المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 729 - بتاريخ: 23 - 06 - 1947 - مجلة الرسالة - جـ ٧٢٩

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 729

- بتاريخ: 23 - 06 - 1947

ص: -1

‌مناكفة المرأة

للأستاذ عباس محمود العقاد

(التك) عند العامة هو معاودة المرأة الكلام الذي تقصد به الإساءة وتغمغم به غالباً كأنها تزعم أنها تخاطب نفسها وهي تخاطب من تعنيه ويستمع إليها في تلك اللحظة. وأكثر ما يكون (النك) من قبيل الغمز أو التصريح الذي تجرح به غرور الرجل أو تتناول به موضع الضعف منه وهو يتحاشى أن يصاب فيه، ولا سيما أمام المرأة التي يهمه أن يظهر لها في مظهر القوة والرجاحة على الأقران.

والعامة يحكون بكلمة (النك) صوت المرأة وهي تلح في تلك الغمغمة كأنها تعاود الطرق أو الدق على نغمة واحدة لا تسأمها وهي موجبة للسآمة.

ولهذا تتفق الكلمة وما يقابل معناها في بعض اللغات الأوربية، لأن صوت الطرق أو الدق واحد في جميع الآذان. فيقول الإنجليز مثلا نج ليعبروا بها عن مناكفة النساء من هذا القبيل.

ويظهر أن المادة في اللغة العربية تتسع لكثير من الكلمات في هذا المعنى وما قاربه من معاني الدق والوخز والمناكفة. فإذا صح أن الكلمات كلها ثنائية في نشأتها الأولى ثم زيد عليها حرف أو حرفان للزيادة في معناها فعندنا من هذه المادة ومن هذا الباب كلمات (نكأ ونكت ونكث ونكز ونكش ونكف) متقاربة في معنى الوخز والتجريح كأنه يأتى من الضرب بأداة تحدث ذلك الصوت المكتوم.

والنك قديم في العالم كقدم لسان المرأة. ما نظن أن أذن آدم أخطأته من لسان حواء، ولا نظن أنه يضل سبيله بين الألسنة والأسماع حيث يوجد الرجال والنساء.

فمن (النك) كلام امرأة الأخطل وهي تذكر زوجها القديم وهو يجيبها بذينك البيتين:

كلانا على هم يبيت كأنما

بجنبيه من مس الفراش قروح

على زوجها الماضي تنوح وإنني

على زوجتي الأخرى كذاك أنوح

ومن النك كلام الأعرابية التي كانت تحدث صاحبها عن زوجها الأول ويسألها بماذا تذكره من أحواله التي لا تنساها. فلما قالت إنه خرج ذات يوم فرمى وطرد وقنص وعاد وعليه الغبار والدم (فضمني ضمة، وشمني شمة، فليتني مت ثمة) ذهب الأبله يحكيه وعاد وعليه

ص: 1

الغبار والدم، فضم وشم، فتمنت الموت ثم، ولكن من الأسف والغم، وتركته وهي تقول: ماء ولا كصدّاء!

ومن (النك) كل ما حكاه أجواد العرب وشعراؤهم عن تبكيت نسائهم لهم وملامتهن إياهم على تضييع المال وعجزهم عن محاكاة نسائهم لهم وملامتهن إياهم على تضييع المال وعجزهم عن محاكاة الأنداد والأمثال.

ويلتبس (النك) بأسلوب آخر من أساليب المغايظة النسائية وهو أسلوب التدلل والاستزادة في مقام الرضى والمحبة، وقد عناه الشاعر بقوله:

أحب اللواتي في صباهن غرة

وفيهن عن أزواجهن طماح

مسرّات حب مظهرات عداوة

تراهن كالمرضى وهن صحاح

ولكنهما - وإن اختلفا - يدلان على أن المرأة لا تحب أن تريح إذا استطاعت أن تتعب وتغيظ!. . فهي في (النك) أو في الدلال على هذه الحال.

وإذا كان (النك) قديماً في الزمان فهو كذلك شائع في كل مكان، وهو في البلاد التي بلغت فيها المرأة غايتها من حرية الزواج والطلاق لا يقل عنه حيث لا تملك المرأة حقاً من حقوق الزواج والطلاق.

فلا عجب أن يكون موضع بحث متجدد بين علماء الأوربيين بل بين علماء الأمريكيين في الشمال وفي الجنوب، حيث أصبحت المرأة غنية عن (النك) بسرعة النظر في أمر الطلاق، فلو شاءت لطلبت الطلاق واستغنت به عن المناكفة واللدغ باللسان. . . ولكنها تشاء حيناً ولا تشاء في أحيان. لأن مضغ الكلام لذة تطلب لذاتها كمضغ اللّبان!

وآخر ما قرأناه من البحوث في هذا (النك) الذي لا يفرغ ولا ينتهي بحث طريف نشرته (خلاصة المجلات) الأمريكية وأثبتت به أن لغة (النك) واحدة في جميع اللغات، وأن العلم بأسبابه يفيد في بلادنا كما يفيد في جميع البلاد.

فمن أسبابه (الجوع الجنسي) وقد يتعرض له الزوجان وهما صحيحان وكلاهما صالح للزواج والنسل ولكنهما لا يتلاءمان في خصائص البنية الجنسية أو في خصائص المزاج.

ومن أسبابه (زواج الحب) كما يسمونه إذا كان قصارى ما يعرفه الزوجان من الحب أن يحب أحدهما الآخر، ثم لا يصنعان شيئاً غير قضاء الوقت في هذا الحب المتبادل.

ص: 2

ويقول الكاتب في شرح هذا السبب أن المهم في الحب بين الزوجين أن يشتركا في حب أشياء كثيرة، لا أن يحب أحدهما الآخر وكفى.

فالزوجان اللذان يشتركان معاً في حب الموسيقى أو حب الرياضة الخلوية أو حب الحدائق والأزهار أو حب المطالعة والتعليق على الشئون العامة أقدر على اجتناب (النك) من زوجين يجمعهما الحب ويسأمانه بعد عشرة قصيرة أو طويلة. فينفد ما بينهما من دواعي القرب والاتصال.

وقد يدوم حب المصلحة أو حب التفاهم بيت الزوجين الذكيين لأن المصلحة والذكاء شيئان يقبلان الدوام، أما الحب وكفى فقلما يدوم أو يطول به الأجل، وقلما يسلم البيت الذي يقوم عليه من آفة (النك) بعد شهور، أو بعد سنين.

ومن أسباب (النك) سوء الحالة المالية، وقد يكون الخلاف على التصرف بالمال عرضاً لداء آخر في نفس المرأة، وهو عرض الشعور بالنقص أو الشعور بالحرمان.

وإذا أصيبت المرأة بشعور النقص لسبب من أسبابه الكثيرة فقد تظهر هذه الآفة منها في مظاهر شتى بعيدة كل البعد من مظاهرها المألوفة.

قد تظهر منها مثلا في فرط النظافة أو فرط الحركة والاهتمام بالتنظيم والترتيب ونقل الأثاث والتنقل بين المساكن لغير سبب مفهوم.

وقد تظهر منها في التوجس والعبادة وتصديق الخرافات وخوف العقاب على المحرمات أو ما تتوهم أنه من المحرمات. فلا تزال (تنك) في موضوع من هذه الموضوعات، وهي تغالط نفسها في الحقيقة ولا تقبل التسليم بينها وبين ضميرها بالسبب الصحيح، ولو عرفت السبب الصحيح.

والفراغ طبعاً من أسباب (النك) التي لا تفرغ؛ لأنه يملأ الوقت ويثير الحس ويعوض الزوجين عن الشواغل والأعمال التي تقضى فيها أكثر الأوقات.

وسوء الصحة من أقوى هذه الأسباب. فإن الشكوى من عادات المرأة المتأصلة في طباعها، فإذا تحركت فيها بواعث الشكوى من المرض أو الاعتلال فوق هذا الباعث الأصيل غلبتها الطبيعة والعلة معاً فعجزت عن السكوت والتمست لها متنفساً في الإعادة والإبداء والمناكفة والإيذاء.

ص: 3

وقياساً على هذا يحسب (للنك) سبب يتكرر كل شهر مرة، ويتساوى فيه جميع النساء. ولا بد فيه من نوبة غم أو لغط أو صياح تخلقها المرأة خلقاً إن لم تسعفها بها الحوادث والمناسبات وقلما تتوانى الحوادث والمناسبات عن الإسعاف بمثل هذه النوبات في وقت من الأوقات.

هذه جملة صالحة من أسباب (النك) عند جميع النساء في جميع البلدان، وبين جميع الأجناس.

ونحن نعرفها فنستفيد ولا شك من هذه المعرفة كما نستفيد من كل معرفة.

ولكن هل معنى ذلك أننا نقضي على الداء إذا عرفنا حقيقة الداء؟

كلا، فمهما يطل الكاتبون والقائلون من (النك) في هذا الموضوع فالنك نفسه باق إلى آخر الزمان، ما بقى للمرأة لسان وللرجل أذنان تسمعان أو لا تسمعان.

عباس محمود العقاد

ص: 4

‌القسم الرابع

فرنسا ومستعمراتها

للأستاذ أحمد رمزي بك

(فكرة الاتحاد الفرنسي قديمة: عبر عنها جبرييل هانوتو بقوله: وحدة الإمبراطورية وحدة الإرادة والتشريع والعمل، وحدة الشعور والإرادة الحرة. ليست بالعنف والقوة والفتح ولكن باللين والترغيب تتم الوحدة الفرنسية).

وتتميز آراؤه بخطورتها على الأمم المغلوبة وأثرها في نفوس الفرنسيين وسرعة تغلغلها في أوساطهم

جبرييل هانوتو من كبار رجال فرنسا، ظهرت مزاياه وشخصيته في أعماله وكتاباته وأقواله، فإذا هو يؤثر في جيل بأكمله من الناس، كتب كثيراً عن تاريخ فرنسا وأمجادها، وعرف الناس ما لم يعرفوا عنها، وكتب عن تاريخ الأمة المصرية، واشرف على إخراج كتاب على الأسلوب الذي يروق له وللمستشرقين، وهو رجل دائم الإنتاج، لم يترك عملا من أعمال الخلق إلا كتب فيه، ولا نشاطاً إلا جال فيه وصال. كان من أولئك الذين يعملون بالمثل اللاتيني القائل:

(إني بشر مثلهم، ولن أترك (ليكون غريباً) عني عملا من أعمال البشر)!

فكان من الطبيعي والضروري أن يلفت الاستعمار الفرنسي أنظار الشيخ، ولذلك كتب فيه وأطال، وهو القائل في كتاب له عنوانه (من أجل الإمبراطورية الفرنسية):

هل ترغب فرنسا أن تحيا حياة الأمم الفتية الناهضة؟ أم ستلحق بغيرها من الأمم الفانية التي ذهبت ريحها؟

هل ستفنى كما فنيت بيزنطة؟ وهل تتبع قرطاجنة وتلقى مصيرها؟

إذا عاشت فرنسا بعظمتها وقوتها وأمجادها، وهذه ما لا أشك فيه (هذه قوله هو) فلتكن متجهة بنشاطها وفكرها وعبقريتها إلى مستعمراتها

هناك تبرز شخصيتها الخالقة وتنمو علائقها مع تلك العائلة التي جمعتها حولها: عائلة المستعمرات الفرنسية

كانت صيحة وبرنامجاً قذف بهما هذا الشيخ الفاني فتلقفهما رجال الاستعمار، قال هذه

ص: 5

الكلمة بعد أن أمضى السنين يدرس ويبحث ويقيد ويسجل

وخطر هانوتو أنه رجل من رجال الفكر والدهاء، يجمع بين البحث والعلم والفلسفة، ينظر للاستعمار نظرة المحلل الطاغية الذي لا تتطرق الرحمة إلى قلبه

أتدري بمن أشبهه؟ بهذا الفريق أو الرعيل من دهاة العرب الذين نبغوا في العصر الأول من الهجرة، فقادوا الحركات الكبرى أو مهدوا لها بفكرهم وعقلهم: هذا الفريق الذي فيه معاوية وعمرو بن العاص، إننا لن نجد اليوم بين مجموعة الدول العربية من تسمو به كفايته إلى هذا الفريق من السلف الخالد.

أما هانوتو فكان داهية الفرنسيين، تلمس روحه الذين يضعون الخطط لبلادهم لسنوات بعيدة، ويرسمون لحكوماتهم برامج السير مع الأمم التي نكبت بالاستعمار، وهو مثل من كثير غيره، ولكن لكثرة ما قرأت عنه أراني في حل إذا وضعته في صف دوفرين السفير البريطاني في اسطانبول وملنر صاحب المشروع المشهور، وكلاهما من دهاة الاستعمار البريطاني الذين وضعوا الخطط الطويلة المدى لبلادهم، ولا نزال نحن بمصر نجاهد للخروج من نطاق تقرير دوفرين عن الشؤون الدستورية، ونكافح للخروج من دائرة ملنر في الناحية السياسية.

ولا تعجب من تقرير ذلك، فإنّ الاستعمار الأوربي في نكباته ومصائبه لا يعد شيئاً بجانب مقدرته على التطور والظهور بألوان مختلفة، وهو أكبر نشاط إنساني قام به البشر منذ الخليقة إلى اليوم، بل هو دعامة المدنية الحالية ومظهر قدرتها وتفوقها، بل لا نبالغ إذا قلنا إنّ مظاهر الترف ومستوى الحياة لدى جماعات من الأوربيين سوف تنهار أو تهبط بتفكك الروابط مع المستعمرات، ولذلك نجد الدول الأوربية أشد تمسكاً بهذه الروابط من أي عهد مضى. ونرى أنها تجتهد أن تسالم الحركات القائمة وتسايسها وتخضع لبعض مطالبها، حتى تحتفظ بما لها من سيطرة على هذه الشعوب وهذا الاتجاه هو أخطر ما يواجه الأمم الإسلامية الناشئة، لأننا لن نتغلب على الاستعمار إلا إذا فهمنا هذا النوع من العمل الإنساني، ولن نصل إلى الخروج عن نطاقه إلا إذا بعث الله لنا من أنفسنا رجالاً أقوياء أشداء يدافعون عنا ويلاته بعزيمتهم وقوتهم ولهم من الفكر والمضاء في الحق ما يمكنهم من نقلنا من حالتنا التي نحن فيها إلى حالة تقرب من المنطق والمعقول، أو تكون أقرب إليهما

ص: 6

من الحالة التي نعيش فيها اليوم.

وأعود إلى هانوتو فأقول إنه قد لا يكون أول من نادى بفكرة الاتحاد الفرنسي، فقد يكون هناك غيره ممن تقدمه، ولكني أعجب به من ناحية أنه من فلاسفة ومفكري الاستعمار، الذي لمسوا تقدم الدنيا وتنبهوا لما قد تأتي به الأيام، فتقدموا بآراء ومشاريع وأفكار لم تكن بعيدة عن الحقيقة.

ثم هو مع دهائه وفكره وبصيرته لم تشغله مظاهر الدنيا والثراء وحب النفوذ، كما شغله حب بلاده ورغبته في بقائها، فتحكم على ربوع المستعمرات وفي رقاب أهلها، وهو حينما يكتب وينشر آراءه وسمومه لا يهمه شخصه، وإنما يؤمن بشيء واحد هو بقاء سيطرة فرنسا على مستعمراتها.

فهو يؤمن بأن بقاء الجماعات متوقف على الأنظمة التي تربطها، وهذه يجب أن توضع على أسس صالحة قوية، بل إن الأنظمة هي روح الجماعات، بقدر صلاحها تصلح الجماعة، وإذا فسدت انهار كيان الجماعة.

ولهذا فالإمبراطورية في نظر هؤلاء كائن حي يجب أن يعيش وينمو، وإن قوته مستمدة من الأنظمة التي تربط المستعمرات بالوطن الأم، وإن أنظمة الحكم يجب أن تطرد مع الزمن حتى لا يعتورها ويصيبها الجمود، وهو عله المجتمعات والداء العضال الذي يصيب الإمبراطوريات ويقضى عليها كما قضى على ملك روما وبيزنطة وغيرهما.

فهذه الفلسفة الاستعمارية لم تقف عند حد النظريات، بل أخذت تحلق في العلاقات بين الدولة الحاكمة والأمم المغلوبة، وتتخذ طريق التجربة والاستقراء في مختلف النواحي.

وحقيقة للعالم هي: أن السيطرة الأوربية سواء كانت فرنسية أو غيرها سادت العالم وشعوبه واحتلت المكان الأول وفرضت إرادتها أينما حلت، إلا في الجهات التي ساد فيها الإسلام فهناك واجهت المصاعب واضطرت أن تسير على حذر وعلى قدر، ولذلك تلقى الإسلام والعرب أكبر الطعنات في التاريخ، وفي سبيل هدمه أعطى ذلك اللون البراق للمدنيات القديمة التي انقرضت في مصر وبابل وآشور وفارس، وهذا يفسر لنا تهجم هانوتو وغيره على العرب وطعنه على تاريخهم ووصفه للإسلام بأنه عدو للعلم والمدنية.

لأن الضعف يوجد تسليماً وخضوعاً وهذا ما تم في ربوع أفريقيا السوداء، أما حيث ساد

ص: 7

الإسلام فقد وقف المسلمون يقارعون الاستعمار وجهاً لوجه، وبقي خطر الدعوة المحمدية ماثلاً أمام المستعمرين، ولذلك كثر أعداؤنا لأننا أقوياء: والقوي يخلق أعداء لنفسه، ومن هؤلاء جبرييل هانوتو الذي تولى يوماً الإمام محمد عبدة دفعه عن الإسلام في كتاب له مشهور ومواقف مشهودة أمامه.

ويذكرني هذا بما قرأته في مقدمة كتاب الإسلام وسياسة الخلفاء الذي كتبه أنريكو انساباتو (يقف العالم الإسلامي في مواجهة أوربا موزعاً بين أملاك الدول المختلفة والقوميات الحديثة يقاوم بشدة وعنف وعناد معتمداً على وحدته الدينية وصبغته العالمية التي تعطى لحركاته مظهراً ينفرد به عن غيره)

فالسياسة الاستعمارية وقفت إزاء المسلمين حائرة، وهي التي انتهت إلى اعتبار الإسلام عدواً لدوداً للاستعمار الأوربي ووصفته بالرجعية والتأخر لأن قناته لم تلن لجبروت الدول الاستعمارية.

وعلى هذا رسمت الخطط لاستعباد الإسلام ما أمكن من المناطق التي قد يسود فيها: وفي هذه الناحية بالذات ظهرت قرارات لمؤتمر برازافيل تتفق مع قرارات حكومة السودان بشأن التضييق على حرية العبادة ومنع تغلغل الإسلام في أفريقيا الوسطى وهذا مما جعل للإسلام قضية سوف نعرض لها يوماً لعرضها على الضمير العالمي.

ولم تكن فرنسا بحاجة إلى إعلان الاتحاد الفرنسي والدعوة إليه لو كان الأمر متعلقاً بالمستعمرات الأفريقية وحدها، أما والأمر متعلق بشمال أفريقية حيث يسود الإسلام، ولذلك قامت أمامها العقبات وحشدت القوات.

وقد كان من أيسر الأمور عليها فرض الثقافة واللغة والدين والأسماء الفرنسية وإيهام الجنود السود أن آباءهم من بلاد الغال وأنهم فرنسيون دماً وروحاً وفيهم من يصدق وتحمس لذلك.

أما والإسلام والعروبة بالمرصاد، هنا يبدو الاتحاد متردداً يسير بخطوات وئيدة، ويستنير بآراء هانوتو وغيره، وفي ذلك يقول صاحب كتاب الإسلام وسياسة الخلفاء:(أن للإسلام سياستين: واحدة استعمارية تتعلق بالمستعمرة، وأخرى عالمية تتبعه وتلاحقه في مشارق الأرض ومغاربها). وهما يلتقيان في ناحية واحدة وهي إبعاد الأخطار ما أمكن؛ تلك

ص: 8

الأخطار التي يسببها للدول الأوربية وجود ملايين من المسلمين على الأرض، يمثلون في أفريقيا خطراً لا يستهان به نظراً لازديادهم عاماً بعد عام.

وفي القرون الماضية فقدت فرنسا مستعمراتها لأن البحر كان فاصلاً والمسافات بعيدة، واليوم تحاول فرنسا فرض إرادتها على أقطار شاسعة، فإذا بالإسلام أبعد غوراً من البحار والمحيطات: وهي لن تقدر عليه لأنه من نور الله.

ولذلك ستسير شعوب الجزائر وتونس ومراكش نحو التحرر والخلاص برغم المصاعب التي تقيمها فرنسا وحكوماتها المختلفة واتحادها ووحدتها: لأنها شعوب عربية إسلامية قوية لا تلين.

لقد استعرضت فرنسا أنواع الاستعمار المختلفة فبدا لها الاستعمار السوفيتي الروسي بلون خلاب، وخيل إليها أنه قد قضى نهائياً على نفوذ الإسلام من ربوع آسيا الوسطى، وفي هذا خطأ كبير فأرادت أن تستعين بأساليبه في هذه الناحية وفي بعض النواحي الأخرى، ولذلك ترغب أن تؤسس اتحادها على شكل يشبه اتحاد روسيا وسنعرض بعد قليل للاتحادين في مقال لاحق بإذن الله.

احمد رمزي

ص: 9

‌وقفة على الفسطاط!

للأستاذ علي الطنطاوي

قرأت في مذكرات حضرة صاحب السمو الملكي الأمير محمد علي المطبوعة في مصر في 9 ربيع الأول سنة 1366هـ أنه كان يتولى رياسة لجنة حفظ الآثار العربية، فقررت اللجنة سنة 1329هـ (إصلاح جامع عمرو وتجديده اهتماماً به من جهة أنه أول مسجد أسس في الإسلام بمصر، وانه مشرق أنوار العلوم الإسلامية بمصر منذ القدم)، ولئلا (نعاب بقلة الاكتراث بمفاخرنا التاريخية).

واهتم بذلك الأجانب، وكتب إليه أساتذة كبار محبذين ومشجعين، وكاد يتم الأمر لولا أن أكثر الأعضاء المسلمين في اللجنة غابوا عن الجلسة التي عينت لإتمام المشروع فصارت (الأغلبية) للأجانب.

قال الأمير: فلما بدأت في تبادل الآراء مع الأعضاء في مسالة إصلاح الجامع قام هرتس باشا - مهندس الأوقاف إذ ذاك - وسألني: ماذا تعملون في حيطان سور الجامع؟ فقلت: حيث أن السور متهدم متخرب، وانه جدد مراراً، ولم يبق له منظر جذاب، نريد أن نعمل سوراً جيداً فخماً يتناسب واسم الجامع. فأظهر أسفه لهذا العمل، وقال، إننا إذن سنكسر ما فيه من طوب أحمر أثري، وأن هذا خسارة لا تعوض، لأنها آثار قديمة ستتلف بهذا العمل!

وبعد ذلك سأل مسيو ديمول الممثل الألماني لصندوق الدين قائلاً: ماذا تعملون في البواكي؟

ثم سأل المستشرق السويسري بورك هارت: ماذا تعملون في عمدان الجامع؟

وبعد ذلك قام المسيو فارنال الممثل الإنكليزي لصندوق الدين وسأل: ماذا تعملون في البوابة الكبيرة؟)

وذكر الأمير جوابه لكل منهم، وهو جواب مقنع، ولكن القوم لم يقتنعوا!

قال: (ثم زاد امتعاضي وقلت لجميع الجالسين: أما يندى جبينكم خجلاً من هذا الوضع أيها الجماعة؟ إن الدين الإسلامي لا يسمح لغير المسلم أن يتدخل في أمور مساجد الله، والحكومة المصرية سمحت وتساهلت إلى حد أن تتدخلوا في شؤون نحو مائتين وخمسين مسجداً في مصر دون حق شرعي، والمسلمون لما أرادوا تعظيم شأن جامع من أدخل الدين الإسلامي في بلادنا، تحجمون وتوقفون عملنا، وعلى هذا إني متنازل عن رياسة هذه

ص: 10

اللجنة. .). وتنازل الأمير، ووقف العمل!

قرأت هذا، فأحببت أن أزور الجامع، ولم أكن زرته، وهو قريب من الروضة حيث أقيم، فسألت فوجدت أنه لا يصل إليه ترام ولا سيارة، مع أن كل مكان في مصر (إلا هو) تمشى إليه سيارة أو ترام، فذهبت أخوض في التراب، في طرق مهملة، ومسالك معطلة، حتى وصلت إلى الجامع، وهو قائم كالشيخ المريض المدنف، وسط العشش و (الفواخير) و (الجيّارات) والجبانات!

قلت: أهذا هو جامع عمرو؟ قالوا: نعم. قلت: وهذه هي (الفسطاط)؟ قالوا: نعم!

الفسطاط، أول بلدة للمسلمين في مصر، يهملها المسلمون، حتى تعود مقابر للنصارى؟

الفسطاط، منزل الفاتحين الذين نشروا في مصر حضارة الإسلام، يمحى منها كل مظهر للحضارة، فلا يكون فيها إلا (الفواخير والجيارات)، وتذهب منها معالم الحياة، فلا تكون إلا داراً للموتى؟

هل يدري هؤلاء الذين يروحون ويغدون على هذه البقعة المتروكة، وهل يدري أولئك الذين لم يزوروها ولم يروها أنه من هنا سطع النور الذي أضاء مصر بضوء الإسلام، ومن هنا انبجس المعين الذي روى العطاش من أبناء مصر وأفريقيا، ومن هنا مشت الراية الإسلامية حتى رفرفت على نصف دنيا الماضي من البحر الأحمر إلى ما وراء البيرنة، ومن هنا خرج الصوت الذي ألغى نظام الطبقات، وساوى بين الناس في مصر، وأعطاهم الحرية في دينهم ودنياهم، وأنها هنا ولدت مصر زعيمة العروبة ومثابة الإسلام؟ فمن الذي كاد لهذه البقعة الطاهرة حتى صارت أوحش بقعة في مصر وأحطها وأبعدها عن الحضارة والنظافة والبهاء؟ ما الذي صرف الناس عنها، فلا يؤمها مصري ليذكر مشرق شمس الهداية منها على بلاده، ولا يستطيع أن يصل إليها سائح ليرى فيها آثار أمجد ذكرى في تاريخ مصر؟ أيتخرب المسجد ويهمل الحصن ولا تشفع لهما روعة البطولة، ولا خشعة الإيمان، ولا عظمة العلم؟!

أما والله الذي لا أله إلا هو، لو كانت هذه المآثر لغيرنا، لأمة تحس وتشعر وتقدر أمجادها، لجعلت بقاعها كلها كعبات يحج إليها، ومنابر تتلو على الناس سور البطولة فيصغي إليها الناس كأنها القرآن، ولخلدت كل مكان مرّ منه عمرو، وكل طريق سلكه، وكل قلعة

ص: 11

افتتحها، من العريش إلى الفرما إلى أم دُنين (قرب حديقة الأزبكية)، إلى ساحة المعركة في عين شمس، إلى ميدان الوقعة الكبرى، التي كان فيها النصر عند حصن بابليون (قصر الشمع) عند جامع عمرو، ولعبدت هذا الطريق، طريق الفتح، وظللته بأشجار الغار، وكنّفته بالورد والفل، ولجعلت في كل قرية وكل بلدة مدرسة باسم عمرو، تعرف الناس عمرو، والدين الذي جاء به عمرو.

إن فتوح المسلمين أعجوبة التاريخ، ومعجزة الدهر، ولكن ليس فيها ما هو أعجب من فتح مصر، فقد حيّر من الوجهة الحربية العسكريين، وأدهش بنتائجه المؤرخين.

لقد كان جيش عمرو يوم صدم مصر، أربعة آلاف، وما أربعة آلاف في جنب مصر وملك مصر، ولو أطبق عليهم أهلها بأجسادهم لطحنوهم، ولو ضاربوهم بالحجارة لقتلوهم، ولو حصروهم من بعيد لأهلكوهم، ولكن أربعة آلاف فتحت مصر، فتحتها بعبقرية قائدها، فتحتها بخلائقها وبإيمانها. ومن كان معه الإيمان لا يقف له شيء.

ولقد فتح مصر من قبله فاتحون، العرب (الهكسوس) أبناء الجزيرة، والفرس، واليونان، والروم، فكان في مصر غالبون ومغلوبون، غرباء حاكمون، ومصريون محكومون، ولبث الفتح ما لبثت القوة، فلما زالت زال، وعادت البلاد لأهلها فلما فتحها عمرو، صارت لقومه إلى آخر الدهر.

ولقد دأب الروم وهم آخر من حكمها عاملين بالترغيب والترهيب، يستخدمون العطايا والمنايا، لحمل المصريين على مذهب في النصرانية غير مذهبهم فما استطاعوا. وهم جميعاً أهل دين واحد، واستطاع عمرو أن يدخلهم بطوعهم ورضاهم في الإسلام، فيكونوا هم أهله، وتكون بلدهم بلده، وهذه هي طريقة الفاتحين المسلمين، لم ينقلوا الإسلام إلى البلاد التي فتحوها، ولكن نقلوا أهلها إلى الإسلام: أراهم فضله، وأذاقهم عدله، أعطاهم الحرية في عباداتهم، وأعاد لهم بطريركهم بنيامين الذي طرده الروم، ورفع المظالم عنهم، ومنع بعضهم أن يستعبد بعضا، وحفر لهم الخليج في سنة واحدة، من النيل إلى البحر الأحمر، استعملهم فيه بالأجرة لا بالسخرة، وجعله لهم لا لغيرهم، فكان للخير والبركات، لا كقناة السويس التي هي في أرضنا وليست لنا - فكانت هذه الأعمال خطباً ومحاضرات في الدعوة إلى الإسلام، ما سمعها المصريون حتى انقلبوا جميعاً مسلمين، وكذلك تكون الدعوة:

ص: 12

بالأعمال لا بالأقوال.

لقد رأيت مرة رواية مسرحية في جمعية إسلامية مثّل فيها الممثل عمراً، رجلا قميئاً ثعلبياً محتالا يتدسس في القوم، ويسترق الأخبار، ويوقع الشر، ويتعمد الكذب، فعلمت أن هؤلاء الذين هداهم الله بعمرو، لا يعرفون من هو عمرو!

أولا فخبروني من قال لكم إن عمراً كان بهذه الخلائق؟ ما الذي غركم بتمثيله؟

أليس على الممثل أن (يندمج في دوره) ويفهمه ويستعير روح من يمثله؟ فهل تستطيعون أن تمثلوا أبا جهل في فضائل جاهليته، قبل أن تقدموا على تمثيل عمرو في عبقرية إسلامه؟

لقد كان عمرو شريفاً في الجاهلية والاسلام، وكان صادقاً صريحاً، وكان شاعراً فصيحاً وكان أبياً عزوفاً لا يرضى بالدنية من عمر، وهو من هو، ويرد عليه الكلمة بمثلها حين راسله في أمر خراج مصر، وكان فقيهاً في دينه، أسلم طائعاً مختاراً، فتوافقت على ورود شرعة الإسلام يومئذ عبقريتا عظيمين من عظماء الناس كلهم لا العرب وحدهم. وماردين من مردة القيادة والحروب، سيد القواد خالد بن الوليد وعمرو بن العاص، هداه إلى الإسلام نطق سديد، لم يدخله فيه طمع ولا طبع، ولم تدفعه إليه رغبة ولا رهبة، وكان صادقاً في إسلامه، قوياً في إيمانه، حتى ولاه الرسول صلى الله عليه وسلم حَطْم رب من أرباب الباطل، فاختاره لهدم سواع، واقره على غمارة سرية فيها سادة الإسلام ومشايخه أبو بكر وعمر وأبو عبيدة، وجعله رسوله إلى ملك عمان، وأمينه على الصدقات فيه، وشهد له (أنه من صالحي قريش)، وقال فيه:(نعم أهل البيت عبد الله وأبو عبد الله وأم عبد الله) ونظر إليه عمر، فقال:(ما ينبغي لأبي عبد الله أن يمشي على الأرض إلا أميراً) وقال قبيصة بن جابر: (صحبت عمرو بن العاص فما رأيت رجلا أبين قرآناً، ولا أكرم خلقاً ولا أشبه سريرة بعلانية منه) وكان عمر إذا رأى رجلا عيياً يتلجلج في كلامه يقول: (أشهد أن الخالق هذا وخالق عمرو ابن العاص واحد).

وكان مشهده يوم بلغه انتقال الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الملأ الأعلى، مشهداً يلين القلوب الجامدة، وما يفجع ولد بابيه، أو محب بحبيبه، فتكون لوعته عليه، وحسرته لفقده، أشد من حسرة عمرو ولوعته.

ص: 13

وكان يوم الردة سيفاً من سيوف الله التي رجعت الإسلام إلى موطنه بعد ما كادت تشرده عنه الخطوب، وأعز الله به الدين، وقمع الثائرين. ثم رمى به الصديق الروم، وقدمه على (من هم أقدم منه سابقة وحرمة) وجعله أحد القواد الأربعة، فتجلت عبقريته حتى رجع الثلاثة إلى رأيه، وبلغ الرأي أبا بكر فأقر ما رأى، وكان في اليرموك ثاني الأبطال، بعد نابغة المعارك خالد، وكان بطل إجنادين، فضرب الله به أرطبون الروم بأرطبون العرب، فكان أرجح منه في الميزان، وكانت عبقريته أبقى علىوجه الزمان، حتى قال عمر: غلبه عمرو، لله عمرو!

أما النبل في سلائقه، والسمو في خلائقه، وقوة جنانه، وفصاحة لسانه، فاسألوا عنها كتب الرجال، فما يتسع لها المقال.

هذه هو عمرو وما عرفتموه، قرأتم ما كذبه عليه المؤرخون يوم التحكيم، ولم تقرءوا الحقيقة التي رواها المحدثون وهم أوثق نقلا، وأصدق قولا، وسمعتم أنه من دهاة العرب، فحسبتم الدهاء لا يكون إلا بالكذب والاحتيال والدس والوقيعة. لا يا سادة إن من تخرج في مدرسة محمد، وكان رسول رسول الله، لا يكون دساساً ولا كذاباً، (إن المؤمن لا يكذب)، هكذا قال الرجل الذي قال:(ابنا العاص مؤمنان عمرو وهشام) محمد رسول الله!

هذا هو عمرو. أي فاتح صنع مثلما صنع عمرو؟ أي قائد كان أعظم بركة في ظفره من عمرو؟ أي مصلح كان أبقى أثراً في إصلاحه من عمرو؟

إنه ما شهد في مصر مسلم أنه لا إله إلا الله، ولا قام متبتل في صلاة، ولا قعد واعظ في مصلاّه، ولا قاض إلى منصته، ولا مدرس إلى أسطوانته، ولا عمل مصري من خير إلا وعمرو شريكه في ثواب عبادته، لأنه السبب في هدايته، ومن سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة!

عمرو بنى جامع ابن طولون، وشاد الأزهر، وعمر هذه المدارس، وأقام هذه المساجد، وأنشأ كل مظهر للإسلام في مصر. ما كان لولا عمرو!

عمرو هو الذي رد برابرة الشرق في عين جالوت، وبرابرة الشمال في المنصورة، وكان له فضل كل نصر، كتبه الله للإسلام في مصر!

هذا هو عمرو، فهل تلبي مصر في إصلاح جامعه دعوة الأمير؟ وهل أعيش حتى أرى

ص: 14

هذه البقعة أزهى بقعة في مصر وأبهاها، يعمر فيها الجامع حتى يصير أزهر ثانياً، وهو (كان) أول أزهر في مصر. تمتد من حوله الشوارع الفساح، والحدائق والجنات، وترجع هاتيك المآثر ظاهرة، ومن حولها القصور العامرة، ومنازل الكبراء، ومراكز الجمعيات الإسلامية، ومفوضيات العربية؟

هل ترجع للفسطاط عهودها الخاليات؟

علي الطنطاوي

ص: 15

‌من البطل فوزي القاوقجي إلى الشعر علي محمود

‌طه

(كان الأستاذ الشاعر علي محمود طه قد حيا بطل العروبة القاوقجي بقصيدة من عيون الشعر نشرتها البلاغ، فلما قرأها القائد الشجاع تحركت فيه بلاغة البطولة فبعث إلى الشاعر الكبير بهذه الرسالة):

تحية عربية. وبعد فقد قرأت قصيدك، وأطربني شعرك، وسألت نفسي، هل أنا جدير بمثل هذا التكريم يزجي إلى شعراً حراً؟ وأوعدت تلاوة القصيدة فإذا بي أجد في كل بيت روح معركة، أو صدى حق ناقم، أو صورة نضال باسل، وأيقنت أن هذا المجد يضيفه على مثل هذا الشعر العبقري أجدر به أن يدخر ليوم الفصل، يوم المعركة الكبرى لإنقاذ فلسطين كلها. . يومئذ (لا يمرح الباغون فيها)، ويومئذ يقول شاعرنا الكبير ما يشاء

أخي؛ ما أشبه هذه الأمة بالكنز الدفين، تراكمت فوقه على ممر السنين طبقات من تراب تعلوها أشواك وأعشاب ذهبت بمعالمه وعفت آثاره، يوم توارى وجه الأمة الصحيح، وغر الأجنبي العدو، هذا الوجه السطحي المصطنع للأمة، فاستهان بها، واستحوذ على القادة يأس، فظلوا هم عن حقيقة أمتهم، ولم ينفذوا إلى غورها حتى ظن الظانون أنها مسكنة قد ضربت عليها. . . رأيت كيف يبسط الظلم على هذه الأمة جناحيه، ويطلق يديه في بلادي فيستنزف ثروتها، ويوهن أخلاقها، ويدوس كرامتها. ورأيت كيف يتزاحم وجوه وأعيان وسراة، بالمناكب على أبواب المستشارين، وكيف تمرغ على أقدامهم بعض الجباه تستجدي العطف من الطاغية والمرحمة من الضارى، فثارت نفسي أولا، وأوحت إلى الثورة. . . ولكن أين العدة؟ وأين التكافؤ بيننا نحن الضعاف القلة، وبين العدو الكثير؟

ورحت أفتش عن القوة، وأسأل أين تكون المعجزة. واستلهمت التاريخ وبطولة الأجداد، ثم اهتديت إلى أن الوجه الصحيح لهذه الأمة قد توارى تحت كثيف من غبار الدهر. فأخذت أنتزع الأعشاب وألتقط الأشواك وأزيح التراب حتى تجلى لي ذلك الكنز الثمين، ورأيت وجه الأمة الصحيح، إنه هو الشعب العربي، إنه هو المادة الأصيلة التي صنع منها بناة الإمبراطورية العربية أركان مجدها. مددت يدي نحو الكنز وتناولت حفنة واحدة من أبناء هذا الشعب ممن يصدق في كل واحد منهم قولك:

ص: 16

حواري على كفيه قلب

أبى غير الشهامة والكرامة

وأيقنت أن في هذه الحفنة من القوة المدخرة ما تسقط معه حجة التكافؤ مع الخصم. فثمة شيء يقال له إيمان وكرامة لا يستقيم معه حساب العدد والعدة. ولكنني تلفت يومذاك أنشد القدوة في هذه الدنيا. تطلعت نحو الترك. . . هذا عظيم. . ولكنه وجد بقايا جيش وأنقاض مملكة، أي وجد مادة الجهاد ميسورة؛ وأما نحن فلا شيء عندنا. وأخيراً لذت بالتاريخ العربي وإذا بي أجده حافلا غزيراً. فهنا خالد، وهناك أبو عبيدة، وهنالك أسامة، وكل شبر من بلادنا ينطق بآثارهم، وأين سرت تقاطع آثارنا آثارهم، فسمعت في ضميري أصواتهم تهيب بي إلى الواجب. وبهذه الحفنة التي احتفنتها من الكنز كنت أثب من قطر عربي إلى قطر عربي آخر، وأكون حيث تقضى النجدة العربية أن أكون. ولطالما قطعت المفازات، واجتزت السباسب، وخضت في لهيب من الصحراء يشوي الوجوه! وطالما وجدتني في متاهات البادية قد استبد بنا العطش، ننشد أثراً ينم على الحياة فلا ماء ولا ظل ولا أنيس إلا هذا القرص الشمسي، ويا له من أنيس، يبعث بالأشعة لتسلق الرؤوس، وما عرفت أن الأشعة ذات ثقل تنوء به المناكب إلا في تلك البوادي، وما عرفناها تأكل الظهور أكلا إلا في تلك الأيام، حتى لكأننا نعيش في أتون يتسعر لظى. . . أما خيولنا، فكانت تقاسمنا الضراء والبأساء. ولطالما مدت أعناقها تنشد ظلا أو ماء! لقد جفت مشافرها وضمرت أجسامها ضمور أجسامنا. وكان الفرسان وهم يسبحون في اللهيب خرساً لا ينبسون بشكوى، ولا يكادون يقتربون بعد ذاك الجهد من مواطن القتال ويزدلفون من ساحة الجلاد حتى تفتر شفاههم وتنبسط أساريرهم وتتردد أهازيجهم. وترى الفارس منهم كما وصفة المتنبي:

قح كأن صهيل الخيل يقذفه

عن سرجه مرحاً بالفر أو طرباً

ويتبينون في الأفق سواداً عظيما، أنه جيش العدو العرم فما تهن عزائم الحفنة، وإنما تمتد أعينهم امتداد بنادقهم نحو العدو.

ويسود صمت، ليس صمت رهبة، ولكنه إيذان للبنادق بأن تتكلم. ثم تنفجر القنابل فالسماء تمطر ناراً. وتنشب المعركة ويستحر القتال، وأين تطلعت تجد ناراً ولهيباً، وسواداً وغباراً، والمعركة بمن فيها كأنها إعصار فيه نار، وعدتنا هي عدتنا. أما الخصم فقد امتلأت يداه

ص: 17

بأدوات القتال، ومع ذلك لا يلبث أن ينفد صبره، ويرتقب دنو الظلام لينجو بنفسه. وما يكاد الظلام يرخى سدوله حتى يلوذ به، ويتستر وراءه. وتقف رحى المعركة، ونتعقبه، ثم نعود إلى الساحة نتفقد شهدائنا ونحصى قتلاهم. فإذا النسبة بين شهدائنا وقتلاهم، هي النسبة بين عددنا الضئيل، وعددهم الجسيم.

وهنا تنطلق الأنشودة الشعبية التي طالما هزت مشاعرنا:

يا دار لنا

حقك علينا

وهنا نشعر بأننا قد دفعنا قسطاً من حق الوطن، وأن الجثث المتناثرة في ساحة المعركة هي الإيصال الشرعي. وكم من أقساط دفعناها في ميادين سورية وجبال وفلسطين وبطاح العراق.

وهل الدار إلا الوطن العربي؟ وهل الحق الذي لها علينا إلا الجهاد في سبيل إنقاذها؟

لقد مرت بي الطائرة في سماء فلسطين، ثم أنزلتني في مصر العربية، ورأيت فيها ما رأيت. فما استطعت أن أخاطبها بغير أنشودتنا في المعارك:

يا دار لنا

حقك علينا

وشاء الزمن المعادي أن يحيينا، فمد الله في العمر، ويممت شطر الشام، البلد العربي السيد المستقل، فما كدت أكحل العين برؤية الراية العربية خفاقة، وما كدت أرى ابتسامة العز ترتسم على أول وجه لقيته حتى نسيت كل ألم أصابني في هذه الدنيا وما عانقت أخاً إلا أحسست أنني أضم إلى صدري هذه الأمة كلها. وماذا كنت أسمع في ساعات اللقاء من إخواني المجاهدين الذين رافقوني في ساحات النضال؟ هذا مجاهد يقول وهو يعانقني لا تنسني هذه المرة، وآخر يقسم إنه منتحر إذا لم يرافقني في معركة فلسطين المقبلة. وهذا شيخ آخر يقول وهو يعانقني: لقد غدوت شيخاً، ولكن لدى ثلاثة أولاد، وهؤلاء سيؤدون الواجب الملقى على، فينوبون عني. . . الأول فتح عينية على أصوات مدافع ميسلون، والثاني خرج إلى هذه البسيطة يوم كانت دمشق تلتهب بنار قنابل الفرنسيين في أوائل الثورة؛ أما الثالث وهو صغير، فقد ولد يوم الجلاء على أصوات الزغاريد وصيحات الابتهاج؛ لقد أحسست وأنا أستمع إلى هذا الشعور أن دينا جديداً وواجباً جديداً ملقيان على كاهلي. . .

ص: 18

وهذا ما حبب إليّ الحياة، لا خشية الموت، وطالما اندفعت نحوه، وقد تخطاني كثيراً وبالغ في التخطي، وأنشبت أظفاره في جسمي في تسعة وأربعين مكانا. . . ولم يظفر بأمنيته. ولكنني أحببت هذه الحياة لأتمكن من أداء الأقساط الباقية والمستحقة.

إن سعادتي وافتخاري بانتسابي إلى هذا الشعب العريق لا حد لهما. ولهذا الشعب نذرت دمي متطوعاً مبتهجاً

هذا ما أوحت به إلى قصيدتك وإني أودعك مردداً قولك الحق:

هو السيف الأصم إذا تغنى

صغى متجبر ووعى كلامه. . .

المحب

فوزي القاوقجي

ص: 19

‌8 - تفسير الأحلام

للعلامة سجموند فرويد

سلسلة محاضرات ألقاها في فيينا الأستاذ محمد جمال الدين

حسن

الرموز في الأحلام:

رأينا أن التحريف الذي يعوقنا عن الفهم الصحيح للأحلام ينشأ عن النشاط الذي تبذله الرقابة للتغلب على الدفعات اللاشعورية لرغبات لا تقرها الذات، بيد أننا لم نجزم بأن الرقابة هي العامل الوحيد المسئول عن التحريف؛ والواقع أن دراسة أخرى للأحلام ترينا أن هناك عوامل غيره تشترك في هذا التأثير، بمعنى أنه حتى على فرض أن الرقابة رفعت عن الأحلام فإننا مع ذلك لن نتمكن من الوقوف على معناها ولن يأتي المحتوى الظاهر مطابقا للمحتوى الباطن.

وهذا العامل الآخر الذي يتسبب في غموض الأحلام والذي يساعد على زيادة التحريف، يتجلى لنا عندما نلاحظ أن هناك ثغرة في طريقتنا التي استخدمناها في التفسير. فقد سبق أن سلمت لكم بأن هناك حالات قد لا يجد فيها الأشخاص الذين نحللهم أفكارا مترابطة لديهم لبعض عناصر الحلم. ومن المحقق أن هذه الحالات لا تقع بالكثرة التي يزعمونها ففي معظم الأحيان قد نتمكن من الوصول إلى تبيان الأفكار المترابطة بالكد والمثابرة، ولكن هناك مع ذلك بعض حالات معينة يخفق فيها الترابط إخفاقا كليا، أو نجد أن الشيء الذي نستخرجه أخيرا بالعنوة ليس هو ما نحن في حاجة إليه. وهذه الحالة عندما تقع أثناء العلاج بالتحليل النفسي فأنها تدل على مغزى معين لا يهمنا فيما نحن بصدده هنا؛ ولكنها تقع كذلك في أثناء القيام بتفسير أحلام الأشخاص العاديين أو عندما نقوم بتفسير أحلامنا الخاصة. فإذا اقتنعنا في مثل هذه الحالات بأنه لا فائدة ترجى من الحث والإلحاح، فإننا قد نكتشف أخيرا أن هذه الحالات المتشابهة تظهر على غير ترحيب منا كلما كانت بعض العناصر الخاصة تحت الاختبار؛ ومن ثم نبدأ في إدراك أن هناك قاعدة جديدة تعمل عملها بينما كنا نظن في مبدأ الأمر أننا صادفنا فقط حالة شاذة أخفقت فيها طريقتنا في التفسير.

ص: 20

وهذا يؤدي بنا إلى محاولة تفسير هذه العناصر (الخرساء) والاستعانة على ترجمتها بالرجوع إلى مصادرنا الخاصة. ولا شك في أننا سندهش كثيرا عندما نجد أننا سنتمكن، في كل مرة نقدم فيها على هذه الطريقة، من الوصول إلى معنى مقنع بينما يظل الحلم مفككا لا معنى له ما دمنا لم نعقد العزم على استخدامها وتجمع كثير من أمثال هذه الحالات المتشابهة يشد من أزرنا إذ أننا قد أقدمنا على التجربة في مبدأ الأمر في تهيب ووجل.

وبهذه الطريقة سنصل إلى ترجمة ثابتة لسلسلة من عناصر الحلم، كما هو الحال في الكتب العامية عن الأحلام حيث نعثر على مثل هذه التراجم لكل شيء يحدث في الحلم تقريبا. ولعلكم لم تنسوا بعد أننا عندما كنا نطبق طريقة الترابط المطلق لم نكن نقابل مثل هذه التراجم الثابتة لعناصر الحلم.

أظنكم ستقولون الآن إن هذا النوع من التفسير يبدو لكم أنه أقرب إلى الشك وأكثر تعرضا للنقد من طريقة الترابط المطلق السابقة، ولكن مهلا! فنحن لم نفرغ بعد كل ما في جعبتنا؛ فنحن عندما يتجمع لدينا من التجارب الواقعة عدد لا بأس به من أمثال هذه التراجم الثابتة، فإنه يتحقق لدينا بصفة قاطعة أنه كان في إمكاننا فعلا أن نملأ هذه الثغرات في التفسير إذا رجعنا إلى مصادرنا الخاصة، وإننا كنا في الحقيقة سنصل إلى معناها في غير ما حاجة إلى الأفكار المترابطة للشخص الحالم.

وهذا النوع من العلاقة الثابتة بين عنصر الحلم وترجمته يطلق عليه علاقة (رمزية) أما العنصر نفسه (فرمز) للفكرة اللاشعورية التي يعبر عنها الحلم. تذكرون أنني سبق أن قلت لكم عندما كنا نبحث في العلاقات المختلفة بين عناصر الحلم والأفكار الباطنة التي تستتر وراءها أن هناك ثلاثة أنواع من هذه العلاقات وهي: الاستعاضة بالجزء عن الكل، والإشارة أو التلميح، والتمثيل البصري. وقد قلت لكم عندئذ إن هناك علاقة رابعة ولكني لم أبين لكم نوع هذه العلاقة، أما الآن فإنني أقدمها إليكم وهي (الرمزية). وهذه العلاقة يرتبط بها كثير من النقط الهامة التي تصلح للدراسة، وعلى هذا فسنوجه إليها التفاتنا قبل أن نضع أمامكم ملاحظاتنا الخاصة عن الموضوع. فالرمزية قد تكون أهم جزء في نظريتنا عن الأحلام.

نرى قبل كل شيء أن الرمزية بما أنها علاقة ثابتة لا تتغير بين الرمز والفكرة التي يرمز

ص: 21

إليها، فهي بذلك تحقق على نحو ما الفكرة القديمة والفكرة العامية عن تفسير الأحلام، وهي الفكرة التي بعدنا عنها كثيرا في طريقتنا في التفسير. فالرموز قد تجعل من السهل علينا في بعض الأحيان أن نفسر الحلم دون استجواب صاحبه الذي لا يستطيع في الحقيقة أن يدلنا بأية حال من الأحوال على ماهية هذه الرموز. فإذا قدر لنا أن نقف على معنى الرموز التي تظهر كثيراً في الأحلام، وأن نلم بشيء عن شخصية الحالم والظروف التي تحيط بحياته، والتأثيرات العقلية التي أعقبها حدوث الحلم، فإننا غالبا ما نجد أنفسنا في مركز يسمح لنا بتفسير الحلم فوراً، أو قل ترجمته من أول نظرة. ومثل هذه المهارة بلا شك ترضى غرور الشخص الذي يقوم بالتفسير كما أنها تستأثر بإعجاب الحالم، فثم فرق شاسع بين هذه الطريقة السهلة وبين الطريقة الشاقة التي تعتمد على استجواب الشخص الذي رأى الحلم. ولكن حذار من الاندفاع وراء هذا الرأي، فالشعوذة ليست جزءا من العمل الذي نقوم به، كما أن هذه الطريقة التي تعتمد في التفسير على معرفة بالرمزية، لا تستطيع بأية حال من الأحوال أن تحل محل طريقة الترابط المطلق أو حتى تقارن بها، فهي متممة لها والنتائج التي تستخلص منها لا تصبح ذات فائدة إلا إذا طبقت بالاشتراك مع الترابط المطلق. وفضلا عن ذلك فيجب أن لا يغيب عن بالكم أنكم لا تقومون فقط بتفسير أحلام الأشخاص الذين تعرفونهم حق المعرفة، بل المفروض أنكم كقاعدة عامة لا تعلمون شيئاً عن آثار اليوم السابق التي حركت الحلم وأن الأفكار المترابطة للشخص الحالم هي المصدر الوحيد الذي نستطيع أن نحصل منه على معرفة ما نسميه بالحالة العقلية.

ومما يستحق النظر بوجه خاص أن هناك معارضة قوية ضد هذه الفكرة القائلة بوجود علاقة رمزية بين الحلم واللاشعور؛ فكثير من الأشخاص الذين اتصفوا بحصافة الرأي وممن سايروا التحليل النفسي في كثير من النقط الأخرى قد عادوا فتنصلوا من آرائهم عند هذه النقطة. وهذا السلوك قد يستغرب كثيراً عندما نتذكر شيئين اثنين، أولا أن هذه الرمزية ليست ملكا للأحلام ولا هي وقف خاص عليها، وثانيا إن استخدام الرموز في الأحلام ليس من اكتشافات التحليل النفسي ولو إن هذا العلم لا تعوزه الاكتشافات الغريبة. وإذا كان لأحد في العصر الحديث أن يدعي الأسبقية في هذا المضمار، فهو بلا شك الفيلسوف (شرنر) وقد جاء التحليل النفسي فعزز اكتشافه، وإن كان قد عدل في بعض النقط الهامة.

ص: 22

أظنكم ترغبون الآن في معرفة شيء عن طبيعة الرمزية في الأحلام وتودون الاطلاع على بعض الأمثلة. وإني ليسرني أن أقدم لكم كل ما أعلم عن هذا الموضوع، ولكني أعترف أمامكم أن معلوماتنا في هذا الشأن اقل مما كنا نرغب فيه.

العلاقة الرمزية في أساسها علاقة مقارنة ولكنها ليست مقارنة من أي نوع كان، فنحن نشتبه في أنها تخضع لشروط معينة ولو أننا قد لا نستطيع أن نحدد بالضبط نوع هذه الشروط.

فليس كل ما يمكن مقارنته بشيء أو حادث ما يظهر في الأحلام على شكل رمز له، كما أننا نجد من ناحية أخرى أن الأحلام لا تستخدم الرمزية لأي شيء كان بل تستخدمها فقط لعناصر خاصة من الأفكار الباطنة؛ أي أن هناك تحديدا من الناحيتين. ويجب علينا أن نسلم كذلك بأننا لا نستطيع في الوقت الحاضر أن نحدد بالضبط معنى الرمز كما نتصوره، فهو يبدو أحيانا كاستعاضة عن شيء أو تمثيل له، بل كثيرا ما يقترب جدا من الإشارة والتلميح. وقد يكون من السهل علينا في بعض الأحيان أن نتبين على الفور المقارنة التي بنيت عليها الرموز ولكن هناك حالات أخرى نحتاج فيها إلى البحث والتدقيق لمعرفة العامل المشترك الذي يدخل في هذه المقارنة المفروضة. وهذا العامل قد يظهر لنا إذا أعدنا النظر مرة أخرى، كما أنه قد يظل محجوبا عنا إلى الأبد وإذا كانت الرموز عبارة عن مقارنة فعلا، فإن مما يستلفت النظر حقا أن هذه المقارنة لا تتضح لنا من عملية الترابط المطلق، وأيضا إن الحالم لا يعرف عنها شيئا وإنما يستخدمها في غير وعي منه، بل إنه ليذهب إلى أكثر من هذا فيأبى أن يعترف بها عندما نوجه نظره إليها. ومن هذا ترون أن العلاقة الرمزية عبارة عن مقارنة من نوع خاص طبيعته غير واضحة لنا تماما، وربما كان في استطاعتنا فيما بعد أن نعثر على بعض الأدلة التي تلقى قليلا من الضوء على هذه الصفة المجهولة.

(يتبع)

محمد جمال الدين حسن

ص: 23

‌من وراء المنظار

بين معمم ومقبع ومطربش!!

الحر شديد تلفح زفراته الوجوه، والترام مزدحم بالناس قعوداً ووقوفاً، وما منهم إلا من ملأ الفتور بدنه كأنما أخذتهم جميعاً سنة فهم صامتون مطرقون. وليس ما يدب فيه النشاط والقوة إلا هذا الترام السريع الذي ينحدر إلى القاهرة من مصر الجديدة منطلقاً كالسهم، يهز ركابه الوسنانين هزات قوية تنفض عنهم بعض فتورهم وتكاد تلقى بالجالسين منهم على أطراف المقاعد إلى أرض العربة في منعرجات الطريق. . .

وفي زاوية من العربة جلس ثلاثة: معمم على أحد المقاعد يواجهه على المقعد مقبع ومطربش.

أماالمعمم فهو في حدود الأربعين أنيق الثياب جداً، نظيفها كأنما وقادم بها من فوره من دكان الخياط ولست أدري ماذا يصنع يوم العيد ليشعر الناس أنه (غَيَّر) ملابسه؛ ممتلئ البدن، أبيض الوجه في حمرة، متورد الوجنتين، تنبئك ملامح وجهه بأنه فكه خفيف الروح، وتحدثك عيناه ولفتاته ونظراه فيمن حوله - على الرغم من الفتور الذي لحقه كما لحق غيره - أنه (ابن بلد) بأوسع معنى لهذه الكلمة.

أما المقبع فهو عُتُلٌّ في نحو الستين، ثقيل الظل جامد الطبع فيما يبدو من ملامحه وهيكله جميعاً، وبخاصة حاجباه الكثيفان ومنخاراه الواسعان وعيناه الضيقتان وفمه الذي ما إن رأيته حتى جزمت بأنه لم يبتسم مرة في سنواته الستين، ولو طلب إلى أن أؤدي يميناً عن هذا لأديتها في غير حرج.

أما المطربش فأرجو أن تعفيني من وصفه فذلك هو أنا صاحب المنظار. . .!

وحدث بين هؤلاء الثلاثة ما بعث الركاب جميعاً من سِنتهم وما أضحكهم على الرغم من الحر والغبار وجهد اليوم. . .

مد المقبع إحدى رجليه فوضعها على المقعد حتى مس حذاؤه ملابس المعمم أو كادت، فنظر إليه هذا نظرة استنكار عله يسترد رجله ويبعد ذلك الحذاء الذي خيل إليّ لكبره أنه مركب من مراكب الأطفال؛ ولكنه لم يتحرك؛ فقال له المعمم:(من فضلك يا خواجه) وأشار إلى حذائه؛ فنظر إليه المقبع متثاقلا وقال: (لا. . . أنا حر) ونطق الحاء خاء فازداد ثقلا على

ص: 24

ثقل.

وازداد وجه المعمم حمرة ورأيته أخذ يتحمس، ولكنها حماسة من يعرف كيف يسلك في مثل هذا الموقف ما يشاكله من من مسلك:

- أنت حر في بيتك ولكن هنا لا. . . ونطق المعمم كذلك الحاء خاء كأنما هو حيال نص لا يملك له تبديلا. . .

ولم يلتفت المقبع إليه فازداد جموداً على جمود!

ولم يرع هذا العتل إلا رجلا الشيخ جميعاً تمتدان فتستقران لا على المقعد ولكن في حجره وقد ضغط الشيخ بنعليه على بطنه وهو يقول (أنا كمان حر) وأصر على جعل الحاء خاء.

وضحكت حتى تندت عيناي وضحك من شهدوا المنظر جميعاً وطار عنهم فتورهم؛ ونهض المقبع كأنما لدغته عقرب، وهو يرطن بلغته، وكأنما فمه بالوعة غصت بالماء وقد انتفخ شدقاه فازداد غلظاً على غلظ.

ونظر إلى المعمم وهو بين الضحك من فعلته وما أثارته من ضحك عام وما كللت به من نجاح أعجبه، وبين الغيظ مما يرطن به المقبع، وقال لي (ترجم حرفياً ما يقول لألقى به تحت الترام) فأحجمت وما زادت على أن ضحكت. فقال الشيخ وقد حبس ابتسامته وبدا الجد في وجهه:(أتمتنع عن ترجمة ما يقول هذا الخنزير؟. أهذه غيرتك على كرامة بني وطنك؟).

ورأيتني على رغمي قد دخلت خصما ثالثاً في القضية!

ونظرت إلى الشيخ وقلت: أفتراني يرحمك الله أتبين شيئاً مما يقول؟ ومع ذلك فهل تظنه يمتدحك ويثني عليك؟

واعجب الشيخ ردي فابتسم أو كاد ثم عاد إلى عبوسه وتقطيبه، على أنه ما لبث أن ضحك مع من ضحكوا لهذا الرد

ورأيت أني أحرجت الشيخ إذ حرمته مما أراد أن يتعلل به من جهله بما يقول خصمه وكفى الله المؤمنين القتال. . . وصار لزاماً أن يلقى بذلك المقبع تحت الترام وإلا فقد قبل شتائمه

وأنقذ المقبع من الموت المحتم تحت عجلات الترام أو قل أنقذ الشيخ من حرجه وقوف

ص: 25

التارم على آخر محطة بحيث لم تعد عجلاته تفعل شيئاً!

وانطلقت وأنا أدير في رأسي هذه القضية الصغيرة التي فسرت لي تفسيراً عملياً معنى الحرية، وظللت ساعة لا تبرح خيالي رجلا الشيخ يضغط بنعليهما على بطن ذلك المقبع الذي ظن أنه لا يزال لقبعته ما كان لها قبل من هيبة!

الخفيف

ص: 26

‌قادة الإصلاح في القرن الثالث عشر:

الشيخ شامل زعيم القوقاز وشيخ المجاهدين

للأستاذ برهان الدين الداغستاني

3 -

كان الحاج جبرائيل من أهل قرية (جرقط) صانعاً ماهراً يجيد صنع كل ما تقع عينه عليه، وفي ذات يوم من الأيام قصد إلى ساحل البحر الأسود، وركب إحدى البواخر وتوجه إلى الحجاز، وأدى فريضة الحج، ثم رجع إلى مصر وأقام بها فترة رجع بعدها إلى القسطنطينية ومنها إلى بلاده الأصلية في الداغستان حيث كان الشيخ شامل فاتصل به وعرض عليه خبرته ومهارته الصناعية، واقترح أن يقوم بصب المدافع وصنعها محلياً، ومقاتلة الروسيين بنوع أسلحتهم، وأظهر شامل رحمه الله خوفه من الفشل في هذا المشروع، وعارض فيه بادئ ذي بدء؛ ولكنه - تحت تأثير الإلحاح والإغراء - قبل المعاونة والمساعدة ورضى بالمساهمة في هذا المشروع، وقدم كل عون ممكن لهذا الصانع الماهر الوطني المخلص، وقام الحاج جبرائيل بأول محاولة لصنع المدافع، فجمع بقايا المدافع المحطمة التي تركها الروسيون في بعض المعارك السابقة، وأذابها، ثم صب منها مدفعاً جديداً، ولكن هذا المدفع لم يقو على تحمل أول تجربة أجريت له، فتحطم بعد قذف القنبلة الأولى منه، وكان في هذا الفشل الحافز الذي حفز شاملا وإخوانه والحاج جبرائيل ومهارته، وأعيدت المحاولة، ونجحت، ومن يومئذ أصبح في إمكان الشيخ شامل وجنوده الاعتماد على قوة المدفعية ومقابلة الروسيين بنفس سلاحهم الذي يقاتلونهم به.

وكان لصنع المدافع في بلاد الداغستان ونجاحها، واستعمالها في المعارك التي وقعت بعد ذلك أثر كبير سواء في تقوية الروح المعنوية بين المجاهدين المسلمين أو في إيقاع الخوف والرعب في قلوب أعدائهم من الروسيين، وأهل البلاد الضالعين مع الروسيين، وكان ذلك حوالي سنة 1259هـ وسنة 1843م.

4 -

كان الشيخ شامل - من يوم صنع المدافع في داغستان واستعمالها في الحروب - يسير من نصر إلى نصر، وذاعت شهرته، وقويت شوكته، وهابه خصومه بعد أن أوقع بهم في عدة معارك فاصلة، كان لها وقع عظيم في نفوس الفريقين المتحاربين، ولجأت القوات الروسية إلى قلاعها وحصونها.

ص: 27

في هذه الثناء كان زعماء الجراكسة وأعيانهم يرسلون الرسل والكتب متتابعة بدعوة الشيخ شامل إلى بلادهم. لمساعدتهم على رفع نير الاحتلال الروسي عن رقابهم، مظهرين الطاعة والإخلاص له ولدعوته الدينية الوطنية التي رفع رايتها في ربوع بلاد الداغستان.

وفي أوائل سنة 1262هـ (1846م) عزم الشيخ شامل على اجتياز الحدود والذهاب إلى بلاد الجركس، فجمع جمعاً عظيماً من الجمد الخيالة والرجالة واخذ معه سبعة مدافع ثقيلة، ومقداراً وافراً من المهمات والأسلحة الحربية، واجتاز نهر (ترن) ونزل في بلاد (قبرطاي) الواقعة في الشمال الغربي للداغستان، وأخذ ينشر تعاليمه ومبادئه عن طريق الوعظ والإرشاد، وأقبل عليه الأهلون مرحبين واظهروا استجابتهم لدعوته وموافقتهم لها، وبينما كان الشيخ شامل يقوم بهذه المهمة وينظم الحياة الدينية والمدنية في تلك البلاد. جاءه النذير بأنه وقع في كمين دبره له الروسيون. إذ قطعوا عليه خط الرجعة، وسدوا المسالك واقفلوا الجسور التي تصل ما بين بلاد الداغستان وأقاليم الجراكسة، فأسرع شامل بالعودة من حيث أتى، وبعد تصادم قوى بينه وبين الروسيين وتراشق بالمدافع استطاع الشيخ شامل أن ينقذ قواته ويجتاز بها نهر (ترن)، ورجع إلى بلاده منهوك القوى، بعد أن خسر في هذه الرحلة كثيراً من قواته ومهماته، وكاد يصاب بهزيمة منكرة لولا حزمه وقوة احتماله، ولولا مهارة الحاج يحيى قائد المدفعية في جيش شامل الذي استطاع أن يستخدم ما معه من المدافع الثقيلة أحسن استخدام في الوقت المناسب.

5 -

كان لهذه الحادثة أثر بعيد في المعارك التي تلتها، فقد قويت الروح المعنوية في الجيوش الروسية المحاصرة في القلاع المتناثرة هنا وهناك، فقاموا بعدة كرات على قوات شامل، ووقعت بين الفريقين مصادمات عنيفة، وأخذت الحرب في بلاد الداغستان صبغة رسمية، واسترعت إهتمام العالم أجمع، وحشدت القيصرية الروسية أعظم قوادها، وأرسلت إلى الميدان جموعاً كبيرة من خيرة جنودها ونظم كبار شعرائها القصائد الطوال في دعوة الناس إلى الجهاد في الداغستان ولكن شاملاً كان مع كل ذلك - كالعهد به - يعمل في صمت وهدوء وبنفس الإيمان والثقة بالله، وبنصره لعباده المخلصين.

ولما رأى مبلغ ما كان لصنع المدافع من نفع وتأثير حربي أخذ يشجع كل تفكير في صنع شيء جديد يمكن الاستعانة به في مقاومة العدو، وفي سنة 1266هـ (1849 - 1850م)

ص: 28

تمكن الصناع الداغستانيون من صنع البارود في بلادهم، وأعدوا كل ما يلزم لهذه العملية من آلات ومعدات، وأصبح في إمكان المجاهدين المسلمين استخدام البارود في حروبهم ضد الروسيين من ذلك التاريخ، كما يستعملون المدافع المصنوعة في بلادهم وبالأيدي الداغستانية من نحو ثمانية أعوام.

6 -

أتسع نفوذ الشيخ شامل في جميع بلاد الداغستان، وسارت بأخباره الركبان، وكثرت مصادماته الناجحة ضد الروسيين، وفي أوائل فصل الخريف. في اليوم العاشر من المحرم سنة 1270هـ (13 أكتوبر سنة 1853م) قام الشيخ شامل بحركة جريئة أوقعت الرعب في قلوب حاميات الروس في بلاد القوقاز كلها، ففي ذلك اليوم ساق سيلاً عظيماً من قواته ومدفعيته، واجتاز بها حدود بلاد (الكرج) وحاصر قلعة (زنطة) حصاراً محكماً قوياً، واضطر حاميتها إلى التسليم في النهاية، ثم بعث البعوث والسرايا إلى القرى المتناثرة في تلك الجهاد، فأغارت عليها، وأخذت الأسرى وغنمت الأموال الكثيرة. ثم رجع إلى مقر قيادته في داخل حدود الداغستان بعد أن قتل من الأعداء نحو (2. 000) قتيل وأسر نحو 894 أسيراً، وغنم من الأموال والأسلحة مقداراً عظيماً. وكان بين الأسرى الجنرال (جوجوزه) قائد حامية (زنطة) وبين السبايا زوجته وبنته وكثيرات غيرهن من كرائم العقيلات، وبنات الأشراف.

بقى هؤلاء الأسرى عند الشيخ شامل نحو تسعة أشهر، وجرت المخابرات والمفاوضات بين الشيخ شامل والقيادة الروسية العليا لمبادلتهم بالأسرى المسلمين الذين كانوا في أيدي الروسيين.

وفي النهاية تم الاتفاق بين الطرفين على طريقة هذا التبادل ومكانه، فقد أتفق الفريقان على اختيار موقع (أنصنفر) على ضفة نهر (مجك). كما حصل الاتفاق على مبادلة الجنرال (جوجوزه) بأبي الشيخ شامل جمال الدين الذي كان رهينة في أيدي الروسيين من نحو ستة عشر عاماً، ثم مبادلة كل مسلم بروسي، وجعل لكل أسير زائد وللسيدات والأولاد من السبايا فداء محدود، وفي أواخر سنة 1270هـ (1854م) تم هذا التبادل في (انصنفر) على ضفاف نهر (مجك)، واخذ المسلمون أموالاً كثيرة فداء الأسرى الزائدين والسبايا من النساء والأولاد. وكان يوماً مشهوداً عم فيه البشر بين الجميع.

ص: 29

7 -

بعد تبادل الأسرى في أواخر سنة 1270هـ تحاجز الفريقان بعض الشيء، وخمدت نار الثورة الوطنية، والحركة الدينية الإصلاحية التي أشعلها الغازي محمد الكمراوي منذ نيف وخمس وعشرين سنة، وكانت هذه الحادثة أشبه بهدنة غير رسمية بين الفريقين. كان قد مضى على نشوب هذه الثورة في تلك البلاد أكثر من ربعقرن من يوم أن رفع الغازي محمد الكمراوي علم الثورة، وكان مضى عليها أكثر من عشرين عاماً من يوم تولى الشيخ شامل قياديها.

فلما رجع أولئك المجاهدون إلى قراهم وضياعهم بعد طول الغياب عنها، والتنقل بين مختلف البقاع وتلك البلاد الجبلية الوعرة رأوا ما عم قراهم من الخراب والدمار، وما حل بأهليهم من الفاقة والفقر وسوء الحال الاقتصادية، لأن أكثر القرى كانت قد خلت من الرجال الأشداء القادرين على الأعمال الزراعية، وتولى هذه الأعمال الشاقة النساء ومن هم في حكم النساء من الشيوخ الفانين والأولاد الضعاف، فساءت حال الزراعات، ونقصت الحاصلات وأنتشر الفقر والضيق.

ثم إنهم نظروا فوجدوا أنهم في ثورة متصلة الحلقات من نحو ربع قرن من غير أن تمتد اليهم يد بالعون والمساعدة من خارج حدودهم، ومن غير أن يستطيعوا حتى الاتصال بخليفة المسلمين ليعرضوا عليه حالهم، وما يعانونه من الشدة وسوء الحال.

لا بد أن هؤلاء المجاهدين - أو أغلبهم - فكروا في هذا كله، فرأوا سوء الحال المنذر بأسوأ مصير، فوهنت عزائمهم وتراخت وبدأ الناس يتسللون من حول شامل شيئاً فشيئاً، ثم بدأت الحرب المعروفة بحرب القرم بين الروس والحلفاء:(الأتراك والإنكليز والفرنسيين). في النصف الثاني من سنة 1270هـ، واستمرت إلى النصف الثاني من سنة 1272هـ، ولكن الشيخ شاملا لا يستطيع انتهاز هذه الفرصة المواتية. لما قدمنا من الاسباب، ولم يستطع الحلفاء، مد يد المساعدة للشيخ شامل لأن الطريق بينه وبينهم كانت مقفلة تماماً.

أقول هذا على الرغم مما جاء في (لاروس) في أثناء ترجمة الشيخ شامل من (أن الحلفاء لم يقصروا في تقديم المعونة إلى شامل، إذ كانوا يقدمون إليه ما يحتاجه من لوازم حربية).

اقرر هذا لسببين اثنين: الأول أن الطريق بين الحلفاء والشيخ شامل كانت مغلقة تماما من جميع الجهات، فلم يكن من الممكن الاتصال به من الخارج.

ص: 30

والسبب الثاني هو أن الذين أرخوا لثورة الشيخ شامل وذكروا دقائقها، وتتبعوا تفصيلاتها لم يذكروا شيئا عن هذا العون المزعوم. على أنه لو كان حديث هذا العون صحيحا لرأينا شيئا من الحياة والانتعاش في الثورة إبان حرب القرم، ولكن على العكس من ذلك تماما نجد شيئا من الهمود والخمود يعم أرجاء البلاد طول تلك المدة. إذا صرفنا النظر عن بعض الحوادث المتفرقة التي وقعت هنا وهناك في فترات متقطعة. مما لابد من مثله بين فريقين طال أمد القتال بينهما اكثر من خمسة وعشرين عاما.

8 -

لما انتهت حرب القرم، ووقع الروسيين شروط الصلح مع الحلفاء في باريس في 30 مارس سنة 1856م و22 رجب سنة 1272هـ تفرغوا لقتال شامل، ووجهوا كل همهم للقضاء عليه، وإنهاء حال الثورة في جبال القوقاز التي طال عليها الامد، ولهذا نجد الروسيين يجهزون قوة عسكرية كبيرة مكونة من نحو (60. 000) رجل ويرسلونها إلى القوقاز، ثم تتابعت حملاتهم العسكرية بعد ذلك كما نشط جواسيسهم ودعاتهم لاستمالة بعض القبائل والأعيان إلى جانب الروسيين بما كانوا ينثرونه من الأموال الطائلة. فلما كان أواخر سنة 1274هـ. (1858م) كان كثير من أهل الجهات النائية قد خرج على الشيخ شامل، واخذ يقوم ببعض الخدمات للقوات الروسية، كشق الطرق وحراستها وما إلى ذلك، وفي شهر رجب سنة 1275هـ (فبراير سنة 1859م) جاء الروسيون بقوة كبيرة، وحاصروا شاملا وأنصاره في مقر قيادته في قلعة (بكى درغية).

ضيق الروسيون الحصار على شامل واصحابه، وقاتلوه قتالا شديدا إلا انهم لم ينالوا منه نيلا لحصانة القلعة وشدة دفاع المجاهدين وبعد نحو أربعة اشهر من هذا الحصار تراجع الروسيون وفكوا الحصار عن القلعة ومن فيها، فانتهز الشيخ شامل هذه الفرصة، وخرج مع جميع أصحابه، ونقل كل ما أمكن نقله من المدافع والمهمات والأرزاق، وذهب إلى قرية (ايشجيلي) ورابط فيها إلا أن الروسيين لاحقوه هنا أيضاً، وهاجموه وأحاطوا به، وبعد أن استمر القتال بين الطرفين نحو شهرين اضطر الشيخ شامل - تحت تأثير قلة رجاله وسلاحه الذي بقى لديه - إلى الانسحاب من هنا أيضاً، واتجه بأهله وعياله ومن رافقه من مخلصي أصحابه إلى قلعة (غونيب) الحصينة، وتحصن فيها، كان ذلك في أول المحرم سنة 1276هـ (31يولية سنة 1859م).

ص: 31

9 -

تحصن الشيخ شامل بقلعة (غونيب) الحصينة، ثم لحق به بعض المجاهدين المخلصين حتى بلغ عددهم نحو ثلاثمائة رجل من المحاربين غير النساء والأطفال من آل شامل.

ولكن ماذا عسى أن يصنع هؤلاء الثلثمائة رجل أمام هذه الجيوش الجرارة التي أحاطت بالقلعة إحاطة السوار بالمعصم؟ في هذه الأثناء صدرت إرادة قيصر الروس إلى قائد قواته في القوقاز بضرورة القبض على الشيخ شامل حيا مهما كلف ذلك من ثمن.

ولهذا أخذت القوات الروسية تضيق الخناق على قلعة (غونيب) وفي الوقت نفسه طلب قائد الحملة الروسية من الشيخ شامل التسليم، ووعده بالإبقاء على حياته هو ومن معه من المجاهدين، والنساء والأطفال.

(البقية في العدد القادم)

برهان الدين الداغستاني

-

ص: 32

‌وإذا أتى يوما.

.

مترجمة عن فون بروك

للأستاذ محمد علي مخلوف

في الربوة الغناء قد

أبصرتها يوما تسير

يهفو النسيم بثوبها

فتثور كالطفل الغرير

هي في الخمائل زهرة

رفت، فحياها الربيع

تصبو القلوب إلى الجما

ل وتفتدى الحسن البديع

وقفت ترجى أن يعو

د مع المساء حبيبها!

ترنو إلى الشمس الكئي

بة والحنين يذيبها

وتقول: مالك لا تعو

د فتطرد الحزن العميق؟

هل عاقك الداء الممض

أو انحرفت عن الطريق؟

أو قد مللت وحطمت

يمناك مصباح الغرام؟

أنسيت أني في انتظا

رك - يا حبيبي - منذ عام؟

عد يا حبيبي. . . إنني

دون العذارى لا أخون

قلبي يعيذك أن تكو

ن مصدقا فيه الظنون

هذا جمالي. . . منحة

عظمى حبتك بها السماء

فذق النعيم. . . فطالما

قد ذقت في الحب الشقاء

عيني يلوح الصفو في

ها مثل مرآة الأمل

ثغري ترف على لما

هـ العذب أزهار القبل

عد يا حبيبي. . . فالحيا

ة قصيرة أسبابها

سلب السعادة من يدي

نا خلسة سلابها

لكن من تهواه آ

لى مغضبا إلا يعود

كم بات يبكي من نوا

ها. والنجوم له شهود

قد سار لا يدري أين

عم أم يعذب في الحياة!

لفت أعاصير الزما

ن شبابه ولوت خطاه

ص: 33

في مجهل العيش الجدي

ب رمت به كف القدر

والبؤس ليل مظلم

لا نجم فيه ولا قمر

بين الضباب، أقام ين

شد حلمه. . . بين الضباب

ظمآن يشرب في صحا

رى الوهم من نهر السراب

هيهات أن يتفاهم ال

عشاق أن صدق الوداد

فالحب إما صح بي

ن اثنين لجا في العناد

(والعقم في دنيا الهوى ال

عذرى غاية كل جود)

فإذا قضيت وما قضي

ت لبانة نلت الخلود

خفت لمخدعها واد

معها من البلوى تسيل

لم تلق في الروض البه

يج حبيبها النائي الجميل

نضت الثياب الحمر. . . آ

هـ من الثياب وما تبيح

وتخاذلت فوق الفرا

ش كأنها ظبي جريح

حنت إلى الماضي البعي

د. . . واين ماضيها البعيد؟

وادته أحداث الليا

لي، وهو في الدنيا وليد

دب السقام إلى الجمي

لة فامحى طرس الشباب

يا رحمتا للحسن يه

وى مثلما يهوى الشهاب

راحت تقول لأختها

والليل قد أرخى السدول

إني سأقضي. . . فاحفظي

أختاه عني ما أقول:

إن عاد يوماً ذلك ال

قاسي وساءل: أين (مارى)؟

قولي له ماتت. . . وكن

ت لشمسها الغيم الموارى

وإذا شدا يوماً بأل

حان الصبابة أو ترنم

قولى له: إني بصر

ت بطيفها حياً وسلم

لا تسأليه كيف يش

دو في حبور وابتهاج

عما قليل سوف يصم

ت حين ينطفئ السراج

قالت لها. . . وإذا أتى

يوماً إلى الروض النضير

ص: 34

وجثا هناك على بسا

ط العشب يستاف العبير

ماذا أقول؟ أأسكب ال

عبرات للذكرى الحزينة؟

أم أجعل الزهرات إك

ليلاً يزين به جبينه؟

قالت لها. . . غنى له

أنشودة القلب الكسير

فإذا بكى. . . قولى: لقد

ذكرتك في النزع الأخير

قالت: فإن نسى الغرا

م وعهده ماذا أقول؟

قالت لها: قولي له

كل النجوم إلى أفول

وإذا أراد زيارتي

لا تصحبيه إلى المقابر

فلعله يفضى إل

يّ بما يكن من الخواطر

وإذ رأيت بنانه

مرت على خصل جميلة

قولي له. . . يا طالما

داعبت (مارى) في الخميلة

وقضت. . . وعاد. . . فجن من

هول الفجيعة في فتاته

ما زال يلثم قبرها

حتى تخلص من حياته

(القاهرة) محمد علي مخلوف

-

ص: 35

‌خواطر مسجوعة

العبقري المجهول. . .!

كأنك سائلي ايها الفطن، عن كائن لم يكن. . . أو كأنك تقول: من العبقري المجهول؟ وما هو يا صاحبي سوى إنسان، محتجب في عالم النسيان، غفل عنه التعداد، ولم تشعر له الدنيا بميلاد، فضاع في أمته، وحار في منبته، كشباب أذبله اليأس، أو عقل سلبته الكأس، أو روض في مجهل، أو علم في سفر مقفَل، أو بدر حجبه السحاب، أو نضار غطّاه التراب، أو در في صدف، لم يُكتشف، أو سر خطير، في ضمير، أو غناء، في أذن صماء، أو بذر طيب، في واد مجدب، أو عقد مضيء في جيد أمَة سوداء، فهي برغم ضوئه كالليلة الليلاء. .!

يعيش في هذه الدنيا حراً مقيداً، أبياً مهدداً، بريئاً مظلوماً، حياً معدوماً، لا يلقى إليه العالم بالا، وإن أضفى عليه من أدبه جمالا، صنيعه مجحود، وفضله محسود، كالوردة ذات الشذى، لم تسلم من الأذى. . .!!

ولن يؤثر قوم المادية الفانية، على الروحية الباقية، إلا إذا رضوا أن يعيشوا مع الماشية، سواسية! ولن يسود الناس، من يقتل الإحساس، ويطفئ النبراس، ويبنى على غير أساس!

وليست الحياة أن نتنفس كما تتنفس الآلة بضغط البخار، وإنما الحياة أن نشعر بأننا نحيا حياة الأحرار. . . وكلما سما الشعور، امتد أفق النور، والقضية بالعكس، إذا انحدر الحس. فإن نصيب الأصم من الغناء، كنصيب الأعمى من الروضة الغنّاء، ونصيب الزكوم من العطور، كنصيب الأميّ من هذه السطور!

والشعب الذي له من الحياة نصيب، لا يهون فيه أديب، وإنما يهون في شعب محتضر، كما تهون الدنيا على المنتحر!

(الزنكلون) حامد بدر

ص: 36

‌الأدب والفن في أسبوع

رسالة الأدب وجائزة فؤاد الأول:

كتب (ا. ح) مقالاً بمجلة (الصباح) عنوانه (الأدباء المعاصرون في مصر - وهل فهموا رسالتهم الفكرية؟) قال فيه إن بعض كبار كتابنا من المشتغلين بالأدب والتأليف، ثار في الأيام الأخيرة، لحرمان الأدباء من جائزة فؤاد الأول الأدبية ومن حق كل متفوق أن يحنق لذلك، بعد أن منح الجائزة رجال القانون والعلوم.

ولكنه يرى أن تلك الثورة لا تمنع من تقرير حقيقةٍ اجتمع الرأي عليها (وهي أن أدباءنا على كثرة ما ألفوا من كتب، وما أصدروا من مؤلفات، لا يزالون بعيدين عن فهم رسالتهم الحقيقية في المجتمع)

ويحدد الكاتب رسالة الأدب التي يرى أن الأدباء لا يزالون بعيدين عنها، فيقول: إن الأدب هو الحياة، وكل أدب لا يصور حياتنا، ولا يتصل بها اتصالا يهدف إلى تجديدها، من حيث التنبيه إلى ما فيها من أخطاء ونقص، والدعوة إلى إصلاح عيوبها أو التحذير من أخطاء هذه العيوب - هو أدب زائف لا يمس حياتنا، ولا يؤدي الخدمة المنشودة منه، إنه يكون أدباً غير متفاعل مع عواطفنا، قليل الاهتمام بهمومنا ومشكلاتنا الروحية) ثم يتساءل: هل في كتب الأدب الكثيرة التي أنتجها رجال الفكر في مصر ما حقق رسالة الأدب على هذا الأساس؟ وهو يرمي إلى أن أكثر تلك الكتب ألف في البحوث الأدبية عن آداب العصور الماضية، وأن توجيه أكبر الجهد إلى ذلك دون ابتكار أدب تجد فيه الأمة ما يحفز همتها للنضال من أجل الحرية أو إرشادها إلى الطريق القويم الذي تسلكه في الحياة - إنما هو قصور في تأدية رسالة الأدب على حقيقتها، وعندما نستطيع إنتاج أدب يتسم بالخلق والابتكار، ويعالج مشاكلنا الكثيرة، ويصحح أوضاع حياتنا المقلوبة، ويتجه بمجتمعنا نحو الرقي عندئذ نستطيع أن نغضب إذا حرم أدباؤنا من أي جائزة رصدت للمتفوقين منهم في أي فرع من فروع رسالتهم السامية. . .

وهذا الذي كتبه كاتب الصباح (كلام جد) عبر فيه عما يشعر به الكثيرون، فإننا إذا أحصينا إنتاجنا الأدبي المعاصر نجد أكثره إما دراسات لأدب العصور العربية الماضية، وإما دراسات ومترجمات من الآداب الأجنبية، فأما الأدب الذي يصور حياتنا ويعبر عن ذات

ص: 37

أنفسنا فهو قلة، مع أنه هو الأدب الأصيل، وما البحوث والدراسات إلا خدمة له، وليست الترجمة إلا (استيراد) له من الخارج.

وقد كان لنا العذر في قلة إنتاج الأدب الأصيل في الصدر الأول من هذا العصر، لأنه كان عصر نهضة، والنهضة تحتاج إلى كثرة النقول ودراسة الآثار، لنتزود منها ونبني على نافعها، أما الآن فلا عذر لنا في كثرة الدوران حولها، وإهمال أنفسنا، فلا نبني لزماننا كالذي بنى أسلافنا لزمانهم. . .

هذا من ناحية الموضوع العامة، أما ناحيته من حيث استحقاق جائزة فؤاد الأول الأدبية فثمة أمران يرجحان كفة الأدب الأصيل: الأول هو ما قدمناه من بيان أهميته، الأمر الثاني يمكن استخلاصه من المرسوم الملكي الصادر بإنشاء جوائز فؤاد الأول وفاروق الأول، فقد جاء فيه:(يشترط فيالإنتاج الذي يقدم في المسابقة في كل عام أن يكون ذا قيمة علمية أو فنية ممتازة تظهر فيه دقة البحث والابتكار (ويهدف خاصة إلى ما يفيد مصر) والإنتاج القومي) والشرط ينصب على الآداب والعلوم والقانون، وجميعها لا بد أن تهدف إلى ما يفيد مصر. ولا شك االأدب الذي يعالج مسائل مصر ويصور حياة مصر وينبعث من البيئة المصرين، هو أقرب الآداب إلى فائدة مصر. وصحيح أن المرسوم نص على أن جائزة الآداب تشمل (الآداب البحتة مثل الأدب القصصي، الأدب التصويري، الأدب الاجتماعي، الشعر، البحوث الأدبية (النقد، البحوث اللغوية، الدراسات الإسلامية الأدبية) والتأريخ والجغرافيا والفلسفة والآثار)

ولكنه إلى تقديمه الآداب البحتة، قيد الجميع بأن تهدف خاصة إلى ما يفيد مصر. وستجتمع لجنة جائزة الآداب وتنظر في كل ذلك لتقرر منح الجائزة لمن يستحقها في العام القادم بعد أن أجلتها هذا العام، ولا أخالها إلا مرحبة بمعرفة اتجاه الرأي الأدبي العام، وتقدر ما يبدى من الآراء التي يراد بها وجهة الأدب الخالصة

قضاة الغرام:

أرادت مجلة (الاثنين) أن تستفتي الأدباء في مشكلة من أهم المشاكل التي تشغل بال الرأي العام في هذه الأيام. . . هي مشكلة غرام! فقد ساءت العلاقة بين شاب وفتاة، وتكرر وقوع الاعتداء من أحد الطرفين على الآخر، فأصبح الأمن بذلك مهدداً في عالم الغرام. . . ولم

ص: 38

يستعن الفتى بخبراء، ولم ينتظر قرار هيئة مستشارين، بل أسرع في كتابة العريضة ورفعها إلى (الاثنين) يقول إنه أحبها، وأحبته، وهو رقيق الحال معتز بكرامته، وهي ربيبة نعمة وجاه (وأعتدي المال على الفقر مرة واثنتين وثلاثاً، وثارت الكرامة وتطلبت الاعتذار. . . ولكن الفتاة لم تعتذر، لأنها لم تتعود الاعتذار. وإنه لفي حيرة لا يدري أيكون أكثر شقاء بالصفح والغفران، أم بالقطيعة والهجران. . .)

وتلفتت (الاثنين) _أو الاثنان_حولها، تبحث عمن ينظر القضية. ومن لها غير الأدباء؟ أليسوا أساة القلوب وقضاة الغرام؟ ومتى تلجأ إليهم إن لم يكن هذا وقتهم! وفيم تحكمهم أن لم يحكموا في هذا الأمر الجلل؟ أفي كهربة خزان أسوان ولا يتصل لمثل هذا بهم شغل؟ أم في مسائل تتصل بأدبهم ولكنها تشق على الأذهان الناعمة. . .؟

واصدر الأدباء، فلان وفلان وفلان، حكمهم، فمنهم من رأى أن كل شيء يهون إلا الشرف، ومنهم من قال: لغة الحب الضنى! ومنهم من أنشد: (ليس لمخضوب البنان يمين)

وهكذا عولجت المشكلة وانتهت القضية واستتب الأمن في عالم الغرام!

ولكن هل ينبغي أن تقصر العناية على هذه المشكلة (الحيوية)؟ وهل يصح إلا يدعي الأدباء إلى غير ذلك مما يهم الناس. . .؟

باسم أدباء العرب:

من الأنباء الأخيرة أن أحد أعضاء المؤتمر الدولي لنادي القلم المجتمع في زيورخ، اقترح اتخاذ قرار بالثناء على الشعب اليهودي والأنحاء باللائمة على خصوم الصهيونية والرغبة في معاملة الوطن القومي لليهود على قدم المساواة مع سائر دول العالم، فقابلت كثرة المؤتمر هذا الاقتراح بالتصفيق.

غير أن الأستاذ كميل أبو صوان مندوب لبنان (وهي الدولة العربية الوحيدة الممثلة في المؤتمر) قد احتج على هذا الاقتراح باسم الأدباء العرب، مما أدى إلى نقاش عنيف بين أعضاء المؤتمر انتهى برفض الاقتراح لأن قانون المؤتمر يحرم التعرض لأية مسألة سياسية

وهذا - ودون شك - عمل رائع من الأستاذ كميل أبو صوان، ومما يزيد روعته أنه أدى إلى رفض الاقتراح الذي أريد به تأييد الصهيونية.

ص: 39

الفنيون وتيسير الكتابة العربية:

لما كان تيسير الكتابة العربية موضوع مسابقة جائزتها ألف جنيه، وقد دخل فيه نحو مائتي متسابق بينهم فنيون وفنانون لهم قيمتهم، وهم مختلفون في منازعهم، حتى أن مجمع فؤاد الأول للغة العربية القائم ببحث هذا الموضوع، تلقى رسائل فيه من أمريكا ومن روسيا ومن الهند وغيرها من سائر الأقطار والأصقاع، ولأهمية هذا الموضوع وخطورة أثره، رأى المجمع ألا تنفرد لجنة تيسير الكتابة العربية بالحكم على هذه المشروعات، وأن ترجئ نظرتها حتى تسمع رأي حكام فنيين في الخط وفي الطباعة، فقد يعجب اللجنة مشروع يصعب تنفيذه في العمل، فتبطل قيمته، وتنعدم جدواه، وقد يروق اللجنة مشروع من وجهته العامة ولكنه في أداء مقتضيات الكتابة العربية ناقص أو عسير التحقيق، ورأت اللجنة أن أعضائها وأن كان لهم بصر بالكتابة العربية، وسابق نظر في المشروعات والمقترحات التي بسطت للتيسير، فانهم ليسو بالفنيين المتجردين لشؤون الخط والطباعة.

لذلك كله قرر مجلس المجمع، في جلسته التي ختم بها دورته الماضية، تأليف لجنة من فنيين في الخط وفي الطباعة اختار لها المدير العام لمصلحة المساحة رئيساً، ويتكون أعضاؤها من كبير الخطاطين بمصلحة المساحة والأستاذ السيد إبراهيم الخطاط، والشيخ محمد فخر الدين بك، ومدير المطابع والتوريدات بمصلحة السكة الحديد، ورئيس مطبعة دار الكتب، والأستاذ شفيق مترى صاحب دار المعارف. وضم إليهم الأستاذ شارل كونتز مدير المعهد الفرنسي بالقاهرة باعتباره فنياً في الخطوط السامية وأحد الذين تتبعوا تطور الكتابة العربية، ليقارن بين الخطوط المقترحة وبين الخطوط السامية.

وتعقد هذه اللجنة بدار المجمع اجتماعات أسبوعية توالي فيها النظر في المقترحات المقدمة. وينتظر أن تقدم تقريرها في هذه المهمة إلى المجمع قبل انتهاء عطلة الصيف حتى يستطيع المجمع أن ينظر فيها في مقتبل دورته القادمة. . .

المؤتمر الثقافي العربي:

عرف القراء مما كتبناه في عدد مضى من الرسالة أن اللجنة الثقافية بالأمانة العامة للجامعة العربية دعت إلى عقد مؤتمر ثقافي بلبنان في سبتمبر القادم تنفيذا لسياسة التعاون الثقافي

ص: 40

بين الدول العربية. ونذكر اليوم، إلى ما بيناه فيما مضى، أن المؤتمر سينعقد في فندق بيت مرى الكبير ويبدأ في اليوم الثاني من سبتمبر ويستمر إلى التاسع منه، وسيكون تحت رعاية فخامة رئيس الجمهورية اللبنانية، أما رئيس المؤتمر فهو وزير التربية الوطنية (المعارف) اللبنانية، ويرأس معاليه أو من ينوب عنه حفلات الافتتاح والختام والمحاظرات العامة. أما الاجتماعات التي تخصص لمناقشة مقترحات اللجان الفرعية الفنية وأخذ الآراء فيها، فينيب معاليه عنه في رياستها رئيس اللجنة الفرعية المختصة لعرض وجهة نظر اللجنة وتوجيه المناقشات واتخاذ القرارات. . .

وقد نشرت بعض الصحف أن المؤتمر ستشترك فيه بعض السيدات المثقفات. وقد عرفنا أن الأمانة العامة لم تتلقى بعد أسماء سيدات لهذا الغرض، ولكن إذا رأت إحدى الهيئات الرسمية أن يكون من ممثليها سيدات فإنها لا تمانع في ذلك، كما انها لا تمانع في حضور سيدات مثقفات من غير الهيئات الرسمية جلسات المؤتمر مستمعات كغيرهن من الرجال. . .

وقد تلقت الإدارة الثقافية بالجامعة العربية من جامعة فؤاد الأول أن مجلس إدارتها وافق على إيفاد حضرتي الدكتور محمد عبد المنعم الشرقاوي والأستاذ أحمد محمد الشايب لحضور المؤتمر الثقافي، وتلقت من وزارة المعارف العراقية أن ممثلي العراق في المؤتمر هم الدكتور جواد علي والدكتور مصطفى جواد والأستاذ إبراهيم شوكت، ويمثل فلسطين السادة وصفي العنبتاوي والأستاذ إسحاق الحسيني والأستاذ أحمد خليفة من كبار رجال التعليم بحكومة فلسطين. . .

والمفهوم أن قرارات المؤتمر سترسل إلى الدول العربية للعمل على تنفيذها، وانه وأن لم يكن هناك إلزام رسمي بذلك إلا أن الفكرة العامة من حيث الرغبة في الاتحاد والتقارب الثقافي بين الأمم العربية، تكسب تلك القرارات نوعاً من الإلزام الأدبي. . .

مؤتمر الآثار العربي:

وقد عرف القراء أيضاً نبأ انعقاد مؤتمر للآثار العربية بسورية قبل انعقاد المؤتمر الثقافي بلبنان. . .

ونضيف إلى ما سبق أن مؤتمر الآثار سيعقد بدمشق ويبدأ في الثالث والعشرين من

ص: 41

أغسطس القادم وينتهي في آخره، بحيث يبدأ على أثره المؤتمر الثقافي بلبنان في أوائل سبتمبر كما تقدم

وسيكون مؤتمر الآثار العربي تحت رعاية فخامة رئيس الجمهورية السورية، ويرأسه معالي وزير المعارف بسورية. . .

ويمثل جامعة فؤاد الأول في المؤتمر الدكتور زكي محمد حسن والدكتور أحمد بدوي، ويمثل دار الآثار العربية بالقاهرة الدكتور محمد مصطفى أمين الدار، ويمثل العراق السادة فؤاد سفر وطه باقر وبشير فرنسيس. . . وقد أبرقت وزارة المعارف السورية إلى الإدارة الثقافية بأن مندوبها الرسمي الأول هو الأمير جعفر الحسني، وأن المندوب الثاني هو السيد سليم عادل. . .

(العباس)

ص: 42

‌البريد الأدبي

رحلة الدكتور عزام إلى الهند:

ابتداء من العدد المقبل سننشر المقال الأول من رحلة الهند للدكتور عبد الوهاب عزام بك، وهي مقالات تتسم بالبلاغة والجمال والسمو والصدق ككل ما يكتبه الأستاذ، فظلا عن ظهورها في الوقت الذي تنشأ فيه بالهند دولة الباكستان.

وأكثر الناس لا يعرفون من روح الهند وأسرارها ما يساعدهم على إدراك هذا النظام الجديد وتأثيره في مستقبل الإسلام وأهله.

أدباء العروبة في مجلس الشيوخ:

نشرت الصحف اليومية أن الشيخ المحترم (فريد أبو شادي) طلب إلى مجلس الشيوخ استجواب رئيس الوزراء عن التصرف الذي وقع لحساب جامعة أدباء العروبة.

وقد اشار الشيخ إلى هذه التصرفات في كتابه إلى رئيس مجلس الشيوخ (. . . من استغلال النفوذ وتسخير مواصلات الدولة، وإذاعتها لهذه الهيئة المسماة أدباء العروبة).

ولقد مر الناس على ذلك فكان مجال تعليق، وموضوع أحاديث. . . وإذا كان من حق الشيوخ والنواب مراقبة الحكومة فإن من حق الأمة مراقبة هؤلاء، ومناقدتهم أحياناً ومناقشتهم فيما يند عن المعقول من رقابة أداة الحكم في هذا البلد. وليس مما يدخل في نطاق المعقول، ولا مما يستساغ أن يؤخذ على الحكام استغلال نفوذهم في الصوالح العامة، وإنما يكون ذلك حيث يستغل الحاكم سلطانه في أموره الشخصية ومصلحته الفردية

وليس كثيراً على الأدب أن يتوكأ على نفوذ الدولة، وأن تسخر له مواصلاتها، وإذاعتها، ولعل الأقرب إلى الواقع أن نقول: أن الموصلات والإذاعة هما اللتان سخرتا الأدباء في هذه الحفول الأدبية.

ثم أن أدباء العروبة لم يمسوا ميزانية الإذاعة المحدودة، ولم ينالوا كثيراً من وقتها الثمين الذي تدبره الأقدار في مصر لإذاعة (من فوق لتحت) وأمثال هذه الأشياء الرخيصة المريضة التي تبهض ميزانية الإذاعة، وتستنفد وقتها.

أن نهوض الفن في الأمم يقترن عادة ببذل عظيم تقدمه الأمة راضية للفن، وفي التاريخ الأدبي قديمه وحديثه شواهد كثيرة تطالعك في عصور النهضات الأدبية بما كانت تصنعه

ص: 43

الأمم للفنون حتى تأخذ سبيلها إلى الرقي، والحياة. هذا ما يقع في كل بلاد الله. . . أما في مصر فيستجوب شيوخها الحكومة عن التصرفات التي تقع لحساب الجوامع الأدبية

ولقد كنت أفهم أن يتكلم الناس في المادة الأدبية التي قدمتها هذه الجماعة من حيث هي فن. . . فأما الفكرة الجليلة التي يضطلع بها الرجل الجليل إبراهيم دسوقي أباظة فإن مكابرتها تعتبر غميزة لثقافة هذا البلد ووعيه وشعوره.

ولقد كنت أفهم أن يستجوب الشيوخ الحكومة على مدى مساعدتها لهذه الجماعات الأدبية، وعن الوسائل التي أعدتها الحكومة لضمان حياتها، فأما هذا الاستجواب فانه إن دل على شيء فإنما يدل على أننا لا نزال في حاجة إلى جهود كبيرة قبل أن نصل بالأدب في مصر إلى المكان اللائق به.

(طاهر محمد أبو فاشا)

أمانة النقل:

تحت هذا العنوان قرأت في مجلة الرسالة كلمة للأستاذ علي الطنطاوي عرض فيها لكتاب (عثمان بن عفان) وإني أستميح الأستاذ أن أقول له: إن أمانة النقل لم تفقد من الأزهر، وإن الأزهر لا يزال دارها ومستقرها، وإن أهله أهلها، يحرصون عليها، ويعرفون لها قدرها، لأن مؤلف كتاب (عثمان بن عفان) وهو من أبناء الأزهر، قرأ فيما قرأ كتاباً مطبوعاً ذائعاً بين الناس، وعلى طرته عنوانه (سيرة عمر بن الخطاب). . . تأليف الشيخ علي الطنطاوي، وأخيه ناجي الطنطاوي، ونقل منه إلى كتابه (عثمان بن عفان) في فصل تحقيق مقتل عمر ما رآه عاضداً لرأيه، مؤيداً لمذهبه، مصدراً نقله بقوله:(وقال الأستاذان الفاضلان صاحبا كتاب سيرة عمر في تعليقة فاحصة) وذلك بعيد قوله: (وإلى هذا ذهب كثير من المؤرخين القدامى والمحدثين) فأين وجد الأستاذ فقدان أمانة النقل من الأزهر؟ فهل يفهم قارئ كتاب (عثمان بن عفان) بعد هذا التصريح الصريح باسم الكتاب المنقول منه، ووصف صاحبيه بالفضل - وهما له أهل - ووصف الكلمة المنقولة بما ينبه على قدرها في موضوعها، هل يفهم ذلك القارئ من هذا الصنيع فقدان أمانة النقل من الأزهر؟

ولعل الأستاذ يقصد:

ص: 44

أولاً - إلى اختصار أسم الكتاب من (سيرة عمر بن الخطاب) إلى (سيرة عمر) وهذا اختصار لا يرتفع إلى هذه الجفوة التي اختار لها الأستاذ عنوان كلمته، لأنه ليس في الإسلام إطلاقا (عمر) بالإطلاق، يولف كتاب في سيرته غير عمر بن الخطاب فاروق الإسلام.

ثانياً - إلى عدم ذكر اسم المؤلف، وأنا قد اكتفيت بالوصف المقرون باسم الكتاب، وهو معين عند القراء لصاحبه، ومبدد - في الأقل - لشبهة فقدان أمانة النقل.

أما أن الأستاذ وجد في فصل تحقيق مقتل عمر من كتاب (عثمان بن عفان) كلاماً أحس أن فيه رائحة كتابه ولا يجد الدليل عليه، فهذا هذا منذ عرف الناس العلم والبحث، ولا ينسى الأستاذ أن كتابه معقود في أصله على الأنقال التاريخية من مصادرها التي تتداولها الناس أو تحضنها المكتبات العامة والخاصة

وأما أن الأستاذ تألم لأن كثيرين، وفيهم من يعد من كبار المؤلفين، غصبوا من كتابه، وجعلوه نهباً مقسماً، وهذه جناية لم يشهدها الأزهر، بيد أن الأستاذ جعله سبابة المتندم.

هذا وإني لأشكر للأستاذ شهادته العظيمة لكتاب (عثمان بن عفان) حسبة لله والعلم.

صادق إبراهيم عرجون

مسابقة المجمع اللغوي:

قال الكاتب الجليل الأستاذ (الجاحظ) في تعقيباته البليغة على أحداث الأدب أن المجمع اللغوي لم يصب في اختيار موضوعي المسابقة الأدبية للعام المقبل. وهما (الحياة الأدبية في المدينة في عهد الأمويين، وكتابة بحث عن مهيار الديلمي) لأن هناك من الموضوعات القيمة ما هو أولى أن يكون ميداناً للمسابقة.

والأستاذ الجاحظ على حق في هذا القول. غير أني أؤثر أن لا يجيز مع المجمعاختيار موضوع بعينه للمسابقة، اياً كان شأنه. فإن في تحديد الموضوع حجراً على حرية الكتاب في تخير الموضوعات التي يحسنون الكتابة فيها.

وهذا الحجر يجعل المسابقة امتحاناً مدرسياً تختبر به معلومات التلامذة من طريق المقاطرة (الجاشني) لا كشفاً أدبياً عن مدى ما وصل إليه الكتاب في نواحي النبوغ المختلفة، حيث

ص: 45

تتعدد وجوه الفائدة بتعدد وجوه البحث.

وإلا فأيهما أنفع للمجتمع، مائة كتاب تكتب في غرض واحد، أو مائة كتاب في مائة غرض من أغراض الأدب؟

لا شك في أن تحرر الكاتب في اختيار موضوعاته أضمن لأجادة الكتابة فيها. فلو أن كتاباً ككتاب (الله) مثلاً - وهو ما هو بين الكتب - اقترح موضوعه على مؤلفه الأستاذ (العقاد) - وهو من هو بين الكتاب - لما وصل به العقاد إلى هذه الغاية التي ليس بعدها غاية. وقس على ذلك سائر الكتب التي كتبها كاتبوها مختارين فوصلوا بها إلى حد التفوق

بل إني لا أجد المثل في نفسي وفي نفس المجمع اللغوي. فقد تفضل المجمع فمنح ديواني جائزة الشعر الأولى في هذا العام، وتفضل الأستاذ الجاحظ فعقب على هذه الجائزة بما أنا مدين له بالشكر عليه ولكني أشك كل الشك في إني كنت أظفر بهذه الجائزة لو أن المسابقة كانت قصيدة واحدة اقترح المجمع موضوعها على المتسابقين.

فقد يكون الموضوع غير حبيب إلى نفسه، فلا يسلس فيه شعري ولا يتفوق. فليت المجمع الموقر يطلق الكتابة في المسابقة من قيد الموضوع كما أطلق الشعر. ثم يستعرض كتب العام، والخمسة الأعوام فما رآه منها بالغاً حد التفوق أجاز كاتبه أو توجه مشكوراً

محمود عماد

مصر ملجأ الأحرار:

كان لهبوط البطل الأمير عبد الكريم الخطابي وادي النيل رنة فرح وسرور شملت البلاد كلها من أقصاها إلى أقصاها - وقد وجد في رحاب جلالة الفاروق كل عطف وتقدير، كل ذلك جعله يلهج بالثناء على مصر وأهلها.

ومصر الكريمة وعلى رأسها مليكها الشاب - وقد أعز الله الإسلام بها - ترحب بكل لاجئ عربي كريم ولو كره المشركون، حيا الله مصر ومليكها.

ذكرتني هذه المناسبة الكريمة بقصيدة مخمسة طويلة نشرتها مجلة المقتطف سنة 1906 لشاعر بغدادي لم يذكر بل رمز بأسمه إلى حرف ج. . . ويغلب على ظني - من أسلوبه السهل الممتع، إنها للشاعر العراقي المبدع جميل صدقي الزهاوي، تحت عنوان (أنت يا

ص: 46

مصر ملجأ الأحرار) مطلعها:

إن سجع الحمام في الأسحار

وهبوب النسيم بعد القطار

وبريق الندى على الأزهار

وخرير الماء الزلال الجاري

موحيات إليّ بالأشعار

شاعر بالعراق ينظم شعرا

فيرى دون نشر ما قال عسرا

فيهادى به على البعد مصرا

حيث يلقى الشعر المهذب نشرا

إن مصراً ريحانة الأمصار

تبلغ النفس عند مصر مناها

طيب الله بالسلام ثراها

بلدة صيب النجاح سقاها

يجد الحر مأمناً في ذراها

أنت يا مصر ملجأ الأحرار

يا ربوع الهوى عليك السلام

أنت للنفس مقصد ومرام

في حماك النزيل ليس يضام

لأولي العلم في ذراك احترام

واعتبار في الجاه أي اعتبار

محمد منصور خضر

اسأل الرسالة:

نعم أسأل (الرسالة) السؤال الأخير حول (الهزج والوافر) فأقول: هل الوافر يلحق به من الزحاف المركب - صلح أم قبح - (النقص) وهو اجتماع العصب والكف أي إسكان اللام وحذف النون من مفاعلتن، أم لا؟

. . . لأن الجواب على هذا السؤال هو مدار البحث والجدل في أمر منصوص ومتوارد في كتب الأقدمين من العروضيين.

أنا لا انكر أن الوافر لا يلحق به الكف - في حالة الزحاف المفرد - كما تقول (الرسالة) وإنما أقول إن الوافر يلحق به من (الزحاف المركب) النقص وهو اجتماع العصب والكف وهو شرط أساسي فيه على المعاقبة. أما (الهزج) فأمره بسيط، إذ أن أهم ما يميزه عن الوافر هو (القبض) وهو حذف الياء من مفاعيلن أي الخامس الساكن، هذا إذا صرفنا النظر

ص: 47

عن الكف

فأيما بيت رأيت فيه القبض فاحكم للتو بأنه من الهزج لا الوافر لأن القبض خاص به - ثم يبقى جواب الرسالة على السؤال لفض الإشكال وحسم الجدال. والسلام

عدنان أسعد (الزيتون)

(الرسالة) الكف لا يدخل مفاعلتن في الوافر لا مع العصب ولا بدونه. وإذا أجازه العروضيون قياساً فقد منعه الشعراء عملاً والشعر العربي كله جاهليه وإسلاميه بين يدي الأستاذ، فإن وجد شاهداً واحداً صحيحاً على وقوع (النقص) في الوافر تامة أو مجزوئة انحسم الجدل في الجواز والمنع؛ وبقي الكلام في الحسن والقبح.

ص: 48

‌القصص

السيدة أيدس

عن الإنكليزية

بقلم السيدة الفاضلة منيبة الكيلاني

تستدير من حول مقاطعة كنت في إنكلترا قطعة من الأرض وتستنيم إلى ساحل البحر فيما يشبه في علم الجغرافيا الرأس وتقوم عليها قلعة من قلاع القرون الوسطى وتحدق بهذه القلعة آجام تمد الصناعة بالكثير من الأخشاب وتمد الصيد بالوفير من الطيور والحيوان.

وتستدير هنا وهناك برك من الماء اللجيني تضاحك الشمس عامة النهار وتغازلها ساعتي المغيب والشروق بما يصبى بنات الهديل في أيام الربيع فتتسارع من غصن إلى غصن ترتل النشيد الذي يملأ النفس خشوعاً.

ولفرط ما تشابكت أشجار الكستناء وتعانقت أغصان السنديان فقد أضحى الدرب الذي يسلكه السالك إلى بيت السيدة أيدس تسوده الظلمة حتى قبل أن يحلو لك الأفق بوقت طويل وقبل أن يمحو الليل خطوط الشفق. أما القمراء وما فيها من سحر وفتون فما كانت لتعرف هذا الدرب ولا تستطيع أن تنفذ إلى ثناياه مهما كانت أشعتها خارقة، غير أن الصمت والهدوء الذي يستفز الخاطر استفزازاكانا يعرفان درب منزل السيدة أيدس ويخيمان فيه طويلاً. . .

ولقد كانت الليلة التي نسجل أحداثها إحدى ليالي نوفمبر وقد أنتشر الثلج من ذلك العام، والدرب ساكن هادئ كأنه قد تردى بأكثر من ثوبه المعتاد صمتاً، فما كان ليسمع فيه أبداً غير وقع أقدام الرجل الذي يسلكه في تلك الساعة وغير نباح كلب ليس بالبعيد، ولقد كان وقع الأقدام لفرط السكون من جهة ولطبيعة الدرب من جهة اخرى يأتي بصدى غريب كأنه وقع لأقدام متأثرة ملحاحة تريد القبض على السالك، وتغذ السير للحاق به، وكلما أراد الرجل أن يخفف الوطء ويقلل من وضع القدم ألفى أن الصوت لا يخف فإن هناك من الأغصان اليابسة والأوراق المبعثرة وغيرهما مما يقبل الإنقصام تحت قدميه المنذعرتين ما يكفي لمضاعفة الصوت. وليس هذا وحده بل إن هذه العقبات قد أكدت على السالك

ص: 49

وإعترضت سرعته فحدت منها، ولم يكن شأنه ليحتمل شيئاً من ذلك. . .

ولقد بلغ أخيراً دار السيدة أيدس وهو كوخ قد انتبذ مكانا قصياً في آخر الدرب، فلما بلغه استأنى لحظة ثم عبر البقعة المعشوشبة مما يلي شباك الكوخ الذي لم يكن عليه ستائر فكان النور ينبعث من زجاجة إلى الخارج.

واستطاع أن يبصر بالسيدة أيدس تنحني فوق الموقد وتخرج منه إبريق الشاي أو شبهه وتؤجج النار، فساورته بعض الفكر وتردد بين أن ينفذ إليها من الشباك أو أن يعوج إلى الباب فينسل إلى داخل الكوخ من هناك، وتلبث حيث يقف، فبان شعره الأحمر وقامته الممشوقة وأثوابه المتواضعة ووجهه المكدود الذي يعرب عن أنه من صنف العمال أو الأجراء الذين لا يصيبون من أعمالهم فوق ما يمسك الرمق كثيراً. ولم يفتح عليه تدبره الموضوع من حيث ولوج الباب أو الشباك برأي فقد كان مضطرباً، ولكنه وطد العزم هذه المرة فجأة على أن ينفذ من الباب في حكمة وأن يفعل ذلك من دون أن يقرعه وبدون أن يستأذن وهكذا فعل. ولما سمعت السيدة أيدس تلك الحركة استدارت مسرعة وقالت:

ماذا: أهذا أنت يا بيتر كروج؟ لم أسمعك تقرع الباب

قال: إنني لم أقرع الباب يا سيدتي إذ أني لم أرد أن يسمع ذاك أحد قط

قالت: ولماذا؟

قال: لقد نزلت بي نازلة، وكانت يداه ترتجفان ولونه ممتقعاً

قالت: فماذا صنعت؟

قال: لقد قتلت يا سيدتي أيدس

قالت: أأنت فعلت هذا؟

قال: نعم أنا الذي أطلقت الرصاص!

قالت: أو قد مات؟

قال: لست أدري.

وسادت لحظات من السكون حيث يقفان من مطبخ الكوخ حتى أنذرهما إبريق الشاي بصوت غليان الماء، فدلفت إليه السيدة أيدس على غير وعي وأزاحته عن النار قليلاً. . .

وكانت السيدة أيدس هذه نحيفة يبدو عليها أنها تنازعتها الأسقام زمناً، وهي صغيرة الحجم

ص: 50

سمراء البشرة يكسو وجهها الناشف عدد لا يحصى من التجاعيد الصغيرة، على أنها وإن لم تكن تتجاوز الثانية والأربعين من العمر فإن الأيام قد قست عليها قسوة أخرجتها من معاني ذلك العمر إلى معان أخرى، إذ أن العمل الذي كانت قد وكلت به في تلك المقاطعة لم يكن راحماً ولا مجاملاً.

التفتت السيدة أيدس إلى بيتر كراوج وقالت له: وماذا عساك تريد مني أيها الفتى؟

قال: ها هم أولاء على أثري وعجلت إليك لأستخفي عندك؛ فلعلك مخبئة إياي في ركن من الكوخ لا تمتد إليه أبصارهم، حتى إذا ما ولوا الأدبار خرجت من هنا آمناً وانصرفت بعيداً عنهم.

قالت: ومن هم؟

قال: حراس الغابة.

قالت: ويك! أو تكون قد قاتلت الحراس وأصبت منهم واحداً؟

قال: أجل فقد دانيت حروف الغابة أريد أن أنتزع منها ما يمسكني، فشعر بي هؤلاء العسس وكانوا أربعة وكنت وحيداً، فلجأت إلى بندقيتي فصوبتها إليهم وأطلقت منها رصاصة ثم هربت، وها هم أولاء على أثري كما قلت، ويغلب على ظني أنهم مني جد قريبين

ولقد سكتت السيدة أيدس لحظات كأنها تفكر، وسكت هو كأنه يستعطف؛ ثم بادهها بالكلام قائلاً: إن كنت يا سيدتي لا تريدين قبول رجائي من أجلي فليكن ذلك من أجل صديقي (توم)

قالت: ولكنك لم تكن من أصفياء (توم) أو المقربين إلى نفسه

قال: بلى لقد كنت، وهو أوفى أصدقائي، ولو كان حاضراً لما وسعه إلا أن يذود عني ويمهد لي من داره ما أشتهي مخبأ ومكاناً

قالت: إنني لا أستطيع أن أنفي هذا، فقد كان (توم) يمنحك من ظنه فوق ما تستحق فلا تثريب عليك في البقاء حتى يعود توم على الأقل فيسمع منك ما تقول، ويقول لك ما يجب أن تسمع، وسيعود بعد ساعة أو نحوها فماذا أنت فاعل بعد ذلك؟

قال: لا أدري ولكني لا يزال أمامي متسع من الوقت للتفكير في الموضوع.

ص: 51

قالت: هنا يصفو لك التفكير (وفتحت له مكاناً في ركن المطبخ صغيراً) ولن يخطر ببال غرمائك إذا جاءوا أنك ثاو في هذا المكان ولا سيما إذا قلت لهم بأنني لم أبصر بك هذا المساء.

قال لها: أنت عظيمة يا سيدتي، وإنني أعم أنني لا أستحق منك تلك الرعاية ولا ذلك العطف، وما كان أسعدني لو كانت لي أم من نوعك، إذن لكنت غير ما أنا عليه الآن. . .

لم تقل السيدة أيدس شيئاً بل أغلقت الباب عليه فأضحى في ظلام دامس لا ينفذ إليه من نور المطبخ إلا شعاع واهن منحدر من أحد شقوق الباب، ومن هذا الشق ذاته كان بيتر يرى الوالدة تهيئ عشاء وحيدها (توم) الذي يأتي بعد ساعة من المزرعة التي يعمل فيها. وقد بكر (بيتر) يصور لنفسه جيئة صاحبة من عمله وما سيكون له من رأي في الذي إقترفه؛ ولكنه أيقن بأنه لن يلغى عطفاً حبته به أمه أبداً؛ وعلى الأخص فإن الصداقة التي تربطهما ليست من النوع الذي يسوغ مثل هذه الأفاعيل وإن كان كل منهما قد شق لنفسه في الحياة طريقاً يختلف عن الآخر. . .

أقام بيتر في زاويته بين الأكياس المكدسة ثم استلقى بينها، ثم أخذته الأفكار، ثم سطعت رائحة الطعام من المطبخ تسيل لعابه وتوقظ فيه الجوع، على أنه انبعث فيه أمل في أن يطعم بعض هذا الذي يشم عندما يؤوب (توم). ولن تنكر السيدة أيدس عليه هذا على وجه التأكيد بعد أن علمت مبلغ جوعه وعرفت بعد الشقة التي وطد العزم على قطعها. . .

وهنا أخذت الوقائع تتجلى له بصورة مؤلمة، وهنا أيضاً سمع وقع أقدام أذهلته وأعادته إلى نفسه الخائفة، فاحتقن وطغت ضربات قلبه إذ لابد أن يكون هؤلاء القادمون هم الحراس الموتورين وقد عرفوا مكمن الجاني فجاءوا يأخذونه من بيت صديقه وهم يعلمون أن هذه الصداقة تبرر العطف عليه. وقد أضاع اتزانه فانكمش في ركن ضيق من الزاوية انكماشاً، وأخذ يلوم نفسه على اللجوء إلى هذا الكوخ الذي يرد على بال المتعقبين قبل أي مكان غيره. ثم ارتجف وتحشرجت أنفاسه وازدحمت الزفرات فيصدره ولكن وقع الأقدام تعدى الكوخ ولم يقرع بابه، وجاء من بعدهم السكون الذي هو في أكثر الأحوال أبلغ عبارة من الضوضاء

أطلت السيدة أيدس من جانب الزاوية عليه وقالت إنهم جماعة القلعة وقد رأيتهم في طريقهم

ص: 52

يحملون مشاعلهم، فلعل الصواب أن تنسل الآن من الطريق المعاكسة إلى (كنت) حيث تأخذ القطار الذاهب إلى لندن فهذا خير لك وأبقى. وإن القطار ليبرح موضعه في الساعة العاشرة من هذا المساء. . .

قال: إن هذا الذي ترينه مصيب ولكني لا أملك من أجر السفر قرشاً

فلم تقل له شيئاً بل دلفت إلى أحد أدراج خزانة المطبخ وأخرجت له منه شيئاً من المال وقالت هذه سبعة دراهم تعينك على بلوغ لندن وتمنع عنك الطوى قليلاً، فاحتار الفتى كيف يشكرها ولكنها قالت لا تشكرني فإنني إنما أفعل ذلك من أجل (توم) وهذا يكفي إذ أنه كان يحبوك بعطفه دائماً، وإنني لأرجو الله مخلصة أن لا تذوق من بعدها محناً أخرى. بل إنني شاعرة ببرد الطمأنينة لأنني أدري أنه لم يكن أحد ليعلم بأنك قد مررت بهذا الكوخ وهو بعينه السبب الذي يحدوني أن أستحثك على الخروج من هنا قبل أن يعود (توم)، وإنني لأخشى أن يصحبه أحد أصحابه فينشأ لك طارئ من المحنةأنت عنه في غنى. . . ثم إني أريد أن أتعلم أنني لم اكن لأشجع نفسي على مخالفة ضميري في عصيان القانون في إيوائك لأنني أعلم بأن مقاتلة الحرس والدفاع عن النفس دونهم لا تشبه قتل إنسان بريء لا شأن له، وعلى كل حال فإني اريد أن أنصرف عن هذا الموضوع وأضرب عنه صفحاً.

وقامت تفتح له باب الكوخ ليخرج، ولكنها ما كادت تفعل حتى بدأت أصوات الأقدام تسمع بوضوح في نقطة قريبة.

قالت السيدة أيدس: لعل هذا توم؛ ولكن لا فإن أصوات الأقدام تؤكد بإن العدد أكثر من واحد فخير لك أن تعود إلى زاويتك فإني أسمع كلاماً. اربض هناك حتى يمروا هذه المرة أيضاً

ذهب (بيتر) إلى حيث كان قابعاً بين الاكياس، وتدانت الأصوات رويداً رويداً فتصور لحظة أنها ستمر كما حصل في المرة الماضية ولكنها تلبثت قليلاً لتتجاوز القطعة المعشوشبة من خارج الباب، وبعد لحظة سمع الباب يقرع. . إذن هذا توم بعينه.

أرتعد بيتر من الخجل والقلق، وألصق عينه بخصاص الباب وحدج المطبخ فألفى السيدة أيدس تدلف نحو باب الكوخ وما كادت تفتحها حتى دخل رجل إلى الداخل وسد الباب من ورائه فعرفه بيتر، أنه (فدلر) أحد الحراس الأربعة، فجمد بيتر وتصلبت ساقاه فقد عرفوا مأواه وتأثروه وافتضح أمره فليس هناك من جدوى في استخفائه أبداً. على أنه لم يعد

ص: 53

مستخفياً بعد الذي كان فما باله لم يختر مكاناً أحسن من هذا وأضمن لإفلاته؟ وما باله لم يدفع عن نفسه خيراً من هذا لدفع، وهنا وهنت ساقاه عن حمله فجلس على الأكياس إعياء وغماً. . .

وكانت سحنة الرجل في المطبخ تدل على أنه يعالج أمراً صعباً ويلوك كلمة جليلة على النفس المسكينة التي تواجهه فوقف صامتاً يطوي بيدين عصبيتين قبعته.

قالت له: ماذا جرى؟

قال: أريد أن أحادثك ياسيدتي

فأرهف بيتر أذنيه وتمنى أن لو استطاع أن يسكت قلبه ليتم له السماع، ولكن مخاوفه وهنت عندما تصور أن السيدة لن تفضح أمره ما دام قد استشفع لها بابنها (توم) قال: لقد حملت إليك أنباء سيئة، فانحرفت، وقالت ماذا تعني وأخذت سمتها نحو الباب فتشبث بها الرجل وقال لا تفعلي يا سيدتي حتى أبسط لك الأمر. . .

قالت له أيدس أسرع أيها الرجل فيما تقول ودفعته جانباً، ولكنه أخذ يتكلم متلعثماً مسرعاً ويقول: حدث في أطراف الغابة نزاع، وذلك أن رجلاً من السراق كان يريد أن يصطاد بعض الأرانب، وكان (توم) مع الحراس، وهنا كان الظلام حالكاً فأطلق السارق بندقيته ولاذ بالفرار.

وأودى التعب بالمتكلم فاستأنى قليلاً. . أما بيتر فإنه استحال إلى إنسان من الخشب في الزاوية التي وقف فيها، وقبل أن تقول السيدة كلمة خرج الرجل وأشار لجماعته فدخلوا يحملون جثة ووضعوها في وسط المطبخ.

قالت أيدس: أهو ميت، وعلمت وقد تبعثر الدمع من عينيها أن نعم. أما بيتر فقد عز عليه الدمع بل إستيأس وقنط ورأى أن قد حصحص الحق ولا سبيل إلى الهرب. . .

ورأى بيتر أن الحياة جميلة في تلك اللحظة ولا سيما إذ تكون من مقوماتها فتاته التي يحبها، ولكن حياته لم تعد بعد اليوم ملكاً له بل هي ملك للسيدة أيدس تفعل بها ما تريد. . .

كانت السيدة أيدس تجلس على الكرسي المجدول من السعف قرب الموقد وقد أعانها أحد الرجال على الجلوس وتقدم الثاني يصب لها من قارورة صغيرة نوعاً من الشراب لعله ينعشها قليلاً.

ص: 54

وقالوا لها بعد هذا إنهم لم يروا القاتل ولكنهم استطاعوا أن يظفروا ببندقيته التي أذهله عن أخذها هول الأمر وهي بعينها بندقية بيتر ولعله فعل فعلته غير عامد إذ أنه كان صديقاً لتوم.

كان بيتر حينئذ منتصب القامة ينظر من شق الباب فرأى السيدة أيدس تتحامل على نفسها وتقوم على قدميها وتقف على رأس المائدة وتنظر في وجه الرجل الميت الذي انعكست عليه كل معاني الخلود، ثم رآها تنظر إلى الرجال الذين تراجعوا للذهاب إلى صميم الغابة للتفتيش عن بيتر الجاني الأثيم. ثم رآها بعد هذا كله تمد يدها إلى جيب صدارها فتخرج مفتاح الباب الذي يتوارى بيتر وراءه. .

لقد سأل الرجل مدام أيدس هل رأت بيتر ذلك المساء فأجابت لا لم أره منذ يوم الثلاثاء، فقال لها محدثها إذن سنفتش عنه وسنأتيك بمسز جين أيضاً فأشارت برأسها بالإيجاب.

قالت السيدة أيدس لفدلر وكان آخر من بقى لديها: ساعدني على حمله إلى الداخل، إلى الفراش، إلى غرفة نومه. وتعاونت هي وهو على وضعه في سريره وخرج فدلر.

انتظرت السيدة أيدس حتى إنعدمت حركة الأقدام في الدرب خارج كوخها، وحينئذ جاءت إلى الزاوية التي يستكن فيها بيتر وهنا أخذته الرعدة من جديد، لقد كان الأمر فوق أن يحتمل وكان الأشهى له أن يموت قبل أن تقع عينه على هذه السيدة. . . سمع المفتاح يدور في القفل ولكنها لم تدخل هذه المرة، بل فتحت عليه بابه فقطثم تراجعت وأغلقت عليها الباب الذي يضم توم.

عرف (بيتر) ماذا يجب أن يفعل فإن الشيء الوحيد الذي أرادته السيدة أيدس هو الشيء الوحيد الذي يستطيع أن يفعله. . فتح الباب بصمت وسكون وخرج. . .

منيبة الكيلاني

ص: 55

‌من هنا ومن هناك

اللهم عفوك:

في مسالك الأبصار لابن فضل الله العمري: (حكى الصابي عن بعض الرسل قال: دعينا إلى باب مسعود، يعني إبن محمود إبن سبكتكين بغزنة، فشاهدنا بالباب أصناف العسكر وملوك جرجان وطبرستان وخراسان والهند والسند والترك، وقد اقيمت الفيلة عليها الأسرة والعماريات الملبسة بالذهب مرصعة بأنواع الجواهر، وإذا بأربعة آلاف غلام مرد وقوف سماطين وفي أوساطهم مناطق الذهب، وبأيديهم أعمدة الذهب، ومسعود جالس في سرير من الذهب لم يوضع على الأرض مثله، وعليه الفرش الفاخرة، وعلى رأسه تاج مرصع بالجواهر واليواقيت، وقد أحاط به الغلمان الخواص بأكمل زينة، ثم قام مسعود إلى سماط من فضة عليه خمسون خواناً من الذهب، على كل خوان خمسة أطباق من ذهب فيها أنواع من الاشربة، فسقاهم الغلمان، ثم قام مسعود إلى مجلس عظيم الأقطار، فيه ألف دست من الذهب، وأطباق كبار خسروانية، فيها الكيزان، وعلى كل طبق زرافة من الذهب، وأطباق ذهب فيها المسك والعنبر والكافور، وأشجار الذهب مرصعة بالجواهر واليواقيت، وشموع من ذهب في رأس كل شمعة قطعة من الياقوت الأحمر تلمع لمعان النار، وأشجار العود قائمة بين ذلك، وفي آخر المجلس رحى من ذهب تطحن المسك والكافور والعنبر، وفي ناحية من المجلس بحيرة في جوانبها من الجواهر والعنبر والفصوص شيء يقصر الوصف عنه. وذكر أشياء أخر تحير الأسماع). . .

يد. . وشكرها:

كان عبيد الله بن عباس ابن عم النبي صلوات الله عليه من أكثر الناس جوداً وأعظمهم سخاء وبذلا، وهو أول من مد الموائد على الطرق، ومن جوده أنه أتاه رجل وهو بفناء داره فقال يا ابن عباس إن لي عندك يداً سابقة وقد احتجت إليها، فصعد فيه بصره فلم يعرفه ثم قال: وما يدك عندنا؟ قال الرجل: رأيتك في مرة واقفاً بزمزم، وغلامك يمتح لك الماء منها، والشمس قد صهرتك، فظللتك بطرف ردائي حتى شربت

قال ابن عباس إني لأذكر ذلك، وإنه ليتردد بين خاطري وفكري، ثم قال لقيمه: ما عندك؟ قال: مائتا دينار وعشرة آلاف درهم، قال أدفعها إليه، وما أراها تفي بحق يده عندنا. . .

ص: 56

واحدة بواحدة:

التقى برنارد شو الكاتب الساخر المعروف مرة بالممثل الهزلي المشهور شارلي شابلن، فقال شو: إنني شديد الإعجاب بك يا مسيو شابلن ولكنني لم أشهد قط فلماً من أفلامك، فرد عليه شابلن في سرعة قائلاً: وأنا كذلك شديد الإعجاب بكتاباتك ولكني لم أقرأ منها شيئاً أبداً.

وكان المرحوم الشيخ عبد العزيز البشري جالساً مع بعض أصحابه فأقبل عليهم صديق فصافحهم جميعاً إلا الشيخ عبد العزيز، فقال له أحد الحاضرين لماذا لم تسلم على الشيخ فقال: لا مؤاخذة لقد كنت أحسبه امرأة! فرد الشيخ عبد العزيز: ولكني يا أخيكنت أحسبك رجلاً. . .

نصيحة للمؤلفين:

قال أبو عثمان الجاحظ: (ينبغي لمن كتب كتاباً أن لا يكتبه إلا على أن الناس كلهم له أعداء، وكلهم عالم بالأمور، وكلهم متفرغ له، ثم لا يرضى بذلك حتى يدع كتابه غفلا، ولا يرضى بالرأي الفطير، فأن لابتداء الكتاب فتنة وعجباً، فإذا سكنت الطبيعة، وهدأت الحركة، وتراجعت الأخلاط، وعادت النفس وافرة أعاد النظر فيه، فتوقف عند فصوله توقف من يكون وزن طبعه في السلامة أنقص من وزن خوفه من العيب، ويفتهم معنى قول الشاعر:

إن الحديث تغر القوم خلوته

حتى يلج بهم عي وإكثار

ويقف عند قولهم في المثل: كل مجر في الخلاء يسر، فيخاف أن يعتريه ما اعترى منأجرى قوسه وحده أو خلا بعلمه عند نقد خصومه وأهل المنزلة من أهل صناعته، ليعلم أن صاحب القلم يعتريه ما يعتري المؤدب عند ضربه وعقابه، فما أكثر من يعزم على خمسة أسواط فيضرب مائة، لأنه ابتدأ الضرب وهو ساكن الطباع فأراه السكون أن الصواب في الإقلال، فلما ضرب تحرك دمه، فأشاع فيه الحرارة، فزاد في غضبه، فأراه الغضب أن الرأي في الإكثار، وكذلك صاحب القلم، فما أكثر من يبتدئ الكتاب وهو يريد مقدار سطرين ويكتب عشرة، والحفظ مع الإقلال أمكن، وهو مع الإكثار أبعد). . .

ص: 57

أي الحكمين أقسى:

لما حكم القضاة على سقراط الحكيم بالموت قال لهم: (لقد حكمتم علي بالموت لأنني لم أتملقكم ولم أخاطبكم بالكلام الذي تودون سماعه، ولكنني غير نادم على ما فعلت. حكمتم علي بالموت والحق قد حكم عليكم بأنكم أشرار ظلمة). . .

المبدأ الأول للحكمة:

قيل لأحد الحكماء: من أي إنسان ينبغي أن تؤخذ مبادئ الحكمة فقال: من الأعمى لأنه لا يضع قدمه على الأرض إلا بعد أن يتحقق موضعه بعصاه. . .

الأموات يحكمون الأحياء:

يقول جوستاف لوبون في كتابه روح الاشتراكية: (إذا أجتمع عدد من الناس ليعالجوا مسألة سياسية أو دينية أو خلقية، فالأموات هم الذين يتباحثون لا الأحياء، وذلك لأن الأحياء إنما يتكلمون بروح أجدادهم وما سمعوه عنهم، فليس كلامهم في الحقيقة إلا صدى لنداء الأموات الذي لا مفر للأحياء من الإصاخة إليه). . .

العمل للعمل:

يقول الكاتب الأمريكي أمرسون: (الطبيعة تقول للإنسان اعمل يا بني. اعمل في كل حين. اعمل سواء أكنت مأجوراً أو غير مأجور. كل ما عليك أن تعمل وجزاؤك لن يضيع. . . اعمل مهما كان نوع العمل ومهما فشلت فلا تجبن ولا تيأس. إنك للعمل خلقت وبالعمل ستفوز، وأقل جزائك على عمل تنجزه أنك أنجزته). . .

وظيفة للضحك:

قال المسيو دي فاريني: (إن الضحك احتجاج على عمل مناقض لأصول الاجتماع وتنبيه إلى سلوك النظام المتبع، فهو إذن ذو وظيفة اجتماعية إصلاحية، ولذلك انفرد الإنسان به دون الحيوان).

أيد ثلاثة:

قال يونس النحوي: (الأيدي ثلاثة. يد بيضاء ويد خضراء ويد سوداء، فاليد البيضاء هي

ص: 58

الابتداء بالمعروف، واليد الخضراء هي المكافأة على المعروف، واليد السوداء هي المن بالمعروف)

يقول زنوج أفريقيا في أمثالهم:

إن ما يقال أمام أسد ميت لا يمكن أن يقال أمام أسد حي.

الملك محق في كل ما يقول سواء أكان باطلاً أم حقاً.

قد يكون من الحقيقة قولك إنك قتلت فيلاً، أما أن تقول إنك حملته فكذب.

العالم يقوم على ثلاثة أشياء: زرع الذرة، وحصدها، وأكلها.

لا يتحول الرغيف إلى تمساح وإن أبقيته في الماء عشر سنوات.

إن ما يرضعه العجل هو ما أكلته البقرة.

من لا يملك شيئاً لا يعاديه أحد.

لسانك أسد فإن أطلقته قتلك.

لا تعاشر من لا تعرف طباعه.

الذكاء أفضل من القوة.

سحب امرأتك ولكن لا تأمن جانبها.

الرجل الصالح لا يهجر أصدقاءه في محنهم.

(الجاحظ)

ص: 59