المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 730 - بتاريخ: 30 - 06 - 1947 - مجلة الرسالة - جـ ٧٣٠

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 730

- بتاريخ: 30 - 06 - 1947

ص: -1

‌الجامعة الإسلامية هي الغاية

نشأت جامعة الدول العربية، وكان نشوءها ضرورياً وإن أشار به (إيدن). وقامت دولة الباكستان الإسلامية، وكان قيامها طبيعياً وإن سعى له (مونتباتن). تلك لأن العروبة في يقظة، وهذه لأن الإسلام في انبعاث. ويقظة العروبة هبة من الروح العالمي الذي دفع الأقوياء إلى الحرب، والضعفاء إلى التعاون، والأشتات إلى الوحدة؛ وانبعاث الإسلام أثر لتناقض المذاهب وتعارض الشرائع وافتقاد الإنسانية لذلك النظام الإلهي الذي يسدد خطاها ويحفظ عليها قواها. وما كان فضل إنجلترا في هذين الحدثين العظيمين إلا فضل القابلة: سهلت الولادة ولكنها لم تخلق الوليد. وسيحذو المسلمون في الصين حذو المسلمين في الهند وإندونيسيا، فتنشأ الدولة الإسلامية الثانية في القوة والعدد؛ ثم تنكفئ تركيا إلى الشرق، ويرجع ساستها إلى الإسلام، فيكون منها لكتلة الدولة المحمدية روح ومدد. ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله، إذ يرون كلمته هي العليا، وعقدته هي الوثقى، وحزبه هو الغالب.

فالجامعة الإسلامية، أو البانسلامزم كما يسميها الغربيون، هي الغاية المحتومة التي ستتوافى عندها أمم الإسلام في يوم قريب أو بعيد. ذلك لأنها النظام السياسي الذي وضعه الله بقوله:(إنما المؤمنون أخوة)، ثم شرع له الحج مؤتمراً سنوياً ليقوي؛ وجعل له الخلافة رباطاً أبدياً ليبقى. وهذا النظام الإلهي أجدر النظم بكرامة الإنسان، لأنه يقوم على الإخاء في الروح، والمساواة في الحق، والتعاون على الخير، فلا يفرق بين جنس وجنس، ولا بين لون ولون، ولا بين طبقة وطبقة.

وظلت الجامعة الإسلامية، في ظلال إمارة المؤمنين وإمارة الحجيج، قوية شاملة حتى خلافة المتوكل؛ ثم وهي السمط فانفرط العقد، واضطرب اللسان فتفرقت الكلمة. فلما تبوأ الترك عرش الخلافة استطاعوا أن يبرموا الخيط ولكنهم لم يستطيعوا أن ينظموا فيه الحب. فبقى المسلمون عباديد لا ينظمهم سلك ولا تؤلف بينهم وحدة. ثم أدركت الشيخوخة دولة العثمانيين في أواخر القرن التاسع عشر، فتعاوت على جسدها الواهن المنحل ذئاب الغرب، فلوح لهم عبد الحميد بالجامعة الإسلامية ذياداً عن ملكه، فهروا هرير الكلاب المذعورة، وصور لهم هذا الذعر أن الجامعة هي التعصب وسفك الدماء، فصدقوا وهمهم وكذبوا الواقع. وكان الاستعمار يومئذ قد توقح وفجر، فنشأت العصبية الوطنية في الأقطار الإسلامية لدرء خطره، أو تخفيف ضرره؛ والوطنية لا تعارض الجامعة، ولكنها تفارقها في

ص: 1

الطريق لتلاقيها عند الغاية.

إن أوربا التي مزقتها الأطماع وطحنتها الحروب، سترحب اليوم بالجامعة الإسلامية؛ لأنها وحدها تملك غرس الوئام في النفوس، وإقرار السلام في العالم. إنها تقوم على الإيمان المحض، وتنزل في خير مكان من الأرض، وتشمل مئات الملايين من الناس، وتهيمن على الموارد الأولى للاقتصاد، وتدين بالآداب السماوية المثلى للاجتماع، وتشرق أعمالها في الصفحات العظمى من التاريخ، فمن المحال أن تظل نهباً مقسماً بين فرنسا الحمقاء، وإنجلترة المتطفلة، وهولندة الأنثى!

أحمد حسن الزيات

ص: 2

‌رحلة إلى الهند

للدكتور عبد الوهاب عزام بك

عميد كلية الآداب

- 1 -

كان السفر إلى الهند أمنية تطاول عليها الزمان، وما طلت بها الأيام. وكدت أظفر بها سنة 1939م، إذ ندبتني جامعة فؤاد لتمثيلها في مؤتمر للمستشرقين كان يقدر أن يجتمع في حيدر آباد صيف ذلك العام، ولكن الحرب العاتية التي ثارت حالت دون الأمنية.

وكان شوقي إلى الهند يزداد كلما زادت معرفتي بها، والتقائي بأهلها، واطلاعي على لغاتها وآدابها.

فلما دعت الجامعة الملية الإسلامية إلى احتفال لها في دلهي وجاءت الدعوة إلى جامعة فؤاد، كما بلغتني دعوة خاصة، وجدتها فرصة تغتنم، لولا أن الوقت كان قد ضاق عن التأهب لمثل هذه الرحلة. فاعتذرت جامعة فؤاد.

ثم جاءت الدعوة إلى مؤتمر العلاقات الآسيوية، وانتهى الأمر إلى أن ندبتني الحكومة لشهود المؤتمر رقيباً. وكان هذا الندب قبيل الموعد الذي ضرب للسفر على غير اختيار، وإنما حددته مواعيد الطائرات. فلبيت على بعد الشقة، وهيبة الطريق، وضيق الوقت، استجابة لما في النفس من تطلع إلى الهند وحرص على زيارتها.

- 2 -

ذهبنا إلى مطار ألماظة والساعة واحدة بعد ظهر يوم الثلاثاء الثامن عشر من آذار (مارس) سنة 1947 آخذين أهبتنا للسفر على إحدى طائرات الشركة الإنجليزية. فأخبرنا، بعد أن حان الموعد، أن الرياح غير ملائمة، وأن السفر أرجئ إلى صباح الغد، وجعلت الساعة الخامسة موعداً لرجوعنا إلى المطار.

وأخذنا مكاننا في الطائرة والساعة خمس ونصف، وأغلق الباب ومر بنا أحد ضباط الطائرة يقول: احزموا أوساطكم، وأشار إلى أحزمة مثبتة على المقاعد.

قلت: إن هذا أوان الحزم. وتوقعت أن تميد الطائرة في سيرها ميداناً لا يثبت فيه على

ص: 3

مكانه إلا من احتزم، فجاشت نفسي وجرت الطائرة على الأرض فوقفت فسارت فاستقلت صاعدة، وفي النفس ملؤها هيبة وإعجاباً. ومر علينا الضابط مشيراً أن نحل الأحزمة، فعرفت أن هذا الحزم احتياط حين صعود الطائرة فحسب، فسرى عن نفسي.

وتأملت الطريق بعد حين، فإذا ببيداء متشابهة لا ترى العين من معالمها إلا قليلاً، وتوالت مناظر متقاربة، وأشباح متشاكلة. وكرت ساعات بين التفكر والنظر إلى الأرض وكتابة بعض الخاطرات، حتى اختلف المنظر قليلاً، ولاحت حفرة ضيقة ثم اتسعت، وبدأ عمران وأبنية، فظننت أنها قرية في الصحراء، وشرعت أفكر ما عسى أن تكون هذه القرية الصحراوية! فقطع علي الفكر قناة ماء طويلة متعرجة عرضها في رأى العين خطوة واحدة، فعجبت من هذه القناة أيضاً! ولم أملك أن سألت رفيقاً أمامي: ما تظن هذه؟ قال: أظنها الفرات، وما فكرت أنا في الفرات لتوهمي أنا منه جد بعيدين، وما قدرت أن الطائرة طوت ما بين النيل والفرات في أقل من أربع ساعات. فرحت بالفرات وأخذت أتأمل قراه وزروعه، وهجمت الطائر على ماء وسيع تختلف على المسير أشكاله ومناظره، فعرفت أنه البطائح التي تسمى في العراق اليوم (الأهوار)، وما قدرت من قبل أن هذه (الأهوار) تمتد هذه المسافات الشاسعة وتساير الطائرة قريباً من نصف ساعة.

شغلتني الأهوار بألوانها وأعشابها وقصبها، وما يبدو للعين خافتاً من جزرها ودورها، حتى حومت الطائرة هابطة، حتى استقرت على أرض البصرة، وكانت الساعة عشراً بحساب مصر وإحدى عشرة بتوقيت العراق. ليس بين القاهرة والبصرة في سرعة الطائرات إلا أربع ساعات! إنها لإحدى الكبر!

اطمأنت نفوسنا بالقرار على الأرض ساعة تغدينا فيها، ثم استأنفنا الطيران صوب كرتشى، والمسافة بينهما نحو ألف وأربعمائة ميل. وقد توجهت الطائرة إلى الجنوب الشرقي على طريقها المعتاد، وبعد برهة أطلعنا ضابط على الخريطة كدأب ضباط الطائرات مع مسافريها، وأخبرنا أنا نجتاز الآن الرأس البارز في الخليج الفارسي شرقي جزيرة العرب.

قلت: كيف وليس هذا طريقنا المخطوط على الخريطة؟ قال: الرياح غير ملائمة هناك، فعدلنا إلى هذا الطريق.

ورأيت صخوراً عاتية موحشة اجتزناها، فسايرنا الساحل حيناً، ثم عبرنا الخليج، فسايرنا

ص: 4

أكثر الوقت ساحل إيران المشرف على المحيط الهندي، وهو ساحل ضيق تشرف عليه جبال عالية تفصل بينه وبين سائر الأرض. ولهذا لم يألف الإيرانيون البحر، ولا مرنوا على ركوبه، فلم يكونوا في تاريخهم من أمم البحار، المولعين بالأسفار فيها.

والساحل متشابه، لم أتبين من معالمه إلا آثار سيول أو أنهار متمعجة تسيل من الجبال إلى البحر.

وما زلنا بين تأمل في الأرض التي نطير فوقها، والجبال التي نحاذيها ونساميها ونعلوها، والبحر الذي نسايره حتى ستر الليل المشاهد إلا أشباحاً خفية. فكان مسرح الطرف بين الظلام الذي نعلوه، وبصيص الكواكب التي تعلونا.

ولاحت كرتشى في ظلام الليل في أضوائها منتشرة على البر والبحر، فكانت منظراً عجيباً مؤنساً في هذا السفر الموحش، وبشرى بالوصول منيرة في العين والقلب، ورأيت على مقربة من الساحل جبلاً في البحر عالياً عليه منارات ومصابيح زاد في جلال المرأى وجماله.

ودومت الطائرة كثيراً حتى توهمت أنها لا تهتدي إلى مهبطها، ثم أسفت حتى لمست الأرض وزافت حتى استقرت عليها.

ولله ما أجمل أن يحس الراكب وقع عجلاتها على الأرض بعد أن انقطعت بينه وبين الأرض الأسباب، وتداولته الرياح ساعات طويلة. وكانت الساعة ستاً بتوقيت البصرة، وثمانياً ونصفاً بتوقيت الهند.

- 3 -

استرحنا ليلتنا في فندق قريب من المطار، وغدونا إلى الطائرة فاستقلت والساعة ثمان وربع تؤم بنا دلهي، فطرنا فوق صحراء السند، وأرض أخرى معمورة لم نر فيها إلا قرى صغيرة يكاد البصر لا يدركها.

وقد وجدت في مذكرتي هذه الجملة:

(نحن الآن على بعد مائة وسبعين ميلاً إلى الجنوب الغربي من دلهي، والارتفاع عن البحر تسعة آلاف قدم، وعن الأرض ثمانية آلاف وخمسمائة، والساعة عشر ونصف، (يا لطيف يا سلام).

ص: 5

ولما قاربنا دلهي، وظننا أن السفرة إنتهت، والمشقة زالت، وشرعنا نعد الأميال والدقائق، أخذت طائرتنا ترجف؛ تهبط فتعلو فلا تستقر في مستوى. وكان هو أول ما عهدت من تدثين الطائرات، فأخذ مني الخوف، وبلغ مني الدوار، وكان أمامي رفيق ركب معنا في كرتشي، فرأيته أغمض عينيه، وأعربت صفرة وجهه عما به. وما زالت طائرتنا تهبط كثيراً، ثم تجهد صاعدة لتبلغ مستواها، فيهبط بها الهواء كرة أخرى، حتى مر بي شاب من خدام الطائرة، فلم أملك أن قلت له: ما هذا؟ قال: يا سيدي نحن هابطون بعد دقائق قليلة. وأشرت إلى أحد الرفقاء سائلاً متململاً فقال: نحن في إقليم جبلي، والهواء حار، ومن هذا كان هذا الاضطراب.

هبطت الطائرة في دلهي بعد أن فعلت بنا ما فعلت، وختمت رحلتنا بما أرهبنا. . .

(للكلام صلة)

عبد الوهاب عزام

ص: 6

‌شعب واحد، وقضية واحدة!

للأستاذ محمود محمد شاكر

يقول العربي الأول:

وحولي من هذا الأنام عصابة

توددها يخفي، وأضغانها تبدو

فما العيش إلا أن تصاحب فتية

طواعن، لا يعنيهم النحس والسعد

إذا عربي لم يكن مثل سيفه

مضاء على الأعداء أنكره الجد

يضارب حتى ما لصارمه قوى

ويطعن حتى ما لذابله جهد

فهذا العربي الذي اكتنفته عصابة شر أخرجت له أضغانها، قد كاد يمثل لنا أمر العرب كلهم في أيام الناس هذه. فما من أمة من الأمم الغربية وأشباهها إلا أحاطت بنا عداوتها من كل جانب، تسر ذلك حيناً وتستعلن به أحياناً كثيرة. وليتها رأت ذلك حسبها من وغر الصدور، بل جاوزت ذلك إلى الاستخفاف بمائة مليون من الناس خلق الله، تنظر إليهم كما ينظر السيد إلى عبده ورقيقه، وتعاملهم كما تعامل المرأة الطاغية أمة جعلها الله تحت يدها، فهي تسومها الخسف كأشد ما يبغي الضعيف حين يستمكن له سلطان وبطش. وقد مضت العبر بأن هؤلاء القوم لا يكادون يفهمون إلا اضطراراً، وبالقهر والغلبة، كما لم يفهم السادة يوم استبدوا أن الرقيق لن يصبروا طويلاً على الذل، حتى جاء اليوم الذي حمل الرقيق على المركب الوعر فثاروا واستنقذوا حريتهم قوة واقتداراً. وكذلك نحن لن نبلغ شيئاً في إفهام أولئك القوم أن عملهم سيئ العاقبة، مهما توسلنا إلى إفهامهم بالدعاية والمناشدة، بل لن نبلغ شيئاً إلا يوم يستوي لدينا بحق معنى الموت ومعنى الحياة الحرة، فضلاً عن معنى الموت ومعنى الحياة الذليلة.

فمن العبث إذن أن ندعو هؤلاء القوم إلى سواء بيننا وبينهم، لأن القوة قد أسكرتهم فأطاشت حلومهم، وتركتهم لا يدركون إلا ذلك المعنى الخسيس للحياة، معنى الفائدة العاجلة بغير نظر إلى عدل ولا نصفة. وهم قوم تقوم حضارتهم على تزييف الشرور حتى تبدو في صورة الخير، وتدليس شريعة الوحش حتى ترى شريعة إنسان أنعم الله عليه بالعقل والعاطفة بينهما موازنة تجلب عليه السعادة في الدارين ومن العبث أن تحتال عليهم بما يسمونه (السياسة)، فالقوي وحده هو الذي يعرف كيف يستفيد من (السياسة) أما الضعيف

ص: 7

فاعتماده على السياسة وبال مستطير الشر، يهدمه ويصرعه، ويمكن لعدوه أن يفترس منه حيث شاء وكيف شاء.

فلا مجاز لنا نحن العرب إلا أن نعرف أنفسنا، وأن ندرك حقيقة حياتنا؛ وأن نؤمن بأن القوي لا ينال منا بقوته بل باستسلامنا، وأنه لا يحيف علينا ببطشه بل بتهاوننا واستصغارنا لشأن أنفسنا؛ وأن أجهل الجهل أن يظن ظان أن مائة مليون من خلق الله يمكن أن يفنوا على بكرة أبيهم بسطوة ساط أو بغي باغ، وأنهم هباء لا يزن في ميزان القوة جناح بعوضة، وأنهم غنم مسيرون يهاهي بهم راع عنيف تسوقهم عصاه إلى حيث أراد. نعم لا معدي اليوم لكل عربي من أن يحس في قلبه مؤمناً بما يحس، أنه خلق لعصيان أمر الرعاة الطغاة، وأنه مأمور من عند من خلقه أن يثبت في مكانه لا يطيع عصا الراعي ولا زمجرته ولا زئيره ولا إرهابه، وأنه مكلف يحمل أمانة من لدن دبت على الأرض قدم عربية، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها من عجم ومن عرب.

فالعربي اليوم هو أعظم الناس حملاً للتكليف، لأنه يحمل وزر ما هو فيه من ضعف ينبغي أن ينفض عن نفسه آصاره، ويحمل حق أجيال مقبلة توجب عليه أن يعمل ويمهد لها في هذه الأرض، ويحمل أيضاً أمانة آباء وأجاد وأسلاف مهدوا له هذه الدنيا التي يسكنها من أطراف الهند إلى أقصى مراكش، ومن حدود تركيا إلى أقصى السودان. هذا، وهو يعيش في عالم عدو له قد قبض على زمام الكون، واستولى على عناصر القوة، ونال أسباب السماء وأطاعته نواحي الأرض. فأي تكليف أشق من التكليف الذي يحمله هذا النبيل المسكين الذي يعيش في الدنيا مشرداً مضطهداً مجهولاً مهضوم الحق مرمياً بملفقات العيوب؟

وأول ما يجب على هذا العربي منذ اليوم أن يضع بين يديه صورة أرضه التي توارثها عن آبائه بالحق الذي لا ينازعه فيه منازع إلا مستطيلاً أو مهتجماً: أرض تبلغ مساحتها مساحة قارتين من قارات الدنيا، ثم يقول لنفسه: هل يستطيع أحد أن يبيدني ويبيد أهلي وعشيرتي ويستأثر بهذه الأرض يفلحها أو يعمرها أو يقيم فيها للإنسانية حضارة أو دولة؟ وهل يستطيع أحد أن يقسرني قسراً على ما لا أريد أن أفعله مما يجب هو أن يتم له؟ وهل يستطيع أحد أن يأخذ قلبي من بين جنبي ليصرفه في هواه كما يشتهي أو يريد؟ وجواب

ص: 8

ذلك كله (كلا!) ولا ريب. ففيم إذن أخدم نفسي لمن لا يريد إلا إذلالي، والفت في عضدي، وأكل أرضي وما أنبتت من نبات وحيوان وإنسان؟

فهذا شأن الفرد الواحد، فما ظنك إذن بمائة مليون يكونون على قلب هذا الفرد الواحد، يداً واحدة، ورأياً واحداً، وعملاً واحداً، وإصراراً على أن لا ينازعنا أحد في حق نحن أصحابه وحماته والمكلفون بحياطته ورد العادية عنه؟ فإذا آمن العربي بهذه العقيدة التي لا مناص له عن الإيمان بها، فهل يدور في وهمك أن أحداً يجرؤ على غصب العرب على ما لا يريدون، أو حملهم على شيء يصرون إصراراً على أن لا يقبلوه؟

إن قضية العرب قضية واضحة بينة المعالم: هي إننا لا نريد إلا أن تكون بلادنا جميعاً مستقلة حرة، لا يحتل عراقها جندي واحد، ولا تخضع جزيرتها لسلطان ملوك البترول، ولا ينال نيلها من منبعه إلى مصبه سلطان بريطاني أو غير بريطاني، ولا تقع شامها ولبنانها تحت سطوة غاصب، ولا يعيث في أرجاء مغربها فرنسي خبيث القول والفعل مجنون الإرادة. وهذا كله شيء لا يملك كائن من كان أن يجبرنا على خلافه أو على الرضى به.

ونحن العرب قد أصبحنا دولاً لكل دولة منا سياسة يخشى أن تكون ناظر إلى استجلاب منفعة خاصة ببلد دون بلد، ويخشى أن تكون كلمتنا في قضية العرب لا تزال محصورة في دائرة أصحاب الأقلام دون أصحاب الحكم والسلطان، ويخشى أن تكون أعمالنا مفرقة لا تجتمع إلى نهاية واحدة في وقت واحد. وإذن فلابد منذ اليوم أن نسن لأنفسنا سياسة جديدة في كل شأن من شئون العرب، تجتمع بها كلمتنا وأهدافنا وأعمالنا حتى تبلغ الغاية جملة واحدة، ويداً واحدة وفي وقت واحد. وينبغي أن لا نرضى منذ اليوم أن تفرق قضية العرب وتجعلها قضايا ممزقة: هذه قضية مصر والسودان، وتلك قضية فلسطين، والأخرى قضية طرابلس وبرقة، والرابعة قضية تونس، والخامسة قضية الجزائر، والسادسة قضية مراكش، والسابعة قضية العراق. . . بل إن هذه القضايا كلها قضية واحدة لا تنفك منها واحدة عن أختها أبداً.

والعمل لهذه القضية الواحدة ينتظم أفراد العرب، من ملوك إلى وزراء إلى ساسة إلى أصحاب الأعمال إلى جماعات المثقفين إلى عامة الناس، ويحمل عبئها كتاب العربية لأنهم

ص: 9

هم اللسان الناطق بما يعتلج في صدور هذه الفئات كلها، وهم المسددون لخطوات الشعب، وهم بناة المبادئ والمدافعون عنها والداعون إليها، وهم الذي يحملون الحكومات العربية على انتهاج خطة واحدة، وعلى الإيمان بمبدأ واحد، وعلى الوقوف في ساعة العسرة موقفاً لا ترتد عنه قيد أنملة لإيمانها بأن العرب قوة لا تلين لغامز، وبأنهم أهل أرض تقع في قلب العالم لا يطيق معتد أن ينال منها نيلاً، إذا ثبتت له كعادة آبائهم وأجدادهم في الدفاع عن الحوزة والحمى.

ونحن العرب نجهل اليوم أننا قوة كأقوى ما في هذه الأرض، يجهل ذلك أفرادنا متفرقين. وتجهله حكومتنا موزعة الأهواء والأهداف، ويجهله ساستنا بما كتب الله عليهم من محنة هذه السياسة. فنحن اليوم أحوج ما كنا وما نكون إلى معرفة حقيقة هذه القوة، وإلى إدراك ما تقتضيه هذه القوة أيضاً. فالرجل الذي يعرف أنه قوي ينبغي أن يجعل قوته عملاً ظاهراً لا يرتد مخافة إرهاب أو نكبة أو شر يلاقيه. فإذا شاء رجال العرب وأماثلهم أن يصبحوا في تاريخ العرب مجداً لا يتكسف ضوؤه أبد الآبدين، فليستلهموا تاريخ أسلافهم الذين خرجوا من أرضهم وديارهم شعثاً غبراً جياعاً، ولكنهم خرجوا أيضاً مؤمنين بأن كلمة الله هي العليا، وأن حقهم وإن قل ناصره، أقوى من باطل سواهم وإن كثر أعوانه والعاملون له وعليهم أن يزأروا زئير الأسد في غابه، حتى يستيقظ النائم، ويتأهب الأعزل، ويجتمع المتفرق، وعليهم أن يحاصروا عدوهم بالمدافعة عن حقهم، قبل أن يحاصرهم بالتهجم على حقوقهم. وعليهم أن يعلموا علم اليقين أن العربي حين يمد يده إلى سيفه، فهو يمدها إلى قوة زاخرة لا تزال تنحدر إليه منذ آلاف السنين بمدد لا ينضب من العزة والشرف والمجد الذي تناله يد المتطاول.

إننا قوة لن يتجاهلها أحد مهما بلغت قوته إلا كنا شجي في حلقه، لا مجازاً وبلاغة، بل هي الحقيقة المجردة عن كل مبالغة إننا قوة سوف تجبر بريطانيا وروسيا وأمريكا وسائر أمم الغرب على أن تعرف أن العرب، قد أفاقوا في العصر، وأنهم قد عزموا على أن ينالوا حقهم أو أن ينتزعوه انتزاعاً من كل من تسول له نفسه أن يهتضم حقوق الناس ويأكل أموالهم ويعيث في بلادهم فساداً وطغياناً وشراً. إننا نحن العرب أمة واحدة في دولة متعددة، وسنكون أمة واحدة تحمي حقوق الضعفاء من أي الناس كانوا. إننا نحن العرب أمة

ص: 10

قوية وإن ظن الناس بنا الضعف، ونحن أصحاب هذه الرقعة من الأرض، سوف تكون خالصة لنا دون الناس لا تشاركنا فيها دولة بريطانية؛ أو دولة صهيونية أو دولة فرنسية.

وعن قريب سوف تقول حكومات العرب كلمتها، وسوف يجتمع رأينا على أننا لن نرضى بأن نجعل قضيتنا أجزاء يتلعب بها هذا ويلهو بها ذلك، إنها قضية واحدة، يرفعها شعب واحد، مطالباً بحق واحد، هو إننا أحرار في بلادنا.

محمود محمد شاكر

ص: 11

‌تحية البطلين

للأستاذ على الطنطاوي

إلى البطلين العربيين اللذين أعلما أهل الأرض أن في الوجود شيئاً أقوى من الحديد، وأمضى من السيف، وأحمى من النار وأنكى من القنبلة الذرية، هو الإيمان.

اللذين تخلفا عن بدر والقادسية واليرموك ليطلعا في الغوطة ونابلس والريف، فيكتبا بالدم على جبهة الثرى، أن العزيز لا يذل وسليل من حكموا الدنيا لا يحكمه في بلاده أجنبي ولا غاصب.

اللذين أثبتا للعالمين أن العرب الذين سادوا في أول الدهر سيسودون في آخره.

إلى القائدين العبقريين: عبد الكريم الخطابي وفوزي القاوقجي

تقدي الأدب للبطول، وتحية القلم للحسام

أما عبد الكريم فلم أره ولا أحب أن أراه لتبقى له في نفسي هذه الصورة العلوية الخالدة، لا تفسدها معالم اللحم والدم في الإنسان الذي يأكل كما يأكل الناس ويشرب، ويرضى ويغضب ويجد ويلعب، وليكون اسمه أبداً في ذاكرتي مع أسماء العباقرة الخالدين، القادة السادة الهداة، خالد وعمرو وقتيبة وابن القاسم وابن نافع وطارق، الذين أفاضوا على الحرب الحق والرفق فجعلوها مقدسة مشروعة، وأثاروها لله لا للكسب، وللخير لا للشر، فاستولدوها الحياة والحضارة والسلام، وما كانت تلد إلا الموت والخراب والانتقام.

وأما فوزي فقد عرفته في بغداد، قبل أن تعرف بغداد بطولته ويشهد العراق عبقريته. فكنت أزوره في داره في الكرادة أنا وأنور العطار ويزورنا في مثوانا في الفندق، وأضرب معه في آفاق الأحاديث، وأراه مسترسلا على سجيته، منطلقاً مع طبيعته، وأتحرى خلائقه، وأتقرى سلائقه، فأراه يعلو في نظري إن طالما نزلت الخلطة بالرجال، ويكبر إن صغرتهم، وأنا أشهد أني لم ألق في عمري من (الرجال)، وقد قاربت الأربعين، وقد سكنت الشام والعراق ومصر والحجاز إلا (رجالاً) لا يشغل عدهم أصابع اليدين وأشهد أن من أكملهم رجولة، وأفتاهم فتوة، وأظهرهم قوة، في جسمه وعقله وقلبه وضميره: فوزي القاوقجي.

عظيمان جهلاً نفسيهما، فحسبا أنهما اثنان من الناس خلقاً ليعيشا كما يعيش الناس ويموتا

ص: 12

كما يموتون، لا تحتفل بمولدهما الدنيا ولا تضطرب لموتهما الأرض، ولا يحس بهما التاريخ، وتلفتا يفتشان عن مهنة يعيشان منها فوجدا في قلبهما الميل إلى الجندية لأنها مهنة البذل والبطولة والنبل وخوارق العادات، ولكنهما لم يجدا في أمتهما الجيش العربي، فتطوعا لخدمة الجيش الأجنبي. . . وتحركت العظمة الفطرية فيهما فكانا ضابطين نابغين، ولكنها ظلت حبيسة في سجن الوظيفة، مقيدة بقيد القانون، حتى جاء اليوم المقدور، فنقبت السجن، وحطمت القيد، وانطلقت تملأ الأرض، وتترع الزمان.

أخوان ائتلفا ولم يتعارفا، وتكلما وما كان بينهما كلام، وتواعدا وبينهما بحر العرب بعرضه، على أن يلتقيا في مصر، فجاءاها بعد ما زرعا طريقيهما إليها مفاخر للعرب وأمجاداً، وبعدما حارب هذا بشعب أعزل، وقبائل بدوية، دولتين عظيمتين: فرنسا وأسبانيا حشدتا له مائتين وخمسين ألفاً، ونازلهما فأنزل بهما الهزائم وجرعهما شراب الموت، وقارع ذلك دولتين عظيمتين: إنكلترا وفرنسا وفل جيوشهما في الشام وفلسطين والعراق. وبعدما أثبتا للدنيا أن العربي لا يستعبد ولا يهون.

لقد عاد فوزي إلى وطنه سورية على رغم فرنسا، فلما لم ير فيها مستشاراً في دائرة وكانت الدائرة هي المستشار، ولا شاهد قلعة فرنسية على رابية، ولا داراً فرنسية في شارع، ولا لوحة فرنسية على متجر، بكى فرحاً، بكى (الرجل) الذي لم يبك وهو بين شقي الرحى التي تديرها يد الموت. واستقر عبد الكريم في مصر على رغم فرنسا، فلما رأى الملك العربي، والجامعة العربية، والشعب العربي، بكى فرحاً، بكى (الرجل) الذي لم تبكه خمس وعشرون سنة في منفى سحيق وضعته فيه فرنسا التي أقسمت له بشرفها أنها لن تأسره. . . فلما تمكنت منه كان وفاؤها له، على مقدار شرفها. . .

لقد شهد الرجلان مئات المعارك، وحملا مئات الجروح، ولقيا مئات الشدائد، وهاهو ذا فوزي يفتش عن ميدان جديد للجهاد، وعبد الكريم يستجم ليعود إلى النضال. . . وكذلك نكون الرجال.

لم يرض فوزي أن يكون كهؤلاء الذين جنوا على الجهاد لما تسموا كذباً بـ (المجاهدين). . . وما جاهدوا ولكن قتلوا الثورة، وفرقوا أهلها، وسرقوا أموالها، وعادوا اليوم يأكلون ويشربون، وينعمون ويتمتعون باسم الجهاد الذي لم يكونوا من أهله - فعاف المناصب

ص: 13

والمراتب، وعزف عن الأموال، وآثر أن يبقى كما كان مجاهداً حقاً، لا يلقي سلاحه، ولا يغمد سيفه، حتى لا يبقى في الوطن الأكبر شبر واحد يحتله مستعمر - وكذلك تكون الرجال.

هذان هما القائدان البطلان، فتقدما يا أيها البطلان القائدان فهذا هو الجند معداً، وهذا هو الجيش لا ينقصه إلا القائد. . .

هذا الشعب كله جيش معد، ولا يمل الجهاد، ولا يضن بالضحايا، ولا يعرف الونى، ولا يدركه الكلال، فادعواه باسم الوطن، باسم الأرض، باسم العرض، باسم الدين، وانظرا كيف يلبي هذا الشعب الدعاء. . .

هذا الشعب لا أعني (كباره. . .) الذين فتنتهم المناصب، ولا تجاره الذين تعبدتهم المكاسب، ولا فساقه الذين عاشوا لتقليد الأجانب في البلايا والمصائب، وكانوا في جسم أمتهم حيات وعقارب، ولكن أعني الشباب. . .

إن الشباب هم أرباب المثل العليا، هم الأطهار، هم بناة الوطن هم الذين إذا جد الجد سدوا آذانهم عن أصوات المفرقين الهدامين فلم يكن فيهم من حزبيين، يتقاتلون ليخسر الوطن ويربح الزعماء ولكن عرباً مجاهدين، كارهين للاستعمار والمستعمرين، ثائرين على الظلم والظالمين. . .

أولئك الشباب الذين تعلموا منكما أيها البطلان كيف يتخذون قضية فلسطين والمغرب عقيدة ويجعلونها لهم ديناً، لا يرون لمن يقر الاستعمار في بلاده وهو يقدر على دفعه إيماناً، ولو صلى وصام وحج وزكى، لأن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين.

لقد أقسم هؤلاء الشباب ليبذلن الدماء والمهج، وقاموا للنضال، ولكنهم افتقدا القائد فقعدوا. فتقدما للقيادة يا أيها البدلان يا بطل المشرق ويا بطل المغرب.

وأعلما أنكما حاربتما عدواً قوياً، بأمة كانت غافلة، وقد ضعف اليوم العدو، وتيقظ الغافلون، فحاربا مرةً ثانية وثالثة وتاسعة وعاشرة، حاربا إذا لم تعطيا الحق كاملاً فما في الدنيا شريف يزدري الحرب في سبيل الحق والحرية والشرف، وقد حارب الفرنسيون لما وطئت بلادهم، وإن كانوا في الحرب نعاما تحسن الفر لا أسوداً تجيد السكر، وحارب الإنكليز، وحارب الأمريكيون، وحاربت قبائل البوير، وحارب أهل الحبشة، وحارب هنود أميركا

ص: 14

يوم دخلوها عليهم. . . وحاربت كل أمة على ظهر الأرض. وكانت هذه الحرب المقدسة خلقاً في طبع كل أبي شريف لا يكون من يفقده أبياً ولا شريفاً، لا يكون إلا كلباً، بل إن الكلب يحارب دون وجاره، وكل حيوان حي يدافع عن ذماره، حتى الخنزير البري. . . فهل يريد أنصار المفاوضات والمحادثات أن نكون أقل من الخنازير؟

كلا، وأنف الكاره في الرغام. كلا، ولكن أكرم من كل كريم، وأعز من كل عزيز، وأسمى من كل بشر أظلته السماء وحملته الغبراء. وإلا فما نحن لأولئك الأجداد، ولا نحن لرمال الجزيرة، ولا نحن لمن حملوا نشيد (الله أكبر) ومشوا حتى صكوا به سمع الزمان، وراعوا به جن الفلا، وملأ وأبه كل سهل وجبل حتى دانت لهم الأرض ومن عليها، ولا نحن لمحمد.

كلا، نحن سلائل الفاتحين، في عروقنا دماؤهم، وفي صدورنا قلوبهم، ولنا عزتهم، ولئن فقدنا السلاح فما فقدنا العقل الذي يصنعه، ولا اليد التي تشحذه، على إنه إذا أعوزنا السلاح أخذناه من يد عدونا وجالدناهم به. وكذلك فعلنا.

لن نهاب بعد اليوم غريباً، ولن نثق به أبداً.

لقد مات العهد الذي كنا نخاف فيه أن يغضب صعلوك من المنتسبين إلى فرنسا فتغضب الامتيازات.

لقد قضى العهد الذي كنا نرى فيه فرنسا وأخواتها أمم الحرية والديمقراطية والمدنية وحقوق الإنسان.

لقد أبدت الحقائق وجوهها التي كانت مبرقعة ورآها الناس كلهم إلا هؤلاء العميان الذي طمست أبصارهم وبصائرهم المدارس الفرنسية في الصغر، والمواخير الفرنسية في الكبر، وهم بحمد الله أقل من القليل.

لقد رأى الناس فرنسا على حقيقتها أمة همجية تمنع الخبز عن الجائعين ليموتوا جوعاً، وإنكلترا تنصر الصهيونيين على الفلسطينيين والهولنديين على الجاويين، وأمريكا تقول لصاحب البيت، أخرج ليدخل اللص ويأخذ دارك. ولكن خسأ اللص وخسأ من ينصره

إن دون الحمى آساداً.

أنتهم أيها الأميركيون لا تدركون ما هي قوانا لأنكم لا تعرفون إلا المادة. إنكم لم تسمعوا

ص: 15

بأخبار الفتوح الأولى في الشام والعراق ومصر والأندلس، ولا بأخبار الفتوح الآخرة في الغوطة والرميثة وجبل النار وريف المغرب، فاسألوا عنها فارس والروم وإسبانيا وفرنسا وإنكلترا. . .

إنكم تحسبون قضية فلسطين كقضية سرقة في شيكاغو تدخلون بالرشاشات فتنبهون المخزن. . .

كلا، والحي القيوم، لن تكون لليهود دولة في فلسطين ولن يكون للفرنسيين اتحاد مع المغرب، حتى لا يبقى في هذه البلاد كلها حي يمشى. لن يأخذوها حتى يروا ويرى من يعينهم يوماً يذهل له كتاب التاريخ، ويصيبهم من هوله الجنون. يوماً لا ترون فيه تاجراً في دكانه، ولا موظفاً في ديوانه، ولا تلميذاً أو مدرساً في مدرسته، ولا قاضياً في محكمته، ولا امرأة في دارها. وإنما ترونهم يسيرون إليكم جميعاً يقاتلونكم إن عجزوا عن السلاح بأيديهم، وصدورهم، ويستنزلون غضب الله عليكم، فأبيدوهم يومئذ بقنابلكم الذرية، إذا محيت الإنسانية من الأرض، واستبيح قتل الشعوب، وإذن فستنبت الأرض التي تسقيها دماؤهم أمة جديدة تقاتلكم دون أرضها وحماها.

ويلكم إن الله في الوجود، ما استقال ولا أحيل على المعاش؛ وإننا مع الله نستعينه عليكم، والله أكبر منكم، هذا نشيدنا الذي يهون علينا كل خطر، ويصغر كل عدو مهما تكبر: الله أكبر.

لقد علمنا ديننا أن نستوهب الحياة بطلب الموت، وحبب إلينا نبينا الشهادة. نلحقها إذا هربت منا، ونفتش عنها إذا ضلت عنا. فيما ذا تخيفون أمة تريد الموت؟

نحن نريد الموت ونسعى إليه، قد أعددنا الجيش للجهاد. وهيأنا القوى للجلاد، فتقدما يا أيها البطلان القائدان، تقدما فاقتحما النار، وخوضا البحار، فإننا معكما لن نرجع ولن نلقي السلاح ولن ندع الجهاد، حتى لا يبقى في دنيا الإسلام، وأرض العرب، علم لأجنبي، أو حكم لمستعمر، والله معنا. والله أكبر!

علي الطنطاوي

القسم الخامس:

ص: 16

‌فرنسا ومستعمراتها

ما بين الاتحادين الفرنسي والسوفيتي

للأستاذ أحمد رمزي بك

ما كنت أعتقد حينما كتبت الكلمة الثالثة عن الاستعمار الفرنسي والتي أشرت فيها إلى ثلاث هيئات اتحادية تقف أمام الأمم الإسلامية وحريتها أن تبرز المتناقضات بهذه السرعة، فقد وضعت الاتحاد الهندوكي بجوار الاتحاد الفرنسي والاتحاد السوفيتي وقلت عنها إن كلاً منها يعطي لنفسه مظهر حركة تقدمية يصبغها بصبغة التحرر ويريد أن يقنع الضمير العالي أن الاتحاد هو وليد إرادة شعبية، وأنه في مصلحة الأمم والشعوب الداخلة فيه، ويعلم القائمون بأمر كل منها أن هذا بعيد عن الحقيقة بعداً تاماً، ولذلك سيكون كفاح الأمم الإسلامية في طريق الاستقلال التخلص من هذه السيطرة الاتحادية المفروضة عليهم شديداً في الهند والمغرب، قاسياً جداً في أواسط آسيا: ولكني مؤمن وواثق بأنهم سيتغلبون لا لأن الحق معهم وكفى، بل لأن قوانين الكون الملازمة لطبيعة الأشياء وتجارب التاريخ معهم، وستذهب قوات الطغيان التي تستعبد المسلمين أو تحاول ذلك هباء منثوراً وتندك صروح بنيت على تضليل الناس.

ومن قبيل هذه الثورة القائمة علينا، البرقية التي جاءت بأن البنديت نهر ويحذر الأمم العربية ويقول (إننا لن نعترف باستقلال أية دولة تقام في الهند، وسنعتبر الاعتراف من أية دولة أجنبية بهذا الاستقلال عملاً لا ينطوي على الصداقة).

وفي بعض ما ورد بالجرائد المصرية مقال عنوانه (الباكستان خير أم شر) ويقول بأن استقلال المسلمين في الهند يتعارض مع العالمية التي هي من مظاهر الكون. ونحن لا نعارض هذه العالمية ولكننا نفرض استقلال البلاد الإسلامية كشرط أساسي للتعاون والإقليمي ثم التعاون العالمي وإلا تعرض الجماعات الإسلامية للزوال وضاعت شخصيتها وأنهد كيانها.

وأعود إلى فرنسا وإمبراطوريتها، وما تنويه من فرض الاتحاد والإدماج على شعوب العروبة والإسلام، بعد أن رأينا رجال فكر يسبقون التاريخ في هذه الناحية، ويرسمون خطط السيطرة والغلبة، فقد ذكرنا فيما تقدم إشارة عن مؤتمر برازافيل الاستعماري الذي

ص: 18

عقد بإفريقيا عام 1944. وجمع أساطين الاستعمار ودهاته واستعرض برامج المستقبل، وأشار بتأكيد سياسة الاتحاد بين فرنسا وما تملكه من الأراضي الواسعة في إفريقيا وآسيا وصهرها في كتلة واحدة.

ويهمنا أن نتتبع المسائل العامة التي دارت المناقشات حولها فقد برزت هناك فكرتان: فكرة التعاون، وفكرة الإدماج، ولكل من الفكرتين أنصار وخصوم.

ومعنى التعاون إعطاء الأمم أو الأقاليم شيئاً من الحرية والحكم الذاتي بالتدريج، ثم دعوتها إلى التعاون مع الدولة صاحبة السيادة في نطاق اقتصادي كما هو الحال في بعض المستعمرات البريطانية. ومعنى الإدماج أن تفرض على الشعوب المحكومة أنواع من الإرهاب والترغيب تنتهي إلى إيجاد شعور يقول بأن مصلحة المجموع أن يندمج مع الأمة الحاكمة في جنسية واحدة.

ويقول خصوم التعاون إنه في النهاية يؤدي مع الزمن إلى حياة الدومنيون الاستقلالية، وهذا لا يتفق مع المنطق الفرنسي الذي يميل إلى المركزية ولا يسلم بتوزيع السلطات، وفي النهاية يعرض الكيان الإمبراطوري إلى الانهيار.

ويقول منتقدو الإدماج، إذا سرنا خطوات كبيرة في سبيل ذلك وتلكم خمسون مليوناً لغتنا وأخذوا بثقافتنا ودخلوا مجالسنا النيابية وحصلوا على حقوق المواطنين وضعنا مستقبلنا بين أيدي ناخبين أجانب من شعوب ملونة منحطة، وقد تغمرنا موجات فكرية وثورية لا نقدر على كبحها، أو قد تتحالف هذه العناصر مع عوامل الهدم الفرنسية وتعمل مع أحزاب اليسار لتفرض إرادتها؛ حينئذ يفلت الزمام من الأيدي الفرنسية الرشيدة العاقلة وتعرض حياة الأمة إلى أخطار جسيمة.

خرج مؤتمر برازافيل إلى الأخذ بحل وسط يجمع بين التعاون والإدماج: فسياسة التعليم بنيت على إدماج الشعوب في الثقافة الفرنسية، إذن يجب أن تشتد هذه السياسة التعليمية أن يكون هدفها إضعاف اللغات القومية وخصوصاً اللغة العربية. وفي المستعمرات الإفريقية تقرر منع التبشير باللغات القومية وجعل تدريس قواعد الدين الكاثوليكي باللغة الفرنسية.

ولن أطيل على القارئ سرد بقية القرارات فهي مطبوعة إذ ماذا يهمنا من أمر البلديات وطريقة انتخاب المجالس العامة بالمستعمرات وزيادة سلطة الحكام والتصديق على

ص: 19

الميزانيات والقروض، ما دامت السيطرة المركزية لوزير المستعمرات قائمة ومادامت سياسة المؤتمر ترمي إلى تأكيد السيادة الفرنسية وتثبيت الرأي النهائي للجاليات الأوروبية في مستقبل المستعمرة، وجعل الكلمة العليا للكولون الفرنسي باعتباره ممثلاً للأمة الحاكمة صاحبة الأمر والنهي والسيادة.

فالسياسة التعليمية اتجهت إدماجياً مسترشدة بالنظم الروسية التي تستعين بالمدرسة على إخراج جيل من الناس يؤمن بالثورة وتعاليمها، كذلك المعلم الفرنسي من واجبه أن يفرض لغته ليخرج طائفة تفكر فرنسياً وتنطق بلسان فرنسي وتؤمن بعظمة وأهمية الحصول على الجنسية الفرنسية والافتخار بأن الفرد الأسود هو فرنسي أسود، وأن اللون لا يمنع أنه من سلالة الغاليين سكان فرنسا الأصليين وهذا نهاية ما يصل إليه الغرور الاستعماري.

ولكن سياسة الإدماج تواجه الشعوب الإسلامية، والإسلام والعروبة في عالم الاستعمار وباء يصعب مواجهته، ويستعصي التخلص منه، فهو راسخ في عقول ملايين من الناس وهو كالنار تحت الرماد، وقد أمضى الاستعمار مع الإسلام عشرات السنين وكلما خيل إلى المستعمرين أنهم فضوا مشاكله وقضوا عليه، برزت لهم الأدلة على أنهم ما زالوا بعيدين عن زمن القضاء على حيويته، وأنهم على ما أوتوا من قوة البطش وسعة السلطان، أعجز من أن يكسبوا أمامه المعركة النهائية والقول الفصل.

من هنا فكرت فرنسا في إيجاد مركز دائم للشؤون الإسلامية بمدينة الجزائر وأطلقت على هذه الإدارة: وزاة تنسيق الشئون الإسلامية. ولنلاحظ إن الاصطلاح الفرنسي يعتبر المسلمين كطائفة مهما كان عددهم كبيراً أي أن هؤلاء الناس لا يكونون أمة من الأمم وليس لهم وطن ولا رابطة مع الأرض التي يعيشون عليها: فهم رعايانا المسلمون، وهم مسلمون وكفى، وهذا رأيهم وهو خطير في نظري.

وتولى هذا المنصب في الجزائر صديقنا الجنرال كاترو وهو الذي عرفناه في سوريا ولبنان مندوباً سامياً، ولمسنا في شخصه اجتماع القائد والسياسي معاً، وبرهن على أنه صاحب عزيمة ودهاء وفكر ومقدرة، وهو يتظاهر بأن صديق للإسلام والمسلمين وأنه يعطف على أمانيهم المشروعة ويدفع الظلم عنهم، ويمثل في الوقت الحاضر فرنسا بموسكو عاصمة السوفيت، قلت دائماً إن رجلاً له مزايا كاترو وإلمامه وفهمه لشؤون الدنيا ودرايته

ص: 20

بمشاكل الاستعمار لا يترك الوقت يمر أمامه من غير أن يشغله ببحث شؤون الإسلام في روسيا. نعم قد يكون اختياره كسفير لبلاده من قبيل الإبعاد السياسي في وقت ترفض العقلية الفرنسية وضع العسكريين في الصف الأول، ولكن لكاترو منزلته ورأيه وشخصيته. وللاتحاد السوفيتي سياسة مرسومة تجاه المسلمين، حقيقة إن الناس قلما يتعرضون لها، ولكن أعين الاستعمار لا تغفل عنها، لأن روسيا في توسعها وانتشار نفوذها واجهت المسلمين كما واجهت فرنسا الإسلام من قبل ومن بعد.

ولكن تجارب روسيا مع المسلمين غير تجارب فرنسا، فالأخيرة تحيا تحت سلطان الحروب الصليبية وتقاليدها إلى اليوم وهي حروب اشترك فيها غيرها من الشعوب وكانت نهايتها محزنة لأن السيوف التي انتصرت هي سيوف المسلمين، ومع هذا تقلب الكتب الفرنسية الحقائق وتجعل من الهزائم الفرنسية مفخرة للشعب ودوافع للعمل والجهاد ضد المسلمين.

أما روسيا فقد عاشت قروناً محكومة بالمسلمين ولاقت منهم شدة وعنتاً، وبين الكنيسة البيزنطية والمسلمين عراك طويل، ولم تبدأ حملات روسيا بجد ضد الأراضي التي يسكنها المسلمون إلا في عهد كاترين الثانية، إذ دخلت أقاليم إسلامية كبيرة تحت حكمها، وكانت أساليب الحكم الروسية سهلة واضحة؛ ذبح المسلمين وتشتيتهم أو تركهم إذا قبلوا الدخول في المسيحية، ولقد دخل ملايين منهم في الجنسية والديانة، ومن بقى محتفظاً بديانته سراً أعلن إسلامه بعد ثورة 1905 و1917.

ولما اتسع ملك الروس في آسيا الوسطى وقفقاسيا أخذوا يفكرون في إيجاد سياسة إسلامية، وأخذوا يقلدون الدول الاستعمارية الغربية، ولكن ثورة البلاشفة قضت على القيصرية وأعلنت حقوق الشعوب وحريتها وسمحت للمسلمين بإقامة شعائرهم الدينية بعد أن كانوا محرومين منها، ثم عادت فأعلنت الحرب على الأديان كلها، وكان من الطبيعي أن يحارب الإسلام كغيره وهو قوة عالمية ثورية شأنه شأن الحركة الشيوعية إذ يحمل كل منهما لواه العالمية، وتنفي فيه القوميات والعنصريات والطائفية. فالشيوعية تحاول التغلب على الإسلام في الجهات التي ساد فيها، ولها أساليبها الخاصة في هذا المضمار، التي جاءت نتيجة للتجارب التي بدأها لينين في سياسة التقارب مع الأمم المغلوبة في 1920 و1922 ثم انتهت إلى تحطيم الجمهوريات الوطنية وفرض الأنظمة الشيوعية والدخول في سياسة

ص: 21

اتحادية تخضع أراضي السوفييت كلها لسلطة موسكو المباشرة.

وكان أن واجه الشيوعيون مشكلة حكم إمبراطورية استعمارية تحت نظام جمهوري اشتراكي وخطوا في السنوات الماضية خطوات جبارة في طريق استغلال واستثمار أراضي البلاد الإسلامية باسم جديد وأنظمة جديدة، وفرنسا من ناحيتها تحكم ملايين من الشعوب الملونة والأمم الإسلامية وتحاول أن تحتفظ بسيادة الجمهورية المركزية على أقاليم شاسعة: فهما تلتقيان في معالجة مشاكل متشابهة تلتقي عند هدف واحد هو المحافظة على وحدة إمبراطورية استعمارية بأي ثمن.

وإذا سرنا في المقارنة من الناحية الداخلية نجد أن فرنسا تحكم بلاداً لها شخصية أو شبه سيادة مثل مراكش وتونس وبعض أقاليم الهند الصينية، ولديها بقاع يحكمها أمراء وسلاطين بإفريقيا، أما الاتحاد السوفيتي فبعد أن حطم ممالك بخارى وخوارزم وحكم الإقطاعيين الذي عاشوا تحت ظلال القيصرية، عاد فأنشأ جمهوريات ذات سيادة إسمية في أذربيجان وتركستان وأزبكستان وتاجيكستان والقرغيز، وأعطى لأقاليم أخرى نظام الحكم الذاتي مثل الداغستان وبشكيريا وغيرها.

وهذه الأقاليم التي عددناها إسلامية وأهلها مسلمون ومعظم أقاليم الإمبراطورية الفرنسية أو أهمها من بلاد الإسلام ويسكنها المسلمون، ولذلك يحلو لرجال فرنسا أو يقولوا عن بلادهم إنها دولة إسلامية كبرى، والسوفييت وإن كانوا لا يفرون بالأديان، فأنهم مع ذلك على اتفاق مع الاستعمار الفرنسي في مواجهة المسألة الإسلامية باعتبارها معضلة تتطلب الحل ولها مشاكلها ومتاعبها ومضاعفاتها ولذلك تحتاج إلى دراسة وبحث، ولهذه سياسة خاصة بها: أي أن للإسلام سياسة مرسومة في كل من روسيا وفرنسا ترمي كل منهما إلى أهداف مختلفة ولكنهما تلتقيان في نهاية واحدة.

وكلاهما يسر على منهج الإدماج ونقصد به صهر القوميات في كتلة واحدة، ولكن الاتحاد يسير على نمط خاص به، فهو يفرض اللغة الروسية مع الفكرة الاشتراكية والفلسفة الماركسية ويقدهما في قالب واحد، وسار في هذا أشواطاً حتى في الجمهوريات المسيحية، لأن حكومة الاتحاد قررت تشتيت مجلس السوفييت المحلي في بلاد الكرج (جورجيا) لأنه عارض سياسة الاتحاد وقرر التمسك باللغة القومية وجعل لها المقام الأول في التعليم

ص: 22

وللروسية المقام الثاني، ثم يتفق مع السياسة الفرنسية في إحياء لغات اندثرت وثقافات اندرست حين يهاجم الوحدة الإسلامية في آسيا الوسطى باسم الفن والتاريخ والثقافة.

ويشبه هذا النشاط سياسة فرنسا في التفرقة بين العرب والبربر حتى تظهر ثقافات متباينة في كل رقعة ويفقد الإسلام تلك الوحدة التي اشتهر بها وعرفت عنه.

فلهذا وغيره يبدو الاتحاد السوفيتي في أنظمته وكيانه كوحدة استعمارية تسيطر على أقطار المسلمين وتفرض عليهم حكماً خاصاً كأنموذج صالح لفرنسا يصح أن يحتذي في أشياء. والفرنسيون أذكياء وأهل منطق، يعرفون تماماً أن الأنظمة والدساتير لا تبني الممالك وإنما القوة الدافعة هي التي تحميها: والقوة الدافعة في أراضي السوفييت هي الحزب الشيوعي الذي يستند على قوته الثورية وأنه حزب عمالي ترتكز عليه الدولة وتخضع لمشيئته ويسيرها كما يشاء.

ولا تملك فرنسا هذه القوة المتصفة بالبطش والفتك، إذ هي لا تزال تأخذ بأنظمة الدساتير الديمقراطية وتعدد الأحزاب، وهناك مسائل أخرى تفترق عن السوفيت فيها، أهمها أنها تحترم الملكية الفردية وتشجع الشركات والأفراد في تولي الإنتاج الزراعي والصناعي، بينما الاتحاد السوفيتي لا يعترف بالملكية للفرد وإنما يأخذ بالاشتراكية ويجعل حق الملكية للدولة أو يعترف بالملكية التعاونية، وقد يلتقي النظامان فيما يخص الملكية بأراضي بعض المستعمرات؛ إذ يحرم التشريع الفرنسي على الأهالي ملكية الأرض ويسمح بها لشركات الاستثمار وللمستعمرين البيض، ولا نعرف مقدار حظ المسلمين في المزارع التعاونية بالروسيا فقد تكون بأكملها في أيدي الروس فهي لا تختلف إذن عن شركات الاستثمار الكبرى في المستعمرات الفرنسية، ولكن الثابت لدينا هو أن الأهالي المسلمين محرومون من حق الملكية في جمهورياتهم فهم إذن كأهل المستعمرات الفرنسية السود في هذه الناحية. ولم يكن تطبيق النظام الاشتراكي أو التعاوني لصالحهم بل لتقوية الجاليات الروسية وزيادة إفقارهم وضرب الذلة والإملاق عليهم.

هذه نظرات أولية تمكننا من تلمس بعض ما يقال له فوارق وبعض ما يلتقي النظامان الاستعماريان فيه من نواح. ولا نقدم جديداً حينما يتعلق الأمر بالأنظمة إذ هي الأسس التي قوم عليها الاتحاد، وفرنسا تقدر الفوارق والاتجاهات في الاتحاد السوفيتي ولكنها تعجب من

ص: 23

الأنظمة كدعامة للوحدة، فدستور السوفييت يقول: -

(بأن الدولة اتحادية تقوم على أساس الاتحاد الاختياري بين الجمهوريات السوفييتية الاشتراكية المتساوية في الحقوق).

وهذا نص مشجع لأن تأخذ به فرنسا في نظامها الجديد خصوصاً وأن معنى الاختيار غير معلوم لدى الروس.

إذ لا يذكر العالم إن إحدى الجمهوريات الإسلامية بآسيا الوسطى جاءت إلى الاتحاد وانضمت إليه باختيارها، وإنما دخلت الاتحاد بعد معارك دموية وقتال استمر طويلاً، ولذلك لن يكون هناك اختيار في الاتحاد الفرنسي كما قلنا.

وينص الدستور السوفييتي على حق تقرير المصير ويعترف لكل جمهورية بأنها ذات سيادة، ولكنه يقيدها في المادة 14 من الدستور نفسه وفيها كل ما يهدم شخصية واستقلال وسيادة الجمهوريات المقول بأنها مستقلة وذات سيادة. وهذا النص يجعل حق تقرير المصير غير موجود، ولذلك سنراه في دستور الاتحاد الفرنسي وستأخذ به حكومة الهند عند مواجهة دولة باكستان الإسلامية، وستتمسك به كل دولة اتحادية حينما ترمي إلى السيطرة والتحكم في مصير الأمم الإسلامية.

فمن المفيد أن نعرض هذه المادة مع بعض التفصيل ليستيقظ الفاغلون بمصر: فهذه المادة تجمع طائفة من الأمور الهامة الحيوية لكل شعب منها ما هو سياسي وعسكري واقتصادي ومنها ما هو ثقافي وتشريعي. فإذا بحثت عن الباقي من سيادة جمهوريات الاتحاد المستقلة وجدته ضئيلاً بحيث لا يصح أن يقارن بالسيادة التي تتمتع بها أية ولاية داخل نظام الولايات المتحدة الأمريكية.

فإذا سلمنا بأن حكومة الاتحاد ترى أن من حقها عقد المعاهدات وحصر التمثيل السياسي فيها وتسلم قضايا السلم والحرب. وتنظيم الدفاع وقيادة القوات المسلحة وحماية سلامة الدولة المستقلة، فإن هذه المادة تضيف أشياء أخرى تجعل النشاط الاقتصادي بأكمله خارج نطاق الجمهورية المستقلة، وبهذا يصبح الاستقلال وهمياً ولا فائدة منه؛ إذا تخضع المشاريع الصناعية والزراعية وإدارة المصارف ووسائل النقل والمخابرات ونظام النقد والتأمين وعقد القروض وكل ما يتعلق باستثمار الأراضي واستثمار الغابات ومساقط المياه

ص: 24

في يد حكومة الاتحاد.

وعلاوةً على ذلك يسلب من الجمهوريات سلطتها على كل شؤون التعليم والثقافة، ويسلبها حقها في التشريع الداخلي الصرف، إذ تبقى سلطة حكومة الاتحاد هي العليا في كل ميادين المعارف والصحة، ويخضع المحاكم والقوانين من مدنية وغيرها حتى قانون الجنسية وإقامة الأجانب وتنقلاتهم لحكومة الاتحاد؛ هذا مع قرار الاتحاد بأن لكل جمهورية دستورها الخاص بها، وهنا تهزأ حكومة السوفييت بالعالم حينما تقول:

إن لكل دولة من الجمهوريات المستقلة مطلق الحرية في أن تنفصل عن الاتحاد السوفيتي.

ومن قبيل تحصيل الحاصل أن يقرر الدستور السوفييتي أنه في حالة التعارض بين القانون الخاص بأية جمهورية مستقلة والقانون الاتحادي وجب على الحكومة المستقلة تنفيذ قانون الاتحاد، فلا توجد هيئة عليا كما هو الحال في الولايات المتحدة الأمريكية للفصل في تنازع الاختصاص أو تفسير الدستور.

من هذا نفهم ولع الفرنسيين بالاتحادية وأنهم بعد أن قلبوا أنظمة الاستعمار وأساليب من أمريكية وبريطانية وبرتغالية وهولندية وجدوها لا تشقى غليلهم ووجدوا مع اختلاف الأهداف في نظام الاتحاد السوفييتي ما يصح الأخذ والسير عليه، إذ فيه تأكيد لسيطرتهم وإبقاء لحكمهم.

ولذلك لم نخطئ النظر حينما جاهرنا بأن الأنظمة الاتحادية الفرنسية وفي بلاد السوفيت وما يجول بخاطر الهندوس من إنشاء دولة اتحادية بالهند، أنظمة وأسس رجعية تعسفية، حينما يتعلق الأمر بمستقبل الشعوب الإسلامية وحريتها، لأنها تعطي للاستغلال الاقتصادي والسيطرة والتحكم ثوباً جديداً.

أحمد رمزي

ص: 25

‌اللغة العامية والحروف اللاتينية

للأستاذ السهمي

ذكرنا حديث الأستاذ البارع (الجاحظ) في الرسالة (726) ص (626) عن قصة هذا الغامية ذات العمى والبكم والصمم بمقال فائق للعلامة اللغوي الكبير الشيخ إبراهيم اليازجي ترجمته أو عنوانه (اللغة العامية واللغة الفصحى) كتبه سنة (1902) مظهراً فيه نيات أبناء (جنبل) الخبيثات المخيفات ومذكراً ومنذراً. وقد رأيت أن أروي في (رسالة العربية) الهادية الكريمة جملاً من ذلك المقال المحقق المحكم وهو أكثر من ثلاثين صفحة. وليعلم من يتجاهل أو يجهل أن الذي نزل وحفظ قرآنه، حافظ أبد الأبيد لسانه.

قال الشيخ إبراهيم اليازجي:

(نشر بعضهم من سنوات رسائل متتابعة يدعو فيها علماء العربية وكتابها إلى استبدال اللغة العامية من اللغة الفصحى واعتمادها في الكتب والجرائد وغيرها ورسم لها حروفاً جديدة تكتب بها هي الحروف اللاتينية. . . وقد انتهي إلينا بعض ما نشره من تلك الوسائل وفيه أمثلة من حكايات وغيرها باللغة العامية المصرية كتبها بالحروف المذكورة فكانت نوعاً من الكرشوني.

وإذا قرئت جاء لفظها أشبه بلفظ رجل إفرنجي يتعلم العربية ولا سيما في أمر الحركات التي عبر عنها بأحرف المد فإذا نطق بها العربي توهم سامعه أن يقلد كلام أحد الإفرنج المقيمين في هذه الديار. وأغرب من ذلك أنه زعم أن تعلم هذه الحروف أسهل تناولا على الأمي من أبناء مصر وأنها أفضل ذريعة لتعميم القراءة في القطر. . .).

(. . . على أن الأمر طوى من ذلك الحين ولم يصادف من أحد اهتماماً إلى أن ظهر في هذه الأيام كتاب ألفه المستر (ولمور) أحد قضاة محكمة الاستئناف الأهلية عن الطريقة المذكور جمع فيه ما تسنى له من قواعد اللغة العامية المصرية على وجه يقرب من الأجنبي تناولها والتكلم بها. . .

(. . ولكن المؤلف وبعض إخوانه من علقوا التعاليق وممن قرظوه في جرائدهم لم يقفوا عند هذا الغرض من صنيع المؤلف ولكنهم ذهبوا إلى ما وراء ذلك من وجوب نسخ اللغة الفصحى في البلاد وإحلال اللغة العامية مكانها مع كتابتها بالحرف اللاتيني على مثل ما

ص: 26

ذهب إليه صاحب الرسائل المقدم ذكرها).

(. . . ويؤخذ من كلام المؤلف وبعض الجرائد الإنكليزية في القطر الإيماء إلى لزوم إدخال هذه الطريقة في المدارس أي مدارس الحكومة مع جعل التعليم إجبارياً بحيث أنه لا يمضي زمن قصير حتى يعم استعمالها في البلاد وتكون الضربة القاضية على اللغة الفصحى وأسفارها. . .

(. . . ولكن ذلك (الفرق بين العامية والفصحى) وهم دسه على أولئك القوم الجهل بلغة البلاد؛ لأنهم لو كانوا يعرفون العربية كما يعرفها أهلها لعلموا أن معظم الفرق بين اللغتين مقصور في الغالب على إهمال علامات الإعراب من اللسان العامي بحيث أصبح مسموع اللفظين متبايناً على الجملة. إلا إن هذا إنما تتنكر به اللغة في سماع الأجنبي لا في سماع أهلها. . . ومن أعظم الشواهد على ذلك أن في العامة من يقرأون ويسمعون الجرائد وكتب الروايات والأقاصيص الحديثة والقديمة من مثل سيرة بني هلال وعنترة وألف ليلة وليلة وغيرها ويفهمونها ويروونها مع أن جميعها مكتوبة باللغة الفصيحة. . .).

قلت: يدل كلام الشيخ إبراهيم على أن العامة في مصر كانوا يفهمون اللغة الفصيحة سنة (1902) فهل تقهقروا، هل تأخروا هذا التأخر الفظيع في الفهم والرواية سنة (1947) - بعد هذا الدهر الطويل وبعد هاتين الحربين المدهشتين، وبعد أن تبدلت الأرض غير الأرض والسماوات - حتى تقول رجال الإذاعة في العامة والمساكين مقولتهم التي أشار إليها الأستاذ الالمعي (العباس) في الرسالة 727 ونقدها محسناً ومصيباً.

أيتها الحكومة المصرية، حرمي حرمي في داريك: دار الإذاعة ودار التمثيل وغيرهما من الدور اللغة العامية؛ إنك إلا تفعلي تحرجي. . .

(. . . وأما مسئلة الكتابة وعدم وجود صور لأصوات الحركات في رسم الهجاء العربي فما لا يبالي به بالقياس إلى الأمة نفسها إن كان النظر إليها مجرداً. . . إن للحركات عندنا مقادير لا تتعدها فإذا رسمت بالحروف كما هو الشأن في اللغات الأوربية جاء لفظ الكلمات منكراً، وربما التبس بعضها ببعض فلم يبق فرق بين سلم مثلاً وسالم وسليم إذ يكون بعد السين ألف وبعد اللام ياء في الكل، وقد يجيء ما هو أنكر من ذلك كما مثل قتل وقاتل لما هناك من الاختلاف الفاحش في المعنى، وحينئذ لا يبقى غنى عن وضع علامات تميز

ص: 27

الحركة من الحرف فعاد الأمر إلى الشكل وهو يغني وحده بدون الحروف. وذلك فضلاً عما في التزام التحريك في الرسم سواء كان بالحرف العربي أم اللاتيني من إطالة هجاء الكلمات واقتضاء الكتابة زمناً أطول إلى ضعف آخر في الأقل. فجملة ما يقال إن الحركات في العربية لا تكتب إلا بصورة حركات لأن لفظها ليس لفظ الحروف الكاملة ولا هي داخلة في بنية الكلمات وإنما الغرض الأصلي منها الانتقال من مقطع إلى مقطع، لكن غاية ما هناك أنه يمكن استنباط طريقة تمكن المطالع من وضع الحركات على وجه أسهل؛ وحينئذ لا يشكل إلا الحرف الذي يمكن التباسه ولو على الأجنبي).

(بقى أنه على تقدير خروج هذا الرأي إلى الفعل فإن ما يتخلص منه الأجنبي يقع فيه الوطني بل يقع في أشد مضضاً منه على ما سنذكره. ونعني بالوطني هنا المسلم الذي هو العنصر الغالب في البلاد، فإنه مع تعليمه قواعد اللغة العامية لا يستغني عن تعلم اللغة الفصحى لإحكام قراءة القرآن وتلقي الحديث وفهم نصوص الشرع المبنية عليهما. ولابد لبلوغ هذه المنزلة من قراءة كتب النحو والبيان واللغة وسائر علوم الأدب. وهذه كلها إن لم يتعلمها في مدارس البلاد لزمه أن يتعلمها في مدارس أخرى خاصة أو يدرسها في منزله وكلاهما لا يستطيعه إلا الأغنياء فضلاً عما فيه من المشقة وإضاعة الزمن. وكذلك يلزمه أن يتعلم قراءتين أحدهما بالحرف العربي لتلاوة القرآن لأنه لا يجوز له أن يكتبه بحرف أجنبي. . . والأخرى بالحرف اللاتيني المصطلح عليه في البلاد لمطالعة ما ينشر فيها من الكتب والجرائد ولدراسة العلوم العصرية التي يرام كتابتها باللغة والحرف المذكورين على ما أشير إليه في التأليف ولا نخال التسليم بذلك كله من الأمور المستسهلة. ومن هنا يعلم المؤلف وغيره أن العربية لا تقاس في ذلك بالطليانية واليونانية إذ ليس في هاتين اللغتين شيء من الأمر الديني الذي أشرنا إليه، بل فيما حدث أخيراً في أمر ترجمة الإنجيل إلى اليونانية الحديثة عبرة كافية مع انتفاء المحذور الذي ذكرناه. وبقى وراء ذلك كله ما يترتب على هذا الانقلاب من الخسران الجسيم بضياع ما لا يحصى من كتب العلم والتاريخ وغيرها بحيث يتعذر نقل الكتب بأسرها إلى الحرف الجديد ولا يبقى سبيل للأعقاب إلى تناول ما فيها إذا تغير الحرف الذي يقرأون به).

(ولذلك فالذي نراه لواضعي هذه الطريقة أن يقتصروا فيها على تعليم الأجنبي لغة البلاد

ص: 28

ولا يتجاوزوا إلى ما وراء ذلك من شؤون الأمة فإن محاولة هذا الإحداث فيها ليس في شيء من الحكمة ولا هو من الأمور التي يساعدها الإمكان).

قلت: قد كان لقوم دنلوب في أيام الشيخ سلطان فعبر في الجمل الأخيرة من مراده بهذا التعبير، والمقصود متضح، وفحواه أن الإقدام على هذا الإجرام سيدفع الأمة إلى الثورة. وإنا لنعلن أن من يثورون على أجنبين أو أجنبيين وكافرين يريدون سوءاً بلغتهم، ولغة بلادهم، ولغة آبائهم وأجدادهم، ولغة آدابهم، ولغة علومهم، ولغة دينهم ولغة قرآنهم، ولغة نبيهم - إن من يثورون على ذلك العدو اللعين سيثورون على عربيين مصريين، وعلى مسلمين مؤمنين، وعلى أولياء وقديسين، وعلى من هم فوق الأولياء والقديسين إن أرادوا أن يكيدوا لهذا اللسان المبين كيد الدنلوبيين.

(يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواهم، ويأبى الله إلا أن يتم نوره، ولو كره الكافرون)

صدق (الكتاب) ومنزله

روى كلام اليازجي عن (ضيائه):

السهمي

ص: 29

‌الفلاسفة الإسلاميون

بين المعتزلة والآشاعرة

للأستاذ علي مصطفى الغرابي

هذه هي المدارس الثلاث (مدرسة المعتزلة والفلاسفة الإسلاميون والأشاعرة) التي حملت لواء التفكير العقلي للثقافة الإسلامية تحت ظل الإسلام وفي كنفه، ثلاث مدارس كبرى لها مجهود جبار أخرج لنا هذا الكنز الثمين للثقافة العقلية الإسلامية. وكانت غاية هذه المدارس الثلاث واحدة، وهي الوصول إلى معرفة موجد هذا الكون، وعلاقة موجده به، وإلى تعليل وقوع الخير والشر فيه، وكذا علاقة الإنسان بهذا الموجد، وإلى أي مدى تمتد قدرة الإنسان، وهل للإنسان استقلال بأفعاله أو هو مظهر من مظاهر قدرة الله لا غير، ولا شأن له في نفسه.

هذه هي المشاكل التي تعرضت لها هذه المدارس، واختلفت حلولها لها تبعاً لاختلاف مناهجها في الوصول إلى هذه الغاية. وبمقدار قرب المنهج الذي سلكته كل واحدة للوصول إلى غايتها أو بعده من منهج الأخرى كانت أوجه الشبه بينهم قرباً وبعداً.

ولأجل أن يكون حكمنا صحيحاً يجب أن نتعرف نشأة كل واحدة باختصار لنكشف عن بيئاتها التي كان لها التأثير على ثقافتها، لهذا سنضطر إلى الكلام على نشأة كل واحدة باختصار ولنبدأ أولاً بمدرستي المتكلمين لاتصال حياتهما الثقافية اتصالاً وثيقاً.

نشأة المعتزلة:

في درس الحسن البصري الذي جلس يلقي دروسه الشفوية الجامعة بين أصول الدين وفروعه، وبين الدين من جانب، والسياسة من جانب آخر وفي مسجد البصرة، ومن بين تلامذته، وفي أواخر القرن الأول الهجري وأوائل الثاني منه، نشأت فكرة الاعتزال، أو بذرت أول بذرة لهذه الدوحة العظيمة التي صارت فيما بعد مدرسة كبرى من مدارس الثقافة الإسلامية.

كانت هذه الفكرة في أول أمرها بسيطة، خلاف قام بين الأستاذ وتلميذه (واصل بين عطاء) على مرتكب الكبيرة من المسلمين حين جاءه رجل يسأله عن شأن مرتكبها - حيث كانت

ص: 30

هناك طائفة تقول (بكفره) وهم الخوارج وأخرى تقول بإيمانه - وهم جمهور المسلمين - وثالثة تركت أمره إلى الله سبحانه ولم تحكم عليه بإيمان ولا كفر، وقبل أن يجيب الحسن البصري أستاذ واصل والذي كان يسمى صاحب الكبيرة (منافقاً) أجاب واصل بأنه (في منزلة بين المنزلتين، فليس بمؤمن ولا كافر، لأنه لم يجمع كل أجزاء الإيمان حتى يكون مؤمناً، ولم يفقد كل أجزائه حتى يكون كافراً، فالأولى أن يسمى (فاسقاً) لا مؤمناً، ولا كافراً، ولا منافقاً، - وسيبقى هذا الرأي أصلاً من أصولهم المجمع عليها. وعندئذ قام واصل إلى اسطوانة من مسجد البصرة وأخذ يقرر على بعض زملائه من تلامذة الحسن بعض أفكاره، ويقال إن لحسن لما رأى منه ذلك قال. (اعتزلنا واصل) فسموا (معتزلة) لهذا، وهناك آراء أخرى في تعليل إطلاق هذا الاسم عليهم، في هذا الوقت لم يكن واصل يفكر أن خلافه هذا مع أستاذه سيكون مدرسة من مدارس الإسلام الكبرى وأنه سيتفرع منها مدارس أخرى - على حسب التأثير الذي تأثرت به كل مدرسة من الثقافات الأجنبية المختلفة، حتى أصبحت طبقات هذه الطائفة (المعتزلة) عشرين طبقة بينها خلاف في بعض الفروع هو أساس تفرقها، وإن كانوا جميعاً على أصول سنذكرها فيما بعد.

وإذا بحثنا عن منشأ هذه الفكرة - فكرة مرتكب الكبيرة - نجد أن الخلاف السياسي الذي قام بين المسلمين بعد قتل (عثمان رضي الله عنه هو السبب في وجودها حيث أخذت كل طائفة تخطئ الأخرى معتقدة أن الحق في جانبها. . .

إذن كانت مهمة هذه المدرسة في أول نشأتها الدفاع عن رأي سياسي سببه الخلاف بين المسلمين، ولما مرنت هذه المدرسة - وبعبارة أخرى مرن أصحابها - وآنست من نفسها القدرة عليه، وعلى الجدل ضد الخصوم - وإن كانوا من طوائف أخرى لا تدين بدين المسلمين - لما مرنت على هذه قامت بواجبها بجانب الجيش الذي يدافع عن هذه الدعوة الإسلامية بالسيف، ولكن كان دفاع هذه الطائفة بالحجة والدليل، دخلت أمم كثيرة تحت لواء الإسلام، وكانت هذه الأمم أصحاب عقائد دينية وثقافات فكرية ولهم شبه: إما نشأت في دينهم الجديد وبقيت معهم بعد إسلامهم، وإما نشأت من مقارنة دينهم الجديد بدياناتهم التي وروثها عن أسلافهم. ومن يقوم بالدفاع والإجابة على هذه الشبه؟

قام بهذا المعتزلة، وأبلوا في هذا بلاء حسناً، ولهذا سنجد من أصولهم التي لابد منها لمن

ص: 31

يستحق أن يلقب بلقب بـ (معتزلي)(مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر). وأظن إن هذا المبدأ لم تكن له هذه القيمة وهذا الشأن عندهم إلا من وظيفتهم هذه! ولكن متى يكون الجيش المدافع قوياً أمام من يهاجمه؟

حينما يكون مسلحاً - طبعاً - بسلاح خصمه، ولقد كان هذا الخصم مزوداً بالفلسفة الإغريقية التي كانت قائمة على الجدل المنطقي المنظم والعقل الحر، والتي انتفعت بها جميع الأمم على اختلاف أجناسها وعقائدها، فبينما نجد اليهود (من عهد فيلون - الذي عاش ما بين سنة أربعين قبل الميلاد وأربعين بعده، قد مزجوا الدين بالفلسفة حتى ادعوا أن الفلسفة الإغريقية والديانة الموسوية من أصل واحد، إذ بنا نرى الأفلاطونية الحديثة التي بدأت بتاريخ أفلوطين المتوفى سنة 270م، تمزجها بالدين المسيحي مزجاً، وإذا بالنساطرة واليعاقبة الذين ورثوا نظريات هذه المدرسة (الأفلاطونية الحديثة) والذين كانوا يقيمون في بلاد فارس والعراق وسوريا حين الفتح الإسلامي ينكبون على دراسة الفلسفة حتى كانوا واسطة في نقلها للمسلمين. وسنتكلم في مقال آخر عن موقف المعتزلة من هذه الفلسفة.

علي مصطفى الغزالي

أستاذ في الفلسفة وعلم الكلام ومدرس بكلية أصول الدين

ص: 32

‌منطق الحاجة.

. .

للأستاذ طاهر محمد أبو فاشا

(عندما تروج الصناعة، تدفع السوق رجال الأعمال إلى

محاسب العامل (بالقطعة)، فبتجاوز هذا طاقته في سبيل كسب

مضاعف يدفع ثمنه من صحته وشبابه:

مؤامرة يدبرها الفقر، والجهل. . . على حساب الصحة

العامة. . . فليسمع المسئولون).

ذلك الجهاز الآدمي الذي يدور بقوة الحاجة مجهوداً مكدوداً يوشك أن يعطب حتى يزيته الفقر وتسوطه الحاجة. . . فينكفئ على رماد الشباب، وينطوي على أجر الصحة، وينبسط على ثمن الرغيف.

في هذا البلد نماذج كثيرة لهذه الأجهزة الآدمية. . . نماذج حية لا تؤجر على العمل، ولكن تحاسب على (الإنتاج). سخرها الفقر، وتافه الأجر، وفساد التدبير، وعقم التفكير. . . حتى أصبح العامل آلة مسحورة مسخرة في هدم شبابه من وجه الأصبوحة إلى فحمة الليل. . . فإذا أحسن الوهن دافعه بالمنهبات، وأسكته بالدوافع التي تصرخ في جوفه وبيته وولده، ويستجيب سبابه لإرادته، حتى يأتي اليوم الذي يسقط فيه البطل الفريس، فيستنجد إرادته، ويستعدي صحته. . . فتخذله الصحة، ويسلمه الشباب، ويذوي المسكين، وينكر من أمره ذلك الفتور، ولكنه يخدع نفسه، ويتحامل عليها، ويتعلل، ويتعايا. . . وهو ماض في عمله، يسرف في صبابة من الحرارة بقيت في جسمه المنهوك، ويعاني لدغات الشك، وتطارده أشباح الرعب والحرمان!

ويذهب ما بقي من هذا العامل إلى الطبيب، فيطلب إليه هذا ألا يجهد نفسه!

لا يجهد نفسه؟!

يا إلهي: كذا يقال للعامل المصدور، كأنما بيده أن يستريح وأن يجهد، وكأنه يستطيع أن يكبت صراخ الجوع الذي تصطك به أمعاه عياله!

ص: 33

وهنا يهاجم الخوف الراعب قلب العامل العليل في عنف وشدة، فيخاف يومه، ويرهب غده، ويعيش في جو من الشك، وترتفع ثقته بالناس، ويلح عليه الإلحاد بالأوضاع، والكفر بالحياة. . . ثم لا يجد العيان يده التي تنتج الذهب، وتنال التراب. . . وقد تكون يده مبلولة بشيء من المال، فتجف بعد قليل، فينظر إلى ما زاد على الحاجة من ملبسه فيستغني عنه، ثم يتعلل بالغنى عن الضرورية فيبيعه، فإذا لم يجد من أخلاقه ما يباع التفت إلى أثاث بيته فتخفف، ثم باع ما زاد. . . ثم ما لم يزد!

صورة أليمة لا نجمع عناصرها من مادة الخيال، ولكن ننقلها من (خريطة) الواقع: أعرف بعض حالات من هذا النوع في هذا البلد، وما أعرفه ليس كل ما هو كائن. . . فماذا فعل الناس من أجل الناس، بل ماذا فعلوا من أجل أنفسهم في وقت يثير فيه الببغاوات حروب الأوضاع والأشكال؟!

أجيبوا أيها المسلمون الذين يؤدون زكاة الصحة والمال!!

طاهر محمد أبو فاشا

ص: 34

‌من وراء المنظار

أنا وكيل نيابة. . .!

أعيذ فطنتك أيها القارئ أن تحسبني ظفرت فجأة بهذا المنصب الخطير الذي يجعل لي من السلطان أن أقبض على من أشاء في أي وقت أشاء، فما كنت وربك إلا صاحب هذا القلم المتواضع وصاحب هذا المنظار اللعين الذي يأبى إلا أن يقع بي على ما لست أحب. . . ولكنه عنوان اقتضاه المقام.

هذه مواقف ثلاثة من مواقف التحمس، ولكنه تحمس رسمي والعياذ بالله، فيه قبض وتحقيق وحبس، أو هكذا ظهر لي ولمن شهده من الناس. ولقد سمعت هذه العبارة التي جعلتها عنواناً لكلمتي هذه بنصها وحروفهاً في كل من هاتيك المواقف الثلاثة.

شهدت الموقف الأول وسمعت هذه العبارة وهممت أن أكتب ولكني آثرت العافية وأنف المنظار في الرغام؛ ثم لم يكد يمضي يومان حتى وقع منظاري على الموقف الثاني وسمعت نفس الكلمة، فجمعت أطراف شجاعتي، ولكني ما كدت أشرع القلم حتى عدت فآثرت العافية واستعذت بالله من الشيطان الرجيم. . . ويأبى منظاري اللعين إلا أن يريني الموقف الثالث حيث سمعت العبارة بنصها، وعندئذ لم يبق لي إلا أن أشهد على نفسي بالجبن أو أكتب، فآثرت الثانية، فوالله للضر مع الشجاعة خير من العافية مع الجبن. وما كانت العافية لتدوم يوماً لجبان. . .

أما الموقف الأول فكان في عاصمة إحدى المديريات، وهناك سيارة عامة كبيرة، لا يريد سائقها أن يبرح بها مكانها إلا أن تمتلئ بالركاب حسب العدد المقرر، ولم يكن ينقصه لمتلئ إلا ثلاثة أو أربعة؛ وجاء شاب حدث في نحو الخامسة والعشرين يخطر في مشيته خطرة من يريد أن يشعر الناس بعظم مكانته، وكان الوقت موعد الانصراف من الدواوين، فما أن وضع رجله على سلم السيارة ليركب حتى أهاب بالسائق أن ينطلق بالسيارة فم أثبت في وجهة نظرة حادة إذ رأى منه شيئاً من عدم المبالاة؛ ورد السائق بقوله (حاضر لما يتم العدد)؛ وثار الشاب وصاح بالسائق:(هيا. اسمع الكلام)؛ ولم يزد السائق على أن ينظر إليه متعجباً؛ ودق الشاب بيده على زجاج السيارة وهو يقول في تحمس شديد (أتدري من يكلمك؟ أنا وكيل النيابة الـ. .) وقال السائق وقد داخله شيء من الرهبة (يا سيدي حاضر

ص: 35

كلها نفرين أو ثلاثة).

ووثب الشاب من مكانه ونادى أحد (الكنستبلات) وأمره بالقبض على السائق معلناً لها وظيفته. وما كان أشد عجب هذا الشاب وعجب الركاب والسائق قبلهم جميعاً بالضرورة حين سمعوا هذا الشرطي يقول (وإنه يعني وكيل نيابة!). . . وكأنما سرت هذه الكلمة عن الناس فانبعثت ضحكاتهم على الفور عالية مجلجلة. . .

ونادى الشاب وقد بلغ حنقه غايته أحد العساكر، وكان هذا يعرفه فأسرع نحوه وحياه التحية العسكرية فأصدر إليه أمره بالقبض على (الكونستابل) بتهمة إهانة النيابة وسبقهما إلى مقر التحقيق ونجا السائق المسكين. وهكذا مصائب قوم عند قوم فوائد.

وأما الموقف الثاني فقد شهدت شاباً كذلك يثب في أول ميدان باب الخلق فيدرك الترام ويتعلق به، ثم يقف بباب الحريم لا يتزحزح ولا ينحرف، يميل طربوشه ويبرز طرف منديله فيتدلى على صدره، ويضبط ربطة عنقه ويصف شعر فوديه، ويرسل النظرات الحادة إلى داخل المكان، حتى جاء المحصل فنهبه في هدوء إلى ما لا يحمد من وقفته هذه. فقال في غضب وعنف وتحمس شديد (موش شغلك. . . أسكت)؛ ونفخ المحصل في زمارته متحمساً كذلك فوقف الترام؛ واشتدت حماسة المحصل واستغنى عن التلميح بالتصريح. وجن جنون ذلك الشاب ونزل وأمسك بذراعه وهو يقول (أتدري من تكلم. . . أنا ويكل نيابة). . . وأخذ المحصل شيء من الخوف إذ أشار هذا الشاب إلى أحد العساكر ليقبض عليه. وتدخل بعض الناس، وقبل الشاب بعد لأي شفاعتهم وترك المحصل قائلاً له في كبرياء الظافر الذي يعفو عن قدرة (أما بارد قليل الأدب، صحيح). . . وتعلق المحصل بالترام وهو يقول إذ يدق كفاً بكف (أأنا البارد القليل الأدب؟)

ولست أدري أكان (صاحبنا) كما أدعى وكيل نيابة حقاً أم أنه يهوش بذلك على النسا؟

ويأتي بعد ذلك ثالث المواقف أو ثالث الأثافي؛ فنحن في سيارة عامة في أحد شوارع القاهرة، ليس فيها إلا من هو ذاهب إلى عمل أو حريص على ميعاد. وكان في المقعد الأمام شاب كذلك تبدو عليه سيماء الهدوء والرزانة فطلب إلى السائق الوقوف بالسيارة لينزل، فقال السائق (ما فيش محطة هنا) فقال الشاب (محطة إيه؟ إسمع. نزلني)؛ ولم يسمع السائق ولم يقف؛ فصكه الشاب على صدره صكة جمع فيها كل تحمسه وأفرغ كل

ص: 36

غيظه وهو يقول (استني يا حمار).

ووقف السائق سيارته والتفت نحو الشاب وفي وجهه مثل نظرات المجنون، فقال له الشاب (إوع تتكلم. . . أتدري من أنا؟ أنا وكيل نيابة. . . تعرف شغلك بعدين).

ووقف المحصل بينهما يخشى أن يفضي الأمر إلى شر خطير والسائق يقول افرض إنك حتى رئيس نيابة. . . تضرب الناس بدون سبب؟) والركاب يتفرجون وما فيهم إلا من ضاق ذرعاً بهذا الصلف وبهذه الوقفة التي لا يدري أحد متى تنتهي؛ وأحسست أنا ثلاث أمثال ضيقهم وقد شهدت المنظر ثلاث مرات.

وكان السائق هو القابض هذه المرة، إذا لم يجد متنفساً لغيظه إلا أن يقسم يميناً بالطلاق ألا يدع هذا الأفندي إلا في القسم ولو قطعت رقبته. . . ولم يبق لشفاعة الشافعين، بعد أن نطق السائق بهذا اليمين. ومضيا معاً إلى القسم، ومضينا نحن الركاب يبحث كل منا عن وسيلة أخرى يصل بها إلى حيث يريد.

وبعد فأنا أؤكد لك أيها القارئ أني لم أزد شيئاً على ما شاهدت، وإلا فإني مستعد أنا الواضع اسمي أدناه لأن أتلقى قرار القبض علي بتهمة أنا والله منها برئ وهي (إساءة استعمال) قلمي أو على الأصح منظاري. . .

الخفيف

قادة الإصلاح في القرن الثالث عشر

الشيخ شامل

زعيم القوقاز وشيخ المجاهدين

للأستاذ برهان الدين الداغستاني

(تتمة)

ولما أبى الشيخ شامل التسليم اقتحم الروسيون الحصن من الخلف، واستطاعوا التسلل إلى داخله، فانسحب الشيخ شامل إلى مسجد الحصن وواصل القتال. وهنا طلب الروسيون منه التسليم للمرة الثانية، ووعدوه - إن هو سلم نفسه - أن يسلموه هو ومن معه إلى خليفة

ص: 37

المسلمين في القسطنطينية من غير أن يصيبهم أذى.

كان لهذا العرض الأخير فعل السحر في نفوس المجاهدين من إخوان الشيخ شامل، فألان من جانبهم، فأخذوا يحبذون التسليم، ويلحون على الشيخ شامل أن لا يفوت هذه الفرصة النادرة، فنزل الشيخ شامل على إرادتهم، ولم نفسه مع نحو عشرين شخصاً من صادقي أعوانه إلى القائد الروسي الجنرال (باربيا تنسكي) كان ذلك في اليوم الثامن من شهر صفر سنة 1276 هـ (6 سبتمبر سنة 1859 م).

وبذلك انتهت هذه الثورة الإصلاحية الوطنية التي استمرت أكثر من ثلاثين سنة، ونقل الشيخ شامل ومن معه من أعوانه وأهله وعياله إلى (بترسبورغ) - ليننغراد - عاصمة القياصرة المقدسة، وقابل قيصر الروس إسكندر الثاني، فرحب به القيصر وأكرم وفادته، وأمنه وجميع من كانوا معه على نفوسهم. إلا إنه - على الرغم من الوعد الذي أعطى الشيخ شامل قبل أن يسلم نفسه - لم يسمح له بالسفر إلى خارج الحدود الروسية وألزمه بالإقامة بمدينة (كالوغا) مدة، ثم نقله إلى مدينة (كييف) وظل على هذه الحال نحو عشر سنين.

10 -

كان الشيخ شامل لا يفتأ يطالب قيصر الروس اسكندر الثاني بإنجاز الوعد الذي وعد به قبل أن يسلم نفسه بتسليمه إلى خليفة الإسلام والمسلمين، ولكنه لما طال به الأمد، ولم يجد أذناً صاغية. بعث إلى القيصر يطلب منه أن يسمح له بالسفر إلى الحجاز لأداء فريضة الحج، وبعد أخذ ورد. قبل القيصر أن يأذن لشامل وأصحابه بالسفر الحجاز عن طريق القسطنطينية.

وفي سنة 1286 هـ 1869م أي بعد عشرة أعوام من التاريخ التسليم خرج الشيخ شامل من الحدود الروسية، وجاء القسطنطينية ولقي من السلطان عبد العزيز خان خليفة المسلمين ما هو جدير به من الإعزاز والتكريم، ثم واصل سفره إلى الحجاز لأداء فريضة الحج.

وهناك ما يبعث على الظن بأن الشيخ شاملاً عرج - في طريقه إلى الحجاز - على مصر، وأنه شهد حفلات الخديوي إسماعيل التي أقامها بمناسبة افتتاح قناة السويس، أو شهد بعضها على الأقل، ولقي من الخديوي إسماعيل ترحيباً عظيماً، وتقديراً كبيراً.

وبعد أن وصل إلى الحجاز وأدى فريضة الحج في أواخر سنة 1286هـ اختار المدينة

ص: 38

المنورة للإقامة، واتخذها موطناً لسكناه.

ولم تطل إقامته في مدينة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم فقد فارق هذه الدار الفانية، وانتقل إلى جوار ربه. قبيل غروب شمس يوم الأربعاء 25 من ذي القعدة سنة 1287 هـ (28 مايو سنة 1870) ودفن في البقيع بجوار قبة العباس عم الرسول صلى الله عليه وسلم.

11 -

مات الشيخ شامل بع أن عاش نحو خمسة وسبعين عاماً، وبعد أن ملأ الدنيا دوياً، ونشر قضية بلاده أمام الرأي العالم العالمي، وجعل العالم كله يتحدث عن القوقاز وقضية القوقازيين، وإذا كان لم يستطع أن يصل ببلاده إلى ما كان يرجوه لها من الاستقلال والتقدم ورغد الحياة، فإنه بذل كل ما ملك، ولم يأل جهداً، ولم يدخر وسعاً حتى انتقل إلى جوار ربه راضياً مرضياً، ولكن أثر جهاده وتضحياته ظل خالداً، وأثمر ثمره، فقد تنبه الروسيون لما يعانيه أهل القوقاز من المصاعب والمتاعب وما هم فيه من سوء الحال، وعلموا أن للقوقازيين وللقوقاز قضية لابد من النظر إليها بعين الاعتبار.

وقدر الروسيون جهاد شامل وبسالته، فأنشأوا في (تفليس) عاصمة القوقاز العامة متحفاً عاماً لآثار القوقاز والقوقازيين وأودعوه كل ما عثروا عليه من آثار الشيخ شامل، كالأسلحة التي كان يحارب بها والأعلام التي كان يحملها جنوده وقواده، وبعض الوثائق والمستندات التي تبودلت بينه وبين القيادة الروسية في القوقاز. وكان هذا المتحف، في الجملة، مشتملاً على كل ما وجد من آثار شامل.

وقد زار هذا المتحف ووصفه أحسن وصف سعادة رشاد بك المستشار بالمحاكم الأهلية المصرية قبل الحرب العالمية الماضية في كتابه (سياحة في روسيا) الذي نشره مقالات متفرقة في (المؤيد)، ثم جمعها في كتاب.

وبعد الانقلاب الشيوعي سنة 1917م واستتباب الأمر للشيوعيين، وجهوا نظرهم إلى القوقاز، وأنشأوا فيه أربه جمهوريات كان أحد هذه الجمهوريات الأربع جمهورية داغستان. وهي جمهورية ذات استقلال. . . ذاتي في شئونها الداخلية ضمن نطاق اتحاد الجمهوريات السوفياتية العام، وكان من أهم ما عنيت به هذه الجمهوري الناشئة أن أسست متحفاً خاصاً بالشيخ شامل في مدينة (محاج قلعة) جمعت فيه كل آثار هذا المجاهد العظيم، والبطل

ص: 39

الوطني المخلص.

ويرى زائر هذا المتحف الآن أعلاماً بالية عليها كتابات عربية واضحة مثل: (لا إله إلا الله. محمد رسول الله) و (نصر من الله وفتح قريب) وما أشبه هذا مما كان يكتب على أعلام الشيخ شامل. كما يرى الكتب والرسائل التي تبادلها مع الروسيين وهي مكتوبة بالخط العربي واللغة العربية الفصحى.

ويرى إلى جانب ذلك كله قطع الأسلحة ونماذجها المختلفة مما كان يستعمل إبان الثورة الداغستانية التي حمل رايتها الشيخ شامل أكثر من ربع قرن. رحمه الله رحمة واسعة. وأحسن إليه، وبل ثراه بفيض من رضوانه.

برهان الدين الداغستاني

ذكريني

للشاعر إبراهيم محمد نجا

إلى (الواحة) التي فارقتها نزوعاً إلى الجنات الوارفات،

والروضات الظليلات، فلما أخفق مسعاي، عدت أبحث عنها

في صحراء الحياة، فما وجدت لها أثراً!.

ذكريني فقد نسيت حياتي

حين ماتت في مهدي أمنياتي

وأعيدي لي الغناء؛ فقد صر

ت حزيناً مستغرقاً في شكاتي

إن أتى الليل، فالسهاد مواف

أو بدا الصبح، فالملال موات

سئمت نفسي الشكاة، وضجت

من لهيب الحرمان والحسرات

ومشى في دمي الفناء ودبت

في حياتي أشباح وادي الممات

أدركيني قبل الممات؛ فإني

رغم ما ذقته أحب حياتي!

كان قلبي يعيش عيش الحيارى

يقطع العمر هائماً في الصحارى

ظامئاً يتبع السراب، فطوراً

يتراءى، تارة يتوارى

ظل حيران مقفر العمر حتى

نضر الله ليله والنهارا

ص: 40

فتجليت واحد تنضج الظ

ل ونبعاً يشفي الصدى والأوارا

فهفا نحوك الفؤاد مشوقاً

كالمحب الغرب وافي الديارا

فإذا فيك كل ما كان يفني

فيه أيامه مني وانتظاراً

عاش قلبي لديك عيشاً رغيداً

يتغنى مع الحياة سعيدا

غير أن الملال غشاه يوماً

فاشتهى أن يعيش عيشاً جديدا

وتمنى نهراً كبيراً عميقاً

وسهولاً فسيحة ونجودا

وبساتين يذهب الطرف فيها

أينما شاء لا يلاقى حدودا

فهو ما عاش لا يحس ملالا

أو يرى نفسه تريد المزيدا

هكذا كلف الحنين إلى المجهـ

ول قلبي ألا يطيق القعودا

فمضى يقطع الفضاء الرحيبا

حينما الشمس أوشكت أن تغيبا

فإذا الواحة الحزينة تبكي

ذلك الطائر العزيز الحبيبا

وتناديه في ابتهال حزين

يجعل القلب موشكاً أن يذوبا:

(عد إلي وكرك الحزين المعنى

إنه لم يزل أنيقاً رطيبا

كيف ترضى بأن تظل بعيداً

كيف ترضى بأن تعيش غريبا؟

آه قد ضاع في الفضاء ندائي

أيها الغائب الذي لن يؤوبا)

أين تمضي بموكب الآمال

يا شقيق الأوهام، يابن الخيال؟

ذهبت حقبة، ومر زمان

بينما لا تزال رهن الرمال

تارة تهبط الوهاد وطوراً

تتسامى إلى متون الجبال

أين تمضي، وما ظفرت بشيء

بعد طول المسير والترحال؟!

هذه هوة يروح بها المو

ت ويغدو في موكب الأهوال!

فانظر الآن كيف ضيعك الشو

ق إلى عالم بعيد المنال!

أيها القلب قد خدعت خداعاً

حينما همت في الفيافي انتجاعا

وأضعت الشباب منى هباء

أترى ترجع الشباب المضاعا؟

وجعلت الأوهام ينهبن عمري

فغدا بينهن نهباً مشاعا!

عجباً! كيف تترك الماء صفواً

ثم تطوي إلى السراب البقاعا؟؟

ص: 41

كيف تمضي وما ترد نداء؟!

كيف تمضي وما تقول وداعا؟!

عد إلى مكرك القديم مشوقاً

قبل أن تمضي الليالي سراعاً

عاد قلبي إلى الوراء حزيناً

يقطع البيد باكياً مستكيناً

ويرد الأوهام عنه فتمضي

ليت قلبي يرد عنه السنينا!

آه! طال المسير من غير جدوى

فاشتهي القلب أن يعود دفينا

وبدا اليأس في الرمال يغني

لحنه الموحش الكئيب الحزينا!

وأظل المساء قلبي، فما تسـ

مع إلا نواحيه والأنينا!

أيها القلب قد تحيرت حتى

صرت يا قلب في الرمال سجينا!

أنا ما زلت في ربيع الحياة

كيف أرضى بهذه التضحيات؟!

كيف أحياهنا مع اليأس وحدي

مبعداً عن مطارح الصبوات؟!

كيف أحيا مقيداً بنواحا

تي، وكيف العزاء عن أغنياتي؟!

كيف أسلو التي أظلت حياتي

بظلال من الهوى ساحرات؟!

بين أحضانها وجدت لروحي

مأمنا من مصارع اللهفات

وعلى مهدها استراح شبابي

بعد ما هام في لهيب الفلاة

أين يا ليل واحتي الخضراء؟

أين يا ليل ظلها والماء؟

قد تولى الضياء، وهو أنيسي

كيف أمضي، وقد تولى الضياء؟

أتمنى، فما تفيد الأماني!

وأنادي، فيما يفيد النداء!

أسفاً للشباب ماتت لياليـ

هـ، فمات الهوى، ومات الرجاء!

أسفاً للحياة أمست فناء

قبل أن يدرك الحياة الفناء!

إنني ها هنا سأدفن نفسي

فاسكبي الدمع، واندبي يا سماء

إبراهيم محمد نجا

ص: 42

‌تعقيبات

المسرحية الشعرية بين شوقي وعبد المطلب:

قال الشيخ محمد رجب البيومي في الترجمة التي نشرها في عدد سابق من الرسالة لفقيد الشعر والأدب المغفور له الشيخ محمد عبد المطلب: (وأحب أن أكشف عن حقيقة مطموسة، فالذائع، المشهور أن أمير الشعراء هو أول من كتب الروايات المسرحية الشعرية، فقد أصدر أولى رواياته (كليوباترة) سنة 1928، ثم أعقبها بعدة روايات مشهورة، والواقع أن عبد المطلب قد سبقه إلى ذلك بعشرين عاماً، فقد نظم في سنة 1909 وما بعدها بضع روايات شعرية ذات فصول ومناظر تمثيلية، وقد جعلها متينة الحوار، سريعة الحركة، حسنة المفاجأة، وكلها عربية بدوية، تتخذ أسماء لامعة في تاريخنا الأدبي كالمهلهل وامرئ القيس وليلي العفيفة. . . فليت الذين يرجفون بجفاف الشاعر وجموده يلتفتون إلى هذه الناحية ثم يحكمون). .

وأنا أحب أن أقول للشيخ رجب، إنه قد تجافى عن الحقيقة فيما كتب، فإن الشيخ عبد المطلب لم يسبق أمير الشعراء في هذا بعشرين عاماً ولا بعشرين يوماً، وإن رواية (كليوباترة) التي أخرجها شوقي للناس عام 1928م ليست بأولى رواياته، بل أن أول رواية مسرحية شعرية أخرجها هي رواية علي بك الكبير، فقد ألفها وهو طالب في باريس عام 1893م، ثم طبعها الطبعة الأولى بعد ذلك بسنوات وهو موظف بالديوان الخديوي، وسماها يومذاك (رواية على بك أو فيما هي دولة المماليك)، ثم أخرج بعد ذلك الرواية التي عرفت فيما بعد برواية قمبيز، كما ألف عدة روايات شعرية ونثرية لا أذكر اسمها الآن، وقد كان لشوقي رحمه الله عناية بهذه الناحية القصصية في صدر حياته، ثم انصرف عنها إلى القصيد في فنون الشعر المختلفة، ثم كان أن رد عليها شيخوخته واستغل فيها المرحلة الأخيرة من حياته مما عرفه الناس عنه، وكلنهم لم يذكروا في ذلك جهده الأول.

فشوقي (لاشك) هو أول شاعر عربي مصري قد راد هذه الناحية أمام الشيخ عبد المطلب وغيره من الشعراء، وهو لاشك قد تأثر في هذا بما وقف عليه في الأدب الفرنسي، على أنه ليس بأول شاعر عربي قد نحا هذا النحو في العربية على الإطلاق، وغاية ما حققته في ذلك رواية باسم (المروءة والوفاء أو الفرج بعد الضيق لناسج بردها وناظم عقدها الشيخ

ص: 43

خليل اليازجي اللبناني) وهي رواية أتم نظمها سنة 1876م ومثلها سنة 1878م وطبعت الطبعة الأولى سنة 1884م، قال مقدم الراوية:(. . . وهي رواية تاريخية تمثيلية شعرية غنائية دل بها على مقدرته في النظم وسعة معرفته بالأنغام، وقد اختار موضوعها من أشهر وقائع ملوك العرب في الجاهلية وأجدرها بالتمثيل. إذ جمعت يوم البؤس والنعيم وظهر فيها الفرج بعد الضيق، وقد شخص فيها غوائل السكر وقباحة الظلم وإكرام الضيف وكرم الأخلاق عند العرب ومثل فيها المروءة في قراد الكلبي والوفاء في حنظلة الطائي والظلم في النعمان بن ماء السماء وأظهر بعد ذلك فضائل الدين المسيحي في فرضه الوفاء وحب الأعداء ولو تحت السيف. .).

والحقيقة التي لا مناص من الاعتراف بها هي أن الشيخ خليلاً قد راد أمام شوقي الأخذ بتغيير البحور وتنويع القوافي حسب تنويع الفصول والمناظر، وهي حسنة يذكرها الباحثون لشوقي، وإنما صاحب الفضل الأول فيها هو الشيخ خليل اليازجي.

وتفكهة للشيخ رجب نقول إن الشيخ اليازجي قد ابتدأ راويته بمقدمة شعرية طويلة عنونها بعنوان (خطبة الرواية)، وضمنها ذكر الفوائد التي تنطوي عليها الروايات التمثيلية، وما يجب من الشروط في تأليفها، وما ذكره الباحثون في تقسيمها، وهي (خطبة) طويلة ابتدأها بقوله:

بحمد لله أخلصت ابتدائي

ومدح أولى الهدى والأولياء

وبعد فإنما المرآة تبغي

لوجه المرء إذ هو في خفاء

وأخلاق الفتى أخفى وجوهاً

عليه فتلك أحوج للمرائي

فأنشئت الروايات ابتغاء

لهذا الأمر يا خير ابتغاء

وتلك بطبعها نوعان: إما

على التاريخ أو ذات ابتداء

فتاريخية تدعى لهذا

وإنشائية حسب البناء

وإنشائية الثنتين أولى

بهذا القصد من ذات انتماء

لأن بها المؤلف لم يقيد

بتاريخ يراعى باقتفاء

وتاريخية الثنتين يبغى

بها تمثيل حادثه لداء

وبشرط أن يكون بها ندور

لموضوع جدير باعتناء

ص: 44

وأن تأتي بقبض أو ببسط

لنفس الشاهدين على السواء

إلى آخر ذلك الشعر الذي هو أشبه بشعر المتون.

الثقافة المصرية والعنصر المصري:

وجاء من لندن أن الأستاذ أحمد خاكي وكيل مكتب البعثات أيضاً ألقى محاضرة في فرع لندن للجمعية الإمبراطورية الملكية تحدث فيها عن المظهر المزدوج للثقافة المصرية: فقال (إن الثقافة المصرية مزيج من ثقافات متعددة مشتقة من مدنيات كثيرة نهضت في مصر، ثم اندثرت بعد أن تركت آثارها في العادات والتقاليد والفكر والفن، وقد تمخضت هذه الثقافة عن نوع من الثقافة اكتسب الروح المصرية برمتها. .!!).

ثم تحدث الأستاذ المحاضر عن المصري المعاصر فقال: (إنه سليل عنصر متغلغل في عصور ما قبل التاريخ، ولم تستطع العناصر المتعددة التي احتلت مصر أن تنقضي على شيء من مظاهره ولا أن تستأصل حبه لوطنه وكراهيته للغزاة والفاتحين لبلاده!).

قالت الوكالة البرقية التي عينت بإذاعة هذا الكلام، (وقد قوبلت بالضحك ملاحظة أبداها المحاضر وهي أن المصريين استطاعوا أن يمتصوا جميع الأجناس التي جاءت إلى بلادهم ما عدا البريطانيين. . .!).

وليس من شك في أن الثقافة المصرية مزيج من ثقافات متعددة كما قال الأستاذ خاكي، وهذه حقيقة أصبحت تصدق على جميع الثقافات في جميع الأمم، فالثقافة الإنجليزية، والثقافة الفرنسية، والثقافة الإيطالية، وجميع الثقافات في مختلف الأمم كلها أمشاج مختلطة. وعندي أن امتزاج الثقافات لا يتحقق بالغزو والفتح فحسب، بل هو يتحقق أكثر بالرغبة في المعرفة واللهفة على تحصيل العلم، وبالاختلاط لتبادل المنفعة، ولولا خوف الإطالة لذكرت عشرات الأمثلة التي تؤيد هذا، على أن هذا ليس موضوع النظر، بل إني أقصد إلى الكشف عن الحقيقة فيما يعنيه الأستاذ خاكي بقوله:(وقد تمخضت هذه الثقافات عن نوع من الثقافة اكتسبت الروح المصرية برمتها) فماذا يريد بالروح المصرية؟ إذا كان يريد الروح الفرعونية وهو ما يدل عليه كلامه فإن الأمر ليس كذلك، وليس يستطيع باحث أن يدلل على مظهر هذه الروح في ثقافتنا الحاضرة، والحقيقية أن الشعب المصري القوي بروحه قد امتص الشعب العربي الفاتح، ولقد زادت مادة هذا الامتصاص عن طاقته حتى

ص: 45

انقلبت شخصيته فإذا هي شخصية إسلامية وأذابه يبدو بهذه الروح في طليعة الشعوب العربية.

لقد وقف الشعب المصري موقف العداوة والمناجزة والنفور من جميع الشعوب التي غزت أرضه واستولت على بلاده. وكانت هذه حاله مع الرومان والفرس والترك والفرنسيين والإنجليز إلا مع العرب فإنه لم يلبث أن نظر إليهم نظرة المواطن الأصيل. وسرعان ما اختفت شخصية الشعب المصري وثقافته تحت شدة هذا الاختلاط، وكان هم مصر أن تجد نفسها في مقدمة الأمة الإسلامية، ولقد توالت الفتوح الأجنبية لمصر ولكنه ظل يغالبها بهذه الروح المكتسبة، وهي الروح التي يجب أن يعتبرها الباحث الروح المصرية وأن تكون مناط الحكم في هذا المقام. . .

(الجاحظ)

ص: 46

‌الأدب والفن في أسبوع

الموشحات:

نشرت (الراديو المصري) حديثاً في الموشحات الأندلسية للدكتورة سهير القلماوي، فيه نشأة فن الموشح في الأندلس، وتتبعت مراحل تطوره المختلفة، إلى آخر عهد العرب بأسبانيا، ومما يعد جديداً في هذا الموضوع ما ذكرته من أثر الموسيقى في فن التوشيح إذ قالت:(وفي عصر ملوك الطوائف برزت مدينة أندلسية بعنيف أثرها في الحياة الاجتماعية كلها وفي الناحية الفنية منها خاصة، تلك هي مدينة أشبيلية بما قد عرف من أهلها من ميل للفن وما قد اشتهروا به من إتقان لفن الموسيقى وشغف الشعبكله بها، وأثرت تلك البيئة المفعمة بالموسيقى في هذا الفن أبلغ الآثار، فقد قدمت له فنوناً من التجديد والحياة لم يكن ليعرفها شعر حديث ولا قديم).

وانتقلت بعد ذلك إلى ما نشأ عن هذا التأثر من استئثار الموسيقى بالشعر كما استأثر به فن البديع في المشرق، وكلف الوشاحون بالموسيقى حتى أغفلوا المعنى في سبيلها، ويبلغ هذا الكلف حد التكلف الذي يميل بالوشاح إلى الافتعال والتعسف ليخرج أنغاماً وألحاناً، ولكن سرعان ما تقوم حركة بين الشعراء لمقاومة هذا التكلف، فيأخذون من هذا التيار ما قد أتاح لهم من مميزات موسيقية تجد فيها المعاني الشعرية حياة جديدة، وخاصة فن الغزل لملاءمة طبيعته للموسيقى، ويزدهر الموشح في الغزل حنيناً، ولكن قوماً يخرجون به إلى المدح والوصف والهجاء والرثاء وسائر أغراض الشعر، فيحملونه ما لا يطيق، ويصل التوشيح بذلك إلى طور آخر من أطوار التكلف، لأن موسيقاه السهلة اللينة المتجددة تلائم أنواعاً من المعاني دون سواها؛ ولكن هذه المحاولة تتكشف عن كسب جديد لفن الموشح، فقد فتحت له آفاق الوصف ووصف الطبيعة بالذات على نحو لم يكن يعرفه الشعر العربي، وإذا هذه الطبيعة المتقبلة الفائرة بالحياة لا يلائمها إلا مثل هذا الشعر الفائر القوي بموسيقاه، وتبدأ حركة شعراء الطبيعة منذ ابن سهل قوية ولكنها تشتد وتزداد على الأيام قوة حتى تصل عند آخر شعراء غرناطة، عند ابن زمرك، إلى أقصى درجات قوتها وجودتها).

وتتوالى الأحداث على الدولة العربية بالأندلس فتنتزع منها بقاع يشعر الشعراء بالحنين إليها وإلى عهودهم فيها، ويمتزج هذا الحنين بالشعور بجمال الطبيعة، فينفتح باب من

ص: 47

الشعر لا يليق به شيء مثل الموشح. وكأن الدكتورة سهير تضيف بذلك موضوعاً للشعر غير الموضوعات المعروفة عند شعراء العرب والتي يقال أن الأندلسيين لم يخرجوا عنها، وإنما كان تجديدهم في الوزن والقافية، ذلك الموضوع هو الحنين إلى الوطن الممتزج بوصف جمال الطبيعة.

وأعود إلى ما بدأت به الدكتورة بحثها من الكلام على أولية فن الموشحات، فقد ناقضت ابن خلدون في نصه على أن المخترع له هو مقدم بن عافر، وقالت إن الأندلسيين عرفوا قبله تخميس الأبيات في آخر العصر الأموي وأول عصر ملوك الطوائف الذي عاش فيه المخترع، ولكنها لم تأت بمثل لذلك تستند إليه مناقضتها، ولعلها استخلصت ذلك من أقوال بعض المؤلفين، وذكر ابن بسام في (الذخيرة) اسما آخراً لمخترع الموشحات هو محمد بن حمود العمري الضرير. على أن التخميس لا يلزم أن يكون توشيحاً.

لون من الشعر المصري:

نشرت (الأهرام) الأبيات التالية للأستاذ محمد الأسمر تحت عنوان (عذراء قنا):

عذراء من أرض قنا

شريفة المحلة

ألفيتها عريانة

لم تستر بحلة

قبلتها فقهقهت

ضاحكة من قبلتي

ولم أزل ألثمها

حتى شفيت علتي

حبيبتي تلك وما

عنيت غير (قلتي)

وهذه الأبيات الظريفة تمثل الروح المصرية الفكهة، كما يمثلها الشعبيين في (القلة) أيضاً:

(جايه من الترعة في الضحك والكركرة)

(والبوسة منها حلوة زي السكرة)

وكما مثلها منذ قرون الشعراء المصريون من أمثال البهاء زهير وأبي الحسين الجزار والسراج الوراق؛ ومما يلاحظ شبه أبيات الأستاذ الأسمر بما كان يقوله الشعراء في تلك العصور في وصف الأشياء التافهة كقول أحدهم في مسبحة:

ومسبحة مسودة لونها

يحكى سواد القلب والناظر

كأنني عند اشتغالي بها

أعد أيامك يا هاجري

ص: 48

ولقد كان بعض المتصدين لتاريخ الأدب يعيبون هذا اللون من الشعر، لأنه يقال في الأشياء التافهة، وفاتهم أن كل شيء بصلح موضوعاً للأدب ما دام موضع حس الأديب ومناط شعوره.

التغزل في القدم:

قرأت في مجلة (آخر ساعة) تحت عنوان (قدم تبتسم) ما يلي:

(تقول فلورا تريستان: لم أر بين الشعراء على كثرتهم من عني بالتغزل في قدم محوبته. . . هذا العضو الذي لولاه ما اندفعت صاحبته إليه. ولكن هناك بيتاً واحداً من الشعر قاله فكتور هوجو في هذا الصدد:

(كانت قدمها تبدو باسمة بالقرب من قدمي).

لقد وجد إذن من تغنى بقدم محبوبته، ولكن ما أقبح الصورة! من يتصور قدماً تبتسم؟ إن نعلاً فاغراً فاه قد يستطيع أن يتثاءب. . . ولكن القدم لا تبتسم).

وليست الصورة قبيحة، لأن الشاعر يريد بابتسام القدم أنها مشرقة ناضرة، والنعل الفاغرة فاها قد يصح تثاؤبها إذا لوحظ في صورتها التثاقل والتراخي، لأن مدار الاستعارة على ملابساتها، ولكن الصورة، وإن نفيت عنها القبح، ليست شيء.

ثم أقول: وكذلك أهمل شعراء العرب التغزل في القدم، ولم يخطر ذلك، فيما وقفنا عليه، إلا لنصيب بن رباح إذ قال:

تخطو على الأرض، ليت القلب منبسط

تخطو على جانبيه هذه القدم

إذا مشت تركت أقدامها أثراً

فوق الثرى كاد مثل الركن يستلم

وهناك شيء مثل هذا، في الشغف بالقدم، ولكنه غزل عملي، إن صح أن يكون الغزل عملاً؟ ذلك أن المأمون قبل قدم جاريته (عريب) فقالت له: والله يا أمير المؤمنين لولا ما شرفها الله من وضع فمك الكريم عليها لقطعتها. حلفت ألا تغسل هذه القدم إلا بماء الورد. وقالوا إنه برت فظلت حياتها لا تغسلها إلا بماء الورد.

مصطلحات المجمع اللغوي:

يتساءل كثير من الناس عن الكلمات العربية التي يضعها مجمع فؤاد الأول للغة العربية في العلو والفنون والشئون المختلفة، وبين هؤلاء المتسائلين من يتهم المجمع بالكسل والتقصير

ص: 49

في مهمته، وقد يكون لهم العذر في ذلك، لأنهم لا يكادون يرون شيئاً من أعماله وآثاره، ولكن ليس معنى ذلك أنهم على حق في كل ما يرمون به المجمع، فهو يعمل وإن كان بطيئاً متوانياً، فلم تذهب دوراته الماضية عبثاً، بل أنتج وإن كان نتاجه يجب إلى القلة العزلة والانزواء. . . بدليل أنه لم يصل إلى أولئك المتسائلين لأنه لم ينشر كما يجب أن ينشر، وخاصة بعد أن توقفت مجلة المجمع عن الظهور من جراء الحرب الماضية، ولعلها تستأنف الظهور قريباً، فقد أعدت مواد العدد الخامس، ويقال إنه قد بدئ بطبعه.

وضع المجمع مصطلحات العربية تزيد على عشرة آلاف مصطلح في الكهرباء واللاسلكي، والاقتصاد السياسي، والطب والرسم والموسيقى والطبيعة والكيمياء والهندسة والقوانين وعلوم الأحياء وفن العمارة والشئون العامة. وقد استخدم بعض هذه المصطلحات في الكتب المدرسية، وشاع كثير منها في البلاد العربية حتى أن وزارة العدل العراقية أدخلت مصطلحات القانون المدني التي وضعها المجمع في قانونها الجديد، ولذلك طبعت هذه المصطلحات مستقلة في كتيب نشرته في العراق. . .

أما مدى انتشار هذه المصطلحات في مصر فليس يعدو مجموعة منها (هي ما تم من سنة 1934 إلى 1939) طبعتها وزارة المعارف وتبيعها لمن يطلبها وأكثر الناس لا يعلمون بها، وليس هناك من الكسب ما يغري المكاتب ودور النشر بنشرها.

وهناك مصطلحات وضعتها اللجان الفرعية ولم يقرها المجمع بعد، وقد رأى تعرض هذه المصطلحات على الهيئات العلمية المختلفة، وأن تتلقى اللجان ما يرد من الملاحظات عليها، وخصوصاً المصطلحات التي وضعتها لجنة المصطلحات الطبيعة بالمجمع في علوم التشريح ووظائف الأعضاء والأنسجة وأمراض الجلد وغيرها لأن هذه المصطلحات الطبية التي تبلغ نحو أربعة آلاف مصطلح قد لا يتسع وقت المجمع للنظر فيها فيكتفي ببحث اللجنة إياها على ضوء ما تتلقاه من ملاحظات الهيئات العلمية، للوصول إلى اللفظ العلمي الصحيح؛ وذلك أن المجمع رأى أن تعرض اللجنة عليه المصطلحات الطبية الشائعة التي تتناولها أقلام الكتاب والأدباء، أما المصطلحات التي تتعلق بالتفصيلات الفنية فإن لم يتسع لها وقت المجمع يكتفي فيها بعمل اللجنة. ولذلك كتبت اللجنة إلى الهيئات العلمية أنها لا ترى مانعاً من أن يستعمل المؤلفون في كتبهم هذه المصطلحات بشرط أن ينصوا على

ص: 50

نسبتها للجنة حتى لا يظن أنها من قرارات المجمع النهائية. .

التربية الفنية:

نشرت (الأهرام) إن وزارة المعارف تعد مرسوماً بإنشاء لجنة استشارية للفنون الجميلة، تختص بإنشاء متاحف الفنون الجميلة والإشراف الفني على تنظيمها وتنسيق معروضاتها واقتناء الطرف وحفظها وترميمها، وتنظر في سياسة تعليم الفنون الجميلة في مصر وفي الخارج وتعمل على الاشتراك فيها، وتقدم الإعانات للجمعيات الفنية لتشجيعها، وتنشئ الجوائز والمكافآت للفنانين، وتعمل على حماية الآثار والمواقع التاريخية والمناظر الطبيعية والميادين العامة وما يقام فيها من نصب وتماثيل ومنشئات تذكارية، وتضع الاقتراحات والرغبات المتصلة بوسائل تشجيع رجال الفنون من أبناء البلاد، وتربية الملكات الفنية وتهذيب الذوق عند الجمهور.

وهذا البرنامج الضخم يتلخص في كلمتين هما (التربية الفنية) وليس هذا التلخيص للتقليل، إنما المقصود حصر الفكرة للدلالة على عظم شأنها، فتربية الشعب، جمهوراً وتلاميذ مدراس، تربية فنية قوامها إبراز المواهب وتعهد الملكات وترقية الذوق العام، ليست بالأمر الهين اليسير الذي تستطيع أن تستقل به اللجنة المزمع إنشاؤها بوزارة المعارف، بل هو يحتاج إلى جهود أكبر من ذلك، والمأمول أن تكون هذه اللجنة أولى الخطوات في هذا الطريق. . .

إن هذا الشعب تكمن فيه بذور الفن، وإنني أعتقد أن الإنسان على العموم فنان بالطبع، فهو إن لم يكن منتجاً، متذوق لجمال أي ناحية من نواحي الفنون، وليس أصلح للناس ولا أنفع لهم من استغلال طبائعهم الفنية في ترقيتهم وتهذيب نفوسهم.

ومما يؤسف له أن الحياة الفنية أصبحت عندنا في غاية الاضطراب والفوضى، تكثر فيها العناصر الدخيلة التي يعوزها الاستعداد أو تنقصها الدربة، ومن وراء ذلك ملكات مقبورة ومواهب مهملة.

وإذا كانت الدولة تنفق مبلغاً كبيراً من المال في استقدام الفرق الأجنبية لترقية فن التمثيل وإرضاء أذواق الطبقة العالية، فإن الطبقات الأخرى من الشعب لأحوج إلى هذه العناية بدلاً من أن تتركها فريسة للمتجرين بالفنون، الهابطين بها في سبيل الإثراء وجمع الأموال. . .

ص: 51

وأظن إنه قد مضى ذلك العهد الذي كنا فيه نجمل الأحياء التي ينزل بها (الخواجات) ونزين الطرق التي يسلكونها، وندع المواطنين تقذي الأتربة عيونهم، وتملأ روائح العفونة أنوفهم، ويهاجمهم الذباب من كل حدب وصوب. مضى ذلك العد ولكنا صرنا إلى حال لا يتهم فيها بالأجانب ولا بالمواطنين!

ولا سبيل إلى تهذيب ذوق الجمهور إلا بالنظافة وتعويده على الإحساس بالجمال، والشعور بجمال المحسات طريق إلى إدراك الجمال المعنوي، وهذه هي غاية التربية الفنية المنشودة، ومن وسائلها تحقيق برنامج اللجنة الفنية التي تنشئها الآن وزارة المعارف والتي نرجو لها التسديد والتوفيق.

العباسي

ص: 52

‌البريد الأدبي

ضمير قلق:

ذلك هو الضمير الثاني الذي نراه اليوم كثيراً في هذه الجمل (هذه مسألة لها خطورتها، وهذا كلام له وزنه، وهذا فعل له وزره) وما إليها. . .

فإن الملكية التي تثبتها إضافة الهاء إلى كلمة خطورة، وكلمة وزر سبق أن أثبتتها الهاء المجرورة باللام قبل هذه الكلمات، فاستغنت الجملة بالجار والمجرور عن هذه الإضافة، التي هي - لا شك - سقطة سقطها أحد الكتاب المتأخرين فتبعه فيها كثيرون بدون تحرز.

وإلا فماذا ينقص المعنى إذا كتبت الجمل هكذا (هذه مسألة لها خطورة، وهذا كلام له وزن، وهذا فعل له وزر)؟؟

ولم ينقص المعنى شيء. وما الضمير الثاني المضاف إلا ضميراً قلقاً نابياً، لا أحسبه عرض لي في كلام عربي قديم. إلا أن يكون قد عرض لغيري من القراء الأجلاء فيتفضل بالإرشاد.

محمود عماد

السيد عدنان يجيب:

ما نظن السيد عدنان أسعد يقصد الجد بهذه المجاملة العروضية، فقد طلبنا منه في العدد الماضي من الرسالة يأتينا بشاهد واحد من الشعر الجاهلي أو الإسلامي على أن الكف يدخل الوافر وحده أو مع العصب، فماذا صنع؟ أعياه أن يقع على هذا الشاهد الواحد في دواوين الشعر الجاهلي والإسلامي فعمد إلى كتب العروض فالتقط منها الشاهد الواحد الذي اقتلعوه حين أعجزهم أن يجدوه، وافتعال الشعر في شواهد النحو واللغة والعروض معروف، وجاء به فرحاً يقول:(أكتفى بإيراد شاهدين اثنين لا شاهد واحد - وإن توفرت لدينا الشواهد (!) - أما الشاهد الأول فقد قال الشاعر العربي (؟):

لسّلامة دارٌ يحفير

كباقي الخلَق السُّحق قفار

فمن هذا الشاعر العربي يا سيد عدنان؟ وفي أي عصر كان؟ وما بقية قصيدته التي منها هذا البيت؟ وما ميزة هذا البيت على ما (توفر لديك من الشواهد) حتى تشرفه بهذا

ص: 53

الاختيار؟

وأما الشاهد الثاني فلم يأت به لا من الشعر الجاهلي، ولا من الشعر الإسلامي، ولا من الشعر العباسي، وإنما أتى به من الشعر العصري، وهو الذي يخلط فيه أهله بين الهزج وجزوه الوافر، وكان التنبيه عليه مثار هذه المناقشة!!

يمثل هذا الجدل يا سيد عدنان، لا يظهر حق ولا ينحسم خلاف. . .

أمس بين الأعراب والبناء:

جاءتنا كلمة من بغداد بإمضاء (محمد شبلي أحمد مدرس اللغة العربية) يقول فيها:

(نشرتم في الرسالة الغراء عدد 726 في مقالتكم الافتتاحية في السطر الثامن العبارة الآتية: (ولا أمس ولا غد) ولكن ليعلم أستاذنا الجليل، أن أمس هذا ظرف زمان مبنى على الكسر، هذا ما ذهب إليه أكثر النجاة. . . وأن معنى كلمة أمس هذه تدل على البارحة، أما إذا دخلت عليها أل التعريف، فإنها تدل على ما قبل البارحة، أي على الماضي سواء البعيد أم القريب، على شرط ألا ينسحب معناها إلى البارحة. وما يؤلمني أن ذلك كيف كان عليكم خافياً وحضرتكم أحد أعلام اللغة العربية في القرن العاشرين. . .).

نقلنا كلام الأستاذ المدرس بنصه ورسمه لنطمئن حماة العربية على أنها لا تزال والحمد لله بخير! وبحسبنا أن ننقل للأستاذ المدرس ما يعرفه المدرسون جميعاً من حكم أمس: أمس ظرف زمان؛ فإذا أريد به اليوم الذي قبل يومك بليلة بني على الكسر؛ وإذا أريد يوم من الأيام الماضية، أو كسر، أو صغر، أو دخلته ال، أو أضيف، أعرب بإجماع. تقول آماس، وأميس، وليس للمجنون أمس لا غد، وأمس العرب خير من يومهم.

إلى الأستاذ علي الطنطاوي:

هالتك يا سيدي الفاضل حالة مصر الاجتماعية فأرسلت إنذارك مدوياً كالصاعقة مزجراً كالإعصار؛ هالك يا سيدي هذا التفاوت الكبير بين البشر في مصر في نظرة عامة فكيف بك لو عرفت تفاصيل الجزيئات في قوى الدوائر الزراعية الكبرى في بلادنا؟ إن كل قرية من هذه القرى تكافح الآن دودة القطن بأبنائها وبناتها بين لفح الهجير وإلهاب (الخولي) بعصاه الغليظة لأجسامهم المهزولة المعروقة. . .

ص: 54

أتدري لحساب من كل هذا العذاب؟ إنه لحساب رجل واحد يملك القرية بقضها وقضيضها ويصيف خارج البلاد دون أن يترك في قريته أثراً اجتماعياً يعود بالنفع على من يجوعون ليشبع ويعذبون لينعم! فتابع نذرك يا سيد لعلهم يتعظون ويعتبرون. . .

خورشيد عبد العزيز

(الرسالة): جاءتنا كلمات كثيرة بهذا المعنى فاكتفينا بهذه

الكلمة.

إصلاح بيتين لأبي العلاء:

في العدد 728 نشرت الرسالة مقالاً للأديبة الفاضلة السيد منيبة الكيلاني عنوان: بين أدب المرأة والرجل؛ ولقد راقني هذا المقال فتتبعته، فعثرت فيه على بيتين من الشعر لأبي العلاء المعري يحتاجان إلى إصلاح: أولهما يحتاج إلى كلمة تتمم نقصه. والثاني به زيادة يجب حذفها؛ لأن النظم من الخفيف، ولإصلاحها يكونان هكذا:

علموهن الغزل، والنسج، والزد

ن، وخلوا كتابة، وقراءه!

فصلا الفتاة بالحمد، والإخـ

لاص تجزى عن يونس وبراءه

وبالرجوع إلى هذا العدد يتبين للسيدة الفاضلة صحة ما قلنا، وللرسالة الغراء وافر شكري.

محمد غنيم

إلي الأستاذ جميل

قرأنا ملاحظتكم المنشورة بأحد أعداد (الرسالة) الغراء عن الأبيات المنسوبة إلى سيف الدولة إذ حققتم إنها لأبن الرومي كما هو مثبت بديوانه. . .

ولكن في قول أبن خلكان في الجزء الأول من الوفيات ما يلفت النظر، إذ نسب الأبيات إلى سيف الدولة الحمداني في ترجمته له، وقال أيضاً ما صورته:

(وقيل إن هذه الأبيات لأبي الصقر القبيصي، والأول ذكره الثعالبي في يتيمة الدهر. . . وهذا من التشبيهات الملوكية التي لا يكاد يحضر مثلها للسوقة).

فما رأي الأستاذ في هذه الرواية؟؟

ص: 55

(مكة)

عبد الغني فسق

تاريخ النوبة:

يسأل أحد القراء عن كتاب في تاريخ النوبة، ونحن نعرف أن للأستاذ محمد كامل حته كتاباً عنوانه (صفحات مطوبة من تاريخ النوبة) وهو بالطبع أدرى بمراجع كتابه، فليتفضل بإجابة السائل مشكرواً.

ص: 56

‌القصص

هل كان حلماً؟

للشاعر الفرنسي جو دو موبوسان

بقلم الأديب جمال الدين الحجازي

لقد أحببتها بجنون، وما أدري لماذا يحب الإنسان؟ وما أغرب أن ترى شخصاً واحداً في الحياة يملك عليك مشاعرك، واسماً واحداً في الحياة تردده شفتاك، اسماً يتردد باستمرار ويصعد من أعماق النفس إلى الشفاه، اسماً يردده المرء كثيراً ويتمتم به في كل مكان كالصلاة!

وسأقص عليك قصتنا:

لقد قابلتها وأحببتها، وهذا كل ما حصل وكنت طوال العام أحيا بين أعطافها وأتمتع بدلالها ورقتها، ولم أعبأ آنذاك أكنت في نهار أم ليل، أكنت حياً أم ميتاً في هذه الحياة. . .

ثم ماتت. كيف؟ ذلك ما لم أدرك كنهه ولم أعرف عنه شيئاً ولكني أذكر أنها أتت إلى البيت ذات مساء في ليلة أشتد مطرها وهي تقطر ماء، فأصابها البرد في اليوم التالي ولزمت الفراش أسبوعاً. . .

أما ماذا حصل فلا أذكره الآن! وكل ما أذكره أن الأطباء كانوا يجيئون ويصفون لها العلاج الذي لم تقو على تجرعه إلا بمعونة صويحباتها. كانت يداها ساخنتين وجبهتها تكاد تتقد من الحرارة ونظراتها حزينة ساهمة، ولما تكلمت معها أجابتني، غير أني لا أذكر ما تحدثنا به، لقد نسيت كل شيء، أجل كل شيء. ثم ماتت، وأني لأذكر تماماً نظراتها الساجية وأتذكر قول الممرضة (آه) وعندها فهمت كل شيء. . . ولا أعرف شيئاً آخر سوى قول القس لي: أسيدتك! فظهر كأنه أهانها، وجاءني آخر وكان لطيفاً رقيق القلب وحدثني عنها فذرفت الدمع حزناً. . .

وعندما رأيت صويحباتها يسرن مع الجنازة، وليت الأدبار، وسرت في الشوارع شارد الذهن، وفي اليوم التالي ذهبت إلى باريس. ولما رأيت غرفتي هناك، ورأيت فراشنا وأثاثنا وكل ما تبقى من الأشياء بعد موتها، وجدتني غارقاً في بحر من الأحزان، فهممت أن أفتح

ص: 57

النافذة وألقي بنفسي منها إلى الشارع إذ لم أستطع البقاء طويلاً بين هذه الأشياء التي تذكرني بها، وبين هذه الجدران الأربعة التي ضمتها في يوم من الأيام. . . ولما توالت على هذه الذكريات تناولت قبعتي وسرت. وعندما وصلت إلى الباب ومررت بالمرآة الكبيرة المعلقة في القاعة تذكرتها عندما كانت تقف أمامها للتزيين. . .

وقفت قليلاً أمام المرآة مرتجفاً وقد تسمرت عيناي في زجاجها، ولما لمستها وجدتها باردة، وقد أظلم زجاجها فعاد لا يعكس. . أتراه أظلم لفقد صاحبته! وما أسعد الرجل الذي يستطيع أن ينسى كل شيء يمر حوله. . آه كم أقاسي. . .

خرجت من منزلي ولم أدر إلى أين؟ ولم أشعر إلا بقدمي تقودانني إلى المقبرة! وهناك وجدت قبراً عادياً عليه صليب رخامي أبيض ووجدت هذه الكلمات محفورة عليه:

(لقد أحببت وكانت محبوبة وماتت) إنها في القبر! وألقيت بصري على الأرض وبقيت على هذه الحالة مدة طويلة إلى أن خيم الظلام على المكان. ورغبت في أن أقضي الليل باكياً بجوار قبرها ولكنني خشيت أن أرى فأطرد من المقبرة، فما العمل؟ آه إنني لداهية! لقد أخذت بالتجوال حول مدينة الموتى. سرت هنا وهناك. يا إلهي ما أصغر هذه المدينة إذا قورنت بمدينتنا الأخرى التي نحيا بها! ومع ذلك فكم يزيد الموتى عن الأحياء! إننا نقتني القصور الفخمة في دنيانا، ونشرب الماء الصافي من الينابيع، ونمتع أنفسنا بشرب الخمور المعتقة ولكن الموت يزيل هذا كله! وتضمنا الأرض في جوفها ويصيبنا العدم!!

وفي آخر المقبرة وجدت قبوراً قديمة يدل شكلها على أن الموتى بها قد ماتوا منذ عهد طويل لالتصاق قبورهم بالأرض، وقد تداعت الصلبان. . .

وكنت وحيداً فاستلقيت تحت شجرة خضراء، وأخفيت نفسي بين فروعها الغليظة، وهناك انتظرت طويلاً كربان تحطمت سفينته. . .

لما اشتدت حلكة الظلام، قمت وسرت بهدوء تام في أرض الموتى وتجولت مدة طويلة ولكنني لم أهتد إلى قبرها. . . فسرت ماداً ذراعي ناظراً إلى القبور، متحسساً بيدي ولكن دون جدوى لقد تحسست الحجارة والصلبات، وقرأت الأسماء بأصابعي بتمريرها على الأحرف فلم أعثر على قبرها. . .

ولم تكن الليلة مقمرة، وكنت خائفاً جداً، إذ وجدتني بين صفين من القبور. . . قبور في كل

ص: 58

مكان، ولا شيء غير القبور! جلست على أحدها متهالكاً إذ لم أستطع السير أكثر من ذلك ولأن ساقي لم تقويا على حملي فكنت أسمع دقات قلبي وسمعت صوتاً آخر، ماذا؟! إن الصوت غامض وغير واضح، أتراه صوت نفسي في هذا الليل البهيم! تلفت حولي ولم أدر كم بقيت على هذه الحالة فتملكني رعب شديد وأحسست كأنني متأهب للموت.

وفجأة أحسست بأن حجر الرخام الذي كنت جالساً عليه يتحرك!! أجل كان يتحرك ويرتفع، وقد هالني ما رأيت، فقفزت إلى قبر آخر. . . وعندها رأيت الحجر الذي كنت جالساً عليه في القبر يرتفع ويظهر منه الميت عارياً وقد رفع الحجارة بظهره! لقد رأيته بوضوح وتمكنت من قراءة هذه الكلمات:

هنا يرقد جاكوس أوليفانت الذي توفى عن خمسة وخمسين عاماً. لقد أحب عائلته وكان محسناً شريفاً ومات. . . رحمه الله. . .

قرأ الميت ما كتب على قبره، فأخذ مدبباً من الأرض وأخذ يحك به الأحرف المكتوبة على قبره وبعناية وكتب بدلاً منها بعظمة كان يحملها بين أصابعه بأحرف مضيئة لامعة، كتلك التي يكتبها الأولاد على الجدران برؤوس عيدان الثقاب:

(هنا يرقد جاكوس أوليفانت الذي توفي عن خمسة وخمسين عاماً، لقد تعجل موت أبيه لأنه طمع في ثروته، وعذب زوجته وأولاده، وغش جيرانه، وسرق كل شيء استطاع سرقته، ومات بائساً).

ولما أتم كتابته وقف ثابتاً لا يتحرك وهو ينظر إلى عمله وتلفت حولي فوجدت جميع القبور مفتوحة وقد خرج منها جميع الموتى وأزال كل منهم تلك الأكاذيب التي خطها أقاربه على قبره واستبدلها بالصدق والحقيقة!

كان هؤلاء الموتى يعذبون الناس في حياتهم، ويأكل الحقد قلوبهم، ويسرقون ويغشون ويرتكبون كل خطيئة. . . هؤلاء الآباء الطيبون، هؤلاء الزوجات المخلصات، هؤلاء الفتيات العفيفات، كل أولئك كان يكتب على قبره في وقت واحد الحقيقة. . . الحقيقة المفزعة التي كان يجهلها أو يتجاهلها كل إنسان حينما كانوا في حياتهم الدنيا. . .

وقد اعتقدت بأنها هي الأخرى لا بد أن تكون قد كتبت شيئاً على واجهة قبرها. فسرت بين صفين من القبور المفتوحة إلى قبرها غير خائف، تأكدت من وجدها وعرفتها حالا. وعلى

ص: 59

الصليب الرخامي الذي كان مكتوباً عليه قبل قليل:

(لقد أحببت وكانت محبوبة وماتت).

رأيت مكتوباً بدلها:

(بينما كانت ذاهبة في يوم ماطر لتخون حبيبها، أصابها البرد فماتت).

. . . وعند مطلع الفجر وجدت ملقى على القبر لا حراك بي.

(القدس)

جمال الدين الحجازي

الندوة الأدبية

ص: 60