، ورداء الليل الأسود يغطي الطبيعة فيزيد أسرارها رهبة؛ ولمح القاضي بعض التغير يطرأ على وجه ضيفة. وكأنه شعور الراحة بعد طول عناء.
وأخيرا قال القاضي: أنا لم أفهم لم لم يصرح مارلو بالأمر حين حوكم فهو محق بعض الحق فيما فعل.
لم يشعر الرجل الإنكليزي إلا وهو يتناول الخطاب ثانية، وأدرك القاضي للتو الكلمات التي يقرؤها الرجل فإذا به يهمس بها تلك الكلمات العذبة الصادرة من قلب يشعر بما للحرب من أهوال وفظائع، وكان نيرانها قد اشتعلت في أفق يومهما ذاك. كلمات ولده التي تقول (لم أر في حياتي من هو أكبر إقداما وأكثر شجاعة من ذلك العدو الشاب).
كفى مارلو تلك الكلمات وليحاكموه ما شاءوا. كفاه فخرا شهادة مثل هذه من عدوله لدود. عاد السكون بينهما إلا أن القاضي قال:
إنه لمن دواعي سروري حقا أن أضع بين يديك ما يزيل عنك وحشة وشكا مريبا عشت رحمتهما عشرين عاما كاملة، ولا أظن أحدا يمكنه أن يتهم ولدك بالجبن والخوف بعد الآن. فلمعت عينا الرجل برغبة حادة شعر بها القاضي فإذا به يقول:
لتأخذ ذلك الخطاب ولتفعل به ما تشاء.
فما كان من الرجل الإنجليزي إلا أن نهض واقفا وأمسك بالخطاب ثم أدناه من لهب الشمعة فاشتعل وسرعان ما تساقط الرماد. حدث ذلك وهما باقيان على صمتهما ونور القمر يرافقهما.
ولم يشعر إلا ويد كل منهما في يد الآخر. فقاما في صمت إلى الحجرة المجاورة وقد اشتبكت ذراعاهما. وأدار النظر فيها فقابلتهما صورة الكابتن هجنوير بقامته المديدة وابتسامته العذبة.
حسن فتحي خليل