المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 727 - بتاريخ: 09 - 06 - 1947 - مجلة الرسالة - جـ ٧٢٧

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 727

- بتاريخ: 09 - 06 - 1947

ص: -1

‌كتابان قيمان

للأستاذ عباس محمود العقاد

سألتني مجلة (المصور) في أبان الحرب العالمية: ما هي الاتجاهات التي ستغلب على الحركة الفكرية في العالم بعد الحرب الحاضرة؟ فكان رأي أن الحركة الفكرية في العالم كله ستتجه بعد نهاية الحرب إلى وجهتين متناقضتين في الغاية متفقين في السبب، وهما النزعة الروحية الدينية، والنزعة الجنسية الحسية. وهما كما قدمت متناقضتان في الغاية ولكنهما متفقتان في السبب، لأنهما ترجعان إلى القلق الذي يعتور النفوس البشرية في أبان الزلازل العنيفة، ولم يزل من داب النفوس البشرية أن تعالج قلقها بطمأنينة الروح وثقة العقيدة، أو بإغراق الحس في المتعة الجسدية.

وندع العالم وحركاته الفكرية بعد الحرب لأنها مما يطول شرحه ولا يجزئ في بيانه مقال واحد.

ولكننا نلتفت حولنا في مصر فنرى مصداق ذلك في الوجهتين المتناقضتين معاً لهذا السبب بعينه. فأما النزعة الحسية فيكفى أن ينظر القارئ إلى الصور العارية التي تنشر في الصحف لغير مناسبة ليستدل منها على ما وراءها من النوازع النفسية، فإن شاء أن يتجاوز ذلك إلى قراءة الموضوعات التي تقترن بتلك الصور أو الروايات والأقاصيص التي تدور عليها علم أن المصدر واحد والتعبير بالحروف والكلمات يوافق العبير بالخطوط والأشكال وأما النزعة الروحية فهي واضحة في انتشار الجماعات الدينية والعناية بالبحوث التي تنصرف إلى حقائق الأديان والعقائد. وأمامنا منها الآن كتابان قيمان هما اللذان تخصهما بهذا المقال، وهما كتاب (فصوص الحكم) لابن عربي، وكتاب (الوجود) للأستاذ محمود أبو الفيض المنوفي. وكلاهما بحث عميق في حقيقة العقيدة وسر الوجود على الإجمال.

1 -

فصوص الحكم:

وقد قام على تصحيح كتاب الفصوص ومراجعته والتقديم له الدكتور أبو العلا عفيفي أستاذ الفلسفة بجامعة فاروق الأول بالإسكندرية.

والدكتور أبو العلا عفيفي عالم ثبت متمكن من موضوعه. يعجب غاية الإعجاب بابن عربي صاحب الكتاب، ولكن إعجابه به لا ينسيه أمانة العرض وإقرار الحق في نصابه.

ص: 1

فهويذ كرما للمؤلف وما عليه، ويقدره بميزاته الصحيح فيقول (إنه فليسوف آثر أن يهمل منهج العقل الذي هو منهج التحليل والتركيب ويأخذ بمنهج التصوير العاطفي والرمز والإشارة والاعتماد على أساليب الخيال في التعبير. ولهذا لا أرى من الصواب إن نصف مذهبه بأنه مذهب فلسفي بحت إذا اعتبرنا التفكير والترابط المنطقي أخص صفات الفلسفة، ولا بأنه مذهب صوفي بحت إذا اعتبرنا الوجدان والكشف أخص ميزات التصوف، ولكنه مذهب فلسفي صوفي معاً، جمع فيه بين وحدة التفكير وقوة الوجدان) ولم ينس الأستاذ أن يشير إلى الكلام ناقديه بل مفكريه، ولا أن يشير إلى كلام المدافعين عنه والمتأولين لأحاجيه وألغازه، ولكنه كان اقرب إلى جانب الرضا منه إلى جانب السخط، ولو لم يكن كذلك لقال يه كما قال الذهبي انه (انعزل وجاع وفتح عليه بأشياء امتزجت بعالم الخيال والخطرات والفكرة وأستحكم ذلك حتى شاهد بقوة الخيال أشياء ظنها موجودة في الخارج، وسمع من طيش دماغه خطاباً اعتقده من الله. ولا وجود لذلك أبداً في الخارج).

وقد صدق الذهبي كما صدق الدكتور أبو العلا. ولكن الذهبي كان في صدقه اقرب إلى جانب السخط منه إلى جانب الرضا. ولا بد من الموازنة بين الجانبين.

ونحن مع اعتقادنا إن ابن عربي لم يكن بالفيلسوف المحض ولم يكن بالتصرف المحض، ومع إعجابنا ببعض سبحانه الروحية وشعورنا يصدق ما وصف به من طيش الدماغ - نعود فنقول إن الفلاسفة المتجردين للفلسفة في هذا الزمان لم يبلغوا فوق مبلغه من التفرقة بين اله العبادات وإله الحقيقة المجردة، وليس رأي (برادلي) الذي يعرفه الدكتور عفيفي جيد المعرفة من جملة أقواله في التفرقة بين الحقائق والمظاهر إلا صورة جديدة من رأي ابن عربي في هذا الكتاب بعينه وهو كتاب الفصوص.

ومهما يمكن شان ابن عربي بين الإعجاب والانتقاص فالحقيقة التي لا مراء فيها أن مذهبه مذهب يدرسه الباحثون ولكنه لا يصلح لجمهرة المتدينين. وحسبك أن رجلاً مثل ابن خلدون في سماحة عقله وسمة نظرة يقول بإحراق كتبه وكتب أمثاله ومحو أعيانها دفعاً للمفسدة. واحسبه لو عاد إلى مصر في هذه الأيام لما نجا من شدة المصريين في المحافظة، ولا جرم من عطف الفكاهة المصرية. فقد أوشك قديماً أن يقتل في مصر لو لم ينقذه الشيخ أبو الحسن الجائي الذي أبت عليه سليقة النكتة أن ينقذه من لذعاتها. فسأله: كيف يحبس من

ص: 2

حل منه اللاهوت في الناسوت! فقال الرجل وهو لا يصدق بالنجاة: يا سيدي! قلت شطحات في محل السكر. ولا عتب على سكران!)

وليس العصر عصر إحراق الكتب أو تفنيدها بلغة النار والماء؛ ولكنه العصر الذي يحاسب الكاتب بحساب النقد والبرهان. ومتى حوسب ابن عربي بهذا الحساب ففيه ما يهمل إهمالا كالإحراق والإغراق، وفيه ما يفيد ويمتع العقول والقرائح. وخير ما يفيد من هذا الكتاب تفسيره لوحدة الوجود؛ لأنه اصلح من تفسيرات أخواته في هذه العقيدة ممن يقولون بتأليه الكون في جميع مظاهره المادية. فليس الوجود عنده إلا الوجود الحق الذي تحجبه هذه المظاهر المادية، وهو بهذا يقترب كل الاقتراب من عقيدة التوحيد.

2 -

الوجود:

والكتاب الثاني الذي سماه السيد أبو الفيض المنوفي (بالوجود) هو الزم الكتب لمن يتوخى البحث العصري في وحدة الوجود وفي حقيقة الوجود على الإجمال.

وهو كتاب مدروس أو (مخدوم) كما يقال في اصطلاح المؤلفين. لم يصدر باللغة العربية كتاب يحوي ما حواه في هذا الموضوع، ولم يكن معول المؤلف فيه على المراجع العربية وحدها بل لعل اعتماده على مراجع الفلسفة الأوربية بين قديمها وحديثها أظهر من اعتماده على مراجعنا المعهودة. لأنه قصد فيه إلى إقناع المحدثين الذين يلهجون بفلسفة العصر وأساليبه ويعرضون عن القديم لقدمه من غير بحث فيه ولا اطلاع عليه.

وأجمل ما في الكتاب - وليس هو بالنسق النادر فيه - كلامه عن عالم العناصر الذي هو العالم البرزخي بين المادة والقوة، فمن هذا العالم البرزخي نتحقق (أن الشيء المنظور يتحول إلى غير المنظور ويصبح هو والفكر والروح في الخفاء سواسية. . . ولا نظن أنه يوجد فرق بين النور والقوة ألا في الألفاظ؛ لأن الطاقة يستوي فيها أن تكون إشعاعا أو حركة أو حرارة أو مغناطيس أو كهرباء أو غير ذلك، ولا فرق أيضا بين الحرارة والنور المنظور والنور غير المنظور ألا في طول الموجات وقصرها).

ومصدر الوجود كله على هذا النحو هو النور، ثم النور الإلهي وهو نشاط محض. ولا فرق بين الوجود والعدم ألا في خاصة (النشاط) الذي لا يقاس دائماً بمقياس المحسوسات. بل يتعداها إلى ما وراء الحس والعقل والخيال. . .

ص: 3

هذان الكتابان - كتاب الفصوص وكتاب الوجود - هما من مظاهر النزعة الروحية التي توازن عندنا تلك النزعة الجسدية، كما تتمثل في الصور المثيرة والأقاصيص الماجنة والشواغل الحسية، وكفى بأمثال هذه المباحث عدلا كافياً للموازنة بين النزعتين. فإنها لدليل على يقظة الجانب الرفيع من ملكات الإنسانية بين المصريين وبين قراء العربية على التعميم. وما أحوجنا اليوم إلى اليقظة في هذا الجانب الرفيع!

عباس محمود العقاد

ص: 4

‌بين أدب المرأة وأدب الرجل

للسيدة الفاضلة منيبة الكيلاني

(كاتبة هذا المقال الطريف سيدة عراقية حديثة قل في مصر نفسها من تضارعها في عمق الثقافة وسعة الاطلاع وأصالة الفكر. تلقت دروسها الثانوية في بغداد، والجامعة في بيروت، ثم سافرت إلى إنجلترا فتخصصت في التربية وعادت إلى بغداد فعينت بمدرسة الفنون البيتية. ثم رحلت مرة أخرى إلى إنجلترا في بعثة المعهد الثقافي البريطاني ورجعت بعد ذلك إلى التدريس وللأستاذة منيبة نشاط محمود في الخدمة الاجتماعية والنهضة النسوية والحركة الأدبية، نرجو أن تكون هذه المقالة فاتحة لتسجيل آثاره على صفحات الرسالة).

1 -

أدب للرجل وأدب للمرأة:

يرى الناظر في كتب الأدب وتاريخه أن الكتاب اصطلحوا على تقسيمات وأنواع للأدب نحتوها من عصور الأدب أو من خصائصه بالقدر الذي يتعلق بعرضه لا بجوهره، فقال الأقدمون منهم مثلا وجود أدب جاهلي وأدب مخضرم وأدب إسلامي، وفصلوا الأخير منه بحسب ما حكم الأمة العربية أو بحسب ما تنقلت إليه الحكومات العربية من حواضر وبلدان، فوسموا بعضه بالأدب الأندلسي، وسموا بعضه بالأدب العباسي، وغير ذلك من التسميات التي استندت في الأكثر على هذه الاعتبارات التاريخية والجغرافية المحض. وأشاح المحدثون عن مثل هذه الاعتبارات لأن الفنون الأدبية تصاع إلى العوامل التاريخية بقدر ما تؤثر تلك الاعتبارات في مباني الألفاظ واتجاه التراكيب اللفظية وإيغالها في البداوة أو قربها من الحضارة مما يجعل فنونها في الأولى متعددة الألوان والأوصاف لا يخرجها عن الرثاء والمديح والعتاب والوصف والموشحات والغزل والتشبيب إلا بالقدر الذي عرف في تلك الفترة من مدلولات الألفاظ وتحكم العادات فيها. . . أعنى لا يخرجها عن القيود التاريخية كبير فرق، بينما تنعكس الحالة انعكاساً كبيراً في ضوء الأدب نفسه، فيتفرع عن هذا ألوان جديدة هي غير الرثاء والمديح والوصف والموشحات والغزل والتشبيب. . . فهي على هذا ليست موضوعات وإنما هي فصول وأبواب وأجزاء ومباحث تدخل فيها تلكم الموضوعات دخولا ثانوياً لا أقل ولا أكثر. فمن ذلك أن ينقسم الأدب غير انقسامه الأول إلى أدب واقعي ومثالي ورمزي أو إلى أدب صوفي ومكشوف أو إلى أدب مأساة وأدب

ص: 5

ملهاة والى أدب تحليلي أو وجداني أو مسرحي، أو إلى أدب إبداع وأدب اتباع والى أدب فلسفي وقصصي، وأدب تبشير وأدب سياسة وكثير من غيرها مما يكبر عن التقسيم الأول ويطول عليه بسبب إن ذلك التقسيم صادر على سبيل الحصر وهذا صادر على سبيل الإطلاق.

وكما إن لذلك التقسيم أنصارا ومنتقدين فإن لهذا أنصارا ومنتقدين؛ وكما أن ذلك التقسيم على شدة وضوحه وتعين حدوده موضع لبعض الانتقاد ما دام يستمد فوارقه وضوابطه عن طريق التبعيض والتكتيل. . . فهو لا قبل له بما يضطلع به التقسيم الأساسي الذي يحتوي في بطونه وثناياه ألوان الأدب وأفاعيل الزمان وأشتات الموضوعات وأصناف الأبواب السالفة الذكر، ومن أجل ذلك أضحى لزاما أن يبدأ التقسيم هذا من مبدأ الأمر ليدخل في كل قسم سائر ما في هذه المقدمة وغيرها من التفاصيل، وعلى أن يكون التقسيم من الناحية الثانية معترفاً به دون جدال فما هو يا ترى؟ اهو الأدب الحزين والأدب المرح؟ أهو الأدب الجاهلي والأدب الإسلامي؟ الجواب على هذه جمعياً (كلا) بل هو - أدب المرأة وأدب الرجل - وفي اللحظة التي نقرر فيها هذا التقسيم نرى انه استوعب تقسيم الأوائل والأواخر بدون استثناء، كما انه احتوى مادة لا تنضب من عصارة الأدب، فاحتوى خصائص ينفرد بها أحد النوعين، واحتوى بالإضافة إليها ما يسود النوعين على حد سواء، فينصرف تارة إلى ما يتعلق بتراث المراة، وينصرف أخرى لتراث الرجل.

وبعد فلئن صح الأدوار التاريخية من جاهلية وإسلامية، وأدوار الحكم الإسلامي من أموي وعباسي وأندلسي، قد فرقت أنواع الأدب بعضها عن بعض، فإن تلك الأدوار ذاتها قد أثرت تأثيرات متفاوتة في الرجل والمرأة، فجاء أدبهما جد مختلف ولو في دور واحد لفرط ما أثرت عوامل الدور الواحد في كل جنس دون صاحبه، فجاء أدب المرأة منذ اقدم عصوره اصدق أنباء واكثر انطباقاً على الواقع، وتكفل أدبها بإسباغ الألوان الحسان والدقة البالغة والجمال الرفيع على أدب الرجل، وأضحى بعد ذلك يحمل راية الآباء والأنفة والشمم. وجاء أدب المرأة يشد من أدب الرجل ليجعل منه اكثر موافقة ومسايرة للزمن، وليهب نشاطه الفكري والاجتماعي، ويأخذ من الصراحة بنصيب، ومن التلميح بنصيب، مما قد لا يدركه الرجل على وجهه بعد أن أثملته الفتوح وبهرت عينيه ثروات الزمان في

ص: 6

قبضة يده يصرفها كيف أراد. وجاء أدب المرأة للعقل، وأدب الرجل للعاطفة، عندما تطيش الحلوم، وتراش السهام، ويدبر المنطق وتقبل بدوات الثأر، وتغرورق العيون من رثاء أو عتاب أو ثكل، فيعمل الرجل بعاطفته ويفكر بقلبه، وتسكت هي بفكرها وتتكلم بعقلها فتتم نقصه وتضفي على أدبه اللون القوى العتيد الذي يعوزه. وجاء أدب المرأة بعد هذا لحسن حظها فاقداً بعض الحلقات الموفورة في أدب الرجل، فليس فيه التعريض ولا رمى المحصنات الغافلات، ولم يحو التشكك ولا التجني ولا الوسواس، ولو حوى بعضها جدلا لما كانت من العمق والغور والإثم بالقدر الذي احتواه نتاجه. وجاء أدب المرأة كذلك منحدراً عن أساتيذ لم يعرفهم الرجل، فقد انحدار بعضه عن تعدد الزوجات وأحاسيسها، والطلاق وظله الثقيل، والحجاب غير الشرعي، والجهل والأمية المفروضة، وزحمة المسترخصات من الجواري والقيان المزاحمات للبيت الشريف والزوجية المقدسة، والعضل.

وجاء أدب المرأة متجهاً غير اتجاه أدب الرجل ومتأثراً بهذا العصر وفنونه وعلومه وخصائصه تأثراً غير تأثره، وهذه كلها أبحاث سنقوم على شرحها والتمثيل عليها وإثباتها في حلقات هذه السلسة حتى تستقيم منها دراسة لموضوعنا قائمة على أسس غير ما تعارفه بحاث الأدب حتى الآن.

هذه الفروق التي ذكرتها تتوفر في كل فن من فنون الشعر ولكنها أول ما تتوفر في الوصف؛ فانظروا كيف تكون.

قال الشاعر الفلاسفة أبو العلاء المعري في صباه:

عللاني فإن بيض الأماني

فنيت والظلام ليس بفان

إن تناسيتما وداد أناس

فاجعلاني من بعض من تذكران

رب ليل كأنه الصبح في الحس

ن وإن كان أسود الطيلسان

ويقول فيها وهو من رائع القول:

ليلتي هذه عروس من الز

نج عليها قلائد من جمان

وكأن الهلال يهوى الثريا

فهما للوداع معتنقان

? ثم شاب الدجى وخاف من الهج_ر فغطى المشيب بالزعفران

هذا من وحي الصبا؛ وأروع منه عندي قول جحناء بنت نصيب وقد افتر الضحى عن

ص: 7

نهار بسام وجاءت مع أبيها نصيب فأنشدت المهدى الخليفة العباسي هذا الوصف على قافية شاعر الفلاسفة ووزنه وقصيدته ومعناها:

? رب عيش ولذة ونعيم=وبهاء بمشرق الميدان

? بسط الله فيه أبهى بساط=من بهار وزاهر الجوزان

ثم فيه من ناضر العشب الأخضر وتزهو شقائق النعمان

? مده الله بالتحاسين حتى=قصرت دون طوله العينان

? حلفت حافتاه حيث تناهى=بخيام في العين كالظيلمان

? زينوا وسطها بطارمة مث_ل الثريا يحفها النسران

? ثم حشو الخيام بيض كأمثا_ل المها في صرائم الكثبان

? يتجاوين في غناء شجي= (أسعداني يا نخلتي حلوان)

? فبقصر السلام من سلم الله=وأبقى خليفة الرحمن

? ولديه الغزلان بل هي أبهى=عنده من شوارد الغزلان

? يا له منظراً ويوم سرور=شهدت لذتيه كل حصان

أحاط المعري ما وصف بتعقيد، وأشاح عما يصف إلى ما يصوغ به الوصف، وجاءت هذه الشاعرة بالقول سافراً، ووضعت فيه تفاصيل البناء، واقتبست غناء المغنيات، ودعت للخليفة، ولم يفتها في وسط هذه الفتنة أن تجعل اللذتين لذة المناظر ولذة السرور مقصورة على الحصان من النساء فأفردت بذلك غريماتهن من المسترخصات على أنهن لهو وعبث ومتاع، فلا لذة لهن من هذا القبيل. أليس هذا بعد الذي أوضحت اصدق أنباء واكثر بياناً وتبياناً؟

وليس هذا في مجال الوصف فقد يصف الشاعر المفلق الذي طبقت شهرته الآفاق مشهداً محزناً فتفوقه بذلك شاعرة ليست لها شهرته وليس لها طول باعة.

هذا الشاعر ابن الرومي، والمشهد المحزن هو موت ولده، والشاعرة امرأة لا اسم لها، ومنظرها المحزن موت ولدها في سفرها معه.

هذا ابن الرومي يقول وأروع ما يقول هو:

توخى حمام الموت أوسط صبيتي

فلله كيف اختار واسطة العقد

ص: 8

ألح عليه النزف حتى أحاله

إلى سفرة الجادي عن حمرة الورد

وظل على الأيدي تساقط روحه

ويذوي كما يذوي القضيب من الرند

ويناجيه فيها بقوله:

أرى أخويك الباقيين كليهما

يكونان للأحزان أورى من الرند

إذا لعبا في ملعب لك لوّعا

فؤادي بمثل النار عن غير ما قصد

وتقول هذه المرأة:

? ما كان إلاّ أن هجعت له=ورمى فأغفى مطلع الفجر

? إذ راعني صوت هببت به=وذعرت منه أيما ذعر

? وإذا منيته تساوره=قد كدَّحت في الوجه والنحر

? وإذا له علق وحشرجة=مما يجيش به من الصدر

? والموت يقبضه ويبسطه=كالثوب عند الطي والنشر

? فدعا لأنصره وكنت له=من قبل ذلك عُدة النصر

? فعجزت عنه وهي زاهقة=بين الوريد ومدفع السحر

? فمضى وأي فتى فجعت به=جلت مصيبته عن القدر

? لو شاء ربي كان متعني=بابني وشد بأزره أزري

? بُنيت عليك بُني - أحوج ما=كنا إليك - صفائح الصخر

أي إعجاز هذا؟ لقد وصفت الحشرجة والنزع والوفاة وعادت وهي أشد ما تكون لوعة إلى صوابها وعرفت أن ربها اختار لها هذا فكانت اصدق أنباء وكانت أكثر دقة وكانت قصيدتها للعقل والإيمان.

2 -

صراحة أدب المرأة:

إن الصدق في الأنباء والدقة في التعبير إنما يجيئان من توفر الإنسان على ما هو في سبيله من الشان والنظر إليه من ناحية الواقع المجرد، وذلك حال المرأة في تلك العصور، فإن انكبابها على ما هي بسبيله، وقصورها عن مجاراة الرجل في مجال نشاطه خارج البيت، أتاح لها أن تتوفر على الموضوعات التي تضطلع بها غير توفره، وتصدر فيها عن حكمة وروية غير حكمته ورويته التي أبطرتها كثيرا التوسعات العسكرية، والفتوحات، وسلطان

ص: 9

الحكم والظفر، وهكذا كان الرجل يفتقر إلى مقطوعات من أدب المرأة تعمر بها جهاته وتكفكف غلواءه؛ فلقد وجدت السيدة زبيدة زوج الرشيد لزاما عليها أن توصي علي بن عيسى وقد أمره الأمين بالشخوص لقتال المأمون بالوصية التالية التي تعتبر وثيقة خطيرة في السياسة فضلا عن كونها قطعة رائعة من الأدب فتقول له:(يا علي، إن أمير المؤمنين وإن كان ولدي وإليه انتهت شفقتي، فإني على المأمون منعطفة مشفقة لما يحدث عليه من مكروه وأذى، وإنما ولدي ملك نافس أخاه في سلطانه فاعرف لعبد الله - المأمون - حق ولادته واخوته ولا تجبهه بالكلام فإنك لست نظيراً له، ولا تقتسره إقتسار العبيد، ولا توهنه بقيد أو غل، ولا تمنع عنه جارية أو خادماً، ولا تعنف عليه في السير، ولا تسايره في المسير، ولا تركب قبله، وخذ بركابه إذا ركب، وإذا شتمك فاحتمل منه).

بهذا القدر من الحدود وضعت السيدة زبيدة قائد جيش ولدها الأمين الذاهب لمقاتلة المأمون غريمة على العرش. . . وبهذا الخطاب الرائع كبحت سورة نفسه وأعلنت أدبها المتجاوب الأجزاء المتماسك الاطراف، واعربت عن سموه. بهذا الأمر السامي أثبتت إن أدب المرأة للعقل لا للعاطفة، وانه صادق في الأنباء، وبهذه الوصية الدقيقة المحددة وضعت سياسة العقيدة التي تدين بها بقولها (وان كان ولدى، واليه انتهت شفقتى، فإني على عبد الله منعطفة مشفقة لما يحدث عليه من مكروه. . .

وليست السيدة زبيدة وحدها ذات المقام المرموق في السياسة والأدب، ولا عقيلات الخلائف أو بنات القصور، بل قد يتوفر هذا الضرب من الكلام الحكيم والرأي الثاقب في فتاة من عامة الناس لا صلة لها ببلاط الملك ولا سلطان الحكم مما يؤيد أن المسألة إنما هي أدب المرأة على أشد ما يكون الإطلاق شمولا.

قصة امرأة من الخوارج أرسلت أسيرة للحجاج بها وهي تعرف من ستقابل، وقيل لها وهي في طريقها إليه:(أي أم علقمة والله لو وافقته في المذهب لنجوت من أذاه) فقالت: (قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين).

وجاءت ديوان الحجاج وقد استحال كل ما فيه إلى وجوم، ووقفت وهو جالس فأنتهرها قائلاً:(لقد خبطت الناس بسيفك يا عدوة الله خبط العشواء). فقالت: (لقد خفت الله خوفاً صيرك في عيني أصغر من ذباب) وكانت منكسة. فقال: (ارفعي رأسك وانظري إلى)

ص: 10

فأجابت: (أكره أن أنظر إلى من لا ينظر الله إليه). فقتلها.

(البقية في العدد القادم)

منيبة الكيلاني

ص: 11

‌القسم الثالث

فرنسا ومستعمراتها

للأستاذ أحمد رمزي بك

إن العالم الإسلامي في يقظته وفي كفاحه مع الاستعمار البريطاني والأوربي والصهيوني يواجه ثلاث هيئات اتحادية: الاتحاد السوفيتي في الشمال والاتحاد الفرنسي في المغرب والاتحاد الهندوكي في الهند. وكل اتحاد منها يعطي لنفسه مظهر حركة تقدمية يصبغها بصبغة التحرر ويريد كل منها أن يقنع العالم أن هذا الاتحاد أو الضم جاء وليد إرادة شعبية، وإنه في مصلحة هذه الأمم وفي الهند يأخذ الاتحاد شكل حركة قومية كبرى. ولو كان الأمر قاصراً على المناطق التي يسود فيها الروس والفرنسيون والهندوس لما أثار ذلك اعتراض أحد من الناس.

ولكن الباحث المدقق لا تغريه الألفاظ والمظاهر، إذ يتبين له أن كلا منها ينتزع أقطارا شاسعة ويحاول أن يضم أمما إسلامية لا تمت بصلة إلى الاتحاد الذي يفرض نفسه فرضاً عليها ولذلك لا تلبث أن تنكشف حقيقة هذه الأنظمة الاتحادية حينما يتعلق الأمر بمستقبل الشعوب الإسلامية وحريتها، إذ تبدو لنا هذه الأنظمة في ثوب قوات رجعية تعسفية، لا تمنح للمسلمين حريتهم وحقهم في تقرير مصيرهم، بل تجعل للتحكم والسيطرة والاستغلال الاقتصادي شكلا جديداً براقا لا يغتر به إلا الواهمون.

فالاتحاد الفرنسي يحاول بقوة التشريع ضم أراضي شمال أفريقية وسكانها وهم اكثر من عشرين مليونا، لهم تاريخهم وثقافتهم وشخصيتهم، وبدون أن يسمح لهم بإبداء رأي في هذا الاتحاد، والاتحاد السوفيتي يضم اكثر من أربعين مليونا من المسلمين الآسيويين لا يسمع لهم صوت ولا يسمح لهم بالاتصال بالعالم الخارجي، والاتحاد الهندي يمنع إنشاء دولة الباكستان الإسلامية ولا يسلم بها.

ولا يمكن للعرب في أفريقيا والمسلمين في آسيا قبول وضع من الأوضاع يجعل منهم أقلية في بقعة من بقاع الأرض: لأن تجارب الماضي كانت شديدة الوقع عليهم، ولذلك فهم لا يسلمون للأقدار أن تتحكم فيهم مرة أخرى، ثم هم أصحاب مجد وتاريخ وصوله على هذا الكوكب الأرضي، وهو تاريخ حافل بأيام العراك والكفاح والنصر والهزيمة وهو في قوته

ص: 12

وبروزه وأثره لا يمكن أن يقارن بتاريخ أي أمة من أمم الأرض مهما علا كعبها في الحضارة، وقد ألقى علينا هذا الماضي درساً قاساً لا يمكن أن ننساه، فنحن قد فقدنا ملايين من العرب في إسبانيا وجزائر صقلية وسردينيا وكريت ومالطة، كانوا عرباً دخلوا هذه البلاد واستوطنوها، ثم زالت أيامهم فادمجوا بالسيف في جنسيات واديان اخرى، ولا تزال دماء العروبة في عروقهم إلى اليوم، وهناك ملايين من المسلمين كانوا سادة في القرم ورومانيا والبلقان فأين هم اليوم؟ انهم يوم أن اصبحوا أقلية أفناهم الظلم والاستبداد.

ولهذا فكل اتحاد يفرض بالقوة على أقطار المغرب وشعوبه العربية، ويحول بينهم وبين جامعتهم هو حركة استعمارية رجعية تعسفية تستهدف إفناء العروبة والإسلام والوقوف أمام نهضة الشعوب العربية في مراكش وتونس والجزائر وإضعافها كقوة فعالة في تاريخ العالم. ولذا وجب على كل فرد منا أن يفهمه على حقيقتها وأن يشعر بالأخطار التي تهددنا من هذه الناحية، وأن نحشد كل ما لدينا من القوى الروحية والعقلية للوقوف أمامها حتى يشعر العالم اجمع انه ليس في عزمنا نحن معاشر الأمم الإسلامية والعربية أن نفنى بهذه السهولة من الأرض فتذهب ريحنا لدى الصدمة الأولى.

ولقد عرضنا في القسمين المتقدمين لمصاعب الاستعمار الفرنسي ولمسنا تأخره عن ملاحقة العالم، وكشفنا عن إفلاس - فرنسا كدولة حاكمة، وقلنا أن هذه الأمور جهر بها كتاب الغرب وسلم بها الفرنسيون أنفسهم أو فريق منهم، وكنا نقدم للقارئ ما يجول بنفسية الفرنسيون من آمال وسط هزائمهم وبعد أن ظهر للعيان تقصيرهم، وكنا نرمي بهذا أن نضع الحقائق مجردة أمام القارئ حتى يكون على علم بأقوال الخصم، وما يدخلها من غرور ووعيد وغايتنا من ذلك أن يفهم العالم العربي إن محاربة الاستعمار ستستلزم الوقوف على أساليبه والإلمام بطرقه وأن الدول الغاصبة مهما كانت سياستها غاشمة ومع ما بين أيديها من وسائل القمع، تحاول أن تفرغ هذه السياسة في قالب يقبله العقل ويسلم به، فعلى الذين نصبوا أنفسهم على الحقائق وأن كانت مرة ليتسنى لهم تحقيق ما رسموه لأنفسهم ومبادئهم من أهداف.

والدول الاستعمارية لا تفهم ما نقرره لأنفسنا بل لا تسلم به، وإنما لديها المنظمات التي توافيها بكل صغيرة وكبيرة عنا، وهي لا تنوي أن تتنازل عن أملاكها ومستعمراتها أو

ص: 13

تفرط في حق من حقوقها، إلا بالقدر الذي تنزعه الشعوب منها، وهذه في تقدمها وسيرها نحو الوعي القومي واليقضة تؤمل في أن تتشبع بالحقائق، حتى لا تذهب جهودها وضحاياها هباءً، ثم هي تروم أن تحقق لها مجداً وأن تسير في طريق التحرر والخلاص وأن تعالج مشاكلها على ضوء العلم ووضع الأمور في نصابها، فعلى المتصدرين للحركات العامة أن يهيئوا أنفسهم للقيادة، ولا يكون ذلك بغير العلم والبحث والدرس، وتتبع الدول الاستعمارية والكشف عن أغراضها ومراميها والوقوف موقف الحريص على حقوق هذه الشعوب بل موقف المتيقظ للدفاع عنها أمام الضمير العالي.

وقف في القرن الماضي بعض كتاب الإنجليز يتحدثون عن أعباء الرجل الأبيض ومسئولياته إزاء الشعوب المحكومة فقالوا انه يحمل عبئاً ثقيلاً هو قيادة هذه الشعوب نحو الحضارة والتقدم، وفي نفس الوقت أطلق كتاب أوروبا على دولة آل عثمان اسم رجل أوروبا المريض. فمن كان ينتظر بعد مضي سنوات أن تتبدل أحوال الكون وأن تصبح الأوضاع مقلوبة؟ فإذا بالإمبراطورية الفرنسية هي الرجل المريض الذي تخشى الدول الغربية وفاته، وإذا من أعباء الرجل الأبيض ممثلا في الحكومات الانجلوسكسونية بريطانيا وأميركا؛ حماية إمبراطورية مريضة في حالة النزع، والمحافظة على وحدتها، وأحياناً مجاملتها على حساب حرية الأمم المغلوبة على أمرها.

إن الأسلحة والمعدات الحربية التي تسلمتها من هذه الدول لم تستعملها في قتال الألمان وتحرير البلاد منهم، وإنما وجهت إلى صدور الشعوب المظلومة في مدغشقر والهند الصينية، وهذ1 العتاد سيستعمل يوما ضد أمم العروبة في المغرب فما الثمن الذي قبضه الرجل الأبيض؟: هو تحطيم السور الفولاذي حول المستعمرات أمام نشاطه وفتح حدودها واعتبارها أسواقا تجارية له، وماذا كسبت فرنسا الأم الحنون؟ كسبت المجد الدائم وهو أن تمر العمليات بطريق باريس بدلاً من أن تتجه رأسا إلى أراضي المستعمرات وفي سبيل ذلك يسلم الرجل الأبيض ببقاء فرنسا مدة أخرى في شمال أفريقيا محتفظاً لنفسه بحق الرجوع مرة ثانية إليها أما لتحريرها أو للمساعدة في تهدئتها.

في الوقت الذي كان رجال فيشي يفضلون فيه التضحية بأرض من فرنسا محافظة على وحدة أملاكهم الأفريقية، كان الفرنسيون الأحرار يفكرون تفكيرا استعمارياً من نوع آخر،

ص: 14

فقد عقدوا قبل نهاية الحرب مؤتمراً لهم في مدينة برازافيل بأفريقية جمع عدداً من حكام المستعمرات تبادلوا الرأي فيما بينهم واتخذوا قرارات بشأن سياسة المستقبل بعد أن استعرضوا مسائل هامة: منها العمل على رفاهية السكان الوطنيين ورفع مستواهم المادي مع تحسين حالتهم الاجتماعية والفكرية وعرضوا لمسائل التعليم واثر الدين وتوزيع العدالة، ثم بحثوا مسائل الحكم الذاتي والإدارة المباشرة وغير المباشرة، واتخذت قرارات سرية نحو وحدة الإمبراطورية والسير بها في طريق الاتحاد الفرنسي، وهذه القرارات هي التي نقلوها معهم إلى الجزائر وادمجوها في مشروع الدستور الجديد، فعلى الذين يدوسون هذا الاتحاد أن يرجعوا إلى البحث قرارات هذا المؤتمر الاستعماري وسنأتي على شيء من ذلك في القسم التالي.

أحمد رمزي

ص: 15

‌في بلاد العرب:

من دمشق إلى (دير الزور)!

(تحية إلى إخواني هناك وتلاميذي)

للأستاذ على الطنطاوي

إلى دير الزور. . .

استعدوا يا سادة، فقد أزف الرحيل، وشدت الأهداج، فودعوا الأحبة والصحاب إن كنتم تطيقون الوداع، وخذوا طريقكم إلى (المرجة) ففيها الموعد الفجر، وأسرعوا لا يشغلكم جمال الغداة، ولا سحر السحر، وإن ملأ السماء والأرض والنفس خشعة وفرحة وبهاء، فحرام على ذي الأعمال، أن يفتنه عنها الجمال. . .

ها نحن أولاء في (المرجة)، وها هو ذا صوت المؤذن يمشي في الفضاء مشى البرء في الأجسام، والطرب في الأعصاب، فيكون لهذه الدنيا نوراً وطهراً وعطراً، وها نحن أولاء نصلي الصبح في (جامع يلبغا) الذي سرق نصفه العثمانيون فجعلوه مدرسة، كان الأرض قد ضاقت بالمدرسة حتى ما يتسع لها إلا الجامع، كان اللصوص لم يكونوا حداقاً، ولم يستطيعوا طمس الآثار، فنسوا (المئذنة) لم يسرقوها فلبثت قائمة تشهد عليهم، كشهادة (منار سوق الغزل) على أهل بغداد، انهم سرقوا (المسجد الجامع) الذي كان قطب الأرض، واكلوه، وادعوه انهم ما رأوه. .

وها نحن أولاء نخرج فنرى السيارة وعليها الأحمال، ولكن ما لها لا تمشي؟ ألم بأن الأوان؟ ألم يؤكدوا لنا إن الرحلة الفجر؟ لقد مضت نص ساعة، ومضت ساعة، وملأت الشمس الدينا، وامتع الضحى، وهي واقفة، ترقب أحد البكوات حتى يصحو وتفرك الجارية رجليه ويغتسل ويأكل ويبس ويجيء مبتخترا. .

فلماذا ذا منعونا نحن المنام، وألزمونا الحضور في الغلس، في برد كانون، وفر الليل؟ وما هذه الخصومات والمعارك، وهذه الألفاظ الوسخة التي يقذف بها السائق ومعاونوه في وجوه الركاب، لأنهم طالبوا بحقهم وأبوا الظلم؟ وما لشركة (نرن) الإنكليزية تسير سياراتها كما تسير عقارب الساعة، لا يسبق عقرب ولا يتأخر ولا يقفه شيء؟ اكتب علينا أن نظل أبدا

ص: 16

أهل خلف في المواعيد، وكذب في الأحاديث، وفوضى في المعيشة، لا نحن اتبعنا ديننا، دين الصدق والنظام، ولا نحن قلدنا الأوربيين في فضائلهم؟ ما قلدناهم إلا في الرذائل والموبقات!

لقد دنا المسير، و (رغت) السيارات، فاستنجدوا بقرائحكم لتسعفكم بالقول المحلى واللفظ المعسول، واعتصروا العيون واستمطروها الدمع، فما يحلو بغير الدموع الوداع، وما وصفه شاعر إلا (زعم. . .) أنه بكى، فكأن الشعراء. . . إذا أزمعوا وداعاً وضعوا البصل في عيونهم. . . وإلا فكيف تجود بالدمع عند كل طلب كأنها (حنفيات) الحمام، أو كأنها مقل الحسان؟ وخذوا مقاعدكم قبل أن يشتد الزحام. ولكن من أين ندخل وهذه السلال والصرر والحقائب بين الأرجل ووسط الممرات؟ وما هذا الضيق في المقاعد؟ هل هي رحلة دقائق من دمشق إلى دمر، أو من مصر إلى المعادي؟ إنها رحلة يوم كامل بليله واكثر نهاره أفنمضيه محبوسين في هذا الصندوق، مقيدين بالأصفاد، لا نستطيع أن تحرك بداً، ولا نمد ساقاً، ولا نتلفت؟ أنقاوم الشركات الأجنبية ونحاربها بمثل هذه السيارات؟

يا قوم إنكم بمثل هذا تجعلون الناس يترضون عن الاجانب، ويلعنون لأجلكم كل شيء وطني!

لقد جرت السيارة وباسم الله مجراها ومرساها، ها هي ذي تخترق شارع فؤاد الأول، وتقطع شارع بغداد أفخم شوارع دمشق وأطولها، الذي فتح من ربع قرن ولم يبين فيه إلا خمس بنايات، لأن البلدية أرادت عمران دمشق، فوضعت للبناء فيه شروطاً لا يمكن معها البناء، إلا إذا قامت حرب عالمية ثالثة، وصار كل الشاميين لصوصاً أي (أغنياء حرب). . .

لقد بلغنا (جسر تورا) فودعوا دمشق بنظرة أودعوها حبة القلب، وقراره اللب، فما تلقون إذا فارقتم دمشق مثل دمشق، واين؟ اين مثل فتونها وسحرها؟ وأين مثل تقاها وطهرها؟ أين قبة تنطح النجم كقبتها؟ أين في الأرض غوطة كغوطتها؟ اين نهر يسيل شعراً وذهباً كبرداها؟ أين مثل ربوتها وشاذرانها ومزتها وميزانها؟ أين في الدنيا ربيع كربيعها، وزهر كزهرها، وثمر كثمرها، وكروم ككرومها؟

تزودوا منها بالنظرات تكن لكم في طريقكم زاداً وفي غربتكم آنسا. . .

ص: 17

هذه (دوما) قصبة الغوطة فيها خمسة وعشرون ألف ساكن قل فيهم من يتفرغ للعناية بدار لذلك ترون دورهم زرية منخفضة السقوف، ضيقة الابواب، وقل فيهم من يعتني بثوب أو يحرص على علم، ما لهم هم إلا الزراعة فهم اقدر خلق الله عليها، أصبرهم على مكارمها، لأنهم يشتغلون لأنفسهم وذراريهم، لا لـ (بك) من البكوات، ولا لخواجة من الخواجات، وقل فيهم من لا يملك قطعة من الأرض ولو صغرت، يعيش بها ولها ويموت عنها، ليس فيهم أسرة يستعبدها الملاك هذا الاستبعاد (الحر). . .

ويظلمها هذا الظلم (القانوني). . . فينظر إليها كما ينظر إلى حميره وأبقاره، ويعاملها معاملتها، فيسكنها في مثل زرائبها، ويطعمها قريباً من طعامها، ولا يراها أعلى قدراً منها، يشغلها السنة كلها تكد وتشقى، لتقدم له ثمن سكرة من سكرانة، أو ليلة (حمراء!) من ليلاته، تريق عرق جباهها على أقدم عشيقاته، وتبذل حياتها ابتغاء مرضاته، ثم لا تنجو من غضباته ونزواته!

أنها أرضهم هم، وهم أصحابها، ولذلك ازدهرت أينعت حتى صارت اجمل أرض في الوجود. فانظروا إليها من حولكم، إلى هذا البحر يموج بالأشجار، تتمايل أغصانها، وتتعانق افنانها، تتوجها إذا جاء الربيع ألوان الزهر، فتكون ابتسامة الزمان على فم الثرى، وتثقلها إذا حل الصيف أنواع الثمار، من المشمش عشرين نوعاً، حبة كالتفاح استدارة وبهاء لا كمشمش مصر الذي يشبه في صغره حب الخردل، ومن التفاح أربعين نوعاً، والكمثري عشرين، والعنب خمسين نوعاً معدودة عداً، والدراق والخوخ والجانرك والسفرجل والجوز واللوز والتين والزيتون أنواع شتى وأشكال، وإلى السواقي تسعى فيها تحمل الحياة من بردي إلى هذه الأرض المباركة، يميد على حوا فيها الحور ويرقص الصفصاف، وتنساب عروق البطيخ والشمام والقثاء والخيار، وتضحك من حولها حقوق القمح، ومزارع (الخضار. . .).

هذه هي الغوطة: بستان واحد، مساحته اكثر من ثلاثمائة مليون متر مربع، متصل الظلال، متلافي الاغصان، كل شبر منه ثروة وجمال، وكنز لا ينفد على الإنفاق.

لقد جازت (السيارة) دوما، فانظروا إليها فقد كادت تختفي مناراتها، كما اختفت دمشق إلا جبليها الخالدين، قريعي الدهر حليفي الخلود: قبة النسر من الأموي، وهامة الصخر من

ص: 18

قاسيون. وهذي كروم دوما، يضل البصر في رجاها ويقصر عن مداها، فيها (العنب الدوماني) الذي سارت بذكره الركبان، فمن لم يأكل منه لم يأكل عنباً إلا على المجاز. . .

ولكنكم مررتم بالغوطة وكرومها في الشتاء، فدهشتم وما رأيتم إلا حطبها، فكيف لو جزتم بها الربيع فشاهدتم البهي من زهرها، أو سلكتموها في الصيف فجنيتم الشهسي من ثمرها؟ إذن لقلتم: لا رب إلا الله، ولا بستان إلا الغوطة!

لم يبق الآن أمامكم إلا الصحراء، ولكن هذه الصحراء كانت يوماً من الأيام سهولا ممرعة، وكان أكثرها منازل عامرة وكانت تفيض بالخيرات وتزخر بالظلال، أيام الملوك الغر العبشمين سادة الدنيا، بني أمية، الذين حملوا راية الإسلام إلى أقصى المشرق وإلى أقصى المغرب، من أطراف الصين إلى أواسط فرنسا، فنصبوها على قبة الفلك، ودعموها بالعدل والنبل والفضل، فما كانوا فاتحين كالفاتحين، يغلبون بالقوة، ويملكون بالسطوة، فإن زالوا زالت آثارهم، ولكن كانوا مجاهدين، وكانوا بانين، وكانوا عبقريين، فجعلوا هذه البلاد كلها إسلامية عربية إلى يوم القيامة. وكان لهم الفضل على مسلم، في هاتيك الأقطار حتى تقوم الساعة، رحمهم الله وغفر لهؤلاء المؤرخين الذين حاولوا أن يتقربوا إلى أعدائهم بإطفاء هذه الشمس التي بهرت العيون، فجمعوا غبار الطرق وجعلوا ينفخونه عليها حتى تمزقت صدورهم، والشمس ساطعة لم تنطفئ، ومن ذا يطفئ نور الشمس في راد الضحى؟

رحمهم الله، فقد جعلوا هذه المدينة لما نزلوها سيدة المدائن، ورفعوا قدرها حتى ذات لها نهاوند ودانت قرطبة وخضعت سمرقند وطأطأت لها القسطنطينية، فأضعنا نحن من بعدهم عزها. أن الأرض تعمر أبدا وبلادنا تمشي إلى الهراب، إنكم ستمرون الليلة على المدينة التي قارعت روما يوم كانت روما عاصمة الأرض، ونازعتها مجدها وسلطانها، فلا ترون في مكانها إلا قرية اسمها (تدمر)، أفرأيتم كيف نمشي إلى الوراء؟ إن ديار الشام التي يسكنها اليوم بساحلها وداخلها، وشمالها وجنوبها، خمسة ملاين كان فيها يوماً من الأيام خمسة وعشرون مليونا. وكان في العراق مدينتان متجاورتان، في كل منها مليونان، وأهل العراق كله اليوم خمسة ملايين. وإن بين هاتين المدينتين اليوم على الطريق جسراً قائماً في الفلاة، كان تحته نهر اسمه دجيل ملأ الشعراء بذكره الأسماع، يسقى مدينة اسمها حربى زخرت بأخبارها صحف التاريخ، فمحيت المدينة وجف النهر ولم يبق إلا جسر قائم في

ص: 19

الفلاة. وكان في البصرة عشرة آلاف قناة، فلم يبق فيها اليوم إلا مائة وثمانون قناة.

نعم لقد عدنا إلى الوراء ولكن عهد التأخر قد انقضى.

لقد وقفت القافلة تجمع شتاتها، وتعد عدتها، لتمشي في طريق المجد كما مشى الأجداد. . .

لقد عرفتنا المصائب في فلسطين والمغرب ومصر والشام، إن الطريق من هنا: إلى المشرق. . . من الشرق يطلع فجر الخلاص، أما الغرب فلا يجئ منه إلا ليل الظلم وسواد الاستعمار. . .

هذه حقيقة تدرس في المدارس الأولية، ولكن في الناس جهلاء لم يتعلموها بعد!

يا إخواننا. أن هذه السفرة ستعلمكم الصبر. إنكم ستتحدثون حتى تملوا الحديث، وتسكتون حتى تكرهوا السكوت، وتأكلون حتى تعافوا الاكل، وتجوعون حتى تشهوا الطعام، وتنامون حتى تشبعوا من المنام، وتستيقظون حتى تتمنوا الهجوع، وانتم محبوسون في هذا الصندوق، مصفدون بالاغلال، فأين هذا من رحلات الأجداد على الإبل، يستمتعون بالحرية والانطلاق والتأمل؟ تقولون إنكم اختصرتم الزمان. . . وماذا اختصار الزمان، إلا الإسراع إلى القبر؟

إنكم تشكون والسيارة تمشي لكم على الطريق الآهلة، وانتم قعود تأكلون وتشربون، ففكروا في بطل الدنيا سيف الله (خالد) وصحبه: كيف قطعوا هذه البادية على الإبل لا يمشون على طريق ولا يجدون ماء ولا زاداً كافياً، والعدو محيط بهم، فلما وصلوا إلى الشام لم يغتسلوا ويمدوا أرجلهم. . . ولكنهم نازلوا جنود سيد الكتائب قيصر، وانزعوا منه الظفر، واخذوا منه البلاد، فبقيت خالصة لامة محمد، لن تغدوا لغيرهم أبدا، لا للإنكليز ولو غلبوا عليها حيناً، ولا لليهود، ولا للأمريكان. . . أولئك هم الرجال حقاً!

وبعد فهذي هي الدير، تبدو مناراتها من وراء البادية، كما تبدو الميناء من وراء البحر، فحث المطى يا أيها السائق، واسقها (البنزين)، فقد مل السفر، ونفذ الصبر، واشتد الشوق. . .

وأعظم ما يكون الشوق يوما

إذا دنت الخيام من الخيام

هذى هي الدير قد وضحت، آفلا تحسون إنكم مقبلون على مدينة عراقية، أليس لمنارتها رشاقة مآذن بغداد، وإن لم يكن لها ثوبها المزركش الذي تخطر فيه، وتاجها الذهبي الذي

ص: 20

تميس تحته أليس فراتها هو الفرات الذي يجري في العراق وإن لم تزن كتفيه الروابي المخضرة، ولم يستنقع فيه النخيل، ولم تمرح على صفحته الزوارق الشعرية، ولم يؤكل في القهوات المطلة عليه السمك المسقوف؟ هذي هي الدير، فدعوني يا رفاق أفارقكم لأحدث القراء (حديث الدير). . . فإن فيهم من لم يسمع من قبل باسمها!

علي الطنطاوي

ص: 21

‌لبنان والعربية

للأستاذ السهمي

يقول أمير الشعراء أحمد شوقي رحمه الله في لبنان وبيروت في عبقرية لبنان:

بلغ السها بشموسه وبدوره

لبنان وانتظم المشارق صيته

لبنان والخلد اختراع الله لم

يوسم بأزين منهما ملكوته

هو ذروة في الحسن غير مرومة

وذرا البراعة والحجى بيروته

ويروي ياقوت في معجم البلدان لأحمد بن الحسين بن حيدرة مقطوعة فيها هذا البيت في مياه لبنان:

وكيف التذاذي ماء دجلة معرقا

وامواه لبنان ألذ وأعذب

ويذكر شاعرنا أبو الطيب تفاح لبنان في عضديه:

حيث التقى خدها وتفاح لبنان (م) وثغري على حمياها

ويقول النشاشيبي في بيروت في خطبة:

بيروت مثقفة العرب.

بيروت موقظة العرب من بعد طول هجوعهم.

بيروت منعبث الأضواء والأنوار.

بيروت فلك الشموس والأقمار.

بيروت دار أحمد فارس والأحدب والأسير.

بيروت دار اليازجيين: ناصيف وخليل وإبراهيم.

بيروت دار البساتين: بطرس وسليمان وعبد الله.

بيروت دار أديب إسحاق وأحمد عباس.

بيروت دار الحوراني والشرتوني وصروف وضومط.

بيروت دار شكيب ارسلان وأمين الريحاني ومحي الدين الخياط ومصطفى الغلاييني.

بيروت هي التي نزل على أهلها، على كرام، الأستاذ الإمام محمد عبده رضي الله عنه وأملى فيها رسالته البليغة في التوحيد بل معجزته.

في بيروت تثقفت واهتديت واتبعت داعي الإسلام والعربية والوطنية، وجيت جنديا من

ص: 22

جنود سيدي (محمد بن عبد الله) عليه صلوات الله.

المدرسة البطريريكية للروم الكاثوليك مدرستي.

ضوت لي بيروت عن طريقي فمشت، وهدتني بيروت هداها فهدبت، ورحت أقول في قصيدة:

حنانيك ياربعاً به نلت منيتي

وأبعدت في الشرق الخطير لي الذكرا

إذا الناس ضلت في مجاهيل غيها

وساءت مساعيها فلا تعرف البرا

فأني بأرض الشام أخدم أمتي

وأرجو لها في كل واقعة نصرا

أخوض غمار الكون بالعلم والتقى

ولا أسال القوم العظام لي الأجرا

بيروت مدينة تهذيبي.

والعربية هي التي يقول فيها النشاشيبي:

اللغة هي الأمة، والأمة هي اللغة، وضعف الأولى ضعف الثانية، وهلاك الثانية هلاك الأولى. وكل قبيل حريص - وقد كان في هذه الدنيا - جد حريص على أن يستمر كونه، وعلى أن لا يبيد، فهو مستمسك بلغته للاحتفاظ بكينونته. واللغة ميراث أورثته الأباء الأبناء، واحزم الوراث صائن ما ورث، واستفهم في الدنيا مضيع.

وأنا أمم اللسان الضادي - لعرب، وإن لغتنا هي العربية وهي الإرث الذي ورثناه، وأنا لحقيقيون والآباء هم الآباء واللغة هي تلك اللغة بان نقي عربية الجنس وعربية اللغة، نقي العربيتين مما يضيرهما أو يوهنهما.

ولو كان الموروثون صغارا ولو كان الميراث حقيرا لوجب علينا إكبارهم وإعظامه، فكيف والتاريخ يقول: أن الآباء كانوا اكرما، وإن الآباء كانوا عظاما. وكان لهم الخلق المتين الجيد، وكان لهم السلطان القوي والسؤدد، وكانوا الأئمة في العلم وكانوا الأئمة في الحكمة. فاقرأ كتب علمهم، واقرأ كتب حكمتهم.

والزمان يقول: إن العربية خير ما صنعت يداي (وان الدهر لصنع) وإنها لخير طرفة أطرفتها الناس، والزمان، والزمان بالخير - وإن جاد - شحيح. فالعربية الصنع العبقري للدهر، والعربية هي الدرة اليتيمة أو كنز الزمان ضن به كل الضن ثم سخا.

وإذا كان للنفوس العربية في الجزيرة وهي نفوس تجسمت من القوة أو تكونت منها القوة،

ص: 23

وهي نفوس تعالت وتعززت فنشأت في الدنيا ألفاظ العلو والعزة وهي نفوس صفت وصرحت، وما صفاء سواها وصراحتها إلا كدر ولبس - إذا كان لهذه النفوس فضل على لغتها إذ كانت منجمها الذي نشأت منه بدت فلهذه اللغة البينة المحكمة فضل على تلك النفوس، فقد أعطى بيان اللغة وإحكامها أهل اللغة ما أخذته منهم، وقد احسن الألماس المشع إلى منجمه، فهذا كون ذاك، وذاك نور هذا.

وإن العربية لو لم تكن الإبداع كله ولو لم تكن الجمال الأجمل، ولو لم تكن اللغة المصطفاة، ولو لم تك لغة عجبا، ما اختارها الدهر لقرآنها و (الله اعلم حيث يجعل رسالته) ولم تستطع ألفاظها الاستقلال بمعانيه، وكل معنى فيه يأبى أن ينزل إلا في اكرم لفظ، وكل مقصد من مقاصده لا يقبل إلا اعجب أسلوب. ولن ينزل أهل السماء إلا في ذروة العلياء. و (الكتاب) - وان علا - حتى أظل (سدرة المنتهى) قد أدناه وقد جلاه نور بيانه حتى أرانا إياه، والشمس قد علت وقد ابتعدت، وهل يحي وهل يضئ هذي الأرض إلا الشمس.

ويقول النشاشيبي في رثاء كبير عراقي في خطبة:

قالوا: ابكه وإلا غضبت عليك عربيتك.

أعوذ بمحمد، أعوذ بالعربية من غضب العربية.

وهي لي في حياتي ومماتي إلا هي؟

وهل معتصمي وشرفي ومجدي في الوجود غير عربيتي؟

وهل سموت وكرمت عند العظماء وعند الفضلا وعند الملوك إلا بها؟

أنا لا اشتري برضاها هذي الدنيا بحذافيرها (استغفر الله) ولا الآخرة.

أعوذ بالعربية من غضب العربية.

أنا خادمها، أنا اعبدها، أنا عبد لغتها، أنا عبد قرآنها، أنا عبد محمدها.

أنا سيد لكل حر سيد بهذه العبودية.

أعوذ بالعربية من غضب العربية.

وقد شاء في هذا الشهر حضرة صاحب الفخامة رئيس الجمهورية اللبنانية (الشيخ بشارة الخوري) ووزيره الأكبر حضرة صاحب الدولة الأستاذ (رياض الصلح) وحكومته، وحضرة أمير النثر والناثرين وسيد البلغاء صاحب (الرسالة) الأستاذ (أحمد حسن الزيات)

ص: 24

أن يعطوا خادما من خدام هذه العربية - وهو الذي تلوت قوله آنفا - (وسامين) فأعطوه. واليقين كل اليقين انهم نظروا إلى إخلاصه في حبها لا إلى مقدرته؛ فالرجل عند التحقيق ليس هناك، وهو صاحبي، وأنا من اعرف الناس به، والمنصف يقول الحق ويقضي بالعدل ولو على نفسه (يا أيها الذين آمنوا، كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم).

ص: 25

‌7 - تفسير الأحلام

للعلامة سجموند فرويد

سلسلة محاضرات ألقاها في فيينا

للأستاذ محمد جمال الدين حسن

كلا، أيها السادة، فالوقت مع هذا لم يحن بعد. فحتى هذا الاعتراض القوي قد ينهار من ساسه إذا صوبنا إليه سهام النقد الحادة. فنحن إذا فرضنا أن هناك نزعات لا شعورية تكمن في الحياة العقلية، ثم اتضح أن عكس هذه النزعات بالضبط هو الذي يغلب على الحياة الشعورية، فليس معنى هذا إننا أخطأنا التقدير، فربما كان هناك متسع في العقل البشري للنزعات المتضادة وللمتناقضات تكمن كل بجانب الأخرى. بل من المحتمل أن تغلب إحدى النزعات هو الذي يستلزم أن تكون النزعة العكسية لا شعورية. وعلى هذا فالاعتراضات التي تواجهنا كلها تتلخص في أن النتائج التي وصلنا إليها في تفسير الأحلام نتائج معقدة غير مستساغة. فأما كونها معقدة فإن في استطاعتنا أن نرد على ذلك بان نلفت نظركم إلى إنكم مهما كنتم مغرمين بالبساطة والسهولة فلن تستطيعوا بذلك أن تحلوا مشكلة واحدة من مشاكل الأحلام، وعلى هذا يجب عليكم أن تشرعوا في تهيئة عقولكم من الآن لتقبل نتائج صعبة معقدة. وأما كونها غير مستساغة فإنكم ترتكبون خطأ كبيرا عندما تجعلون من ميلكم للشيء أو عدمه مقياسا تحكمون به على الأشياء أحكاما علمية. فماذا يهمنا إذا كنتم ترون النتائج التي وصلنا إليها في تفسير الأحلام نتائج غير سارة أو حتى على أسوا الفروض نتائج بشعة تعافها النفس؟ أن الواجب يقتضي منا أن نطرح الميل والنفور جانبا إذا أردنا أن نقف على الحقيقة في هذه الحياة. فإذا جاء أحد علماء الطبيعة فاثبت لكم أن الحياة العضوية قيمة بان تختفي من وجه البسيطة عما قريب، أيجد أحدكم من نفسه الجرأة على مواجهته قائلا:(كلا يا سيدي هذا لن يكون لأني اكره هذا المنظر كرها شديدا)؟ أظنكم لن تقولوا شيئا من هذا القبيل حتى يأتي عالم آخر فيثبت للأول انه قد اخطأ في التقدير أو في الحساب. والواقع إنكم عندما تنكرون كل ما هو بغيض بالنسبة إليكم فإن ما تقومون به هو تكرار لعملية بناء الحلم وليس فهما لمرماه أو وصولا إلى معناه.

ص: 26

وعلى هذا أظن إنكم ربما تأخذون على أنفسكم أن تغضوا النظر عن الطبيعة الجارحة للرغبات التي تخضع للرقابة في الحلم ثم تحولون دفة المناقشة إلى أنه من غير المعقول أن نسلم بوجود مثل هذا الجزء الكبير من الشر في الطبيعة البشرية. ولكن هذا تحقق تجاربكم في الحياة صدق هذه العبارة؟ أني لن أقول شيئا عن هيئة الواحد منكم في نظر نفسه. ولكن هل صادفتم من النية الحسنة بين رؤسائكم ومنافسيكم، ومن الشهامة والكرم بين أعدائكم، ومن الحسد القليل بين زملائكم ما يدفعكم إلى الشعور بأنه يتحتم عليكم أن تحتجوا إذا قلنا أن الأنانية الوضيعة تلعب دورا كبيرا في الطبيعة البشرية؟ أو ولا تعلمون كيف يعجز الرجل العادي أن يملك زمام نفسه في كل ما يمس حياته الجنسية؟ أو هل تجهلون إن كل ما نراه في الحلم من انغماس في الضلالات أو إفراط في الشهوات ما هو إلا جرائم تحدث فعلا كل يوم، يرتكبها الناس وهم في تمام اليقظة؟ أن التحليل النفساني لا يفعل في هذه الحالة اكثر من انه يعزز القول القديم لأفلاطون وهو أن الأخيار لهم أولئك الذين يكتفون بان يروا في أحلامهم ما يرتكبه الأشرار فعلا في حياتهم اليومية.

والآن دعوا الأفراد وانظروا إلى هذه الحرب الضروس التي ما تزال تدمر أوربا: فكروا في هذه القسوة والوحشية الطاغية كيف انتشرت في أرجاء العالم المتمدن. أتعتقدون حقا إن في استطاعة حفنة من الرجال الفاسقين الذين لا مبدأ لهم في الحياة أن يقودوا العالم إلى هذا الشر المستطير إذا لم يكن ملايين الناس الذين اتبعوهم شركاء لهم في الجرم أيضا؟ أتجدون من أنفسكم الجرأة بعد ذلك على أن تنكروا وجود عنصر الشر في الطبيعة الإنسانية؟

أظنكم بعد هذا توافقون على انه لا حاجة بنا إلى أن نطرح النتائج التي وصلنا إليها في تفسير الأحلام، حتى ولو إننا لا نستطيع أن نمنع أنفسنا من الشعور بأنها نتائج غريبة. وربما كان في إمكاننا فيما بعد أن نصل إلى تفهم معناه عن طريق آخر، ولكنا في الوقت الحاضر سنكتفي بأنه نتمسك بالنتيجة الآتية وهي أن التحريف في الأحلام ينشأ عن الرقابة التي تفرضها بعض النزعات المعروفة للذات على الرغبات التي تجرح الشعور والتي تعتلج في صدورنا أثناء النوم. ومن الواضح إننا إذا سألنا أنفسنا عن مصدر هذه الرغبات التي تستوجب الزجر ولم لا تظهر إلا أثناء الليل، فسنجد إننا مازلنا في حاجة إلى البحث الطويل والى الإجابة على أسئلة كثيرة. على انه من الخطأ إلا نوجه إلى إحدى النتائج التي

ص: 27

تتضح من هذا البحث ما تستحقه من الالتفات. فهذه الرغبات التي تظهر في الأحلام والتي تقلق نومنا تكون مجهولة لدينا ولا نعلم عنها شيئا إلا بعد القيام بتفسير الحلم، وعلى هذا فهي تستحق أن يطلق عليها (لا شعورية في الوقت الحالي) بالمعنى الذي استخدمنا به هذا الاصطلاح من قبل ولكنا يجب أن نعلم أيضاً إنها اكثر من (لا شعورية في الوقت الحالي) لأن الحالم كما رأينا مرارا ينكرها إنكارا باتا حتى بعد أن يقف على معناها عن طريق تفسير الحلم. وهذه الحالة تكرار للحالة التي صادفتنا من قبل عندما كنا نقوم بتفسير زلة للسان (تفيقوا) حيث أكد لنا الخطيب في حنق انه لم يشعر نحو رئيسه بعدم الاحترام بتاتا لا في ذلك الوقت ولا في أي وقت آخر. وبالرغم من هذا فقد تجاسرنا على الشك في قيمة هذا التأكيد وفرضنا بدلا من ذلك أن الشاب كان جهل مستديم بوجود هذا الشعور في نفسه. ونحن نجد أنفسنا في مثل هذا الوضع في كل مرة نقوم فيها بتفسير حلم من الأحلام التي تعرضت لدرجة عالية من التحريف. وعلى ذلك فإن في إمكاننا الآن أن نفرض أن هناك نزعات وعمليات في الحياة العقلية لا نعرف عنها شيء. وهذا يعطي كلمة (لا شعوري) معنى جديد فقط أصبح لا داعي كما رأيتم لأننلصق بها الصفة (في الوقت الحالي) أو (مؤقتا) لأنها قد تعني أيضاً (لا شعوريا مستديما) وهذه النقطة قد نعود إلى مناقشتها مرة أخرى فيما بعد.

(يتبع)

محمد جمال الدين حسن

ص: 28

‌من قادة الاصطلاح في القرن الثالث عشر

الشيخ شامل

زعيم القوقاز وشيخ المجاهدين

1212 -

1287 هـ: 1797 - 1871 م

للأستاذ برهان الدين الداغستاني

الداغستان:

تشغل بلاد الداغستان معظم القسم الشرقي من بلاد القوقاز، وتمتد على الساحل الغربي لبحر قزوين. ما بين مصب نهر (ترن) شمالا وشبه جزيرة (ابشرون) جنوبا، وتحدها قمم جبال القوقاز العالية مثل (البرز) و (قازيك) وممر (دريال) الشهير وبعض بلاد الكرجستان غربا، ومجرى نهر (ترن) شمالا وجمهورية أذربيجان جنوبا - هذه البلاد التي تسمى بالداغستان، ومعنى الداغستان: بلاد الجبال. وليست هذه المنطقة كلها جبالا كما يتبادر لأول وهلة، ولكن طبيعة الجبال هي الغالبة فيها.

كانت هذه المنطقة المجاز الذي يجتازه الفاتحون الآسيويون إذا أرادوا الإغارة على أوربا وبلاد الروسيين، ويعبره الروسيون والتتار من الشمال إلى الجنوب إذا أرادوا التوغل في آسيا. ولذلك كانت - دائما - محط أنظار كل الفاتحين، والغزاة من قديم العصور إلى يوم الناس هذا.

وما كاد المسلمون يبدءون عهد الفتوح أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه حتى وصلت طلائعهم المظفرة إلى هذه البلاد سنة 22 من الهجرة يوم جاء سراقة بن عمرو، وبكر بن عبد الله، وعبد الرحمن بن ربيعة مع إخوانهم من المجاهدين. ثم تتابعت الجيوش الإسلامية إلى هذه البلاد، وتلاحقت وكانت (دربند) - عاصمة الداغستان - ثغرا من ثغور المسلمين التي يرابط فيها في سبيل الله.

أطماع الدول الكبيرة فيها:

استقر الحكم العربي الإسلامي في هذه البلاد، وسارت في طريقها المهيأ لها في هذه الحياة،

ص: 29

حتى إذا زال عنها سلطان العرب السياسي حافظت هي على تراث العرب الروحي: الإسلام وتعاليم الإسلام، فكانت تستقل بشئون نفسها حينا، ويحتلها فاتح جديد أحياناً. حتى كان أواخر القرن العاشر الهجري، فاحتلها العثمانيون في عهد (مراد الثالث) وهنا بدأت صفحة جديدة من تاريخ هذه البلاد، فقد نبه احتلال العثمانيون لها أطماع الروسيين من الشمال، وحفز الإيرانيين من الجنوب، فصارت مثار أطماع هذه الدول الثلاث، فكانت تحتلها هذه الفترة، وتلك فترة أخرى.

وهكذا إلى سنة 1232هـ - 1816 م حيث تنازل الإيرانيون عن كل حق لهم بهذه البلاد وحكمها للروسيين، واحتلها هؤلاء.

اثر هذا الاحتلال الجديد في أهل البلاد:

وكان طبيعيا أن يكون لهذا الفاتح الجديد أثره وتأثيره في البلاد وأهل البلاد، فأخذ يتودد إلى الأهالي ويستميلهم بكل ما بوسعته الحيلة من ترغيب وترهيب، ويظهر أن سياسة الترغيب هذه لقيت نجاحا إلى حد ما، وقد صور الشيخ محمد طاهر القراخي الداغستاني هذه الفترة تصويرا دقيقا إذ يقول:

(وفي هذه الآونة - حوالي سنة 1240 هـ (1824) - زاد اتصال الأهالي الداغستانيين بمستعمريهم طمعا فيما يملكونه من مال وسلطان، أو يمنحونه من قلادة أو وسام. وكان من أول نتائج هذا الاتصال أن ابتعد المسلمون شيئا فشيئا عن أحكام دينهم الذي اشربوا حبه، وتغلغل في أعماقهم، ونسوا أوامره ونواهيه واصبحوا مسلمين بأسمائهم فقط. وكانت البلاد في هذه الفترة خالية من العلماء العاملين، والمرشدين المخلصين الذين يحسنون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

فانتهز هذه الفرصة بعض الجهال المتزيين بزي العلماء، وعلى الخصوص قضاة وحكام منطقة (الزكستان) واخذوا يتصلون بالجماهير ليلقوا في نفوسهم إن سياسة الحكومة القيصرية، واستعمارهم لبلادهم - ولعلهم كانوا يعتقدون ذلك؛ - هو عين العدل والإنصاف!!.

وكان لعمل هذه الطائفة أثره الكبير في وسط الجماهير من المسلمين، فازدادت صلاتهم بالمستعمر، واخذوا يرسلون شبانهم ليقوموا ببعض الوظائف والأعمال والدواوين الروسية،

ص: 30

ثم تطورت الأمور إلى ابعد من ذلك، وصاروا يحبذون السياسة الروسية التي تنتهجها نحو بعض الممالك الإسلامية، وجندوا أبناءهم في الجيوش الروسية الموجهة لغزو بلاد المسلمين).

مولد الشيخ شامل:

في مطلع هذه الحوادث وفي هذا الجو المضطرب المتقلب، ولد شامل سنة 1213هـ (1797م) في قرية (كمرا) ً من قرى منطقة (آوار) من بلاد الداغستان، ونشأ بها كما ينشأ لداته، وتعلم في مدارس المساجد المنتشرة في قرى الداغستان ودسا كرها واخذ بحظ لا بأس به من الدراسات الدينية والعربية، وكانت الطريقة النقشبندية قد بدأت بالانتشار في تلك الجهات على يد السيد جمال الدين القمومي والشيخ محمد اليراغي، فإنتظم في سلك مريدي تلك الطريقة الصوفية، فصار العالم الديني الصوفي في أن واحد. ولما بلغ شامل الثلاثين من حياته سنة 1242 هـ (1826م) واشتد ساعده. ظهر في قرية (كمرا) العالم المجدد المصلح الشيخ الغازي محمد الكمراوي الذي هاله ما وصلت إليه حال البلاد والعباد من التأخر الديني، والفساد الخلقي، وقام يدعو الناس إلى الرجوع إلى دينهم، والتمسك بآداب وأحكام الإسلام، فكان (شامل) من أول التابعين له والداعيين بدعوته، ولازمه ملازمة الظل، واصبح أحد مريديه، وأعوانه المقربين إليه.

واستمرت هذه الدعوة الاصطلاحية اللينة المسالمة تسير في طريقها المسلوكة تلقي القبول والسمع تارة، والرفض والإباء والسخرية والازدراء تارات.

وفي سنة 1245 هـ (1829م) قرر (الغازي محمد الكمراوي) على انه لا بد لكل دعوة إصلاحية جديدة من قوة تسندها، وإلا فلا آمل في نجاحها، ولذلك بدأ يجند بعض الذين استجابوا لدعوته ويخوف بهم المخالفين له والباغين عليه. وفي هذه المرحلة أيضاً نجد (شاملاً) أحد قواد الفرق التي كان يبثها الغازي محمد، ويبعثها إلى الجهات للإغارة والتأديب.

وكثرت مصادمات الغازي محمد الكمراوي مع العصاة والمخالفين الخارجيين على أحكام الدين. ومع رجال الدولة المستعمرة، فكان يحالفه الظفر والنصر في بعض الاوقات، ويخونه الحظ في احيان؛ ولكن (شاملاً) في كل الحالات كان الرفيق الملازم، والمريد

ص: 31

المخلص لأستاذه وقائده. ولما حاصر الروسيون الغازي محمد الكمراوي وأصحابه في قرية (كمرا) في يوم الاثنين الثالث من جمادي الآخرة سنة 1248 هـ (28 أكتوبر سنة 1832 م) كان (شامل) مع الذين لازموه، ودخلوا معه أحد المنازل في القرية وتحصنوا في داخله، فلما اشتد الحصار، وضيق الروسيون الخناق قام الغازي محمد، وقذف بنفسه على الروسيين، وقاتل حتى قتل أمام باب ذلك المنزل وسيفه في يده. ورأى (شامل) استشهاد قائده، فقام في رفاقه خطيبا، وقال ما مؤداه:(إذا كان الغازي محمد وقع شهيدا، فلا ينبغي لنا أن نضيع وقتنا بالبكاء عليه؛ ولعلنا نسير في الطريق التي سار فيها ونلحق به. . . . . . إن حور الجنة ينتظرن ذهابنا إليهن شهداء أبرارا. فبدلا من أن نموت كما يموت الجبناء في مكان مغلق مسدد نخرج ونقاتل حتى تأتينا الشهادة، ونموت كراما). ثم شديدة على حسامه، ورفع صوته بكلمة التوحيد - لا اله إلا الله - وقذف بنفسه إلى حيث الموت الشريف، أو الحياة الكريمة، وقاتل (شامل) قتال المؤمن الموقن بما عند الله للمجاهدين من إحدى الجنسين. وأصيب في اكثر من موضع واحد من جسمه، ولكنه كان مؤمنا بالله وطالبا للشهادة في سبيله، فلم تخر عزيمته ولا ضعف ولا وهن، فظل يحارب ويقاوم، وانجلت المعركة، ونجا شامل بنفسه، ولكنه ما كاد يبعد عن هذا الجحيم، ويسير في شعب من تلك الشعاب بضع خطوات حتى خارت قواه، وضعف جسمه، فلم يستطع مواصلة السير، وقضى ليلته على قمة جبل هناك، تحت رحمة المقادير معرضا لتقلبات الطبيعة القاسية في تلك الأصقاع.

كان الهواء قاسيا قارسا، وكان (شامل) عاري الرأس، مجروح الصدر، ملطخا بالدم جميع أجزاء جسمه، ولكنه لم يك ليشتكي من هذه الحال التي صار إليها أو يتألم، بل انه كان يشكر الله سبحانه ويحمده على لطفه في القضاء!!.

وفي اليوم التالي أتته النجدة، فجاء بعض أعوانه، واركبوه فرسا وساروا به إلى حيث أهله وعياله وأسرته.

وبقى شامل طريح الفراش أسير الجراح ثلاثة اشهر كاملة، لا يبرح بيته، ولا يستطيع الوقوف على قدميه.

(يتبع)

ص: 32

برهان الدين الداغستاني

ص: 33

‌من وراء المنظار

حجرة التحمس

ما دخلها قط إنسان إلا انقلب بعد دقائق مهما بدا من هدوئه أول الأمر متحمسا من اشد المتحمسين؛ شهدت ذلك بنفسي وإن قابع في ركن منها أتفرج من وراء منظاري على ما لم استمع بمثله في أية دار من دور اللهو. . .

هي حجرة في ديوان إحدى الوزارات كتب على بابها: (المستخدمين) هكذا بالجر! دخلتها والحر شديد وبنفسي ضيق وضجر فسرعان ما روح عني الضحك المتصل حتى لقد إنساني ضجري كما إنساني ما جئت له. . .

الحجرة صغيرة مزدحمة بالقماطر أو ما يسميه الموظفون بالمكاتب، وعلى كل قمطر ما عدا واحدا أضابير من الورق يعلم الله مبلغ ما قضته كل ورقة حيث رأيتها من عمر. . .

وأمام كل قمطر - ما عدا واحدا غير ذلك الذي خلا من الورق - موظف، وهم جميعا فيما يخيل إلى من أعمارهم دون الأربعين وفيهم من هم دون الثلاثين. . .

وكان أحدهم يقضم قضمات من رغيف أمامه ويأتدم بقطعة من الجبن؛ وكان آخر يطالع في جريدة؛ وكان ثالث يشرب القهوة، واشتغل أربعة بأوراقهم، وبقى واحد لا يعمل شيئا قط فليست أمامه ورقة وليس في يده قلم أو صحيفة أو شئ مما يؤكل أو يشرب وكان ينظر في ساعته بين حين وحين ليرى متى ينصرف. . .

وفهمت انه من (المحاسيب) الذين يعينون لا ليعلموا ولكن ليرتزقوا. . .

ودخل كهل هادئ الحركة فقصد أحد القماطر ورفع صاحبه رأسه فتهجم وتركه إذ رآه، مع أن القادم كان يبسم له ويظهر الاحترام ويختار ارق الكلام؛ ولكن سرعان ما ارتفع صوته وهو يقسم بالله العظيم ثلاثا ويهز سبابته كما يفعل الخطيب انه جاء من اجل مسألته ما لا يقل عن ثلاثين مرة، ولا يدري ما يعمل بعد ذلك. وبلغ به التحمس أن أعلن انه ذاهب من فوره إلى المدير، وقالها بلهجة من ينذر بالموت كأن الذهاب إلى المدير عنده فيه القضاء على الموظف المسكين، وخرج من الحجرة، وما استدار ليخرج حتى اخرج له ذلك الموظف لسانه وضحك هو وزملاؤه ملء أشداقهم. . .

ولم يكد يبتعد خطوة حتى دخل شاب يمسح عرقه عن جبينه وصفحة وجهه بمنديله، ودنا

ص: 34

من موظف آخر وسأله لعله يذكر موضوعه، فقال له في دماثة متكلفة وهو يكتم ضحكة (أيوه يا سعادة البيه، مر علينا بعد ثلاثة أيام تجد كل شئ على ما يرام)؛ وتحمس سعادة البك تحمسا صامتا تجلى في احمرار وجهه وإرساله الزفرات وانصرف ليمر بعد ثلاثة ايام؛ وتفكه الموظفون بالسخرية من سعادته والتهكم عليه.

ودخل ثالث فسأل أحدهم عن آمر فقال له (عند فتحي أفندي في الحسابات)، فخرج ثم عاد بعد قليل ليقول إن فتحي أفندي لا علم له بالأمر، فقال له (اترك لي المسألة ومر بعد يومين أو ثلاثا تجدها خالصة) ففكر صاحبنا في الأمر قليلا ثم بدا له فتحمس وصاح قائلا (ما هذا؟ أديوان حكومة هو أم كان دكان؟ ودق القمطر بيده قائلا انه ذاهب إلى المدير، وانطلق والتحمس ملء بدنه، وتحمس الموظفون في الضحك منه. . .

1 -

ودخل رابع تبدو عليه الرزانة والتؤدة، فسأل عن عبد المنعم أفندي من يكون فدله أحدهم عليه، فمشى إليه في عسر بين القماطر واخرج علبة سكائره ومد بها إليه يده أتلح حتى تناول واحدة، ثم كلمه في صوت خافت، فتظاهر انه يفكر ثم قال: مر غدا فإن عمر أفندي غائب وهو الذي عنده مسألتك. فقال لقد جئت مرتين وعملي في حضن الجبل وأنا قادم هذه المره في (تكسي) وهو عند الباب يدور عداده فهلا صنعت معروفا فأعنتني، فأجابه لا يمكن حتى يحضر عمر افندي، وانصرف عنه إلى أوراقه، فهز صاحب (التاكسي) رأسه مرات وتنهد ثم قال وقد اقلب هدوءه ثورة، وانه ليدق القمطر بيده دقات عنيفة: ما هذا، مرة عمر أفندي في البنك ومرة عند المدير ومرة في إجازة. . . هذا لعب ومسخرة وقلة ذوق. . . وبدا التحمس في جميع حركاته وإشارته. . . وانطلق من الحجرة يتوعد وتهدد.

وجاء الخادم يطلب عبد المنعم أفندي لمقابلة المدير، فذهب إليه ثم عاد بعد دقيقة ففتش في قمطر عمر أفندي واخذ منه أوراقا، وخرج ثم رجع بعد قليل يقول لزملائه (خلصنا منه يا سيدي، وأمضى المدير أوراقه وبلاش غلبة ونفخة كدابة)

ودخل بعد لحظة شيخ معمم ذو لحية فحيا بتحية الإسلام ثم ضم أطراف جبته بيده ومضى إلى أحدهم ينفذ في عسر بين القماطر، فقال له هل وجدت الورق؟ فقال: لا زلت ابحث عنه. وما كاد ينطق بهذا حتى صرخ الشيخ قائلا ما هذا؟ حتى متى تسخر من ذقني هذه يا

ص: 35

ولد؟ ونهض الأفندي مغضبا يدق القمطر بقبضته ويقول عيب يا سيدنا الشيخ لولا انك كوالدي. . . ودق الشيخ بقبضته قائلا العيب أن تكذب وأن تضيع الأوراق وتستخف بمصالح الناس وأوقاتهم، وعاد الموظف يدق بيده دقات ويقول عيب يا سيدنا الشيخ، والشيخ يعقب كل دقة منه بدقة من قبضته القوية حتى أيقنت أن القمطر لا شك متحطم؛ ولكني لم احفل بالقمطر وإنما خشيت أن تنقلب الدقات لكمات أو لطمات، فقد بلغ تحمس الشيخ أقصاه وجحظت عيناه واصفر وجهه ودنا من الفتى ولولا أن سحبه إخوانه سحبا من وجه الشيخ لأهوي عليه بكلتا يديه؛ وخرج الشيخ وهو يستنزل خيبة الله عليه.

وساد في الحجرة الصمت لحظة، ولم يفطن الموظفون إلى وجودي إلا وهم في هذه الحال من الخزي والغم، فسألني أحدهم ما طلبي، فأشرت إلى مكتب عمر أفندي، فقال انه لن يحضر اليوم؛ ومعنى ذلك أن انصرف فنهضت للخروج وإني لأقسم للقارئ بمحرجات الإيمان غير متحمس، أني ذهبت إلى تلك الحجرة من أجل مسألتي اكثر من خمسين مرة في مدة سنتين، وقضاؤها والله لا يستغرق ساعة؛ ولم أستدر عند الخروج، بل خرجت بظهري مخافة أن يسروا عن صاحبهم بحركة منهم يكون فيها الزراية علي.

الحفيف

ص: 36

‌خواطر مسجوعة:

الشعر. . .

إذا جاد الفكر، بالمعنى البكر، وكان الترجمان أمينا عادلا، فالبس المعنى لفظا معادلا؛ واشترك القلب مع القلم فيما كتب، وسرت الحياة في كل وتد وسبب فحكى البيان، حديث الوجدان، وارتسم الإحساس، على القرطاس، وبرز السر المكتوم في در منظوم. . فذلك هو الشعر، وذلك هو السحر!

وما لا تنبض بالحس قوافيه، فهو نظم مزهود فيه، ومالا يصور حقيقة الحياة، فهو من البضاعة المزجاة!

وليس بحرا ما لم تسمع تصفيق لجته، وتسبيح موجته ولا بيتا ما كانت دعامته واهية، وأركانه متداعية!

والإحسان في غير ما اطاع، ليس بمستطاع. فالشعر يقرض قرضا، وليس يقرض فرضا، فإن اغتصب، أخطأ ولم يصب. وما يدعو ولا يدعي، فهو إلى الإجادة ادعى؛ فما دعاك فأطعمه، وما لم يدعك فدعه؛ وإلا فإنك تعاني ما تعاني، في اغتصاب الألفاظ والمعاني؛ مضللا في الفيافي، زاعما انك رب القوافي.

والشعر أنفاس طروب، أو نفثات مكروب؛ فأنا تشمه نفخا وأنا تحسه لفحا، وله في الحالين هزته المؤثرة، وقوته المعبرة فكم أيقظ غافيا واسكر صاحيا! وكم ثورة أقامها، وثورة أنامها، فجرد سيف الناصر، واغمد سيف الغادر. وكم هز بالبيت محفلا، واعز به جحفلا! وكم اعد به جيلا، وصد به قبيلا! وكم حمى وأجار، في غير تلك الديار!!.

حامد بدر

ص: 37

‌تحية بغداد

للأستاذ أنور العطار

(ألقيت في الحفلة الكبرى التي أقامتها دار المعلمين العالية ببغداد احتفاء بالوفد الثقافي السوري في آذار (مارس) 1974)

بغداد بالعابق المخضوضر النادي

ردى عليَّ رياحيني وأورادي

وألهميني حر القول، خالصه

ونضري في ثنايا الحفل إنشادي

هبي لي الشعر أنغاماً مسلسلة

تهدي إلى الصيد من صحبي وأندادي

الساهرين على عقد قد انتثرت

حباته بين أغوار وأنجاد

تخطفته رباع الأرض وأطرحت

نضيدة صولة المستأسد العادي

جارت على سلكة نأياً وتفرقة

وروعته بتعذيب وإبعاد

بني العراق مثال الحب من عقدوا

على هوى العرب أكباداً بأكباد

تمرسوا بالوفاء المحض واتشحوا

من الوداد بألطاف وأبراد

يا نفحة الضاد هي في أباطحنا

وزودينا العلى يا نفحة الضاد

عنا لها الدهر مزهواً بها فرحاً

وظل مسترسلا في ركبها الحادي

لأنت زاد الأولى ازدان الزمان بهم

يا طيبه في أجتناء الحمد من زاد

وأشرقي في سماء العرب وأئتلقي

كالشمس في موكب بالنور وقاد

صوت العروبة دوى ملؤه أمل

يجيش كالسيل في رغو وأزباد

يهيب بالقوم قد ألوى الزمان بهم

فأصبحوا نهبة للرائح الغادي

إن لم تثوروا على الباغين قد نكثوا

فلستم في قراع الخطب أحفادي

يا جيرة العرب صان الله عقدكم

وأسعدته الأماني أي إسعاد

يا نسمة من جنان الخلد طيبة

ونفحة من روابي الشام والوادي

يا دمعة الحب تهمي رقة وأسى

كالعامريِّ بكى في سفح توباد

فكانت الشعر والأشواق دمعته

تصور الوجد من خاف ومن باد

حيِّ الأخلاء والآُلاف قد رجعوا

ولم يكن طيفهم يوماً بمرتاد

نذراً على - وقد عادت سوانحهم -

لأصدحنَّ بناياِتي وأعوادي

ص: 38

يا حسن (دجلة) مسكوباً بها (بردى)

غنى لها الكون مياداً بميَّاد

ويا سنا (بردَى) بالشط منطلقاً

ينساب في نغمَات البلبل الشادي

نهران إلفان ضمَ الحب شملهما

جلا عن الشعر في وصف وتعداد

يا رشفة منهما بالروح نسألها

تحيي السقيمَ وتشفي غلة الصادي

في ظل بغداد طاف العرب وائتلفوا

وحققوا الوَحدة الكبرى بميعاد

تمازَجوا في إخاء رائِع عجبٍ

كما تمازَجُ أرْواح بأجْساد

بغداد في الشام ألحان مرتلة

تلذ، والشام من أنغام بغداد

آمنت بالوطن المنضور جانبه

آمنتُ بالعرب أمجاداً بأمجاد

صاغوا من الخير دنيا لا كفاء لها

يقصها الدهر آباداً لآباد

طافوا على الأرض بالآيات ساطعة

وزينوها بتبيان وإرشاد

هم المنار يسير السالكون به

ويهتدون بنور المرسل الهادي

العرب في ثورة للمجد شاملة

علياء من صنع أبطال وآساد

حراس وحدتنا الكبرى ومن سفكوا

أرواحهم بورك المفْدِىّ والفادي

يا فرحة الملتقى أذكيتني طرباً

وهجت أحلى المنى في أرض أجدادي

تركت قلبي مغموراً بنشوته

سكران تصيبه أفراحي وأعيادي

(دمشق)

أنور العطار

ص: 39

‌الأدب والفن في الأسبوع

القراءة الأدبية في المدارس

وافق معالي وزير المعارف على اعتماد الكتب الآتية للقراءة الأدبية بالمدارس الثانوية في العام الدراسي القادم:

(الأيام - الجزء الأول) للدكتور طه حسين بك، و (الصديقة بنت الصديق) للأستاذ عباس محمود العقاد، و (نداء المجهول) للأستاذ محمود تيمور بك، و (الشاعر الطموح) للأستاذ على الجارم بك، و (عنترة) للأستاذ محمد فريد أبو حديد بك.

وذلك على أن يصرف إلى كل طالب كتاب من هذه الكتب على حسب ما يتقرر من طريقة التوزيع؛ وقد قصد بذلك أن تتصل أفكار الطلبة بالجو الأدبي العام، فيقرئوا كتبا مؤلفة للجميع لا خاصة بالمدارس، ولأول مرة تمنح المدرسة تلاميذها كتبا لم توضع عليها العبارة المشهورة المألوفة (قررت وزارة المعارف استعمال هذا الكتاب بمدارسها)، ولم يثبت على غلافها عديد من أسماء المؤلفين، ثم أعضاء اللجنة التي راجعت الكتاب، وقد بلغت هذه الأسماء في بعض الكتب ثلاثة عشر، وكم ناء بها كتيب صغير!

وسينفذ هذا القرار الأخير القاضي بتقرير تلك الكتب الأدبية العامة لجميع تلاميذ المدارس الثانوية، بشراء ما يلزم لهم منها، أي أن وزارة المعارف ستنزل إلى السوق الحرة كأي من الناس فتشتري لتلاميذها هذه الكتب بأثمانها، فتخرج بذلك على ما تتبعه من طبع الكتب المدرسية المقررة بالمطبعة الأميرية وتسعيرها على حسب نفقات الطبع المرتفعة، تلك الطريقة التي يستفيد منها المؤلفون، لا من حيث المكافأة القليلة التي ينالها كل منهم، بل من طبعها للمدارس الحرة بنفقات اقل من نفقات المطبعة الأميرية وبيعها بالسعر الرسمي المقرر، مما كان يؤدي إلى كثرة المؤلفين والمراجعين للكتاب الواحد.

ولا شك أن قرار وزارة المعارف الأخير ينطوي على كثير من المزايا الأدبية، في تثقيف الطلبة، والخروج بهم عن نطاق المواد الدراسية المحدودة، وتعويدهم القراءة الأدبية النافعة؛ وينطوي أيضاً على رغبة مشكورة في تشجيع المؤلفين، وإن كان الذين اختارت لهم الوزارة كتبا في غنى عن التشجيع، ولعله كان يصادف موقعه لو كان بينهم من هو أحوج إليه مع جدارته ولا يستطيع أحد أن يقول أن الإنتاج القيم محصور في طبقة معينة من

ص: 40

المشهورين أو غيرهم.

قصص من السودان:

لست أدري أكان مقصودا، أم جاء عفوا، ولكنه على أيها كان جميلا، أن يحاضر الأستاذ إسماعيل الأزهري رئيس الوفد السوداني، بجمعية الشبان المسيحية، بعد محاضرة مكرم عبيد باشا في جمعية الشبان المسلمين.

وكان السودان موضوع كل من المحاضرتين، وكان حسنا ومفيدا أن يتحدث الأستاذ الأزهري عن السودان حديثا يتناول فيه مختلف الشؤون من ثقافية واجتماعية واقتصادية وسياسية، ولا أدل على مبلغ الحاجة إلى مثل هذا الحديث مما بدأ به الأستاذ إذ قال انه اجتمع في مصر منذ قليل بشاعر مصري زار السودان أخيرا ودار بينهما حديث قال فيه الشاعر إنه عندما هم بالرحيل إلى السودان جعل يفكر حائرا: بأي لغة يخاطب القوم في السودان؟ وكيف يتفاهم معهم؟ ولكنه ما حل بالخرطوم وأم درمان حتى ألفاهم يتكلمون لغة عربية لا تقل إبانة عن لغة شمال الوادي، بل إنه لقي هناك من الشعراء من طارحوه الشعر وجاروه في ميدان القريض، ولما عاد إلى مصر كان من نتاجه قصيدة رائعة نشرت بصدر الأهرام. ولم يسم الشاعر، ولكن كان مفهوما إنه الأستاذ محمد الأسمر.

كان هذا الاستهلال ذا مغزى، فإن إخواننا بالجنوب يعتبون علينا لجهل أكثرنا بهم، وأظن أنا اعتبناهم، فقد اصبحنا في السنوات الأخيرة غير ما كنا.

وأخذ الأستاذ الأزهري في حديثه عن شؤون السودان. ومما يناسب المقام هنا ما ذكره من الجهود الثقافية التي بذلها المؤتمر السوداني إذ قال انه أنشأ في خمس السنوات الأخيرة من المدارس الابتدائية بمختلف البلدان السودانية ضعف ما أنشأته الحكومة السودانية منها في خمسين سنة!

ولما كان عنوان المحاضرة الذي نشر بالصحف (قصص من السودان) فقد كنا نتوقع أن نسمع قصصا حقيقية، ولكن كان المراد من كلمة (قصص) شئونا تتضمن وقائع تحكي في سياق الكلام.

أي الجيلين خير؟:

ص: 41

دعت مجلة (الهلال) إلى ندوتها ثلاثة من أعلام الأدباء، هم الأستاذ عباس محمود العقاد وأحمد أمين بك والدكتور أحمد زكي بك، للمناقشة في هذا الموضوع (أي الجيلين خير. . القديم أم الجديد)، ونشرت هذه المناقشة في العدد الصادر أول الشهر الحالي.

رأى الأستاذ أحمد أمين إن الجيل الحاضر خير في جملته من الجيل السابق، وإن مجموعة الأخلاق أرقى الآن مما كانت في الجيل الماضي؛ ووافقه الأستاذ العقاد على تفضيل الجيل الحاضر في بعض نواحي الخلق، ولاسيما الأخلاق التي تتعلق بالحرية الشخصية، ولكن من المشكوك فيه أن تكافئ قوته ما زاد عليه من الواجبات والتكاليف، لأن مشكلات الحياة العالمية العامة، والوطنية الخاصة، ومعضلات الأخلاق والعقيدة، التي تواجه الجيل الحاضر، لم يكن لها نظائر واجهت لأجيال الماضية.

ويرى الدكتور زكي إن الجيل الحاضر من حيث النوع، ومن حيث الكم أيضا، لا يمكن أن يقل عن الجيل الماضي بل يزيد في العلم والثقافة والحضارة، ولكنه يرى - من الجهة الروحية - إن في أرواح القلائل من الجيل الماضي ما هو ارفع واثمن مما في أرواح الكثيرين من الجيل الحاضر، ومثل لذلك بالتضحية فقال (كنا قبلا نضحي لأجل التضحية وحبا فيها، وطلباً لهدف واحد، بغير من أو غرور، ولا نطلب على ذلك أجرا، بل ننتظر من وراء ذلك الغرم، ثم تطور معنى التضحية، فصارت تضحية نرجوا بها الثمن، أما معجلا أو مؤجلا، ثم تطور معناها مرة أخرى، فصارت في هذا العصر تضحية لها ثمن مضمون. . .)

وتستمر المناقشة متفرعة من هذه الأصول، إلى أن يقول الأستاذ العقاد (وأياً كان الأمر في الجيلين، القديم والحديث، فما شك فيه إن الإصلاح الإنساني، سواء كان في أمة واحدة أو في اكثر من أمة، متوقف دائما على التضامن بين الجيلين.

وتنتهي المناقشة برجائهم إلا تخلو الأمة المصرية والأمم الشرقية عموما، من صالحين بين الشيوخ، وصالحين بين الشباب، لتقوم دعائم الإصلاح على هؤلاء وهؤلاء.

وهكذا قال الجيل القديم - ممثلا في أولئك الثلاثة الإعلام كلمته في المفاضلة بين الجيلين، ويستطيع القارئ أن يستخلص من جملة آرائهم رجحان كفة الجيل الجديد، ولكن الجيل الجديد لم يعلن رأيه في هذا الموضوع في جلسة ذات محضر ينشر كما حدث في (الهلال)

ص: 42

فليت ثلاثة أدباء من الجيل الجديد يفعلون، ليسمع الأباء كلمة الأبناء.

سر الزخرفة العربية:

ألقى الدكتور بشر فارس مساء الخميس الماضي محاضرة في (سر الزخرفة العربي) بالمعهد الفرنسي للآثار الشرقية، وكانت هذه أول محاضرة يلقيها بالمعهد بعد تعيينه عضواً مصرياً فيه من الحكومة الفرنسية.

بين المحاضر أولا إن الزخرفة العربية فم له ذاتيته الابتداعية ولم يخضع للفن الفارسي الجامد ولا للفن اليوناني المتناهي الوحدات، لأن الفن العربي زاخر بالحركة والحياة، وهو إلى ذلك لا تنتهي حدوده، بحيث لو وضعت بجانب الزخرفة مثيلاتها اتحدت معها.

ثم تساءل: لماذا كان للزخرفة العربية تلك الخصائص، ولماذا برع المسلمون - من عرب ومستعمرين - في الزخرفة وخصت بهم زخرفتهم؟

أورد الرأي المشهور القائل بان الفنانين المسلمين ركزوا جهدهم الفني في الزخرفة لما حرم عليهم تصوير كل ذي روح، ثم فند هذا القول بأنه ليس في أصول الإسلام رأي قاطع بهذا التحريم، وعلى فرض أي الأمرين، الإباحة أو التحريم، فقد وجدت صور كثيرة ذات أرواح، إنسانية وحيوانية، صورت في العصور الإسلامية.

وانتهى من ذلك بان أرجح سر الزخرفة العربية وبراعة المسلمين في أشكالها وألوانها إلى جملة العقيدة الإسلامية في تفتيشها عن الله وخضوعها لحكمه وتعظيمها له، فكان الفنانون يتجهون إليه فيما يرسمون، وكانوا يحملون برسومهم المساجد والمصاحف ابتغاء الغبطة في السماء التي هي خير وأبقى من متاع الدنيا.

ولم يكن فن الزخرفة قاصراً على الأشكال والألوان، بل كان أيضاً في الخطوط كالخط الكوفي مثلا الذي كان له حظ كبير من الفن الزخرفي تم له من الفكرة الإلهية، إذ كانت تكتب به آيات القرآن الكريم؛ وقد أنحدر عن هذه الفكرة أيضاً تحسين الخط العربي في العصور الإسلامية الأخيرة، فقد كان الخطاطون يبتغون الثواب من الله على كتابهم المصاحف بالخط الجميل.

العامية وبرنامج الإذاعة:

ص: 43

أخذنا على محطة الإذاعة المصرية - في عدد مضى من الرسالة - الإكثار من الإذاعة العامية في التمثيليات والأحاديث، سواء العامي منها والعربي (المكسر)

وفي الأسبوع الماضي اطلعت على إجابة للأستاذ محمد فتحي بك المراقب العام للإذاعة المصرية، عن أسئلة وجهتها إليه مجلة (دنيا الكواكب) اللبنانية، منها هذا السؤال. (نطالع في الصحف المصرية شكوى مستعمرة من ضعف برنامج الإذاعة المصرية، فما هي الطرق الفعالة لملافاتها؟)

أجاب الأستاذ فتحي بان الجمهور متباين المزاج مختلف الطبقات، ومن الصعب إرضاءه كله ببرنامج واحد، وإن الإذاعة في بريطانيا واجهت هذه المشكلة وعمدت إلى حلها بان قسمت الشعب البريطاني إلى ثلاث فئات، عامة، ومتوسطة، وعالية، ثم خصت كل فئة من هذه الفئات ببرنامج على محطة مستقلة إلى أن قال:(ونحن لو اتبعنا هذه الطريقة لاستطعنا أن نقضي على تلك الشكوى المستمرة قضاء مبرما فاستطعنا إذا وجدنا ثلاث محطات أن نقدم لكل من طبقات الشعب الثلاث برنامجا خاصا يتوافق مع مستواه وتفكيره، حيث نقدم للأولى رقصا بلديا وزجلا وحديثا باللهجة العامية وأحاديث دينية، بينما نقدم للطبقة الثانية وهي طبقة المثقفين برنامجاً يشتمل على معالجة الحالة السياسية والأخبار الدولية والمواضيع الاجتماعية والأبحاث والروايات الأدبية، وفي الوقت نفسه نذيع للطبقة العالية برنامجا يحتوي على موسيقى كلاسيكية وأحاديث وقصصاً لبرناردشو وشكسبير وأعلام الفلسفة).

فترى هذا الحل المترتب على الإمكان يتضمن إرضاء طبقة الشعب بالتحدث إليه باللهجة العامية، فهل هذه الطبقة تشكو من العربية حتى نترضاها بالعامية؟ أو من الحق أن الشعب يستثقل العربية الفصيحة؟ إننا نعتقد إن إسماع الشعب لا تنفر إلا من الأساليب غير البينة والإلقاء الرديء، وانه من الممكن أن تجتذب الإسماع بالبيان السهل الواضح والإلقاء الحسن، وإذا كنا نكتب الحكايات والقصص للأطفال بلغة عربية فصيحة سهلة فيستسيغونها ويقبلون عليها، أفلا نستطيع أن نخاطب الكبار في الإذاعة بمثل لغة الأطفال على الأقل؟ وكيف إذن يكون تثقيف الجمهور ورفع مستواه؟

على أن للشكوى من برنامج الإذاعة وجها آخر غير تباين الأذواق الذي تمنى الأستاذ فتحي

ص: 44

وجود ثلاث محطات لمواجهته بتنويع البرامج، ذلك الوجه هو قصور المحطة ذاتها وضنها على تحسين البرنامج وتجديده، ويتلخص ذلك في تكرار التسجيلات بل دوامها وخلودها. . وفي اختيار الأرخص والمرضي عنه، ولقد كان من المخجل - على سبيل المثال - أن تريد المحطة إحياء ذكرى شوقي فلا يكون ذلك إلا بإدارة (اسطوانات) قديمة لعبد الوهاب من شعر أمير الشعراء!

المحاضرات بالمصطاف:

حل الصيف، واشتد القيظ، واتجهت الأنظار إلى المصايف، وفي مقدمتها الإسكندرية، وقرأنا في الصحف إن بلدية الإسكندرية قد اهتمت بتيسير وسائل الاصطياف في هذه المدينة وضواحيها، وأنشأت مكتبا لذلك، وقد أذاع هذا المكتب بيانا بالحفلات الكبرى التي تقرر إقامتها في هذا الصيف، وهي حفلات رياضية وتمثيلية وموسيقية.

قرأت ذلك في الصحف ثم رجعت البصر إلى القاهرة، فأسفت لأنها تكاد تخلو في الصيف من النشاط الفكري الذي كان يجري قبل هجوم الحر في أنديتها ومجتمعاتها ومعاهدها محاضرات ومناظرات في مختلف الفنون والشؤون.

ثم استمعت إلى الدكتور إبراهيم جمعة مدير نشر الثقافة بوزارة المعارف يحدث بالمذياع يوم الاثنين في (الاصطياف في الإسكندرية) قديماً سمعته يقول انه كان بشاطئ الإسكندرية في العصر الروماني حمامات وأحواض للسباحة، يأخذ الجسم حقه من الرياضة فيها، ثم يستريح في بعض الحجرات التي زودت بالفرش والكتب، أو في الحدائق ذات الجواسق الجميلة، أو في استماع المحاضرات العامة ببعض القاعات التي أعدت لهذا الغرض في أبنية الحمامات.

فيما ليت بلدية الإسكندرية أو أية هيئة أخرى تلتفت إلى ناحية الثقافة في المصطاف، فتعيد إليه ما كان في العصر الروماني من تنظيم المحاضرات العامة، مستغلة في ذلك وجود بعض رجال الأدب والفكر هناك، ويا ليتني أكون معهم فأفوز فوزا عظيما.

(العباس)

ص: 45

‌من هنا ومن هناك

الصداقة والعلاقة

قال أبو حيان التوحيدي: سألت أبا سليمان المنطقي عن الفرق بين الصداقة والعلاقة فقال: (الصداقة أذهب في مسلك العقل وادخل في باب المروءة، وابعد من نوازي الشهوة، وأنزه عن آثار الطبيعة، وأشبه بذوي الشيب والكهولة، وأرمى إلى حدود الرشاد، وآخذ بأهداب السداد، وابعد من عوارض الغرارة والحداثة. فأما العلاقة فهي من قبل العشق والمحبة والكلف والشغف والتتيم والتهيم والهوى والصبابة والتدانف والتشاجي، وهذه كلها أمراض أو كالأمراض بشركة النفس الضعيفة والطبيعة القوية، وليس للعقل فيها ظل ولا شخص، ولهذا تسرع هذه الأعراض إلى الشباب من الذكران والإناث وتنال منهم وتحول بينهم وبين أنوار العقول وآراء النفوس وفضائل الأخلاق وفوائد التجارب، ولهذا وأشباهه يحتاجون إلى الزواجر والمواعظ ليفيئوا إلى ما فقدوه من اعتدال المزاج والطريق لوسط، على أن العشق والمحبة وما يحويهما فيه كلام من نحو آخر. . .)

كيف يسوس الرجل زوجه:

وقفنا في هذا العصر على كلمة للشيخ الرئيس أبي علي بن سينا كأنه كتبها لهذا العصر وليست هذه الكلمة إلا دلالة على إن ما بين المرء وزوجه إنما هو هو في كل زمان وفي كل عصر

قال الشيخ الرئيس:

(جماع سياسة الرجل أهله ثلاثة أمور لا تدعه، وهي الهيبة الشديدة، والكرامة التامة، وشغل خاطرها بالمهم. أما الهيبة فإن الزوجة إذا لم تهب زوجها هان عليها، وإذا هان عليها لم تسمع لأمره ولم تصغ لنهيه، ثم لم تقنع بذلك حتى تقهره على طاعتها فتعود آمرة ويعود مأمورا. . . وذلك هو الانتكاس والانقلاب، والويل حينئذ للرجل ماذا يجلب له غرورها وطغيانها ويسوقه إليه غيها وركوبها هواها من العار والشنار والهلاك والدمار. فالهيبة رأس سياسة الرجل أهله وعمادها، وهي الأمر الذي ينشد به كل خلة ويتم بتمامه كل نقص ولا يتم دونه أمر فيما بين الرجل أهله، وليست هيبة المرأة لبعلها شيئا غير إكرام الرجل نفسه وصيانة دينه ومروءته وتصديق وعده ووعيده.

ص: 46

أما كرامة الرجل أهله فمن منافعها أن الحرة الكريمة إذا استحلت كرامة زوجها دعاها استدامتها لها ومحاماتها عليها وإشفاقها من زوالها إلى أمور كثيرة جميلة لم يكد الرجل يقدر على أصارتها إليها من غير هذا الباب بالتكلف الشديد والمؤونة الثقيلة، على أن المرأة كلما كانت اعظم شأنا وأفخم أمرا كان ذلك أدل على نبل زوجها وشرفه وعلى جلالته وعظم خطره. وكرامة الرجل أهله على ثلاثة أشياء في تحسين شارتها وشدة حجابها وترك إغارتها. . .

وأما شغل الخاطر بالمهم فهو أن يتصل شغل المرأة بسياسة أولادها وتدبير خدمها وتفقد ما يضمه خدرها من أعمالها. فإن المرأة إذا كانت ساقطة الشغل خالية البال لم يكن لها هم إلا التصدي للرجال بزينتها والتبرج بهيئتها. . .)

الكتابة والحديث:

يقول الكاتب الأمريكي المعروف أوليفار هولمز في كتابه حديث المائدة: (الكتابة كالرمي بالنشاب، قد تصيب من قارئك موضع الفهم وقد لا تصيبه، ولكن الحديث كالتمرين على الرمي، متى كان الغرض أمامك وفي الوقت متسع ضمنت لنفسك الإصابة).

ارمني وقبطي:

جاء في كتاب مختصر تاريخ الإسلام للحافظ الذهبي: (وفي سنة 515 للهجرة مات بمصر الأفضل أمير الجيوش شاهنشاه أحمد بن أمير الجيوش بدر الأرمني وكانت ولايته 28 سنة على الديار المصرية واستولى الآمر على حواصله كلها ولم يسمع في الدنيا بمثلها كثرة، فكانت دوابه تقدر باثني عشر ألف ألف دينار وكان لبن المواشي التي له يغل في العام ثلاثين ألف دينار) وذكر ابن خلكان إن الأفضل (خلف ألف ألف دينار ومائتين وخمسين إردب دراهم وخمسة وسبعين ألف ثوب ديباج).

وجاء في كتاب الذيل لتاريخ الدول (وفي سنة 703 قبض السلطان على الوزير علم الدين بن زنبور وصودر بعد الضرب والعذاب فكان المأخوذ منه من النقد ما يزيد على ألفي ألف دينار. ومن أواني الذهب والفضة نحو ستين قنطارا، ومن اللؤلؤ نحو إردبين، ومن الحياصات الذهب ستة آلاف، ومن القماش المفصل نحو ألفين وستمائة قطعة، وخمسة

ص: 47

وعشرين معصرة سكر ومائتي بستان وألف وأربعمائة ساقية، ومن الخيل والبغال ألف، ومن الجواري سبعمائة، ومن العبيد مائة ومن الطواشية سبعون إلى غير ذلك، وكان علم الدين هذا قبطيا ثم ارتد عن دينه. . .)

الطبيب الكامل:

قال علي بن رضوان الطبيب المتوفي سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة في كتابه الأصول: (الطبيب على رأي بقراط هو الذي اجتمعت فيه سبع خصال

الأولى: أن يكون تام الخلق صحيح الأعضاء حسن الذكاء جيد الروية عاقلا ذكورا خير الطبع.

الثانية: أن يكون حسن الملبس طيب الرائحة نظيف البدن والثوب.

الثالثة: أن يكون كتوما لأسرار المرضى لا يبوح بشيء من أمراضهم.

الرابعة: أن تكون رغبته في إبراء المرضى اكثر من رغبته فيما يلتمسه من الأجرة، ورغبته في علاج الفقراء اكثر من رغبته في علاج الأغنياء.

الخامسة: أن يكون حريصا على التعليم والمبالغة في منافع الناس.

السادسة: أن يكون سليم القلب عفيف النظر صادق اللهجة لا يخطر بباله شئ من أمور النساء والأحوال التي شاهدها في منازل الأغنياء فضلا عن أن يتعرض لشيء منها.

السابعة: أن يكون مأمونا ثقة على الأرواح والأموال لا يصف دواء قتالا ولا يعلمه، ولا دواء يعالج الأجنة وأن يعالج عدوه بصدق نية كما يعالج حبيبه. . .)

الصحف الأجنبية في أمريكا:

ظهر من إحصاء أخير أذيع بأمريكا إن عدد الصحف الأجنبية اليومية والأسبوعية والشهرية التي تصدر هناك يبلغ 1010 صحيفة تطبع في 39 لغة مختلفة، منها 130 صحيفة باللغة الأسبانية و115 باللغة الألمانية و102 باللغة الإيطالية و79 باليونانية و56 باللغة العبرية و54 بالمجرية و52 بالتشكوسلوفاكية و43 بالفرنسية و42 بالسويدية و14 باللغة الصينية و12 باللغة العربية و9 باليابانية.

وينشر العدد الأكبر من هذه الصحف في ولاية نيويورك إذ يبلغ مجموع الصحف الأجنبية التي تصدر فيها 290 صحيفة وتحتل شيكاغو المكان التالي إذ يصدر فيها 94 صحيفة

ص: 48

ومجلة

يقول الأحباس في أمثالهم:

إذا قال لك السيد إن نصف الليل هو الظهر فاحلف له انك رأيت الشمس.

إذا رأيت الملك راكبا حمارا فقل له ما اجمل هذا الجواد.

متى رأيت الكلب غنيا فقل له يا سيدي الأسد.

الوطن قبل الروح لأنه مقر راحتك.

فرق الذين تريد أن تحكهم.

حين تكون البضاعة مرغوبة يكون المشتري أعمى.

صناعة الحلاقة تتعلم على رؤوس اليتامى.

الله قريب من رأس الضعيف.

هب ما تملك لمضيفك.

ص: 49

‌البريد الأدبي

مناظرة لا داعي لها:

أنا ما كتبت كلمتي (إلى علماء الشيعة) لأجدد شقاقا، ولكن لأحدث وفاقا، وما أردت أن أثيرها داحسية بين السنة والشيعة، ولكن أردت أن ننسى إننا كنا سنة وشيعة ونعود أمة واحدة، تستقي من النبع الصافي، وترد المورد العذب، وتسلك الطريق المستقيم، وتدع السبل المنحرفة، وتأخذ الدين من الكتاب وما أثر من تفسيره، والسنة وما صح من أخبارها، وتعرف لسلف هذه الأمة فضلها علينا وعلى الإنسانية كلها، وما ظننت أني قلت شيئا يسوء مسلما، وكيف وأنا أدعو إلى الوحدة، وأرجو الوئام؟

لذلك قرأت بعجب بالغ هذا السيل من المقالات الذي اندفق على الرسالة

من العراق: مقالة من القرنة بإمضاء (عبد الحسين الراضي) يقول

فيها. (ليكف (أحمد أمين) عن النبز والمس يكف السبيتي وغيره).

ومقالة من بغداد بإمضاء (عبد الأمير السبيتى) ينكر عليَّ قولي أن

الشيعة حزب سياسي نشا لتأييد أحد المرشحين للخلافة، ويدلني على

كتب سبق أن قرأت أكثرها لأرى (إذا كان الشيعة جمعية سياسية أم

إنها أكثر الطوائف الإسلامية تمسكا بمبادئ محمد وأشدها التصاقا

بالدين الحنيف الخ) ويسألني لماذا لم أثر على أحمد أمين لما ألّف فجر

الإسلام وثرت على السبيتي لما رد عليه. أي لما سب الصحابة والأئمة

وطعن في الصحيحين. . . ويقول عني ما نصه (لو نظر إلى الكتاب

(أي كتاب السبيتى) بغير العين التي نظر إليه بها لرأى المؤلف معتمدا

في كل ما كتبه (في كل ما كتبه. .) وقاله على كتب معتبرة عندكم

معشر أهل السنة (؟!) وعززها بأدلة معقولة (؟!) ثم يسب في المقال

معاوية وأبا هريرة ومروان اكثر مما سبهم صاحب الكتاب. ومقالة من

ص: 50

بغداد بإمضاء (رشيد عباس الصفار) ينكر على فيها قولي أن الشيعة

حزب سياسي ويفيض في ذلك، ويطعن في بيعة أبي بكر، ويعجب من

تسامح إخوانه أهل السنة (في إطلاق أسم الصحابي بصورة موسعة

على كثير ممن يبرأ منهم جل الشيعة ويمقتهم كثير من أهل السنة

أمثال. . . أبي هريرة الوضاع ومروان بن الحكم عدو الإسلام. . .

ومعاوية داعي البغي والشقاق والمغيرة. . . وعمرو بن العاص وكثير

ممن لا يوثق بهم). . ويقول بأن الشيعة (لا يمكنها الأخذ بمصنفات

أهل السنة مع وجود تفاسيرها المعتبرة وأحاديثها المأثورة عم أهل

البيت الطاهر الخ) وسبب ذلك (تسامح أهل السنة في تخريج كثير من

الأحاديث في صحاحهم وغيرها عن كثير من الخوارج والشذاذ

والمبتدعة والوضاعين الخ كمروان أبي هريرة والمغيرة الخ) ثم يتكلم

عن مسألة سب الصحابة فيقول (ثم على فرض جراءة بعض الشيعة

على انتقاص بعض الصحابة أيكون ذلك سبباً لتكفيرهم أو خادشا في

إسلامهم؟)

وسائر المقالات لم تخرج عن هذا، ولا يخلو شئ منها من التعريض بي أو التصريح بغمزي وأنا أسامح من سبني، ولن أقول في الموضوع اكثر مما قلت، ولا أظن إن هذه المناظرات مكانها الرسالة، التي أنشئت لغير هذا إنما مكانها (دار التقريب. . .) التي (قالوا) إنها فتحت له. وأنا أعلن أني لم أرد الخلاف ولا الانتقاص، وما أردت إلا الاتفاق بإخلاص. وشرعت طريقا إليه لا مناص لمن أراده من سلوكه. ولكن ماذا أعمل إذا كان إخواننا هؤلاء لا يريدون سلوك الطريق؟!

علي الطنطاوي

ص: 51

نسيه خاطئة يكذبها التاريخ:

استوقفت نظري في صفحة 348 من كتاب القضايا الكبرى للأستاذ عبد المتعال الصعيدي. عند قوله - وكان ابن تيمية يخطب يوم الجمعة ونزل درجة من درج المنبر وقال أن الله ينزل إلى سماء الدنيا كنزولي هذا.

وهذه المسألة ذكرها ابن بطوطة في رحلته وعنه نقلها المتحاملون على شيخ الإسلام، وقد قال المحققون إن ابن بطوطة قدم الشام وشيخ الإسلام مسجون فكيف رآه يخطب بل هذا كذب يراد به الطعن على شيخ الإسلام ابن تيمية.

وهذا لا يقول به شيخ الإسلام لأنه من مذهب المجسمة وابن تيمية ينكره اشد الإنكار - تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً

ليس كمثله شيء وهو السميع البصير - ورجائي إلى الأستاذ أن يراجع ذلك ثم يوافينا برأيه السديد الموفق إن شاء الله

عبد الله البكري

إلى الجارم بك

أوردتم في كتيبكم الأخير (الشاعر الطموح) الأبيات الآتية منسوبة إلى (سيف الدولة) وهي في وصف قوس قزح:

وساق صبيح للصبوح دعوته

فقام وفي أجفانه سنة الغمض

يطوف بكاسات العقار كأنجم

فمن بين منقض علينا ومنفض

وقد نشرت أيدي الجنوب مطارفاً

على الجو دكناً والحواشي على الأرض

يطرزها قوس الغمام بأصفر

على أحمر في أخضر تحت مبيض

كأذيال خود أقبلت في غلائل

مصبغة والبعض أقصر من بعض

والحقيقة إنها للشاعر ابن الرومي وهي أروع ما أنتجته قريحته في وصف الطبيعة. وقد جاءت في ديوانه الذي عني به الأستاذ كامل الكيلاني.

هذا إلى أن حضرتكم قد ذكرتموها في كتاب المطالعة التوجيهية في باب المقارنات الشعرية مقرونة بنادرة بين ابن الرومي وابن المعتز في المفاضلة بينهما.

ص: 52

(القاهرة)

جميل

ذكرى الرافعي:

لما كنت اعرف مكانة الرافعي في الأدب واعلم بلائه وجهاده في سبيل الإسلام فقد كنت أنتظر ذكرى وفاته العاشرة وأنا راج أن يكون أصدقائه وتلاميذه قد اعدوا لأحيائها عملا لا كلاما فيتداعوا لنشر كتبه التي طال على إهمالها الزمن فيطبع (أسرار الإعجاز) و (أغاني الشعب) و (مجموعة) شعره الكبرى وجزءاً رابعاً لوحي القلم فإن هناك ما يقوم به من مقالاته المبعثرة في كثير من الجرائد والمجلات وكتبه الخاصة إلى أصدقائه، كنت أرجو أن يكون هذا أو بعضه فإن لم يكن فأحاديث عن فنه وجهاده من مثل الأستاذ شاكر أو الأستاذ الطنطاوي وانهما ليكتبان الآن في كل شئ وليس فيما يكتبان فيه ما هو أجل من الرافعي ومعانيه: الدين والأدب الفني الرفيع والعزة الإسلامية

فلما جاءت الذكرى كتب الأستاذ أبو ريه كلمة يشكر عليها فقد كان صريحة منصفة إلا انه لم يشر بشيء عملي مع انه ذكر اسم الكتاب العبقري (أسرار الإعجاز)

ان الورق رخيص والكتب من كل لون تنشر ويدعى لها، فهل كل هذه الكتب اثمن من كتب الرافعي؟ وهل كتبه أهون من أن تصدر مع هذا السير من الكتب؟

الرمل

محمود الطاهر الصافي

إلى الجاحظ:

قرأت ما كتبته في الرسالة تعقيباً على إحدى مقالاتي في البلاغ. والحق معك. فأليك تحيتي وثنائي.

زكي مبارك

حول خطأ عروضي:

ص: 53

أرجو أن تأذنوا لي بهذا التصويب حول ما نشرتم للأستاذ خليل إبراهيم الخطيب عن (الخطأ العروضي الشائع) في العدد رقم 725 من الرسالة الغراء، فقد قال الأستاذ أن قصيدة الأستاذ مختار الوكيل التي مطلعها:

أخي قد شاء رب الكو

ن أن يجمع قلبانا

قال الأستاذ إن هذا المطلع من بحر الهزج وأن البيت الذي يليه من مجزوء الوافر. والحقيقة هي غير ما بين الأستاذ الخطيب والقصيدة كلها من مجزوء الوافر الذي يجوز فيه تسكين اللام في (مفاعَلتن) فتكون (مفاعَلتُن) كما ورد في قصيدة شاعر النيل حافظ إبراهيم التي مطلعها:

(سكتُ فأصغْروا أدَبي) منها البيت الآتي:

فهبوا من مراقدكم

فإن الوقت من ذهب

وعلى هذا لا يقال إن قصيدة حافظ خليط من الهزج والوافر بل هي كلها من مجزوء الوافر (مفاعلتُن مفاعلتَن) ويجوز فيه تسكين اللام - ولكم يا سيدي ألف شكر

نظام مدني

ص: 54

‌القصص

إلياس

(إلى الذين يجدون سعياً في سبيل السعادة

للكاتب الفيلسوف ليو تولستوي

بقلم الأستاذ مصطفى جميل مرسي

يحكى أنه كان يعيش في بلدة واحد من البشاكرة يدعى (إلياس). . . قضى أبوه نحبه بعد أن متع ناظريه بزوجة ولده - دون أن يخلف له شيئاً من الأرض يأتي له بريع من الرزق يعيش هو وامرأته عليه. فلم يدع له سوى سبعة من الخيول والأفراس وبقرتين وعشرين رأساً من الغنم. . .

فشمر إلياس عن ساعد الجد. . . وكان ماهراً في رعاية الحيوان بارعاً في تربيته ذا جلد ومثابرة، فراح يتولى ماشيته بعنايته، ويهيئ لها من المرعى والمأوى كل ما يدخل في طوقه. . .

وكان - هو وزوجته - يعملان سحابة يومهما وجنحاً من ليلهما. . . ينهضان على تبكير من الغسق. . . وهما آخر من يأوي إلى مضجعه في العشي. وأقاما على تلك الحال حتى بارك الله في ماشيتهما، وضاعفها. فزادت وتكاثرت عاماً أثر عام، وأتيح لهما وفر فيما يملكان من ثروة ومال. . .

وحينما وافت السنة الخامسة بعد الثلاثين على تمها صار لإلياس من الخيول مائتان، ومن البقر مائة وخمسون ومن الغنم ألف ومائتان. . . فأستأجر رجال يحملون عنه عِبءَ الرعي ويقومون على معونته. . . واتى بأجيرات من النساء يحلبن له ماشيته ويخضون ألبانها ويستخلصون منها الزبد والسمن والجبن (والكميس)

فأيسر (إلياس). . . وأخصب جانبه وأرغد عيشه، وراح يعيش في بلهنية ودعة. . . فعظم مقامه بين جيرته، وذاع شأنه بين من يقنطون في واديه. وأخذ كل امرئ يغبطه ويتحدث عنه - وفي نفسه حسد - (إن إلياس رجل بخيت ذو جد جلب عليه كل ما يراود أمل الإنسان من رغبات. . . فهو - دون ريب - سعيد بهذه الدنيا هانئ بها

ص: 55

تقاطرت على (إلياس) جموع الزوار من كل حدب. . . فكان يتلقى كل واحد منهم بالترحيب والتكريم، وينحر لهم الخراف ويهيئ لهم موائد حافلة باللذيذ الفخر من الطعام والشراب ويقدم له ما راق لهم من (الكميس) والشاي. . .

كان لإلياس ولدان وبنات زوجهم جميعاً. . . وحينما كان في أيام فقره وعسره كان هؤلاء الأبناء عوناً لأبيهم في رعاية قطعانه وحتى إذا ما زخرت خزائنه بالمال سرت إلى نفوسهم عوامل الفساد والتلف. فأقبل واحد منهم على الخمر يعب كؤوسها حتى يضل منه الوعي ويحمل مخمورا إلى داره. ولم يلبث أن قتل في عراك بين أبناء الحي من ذوي النفوس الشريرة.

أما الآخر فقد تزوج بامرأة رقيعة خرقاء، جعلت تسعى بالباطل بين الولد وأبيه حتى أوغرت نفسيهما وأضغنت قلبيهما. فافترقا بعد أن تخلى (إلياس) لأبنه عن جواد وقطيع من الغنم

لم ينقض حين على ذلك حتى تفشى المرض بين الماشية، فأورد كثيرا منها مورد الهلاك والفناء. . . وساء الحصاد في هذا العام ولم تأت الأرض إلا باليسير. . . فحصد الموت بعض ما تبقى من الجوع. ثم أغارت قبائل (القرغيز) على أملاك (إلياس) فاستحوذت على البقية الباقية من حيواناته. . .

وبين ليلة وضحاها أصبح إلياس، فإذا بأمواله قد عبثت بها يد الزمان، وأدبرت عنه الدنيا وهي ساخرة في حين ضعف فيه جسده ووهنت قواه. . . فباع أثاث داره ثم لم يلبث أن باعها هي الأخرى.

وبات هو وزوجته - وكانت تدعى (شام شماجي) - على الطوى وليس لهما من موئل يأويان إليه، فقد رحل ولدهما وزوجته عن البلدة، وماتت ابنتهما منذ زمن بعيد. فلم يجد الزوجان إلى جانبهما في خريف العمر من يسعى عليهما بالقوت. . .

وكان لهما جار يدعى (محمد شاه) ليس بالغني وليس بالفقير بل يحيا حياة ذات رخاء ويسر. . . فعطف عليهما ورحم كبرهما إذ كان ذا قلب يفيض بالحب وعروق تنبض بالرحمة. فطاف بعقله ما كان عيه (إلياس) من كرم وجود. فقال له: -

تعال وأقم معي يا إلياس أنت وزوجك العجوز. . . وما عليك سوى أن تفلح حديقة البطيخ

ص: 56

في الصيف، وفي الشتاء تطعم الماشية وترعاها. . . إذا وسع مقدورك هذا!! أما زوجتك الفاضلة (شام شماجي) فسوف تجلب الأفراس وتستخرج لنا من ألبانها (كميساً) طيب المذاق بديع الصنع.

وسأهيئ لكما من الملبس والطعام ما تقر به عيونكما وترومانه فإن أعوزتك حاجة بعد ذلك فخبرني بأمرها، وإني لأعدك بأن أتيحها لك ما وجدت إلى ذلك سبيلاً. . .

أقبل (إلياس) وامرأته على العمل في خدمة جارهما. ولعلهما صادفا في أول الأمر صعوبة، وشقت عليهما الخدمة. بيد أنهما لم يمكثا غير قليل حتى تعودا على ذلك، واستقر بهما المقام عنده يعملان له ما يسعهما. . .

وكان يتسرب الألم والرثاء إلى قلب (محمد شاه) حينما يبصر بهما بعد غناهما العريض وعلة منزلتهما، ينحدر إلى مثل هذه الحال. لقد حرز في نفسه هذا ولكنه أفاد منهما إذا أطلق لهما حرية الأمر، فلم يسعهما سوى أن يتفانيا في خدمته بإخلاص وجد

وذات يوم نزل في ضيافة (محمد شاه) نفر من ذوي قرابته وصديق له من رجال البحر فذبح (إلياس) لهم شاة وسلخها وبعد أن أنضجها على النار، بعث بها إلى الأضياف فأكلوا منها ما طاب لأنفسهم. . .

وبينما هم قعود على البسط الثمينة يتناقلون الحديث ويرشفون كؤس ا (لكميس) مر بهم إلياس - وقد فرغ من عمله - فلما أبصر (محمد شاه) قال لواحد من أضيافه: (هل لمح طرفك هذا الرجل الذي مر بنا منذ لحظات؟!)

فأجابه الضيف في عجب: (أجل.! فما الذي يدعو إلى سؤالك هذا؟!)

- (لقد كان أغنى إنسان في هذه الناحية من الأرض!. إنه يدعى الياس. أما سمعت بذلك الاسم من قبل؟!)

- (لقد طرقت سمعي أخبار عنه مؤكداً. . إني لم أره قبل الآن ولكن شهرته ذاعت كل البقاع!.)

- (هذا حق. . بيد أنه الآن صفر اليدين ذو متربة وعسر. فهو يقيم معي هنا يعمل في أرضي ويرعى أغنامي، أما زوجته فتحلب ماشيتي وأفراسي!. .)

فأدرك الدهش ذلك الضيف ومط شفيتيه وهز رأسه وهو يقول: (الأيام دول من سره زمن

ص: 57

ساءته أزمان. فبين عشية وضحاها يصير المرء من أعلى عليين إلى أسفل سافلين!

هل ترى المصيبة تقض مضجع هذا المسكين وتجعله يندب حظه على ما ضاع من بين يديه؟!)

- (ومن يدريك؟! إنه يعيش في هدوء وسكينة يحسن القيام بعمله) فعاد الضيف يقول: (بودي أن أتحدث إليه حيناً هو وزوجته، أفيمكنني هذا؟)

- (ولم لا؟!) وراح السيد ينادي على إلياس: (يا أبت. هيا اشرب معنا قدحاً من الكميس. وادع زوجتك إلى هنا كذلك.)

فدلف إلياس مع زوجته إلى الحجرة. . . وبعد أن ألقى تحيته على الأضياف جلس على قرب من الباب، وراح يتمتم بصلات خفية في صوت خفيف. . . أما زوجته فتجاوزت المكان إلى ستر في ركن منه حيث جلست خلفه مع سيدتها. . .

وقدم (محمد شاه) إلى إلياس قدحاً من أقداح (الكميس) فتناوله ولسانه يلهج بعبارات الشكر والحمد، وبعد أن تمنى للحاضرين صحة وعافية راح يترشفه على مهل، ثم وضعه جانباً. فقال له الضيف الذي كان يروم رؤيته. (حسن يا أبتاه. أحسب إن حديثنا سوف يثير في نفسك لواعج الحزن والأسف ويبعث في نفسك ذكرى ما كنت تتملكه من دور وضياع ومواش ذهبت هباء مع الريح. . لعلك آسف وضيق النفس بما أنت فيه الآن!

فوضحت على ثغر إلياس ابتسامة هادئة وقال في صوت رزين (لو إني أخبرتك ما هي السعادة، وما هي عثرة الحظ. . . لأثار ذلك دوافع الشك لديك في نفسك!. فيحسن بك إذن أن تسأل زوجتي. فكل ما في قلوب النساء يجري طلقاً على ألسنتهن. . . ولسوف تنبئك عن بينة بجلية الأمر!. .)

فاستدار الضيف نحو الستار. . وهو يقول: (هلا تخبرينا يا جدتي العجوز. . . كيف أن سعادتكم السابقة تقرن بما يكتنفكم الآن من بؤس وشقاء؟؟)

فأرتفع صوت (شام شماجي) من خلف الستار: هذا ما يدور بخلدي! لقد عشت أنا وزوجي العجوز خمسين عاماً نسعى في سبيل السعادة وننقب عنها، فلم ندرك لها أثراً. . . ولكنها الآن في هاتين السنتين الأخيرتين - منذ أن ودعنا الغنى ورفعة الشأن، وأصبحنا نعمل كأجيرين بلغنا السعادة وعرفناها على حقيقتها وصرنا ننعم بها كل صباح ومساء. . . فلسنا

ص: 58

نبغي أسعد من أيامنا هذه!.)

فرانت الدهشة والعجب على وجوه الأضياف وكذلك صاحب الدار الذي قام فحسر الستار عن مكان المرأة العجوز وهي جالسة، وقد عقدت يديها على صدرها وراحت تتبسم لزوجها فابتسم هو الآخر لها.

وبعد أن مضت برهة من الصمت تعلقت فيها الأنفاس عادت تقول في صوتا الهادئ: (غني لا أحدثكم بغير الحقيقة. . . وما في قولي من مبالغة بل هو الحق الخالص. . . لقد أبلينا ربع قرن من الزمن ونحن نسعى إلى السعادة. . . وعلى قدر ما كنا أغنياء كانت محرمة علينا. أما الآن وقد صرنا أجيرين لا نملك من متاع الدنيا شيئاً أحسسنا بالسعادة التي لا نود بديلاً منها. . .)

فقال لها ذلك الضيف متسائلاً: (بالله خبرينا ما هذه السعادة التي تشملك أنت وزوجك في إعسار كما بعد اليسر وادبار الدنيا عنكما بعد إقبالها عليكما؟!)

- (أصبت!. حينما كنا أغنياء كان لدينا من المشاغل ما يصرفنا عن إئتناس الزوج بزوجته وتآلف روحينا. وعبادة الله عز وجل. . . لقد كان الناس يفدون علينا فنسهر على خدمتهم وتوفير ما يثلج قلوبهم خشية أن تتناولنا ألسنتهم بالسوء ويتحدثون عنا بما نكره. . . فإذا ما رحلوا كان علينا أن نراقب عمالنا ومن يقومون على خدمتنا حتى لا تنزع بهم دوافع الشر إلى خيانتنا فيما نعهد به إليهم. . .

كما أننا كنا نحاول أن ننقص أجورهم ونفيد منهم أكثر مما نستحق. فارتكبنا الخطيئة الأولى.

ثم إننا كنا - إذا ما جن الليل - نبيت ونحن أيقاظ خشية أن تفترس الذئاب الوحوش بعض الأغنام أو يعمد فريق من اللصوص إلى سرقتها في غفلة من حراسها. وننهض بين حين وآخر لنطمئن عليها. . . وغير ذلك مما كان ينشأ من المشاكل، ثم أضف إلى ذلك ما كان ينشب بيني وبين زوجي من شجار ونزاع. . . فهو يريد شيئاً وأنا أود ما هو ضده فنخطئ ثانية. . .

وهكذا كنا لا نكاد نتجاوز صعوبة حتى نقابل أخرى. . . ونستدبر خطيئة حتى نواجه ثانية فعشنا لا نجد إلى السعادة سبيلا!)

ص: 59

- (حسن. . والآن.)

- (الآن حينما. . أفيق أنا وزوجي (العزيز) في الصباح بعد نوم هادئ مطمئن لا ينغصه الخوف ولا الفزع. . نتبادل كلمات الحب وعبارات الود. . . وبدأنا نحيا في هدوء وسلام لا تعكر صفوة تلك الأسباب التي كانت تثير النزاع والشقاق بيننا.

ليس علينا من واجب سوى خدمة ذلك السيد الكريم الذي أحسن إلينا. . . فنحن نتفانى في العمل لصالحه. . . حتى لا يحس في وجودنا مضرة به أو ثقلاً عليه. . . ونتناول غداءنا هنيئاً مع أكواب (الكميس). . . وقد توفرت لدينا الأخشاب التي نطعمها النار ونستمتع بدفئها إذا ما اشتدت وطأة البرد ويأتينا سيدنا بالثياب ذات الفراء التي تعوزنا.

أما الوقت فقد بتنا نجد فيه ما يتسع لحديث كل منا إلى الأخر في ود. . و. . غزل. . فنفكر في أنفسنا ونتعبد متقربين إلى الله نسأله الصفح والغفران عما ارتكبناه من الخطيئات. . نعم لقد سعينا خمسين عاماً في سبيل السعادة فلم نجدها إلا الآن!.)

فضحك الأضياف. . ولكن إلياس ما لبث أن قال لهم في صوت ذي جرس هادئ وإن شاعت فيه رنة العتاب:

(ليس ثمة مجال للضحك!. أيها الرفاق. . فليس هذا الحديث مثاراً للضحك والهزل. . بل عبرة وعظة. . إنها حقيقة الحياة. . لم ندركها إلا حينما توج رأسانا المشيب. .

لقد كنا نحن كذلك سخفاء وحمقى حينما بكينا طويلاً على ما ضاع من ثروة وعلو شأن. . . ولكن الله - تعالت قدرته هدانا الآن إلى الحقيقة. . فما أجملها وما أجلها. .

إنا لا نذكر هذه الحقيقة لكم ابتغاء السلوى والعزاء لنا ولكن نجلوها على أسماعكم لهدايتكم وخيركم!.)

فقال (الملاح) وقد اغرورقت عيناه بالدموع: (إنك لعلى حق يا إلياس. . إنه حديث الحكمة والموعظة. . وقد جاء ذكره في الكتب المقدسة التي نزلها الله ليهدي بها عباده. .)

وأمسك الأضياف عن الضحك. واستغرقوا في فكر عميق.

(القاهرة)

مصطفى جميل مرسي

ص: 60