المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 728 - بتاريخ: 16 - 06 - 1947 - مجلة الرسالة - جـ ٧٢٨

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 728

- بتاريخ: 16 - 06 - 1947

ص: -1

ِ‌

‌أسد أفريقية

للأستاذ محمود شاكر

إلى أسد أفريقية محمد بن عبد الكريم الخطابي.

السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله وبعد:

ملأت فضائلك البلاد، وبقيت

في الأرض، يقذفها الخبير إلى العَمِى

فكأن مجدك بأرق في مزنه

قِبَل العيون، وغرة في ادهم

واليوم مقذ للعيون بنقعِه

لا يهتدي فيه البنان إلى الفم

لم يبق غير شفافة من شمسه

كمضيق وجه الفارس المتلثم

فأنت، أبقاك الله ومتعك بالعافية، قد كنت في تاريخ العرب الحديث نفحة علوية من مجد آبائنا الغر الميامين، وكنت في ضمير كل عربي صدى للأماني البعيدة التي لا تزال ترددها دماؤنا في أبداننا العربية الحية، وكنت قبساً من فضائل أسلافنا يحدث عن نفسه بلسان عربي مبين، وكنت برهاناً جديداً لأهل البغي على أن العربي لا يذل أبداً ولا ينام على الضيم براد به. ثم كتب الله لك بعد عشرين سنة من الأسر أن تعود كما كنت عربياً حراً حمي الأنف ذكي الفؤاد، تأنف لأمتك وعشيرتك أن بروا ميسم ذلهم وأعوانهن على جبين أكرمه الله بالنصر مرة، وامتحنه بالأسر تارة أخرى. فعش في حمى مصر أيها الرجل أميرا على قلوب مليون نسمة من العرب وأربع مئة مليون من المسلمين، وجزاك الله عما قدمت للعرب أكرم جزاء وافاه.

كنت يومئذ في العقد الثاني من عمري شاباً ينبض بين جنبيه قلب يتلفت إلى مجد آبائه ويحن إلى تاريخهم حنيناً طويلاً كأنه لوعة ثكلى على وحيدها، وكانت مصر كلها لا تزال ترسل الصرخة أثر الصرخة طالبة أن تنال في الحياة حريتها التي استلبها البغاة الطغاة شياطين الأرض، وكانت الدماء في أبداننا تريد أن تطفي ظمأ الأرض المصرية بما يجري على ظهرها من دماء الشهداء حتى تمحو عار الاحتلال عن هذه الأرض المطهرة، ولكن زعماءنا أبوا إلا السلم وطمعوا أن تنال حقنا بالمفاوضة، أي بخديعة الغاصب حتى ينخدع لنا فيترك لنا ما سلب.

ثم أصبحنا يوماً فإذا بنا نسمع عن (أسد لريف) الذي هب من غابه ونفض نواحيه وزمجر

ص: 1

واجتمع للوثبة، وإذا هو يضرب يميناً وشمالاً لا يدع للأسبان متنفساً حتى اضطرهم إلى أقبح مواطن الذل تحت قدميه، وأوردهم شرائع العار شلا وطرداً حتى سجدت له تلك الجباه المتغطرسة في حمأة من الضراعة والذل. كانوا يريدون أن يسوموا أهل مراكش أن يسجدوا لهم في مثلها، فأبيت إلا أن تعرفهم أقدارهم تحت هاتين القدمين الطاهرتين النبيلتين، فأتم لك الله النصر عليهم كما شاء.

ثم أراد الله أن يعرفنا ويعرفك من النذل ناصره على نذلته، فهبت إليك تلك الدولة الأخرى المعروفة باسم فرنسا وهي يومئذ ثانية أمم الأرض فألبت عليك جيوشها وجحافلها (وبيناتها)؛ وفزعوا إلى نصرة الأسبان المهزومين، وظلموا يستجيبون عليك، أنت الضعيف الفرد، كل ما آتاهم الله من بسطة في العلم وقوة في البأس، حتى غلبوك على أمرك، ثم خدعوك، ثم غدروا بك، ثم نفوك على عادتهم من فساد الطوية وحقارة الفعل. فأصبح كل عربي على ظهر الأرض يحس أنه الأسير المنفي المغدور قلوبنا على بغض لا ينام لهذه الأمم التي لا شرف لها ولا ذمة ولا عهد.

ثم تقضت الأعوام وشارفت الأربعين، وإذا أنت حر طليق في أرضي وبلادي، فما كدت أسمع ذلك حتى انطوت أيامي وعدت كما كنت في نحو العشرين، شاباً يحس دماءه تغلى لهذا النبأ كأنني انطلقت من الأسر وخرجت من المنفي لأعيش حراً طليقاً كما تعيش أنت اليوم في مصر. ومصر من أهم المروءات، فإن ساء ذلك فرنسا أم الغدر والخيانة، فأننا لن نفارق أخلاقنا وأخلاق آبائنا لكي نعينها على آثامها ومساوئها، بل سنرد عليها بغيها مهما لقينا في ذلك من سوء أخلاقها وقبح فعالها.

ونحن لا نعلم علماً يقيناً ماذا فعلت بك هذه الأمة الحريصة على ابتذال عرضها بين الأمم، أيام كنت في منفاها، ولكن كفانا طول الاستقصاء، أن نعلم أنها حرمت على تلك الألسنة العربية الصغيرة في أبنائك أن تعرف منطق آبائها وأسلافها، فقد اضطرتها بجبروتها وقسوتها أن تتجافى عن الكلمة العربي التي تمثل للعربي أمجاد أمته في ألفاظ من نور هذه اللغة الشريفة. وسيقولون إنك أنت الذي لأبنائك أن ينشئوا على ذل السان الفرنسي، ولكن كذبوا فما من عربي يطق أن يدع أبناءه الأحرار في اسر لفة أخرى غير اللغة الحرة التي عاش عليها آباؤهم وأجدادهم. ولست أشك في أنهم قد اتخذوا لذلك كل وسيلة حتى لم يدعوا

ص: 2

لك حيلة تدفع بها قلبك حسرة الأب العربي وهو يرى أبناءه ينشأون غرباء عن لسان أمهاتهم اللائى أرضعنهم بدر عربي حر آب للضيم طالب للعزة والشرف والنبل.

وقد أراد الله غير ما أرادوا، فها أنت اليوم بين أهلك وعشيرتك من أهل مصر، وهؤلاء أبناؤك أهلنا واخوتنا. وهذه مصر بلادهم لهم فيها ما لنا، فمن قليل يهدم اللسان العربي ذلك اللسان الفرنسي، ويرتد العربي عربياً كما أراد الله له أن يكون، كما ردك الله حراً كما أراد لك أن تكون. وأما فرنسا فقد رد الله غيظها في صدرها حتى يأكل منها ما بقى مما تستطيل به على الناس.

ولا تأس أيها الرجل على ما فات، فأن في الذي لقيه الناس من بعدك لعزاء لك عما لقيت في منفاك، وإن الذي أنت فيه اليوم لهو نعمة من الله بها عليك لتحمل مرة أخرى سيف الجهاد في سبيله وفي سبيل أمته التي أنزلت بها فرنسا من بطشها ومظالمها ما لا قبل لأحد بالصبر على مثله. وقد ردك الله إليها لترى رأى العين ماذا فعل بعدك هؤلاء القوم بقومك، ولتشهد مصارع الأحرار من أنصارك، ولتملأ قلبك من القوة التي تفل الحديد وتنسف الجبال وتجتاح الجيوش - قوة الأيمان بالله الذي لا يخذل من نصره ونصر أولياءه بالحق يوم الجهاد.

أن فرنسا لم تدع في تونس والجزائر ومراكشي مكاناً إلا نفثت فيه من سمها، أو ضربت فيه بأترابها، أو تدسسن إليه بغدرها وجمالها. إنها أمة لم ترع ذمة للإنسانية ولا للمروءة ولا للشرف ولا لشيء مما يصير به الإنسان حياً متميزاً من سائر الوحوش والضواري - أمة تفتري على الناس افتراء مقيتاً ثم تتبجح على الناس باسم الحرية والإخاء والمساواة، أمة من الإدلاء لم يكد الغازي يغزو بلادها في الحرب الماضية حتى ألقت سلاحها وسجدت على مواطئ قدميه تمسح غبار الغزو ضارعة متذللة، أمة لن تأنف آلاف مؤلفة من أبنائها أن تطلب التجنس بالجنسية الألمانية يوم أصابتها هزيمة واحدة في أول حرب تهزم فيها، ولم تستنكف نساؤها أن تفتح الإغلاق للغزاة غير متورعات ولا كريمات.

إننا أيها الأمير نبغض هذه الأمة كأشد ما يبغضها دمك الذي يجري في عروقك، لأننا اخوة جمعتنا رحم واحدة هي العروبة؛ ونحن لا نخصها وحدها بهذا البغض، بل نبغض كل أمة على غرارها قد استحلت مرعى البطش واستطابت ثمار البغي والعدوان. فنحن العرب لن

ص: 3

نولد لنعي، بل ولدنا لنعيش أحرارا في الدنيا، ولنعلم أهل الدنيا معنى الحرية، ولئن قعدنا اليوم عجز عن تعليم هذه الناس، فعن قريب سو فيأذن الله لنا بان نأخذ بالأسباب التي تتيح لنا أن نعلمهم ما خلقنا من اجله، وعن قريب تنقشع عن عيون كثيرة ضلالات كثيرة أوهمتها أن العرب أمة متخلفة قد نقض الزمن منها يديه فصارت كلا وعالة على أهل الأرض.

أن العربي من أمثالك هو الذي سيشهد تراب هذه الأرض في يوم يرونه بعيداً ونراه قريباً، أن فضائل البشرية كلها لم تزل حية على فطرتها الأولى في هذه القلوب الزكيبة المطهرة، قلوب العرب، وان العالم سيكون أسرع تقبلاً للمعاني العربية في الحرية والإخاء والمساواة من تقبله لتلك المعاني الفرنسية التي تلفعت بالجشع واللؤم والغدر والخداع. وأن العربي هو وحده الذي يستطيع أن يحق على هذه الأرض معنى الحرية والإخاء والمساواة لأنه حر بالفطرة لم يألف ذلاً قط، ولأنه أخ لمن لن أخاه لأنه لا يعرف الغدر، ولان الناس عنده سواء لأنه لا يفتات على أحد ولا يفتري على سواء من الناس.

وأنت أيها الأمير سيف من سيوف الله، ونحن جند من انو الله فعش بيننا سيفاً مصلتاً مسلولاً على أعناق البغاة والطغاة والظلمة، حتى يأتي اليوم الذي كتب الله لك أن تكون فيه ذبحاً لعدونا وعدوك ونصراً لأمتنا وأمتك، ومخرجاً لبلادنا وبلادك من ظلمات الأسر إلى نور الحرية.

والسلام عليك ورحمة الله.

محمود محمد شاكر

ص: 4

‌تحقيقات تاريخية

للأستاذ أحمد رمز بك

أفرد الدكتور علي إبراهيم حسن في كتابه (دراسات في تاريخ المماليك البحرية) بابا عن السياسة الخارجية ضمنه حروب مصر وعلاقاتها مع الدول الأجنبية، وهو بحث شيق دل على سعة اطلاعه وتدقيقه حينما عرض لما يتعلق بدول المغول في فارس والقفجاق والهند، ولكني دهشت حينما أفرد قسماً لدولة سماها أرمينية وأدخل في حروب مصر معها فتح ملطية أتمد وغيرهما من البلاد الإسلامية إذ قال في صفحة 168 (إلا أن الأرمن قد عاودا العصيان فارس إليهم الناصر حملة وأمر تنكر بالانضمام إليها، فخرج في أول محرم سنة 715 وحاصر ملطية ودخلها في يوم الثلاثاء 23محرم من تلك السنة.) وفي صفحة 16 (توالت انتصارات جند الناصر ففتحوا مدينة عزقية من أعمال أمد في سنة 715 ثم فتحوا أمد بعد ذلك وقد ساعدت الأحوال السيئة في بلاد أرمينية الناصر محمداً على غزوها فقد تولى عرشها الملك ليو الخامس).

والمعروف أن أرمينية الجغرافية لم يكن لها وجود سياسي في ذلك الوقت، ولم تكن ملطية ولا أمد تحت سلطان الملك ليو الخامس، وإنما كانت هناك مملكة للأرمن على أطراف بحر الشام وكان صاحبها يطلق عليه (متملك سيس) وقد انحصر ملك الروم في منطق من السهول حول مدية سيس تحيط بها الحصون التي أنشأها المسلمون والصليبيون واحتلها الأرمن وتحصنوا فيها، وماتت هذه الأمة تخضع أحيانا خضوعاً اسمياً لمصر وتخالف المغول إذا جاءوا للفتح وتدارى ملوك الروم من سلاجقة وتركمان، أذن فلا علاقة بين هذه المقاطعة والحروب التي قامت في عهد الناصر في ديار بكر والجزيرة وأرض الروم وترتب عليها فتح ملطية وأمد وغيرهما فقد حضر أبو الفداء تجمع عسكر مصر والشام في حلب ولازم الملة في خروجها لفتح ملا طية وحدثنا عن المراحل التي قطعها الجيش المصري من عينتان إلى نه المرزيان وصحته مرزنان إلى عيان فالنهر الأزرق قال (وجلنا حصن منصور على يميننا) ثم إلى زبطرة حتى حصار ملطية ولم ذكر في ملطية حاكماً اسم جمال الدين الخضر وهو من بيت بعض أمراء الروم. وأماكن هذه المواقع التي مرتبها الحملة في سيرها وعودتها معروفة على لخرائط وهي بعيدة عن أراضي ملك الأرمن في

ص: 5

سيس. وما قلناه عن ملطية ينصب على أمد الواقعة على نهر جلة وبينها وبين (ليو الخامس) متملك سيس مراحل وأراضي شاسعة منها ما هو تحت حكم مصر، ومنها ما وحدودها في الولايات التي كانت خاضعة أو متحالفة مع خانات أو إيلخات مغول فارس، هي بقاع إسلامية لم يكن للأرمن وملكهم شأن بها. ودلينا على صحة ما سقناه قول صاحب البداية والنهاية عند ذكره فتح ملطية (وقد كانت ملطية إقطاعا للجوبان أطلقها له ملك التتار فاستناب بها رجلاً كردياً فتعدى أساء وظلم فكتاب أهلها السلطان الناصر واحبوا أن يكونوا في رعيته). صفحة 73 جزء 14.

وفي أبي الفداء ما يشرح شكوى أهل ملطية إذ قال (أن المسلمين الذين كانوا بها اختلطوا بالنصارى حتى أنهم زوجوا الرحل النصراني بالمسلمة وكانوا يعدون الإقامة للتتر ويعرفونهم بأخبار المسلمين) صفحة 91 جزء 4.

ويظهر أن قاضي ملطية وكان أول من تلقة جند الناصر وطلب منهم آمان لبلده له يد في هذه الشكوى التي جعل من ضمن ما جاء فيها ما يبرر استفزاز حمية الناصر الدينية وان كان أبو الفداء يضيف إلى ذلك سبباً أخر هو تعرض أهل ملطية لجند مصر المقيمين في القلاع الشمالية مثل قلعة الروم هنس وكختا وكركر في غدوهم ورواحهم. ويذكر المقريزي في السلوك (صفحة 134 جزء 2 للدكتور زيادة) أن التعرض كان ضد الفداوية من أهل مصياب الذين أرسلهم لاغتيال قراسنقر المقيم بمدينة مراوغة وان الكردي الذي تغلب على ملطية وجنى أموالها قبض عليهم وترتب على ظهوره أن نائب ملطية من جهة جوبان ويقال له بدر الدين ميز أمير بن نور الذي خاف أن يأخذ الكردي نيابة ملطية منه فكاتب الناصر واتفق معه على تسليم البلد إليه، وقد خص فتح ملطية بصفحة فيها تفاصيل عن تسليم المدينة واحتفال نائبها والتشاريق والخلع التي وجهت إلى أعيانها، ولم نجد فيها ولا فيما لدينا من المراجع إشارة أو كلمة يفهم منها أن ملطية كانت تحت حكم (ليو الخامس).

ونحن نلتمس للدكتور علي إبراهيم حسن عذراً لان السير وليم موير في كتابه (تاريخ المماليك في مصر) ذكر في الصفحة 81 (طبعة مصر مترجمة)(أرسل السلطان الحملات على بلاد الأرمن التعسة وحصرت عساكره ملطية)، وجاء من بعده الأستاذ أنور زقلمة فوضع كتاباً عن (تاريخ المماليك) طبعة مصر كتب في صفحة 64 منه (وعاد أرمن مرة

ص: 6

ثالثة للعصيان عام 1314 في عهد الناصر فأرسل لهم حملة قوية حصرت مدينة ملطية). وفي ذلك ما يشعر بأنهم ينقلون جميعاً عن مصدر واحد وصاحب هذا المصدر أما اختلط عليه الأمر ولم يفرق بين ولاية سيس وأرمينية الجغرافية أو فهم من وجود طائفة من الأرمن في ملطية انه أصحاب الأمر والنهى فيها، أو هو على علم تام بهذه الحقائق ولكنه كغيره من كتاب الغرب الذين لا يملكون التحرر من تقاليد الحروب الصليبية ولذلك ينظرون دائماً بمنظار مكبر إلى كل ما يذكر بأثرها، ولما كانت ولاية سيس من تلك البقايا فهم يحملونها برغم انف الزمن دوراً معها في التاريخ والحروب والعلاقات السياسية ويضيقون الأعراف بأنها ولاية صغيرة في كليليكية.

وواجب علمائنا في التاريخ وضع الأمور في نصابها وإعادة الحق لذويه، ودولة المماليك من الدول الإسلامية التي لم ينصفها التاريخ وتعرضت لشتى الهجمات من كمؤرخي الغرب، ولكن الدكتور علي إبراهيم حسن أنصفها في كتابه وأنصف مصر، وكان كتابه من دلائل النهضة القائمة والوعي التاريخي لإعادة القيم الحقيقة لذلك العصر فله عظيم الشكر والثناء.

وقد اطلعت بعد كتابه ما تقدم عل تحديد نيابة حلب في عهد الناصر كما جاء في مسالك الأبصار ونقل ذلك صاحب صبح الأعشى فإذا فيه (ولاية حلب متصلة ببلاد سيس والروم وديار بك وبرية العراق وتحدها من الشمال بلاد الروم مما وراء البهنسي وبلاد الأرمن على البحر الشامي). . .

ويفهم من ذلك أن بلاد الأرمن يقصد عند ذكرها الأراضي الواقعة على خليج الإسكندرية والبحر الأبيض المتوسط وهي التي يطلق عليها اسم كيليكية أو ولاية أدنه التركية حالياً والتي يخترقها نهراً سيحان وجيحان من الشمال إلى الجنوب: وعرفن بهذا الاسم في هذا العصر الذي نتحدث عنه وألا فهي قديماً بلاد الثغور والعواصم وفيها قبر المأمون بطر سوس وضمت إلى مصر من عهد احمد بن طولون ولها تاريخ طويل ومعارك وأيام.

ولما إستملكها الأرمن بعد الحروب الصليبية تعرضت لهجات المصريين فانتزع الملك الظاهر ييرسقلاع بغراس والبهنسي ودربساك سنة 668 ثم فتح الأشراف خليل بن قلاوون قلعة الروم 691 وهي نهاية م وصل إليه ملك الأرمن شرقاً، وافتتح الناصر الحصون

ص: 7

الواقعة في الشرق من جيحان، ثم جاء الأشرف شعبان ففتح عاصمتهم سيس ويفية ما حولها من البلاد على يد قشتمر المنصوري نائب حلب وبذلك أصبحت ولاية بأكملها تحت حكم مصر حتى الفتح العثماني.

وجاء ذكر الحصون والقلاع التي تسلمها الناصر من ملك الأرمن في كتب التاريخ وليس بينها خبر عن ملطية أو آمد، ونظرة بسيطة إلى خريطة مفصلة لتلك المنطقة تجعلنا نتحقق من مواقع القلاع التي ضمها الناصر من بلاد الأرمن وهي تكون مع الأراضي تقريباً ما يشبه المثلث قاعدته خليج الإسكندرونة بين بيأس وإياس تقريباً ما يشبه المثلث قعدته خليج الإسكندرونة بين بيأس وإياس ودأمة الهارونية (نسبة لهارون الرشيد) وهي جميعاً شرقي نهر جيحان. ويقول أبو الفداء (وهو ملك كبير وبلاد كثيرة). ويقول صاحب السلوك (وأقطع السلطان أراضى سيس لنائب حلب ونائب الشام وغيرهما من الأمراء واقر فها جماعة من التركمان والأجناد، فاستعملوا الأرمن في الفلاحة وعمل في كل قلعة من قلاع الأرمن نائب ورتب فيها عسكر).

ولكن الكتب التي أخذت من المصدر نفسه نقول بجلاء عسكر مصر ومنها كتاب الدكتور علي إبراهيم حسن الذي يقرر في صفحة 169 (ثم جلت جيوش الناصر بعد أن جمعت كثيراً من الأسلاب والغنائم) والحقيقة أن الجلاء كان عن الأراضي الواقعة بين النهرين أي شمال المصيصة وأدنة.

أما ما كان شرقي جيحان فهو الذي تناوله الإقطاع، ودليلنا على ذلك أن ملك الأرمن بعث بمفاتيح القلاع إلى القاهرة: وهي أباس (3قلاع) والهارونية والنقير وكودا والحميصة ونجيمة) كما جاءت في كتاب تاريخ سلاطين مصر والشام. ويضيف أبو الفداء ميرفندكار والمصيصة وكوبرا، ويقول (ضرب المسلمون برج إياس الذي في البحر واستنابوا بالبلاد المذكورة نواباً. . .

ومع بقاء ملك الأرمن في عاصمته سيس حتى عهد الأشرف شعبان تحت حماية ملوك مصر بقيت بلاده معرضة لهمجات التركمان وعسكر ابن قرمان من أسيا الصغرى، ولذلك نجد أن كتب التاريخ تحدثنا باحتلال جند الناصر لبعض القلاع الواقعة على سفوح جبال طوروس أو التي تعترض الطرق الموصلة للجبال، نذكر على سبيل المثال قلعة كولاك في

ص: 8

شمالي طر سوس على خط عرض واحد مع الهارونية وهي في نهاية الغرب من ولاية أدنة، وهناك (بارى كودك) افتتحها بأي دمير الخوارزمي في عهد الناصر وهي إلى الشمال من طر سوس، ومنها (قلعة لؤلؤة) وهي شمالي كولاك.

ولا أجد تفسيراً لاحتلال هذه المناطق غير أن ملك الأرمن سلم بما بين يديه من الحصون التي على الشرق بشرط حمايته من الغرب باحتلال الحصون والمضايق التي يتسرب منها التركمان وعسكر أن قرمان من الجهة الشمالية والغربية لمهاجمة بلاده.

أن التاريخ علم يتقدم مع الزمن شأنه شأن غيره من العلوم وقد يأتي لنا المستقبل بنصوص تفسر لنا كل ذلك فلا اجزم بشيء نهائي. . .

أحمد رمزي

ص: 9

‌إنذار!

للأستاذ على الطنطاوي

ركبت مع زميلي في البعثة القضائية السورية الأستاذ محمد نهاد القاسم، زورقاً في النيل حملنا من (جسر إسماعيل) إلى (مصر العتيقة) باجرة فاحشة قبضها منا صاحب الزورق، وبعث معنا شاباً في نحو التاسعة عشرة، قوي الجسم، وديع النفس، فأعمل المجاديف ساعة كاملة، حتى هبط الليل، وغسله العرق، ونحن لم نصل، فأشفقنا عليه وجربنا أن نسعده فما أفلحنا، وكدنا نقلب الزورق به وبنا، فيسبح فيجور ونلقى نحن حقنا، فكعفنا، واكتفينا من الترفيه عنه بعمل بألسنتنا، والمواساة باللسان اقل الإحسان. . . حتى دنا الحديث من أجرته فسألناه:

- كم تأخذ؟

- قال: أربعون قرشاً.

- قلنا: في اليوم؟

- فصاح مستغرباً: في اليوم؟ كل ثمانية أيام!

- قلنا: أو ليس لك أسرة؟

- قال: أم أعولها.

- قلنا: أو تكفيك؟

- قال: تكفيني؟! أبدا.

- قلنا: فلماذا لا تطلب زيادة؟

قال: يضربني عمى أحمد ويطردني، ويخبر زملاءه فلا يشغلوني وأنا لا أعرف إلا هذه المهنة.

- قلنا: وكم يحصل هو؟

- قال: هو. . . كثير. . . كثير. . . عنده عشرة زوارق تمشى النهار كله، كل ساعة أجرتها من عشرة إلى عشرين قرشاً وتركناه وصعدنا إلى البر، ونحن لا نزال نفكر فيه: شاب طويل عريض، كيف يعيش مع أمه بخمسة قروش في اليوم؟ والفراش والآذن؟ كيف يعيشان بثلاثة جنيهات في الشهر؟ والمؤذن؟ والأمام؟ والشرطي؟ والعسكري؟ ماذا يصنع

ص: 10

هؤلاء؟ هل فكر فيهم أحد ممن ولاهم الله أمر هذه الأمة، وأتمنهم على مالها، وجعل إليهم المنح والمنع، والرفع والوضع؟

هل ساءل واحدهم نفسه وهو يتخير أطايب الطعام من فوق مائدته ماذا يأكل هؤلاء المفلسون؟

هل فكر وهو ينتقى أبهى الحلل من خزانة ثيابه ماذا يلبسون هل خطر على باله وهو يفسد أخلاق أولاده بالترف، ويتلف صحتهم بالسرف، أن لهؤلاء بنين وبنات لا تكفى رواتبهم لسد جوعهم بالخبز القفار، وستر عوراتهم بالخام؟ رواتبهم لا تكفى للطعام والثياب فكيف إذا ولدت المرأة وجاءت نفقات الولادة؟ فكيف إذا مرض الصبي وأقبلت مصروفات العيادة؟ فكيف إذا خطبت البنت وكانت تكاليف الزواج؟ فكيف إذا دخل الأولاد المدرسة وطالبتهم بثمن العلم؟. فكيف إذا اشتهوا أن يتشبهوا بأبناء الناس يوماً. . . فأرادوا أن يأكلوا الحلوى الحلال أو يطلبوا اللملهى المباح؟؟ أم قد حرمت هذه المتع على الفقراء، وكتب عليهم أن تكون حظوظهم من دنياهم كحظوظ البهائم: ملء المعدة بأرخص الطعام، وستر الجسم بأيسر الثياب، والإستكنان بشر المساكن؟ وان تكون معيشتهم اقل من معيشة كلاب الأغنياء؟.

قرأت في جريدة (العلم الأخضر) نقلاً عن العدد 673 من (مجلة الاثنين) أن (روى) كلب الوجبة الأمثل. . . فلان بك. . يفطر كل يوم بكيلو من اللبن ورغيفين من خبز (الفينو) و (باكو) من الشوكولاته ثمنه بين ثمانية قروش وخمسة عشر قرشاً ويتغدى برطل ونصف رطل من اللحم المسلوق مع طبق مترع بالثريد، وأن طبيباً خاصا. . . وخادماً أجرته عشرة جنيهات في الشهر عمله أن يصحبه في سيارته الخاصة به. . . في نزهته اليوميتين وأشياء أخرى من هذه البابة، يمتع بها هذا الوجبة الأمثل، كلبه المدلل، لا يصل إلى مثلها عشرة في لمليون من بني آدم الذين يقطنون هذا الوادي. . . فلم أجد في العربية على سعتها، وعلى طول يقطنون هذا الوادي. . . فلم أجد في العربية على سعتها، وعلى طول اشتغالي بها، كلمة تليق بهذا السفينة المبذر الكافر بالنعمة والإنسانية وبالوطن، لا قولها له. . . ولم أدر كيف أخاطب هذا المجتمع الذي بلغ الفساد فيه، والانتكاس في أوضاعه أن صارت الكلاب تأكل (العيش الفينو) وكثير من الناس يتمنون الخبز الأسود. . . وتركب

ص: 11

السيارات وهم يمشون حفاة. . . وتنام على الحرير وهم يهجمون على التراب. . . ويقوم عليها طبيب خاص وهم غرقى في الأمراض. . . لا يجدون الطبيب. .

هذه حال لا يرضى بها الله، ولا العقل، ولا الشرف، وأنا أخاف والله أن تفتح باباً من الشر لا يسد وتأتينا أن لم نتنبه لعلاجها بالداهية الدهياء، بالشيوعية المدمرة، التي تأكل اخضرتا ويا بسنا، وتمحق غنينا وفقيرتا، فتكون لنا الراحة الكبرى التي لا ألم بعدها: راحة الموت.

هذه حال لا يمكن أن يحتملها بشر، فان كان من بيدهم الأمر لا يمشون في الطرقات، ولا يخالطون الناس، ولا يعرفون من الدنيا إلا القصر والسيارة والملاهي والرحلات، فليسألوا: ما باب الفقراء. ماذا يصنعون. وما شأن صغار العمال والموظفين وكيف يعيشون؟ وليعلموا أن عمر كان يخاف أن تضيع شاة على شاطئ الفرات فيحاسبه الله عليها، أفلا يخافون أن يسألهم الله عن أمة بقضها وقضيضها ستضيع على شاطئ النيل: يقتلها الجوع في أخصب أرض، والمرض تحت سماء، والجهل في أول دار للعلم والحضارة؟

لقد كانت مصر طبقات يستعبد بعضها بعضاً، فسوى بينها الأمام العبقري الهادي عمرو بن العاص (تلميذ محمد) وقطع هذا النظام الذي وصلته يد الدهر في عهد الفراعنة الأولين، إلى عهد الاسكندر (تلميذ أر سطو)، إلى أيام البطالسة والرومانيين، وأفاض على الناس الهدى والعدل والنور، فأحبوا لفعله الإسلام، ودخلوا فيه وتركوا له دنيا كان لهم، واقبلوا عليه علماً وعملاً، حتى كانت مصر مثابة الإسلام، ومشرق أنواره، ومورد علومه أفقدر عليها أن تعود القهقري إلى عهد الجاهلية الأولى؟ أترجع نظام الطبقات الذي مات؟ أيكون فيها سادة وعبيد؟ ويعلو بعض أهلها على بعض كأنما بفتح مصر عمرو، ولم يركز فيها راية محمد، ولم تكن مصر أم دنيا الإسلام؟

أنا لا أدعو إلى المساواة المطلقة بين الناس فذلك ما لا يكون ولا يزال في الناس غنى وفقير ما دام عامل وخامل، وذكى وبليد، لن يكونوا أبدا سواء في أرزاقهم ومعايشهم إلا إذا استوى الجنسان وتحقق حلم المدافعين عن (حقوق. . .) المرأة فانقلبت رجلاً، ونبت لها شاربان و. . . لحية!

ولكن أدعو إلى تقرب المسافة بين طبقات الناس، عاليها ودانيها، وأن تضمن الحكومة لكل إنسان حقه الطبيعي في الطعام واللباس والمسكن، وإلا تقر في موازنتها راتباً لموظف مهما

ص: 12

نزلت درجته، ولا يكفل هذا الحق له ولأسرته، ولو كان كناس الطريق، أو ناطور المراحيض، وان تسوي بين الناس (المساواة الممكنة) التي حققها الإسلام في أول الدهر في عهد الشيخين، والشيوعية في ذنب الزمان في أيام ستالين، وإن اختلف نوعهما، فكانت تلك مساواة في السعادة، وهذه هي المساواة في الشقاء!

لقد نشأت في الشام، وسحت في البلاد، فرأيت في كل بلد أغنياء وفقراء، وسعداء وأشقياء، ولكن لم أر أبدا مثل الذي رأيت في مصر!

فما هذا التفاوت بين البشر في مصر؟ ما هذا الوضع الذي يجعل من الناس واحدا يملك مليونا ومليونا لا يملكون واحد؟ وألفا يشتغلون لرجل، والرجل لا يعمل عملا؟ وإنسان يظن نفسه من الغنى والكبر إلها، وأناس تحسب أنها من الفقر والضعة بهائم؟

متى كان هذا في طبع العربي؟ متى كان في شرع المسلم؟

متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟

يا ناس. راقبوا الله، فان هذا ظلم، والله لا يرضى لعباده الظلم ولا يقرهم عليه، ولكنه يمد للظالم ثم يأخذه. . . فاتقوا أخذه الله.

يا ناس. اعقلوا، فان هذا باب الشيوعية فان لم تغلقوه دخلت عليكم فأهلكتكم.

يا ناس. ارحموا، فان هؤلاء ناس مثلكم، ولا تحسبوهم بهائم لئلا يصنعوا فيكم صنيع للبهائم، فيثوروا عليكن رفساً ونطحاً وعضاً ولدغاً، فلا تملكوا دفعهم، ولا النجاة منهم. . .

لا، لا تحقروهم، فإن الدجاجة إذا هبت تحمى فراخها استماتت فانقلبت صقراً، والقطة إذا ضويقت وغضبت صارت نمراً والماء إذا اندفع كان سيلاً مدمراً، والهواء إذا انفجر كان إعصارا مخرباً، ولولا الضغط ما ثقب المسمار الخشب، ولا أطلق المدفع القنبلة، ولا زلزلت الأرض، ولا انفتحت البراكين، ولا ثارت الشعوب.

فارحموهم ترحموا أنفسكم! واعدلوا فيهم تدفعوا عنكم يوماً اسود لا تعلمون إذا حل عم ينجلي سواده! وقوا مصر أن كنتم تحبون نصر، جائحة مهلكة، وداهية مكفهرة، أولها الشيوعية وآخرها ما لا يعلمه إلا الله! وهذا إنذار!!

على الطنطاوي

ص: 13

‌بين أدب المرأة وأدب الرجل

للسيدة الفاضلة منيبة الكيلاني

(تتمة ما نشر في العدد الماضي)

يقابل هذا من أدب الرجل في أبدع صورة وأبهى معانيه قول المعتمد بن عباد وقد حال حاله وتحالفت عليه صعاب الأمور وأخذته الأعادي من كل حدب وصوب ونصح له الناصحون أن يسايرهم ويخضع لهم فانبرى يقول:

قالوا الخضوع سياسة

فليبدُ منك لهم خضوع

وألذ من طعم الخضوع

على فمي السم النقيع

إن يستلب مني العدا

ملكي وتسلمني الضلوع

فالقلب بين ضلوعه

لم يسلم القلب الضلوع

لم أستلب شرف الطباع

أيسلب الشرف الرفيع

شيمَ الأولى أنا منهم

والأصل تتبعه الفروع

هذا الكلام الجميل من لغة التفاخر والعزة والأنفة وكبر النفس ولكنه مع هذا ليس من لغة الخصوصية السياسية وليس من لغة الحرب الشعراء التي تنطوي عليها عبارة (أنت أصغر في عيني من ذباب). هذا كلام حرب ذهبت في ساحتها هذه المرأة وهي تخط بدمها أن أدبها للعقل وأنه أصدق أنباء وأدق تعبيراً وأكثر صراحة.

ومما يقيم الحجة البالغة أيضا على أن أدب المرأة واقع صريح دقيق الأداء وانه للعقل وليس للعاطفة، فن المدح. فهذه ليلة الأخيلية ازدهارها وشدة باسه فراحت تؤيده وتصوره ابرع صورة فتقول:

إذا نزل الحجاج أرضاً سقيمة

تتبع أقصى دائها فشفاها

شفاها من الداء العضال الذي بها

غلام إذا هز القناة سقاها

أحجاج لا تمط العصاة مناهم

ولا الله يعطى للعصاة مناها

وبذلك خرج أدبها هذا عن كونه مدحاً يسبح فيه بسجايا الممدوح مما توفر أو لم يتوفر، أو مبالغات بعضها اخذ بأعناق بعض، أو كلاماً معقداً؛ أقول خرج إلى كلام على قدر المعنى قررت فيه خصيصه الحجاج وامتدحته في شطر واحد من بين فقالت:

ص: 14

(غلام إذا هز الفتاة ثناها). ولم تقل كما قال المتنبي:

لم يخلق الرحمن مثل محمد

أبدا وظني إنه لا يخلق

واعتقد أن هذا كلام ينطوي على لغة العاطفة وما تحتويه من مبالغات واضحة.

وللقارئ مقارنة أخرى بين شاعر وشاعرة فيها تعزيز جديد لصحة ما ذهبت إليه - من أن لغة المرأة في استنهاض الهمة وتحريك الروح الخامد أقوى آثرا، وأكثر صراحة، فهذه عفيرة بنت عفان تستنهض بكلام من الجمر ووابل من لحم إذ نقول:

وإن أنتم ولم تغضبوا بعد هذه

فكونوا نساء لا تعاب من الكحل

ودونكمو طيب العروس فإنما

خلقتم لا ثواب العروس وللغسل

فبعداً وسقاً للذي ليس دافعاً

ويختال يمشى بيننا مشية الفحل

وهذا لقيط بن يعمر الأيادي يحذر قومه أيضا ويستنهض هممهم بلغة متجاوبة المعاني فخمة الألفاظ إذ يقول:

قوموا قياماً على أمشاط أرجلكم

ثم افزعوا قد ينال الأمر من فزعا

ماذا يرد عليكم عز أولكم

إن ضاع آخره أو ذل واتضعا

وليست السيدة زبيدة وحدها أو عفيرة بنت عفان أو ليلى الاخيلية آيات لإقامة الحجة على أدب المرأة صراح قراح، بل هناك غيرهن في أقوالهم الدفة في التعبير والصدق في الأنباء والشرف في المقصد؛ فقد كانت السيدة عتبة بنت عفيف الطائي أم حاتم كثيرة المال، مبسوطة اليد؛ فلما خشي اخوتها الفقر عليها حجروا مالها إلا قطعة من الإبل، فمنحتها سائلاً؛ وقالت:

لعمرك قدماً عضني الجوع عضة

فآليت أن لا أمنع الدهر جائعاً

فقولا لهذا اللائى اليوم أعفني

وإن أنت لم تفعل فمض الأصابع

فماذا عساكم أن تقولوا لأختكم

سوى عذلكم أو عذل من كان مانعاً

وماذا ترون اليوم إلا طبيعية

فكيف بتركي يا ابن أم الطبائعا

ولما جئ بسفانة ابنة حاتم أسيرة للنبي صلى الله عليه وسلم انطلقت تقول له من أدب المرأة هذا المقال:

(يا محمد، هلك الوالد وغاب الوافد، فإن رأيت أن تخلي عني ولا تشمت بي أحياء العرب!

ص: 15

فان أبى كان سيد قومه، يفك العاني ويقتل الجاني ويحمي الذمار ويفرج عن المكروب ويطعم الطعام ويفشى السلام ويحمل الكل ويعين على نوائب الدهر، وما أتاه أحد في حاجة فرده خائباً، أنا بنت حاتم الطائي).

ويكفى هذا الكلام إثباتا أنه من أدب العقل، وأنه الذروة في دقة التعبير وصدق الأنبياء. أن جواب النبي عليه كان:

(هذه صفات المؤمنين حقاً - خلوا عنها فأن أباها كان يحب مكارم الأخلاق).

3 -

الحلقات المفقودة في أدب المرأة

هنالك حلقات من الأدب توفرت في أدب الرجل وفقدت من أدب المرأة فقداً تاماً فجاء أدبها بهذا النقد أكثر نبلاً وأوفر فضلاً وأصدق فناً وليس بضمائرها أن يعري أدبها من هذه الحلقات وأن لا تعرفها عن أدب الرجل أشد الاختلاف، ذلك أن الرجل افرد في أدبه باباً للتحذير من المرأة والتنبيه على أنها شيطان رجيم. وتلمس أدب الرجل من هذا أفانين الكلام وضروبه فزور الأحاديث ونحت الأمثال ومنقصة لها من حيث بقى كلام المرأة صافياً لا تشوه أمثال هذه ألا كدار.

منها: (أوثق سلاح إبليس النساء). ومنها (النساء حبائل الشيطان) و (شاوروهن وخالفوهن). و (إياك ومشاورة النساء فإن رأيهن إلى افن وعزهن إلى وهن). لقد أراد أدب الرجل أن يصف المرأة بمثل هذه الأوصاف على لسان رسول الله وهذه الأوصاف وان كانت بعيدة عن الواقع ولا تصبر أبدا عل محك المنطق فأنها ابعد ما تكون عن بلاغة الرسول الكريم وما جاء في أحاديثه صلى الله عليه وسلم عن المرأة.

وعزز أدب الرجل هذه الجهة بان أورد على لسان أمير المؤمنين على كرم الله وجهه أن قال: لا تطيعوا النساء على حال، ولا تؤمنوهن على مال، ولا تذروهن يدبرن العيال. ولا دين لهن ولا عقل لهن. ينسين الخير ويحفظن الشر) الخ. . .

فإذا عرفنا أن الأمام عليه السلام أمير البيان - وأن نماذج كلامه البليغ مثبتة في تهج البلاغة، وهي ترتفع عن مثل هذا الشتم أمكن القول بأن هذا أدب من جملة الحلقات التي أراد الرجل أن يستكمل بها فنون القول مما انعدم في أدب المرأة وأنفت اللجوء إليه. وليس هذا فقط فقد جاء الرجل بما ينسبه إلى العقلاء والفلاسفة قد قالوا (لا تدع المرأة تضرب

ص: 16

صبياً فانه اعقل منها). وأإن سقراط رأى امرأة تحمل ناراً فقال: نار تحمل ناراً، والحامل شر من المحمول).

هذه نماذج من أقوال الرجال تدون في كتب الأدب على أنها فن من فنوني، وعندي أنها فن من فنون المقراض والمثقب والمبرد لا لقل ولا أكثر مما لم يرد في أدب المرأة جميعه.

وليس هذا فقط بل جاء في هذا الضرب من الأدب كلام وجميع مؤلم؛ فقد قال أحدهم:

تمتع بها ما ساعفتك ولا تكن

جزوعاً إذا بانت فسوف تبين

وإن هي أعطتك الليان فإنها

لغيرك من خلانها ستلين

وخنها وإن كانت تفي لك أنها

على مدد الأيام سوف تخون

وإن خلقت لا ينقض النأي عهدها

فليس لمخضوب البنان يمين

يقابل هذا في أدب المرأة واحتشام وصمت واحترام، إذ هو حلقة مفقودة لديها لا تعرفه ولا تحسن صوغه ولا تتفن فنه، وذلك عندي يفوق كل تمام.

ولم يقتصر هذا اللون من الأدب على مهاجمة المرأة بالتهمة فقط، بل استهدف القضاء المبرم على خصائصها؛ فقد جاء على لسان شاعر الفلاسفة آبي العلاء المعري قوله:

علموهن الغزل والنسج

وخلوا كتابه وقراءه

فإن صلاة الفتاة بالحمد

والإخلاص تغنى عن يونس وبراءه

أن هذا فضلاً عن كونه وضعاً شاذاً فهو لون من الأدب بقيت المرأة تجهله وستجهله دائماً ما دامت قد خلقت لرسالة في الحياة سامية القصد رفيعة المجد، وكان عليها أن لا يتجسد عندها هذا الفرق لولا ما تفرغ عنه بالفعل، ومن هذا أن القرآن الكريم أباح النظر إلى وجه المرأة فصيروا وجهها عورة، وفرض عليه النقاب حتى أصبح عورة وحتى صوتها، وإن كان في قراءة القرآن، وتعدى الأمر إلى أكثر من هذا أيضا فاعتبروا اسمها عورة، وضرب عليها الذل والهوان إلى هذه الدرجة حتى أن المتنبي وهو من نعرف شعراً وأدباً عندما أراد أن يرثى خولة بنت سيف الدولة لم يستحسن أن يورد اسمها الذي كان عورة بل استبدله بوزنه فقال:

كأن مغلة لم تملأ مواكبها

ديار بكر ولم تخلع ولم تهب

هذا هو الذي حز في نفس المرأة كثيراً، فقد أزيحت من المجتمع وضربت عليها الذلة

ص: 17

والمسكنة وباءت بغضب على غضب، وحيل بينها وبين ما يقوم حياتها وبذلك هزل أدبها وذبل كيانها وغاض معينها وضوح زرعها، ومع ذلك لم تشحذ من البقية الباقية أدبا استفزازياً أو سلاحاً انتقامياً، بل تجملت بالصبر الجميل، وتذرعت بأن البلوى حيناً وأن لديجور ليها انبلاجاً.

وإذا صح أن الشر يستشري ويتكاثر ويتضاعف وتتفرع منه فروع فان هذا الأدب قد استشرى وتكاثر فأورث الأدب العربي والأدباء نوعاً من الثبور كانوا عنه جميعاً في مأمن وغنى، فلم يعد الرجل يكتفي بواحدة من النساء ولم يعد يفهم من المرأة إلا أنها سائمة. وهذه أمثلة توضح ما جاءت به الحلقات من الأدب المفقودة في أدب المرأة من وبال على المرأة:

وضع أبو الحسن بن عبدون البغدادي التطبب رسالة ضافية الذيل يضيف فيها النساء أصنافا، صنفاً يصلح للخدمة وصنفاً لاحتمال الأذى وصفاً يموت عند الولادة وصفاً يقرع بالعصا قرءاً، والى غير ذلك مما اعتبر به المرأة حديقة حيوان يجب أن تدرس أوصافها على هذا السبيل المستغرب، وانبرى ابن عبدون هذا في كتابه رشيق العبارة شجاعاً كأنه فصل الخطاب في هذا الشتم المقذع حتى إذا انتهى حمد الله وأثنى عليه إذ وفقه إلى ذكر بعض خصائص النساء.

ومثل آخر، فقد خرج دعيل ومعه إعرابي ونبطي إلى موضع يقال له بطباثاً من أمصار متنزهين فأكلوا وشربوا

فقال دعبل: نلنا لذيذ العيش في بطياثا

فقال الأعرابي: لما حثثنا قحاً ثلاثاً

فقال النبطي: ومرآتي طالقة ثلاثا

وهكذا بلغ من استهتاره أن أضاع امرأته لأجل قافية!

هذه نماذج من أحوال المجتمع لما تفشى فيه أدب ليس للمرأة فيه نصيب، وهذه صور من الأدب المخطر الذي لم تأخذ المرأة بأسبابه فأضحى حلقات مفقودة في أدبها، وهو في حد ذاته نقص يفوق كل تمام، وهو البرهان الأكبر على أن للمرأة أدبا غير أدب الرجل وعلى ان أدبها للعقل.

منيبة الكيلاني

ص: 18

‌في المسألة الفلسطينية:

مشروع التقسيم

للأستاذ فؤاد طرزي

يقول الكولونيل (جولر) في كنابه الذي أصدره عن سوريا عام 1945 بصدد فلسطين ما يأتي:

(ولو تحربنا الدقة لوجدنا أن اهتمام بريطانية بفلسطين لم يكن في يوم من الأيام ناشئاً عن رغبة في مساعدة اليهود أو تحقيقاً لرسالة المسيح، بل كان نتيجة مباشرة للمناورات الاستعمارية التي ترمى على الدوام إلى خدمة المصالح البريطانية. ففلسطين تقع بين مصر والشام، وهي على طريق الهند، فمن المحال أن تغفل قدرها الحكومة البريطانية. وعلى هذا فخلق مشكلة تشيع الاضطراب فيها طريقة نموذجية لتبرير بقاء قوات مسلحة هناك تحافظ على مصالح الإمبراطورية).

وعلى ضوء هذا التفسير العملي الذي يعرضه خبير بريطاني مطلع، يمكننا كل ما تضعه بريطانية من حلول لمشكلة فلسطين. فهي ترعى مصالحها في هذه القضية وتنكر مصالح الطرفين المتنازعين بله المصلحة العالمية أيضا، وتحاول بكل وسيلة أن تمد من أجل المشكلة وتطيل في عمرها لتحتج بها في بقاء قواتها العسكرية المرابطة هناك تحافظ على مناطق نفوذها في الشرق الأوسط بأسره.

ومشروع التقسيم الأخير الذي اقترحته الدوائر الرسمية البريطانية، ولوحت به مجلة الأيكونمست اللندنية التي تعبر بصورة غير مباشرة عن أراء 10 دواننج ستريت، والذي أبده السير هر برت موريسن أحد الوزراء البريطانيين المسؤولين علنا في مجلس العموم، نقول إن هذا المشروع ليس إلا شكلاً جديداً من أشكال أنصاف الحلول التي اعتادت بريطانية أن تقترحها بين آونة وأخرى لتشغل القوم وتكسب الزمن.

وها المشروع هو نفس المشروع الذي اقترحه دولة نوري السيد في الكتاب الأزرق الذي رفعه عام 1943 إلى المستتر كيسي وزير الدولة البريطانية في الشرق الأوسط. ويتضمن إنشاء حوزة أو حوزات يهودية مع التمتع بحقوق خاصة - على نحو الحقوق التي كانت ممنوحة للموازنة في لبنان - داخل الدولة الفلسطينية، أو دولة عربية كبرى تشمل سوريا

ص: 20

وشرق الأردن؛ ولكن السيد نوري السعيد، كما جاء في مقترحاته، لا يضمن نجاح فكرة التقسيم إلا إذا طبقت بعد ضم فلسطين إلى دولة عربية كبرى (بقصد سوريا الكبرى)، لذلك تراه يقول في كتابه المذكور ما يلي بالنص:(. . . فإنشاء دولتين أو أكثر مستقلة استقلالاً تاماً ومتكونة من أقاليم فلسطينية صغيرة يقتضي إنشاء حدود مصطنعة متعددة مع إحداث جيوب يهودية متمددة في الدولة العربية، ومعنى ذلك إنشاء مجاز دولي واحد على الأقل ويحتمل إنشاء أكثر من مجاز واحد. أما إذا أدمجت فلسطين كلها في دولة سورية واحدة تكون حدود الحوزات اليهودية حدوداً إدارية فقط، وقد تتألف حينئذ المناطق اليهودية من عدة اقضيه يتمتع فيها اليهود بحقوق خاصة، أو أنه يمكن باتفاق يتم بين جميع الفرق تعيين منطقة مجتمعة معينة لليهود تدار إدارة شبه مستقلة. وعلى العرب القاطنين فيها والحالة هذه أن يرضوا بالبقاء تحت هذا الحكم أو أن توجد لهم ارض في مكان آخر).

والحكومة البريطانية، في الواقع، تؤيد هذا المشروع وتضحي في سبيله إذا ما جد الأمر حتى بمصالح اليهود، لأنها في هذه الدولة الكبرى تستطيع أن تجد لها ثغرة تنفذ منها لتوطيد مركزها في سوريا ولبنان وهما الدولتان اللتان تخلصتا إلى غير رجعة من النفوذ الأجنبي. فبريطانية التي حاولت جاهدة طرد الفرنسيين من الشرق الأدنى تتلهف أن تحل محاهم وتسيطر على جميع سواحل البحر الأبيض المتوسط، هذا البحر الذي تريده (حراً إنجليزيا) كما أترده موسوليني (حيرة إيطالية).

وهذا المشروع أيضا، كثير من المشاريع البريطانية، يدركه الفساد من أوله إلى أخره وتعترضه سلسلة من العقبات التي لا يمكن التغلب عليها.

تخيل أيها القارئ أن أمامك الآن خريطة جغرافية للبلاد العربية، ثم ضع على بقعة صغيرة في القسم الجنوبي من الشاطئ الشرقي للبحر المتوسط تحيط بها أراض شاسعة من الأراضي العربية المسلمة تبتدئ من مراكش مخترقة تونس وطرا بس ومنحدرة نحو البلاد العربية الأصلية ثم صاعدة إلى شرقي الأردن وسوريا ولبنان والعراق. وهذه البلاد التي طفت بها والتي تحيط البقعة الصغيرة التي تحت إصبعك تشكل مجموعة قوية من البلاد العربية التي يبلغ عدد سكانها حوالي الخمسين مليون نسمة. وعلى هذه البقعة الصغيرة التي تسمى (فلسطين)، والمحاطة بالعرب نمن كل جوانبها، يريدون إنشاء دويلة يهودية مستقلة

ص: 21

استقلالاً تاماً أو استقلالاً ذاتياً خارجة عن نطاق الامتداد الجغرافي الذي يحتويها ومنفصلة عن مجموعة البلدان العربية. فهل من المتوقع أن ينجح مشروع كهذا؟

يقول البريطانيون نعن. ويقول الصهيونيون لا. فهم لا يرضون بهذا الحل المتواضع ولا يقبلون بشبه دولة ضيقة المساحة. وإن أهدافهم قد قرروها في عدة مؤتمرات من مؤتمراتهم: ففي مؤتمر بلتيمور الذي انعقد في الولايات المتحدة عام 1942 طالبوا بهجرة غير محدودة ويترك الحرية لهم في التوسع داخل فلسطين إلى ما لانهاية. وفي المؤتمر الصهيوني العالمي الذي انعقد في لندن في أيار عام 1945 وضعوا قرارين رئيسيين: إنشاء دولة يهودية خالصة في فلسطين، وتخويل الوكالة اليهودية كل الصلاحيات الضرورية لجلب اكبر عدد ممكن من لمهاجرين. وفي مؤتمر بازل الأخير طالبوا من جديد بكل هذا.

وإذا كان هناك من بين الصهيونيين من يوافق على مشروع التقسيم فان الجميع يرمون الامتداد والتوسع لا على حساب فلسطين بل على حساب البلدان المجاورة أيضا، ولا يمتع ذلك قرار تصدره الحكومة البريطانية تعين فيه حدود الدولة العربية وحدود الدولة اليهودية، فقد سبق أن أصدرت عدة قرارات توجتها بألفاظ الشرف البريطاني والضمير وختمتها بإقرار برلماناتها، ولكنها لم توف العهد في أي قرار من تلك القرارات، فكانت تصدر اليوم لتنتفض غداً. وآخر قراراها مشروع الكتاب الأبيض الذي اقره العموم عام 1939. كما أن الهدف الصهيوني أبعد من أن يرضى بشبه دولة صغيرة المساحة، لان الفلسفة الصهيونية ليست قائمة على أسس دينية أو إنسانية بل على دوافع استعمارية توسعية، وهذا ما قرره جون هبوب سيمس الذي ترأس وفداً إلى فلسطين لرفع تقرير عنها حيث قال: (إن الحجة الإنسانية والحجة الدينية تفسدهما الحقيقة المؤسفة وهي أن الهجرة اليهودية اليوم لا تتألف من اليهود الذين يرغبون لأسباب دينية في العودة إلى ارض صهيون ابتغاء إقامة حياة يهودية لا يشوبها الظلم والاضطهاد، بل هي مؤلفة من أغلبية من اليهود بعيدة عن التعصب الديني ومتحمسة بروح الوطنية السياسية ومصممة على تحقيق السيادة في فلسطين ارض العرب منذ 1300 سنة على الأقل).

والعرب يقولون إن إنشاء دولة يهودية في فلسطين، يترك فيها الحكم لليهود وحدهم،

ص: 22

منفصلة عن الاتحاد العربي لا يقبله عرب فلسطين ولا عرب الأقطار العربية، كما انه يناقض الوضع الجغرافي القائم وهذا ما قرره نخبة من أفاضل العلماء والجغرافيين، فان فطن إلى ذلك وشرحه في مؤلفه المعروف (جغرافية الأراضي المقدسة التاريخية) فهو يقول في صفحة 58 من كتابه:(لا يمكن أن نقوم في فلسطين دولة مستقلة ومنفصلة عما يحيط بها، فالحيوانات والنباتات فيها تمثل عصوراً جيولوجية عديدة، وهي تتصل بسلالات النبات والحيوان في أراضي كثيرة، وأن الاتصال الجنسي والديني والثقافي بينها وبين أجزاء البلاد العربية الأخرى سيسحق كل دولة تقام بالقوة وبالطرق الصناعية).

وهذا ما يقوله السير جون كارستنك على الآثار القديمة في جامعة ليفر بول ومدير الآثار القديمة في فلسطين فيما بعد: (ما دام أن ليس لفلسطين حدود خاصة من جوانبها الثلاثة فليس من الممكن أن تصبح مهداً لدولة مستقلة لا تتصل بالأمم التي تحيط بها ومقراً لعنصر أجنبي غريب).

وإقامة دولة مستقلة في فلسطين غير داخلة في الجامعة العربية يجر إلى نتائج خطيرة يستطيع الباحث بقليل من التبصر أن يراها واضحة في الأفق. فالجامعة العربية حركة طبيعية تسير بالبلاد العربية نحو التجمع لا التوزع ونحو الانضمام لا التفرق، ومتى ما بلغت هذه الحركة غايتها ووجد في قلب الوطن العربي حاجز يقف دون إتمام مرحلة التطوح كان عليها أما أن تقف، وهذا لا يمكن أن يتصور ونحن أمام ظواهر طبيعية لا تعرف الأناة، وأما أن تعبر هذا البرزخ الاصطناعي في صميم تكوينها الجغرافي فتحدث مأساة عنصرية جديدة من المآسي التي زخر بها التاريخ، لان الصهيونيين سوف لا يسلمون بالأمر الواقع ويندمجون في الشعب العربي بل سيقاومون ما يرى العرب انه مسألة حياة أو موت بالنسبة لهم

إن تقسيم فلسطين مشروع خائب، وقد سبق السير رونالد ستورس الزمن وصرح بذلك أمام لجنة التحقيق الانكلواميركية التي ألفت أخيرا، والسير المذكور من أشد أنصار الحركة الصهيونية وقد ظل حاكماً للقدس مدة أثنى عشر عاماً، فإذا تكلم لمصلحة العرب فان لكلامه قيمة.

قال: (إن كل حل يقسم فلسطين بين العرب واليهود لا يمكن أن ينشر لواء الآمن والسلام

ص: 23

فوق ربوع الشرق الأوسط، بل على العكس سيحكم عليه باضطرابات لا تنقطع، وسيؤدي إلى اعظم مأساة عرفتها تلك البلاد. إن فلسطين قد ساهمت فعالة في حل مشكلة الحرب ضد السامية فقبلت ما يقارب الثلاثة أرباع المليون من المشردين في حين أن بريطانية وأمريكة اللتين تحملان على عاتقها تدبير الملجأ لليهود لم تساهم مثل هذه المساهمة. إن المشكلة الفلسطينية يجب أن تعتبر منتهية ويجب أن يشترك العالم بأسره فيساهم في قبول البقية الباقية من المهاجرين. لقد أيدت الحركة الصهيونية طيلة حياتي، وقد آن الأوان أن أقول أني لا أزال أؤيدها ولكن لا على حساب العرب. وإن الذي أقرره هنا هو ثمرة تجاربي الخاصة التي حصلت عليها في أثنى عشر عاماً قضيتها حاكماً للقدس).

إن فكرة التقسيم مشروع فاشل، وان الحل الوحيد للمشكلة هو أن توقف الهجرة في الحال وان تمنح فلسطين استقلالها وتنضم إلى الجامعة العربية ويعيش اليهود فيها كما يعيش إخوانهم في البلاد العربية الأخرى كأقلية لها ما للأكثرية من حقوق وواجبات، وبعد ذلك يشترك العرب جميعاً مع العالم في تحمل نصيبهم عند إيجاد حل لمشكلة الاضطهاد العنصري.

(بغداد)

فؤاد طرزي

ص: 24

‌نشيد فلسطين

للأديب حنا فارس مخول

لقد كانت فلسطين مهبط للوحي والإلهام منذ اقدم العصور. فيها ولد أكثر قادة البشرية، ومنها نور الهداية إلى سائر أنحاء العالم. ولعل جمالها هما اللذان مهدا لهذا الوحي واستنزلا ذلك الإلهام. . .

وفلسطين دون غيرها هي قبلة أنظار الطامعين، والكعبة التي يقدمها أتباع الديانات السماوية الثلاث. وهي على كل حال بلاد غريبة فوق كل اعتبار، أنها عنق الجامعة العربية الذي ضيق عليه الخناق، ولكنها مع كل هذا بدون باعث للنشاط، وبدون محرك للهمم، وحفز للعمل. . . أنها بدون نشيد!

أجل ليس لنا - والله - نشيد تردده فيذكى الحمية في نفوسنا، وينفض عنها غبار الخوف، وصدأ الخمول، ويرسم لنا هدفا معينا تجاهها، يلخص واجبا تجاه الوطن والمواطنين. . . والإنسانية!

يقولون: إن نشيد (المارسيليز) هو الذي قهر أوربا لا نابليون، وأن النشيد الاسكتلندي هو الذي قضى على نابليون لا ولنجتون. . . ولكن أين منا النشيد الذي يشعرنا بأننا أمة تحيا وتستحق الحياة؟!

بانا أمة تحيا وتستحق الحياة؟!.

إن شعراءنا - وهم كثر بحمد الله - فقد قصروا همهم على الغزل والتشبيب والتغني (بيوم النصر). . . يوم نصر أعدائنا، وفشل قضيتنا!!

إن شعراءنا في واد، ونحن في واد. . . ليس فيهم من حاول شيئاً من هذا سوى المرحوم إبراهيم طوقان. . . ونشيد طوقان على علاته هو خير نشيد لنا في الوقت الحاضر، ولكن فيه مواقف ضعف تحول دون صلاحية لان يكون لنشيد القومي المنشود!

إنه كان يناجي موطنه ويتمنى أن يراه في علاه يبلغ السماك. . .

موطني الجلال، والجمال، والنساء، والبهاء في رباك

والحياة، والنجاة، والهناء، والرجاء في هواك هل أراك

سالماً منعماً وغانماً مكرماً

ص: 25

هل أراك في علاك تبلغ السماك؟

موطني

ولكن في تمنيه شيئاً من التساؤل وضعف الأمل. . . لقد أظهر حبه له، ورسم خطوط هذا الحب بعبارات عاطفية وشعور فياض، ولكن ليس هذا دستوراً نعمل بمقتضاه. . أننا نريد الشاعر الذي يقول: سأراك. بل يجب أن أراك في علاك تبلغ السماك! لا: هل أراك؟! أننا نريد الشاعر يطمئن إلى عودة هذا الوطن الجريح إلى أبنائه، بكل شبر فيه. . . بصميمه. . .

وقد حاول طوقان ذلك، فوعده بتناسي الأشخاص والأحزاب

موطني

الشباب لن يكل همه

أن تستقل أو يبيد

نستقي من الردى

ولن يكون للعدى كالعبيد

لا نريد

ذلنا المؤبدا

وعيشنا المنكدا

لا نريد بل نع

يد مجدنا التليد

موطني

الحسام والبراع لا الكلام والنزاع رمزنا

مجدنا وعهدنا

وواجب إلى الوفا يهزنا

عزنا

غاية تشرف

وراية ترفرف

يا هناك. في علاك قاهراً عداك

موطني

أجل إن طوقان وعده يتناسى الأشخاص والأحزاب، والعمل في سبيله حتى يتقل، ولكن ليس يكفي أن نستقل داخلياً، فالنشيد القومي يجب أن يشعر المواطن بالطموح وواجب التقدم، ويبشر بالمستقبل اللامع والمكانة المحترمة ف قافلة الإنسانية

إذن لا نريد نشيداً يشعرنا بالعبودية - ولو في معرض الأباء - ويروي لأبنائنا بعدنا قصة

ص: 26

ذلنا - غير المؤيد - وعيشنا المنكد. . . لا نريد نشيداً يصلح ليونا، ولا يصلح لغدنا!!.

ويجرح العزة. . . نريد نشيداً يتفجر قوة رحمية. . . نريد نشيداً كمعلقة عمرو بن كلثوم أو قصيدة بشر بن عوائه. . . نريد القوة لأننا في عصره القوة!! ويجب ان نشعر بأننا أمة فوق الأمم، أو في طليعة الشعوب، والماضي يهد، والحاضر يبشر، ونور الشيوخ، ونار الشباب يثبتان ويؤكدان!!

وقد كانت مصر شعوب بالحاجة إلى نشيد قومي، فكانت مسابقة، وكان نشيد!! وفلسطين هي النقطة الحساسة في جسم البلاد العربية. . . فهل نتوجه بادئنا إلى والد العرب الذي ولدوه، إلى الجامعة العربية، أم إلى الهيئة العربية العليا في فلسطين؟ لعلهما تشعران بالمسؤولية فتعملا على تحقيق هذه الأمنية!!

وفلسطين فوق هذا لا علم لها، وان شئت تفصيلاً فقل: ليس لسكانها الأصليين، ليس لعربها علم. . . لأن اليهود الطارئين - وهم قلة بحمد الله - لهم نشيدهم القومي (ألها تكفا)، واهم علم يرفعونه في جميع المناسبات. . . أما نحن فنزين دورنا ومحالنا التجارية وأبدتنا و. . . بالأعلام العربية في أعيادنا القومية. ولا أقول بالعلم العربي - لأننا لن نتخذ حتى ألان علماً واحداً في جميع أقطارنا. . . أنا نرفع العلم المصري أو العراقي أو اللبناني أو السوري أو أي علم من أعلام الدول العربية، ولنا الشرف في ذلك لأن العرب في القطر الواحد أخوان العرب في القطر الثاني، فأي علم عربي هو علمنا. . . ولكننا على كل حال وحدة تريد استقلالها. ووضعها الشاذ يستدعى حشد جميع بواعث الهمم لمجابهة الموقف الرهيب. فلماذا لا يكون لنا علم نرمز به إلى آمالنا وأهدافنا، يرف فوق رءوسنا، وبه - بعد الله - نعتصم والأقلية الطارئة علينا، لها علم؟!

أنكون كالقرعاء التي تباهى بشعر ابنة أختها - على خشونة المثل -؟ لا - والله - بل يجب أن تتساوى مع العرب المستقلين في جميع بلدانهم، وان ترضى ان تكون عالة عليهم فكفاهم من همومهم ما يثقل كواهلهم!.

وإذن فلنتقدم إلى المسؤولين بهذا الاقتراح، أو - إن شاءوا - بهذا النداء، راجين أن يحققوا آمال ما يزيد على المليون من عرب فلسطين، والملايين من عرب العالم ولهم الشكر المقدم!

ص: 27

حنا فارس مخول

ص: 28

‌قادة الإصلاح في القرن الثالث عشر:

الشيخ شامل

زعيم القوقاز وشيخ المجاهدين

1212 -

1278هـ: 1797 - 1871م

للأستاذ برهان الدين الداغستاني

شامل تحت قيادة حمزة بك:

وبعد أن استشهد الغازي الكراوي في معركة يوم 2 جمادي الآخرة 1248هـ اجتمع العلماء والأعيان، وأصحاب الشأن في ولاية (آوار) وانتخبوا حمزة بك خلفاً للغازي محمد الكمراوي وقائداً لحركة الإصلاح الدينية، وحاملاً لعلم الثورة الوطنية، وسلك حمزة بك سلفه من أخذ الناس باللبن والهوادة، ودعوتهم بالحسنى إلى اتبع أحكام الدين، ورعاية آدابه، فأخذ بطوف القرى والدساكر مرشداً ناصحاً، يدعو إلى دين الله والعمل به، ولكنه أيقن - كما أبقن سلفه من قبل - أن الدعوة التي لا تظاهرها القوة وتسندها، حقيقة بالفشل، فبدأ يجمع المتطوعين، وينظم صفوفهم، ويوجههم إلى المعاندين الذين كانوا يحولون بين الدعوة الإصلاحية وذيوعها، وهنا أيضا نجد شاملاً يشد أزر حمزة بك ويعضده، ويلازمه في جميع حملاته التأديبية، ومعاركه الحربية التي خاضها، فإنه كما كان القائد المحنك، والمريد المطيع لدى ألغازي محمد الكمراوي ظل كذلك مع حمزة بك أيضا حتى قنا هذا غيلة بينما كان ذاهباً لأداء فريضة الجمعة في قرية (خنزاع) في أواخر سنة 1250 هـ (1834م).

شامل في قيادة الحركة الدينية الوطنية:

بعد اغتيال حمزة في أواخر سنة 125هـ اتجهت الأنظار إلى شامل ليقوم بقيادة الحركة التي بدأت من نحو خمس سنوات بقيادة الغازي محمد الكمراوي، ولكن شاملاً لم يكن بالرجل الطامع في قيادة أو رياسة. فحسب أن يقوم بواجبه كيفمااتفق، بل كان بوده أن يظل بعيداً عن مشاغل القيادة ومشاكل الرياسة، وما يتصل بها م مطامع ومتاعب، ولذلك ثار

ص: 29

وغضب لما فوتح في أمر إسناد الرياسة إليه، ولكن إصرار العلماء والأعيان وأصحاب الشأن في منطقة (آوار) مهد الحركة الثورية وإجماعها على ضرورة قيامه بقيادة هذه الحركة - جعل شاملاً يستجيب لصوت الواجب، ورضى أن يتولى الإمامة - كما كانوا يسمونها - بعد سلفيه الغازي محمد وحمزة بك.

إن تولى شامل قيادة الثورة الوطنية الدينية في الداغستان كان نقطة التحول في هذه الحركة، فقد تبدل فيها كل شيء وتغير، وانتشرت روح الحركة والنشاط في كل اتجاه، وظهرت نواحي العظمة والعبقرية في هذا القائد الجديد سريعا، فذبت الحركة وهر النشاط في الثورة والثوار، واشتعلت نار الحماسة في صدور أولئك الجبلين من أهل القرى والأكواخ، وتحولت الثورة التي سارت خمسة أعوام في بط، وهوادة إلى حرب منظمة، وقيادة محكمة وجنود مدرين، وأنظمة مالية وقضائية كأحسن ما تكون الأنظمة المالية والفضائية في البلاد، وإنشاء الإدارة المدنية في كل مدينة أو قرية وقعت تحت سلطانه.

كان كل شيء قبل تولى شامل الرياسة يسير على الفطرة والطبيعة الهادئة البدائية، لا أثر للنظام والأحكام فيه، كان واجباً على المتطوع أن يكفى نفسه ويمونها بما هي في حاجة إليه من غذاء وكساء وسلاح، فوق ما يصاب به في نفسه وماله، وما يلحقه من جراء اشتراكه في الثورة من متاعب وخسائر.

ولم يكن لهؤلاء المتطوعين نظام يسيرون عليه، وتدريب يعدهم للأعمال الحربية، فكان كل واحد منهم يقوم بما يستطيعه تحت مسؤليته وعلى حسابه، وعلى الوجه الذي يتراءى له.

وكما لم يكن هناك - قبل رياسة شامل - نظام للمتطوعين وتدريبهم فإنه لم يكن عندهم ما يسمى بالإدارة المالية المنظمة لحركة الثورة، فكل شيء كان يسير - كما قدمت - حسب الظروف، وعلى أساليب فطرية أولية، لا اثر فيها للدقة، ولا للنظام والأحكام.

فلما تولى شامل قيادة الثورة انشأ - أول ما أنشأ - بيت المال على حسب نصوص الشريعة الإسلامية، وعين لهذا البيت الجباة والأمناء والعاملين، وجعل للمتطوع حقاً معلوماً في الغنائم، فكان يخمس كل ما يصل إلى يده من أموال الأعداء، فيضم خمسة إلى بيت المال، ثم يقسم الأخماس الأربعة الباقية بين المجاهدين المحاربين، وأحيا بذلك سنة الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم وخلفائه في قسمة الغنائم ببيت المال والمجاهدين تطبيقاً لكتاب

ص: 30

الله الكريم وعملاً بما جاء به (واعلموا أن ما غنيتم من شيء فإن لله خمسة ولرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا عل عبدنا يوم الفرقان يوم التقى والله على كل شيء قدير)(41 - 8).

فكون بذلك أساس النظام الاقتصادي، وأمن الناحية المادية في الثورة، كما أغنى المجاهدين المتطوعين، وسد حاجاتهم بما ينالونه من الغنائم، ولم يكتف بذلك بل وجه نظرة إلى نام الجيوش وتدريب المتطوعين على نظم القتال والحروب، كما عنى العناية البالغة بأمر أسلحة هؤلاء المتطوعين، وعمل على إبلاغها إلى الحال التي تصلح للقتال بها مع جيوش الروسيين ذات العدد والعدد.

ومع أن هم شامل كل أو جله كان منصرفاً إلى الناحية الحربية وإعداد المحاربين، وتهيئة كل الأسباب التي تمكنهم من القيام بواجبهم الوطني على الوجه الأكمل، فانه مع ذلك لم يكن ليهمل النواحي المدنية والعمرانية، فقد معنياً جداً بتوطيد نظام القضاء الشرعي في تلك البلاد، فكان بعين في كل قرية يستولي عليها قاضياً يفصل بين أهلها فيما يعرض لهم من أحكام دينهم، ويقيم حدود الإسلام، وينفذ أحكامه فيهم.

ولي هذا فقط، فقد كان يوجه إلى الأقاليم والمناطق التي تخضع له (نواباً) عنه يقومون بالإدارة المدنية في تلك الجهات ويشرفون على جميع شئونها. وكانت مهم هؤلاء النواب في أقاليمهم شبيهة بمهمة المحافظين والمديرين، فكانوا مسؤولين عن جباية أموال بين المال، وتنظيم حركة المتطوعين، والمحافظة على السلام والأمن العام، وحماية السلطة القضائية، وتنفيذ أحكام القضاة، وعلى العموم فقد كان هؤلاء (النواب) يقومون في أقاليمهم بمهمة الحكام لهم ما للحكام من أشراف على مصالح الإقليم ورعاية حقوق الناس وصون أموالهم ونفوسهم، وتنفيذ أحكام التي يصدرها القضاة الشرعيون.

وإذا نحن تركنا الناحية المدنية من إنشاء بيت المال وتنظيم إدارة وما إلى ذلك، ووجهنا نظرنا إلى الناحية الحربية وار شامل فيها. وجدنا الفرق كبيراً والبون شاسعاً بين العهد الذي سبق شاملاً والعهد الذي نشأ بعد تولى شامل القيادة، فالثورة في عهد الغازي محمد الكمراوي وحمزة بك كانت أشبه ما تكون بتلك الحركات السلبية التي تظهر في كل بلد على اثر احتلال جدد من فاتح أجنبي، تظهر هنا مرة، وهناك مرة أخرى، وتظهر في آن

ص: 31

لتختفي في أحيان ولكن الحال في عهد شامل من سنة 1250 - 1276هـ (1834 - 1859م) تغيرت تغيراً كبيراً، فقد أصبحت الثورة حركة عامة شاملة، واصبح لها قيادة رسمية ومقر يصرف الأمور، ويوجه الحركات، ويتلقى الأنباء، ومعتقلات لإيواء الأسرى، وسجون لحبس الخارجين على أحكام الشريعة، أو من صدرت ضدهم أحكام قضائية.

وأنشأ الشيخ شامل حكومة وطنية في الدغستان. كانت في كثير من الأوقات - مدى ربع قرن - تبسط سلطانها على اغلب البلاد الداغستانية، وتنفذ فيها أحكام الشريعة الإسلامية.

وإن ما يبعث على العجب والإعجاب معاً أن يستطيع الشيخ شامل الصمود أمام قوات القيصرية لروسية خمسة وعشرين عاماً ونيفاً يناضل في سبيل دينه ووطنه من غير أن يكون له سند يسنده، أو معين يعينه غير إيمائه باله، وقوة عزيمته، وصبره ومصا برته على المكاره والشدائد في سبيل الله. وإذا كان في هذا الصبر وذلك الصمود أمام قوات تلك الإمبراطورية العظيمة مدى ربع قرن ما يثير الإعجاب ويبعث على العجب، فان ما سجله التاريخ لهذا المجاهد البطل من انتصارات باهرة على كبار القواد الروسيين في معارك مشهورة فاصلة - نعن ان تلك الانتصارات العجيبة تعيد إلى الذهن ذرى فتوحات الغزاة المسلمين في عصر ظهور الإسلام وانتشاره والصدر الأول من حياة المسلمين.

عل إنه رحمه الله واحن إليه - لما اضطر إلى التسليم آخر الأمر لم يرضى ان يسلم نفسه إلا على شرط أن يسلم هو ومن معه من قواده ومرافقيه إلى خليفة الإسلام والمسلمين في القسطنطينية.

ولا يتسع هذا المقال الوجيز الذي أكتبه بمناسب ذكرى وفاته السادسة والسبعين لذكر ما ينبغي ذكره من أعمال هذا المجاهد العظيم، ولذلك سأقتصر على بعض الخطوط والظلال التي تصوره بصورة إجمالية، وتعطى القارئ فكرة عامة عنه، كما اذكر بعض الأعمال والحوادث الهامة التي وقعت ملتزماً في ذلك غاية الإيجاز:

1 -

على أثر تولى شامل قيادة الثورية وقيامه ببعض الإصلاحات والتنظيمات أوعزت الحكومة الروسية إلى أحد صنائعها شمخال غمر أنش، وكلفته الاتصال بشامل بقصد استمالته إلى جانب الروسيين، وإغرائه وإطماعه في أمارة الجبل، فاتصل الشمخال بالشيخ شامل، وطلب منه أن يتوجه إلى مقر والى القوقاز في مدينة (تفليس) حتى يعينه هذا الوالي

ص: 32

الروسي أميرا وإماما لبلاد الداغستان بمتابعة له وتواليتهم إياه بعد اغتيال المرحوم حمزة بك 1250 هـ ولذلك لم يمر هذا العرض التفاتاً وضرب به عرض الحائط. وفي سنة 1253هـ (1837م) تكررت هذه المحاولة لاستمالة الشيخ شامل، وإنهاء حال الثورة في بلاد الاغستان، فقد اتصل القائد الروسي الجنرال (كلك) بالشيخ شامل وعرض عليه الذهاب إلى (تفليس) لمقابلة والي القوقاز، وأكد له أن الوالي سيعينه أميرا على جميع المسلمين في الداغستان، ورفض الشيخ شامل هذا العرض أيضا لأنه كان بعد نفسه أميرا منتخباً من الأهلين بركام جرياهم، فلم يرضن لنفسه أن يتلقى الأمارة من يد عدوه ومستمر بلاده، وعقد العزم على مواصلة القتال حتى يقضى الله أمره، ثم تكررت هذه المحاولة سنة 1255هـ (1839م) من جانب الروسيين ولكها فشلت أيضا.

2 -

في أوائل سنة 1258هـ انتصر الشيخ شامل على القائد الروسي الجنرال (كرف) أنصارا باهراً. في معركة فاصلة حاسمة واضطر هذا القائد الروسي إلى الانسحاب العام، ولجأ إلى قلعة (شورا) الشهيرة. وكان لهذا النصر وقعه الحسن بين أخوان شامل ومريديه، فاقترحا عليه أن يبعث وفداً من قبله لمقابل خليفة المسلمين السلطان عبد المجيد خان في القسطنطينية، وبعد إلحاح شديد نزل شامل على إرادة أعوانه، وألف وفداً من ثلاثة أشخاص اختارهم لهذه السفارة بينه وبين الخليفة، وحملهم عرية كتبها باسمه واسم إخوانه المجاهدين الداغستانيين إلى مقام الخلافة العظمى. ولسنا ندري مضمون هذه العريضة، والغاية المرجوة منها، ولكنها على كل حال لا بد أن تكون عرضا لأحوال المسلمين في الداغستان، وربما كانت مضمنة طلب العون والمساعدة المادية أو الأدبية على الأقل من خلفية المسلمين.

وسافر هذا الوفد إلى بلاد الجركس في طريقه إلى القسطنطينية ثم جاوزها إلى بلاد (أبازه) على ساحل البحر الأسود ليركبوا من هناك أحد المراكب البحرية إلى عاصمة الخلافة. إلا أن أخبار هذا الوفد كانت قد سبقته، فوجد العيون والأرصاد في كل مكان فلم يستطع أعضاؤه ركوب البحر لان عيون الروسيين كانت ساهرة، وأخيراً استطاع أحد الأعضاء (الشيخ الجركوي) أن يتسلل إلى أحد المراكب بدعوى انه من الحجاج القاصدين إلى الديار الحجازية وحمل بين طيات ثيابه عريضة الشيخ شامل، وأوصلها إلى رجال ديوان الخليفة

ص: 33

غير أنه لقي مطلاً غريباً، ووعوداً كاذبة. وقضى نحبه بعد مرض يسير قبل أن ينال رد الخليفة على عريضة قائده وأمامه الشيخ شامل. وبذلك أسدل الستار على هذه الرواية.

(يتبع)

برهان الدين الداغستاني

ص: 34

‌ليالي الحصاد

(إلى أستاذنا صاحب الرسالة وصف لحصاد فلم يدع فضلاً

لنثر ولا لشعر)

للأستاذ محمود الحفيف

طربت فأشرعت مزماريه

أدير إلى الريف ألحانيه

أغنى بأيامه الضاحكات

وليلاته الحلوة الساجيه

وأنى لأهفو إلى ذكره

وأملأ قلبي من سحره

أعيش أويقاتيَ الماضيات

وانهل لذاتها ثانيه

واني على البعد غِرِّيده

يجدد لحني ترديده

أغنى بما قر في مسمى

ارجع أصداءه الغاليه

أرقرق في اللحن ضو القمر

وسحر العشايا نفح البُكر

وفيض المنى من ليالي الحصاد

وروح الهناءة والعافيه

ليالي الرضا والصبا والوداد

ورجع الهوى في أغاني الحصاد

على الراض منها غناء يروق

وفي الجو أطيافها شاديه

هلم فما الليل ليل الرقاد

ولا قامة قائم من سهاد

هلم نجدد عهود الهوى

ونغنم صبابته الباقية

هلم فقد طاب ليل الحقول

ولذا السرى بين تلك السهول

وأطلق فيها نسيم العشاء

أوائل أنفاسه الصافية

دعاني فتى مستفيض الجذل

تهلل في مقلتيه الأمل

تريك إلى وجه نظرةٌ

دلائك عيشته الراضيه

تحدث عيناء عن حبه

وما أودع الحب في قلبه

وتحلو أحاديث أحلامه

كما رقت النسمة الوانيه

مشينا. . . يغنى وأصغى له

فيطرح قلبي أثقاله

يغنى بحاضره المستهان

وأذكر أيامي الماضيه

ص: 35

تحلق للسمر الحاسدون

وصفق للزامر السامرون

وطاقتهم نفحات الشباب

فلم تحتل من صرح ناحيه

يردد يا ليل شادٍ هنا

ويهتف ذو صبوة ها هما

وهذي الطبيعة يقظانةٌ

كأن لن تبت ليلة غافيه

طربت لصوت سرى من بعيد

رخي الهتاف شجي النشيد

تهلل في خاطري لحنه

وندى بشكواه أجفانيه

جليلة، هاتي شكاة هواك

صفى كيف كان تجنى فتاك

غناؤك في الليل حلو الصدى

تطوف به النسمة السارية

على القرب لحن ولحن بعيد

وشاد تحدى وشاد يجيب

وتهتف زمارة ها هنا

وأخرى تجاوبها شاديه

وكل فتى باب يشكو الهوى

وبرح الضنى والنوى والجوى

أغانيهمو من مراح الشباب

وأحلام أيامه اللاهيه

وكم صاح من طرب سامر

يغني له حاصد شاعر

وكم فصل اللحن إنشاده

ورتل أرغوله لقافيه

أطل على الأفق ملك السماء

نديَّ المحفة كابي الضياء

على ذهب الحقل من تحته

جرى ذوب فضته الكابيه

وقاموا صفوفاً إلى السنبل

تندي وأحصد للمنجل

ولذ التسابق للحاصدين

سيوف مناجلهم ماضيه

تجز المناجل سُوق الحصيد

وفي الليل يسري رنين الحديد

وخشخشة ها هنا وهنا

تَموَّج نائية دانيه

ومن كل صوب وركن غناء

ورجع بروق بأقصى الفضاء

وقد رقرق الفجر أنفاسه

ولاحت خيوط له قانيه

توردَّ في الشرق لون الشفق

وهل به النور ثم اندفق

وسالت على حُزِم الحاسدين

حيوط مذهبة جاريه

هنا وهناك يرى الحاصدون

أطلت ذكاء وهم قائمون

ص: 36

وراقت أهازيجهم في الصباح

وطابت متى الرزق والعافيه

ألا كم سهرت بتلك الرحاب

وكم أسكرنني الليالي العذاب

وكم ذقت فيها كؤوس الهوى

على عفة صنتها، غاليه!

ليالي المنى والصبا والوداد

ورجع ألهو في أغاني الحصاد

على الأرض منها غناء يروق

وفي الجو أطيافها شاديه

الخفيف

ص: 37

‌تعقيبات

مسابقة في غير ميدان:

اختار المجمع اللغوي للمسابقة الأدبية التي يجريها للعام المقبل موضوعين: أحدهما (الحياة الأدبية في المدينة على عهد الأمويين) وثانيها (كتابة بحث عن مهيار الديلمي) الشاعر المشهور.

والحياة الأدبية في المدينة موضوع اخلقه كثرة الكلام فيه والحديث عنه، وفيه من البحوث القديمة والحديثة والدراسات المطولة والمدرسية شيء كثير جداً، وكله ميسر للقارئين جداً، ومهيار الديلمي شاعر كبير حقاً، ولكن حسبه حظوة أن قامت دار الكتب بطبع ديوانه الضخم طبعاً فاخراً، وقررت الوزارة دراسته في مدارسها وسار من أشعاره وأخباره كثيرة في السنة الناس وإنما الشأن في مسابقة كالتي يجربها المجمع أن تكون في موضوعات يرود فيها الباحث مجاهل جديدة ويكشف فيها عن آثار لا تزال مطمورة، وعندنا في الأدب العربي عصور مغلقة إمام الباحثين ولا تزال ثروتها الفكرية مدفونة وهي تنتظر الجهد لكشفها وإخراجها، فمثلاً الأدب المصري حتى في أزهى عصوره لا نعرف منه إلا شذرات طفيفة، والأدب الأندلسي لا تقف فيه إلا على جملة أخبار محفوظة، والأدب العربي في شمال أفريقية من عهد عقبة بن نافع إلى اليوم لا ندري فيه كثيراً ولا قليلاً، فكان الأجدر بالمجمع أن يجعل ميدان المسابقة في تلك الميادين التي يجدي فيها السباق على الأدب والبحث، أما المسابقة في البحث عن مهيار وعن الحياة الأدبية في المدينة فان من اللائق أن تكون مسابقة لتلاميذ المدارس إذ يراعي نحوهم تيسير البحث عليهم. . .

فهل لرجال المجمع أن يعيدوا النظر في اختيار الموضوع، وأن يراعوا في ذلك أيثار النواحي التي لا تزال مجهولة غامضة. . .

هذه الألفاظ الأثرية:

في العدد الذي وصل أخيرا من مجلة (الثرى) التي تصدر في النجف مقال بعنوان (أسماء منتخبة لمعان مستحدثة) بقلم الشيخ أحمد رضا، مهد له الشيخ بمقدمة قال فيها: (عهد إلى المجمع العلمي وأنا من أعضائه الأقدمين بتأليف معجم لغوي يلائم وروح العصر تنسيقاً وترتيباً ويكون جامعاً لمتن اللغة دون شروح أو تعاليل لأنها ليست من هم الطالب لعجل

ص: 38

الذي يطلب معنى لكلمة العربية كما سمعت من العرب، وليس من همه أن يبحث عنها كيف استقرت على صيغتها المسموعة عنهم، وإنما ذلك يبحث عنها كيف استقرت على صيغتها المسموعة عنهم، وإنما ذلك شأن الباحثين المتخصصين في فلسفة اللغة وتطورها فأنجزته والحمد لله حاوياً للمواد الواردة في أشهر كتب الأئمة. . ثم رأى المجمع أن أو جزء بكتاب مختصر يكون نجدة للناشئين المتأدبين ولا سيما الطلاب في المدارس، فقصدت إلى ذلك وألحقت ما أثبت عليه بأسماء منتخبة لمسميات حديثة تراءت لي أثناء مراجعاتي اللغوية).

ثم أورد الشيخ بعضاً من هذه الأسماء التي انتخبها وهي (الدرمك) للدقيق المحور الأبيض المعروف بالفاخر، (الدغرى مصدر دغر) للحرب المفاجئة المعروفة بحرب الصاعقة، و (المدغرة) للحرب المعضوض التس شعارها دغرى، و (المربقة) للساند وتش، و (الدلق) و (الربيدة) للدوسيه، و (التلاء) للجواز المؤقت. . . إلى آخر الألفاظ التي أوردها الشيخ وكلها من هذا القبيل. . .

وكل هذا عناء لا طائل تحته، والواقع أن رجال اللغة عندنا يشقون على أنفسهم كثيراً ويتحملون كل هذا العناء استجابة لفكرة متسلطة على أذهانهم وهي التدليل على أن اللغة العربية غنية بمادتها تكفى ألفاظها معنى مستحدث وفي كل غرض جديد، فهم يرجعون إلى القواميس يلتقطون منها تلك الألفاظ المجفوة الميتة ويضعونها للمعاني الحديثة في حية ألنا، وما مثلهم في ذلك إلا كمثل رجل ينزل إلى السوق إلى اليوم فيصر على أن يتعامل بالدراهم والدنانير التي ضربت على عهد الرشيد، ويزعم للناس أن الدراهم لا يزال درهماً، والدينار لا يزال ديناراً!

فلأمر في وضع الألفاظ اللغوية وانتخابها ليس مجرد إيجاد تلك الألفاظ فحسب، بل إيجاد الألفاظ التي تصلح للحياة، فيتفاهم بها الناس في أحاديثهم، ويتعامل بها الكتاب والشعراء في ألفاظهم وتعابيرهم، ومن من الكتاب والشعراء يطيق ذوقه أن يستعمل الدرمك، والدغرى والمدغرة والدلق والمربقة. . .

فلعل رجال اللغة يقدرون هذا ويصرفون إليه جهدهم، وإلا فليوفروا على أنفسهم وعلى الناس العناء والشطط. . .

ص: 39

الشيوعية في هوليود:

في الأنباء الواردة من أمريكا أن اللجنة الفرعية التي تألفت من أعضاء مجلس النواب هناك للتحقيق في الأعمال التي يقوم بها غير الأمريكيين اكتشفت (أن الشيوعية قد تأصلت جذورها في هوليود وفي صناعة الأفلام. . .).

وقد أدلى المستر جيمس مكدويل عضو اللجنة بأن الشيوعيين موجودون في جميع فروع صناعة الأفلام، فمنهم مهندسو المناظر، ومنهم الفنانون، ومنهم المصورون والمخرجون، ومنهم الكتاب والمؤلفون، وقد كشف التحقيق عن وجود حلقة من الشيوعيين تتسرب إلى داخل البلاد عن طريق المكسيك. . .

هكذا أصبحت هوليود مدينة الحب والجمال، والفن والمال وهي أيضاً مباءة للنزعات السياسية والاتجاهات المذهبية، كأن السياسة الملعونة تأبى إلا أن تعكر مورد، وتستغل كل أسلوب للتأثير في أذهان الناس.

ما أشبه استغلال الدعاية لهوليود بالمؤامرة التي صنعها الألمان في الحرب العالمية الأولى في مصانع الذخيرة للحلفاء ومحاولة حشو القذائف بالرمل، إنه في الواقع اشتغال خطير، لأن هوليود كما معروف تتسلط على العالم بفنها، وبأفلامها، وإن مما يؤلم أن يصير الفن أداة للسياسة، وأن يصبح سلاحاً للدعايات المذهبية مهما كان لونها، ومهما كان هدفها، إنما الفن صوت الإنسانية الخالص من شوائب الأغراض، فمتى الفن إلى هذه الغاية مترفعاً عن أو ضار الدعاية ومآرب السياسة. . .

الشعر والغناء:

يشتغل المطرب المعروف محمد عبد الوهاب في هذه الأيام بتلحين قصيدة (مضنياك جفاه مرقده) للمغفور له أحمد شوقي بك، وهذه القصيدة التي عارض بها أمير الشعراء قصيدة الحصري المشهورة:(يا ليل الصب متى غده. .)

وإن مما يدعو إلى الاغتباط أن يتجه كبار المطربين والمطربات عندنا إلى الغناء في الشعر الرفيع، واختيار القصائد الممتعة والمقطوعات الرائعة لتشنيف الأسماء وإشباع العواطف، فقد كان الغناء عندنا ابتذل في الكلام التافه الرخيص والتعابير العامية المكثوفة، وكنا كلما

ص: 40

شكونا من هذا وطالبنا أهل الطرب بالترفع عن هذا التخنث احتجوا بأن هذا هو الذي يطلبه الجمهور ويفعمه ويقبل عليه، فلما غنى عبد الوهاب في شعر شوقي، وغنت (أم كلثوم) سلو قلبي. لم يطرب الجمهور، بل لم يطرب العالم العربي أجمع مثل ما طرب لهما في هذا، حتى أصبح العامة يستظهرون هذه القصائد والمقطوعات ويرددون نغماتها في غدوهم ورواحهم، ولا شك أن لهذا أثره الطيب في تقويم الألسن وتهذيب العواطف

حدثني الشيخ محمد الخضري رحمه الله عليه قال: لقد سمعت عبده الحمولي يغني في حشد يبلغ الألوف، فرأيته بتلاعب بألبابهم ويهز عواطفهم، ولكنه من الأسف كان يغني في كلام مبتذل، فهجمت عليه في عنف وقلت أيها الرجل: إن قيادة هذه الجماهير في يدك، وأنت تستطيع أن تسير بهم في طريق الخير والتهذيب فلعلك تفعل. . .

وهكذا يجب أن نفهم أن الغناء أسلوب من أساليب التهذيب وأنه في هذا أداة ساحرة مؤثرة، ولهذا يعنينا أن نسجل هذا الاتجاه الحميد الذي يتجه إليه المطربون عندنا بالغناء في الشعر الجميل. . .

(الجاحظ)

ص: 41

‌الأدب والفن في الأسبوع

التربية ورفع المستوى الاجتماعي:

أقامت الجامعة الأمريكية في مساء الخميس حفلتها السنوية النهائية لتوزيع الإجازات العليا على الطلبة المنتهين في قاعة يورت التذكارية. وكان من مواد هذه الحلقة بحث قيم للدكتور جون س. بادو رئيس الجامعة أمريكية بالقاهرة في (التربية ورفع المستوى الاجتماعي) أبان فيها ما يسود العالم من القلق الاجتماعي، وما يشاهد في مصر من سوء الحالة المعيشية، وذكر أن ما تبذله الحكومة من العناية لحل المشاكل الاجتماعية يجب أن تؤازره الطبقة المتعلمة التي تتخرج في المدرسة، فيجب أن تعنى المدرسة بتلك المشاكل أجل العناية، فتربى في تلاميذها الوعي الاجتماعي لحفزهم إلى تحمل نصيبهم في دفع البؤس عن مواطنيهم، وليكون هدفهم المساهمة في رفع مستوى المجتمع المصري إلى مستوى أعلى وافق أوسع من لان هذا هو مقياس نجاح المدرسة أن تجعل المسؤولية الاجتماعية من أهم ما تعنى به من التربية في منهاجها، فيوجه المدرسون إليها عنايتهم ضمن ما يعنون به من المواد الدراسية، وذكر كيف استطاع أحد أساتذة اللغة اليونانية أن يجعل من دراسة الآداب اليونانية القديمة حافزاً للاهتمام بمشاكل المجتمع وحاجياته، لأنه يربط قصص الماضي وأساطيره بالوقت الحاضر ومشاكله.

ونقول أن هذا المثل الطيب ينفع احتذاؤه نفعاً كبيراً في دراسة الأدب العربي الحديث في مدارسنا عند البحث في سير رجاله وأثارهم في النهضة الحديثة وخاصة ما واجهوه من المشاكل التي لا تزال نواجهها أو نواجه أمثالها، فنخرج بذلك عن النطاق المضروب حول (التاريخ الموجز لحياة الشخصية، ومعرفة أسماء أهم آثارها، ثم حفظ من نظمها أو نثرها).

ولا شك أن ذلك يبعث في الدراسة الأدبية الحركة والحياة إلى ما يؤتيه من الإلمام بالمسائل القومية، وما يحققه من الرسول إلى هدف التربية في الوعي الاجتماعي.

توفيق الحكيم برد الوسام الفرنسي:

ذكرت (أخبار اليوم) أن الأستاذ توفيق الحكيم أرسل إلى سفير فرنسا كتاباً يرد به إلى فرنسا وسامها (اوفيسيه داكاديمي) الذي منحته إياه الجمهورية الفرنسية في أول مارس سنة 1938 تقديراً للأدب، لمناسبة ترجمة بعض كتبه إلى الفرنسية؛ ونشرت نص هذا الكتاب،

ص: 42

وهو يتضمن انه حمد لفرنسا ذلك التقدير، ثم شاءت الأيام أن تفجعه في عاطفة الإعجاب التي يكنها لها، فالأدب من أهم خصائصه (الحرية والإنسانية)، ولم يكن يتوقع أن فرنسا تعتدي على الإنسانية إلى حد حبس الطعام عن أفواه جياع لا حول لهم ولا طول. . . وكان حظ الحرية ماثلاً، فقد غضبت فرنسا لان مصر تركت للأمير عبد الكريم حرية اختيار نزوله ومقامه، وهو ليس بمذاب ولا بمجرم، إلى أن قال:

(فما معنى الأدب أذن في رأي فرنسا. . . إذا لم يكن للحرية والإنسانية عندها من معنى. . .)؟

وقد احسن الأستاذ الحكيم بذلك، وكان فيه لبقاً واعياً. . . فإنه لم يخسر إلا شيئاً تافهاً لا قيمة له، إلى جانب ما كسبه من إرضاء شعوره، فضلاً عما يجره هذا الصنيع من جميل الذكر، وما يحدثه من حسن الأثر!.

آلا ليت (المتفرنسين) كلهم توفيق الحكيم!

الأدب المصري القديم:

نشرت مجلة (مسامرات الجيب) مقالاً للعالم الأثرى المعروف الأستاذ سليم بك حسن بعنوان (أدبنا المصري اقدم أتدب في العالم) تضمن معلومات مهمة، منها تصحيح لبعض القضايا الأدبية المشهورة، مثل الدرامة التمثيلية التي تعزى نشأتها إلى بلاد اليونان، وكذلك القصص الخرافي؛ فيفنى سليم بك أولية اليونان في ذينك الفنين، ويقول بأن الأدب المصري القديم أول أدب ظهرت فيه الدرامة التمثيلية والقصص الخرافي، ويقول (كان المصري أول من قص القصص، ومنه تعلم العالم القصص وفنونه فلا تكاد تقرأ في كتاب من الكتب قصصاً إلا وتجد انه يرجع إلى اصل مصري قديم مع بعض التغيير والتبديل حسبما تقتضيه البيئة والأحوال، ولا أدل على ذلك من أن بعض قصص ألف ليلة وليلة مصرية في عنصرها الأصلي. وقصة يوسف عليه الإسلام نجد مثيلها في القصص المصري القديم وهي قصة الأخوين).

فإذا كانت لنا تلك الأوليات في فنون القصص، إلى أدبنا العربي وفنونه، فقد جمعنا المجد من أطرافه.

شيء جدير:

ص: 43

لم أجد لهذا (الشيء) اسماً فينا نعرف من أنواع الأدب، فهو ليس بنظم لأنه لا يخضع لوزن، ولم يكتب كما يكتب النثر، بل وضع في هيئة الشعر، ويشغل السطر منه فراغ بيت موزون، ويتحد كل سطرين في قافية، ويأخذ كل أربعة اسطر حتى محدوداً، ليتكون من الجميع (رباعيات) فهو كلم مقاس مقفى. . . فماذا يكون؟ هو (رباعيات عمر الخيام بقلم توفيق مفرج) وقع في يدي هذا الأسبوع، وكنت قرأت عنه في بعض الصحف الكبيرة ثناء وحمداً، فجعلت اقرأ ما احتواه، فإذا هو على النسق الذي قدمت صفته، وهاك (الرباعية) الأولى:

(انهض! فالصباح قد قذف بالشمس إلى الفضاء

فهرب الليلْ، واختفت نجوم السماء

والشعاعْ، يتساقط كنصال السهام

فيصيب أعالي الحصون، والجبال، والآكام).

وقد استرعى نظري ضبط أخر كثير من الكلمات بالسكون كما في هذه السطور، فلم هذا التسكين؟ اهو لضرورة وزن يخضع لتفاعيل جديدة؟

لقد قرأنا ترجمات لرباعيات الخيام نظمها السباعي ورامي والزهاوي وغيرهم، نظماً عربياً معقولاً، فما الذي صنعه صاح (أحدث ترجمة!) لرباعيات الخيام؟

عدت إلى صدر الكتاب فلمحت أربعة أبيات. . . معذرة! أربعة أسطر، يهدى بها الكتاب، ونصها:

(إلى التي تملئ (كذا) البيت بالحب والهناء

إلى المرأة الفاضلة جنة الأرض والسماء

إلى زوجتي التي أوحت إلى الشعر والغناء

أقدم هذا الكتاب ميثاقاً للحب والوفاء)

إذن فالرجل يعد هذا شعراً. . ليس فحسب، بل شعراً وغناء! وعلى هذا النمط من (الشعر) ترجم رباعيات الخيام. ولا شك أن له أن يفعل، تمتعاً بحق (الحرية الشخصية) ولكن الذي لا يجوز السكوت عليه هو تورط كبريات الصحف في المجالات على حساب الأدب، إلا أن يكون الزملاء يكتبون عن الكتب من بعيد دون قراءتها ومعرفة أي شيء هي. . .

ص: 44

قروي فنان:

هو عبد الغفار دراج من قرية (جماجمون) بمركز دسوق، قال محرر جريدة (النداء) إنه سمع به ورأى له صوراً بارعة فقام برحلة إلى قريته (جماجمون) والنقي به هناك في (الجرن) وأراد المحرر أن يتحقق صدق ما بلغه عن فن عبد الغفار فدفع إليه صورة جلالة الملك وطلب منه أن ينقلها أمامه، فجلس عبد الغفار إلى (طبلية) وبدأ العمل. . . ورسم صورة الملك كما رسم غيرها رسماً جيداً؛ وقد رأينا مجموعة من تصويره منشورة بالنداء، منها صورة رسماً جيداً؛ وقد رأينا مجموعة من تصويره منشورة بالنداء، منها صورة جميلة لقروي شيخ جلس القرفصاء يدخن في (الجوزة) وأمامه إبريق الشاي على موقد وبجواره جرة ودجاج وباقي أمتعة بيته، وقد بدا الهدوء والدعة على وجه الشيخ العائد من حقله ليستمتع بالراحة في بيته ويرسل متاعبه مع دخان النرجيلة إلى الفضاء وعبد الغفار لا يقرأ ولا يكتب، وهو في الثامنة والثلاثين من عمره، وقد هوى الرسم من صغره، وبدأ بمحاكاة صور المجلات التي كانت تقع في يده، ثم اخذ يرسم القرويين من أبناء بلده ويبيع لهم الصورة بقرش.

وقد رأى صاحب (النداء) أن يضمه إلى قسم التصوير بالجريدة. . . وهكذا يبدأ (الأستاذ عبد الغفار دراج) مرحلة جديدة من حياته، فيصبح فناناً صحفياً. . . يقوم دليلاً حياً على ما في ريف مص من مواهب إلى ما فيه من خيرات.

ص: 45

‌البريد الأدبي

في اللغة تذكير مؤنث:

عمل حضرة صاحبة الجلالة (فوزية) وصاحبات السمو والنبل وسائر ذلك القبيل الكريم في (مبرة محمد على الكبير) ونظائرها - هو عمل رجال بل عمل أبطال؛ فقول جرائد ومجلات (فلانة عضوة في المبرة، وهن عضوات فيها) - شيء نكر، وإزعاج عظيم لا زواج الراقدين في (الجزيرة) من العرب الخلص في الجاهلية والإسلام، فما أنت العضو في وقت من الأوقات أحد.

وأبشع من تأنيث هذا المفرد تأنيث مجموعة فاستعذ بالله من كلامهم وقل - أما شئت أن تقول -: فلانة عضو في المبرة وهن أعضاء فيها وقس على هذا العمل أشكاله، ويصف أهله بأوصاف الرجال، فقل: محامي فلان فلانة، ولا تقل: محامية، وفلان طبيب فلان أو طبيب دار الشفاء وفلانة أستاذ تلك المدرسة أو الكلية أو الجامعة، وإذا حكم القضاء أم يجئن إلى القضاء بعد حين طويل (طوله الله) أو قصير (لا سمح الله) فقل: فلانة هي القاضي في دار القضاء، وكانت فلانة هي القاضي في تلك الدعوى. وإياك وأن تقول: كانت القاضية. . . وفي دار الندوة أو مجلس النواب يوم يجيء ذاك الأجل - ونراه بعيداً وإنهن ليرينه قريباً - هي نائب بين النواب لا نائبة والنائبة في الكتاب والحديث - مصيبة. . .

فإذا لغوت (أي تكلمت) بمثل ذلك وسطرت أحسنت ولم تسئ، وسلكت سبيل أهل التحقيق. قال الأمام صاحب (المخصص):

(وما وصفوا به الأنثى ولم يدخلوا فيها علامة التأنيث وذلك لغلبته على الذكر - قولهم: أمير بن فلان امرأة؛ وفلانة وصي بني فلان، ووكيل فلان، وكذلك يقولون: مؤذن بني فلان امرأة، وفلانة شاهد بني فلان. ولو أفردت لجاز أن تقل: أميرة ووكيله ووصية، وأنشد قول الشاعر:

فليت أميرنا وعزلت عنا

مخضبة أناملها، كعاب

وربما أدخلوا الهاء فأضافوا، فقالوا فلانة أميرة بني فلان، وكذلك وكيلة ووصية. وسمع من العرب وكيلات، وهذا يدل على وكيلة، قال عبد الله بن همام السلولي:

ص: 46

فلو جاءوا ببرَّة أو بهند

لبايعنا أميرة مؤمنينا

وقال: هي عديلي وعديلتي بدليل ما حكاه أبو زيد من قولهم عديلات).

فدع الجائز (ولو أفردت لجاز) ودع القليل (وربما أدخلوا الهاء) وذكر، ذكر في كل حال، ولا تؤنث، وأرض الجماعة بما لا يغضب اللغة.

أعط - يا أخا العرب - ما أعطت العربية، وأمنع ما منعت فإذا أنت حق عادل في أحكامك وكلامك. . .

السهمي

أمانة النقل:

كنت أقرأ في كتاب (عثمان بن عفان) الذي أصدره في هذه الأيام الأستاذ صادق إبراهيم عرجون المدرس في الأزهر الفصل الذي عقده لتحقيق مقتل عمر، فأجد كلاماً أحس أن فيه رائحة من كتابي، ولا أجد الدليل عليه، حتى إذا بلغت آخر الفصل ألفيته يقول:(وقال الأستاذ الفاضلان مولفاً كتاب سيرة عمر) ويسرد ما يملأ صفحة من كلامي. فتألمت لا لأنه أخذ من كتابي ولم يعز إلى فقد غصب كثيرون من هذا الكتاب، وجعلوه نهباً مقسماً وحمى مستباحاً، وفيهم من يعد من كبار المؤلفين، ولا لان اسم كتابي ليس (سيرة عمر) ولا يعرف أيحد من القراء من هما (الأستاذان الفاضلان) مؤلفاه. بل لأني رأيت أن أمانة النقل قد فقدت حتى من الأزهر. وقد كنا نعده دارها ومستقرها، ونرى أهله أهلها، يحرسون عليها، ويعرفون لها قدرها، هذا والكتاب مع ذلك جيد جداً في بحثه وأسلوبه. أشهدها شهادة لله وللعلم.

علي الطنطاوي

النحوي الموسيقية:

النجوى تعريب كلمة (سرناد) ومعناها موسيقية المساء، والأصل في هذه الموسيقية أن تكون تأليفاً غنائياً غزلياً يغنى أو يعزف ليلاً تحت نافذة المحبوب أو في الخلاء القريب من مكان المحبوب.

وقد تحدث عن هذا النوع من الموسيقى الأستاذ عبد الحميد توفيق زكي المشرف على

ص: 47

البرامج الموسيقية في الإذاعة المدرسية، فذكر أن النجوى دخلت الموسيقى المصرية على ثلاثة أطوار: الطور الأول تلك الأغاني المصرية الحديثة التي منها الجزء الأول من أغنية (عند ما يأتي المساء) للأستاذ محمد عبد الوهاب، والطور الثاني يتمثل فيما قامت به الجمعية المصرية لهواة الموسيقية من ترجمة بعض المؤلفات الموسيقية العالمية لإدخال أنواع جديدة في التأليف الموسيقية المصرية، ومنها النجوى التي مطلعها:

(يا ليالي كم ينادى عاشق أسير). أما الطور الثالث فهو محاولة تلحين أغان خفيفة مصرية ذات طابع شرقي، ومع ذلك تؤلف على القواعد العالمية، وقد نجح في هذه المحاولة اتحاد الموسيقيين الجامعيين.

ثم قدم الأستاذ مغنياً قال إنه سيصاحب بالغناء قطعة من النوع الأخير عنوانها (ذكريات) إذا أصغي إليها المستمع، بغض النظر عن مصاحبة الغناء لها، أحس المعنى الذي تعبر عنه. ثم عزفت الموسيقى، وغنى المغني، ولكنا لم نستطع أن نغض السمع عن الغناء، لتعيش في جو الذكريات، لأن المغني كان صاخباً كالحاضر، فجعلنا تتطلع إلى المستقبل الذي يعقب انتهاءه.

أفلام ثقافية عربية:

كانت إحدى شركات السينما العربية قد اتصلت بادراه الثقافة بالجامعة العربية بغية الظفر بتأييد الجامعة الأدبي فيما يتعلق بالأفلام الثقافية العربية المؤلفة والمعرفة، مما سوف تخرجه تلك الشركات.

وقد عرض ذلك الطلب على الكتب الدائم للجنة الثقافية بجلسته الأخيرة، فوافق على توصية الدول العربية الأعضاء بتيسير عرض ما عسى أن تنتجه تلك الشركة من أفلام، على شريطة أن تعرض الشركة ما تريد تشجيعه من الأفلام عرضاً مفصلاً على الإدارة الثقافية، لتتولى عرض ما يصلها من الشركة على المكتب الدائم لاتخاذ ما يراه بشأنها.

مطبوعات الدول العربية:

كانت وزارة المعارف العراقية قد اتصلت بالأمانة العامة للجامعة العربية، بشأن طلب بعض الأشخاص والهيئات الحصول على المطبوعات الرسمية التي تصدرها حكومات

ص: 48

الدول العربية الأعضاء كالإحصاءات والنشرات، وكثير من هؤلاء الطالبين قد يكونون غير معروفين لديها حتى تجيب طلبهم.

وقد عرض هذا الموضوع على المكتب الدائم للجنة الثقافية فاستقر الرأي على وجوب استفسار الوزارة التي يطلب منها مثل هذه المطبوعات، عن مكانة الطالب، من مفوضيه البلد الذي ينتمي إليه.

وقرر المكتب أيضاً أن توصي الأمانة العامة وزارات معارف الدول الأعضاء، يتبادل الكتب والمطبوعات الرسمية الخاصة بالإحصاء والتعداد وما إلى ذلك، فيما بينها.

(العباس)

الهزج والوافر:

اطلعت على ما علقت به (الرسالة) في هامش البريد الأدبي على كلمة الأستاذ نظام مدني في العدد (727) في صدد بيت الأستاذ الشاعر مختار الوكيل وهو قوله:

أخي قد شاء رب الكون أن يجمع قلبانا

ونقول (الرسالة) إن (مطلع القصيدة من بحر الهزج بدليل الكف وهو حذف السابع الساكن في التفعيلة الثالثة. ولم تر فيما قرأنا من الشعر الصحيح النقص في مفاعلتن وهو اجتماع العصب والكف: أي تسكين الخامس المتحرك وحذف السابع الساكن).

هذا ما عقبت به الرسالة ولتقرير الحقيقة نقول:

صحيح أن الوافر لا يدخله وهو حذف السابع (المتحرك) إلا أن الوافر نفسه يدخله من الزحاف المركب (النقص) وهو اجتماع العصب والكف أي إسكان اللام وحذف النون من مفاعلتن، ثم أن النقص لا يدخل إلا على الوافر فقط كما نص على ذلك العروضيون.

فبيت الأستاذ الشاعر صحيح، وتعقيب الأستاذ المعقب أيضاً صحيح، وغاية في الأمر أن استعمال الزحاف المركب - على صحته - قبيح للشعراء المحدثين. والسلام. . .

(الزيتون)

عدنان أسعد

(الرسالة) لا زلنا نقول أن الكف وهو حذف السابع (الساكن) إنما يدخل مفاعيلن في الهزج

ص: 49

ولا يدخل مفاعل تنفي الوافر. وإذا العروضيون قياساً فقد منعه الشعراء سماعا. وأذن يكون الفارق بين مجزو الوافر وبحر الهزج هو حذف النون من مفاعيلين أو تحريك اللام في مفاعلتن؛ فحينما وجدت النون محذوفة فهو الهزج؛ وحيثما وجدت اللام متحركة فهو الوافر. . . وإذا اتفق في القصيدة كلها أن دخل مفاعلتن العصب فسكنت اللام ولم يدخل مفاعيلن الكف فبقيت النون حملت على الهزج، لأن هذا الوزن أصيل فيه. والشعراء المحدثون يخلطون بين البحرين فيجمعون بين مفاعيلن المحذوفة النون وبين مفاعلتن المفتوحة اللام.

حول خطأ عروضي شائع:

ذكر الأستاذ خليل إبراهيم الخطيب في العدد 725 أن قصيدة الأستاذ مختار الوكيل التي مطلعها:

أخي قد شاء رب الكون أن يجمع قلبانا مزيج من الهزج والوافر، وقد بين الأستاذ نظام مدني في العدد 727 أنها من مجزو الوافر ولكن الرسالة علقت على هذا القول بأنها لم تر في صحيح الشعر دخول النقص على الوافر، ولكي وجدت في قصيدة جزيرة العشاق من ديوان الشوق العائد للأستاذ علي محمود طه هذين البيتين:

ليالي الصيف في كَبْرى

أم الفتنة في الحر

تنفّسَ جوه عطراً

يفضضه سنا البدر

فإما أن يجوز دخول النقص على الوافر وأما أن تصبح قصيدة الأستاذ علي محمود طه هي الأخرى مزيجاً من الهزج والوافر وللرسالة جزيل الشكر.

محمد الانور الحلبي

(الرسالة) البيت الأول من الهزج قطعاً لحذف السابع الساكن من التفعيلة الثالثة، والبيت الثاني من مجزو الوافر قطعاً لتحرك الخامس في التفعيلة الأولى والثالثة.

حجرة التحمس:

سيدي صاحب - من وراء النظار -

. . . ما أن قرأت مقالتكم (حجرة التحمس) وأنا مضطجع فوق حشيتي المتواضعة بقاع الريف ساعة القيلولة حتى انتفضت واقعاً أمسكت بقلمي لا لأشكر على تصوير الواقع من

ص: 50

حياتنا المقلوبة الأوضاع في شتى مظاهرها فأنت في غنى عن شكر أمثالي الذين تحصرهم القرية بحدودها الضيقة في كل مجال! وإنما لأقول لك يا سيدي المفضل أن هؤلاء هم الموظفون الذين تشفق عليهم الدولة وترثى لحالتهم فتغدق عليهم العلاوات والدرجات وتبتكر القوانين التي تقرب إليهم آمالهم ورغباتهم - أما المعلم الأولى الذي يسوس الأطفال الصغار (عفاريت الأنس) في نهاره، ويقود الكبار في مكافحة أميتهم في ليلة! هذا المعلم الذي يضع بيده الحجر الأول في تربية الآمة وتنشئة أجيالها القادمة تقف له الدولة بالمرصاد فتحرمه من كل ما تبذله لهؤلاء الموظفين ومثالهم صغاراً وكباراً!!.

ترى متى يعرف لصاحب الفضل فضله، ويعطى لكل ذي حق حقه، على أسس المساواة والعدالة بين الجميع؟!

(دميرة)

خورشيد عبد العزيز

الزعيم (شكوكو): (مهدأة إلى أستاذنا الخفيف)

أن المتجول في أحياء القاهرة يرى باعة يحملون تماثيل للمغنى الشعبي العزلي (شكوكو) فكان الشعب المصري يريد أن يقول بلسان الحال: أن زعماءنا خطبوا طويلاً فنسى الشعب ما قالوا، وغنيت أنت فحفظ الناس ما قلت وصنعوا لك التماثيل.

غن. وأسمعه أنغام الحرية ليصنع تماثيله للشهداء.

وردد على أسماعه ألحان الاتحاد ليؤلف بين الزعماء.

وابعث فيه سحر سلطانه ليفخر بأنه سيد الملوك والرؤساء وهوه بأنين أحزانه ليتحرر من هذا البؤس وهذا الشقاء.

وأنى أقسم لئن لتكونن أخطر على إنجلترا وعلى أوضاعنا

المقرونة من ألف زعيم. لقد أكرمك الشعب با صاحب

التماثيل، فهل أنت ممن يعرفون الجميل؟ فتحي السمان محمد

إلى مؤلفي الكتب المدرسية:

ص: 51

لمناسبة انعقاد المؤتمر الثقافي العربي الأول بلبنان قي 2 سبتمبر القادم للبحث في توحيد اتجاهات الثقافة العربية والعناية بموادها وأساليب تعليمها في نواحي اللغة العربية والمواد الاجتماعية في مراحل رياض الأطفال ولتعليم الأولى والابتدائي والمتوسط والثانوي.

يسر الإدارة الثقافية بجامعة الدول العربية أن تدعو حضرات المؤلفين ودور النشر والمكتبات في جميع الأقطار العربية إلى الاشتراك في هذا المعرض، بأن يرسلوا إليها:

أولاً - نسختين من الكتب المؤلفة في اللغة العربية بفروعها المختلفة لمراحل التعليم المتقدمة الذكر بما في ذلك الكتب المختصة بتيسير الكتابة والنحو البلاغة وغيرها.

ثانياً - نسختين من الكتب الموضوعة في مواد التاريخ والجغرافيا والتربية الوطنية في هذه المراحل التعليمية.

ثالثاً - الوسائل العامية لتعليم فروع اللغة العربية المختلفة ووسائل الإيضاح لمادتي التاريخ والجغرافيا كالمصورات والخرائط والمجسمات والأجهزة التي من صنع لأفراد ودور النشر والشركات.

وترجو إدارة الثقافة أن يصل إليها ذلك قبل منتصف شهر يوليو (تموز) سنة 1947 وأن يرسل باسم مدير الإدارة الثقافية بالأمانة العامة جامعة الدول العربية بشارع البستان بالقاهرة.

وسترد المعروضات لأصحابها بعد انتهاء المؤتمر عن طريق لإدارة الثقافية، إلا إذا شاء المؤلف إهداء النسختين أو إحداهما لأداة الثقافة بالجامعة العربية لحفظهما لديها تسجيلاً لحركة التأليف المدرسي في هذه المواد، ورغبة في التعريف بها، وإشاعة الانتفاع منها في أوسع نطاق.

ص: 52

‌القصص

ماء الحياة. .!

(مترجمة عن الإنجليزية من كتاب

لأستاذ ماجد فرحان سعيد

في قديم الزمان ملك أضناه المرض حتى يئس من الحياة، وكان له أولاد ثلاثة، خرجوا إلى حديقة القصر، وطفقوا يجهشون بالبكاء، حزناً عليه، وبينما هم كذلك، جاءهم شيخ وقور، بلغ من العمر عتياً، وسألهم عن سبب كآبتهم، فأعلموه أن والدهم مشرف على الموت، وما من حيلة نفع في شفائه. فقال الشيخ:(لكم في شفائه، طريقة واحدة فقط، وهي أن تسقوه من ماء الحياة).

فذهب الولد الأكبر إلى والده الملك، وطلب إليه أن يأذن له بالبحث عن ماء الحياة، إذ هو المنقذ الوحيد من دائه العضال. فقال الأب:(لا بد لك يا ني من تجشم الصعاب والأخطار في سبيل الحصول عليه؛ فأرح نفسك من هذا العناء) ولكن الابن ظل يلح عليه حتى أذن له. فذهب في طريقه، وهو يقول في ضميره (إن أحضرت الماء، فسأكون حتماً اعز اخوتي لدى والدي، وسيوصى لي بالمملكة من بعده). وظل يهيم على وجهه، حتى التقى به قزم وسأله:(إلى أين أنت ذاهب يا أخي؟). فأجابه الأمير بلهجة تنم عما في نفسه من الكبرياء: (هذا لا يعنيك!!) وتابع سيره. ولكن دبيب الانتقام دب في صدر القزم. وبينما كان الأمير يجوس خلال ممر ضيق، لاحظ انه كلما تقدم في الممر اخذ الممر يضيق به اكثر فأكثر، حتى انتهى إلى نقطة لم يستطع فيها الحراك. . . وانتظره والده طويلاً ولم يرجع. وطلب الأمير الثاني من والده أن يأذن لي في البحث عن الماء، إذا قال في نفسه:(أن يكن آخي قد مات، فسارت المملكة بدلاً منه). وظل يستعطف والده حتى أذن في الذهاب. فسار هذا في أثر أخيه، والتقى بالقزم نفسه. فابتدره القزم بالسؤال:(إلى أين أنت متوجه أيها الشاب؟) فأجابه الأكبر: (ليس من شأنك أن تعرف هذا أيها القزم الحقير!). ومضى في طريقه. فاستعمل السحر معه، وكانت عاقبته وخيمة كعاقبة أخيه من قبله، إذ وصل إلى أخدود، أراد أن يتقدم فيه فسلم تطاوعه قدماء. ولما لم يرجع الولد الثاني،

ص: 53

أضطرب فكر والده عليه. فتوسل الأمير الصغير إلى والده أن يسمح له بالذهاب، فرأى الوالد نفسه مضطراً على اجابة طلبه. وعندما التقى القزم بالأمير الصغير، وسأله عن طريقه، أجاب:(أنني أبحث عن ماء الحياة، إذ به وحده يستطيع والدي أن ينفعه من علته). فقال له القزم: (وهل تعرف مكان وجوده؟) فأجاب الأمير: (كلا!). فقال القزم: (إذا سأدلك عليه لأنك سلكت معي سلوكاً لائقاً، مغايراً لسلوك أخويك المتعجرفين. أن ماء الحياة ينفجر من النبع الذي يجري في ساحة القلعة المسحورة، تلك القلعة التي لن تستطيع اختراقها، إن لم أعطك قضيباً من الحديد، ورغيفين من الخبز. أما القضيب، فاطرق به ثلاثاً على باب القلعة الحديدي فيفتح لك. وفي المدخل سترى أسدين فاغرين شدقيهما تستطيع أن تأمن شرهما، بأن ترى لكل منهما رغيفاً. ثم أسرع وأحض قليلاً من الماء قبل أن تعلن إشارة الوقت الثانية عشرة. إياك أن تتأخر! لأنك أن فعلت فسيوصد الباب ولا تستطيع الخروج!).

فشكره الأمير، واخذ منه القضيب والرغيفين، وجعل يطوي الأرض حتى حطت به النوى إلى القلعة المسحورة؛ فعمل بموجب إشارة القزم. ودخل من الباب إلى قاعة جميلة واسعة، حيث كان يجلس عدد من الأمراء المسحورين؛ فنزع الخواتم التي تحلى أصابعهم؛ واخذ سيفاً مرهف الحد، وقليلاً من الخبز المطروح هنالك. ثم دلف إلى الغرفة المجاورة؛ وإذا به أمام فتاة فاتنة تتموج كالطيف، نظرت إليه من وراء جفون ترتعش بالميل والانعطاف؛ ثم أخبرته أن مملكتها ستؤول إليه؛ وإذا ما رجع إليها بعد سنة كاملة، فسيزف إليها ويعيش معها سعيداً موفوراً. ثم دلته على موقع النبع الذي يجري منه ماء الحياة. ورأى في الغرفة المجاورة سريراً مريحاً استلقى عليه لأنه كان متعباً؛ واستسلم لنوم هادئ عميق. ولكنه استفاق على صوت الساعة، عند ما أعلنت الثانية عشرة إلا الربع؛ فأسرع إلى النبع، وملأ كوباً صغيراً كان موجوداً بالماء. ثم أسرع الخطو إلى الباب؛ وما كادت رجله تطأ العتبة، حتى دقت الساعة معلنة الثانية عشرة تماماً؛ فأوصد الباب بقوة عظيمة جداً، أطارت قطعة من كعب حذائه وهو خارج.

وبالرغم من كل هذا، فقد كان مروراً لنيله أمنيته. فعاد أدراجه إلى القصر، والتقى في الطريق بصاحبنا القزم. غير إنه لم يكن راضياً عن الرجوع إلى القصر دون أخويه؛ ولذا

ص: 54

سأل القزم أن يدله عليهما. فأجابه قائلاً: (أن أخويك محصوران بين جبلين عقاباً لهما على كبريائهما؛ أو لم تسمع أن عاقبة الكبرياء وخيمة؟!) فألح الأمير على القزم بتلبية طلبه حتى فعل ذلك؛ إلا إنه حذر الأمير على القزم بتلبية طلبه حتى فعل ذلك؛ إلا إنه حذر الأمير من أخويه، إذ يضمر له السوء ولا يقيمان للاخوة وزناً

وعندما رجع إليه أخواه، اخذ السور يتموج على قسمات وجهه، فقص عليهما تفصيل ما حدث. وركب كل من الأمراء الثلاثة جواده، حتى وصلوا إلى مملكة كبيرة، أضنى الجوع والحرب السواد الأعظم من سكانها، وأيقن ملكها أن لا مهرب له من اغتيال. فذهب الأمير الصغير إلى هذا الملك ومد إليه يد المعونة فاستطاع الملك أن يسد جوع السكان، وان يرد الأعداء على أعقابهم خائبين. وبعد أن تم له ذلك اخذ الأمير السيف وما بقى من الخبز وركب مع أخويه حتى وصلوا إلى مملكتين أخريين، فعل فيهما الجوع والحرب فعلته الشنعاء كما في المملكة الأولى. وبالطريقة نفسها رد الأمير عادية الدمار عن هاتين الملكتين.

ثم ركبوا السفينة يؤمون مسقط رأسهم. وفي ذات ليلة، أنثا لت على أحد الأخوين الأكبرين الخواطر السود، إذ قال للآخر:(لقد حصل أخونا الصغير على ماء الحياة؛ وهذا يعني أن والدنا سيورثه المملكة وسيقضى على حظنا وأمانينا!!) فاضطرمت في صدريهما فكرة الانتقام، وتآمرا على اغتيال أخيهما. وبينما كان نماماً في ذات ليلة، أفرغا ماء الحياة من كونه، وملأه بدلاً من ذلك بماء شديد الملوحة ولدى أوبتهم لقصر أبيهم تناول الأمير الصغير الكوب، وقدمه لأبيه؛ وما كاد الوالد يرشف جرعة منه حتى اشتدت عليه وطأة المرض، وساءت حالته، وبينما الوالد كذلك جاء الوالدان الآخران وآخذا يقولان على أخيهما ويتهمانه بتسميم الماء. ثم قدما لأبيهما ما الحياة الحقيقي؛ وما كاد يرشف قليلاً منه حتى تعافى، وأخذ وجهه يتلألأ بالنضارة والنشاط كأنما عاد إلى صباه. وذهب الأخوان الأكبران إلى الصغير وخدعاه بقولهما: لقد حصلت في الحقيقة على ماء الحياة ولكن بما انك فرطت في الحيطة والحذر، فلقد أفرغنا الماء من كوبك دون أن تدري؛ وزيادة على ذلك فسيحاول أحدنا في غضون هذه السنة أن يستولي على قلب أميرتك. ولكن حذار من أن تخوننا؛ وإلا فلن نتردد في القضاء عليك! وانك تعلم أنا لا نوعد إلا تحقق الوعيد!!)

ص: 55

وما كان من الأخوين إلا أن أوغرا صدر والهما عليه حتى أصدر الحكم بقتله، فأمر صياده الخاص بتنفيذه، وبعد أن توغل الأمير والصياد في الغابة، لاحت إمارات الحزن على محيا الصياد فسأله الأمير والصياد في الغابة، لاحت إمارات الخزن على محيا الصياد فسأله الأمير عما به؛ فأجابه الصياد:(من الفروض على أن لا أجا هرك بالسر؛ ولكني أراني مدفوعاً إلى الإفضاء به، من تلقاء عاطفتي وشفقتي عليك!). فقال له الأمير: (قل بشجاعة ما تشاء فليس عليك من بأس!). فأجابه الصياد، مصعداً زفرة عميقة:(لقد عهد إلى والدك الملك بقتلك!). فاعترى زفرة عميقة: (لقد عهد إلى والدك الملك بقتلك!). فاعترى الحزن الأمير آنئذ، وقال والخوف يكاد يعقل لسانه:(أناة أيها الصياد! أن روحي عزيزة على، فارحمني يرحمك الله!). وقرت في نفسه فكرة التنكر يرى الصياد، ففعل. وقفل الصياد راجعاً إلى القصر؛ أما الأمير فتوغل في الحرج. . .

وبعد مدة قصيرة، وردت ثلاث عربات مثقاة بالذهب والحجارة الكريمة إلى قصر لملك؛ وقد بعثها الملوك الثلاثة للأمير الأصغر، اعتراضاً بفضله عليهم عندما أعطاهم السيف ألذ هزموا به الأعداء، والخبز الذي ردوا به عادية الجوع الفاتك. وتجاوبت في نفس الملك آنئذ أصداء فكرة فقال:(لعل ابني يكون بريئاً؟!) وعض بنائه من الندم على إعدامه. ولكن الصياد كان في حضرته فصرخ بحدة قائلاً (أن ابنك لا يزال حياً يا مولاي، إذ لم يطاوعني قلبي على تنفيذ أمرك!)00. وقص عليه ما جرى. فسرى عن الملك، وتقشعت آخر سحب الكآبة عن وجهه، وأمر بأن ينادي في طول البلاد وعرضها بأنه قد سمح لابنه بالعودة إلى كنفه.

وفي ذلك الحين كانت أميرة القلعة المسحورة، قد أمرت أن تفرش الطريق إلى قلعتها بالذهب الخالص الوهاج؛ وأمرت حشمها أن يسمحوا بالدخول فقط لمن يمشى على الذهب، وان يرجعوا كل من يطرق جان الطريق. وعندما حان الوقت الذي ذكرته الأميرة لعرسها المنتظر، طافت في نفس الأمير الأكبر الذهاب إلى القلعة، والإعلان بأنه عريس الأميرة. فامتطى جواده يؤم القلعة؛ وعندما وصل على مقربة منها، ورأى الطريق الذهبية أشفق أن يمشى عليها؛ ولذا جنح إلى الجهة اليسرى وعند ما وصل إلى الباب أشار الحراس عليه أن يعود أدراجه. وبعد ذلك، ركب الأمير الثاني في طريقه إلى القلعة. وعندما خطا جواده على

ص: 56

الطريق بقائمتيه الأماميتين خشي أن يمشي فوقها، ولذا جنح إلى الجهة اليمنى ولدى وصوله إلى الباب، رفض الحراس أن يدخلوه، وأمروه أن يرجع من حيث أتى: وما الأمير الصغير الذي ظل طوال هذه المدة يجول في الإحراج مهدهداً آماله بالصبر، فتذكر أن الوقت قد أزف؛ ولذا ركب جواده ومشى على الطرق الذهبية وعندما بلغ لباب انفتح له على مصراعيه، واستقلته أميرة القلعة بكل ترحاب. وبعد مدة قصيرة احتفل بزوارها احتفالاً رائعاً؛ ثم أخبرت الأميرة زوجها أن والده قد عفا عنه، وانه جد مشتاق لرؤيته: فذهب في الحال إلى أبيه، وقص عليه كيف خانه أخواه وكيف هدداه بالقتل أن باح لأحد بشيء مما فعلاه. ولما اطلع الملك على جلبة الأمر عزم على معاقبة الأخوين. فلما علما بذلك لم يبق إمامها إلا أن يهجرا البلاد إلى غير رجعة.

القدس

كلية تراسانطا

ماجد فرحان سعيد

ص: 57

‌الكتب

الإيمان والروح

(تأليف السيد أحمد عبد المنعم الحلواني)

لم أكد اقرأ كلمة إهداء هذا الكتاب، وهي بالطبع فاتحته، حتى لقيت

موجة من الروحانية تجتاح نفسي، وحتى تبين لي أن مؤلفنا بلغ

مستوى صوفياً لا يبلغه السالك هناً. قال لمؤلف:

الإهداء: إلى الذي احبه بروحي وعقلي ومخي وعظامي ودمي، وأهتف باسمه ما تردد ف نفس من ذات روحي ومن أعماق نفسي.

واهتف باسمه ما تردد في نفس من ذات روحي ومن أعماق نفسي.

وله محياي ومماتي، وفي جاهه وكنف أعيش، وبسابغ كرمه أحيا.

إلى ملك الملوك السبوح القدوس، ربنا ورب الملائكة والروح والى الذين يجبونه فيحبونني واحبهم بحبه، وفي ظلاله نحيا في الحياتين حياة السعداء، ونصل إلى روح الحقيقة فنجتلى من نورها بهجة الجمال ورحيق الوصال.

ويبسط المؤلف منهجه في التفكير فيقول إن من عادته أن يدون أفكاره ويبحث معتقده في شيء بنفسه أولا، ثم يبدأ في القراءة لغيره، ثم ما يقرؤه لئلا يفوته الانتفاع بما لم يصل إليه فكره، وحتى يمحص ما يقرؤه لئلا يفوته الانتفاع بما لم يصل إليه فكره، وحتى يوازن بين ما وصل إليه وما وصل إليه غيره، ويجتهد ان يصل إلى الصواب ما استطاع.

ويذكر انه لم يرد بكتابه كتاب علم جاف، بل أراد به كتاب أيمان وروح.

وهذا المنهج. وقد ألتزمه المؤلف بالفعل - منهج بالغ السلامة وحقيق بأن يفيد كل قارئ ويظفر برضاه.

وقد بدأ المؤلف بالحديث عن المعرفة الفطرية وكيف يستدل على وجود الله من صنعه سبحانه، ثم تحدث عن أن الإنسان بطبعه متعبد يطلب معبوده؛ وقد ضمن حديثه لفتة طيبة عن كيف أن الإنسان لا يملك جسده.

وفي فصل عنوانه (الحب نعمة وجمال) أذكرنا مؤلفنا بروائع الصوفية الأسلاف في المحبة

ص: 58

والشوق. وتلا هذا فصل في التوحيد عنوانه (الأيمان بالغيب) ومن بعده فصل جمع فيه المؤلف أسباب انحراف الناس عن الحق وقد عرض بعده لحكمة إرسال الرسل، وتكلم عن عناية الله بخلقه ومنابع الهدى وموارد الفكر الإنساني، وتكلم عن عناية الله بخلقه ومنابع الهدى وموارد الفكر الإنساني. وأردف هذا يبحث عن الروح، خلص منه إلى نتيجة تنزل على اللباب من التصوف الصحيح. ثم كتب عن المواهب والاكتساب والفيض الإلهي كتابه طواها على توجيهات خلقية عميقة الواقع في النفس.

وأورد المؤلف بعد هذا مجموعة من الشعر المرتجل لصوفي صالح هو (الشيخ علي عقل) وهو شعر فيه قوة إيمان وحرارة قلب، وفيه حب لسيدنا رسول الله (ص) وفيه وعظ مؤثر. وأننا لنستثنى قيمة هذا الشعر إذا عرفنا أن الشيخ يرسله في مجالس الذكر إرسالا يتعب الراغبين في متابعته من الكاتبين.

ويمضى السيد الحلواني فيكتب عن النوم والأحلام وتعبيرها والعوالم غير المنظورة، وهو في كتابته يحمل على الشعب ذات والأباطيل حملاً، ويبدى نفوراً شديداً من كل ما قد يرده الإسلام الحق.

فأما الفضلان الأخيران من الكتاب فعن الساعة الرهيبة ساعة النزع الأخير، وعن حياة الروح بعد الموت، وهما فصلان يهزان الأنفس الزائغة ويفتحان الأعين الغافلة.

وكتابة المؤلف ليست من طراز ما يكتبه بعض محترفي التصوف مما لا يصلح إلا للعقول البسيطة والقلوب الغزيرة. هي كتابه متعالية حقاً في فكرها وإن تكن متواضعة أحيانا في مظهرها. وهي كسائر الإنتاج الصوفي الناجح، سرح ما أجدر الضاحي في معترك الحياة أن يتفيأ ظله، وحرم آمن ما أحوج الخائف من الشهوات المجنونة أن يقصد إليه.

هذا، وقد قدم الكتاب بكلمة بليغة الدكتور عبد الوهاب عزام وهو ما هو في خدمة قضايا الأيمان والروح.

لبيب السعيد

نائب المشيخة البيومية بالدقهلية

ص: 59