المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 731 - بتاريخ: 07 - 07 - 1947 - مجلة الرسالة - جـ ٧٣١

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 731

- بتاريخ: 07 - 07 - 1947

ص: -1

‌من تجارب المؤلفين

للأستاذ عباس محمود العقاد

يكتب المؤلفون عن تجارب الناس في مناحي الحياة والتفكير. فمن حقهم بل من واجبهم أن يكتبوا عن تجاربهم التي تعنيهم وتعنى القراء، سواء في حياتهم الخاصة أو في علاقتهم بأولئك القراء. لأن هذه التجارب أقرب إليهم وأمس بعملهم، وهي - بعد - موضوع كسائر الموضوعات.

ومن هذه التجارب التي تتكرر عندي في السنوات الأخيرة تجربة استهداء الكتب التي يطلبها من لا يستطيعون شراءها.

وإنما أكتب في هذا الموضوع عسى أن أصل منه إلى نتيجة ترضي المؤلفين والقراء وتعينني على تحقيق الغرض من كل تأليف، وهو الاطلاع الصحيح.

فمن الحقائق التي أعبر بها عن شعور جميع المؤلفين أنهم يحبون أن تصل كتبهم إلى من يفهمها ويتبصر معانيها. ويؤثرون القارئالواحد من هؤلاء على ألف قارئ يشترون الكتب لأنهم قادرون على شرائها، ثم يتصفحونها تصفح العابر الذي لا ينفذ إلى طواياها، أو يتخذونها زينة على الرفوف. وكأنهم نقلوها من تلك الرفوف إلى عالم القبور.

وأقرب الأمثلة إلى تصوير هذه الحقيقة مثل المغني الذي يصغي إليه سميع واحد من وراء الجدران، ولكنه يرى أمامه في قاعة الغناء ألف أصم يحملون التذاكر التي اشتروها بأغلى الأثمان. فإن ذلك المغني ليعنى بذلك السميع الواحد ولا يعنى بجموع هؤلاء الصم الكثيرين، وإن بلغ منه حب المال أشد ما يبلغه في نفس بخيل.

ولو كان كاتب هذه السطور من الأغنياء لما طبع كتاباً إلا خصص منه نصف النسخ على الأقل للقراء الذين ينقدون ولا ينقدون. . . ينقدون المعنى ولا ينقدون الثمن الكثير أو القليل، ولكني لست من الأغنياء.

ولست مع هذا أتولى طبع كتبي بنفسي، بل أكل طبعها إلى الناشرين الموكلين بهذا العمل، كما يفعل معظم الأدباء في مصر وفي الأقطار التي تأسست فيها صناعة النشر والتأليف.

وهنا العثرة كما يقول صاحبنا القديم شكسبير.

فإذا جاءني طلب من قارئ يحب الاطلاع على بعض كتبي ولا يملك ثمنها فليس في وسعي

ص: 1

أن ألبي طلبه على رغبتي فيالتلبية إذا تبين لي من لهجة الخطاب أن صاحبه يحسن الكتابة ويحسن الاطلاع. لأن حصتي من النسخ لا تتجاوز بضع عشرات، منها ما أحفظه للمراجعة وإعادة الطبع، ومنها ما أهديه إلى الصحف أو إلى الزملاء الذين يبادلونني مؤلفاتهم ويحق لهم عندي ما يحق لي عندهم في عرف الزمالة والمجاملة، وما بقى هو قليل أرسله إلى من يصادفه حظ القبول من طلابه الأدباء.

والناشرون من جانبهم معذورون إذا نشروا مطبوعاتهم للبيع في الأسواق. لأن صناعة النشر لا تقوم على توزيع الكتب بغير ثمن، وليس في طاقة الناشر أن يفتح مكتبته لتوزيع نسخة بالثمن ونسخة بالمجان، وتدبير الوسيلة للتفرقة بين من يطلب فيجاب ومن يطلب فلا يجاب.

وتبقى بعد ذلك تلك الحقيقة التي لا شك فيها، وهي أن فريقاً من القراء يحبون الاطلاع ويحسنونه ولا يملكون ثمن الكتب التي يتشوقون إلى مطالعتها في كثير من الأحيان.

فما الحيلة في أمر هؤلاء؟

أعرف حيلة قد تدل على مثيلاتها وإن لم تكن هي بذاتها صالحة للتطبيق والتعميم في جميع الأحوال.

فمنذ نيف وثلاثين سنة طبع العالم المشهور الدكتور شبلي شميل مجموعة رسائله وفصوله وهي شرح بخنر على مذهب داروين وبعض المباحث في عالم النفس والاجتماع. وقدر لها ثمنا مائة قرش لجزأي المجموعة، وهما مجلدان حافلان.

وكنت يومئذ في أسوان، شابا ناشئاً أفتتح طريقي إلى الأدب والسياسة بجهد جهيد.

فكتبت إليه أقول ما فحواه: انك من دعاة الاشتراكية كما فهمت من مقالاتك وأحاديثك في الصحف والمجلات. ومعنى الاشتراكية أنك تستكثر المال على الأغنياء، وتود لو يتساوى فيه نصيب المجدودين ونصيب المحرومين. فما بالك أيها العالم الفاضل تضيف نصيب العلم إلى نصيب المال فتجعلهما معاً من حق الأغنياء دون الفقراء؟ أتظن أن الفقير لا يحق له أن يطلع على كتبك؟ أم تظن أن بذلك الجنيه المصري في كتابين أمر ميسور لكل فقير؟

وأصاب الخطاب مقنعاً من الدكتور الأريحي، فجاءتني منه نسخة مهداة، وقرأت في الصحف أنه خصص مائة نسخة للفقراء من القراء، ولا أذكر كيف تصرف في

ص: 2

تفضيلطالب على طالب من طلابها الكثيرين.

إلا أن الدكتور شبلي شميل قد استطاع أن يفعل ذلك لأن الغيورين على العلم والثقافة أعانوه على طبع المجموعة، واكتتبوا بمبالغ من المال لتيسير الطبع الذي يليق بالكتاب. فنشر أسماءهم وما تبرعوا به في ذيل الجزء الأول وشكر لهم ذلك الصنيع.

ولست أقول إن طبع الكتب على هذه الطريقة نظام يتيسر العمل به لجميع المؤلفين، أو يغني عن طريقة النشر التي جرت عليها أمم الحضارة وفضلتها على كل طريقة أخرى، مع ما بها من عيوب.

ولكني أقول إن الأغنياء الغيورين على الثقافة يستطيعون أن يقيموا المكتبات العامة وأن يشتروا من كل كتاب نسخاً يوزعونها على معارفهم من الأدباء والناشئين النجباء، وإنهم مطالبون بهذا (الحل) الذي لا حل غيره لمسألة الاطلاع بين القادرين عليه بالفهم والعاجزين عنه بالفاقة. فإن رعاية السادة الأعلياء للأدب والأدباء معهودة في جميع العصور وبين جميع الأقوام، وهذه هي الرعاية التي تلائم أساليب الزمن ولا تشق على أحد من ذوي الأريحية واليسار.

على أننا في صدد الاستهداء نشير إلى ضرب من استهداء الكتب لانقره ولا نرضاه، ولو قدرنا على تلبية الطلب فيه.

ذلك هو استهداء الأندية والجماعات، وهي في هذا الزمن تنتشر بين كثير من البيئات، وتتعدد في كل حاضرة، وتضم إليها ألوفا من المشتركين.

فطلب الكتاب بغير ثمن مفهوم من الأديب الفرد الفقير، ولكنه غير مفهوم من مائة أو مائتين أو بضع مئات يتبرعون بالكثير أو بالقليل لإدارة الأندية وتأثيثها وتزويدها بوسائل الراحة وتزجية الفراغ.

فلو أنصف أصحأبيسبعيسبهعسيخهبعيسخهبعأصحاب هذه الأندية لبذلوا في النسخة الواحدة ثمن عشرين أو ثلاثين نسخة أو أكثر من عشرين وثلاثين!

لأن النسخة الواحدة يقرؤها عشرات بعد عشرات، وثمن النسخة الواحدة يتعاون عليه عشرات بعد عشرات. فليس الإنصاف أن يطلبوها بغير ثمن كما يطلبها الفرد الفقير، وإنما الإنصاف أن يبذلوا ثمنها على الأقل، إن لم يتجاوزوا ذلك إلى شراء نسخ كثيرة يتداولها

ص: 3

القراء، ويتخذوا من التعاون بينهم سبيلا إلى الاطلاع الذي لا سبيل إليه للآحاد المتفرقين.

ويتخيل القارئ ما يكون لو أجيبت الأندية إلى طلبها العجيب من المؤلفين.

فقد تتسع المدينة لعشرات من الأندية يؤمها أعضاؤها الذين يعرفون تأسيس الأندية والاجتماع فيها، وهم على الأغلب من طبقات المثقفين والمكفيين، إن لم يكونوا من طبقة الموسرين والأعلياء.

وقد يبلغ هؤلاء الأعضاء عدة مئات أو عدة ألوف، وقد يعم الطلب من المدن كلها لا من مدينة واحدة أو مدينتين. فإذا استوفى هؤلاء أو بعض هؤلاء قراءة الكتب بغير ثمن فمن الذي يشتري الكتاب، وعلى من يعول المؤلفون والناشرون! ولماذا يأبى النادي على مشتركيه أن يطلبوا المرطبات بغير ثمن وأن يلعبوا البليارد بغير ثمن وأن يولموا الولائم بغير ثمن ويستثنى الكتب وحدها من هذه القاعدة فيجعلها تبرعاً مباحاً لا يدخل في الحساب!

إن الاستثناء الوحيد الذي يجوز في هذه الحالة هو استثناء الأندية الخيرية التي يختلف إليها فقراء الشعب للقراءة وسماع المحاضرات، ولكن العبء الأكبر في هذا الاستثناء ينبغي أن يحال على ذوي الأموال قبل أن يحال على ذوي الأقلام، لأن ذوي الأقلام ينهضون بعب الفكر ويحتاجون إلى من ينهض بأعباء معيشتهم في كثير من الأحوال.

هذه تجربة التأليف، وليست هي بأعجب التجارب ولا بأحوجها إلى التدبر والملاحظة، ولكنها شيء من أشياء، قد نعرضها (شيئاً فشيئاً) على شركاء المؤلفين في مهمة الثقافة والاطلاع، وهم جمهرة القراء.

عباس محمود العقاد

ص: 4

‌على ثلوج (حَزْرين)

للأستاذ علي الطنطاوي

قال لي صديق:

خطر لي من سنوات أن أرى لبنان في الشتاء، ولبنان في الشتاء له فتنة الراهبة الصبوح بجلبابها الأبيض الذي لا يبدي من جمالها إلا قليلا يثير الرغبة في الكثير، كالجرعة من الكأس لا تبل الصدى ولكن تزيد العطش، والفصل من الرواية لا يغنيك عنها، ولكن يشّوقك إليها، فرحلت بالسيارة مع جماعة من الإخوان من بيروت إلى عاليه، حتى إذا بلغناها، تركنا الطريق المعبد الذي يمرّ على بحمدون وصوفر، وصعّدنا في الجبل، نمشي على غير طريق، وكان الصعود أول النهار سهلا: وكنا أقوياء أولى نشاط، فما قارب المساء وجاوزنا قرية (حزرين) حتى توعرت السبل، فلم نعد نرى من حولنا على مدٍّ البصر إلا ذرى متعمّمة بالسحاب، وتلالا مكسوَّة بالثلج، تبدو القرى في سفوحها البعيدة، وكأن بيوتها المتفرقة بمداخنها، بواخر تمخر العباب، فجعلنا نفتش عن طريق نعود منه، فلم نجد إلا ثلجاً منبسطاً، يخفى السبل ويغطي الأرض، فلا نتبين مواضع الهوى لنتجنبها، ولا نرى الحفر لنحيد عنها، فلم تكن تمر لحظة حتى نقع في حفرة، أو نقدم على السقوط في هوَّة، فآثرنا التفرق علَّ واحداً منا يرى منزلا فيدل عليه إخوانه، وأظلم الليل، وانفردت في مهامه الجبل، واختلطت عليَّ الأرض بالسماء، والتقى الثلج بالسحاب، وهبت الرياح متجمدة من القرّ، كأنها المبارد الخشنة، تحمل برّداً ثقيلا جعل يسَّاقط على وجهي، كالرصاص المندفع من الرشاشات.

وألهب الخوف أعصابي وإن كاد البرد يجمد أطرافي، وصوَّر لي الوهم أشباحاً مرعبة تحيط بي، فكنت أعدو هارباً منها حتى تكلّ قواي، فأقف لأستريح قليلا، فأحسُّ كأن جنياً جباراً يسوقني فأعود إلى العدو. . . وطالالمسير وطال الليل وتهت فما اهتدى إلى منزل، وتاه الفجر فما يهتدي إلى مطلع، ونفذت قواي وحطمني الجهد، فتمنيت الموت وعزمت عليه، وجعلت أفتش عن واد أتردَّى فيه، فرأيت من بعيد نوراً خافتاً، يحاول أن يخترق يحجب الظلام، فيعجز ويرتجف كأنه مقرور مثلي يقضقض عظامه القرّ، وأعصابه من التوتر والفزع كالأسلاك المحماة بالنار، أو كأنه خائف مثلي من الوحدة في هذه الأعالي

ص: 5

الموحشة فهو يرتجفمن الخوف، فأسرعت إليه إسراع المشرف على الغر في اللجة الهائجة إلى السفينة المنجية يرى ضوءها، أو الشاطئ الآمن يبصر مناره، وهبطت وادياً كأنما تعزف فيه الشياطين من أصوات رياحه، ثم صعدت جبلا كأنه من استوائه صرح قائم، حتى وصلت إلى النور، فإذا بيني وبينه سور كأنه كان يوماً. . . سور حديقة، فعالجت بابه لأفتحه فإذا هو صدئ المفاصل كأنه لم يفتح من دهور، فحططت عليه بمنكبي، ودفعته دفعة الآيس، فصرَّ صريراً مخيفاً، رددته هاتيك البطاح، فكان له مائة صدى انبعثت كلها معاً ثم حملتها الرياح إلى بطون الأودية، وعاد السكون، فولجت أحسب أن الرحمة في باطن الباب، الذي كان في ظاهره العذاب، وإذا أنا بشبح أسود يثب إلى وجهي، ويتعلق بي، وله صوت لم يقع في أذني أفظع منه، فنظرت إليه وقد شل الفزع أعضائي وسمَّرت قدماي بالأرض، فإذا هو كلب ضار، يهم بأن ينشب فيَّ مثل أنياب الذئب الكاسر، فتبلد حسي واستسلمت للقضاء، وتوقعت الشر. . . ولكني رأيت الكلب يعدني ويبتعد عني، قد دعاه صوت من داخل البيت فانصرف إليه مزمجزاً ثم أقعى غير بعيد. ومشيت إلى البيت فدخلت إلى ردهة دافئة، فيها كهل وامرأة وشيخان عجوزان، فسلمت فلم يردَّ أحد منهم، ولبثوا يحدقون فيَّ جميعاً بعيون فيها الدهشة والبغضاء، شاخصة لا تطرف، كأنهم يرون فيَّ مخلوقاً عجيباً انشقت عنه الأرض، فلما طال ذلك منهم، ملكتني الحيرة وأخذني من الخوف ما لم يأخذني وأنا معلق بين السماء والأرض، تائه لا أعرف لي متجهاً، وهممت بالفرار ثم خفت أن يلاحقني الكلب، وذكرت الكلب فنظرت إليه فإذا هو رابض يزمجر يريد أن يثب عليَّ فيكفّه الكهل بقدمه، وتجلدت فقلت لهم:

- أنا غريب ضل في هذه الجبال حتى وقع عليكم، وأنا أعتذر أن أزعجكم، وأرجو أن تمنوا عليّ بقدح شاي أطفئ به حر جوفي الذي ألهبه الخوف، وأدفئ به أطرافي التي جمّدها البرد.

فنظرت المرأة إلى الكهل نظرة لمحت فيها خليطاً من الحب والبغض، والشفقة والرهبة، ولبثت لحظة متسائلة، فهز رأسه كالموافق، فقامت تعدّ الشاي، وألقيت بنفسي على مقعد قريب من النار، وجعلت أسارق القوم النظر، فأرى الكهل قوياً متين البناء، لم يجاوز الخمسين، ولكن الهم الذي تبدو عليه ظواهره قد شيَّخه قبل أوان الشيوخة، وأرى المرأة في

ص: 6

نحو الأربعين، ذات جمال وادع قد حجبه ستار من الكآبة والغم، فهو يضئ من ورائه كما تضئ الحلية النفسية من تحت الغبار المتراكم، وجاءت بالشاي فشعرت وأنا أشربه أنه يمشي في عروق كما يمشي الريُّ في النبتة الذاوية تسقيها الماء. ثم قلت لهم: هل تأذنون لي أن أرقد ما بقى من الليلة على هذا الكرسي؟

فقال الكهل بيده وأن لا، وأشار إلى الخادم الشيخ، فسلك بي ممرات وجاز أبواباً كأنها ممرات قصر كبير، لا كوخ منقطع في رأس جبل لا يبلغه جنٌّ ولا بشر، حتى دخل بي بهواً فسيح الجوانب، تفوح منه رائحة القدم والهجران، أحسست لما ولجته أني ولجت جوف مقبرة من المقابر، فوضع الشمعة التي كان يحملها على الموقد، وأحنى رأسه وخرج، وتلفت فرأيت الشمعة قد رسمت ظلالا على الجدران صورها لي الرعب شياطين ذات قرون وأنياب فذهبت إلى الباب أريد الخروج فوجدته مقفلا عليَّ، فلعبت بي ظنون السوء، وزاد بي الفزع حتى رأيت الجدران تنأى عني، والمكان يكبر، ووجدت أن الأرض تدور بي، فصرخت، فعاد الخادم الشيخ فقال: مالك؟

فاستحييت أن أقول له إني خائف. فقلت: ألا تتكرم بإيقاد النار؟

قال: إن الموقد لم يستعمل من عشرين سنة.

قلت: كيف تهملونه عشرين سنة؟

قال: لقد أهملنا البهو كله، منعنا هاني أن ندخله بعدها؟

قلت: بعد من؟

فانتبه وقد كان غافلا، ونظر حوله جزعاً يخاف أن يكون قد سمعه أحد، ثم قال لي:

- تصبح على خير.

وانحنى وخرج مسرعاً.

وغطى التعب أخيراً على مخاوفي، وخفق رأسي، فجئت الفراش لأنام فإذا عليه أرطال من الغبار، فنفضته فهبت زوبعة محملة تراباً فأغمضت عينيَّوغصت في الفراش، لم أعد أبالي من الونى أن يكون مثواي قبر أو مزبلة أو جحر ثعبان. فلم أكد أغفى حتى سمعت مثل أصوات المدافع، تدوّي في أذني فتبدد النوم من عينيَّ ثم ضعف الصوت حتى سمعت منه وأنا بين النائم واليقظان: هاني. هاني. ففتحت عينيَّ، فرأيت الفجر قد بدا، ورأيت الرياح

ص: 7

تحرك باب النافذة فيكون منه هذا الصوت، فأغلقته، ولكن الصوت لم يبرح يطنُّ في أذني ينادي: هاني. هاني. فذهبت إلى آخر البهو، وهو يلاحقني، فعاودني الفزع فصرخت، حتى سمعني أهل الدار كلهم، وأقبلالكهل مغضباً يقول: ما هذا؟ قلت: هل في هذه الدار من اسمه هاني؟ ففتح عينه وقال: ولمه؟

- قلت: صوت لا يفتأ ينادي: هاني. هاني.

- قال: سمعته؟ أنت سمعته؟ أهو صوت امرأة؟

وجعل يهزني كالمجنون.

- قلت: نعم.

فأرسلني وفتح الباب، وعدا يخب في الثلج. . .

ولحقته المرأة كأنها تحاول ردَّه، ولكنها وقفت في الباب، وألجم الخوف لسانها فلم تنطق ولكن نطقت عيناها، فأبانتا، وأطل منهما الحب لحظة ثم ارتد، كما يرتد عن النور سجين طال عهدهبالظلام. . . وقرأت في وجهها صحائف تاريخ لم أفهم منها شيئاً، فتركتها وأقبلت على العجوز، وقد انتحت ناحية تبتسم ابتسامة غريبة، كأنها تقول: أنا أفهم ما لا تفهمون، وأنتظر من زمان هذا الذي ترونه الآن وتعجبون منه!

فأشرت إليها أسألها.

قالت: سأحدثك. سأشرح لك. إنه تاريخ طويل ختم في هذه اللحظة. إنها قصة هائلة مشت بأحاديثها الركبان، وكتبتها الأقلام، وصورتها (الأفلام) وصارت من روائع الأدب، لقد مثلت على هذا المسرح قبل أن تمثل في (السينما) ولكن انتهت الرواية ولم يزح الستار، فلبث الممثلون حائرين لا يدرون ماذا يصنعون؟ وعيون النظار تكاد تأكلهم. تصور ثقل هذه اللحظات وشدتها، إنها لا تحتمل وإن كانت لحظات قصاراً، فكيف إن دامت عشرين سنة. . .

عشرين سنة ونحن نعيش بلا عمل، ننتظر أن يرخى الستار على هذه المسألة التي مثلناها، فلم يزح إلا الآن. . .

- قلت: وأين ذهب الرجل؟

- قالت: ذهب يلبي نداءها.

ص: 8

- قلت: وأين هي التي كانت تناديه؟

- قالت: لقد ماتت!

- قلت: ماتت؟ وهل يرجع من مات؟!

- قالت: نعم إن في الوجود قوة ترجع الموتى: إنها قوة الحب. فإن كنت في شك فاستمع قصتها:

(البقية في العدد القادم)

علي الطنطاوي

ص: 9

‌2 - رحلة إلى الهند

للدكتور عبد الوهاب عزام بك

عميد كلية الآداب

هذه دهلي الجليلة القديمة، دهلي ذات الخطوب والغير، وأم الوقائع والعبر، وسجلّ الملوك والدول.

دهلي المماليك والتغلقية والخلجية واللودية والتيمورية، دار قطب الدين، وظهير الدين، ونصر الدين، وجلال الدين، ومحي الدين.

دهلي التي ضمت تراث الإعصار، من جلائل الآثار، يكاد القلم يجمح عليَّ منطلقاً في الكتابة عنها، كما يستنّ الجواد حين يرى حلبة السباق، أو تمرحه فسحة المروج؛ ولكني أؤخر الكتابة عن هذه المدينة العتيقة حتى أفرغ من حديث المؤتمر الذي سافرت إلى الهند من أجله:

دعا (المعهد الهندي للشئون العالمية) إلى مؤتمر للعلاقات الأسيوية، فأجابت الدعوة أمم آسيا. ودعيت مصر لأنها إحدى الأمم العربية فهي آسيوية وإن كانت أفريقية في جغرافيتها.

وقد دعيت الأمم كلها المستقلة وغير المستقلة. وكانت الأمم التي تجاهد لاستقلالها أحرص على شهود المؤتمر لتعلن عن نفسها، وتنشر بين المؤتمرين دعوتها. وكان عدد المندوبين مشتركين ومراقبين زهاء مائتين. وقد اختلف الأمم في عدد مندوبيها، وكانت مصر خاصة ودول الجامعة العربية عامة ممثلة باثنين مراقبين، وكنت ممثل مصر، وشاركني نائب القنصل المصري في الهند.

وكان موعد المؤتمر الثالث والعشرين من شهر آذار (مارس) الماضي، ودام اجتماعه عشرة أيام. فاجتمعت هنالك وفود الأمم، بل حشرت آسيا ألوانها وأزياءها ولغاتها وعقائدها وحضاراتها في صعيد واحد.

وشهد المؤتمر من الأوروبيين والأمريكيين أحد عشر مراقباً.

وكانت لغة المؤتمر الإنكليزية، وهي لغة العلم في الهند اليوم ولغة الخطاب، يتحادث ويتراسل بها الهنود الذين تختلف لغاتهم. ولم أسمع في المؤتمر هندياً يخطب بغير

ص: 10

الإنكليزية حاشا جوا هرلال نهرو؛ خطب في حفلات الافتتاح والاختتام بالأردية والإنكليزية. وكانت رياسة المؤتمر للسيدة ساروجيني نايدو خطيبة الهند وشاعرتها وبحث المؤتمر في أمور كثيرة قسمت إلى هذه الطوائف:

1 -

مساعي الأمم إلى الحرية

2 -

والهجرة ومسائل الأجناس البشرية

3 -

والتطور الاقتصادي والمساعي الاجتماعية

4 -

والمسائل الثقافية

5 -

والمسائل النسائية

وقد بحثت كل طائفة من المسائل لجنة خاصة من أعضاء المؤتمر، وسجلت ما انتهى إليه بحثها. وتلى تقرير كل لجنة في لجنة عامة من الأعضاء، ووضع بعد المجادلة في صيغته الأخيرة.

وكان للمؤتمر ثلاث حفلات للافتتاح والاختتام؛ شهد حفلتي الافتتاح زهاءعشرة آلاف، وشهد الحفلة الخاتمة نحو خمسة عشر ألفاً وحضرها غاندي.

وكان النظام محكما في هذه الاجتماعات الحاشدة، وكانت الصبايا الهنديات يرشده الوفود إلى مقاعدهم من المؤتمر، وكنّ في اجتماعات اللجان العامة كذلك يتولين التنظيم والخدمة.

وكانت حفلات الافتتاح والاختتام في قلعة كبيرة قديمة من آثار الدولة الإسلامية تسمى (برانا قلعة) أي القلعة العتيقة. وهي بقايا قلعة فسيحة عالية الأسوار رفيعة الأبواب.

وقد طبع المؤتمر كثيراً من أبحاثه وفرقها على الأعضاء، وفيها أبحاث قيمة جديرة بالعناية، وهي مفيدة في تعرف مستوى الثقافة في الأمم الآسيوية وتبين الوجهات الفكرية والنزعات الاجتماعية في هذه الأمم.

وقد حرص القائمون على المؤتمر، ولاسيما نهرو، على أن يشكل معهد آسيوي دائم له فروع في الأقطار الآسيوية كلها، ليقوم على الصلات الثقافية والاجتماعية التي عنى المؤتمر بالنظر فيها.

وقد نص في القانون المقترح للمعهد على أن يكون له رئيس وأمينان أحدهما من البلد الذين اجتمع فيه المؤتمر أول مرة والثاني من البلد الذي يجتمع فيه المؤتمر اجتماعه الثاني، فكان

ص: 11

رئيس المعهد، وأحد أمينيه من الهند، وأمينه الثاني من الصين، وهي القطر الذي يجتمع فيه المؤتمر للمرة الثانية سنة 1949م.

والحق أن خطط المؤتمر في استقبال الوفود وإنزالهم ونقلهم إلى مجامع المؤتمر، وفي ترتيب اللجان وتوزيع المنشورات، وفي تنظيم المعارض وزيارة الآثار والمتاحف - كانت خططاً محكمة.

وأحسب القائمين على المؤتمر أرادوا فيما أرادوا من الدعوة إليه، أن يعظموا شأن الهند، ويبينوا مكانتها في آسيا في طور الانتقال الحاضر، وفي هذا ما فيه من إعظام شأنهم في مفاوضة الإنكليز. ولست أدري أقصدوا كذلك أن يظهروا الهند مظهر الأمة المجتمعة الكلمة، الموحدة المقصد، ويخفوا جهد الطاقة ما كان يضطرب به الهند من صدام بين دعوة الهنادك، وهم الدعاة إلى المؤتمر ومعهم قليل من المسلمين، وبين دعوة الرابطة الإسلامية إلى إقامة دولة إسلامية مستقلة في مواطن الكثرة الإسلامية.

وقد اهتم الداعون إلى المؤتمر باشتراك الأمم الإسلامية فيه، وبعثوا رسلا إلى بعضها ليطمئنوا إلى إجابة دعوتهم. وأرسلت طائرة خاصة إلى أندنوسيا لتحمل سلطان شهريار رئيس وزرائها. وأحسب لهذا الاهتمام صلة بهذا الاختلاف بين حزب المؤتمر الهندي والرابطة الإسلامية كما أبين من بعد. . .

(للكلام صلة)

عبد الوهاب عزام

ص: 12

‌في أساس البلاغة

للأستاذ السهمي

جاء في (أساس البلاغة) للإمام الزمخشري في الطبعتين وفي مخطوطة:

(. . . وتقول: بات فلان في الشفق، والفلق من الشفق إلى القلق أي في الخوف والمقطرة، وهي خشبة تفلق لأرجل اللصوص والدّعار يقطّرون فيها، ومن المجاز قول النابغة:

فإن تبلج فلق المجد عن غره

مواهبه فأنت قسيم ما أفدت)

لم تعلق الطبعة الأولى على القول، وروايته فيها هي:

(فإن تبلج فلق المجد عن غره=مواهبه فأنت له قسيم)

وقالت الطبعة الثانية: (هكذا ورد بكل النسخ فليحرر).

فيبدو قول النابغة بهذا الرسم كأنه بيت شعر، وهو ليس كذلك، إلا أن يعد كل ما يكتب من الأقوال كما يكتب الشعر شعراً). . .

كلام الذبياني هو قسم من خبر هداني الله إلى مظنته، ولولا (أبو القاسم) ما اهتدينا. قال الزمخشري في إحدى مقاماته:

(ثم خوَّلك من جزالة الفضل ما حلّق على هام أمانيك ولم تطمح إليه ظنون عشيرتك وأدانيك).

وقال الإمام في الشرح:

(حلق على هام أمانيك نوع من المجاز لا تراه إلا في كلام من هو من البلاغة بالمنظر الأعلى كما حكى عن النابغة أنه استأذن على النعمان، فقال له الحاجب: إن الملك على شرابه. فقال النابغة: فهو وقت الملق تقبله الأفئدة وهي جذلى للرحيق والسماع، فإن تبلج فلق المجد عن غرة مواهبه فأنت قسيم ما أفدت).

في هذا الخبر قول النابغة الذي بلبل ناسخي (الأساس) وطابعيه. . .

ولما أطلعت الأستاذ (أحمد زكي العدوي) والأستاذ (عبد الرحيم محمود) - وهما من البقية المحققة - على الهدية الزمخشرية طربنا كلنا طرباً يعجز القلم عن وصفه. وأبو الطيب المتنبي يقول في مثل هذه الحال: (رب مالا يعبر اللفظ عنه).

وجاء في (الأساس) في الطبعتين وفي المخطوطة، والخطب هنا هين، لا بلبلة فيه. . .

ص: 13

(ومن المجاز درع درمة: ملساء قد ذهبت خشونتها وقضض جدتها وانسحقت قال:

يا خير من أوقد للأضياف ناراً زهمه

يا فارس الخيل ومجتاب الدلاص الدرمه

زهمة كثيرة ودك ما يطبخ بها، ومكان أدرم مستو أملس)

القول شعر حقاً، ولكنه بيتان لا بيت واحد، وقد سطرا في الكتاب كما ترى، وهما في مقطوعة رواها أبو علي في أماليه، وهذا تصوير المقطوعة بكمالها:

يا مُرَّ، يا خير أخ

نازعت در الحَلَمهْ

يا خير من أوقد لل

أضياف ناراً جحمه

يا جالب الخيل إلى ال

خيل تَعادى أضِمَه

يا قائد الخيل ومج

تاب الدلاص الدرمه

سيفك لا يشقى به

إلا العسير السنمه

جاد على قبرك غ

يث من سماء رزمه

يُنبت نَوراً أرِجا

جَرجارُه واليَنَمه

قال أبو علي: الحلمة: طرف الثدي. والدرمة: اللينة التي لا حجم لها. وأضمة غضابي يقال: أضم عليه أضما أي غضب عليه ورزمة: مصوتة).

في طبعتي (الأساس) ومخطوطته مشكلات ستُحل بحول الله ومعونته.

السمهي

ص: 14

‌سعد الله الجابري

في ذمة الله

للأستاذ أحمد رمزي بك

رغت الرعود وتلك هدة واجب

جبل هوى من آل عبد مناف

غمرتني موجة حزن وتشاؤم قلما أشعر بمثلها، حينما حملت إلى الصحف في عزلتي الريفية نبأ وفاة الجابري، وأنا الذي لم أره منذ غادرت أراضي سورية إلا لماماً، فإذا كتبت عنه بعد وفاته، فإنما أستعيد ذكرى الأيام التي عرفته فيها فأثرت صداقته فيَّ لا كسياسي أو زعيم أو رئيس حكومة بل كرجل مجاهد شاء وده أن يعدني في يوم مضى من بين من يثق بهم، ممن اتصلوا به وأنسوا بوده ولمسوا شمائله وغمرهم بعطفه وأخوته ومحبته، فمن أول يوم تلاقينا فيه، وكان ذلك في بلدة صوفر من أعمال لبنان عام 1940، كنت أشعر دائماً في حضرته بشيء يجذبني نحوه ويجعلني أطمئن إليه وأنصت لما ينطق به، ومرت الأيام والسنوات وهي تحمل بين طياتها الحوادث الجسام وأعمال الجهاد المتتابعة المتلاحقة لإقرار الدستور وعودة الحياة النيابية ثم مفاوضات الوحدة العربية التي انتهت إلى ميثاق الإسكندرية، فإذا هذه المنزلة في نفسي تلعو كل يوم وتثبت، فلا تؤثر فيها روعة المركز ولا تباعد الأيام لأنها كانت هبة من هبات الله. . .

وأذكر أنني حضرت معه في الطائرة من دمشق وأمضينا أياماً بالقاهرة وأخرى بالإسكندرية، فإذا بنا نكتشف أشياء في مصر، بقيت غامضة عني بعد أن قضيت عشرين عاماً متغرباً فجاء الاتصال بالحقائق مراً على النفس في أيام كانت تمر سراعاً وتجعلنا كل يوم أمام جديد، وسرعان ما أقنعت نفسي بالبقاء في مصر والتخلف عن العودة إلى دمشق، وذهبت إلى قصر الزعفران فوجدت الجابري هناك، ولمحت في نظراته أشياء قرأتها على وجهه ولمستها من إشعاع عينيه ودار الحديث عاماً، ولما استأذنته قلت إنكم تسافرون غداً، أما نحن فوالله قاعدون، فتجهم وجهه وقال لي كلاماً لن أنساه ولم يأت الوقت للإفصاح عنه.

فأمسكت بيديه وضغطت عليهما وقلت: كتب على الذين أمنوا أن يصبروا ويصابروا، فبالله عليك لا تجعل لهذا الكلام تتمة لا بالقول ولا بالعمل، فوعدني واتجه سعد الله الجابري

ص: 15

اتجاهاً أملاه عليه اجتهاده واتجهت وجهة أملاها الله عليّ، وجاء موعد سفر الوفد السوري في اليوم التالي فرافقته إلى المطار وبقيت بمصر أنتظر الخروج من وقائع الدهر، فإذا بالأقدار تدفعني دفعاً إلى غاية لا أعلمها لأن صروح الحياة الاستقلالية اندكت في لبنان، وإذا أنا بين قرارين: الإقدام والسفر، أو النكوص والبقاء، وفي الثاني الخير كل الخير وفي الأول مواجهة الأخطار والمستقبل المظلم؛ فاخترت ركوب الأخطار وسافرت على بركة الله. وفي ليلة من الليالي الكالحة السواد، دخلت قبل انتصاف الليل مدينة دمشق فما علم بمقدمي حتى أذن لي بالدخول عليه. فقال أن مجيئك في هذه الساعة من الليل لابد أن يكون لأمر خطير. قلت نعم هو لخدمة أؤديها. قال وكيف تركت بيروت والفرنسيون يمنعون التجول بعد السابعةوأراك تركتها بعد ذلك بزمن طويل، قلت حرستني سيارتان مدرعتان على كل واحدة منهما مدفع رشاش استلمتني واحدة من وسط البلد وأخرى من فرن الشباك، وتركتني الثانية عند عاليه، ولازمتني الأولى حتى ظهر البيدر كأنهما تتوهمان أن طريقي سيكون إلى بيشامون. ولما عرضت عليه ما جئت من أجله قام فوراً إلى قصر رئاسة الجمهوريةوأطال المكث هناك، ونمت مستريحاً لأني وضعت الأمر بيد رجل إذا اقتنع فعل. وفي الصباح المبكر أعلمني دولة جميل بك بما طمأن قلبي، وفي المساء لقيت الجابري فإذا هو يمزح كعادته ويقول: تصور لو تأخرت مجازفتك دقائق معدودة إذن لضاع الوقت معنا.

ثم تغيرت الأيام وتبدلت، أما سعد الله الجابري وطائفة من أهل سورية فلم يتبدل لهم موقف معي. لقيته بعد ذلك بمصر فما إن وقع نظره علي حتى خف إلى لقياي وأخذني بالعناق على مشهد من رجال مصر الذين دهشوا من هذا اللقاء. إنهم لن يعرفوا ما كان بيننا في طريق الجهاد الوعر لتحقيق المثل والأهداف. ومات سعد الله وكتب عنه الكتاب وإذا بكثيرين يقولون إنه كان عظيمافي مواقفه الحاسمة وتصريحاته الجريئة، أما أنا الذي عرفته قبل أن يعتلي المراكز ويحكم، فأقول إن مواقفه وتصريحاته كانت أمراً عادياً يأتيه كل يوم، كانت جزءاً من شخصيته وفكره وروحه لا يشعر بخطورتها ولا تشغله لحظة واحدة بعد إتمامها وهذا سر عظمته وتفوقه. . .

والآن وقد أغمض عينيه واستراح بعد أن كان ملء عين الزمن، لا يهمني أن أسوق المدح

ص: 16

إليه وأن أشيد به وأقول إنه من أولئك الذين جاءت إليهم العظمة تسوقها الأقدار دون أن يكلفوا أنفسهم أن يلفتوا الأنظار إلى أفعالهم وأقوالهم وإشاراتهم ليقر لهم الناس بالعظمة والعلياء، وإنما هو رجل جاء إلى الدنيا والعظمة والبروز والعلياء عنصر كامن فيه، تراه في خلقته ومظهره وحديثه، فيدفعه إلى الخطير من الأمور في كل يوم ليعالجه بفكره وعقله وأعصابه وإيمانه، ويعرف عنه الناس هذا من أهله وعشيرته وقومه وأصدقائه قبل أن تعرفه عنه المناصب العليا وترفعه الزعامة والسياسة إلى مراكز الحكم والاقتدار.

ولقد رأيته سهلا حتى إذا اقتنع بأمر وملك عليه فؤاده وفكره اندفع إليه دفعته التي لا تبالي، واقتحم العقبة وراء العقبة والناس حيارى من أمره يتساءلون أهي دفعة عن حق وعقيدة وإخلاص أم هي لغاية في نفسه؟ أما أولئك الذين عرفوا وفهموا وأحبوا هذا الرجل فلم يكن لهم أن يتساءلوا لأنهم عرفوا البطولة والإخلاص يجتمعان في قلبه، ولمسوا المحبة والإيمان يلتقيان فيه، فهم لن يتساءلوا، إذ هو في مخيلتهم كما هو في نفسه: سيف من سيوف الحق جاء والناس في حاجة إليه، فأدى ما عليه ولمع لمعاناً في حياة أمة لا شك أنها تحن لذكراه وتحمل له أطيبها في القلوب.

في مدينة حلب ولد ونشأ سعد الله الجابري في بيت قديم لمع أفراد منه في القرن الماضي الهجري والقرن الحالي وأدوا للدولة العثمانية والخلافة جليل الخدم، نجد تراجمهم في أعلام النبلاء وفي تاريخ حلب للبالي.

وحلب قلعة في الخطوط الأمامية للعروبة، ولأهلها المكانة البارزة والمنزلة الراسخة في تاريخ العرب والإسلام، أما نحن أهل مصر فقد ارتبطنا بهم منذ جمعنا وإياهم رجل مصر الكبير أحمد بن طولون، وعدا فترات قصيرة، اشتركنا مع أهل حلب في كتابة تاريخ الإسلام لعصور مضت، وحاربنا الأمم من مختلف شعوب الأرض وهم معنا في المصاف كتفاً لكتف، فامتزجت دماء شهدائنا بدماء شهدائهم، وما من شدة لقيتها قلعة حلب إلا شاركتها فيها قلعة مصر، وكانت نيابة حلب ثالثة المراكز الكبرى في الدولة المصرية القاهرة، وفي تاريخ مصر عدد من ملوكنا بدءوا حياتهم كنواب للسلطنة في حلب.

فهذه حلب درة في جبين العرب، ولأهلها المكانة السامية جزاء ما قدموا في سبيل العروبة والإسلام، ولذا لا تعجب أن يكون ابنها البار سعد الله الجابري في مقدمة هذا الرعيل من

ص: 17

العرب الذين آمنوا بأن الوحدة العربية وجامعةالدول العربية هي حلم من الأحلام بغير مصر العربية، لأن بلادنا هي قلب العروبة، بل العروبة ومصر صنوان. وذلك موقف للجابري وجميل مردم وغيرهما من رجال سورية يجب أن يعرفه كل مصري ولا ينساه. بل أمانة في أعناقنا أن نحفظ لهؤلاء القادة الجميل الذي أسدوه ألينا في وقت كان عدد المؤمنين بمصر يعد عندنا على الأصابع وفي زمن كان من يجاهر بعروبة مصر يعد عندنا مارقاً من الوطنية خائناً للقوميةالمصرية. فلنذكر هذا جيداً ولا ننسه.

لم يكن سعد الله الجابري ممن تستهويهم القيادة والسيطرة على الجماهير والتحرك من مكان إلى مكان وفي ركابهم (القبضايات) بل كان رجلا وضع ما يملك من مال وعمل في خدمة أمته، معتمداً على ماض ناصع أبيض، وعلى نفسه الكبيرة وما تحمل من آمال كبار، وكان في أدوار حياته مجموعة أعصاب وإرادة تدفعها صراحة متناهية وإخلاص وتفان في سبيل المصلحة العامة.

وأول ما يبدو في شخصيته هو توفر عدد من الصفات الممتازة التي يربط بينها نوع من التوازن والانسجام تلمسها من حديثه معك ومظهره وتأنقه وابتسامته، فهو قد نشأ في العز والسعة فظهرت أقواله وإشاراته وحركاته طبيعية لا أثر للتكلف فيها، ولذلك اندثرت من قرارة نفسه، وتوارث كل آثار مركب النقص الذي يشكو الكثيرون منه، وتحرر بهذا من طائفة من مواطن الضعف التي لا يقدر على التحرر منها من لم ينشأ نشأته ويذهب مذهبه في فهم الدنيا.

وكان مؤمناً بحق بلاده وعظمتها، وهذا الإيمان يجعله يستبق الحوادث ويطلب من قومه الإسراع في السير أو يستحثهم على الوصول إلى درجة من النظام والرقي والضبط والربط لا يمكن أن تحتملها طاقة الناس في المشرق الذي بدأ يستيقظ من سنة الكرى عن قرب ويفتح حديثاً عينيه إلى النور. هنا تتلاقى الدوافع النفسية للوصول إلى المثل العليا مع قوة الإرادة والشكيمة التي يحملها سعد الله الجابري، وتواجه كلها الواقع المؤلم فيبدو أحياناً مندفعاً لا تلاحقه أفكار الناس ولن تقدر أن تلاحقه فهو يحمل قبساً من نور الحقيقة ومن نور الإلهام ويشعر بالأخطار القادمة ويريد أن يدعم الأساس ويقوي البنيان وهم تشغلهم حوادث اليوم وتلهيهم مشاكل الساعة فلا يرون ما يراه ولا يتبعونه في خطواته، لذلك

ص: 18

أصبح الرجل الذي يجاهد ويكافح ولكن في الطريق الذي اختاره هو لنفسه وأفرغ عليه المبادئ والمقاييس التي فرضها هو على نفسه، وجعل منها قواعد وحدودا لم يكن يحيد عنها ولا يخرج منها. لما أراد أن يأخذها الناس ويقيدو أنفسهم بها، رأوا أنه يحملهم فوق طبيعة البشر وفوق طاقتهم.

إن الذين انتقدوا سعد الله الجابري في حياته لم يفهموا هذه الناحية من نفسه الكبيرة ولو فهموها لأدركوا أي خسارة تحتملها الآن سورية والبلاد العربية باختفاء شخصية نافذة مخلصة، تمتاز بحماستها الهائلة للفكرة العامة واندفاعها لأجل المصلحة العامة.

لقد كان سعد الله من بناة الاستقلال السوري ومن الذين جاهدوا فوصلوا إلى مراكز القيادة، وكانت الدنيا بين أيديهم فإذا هم يخرجون منها وهم أقل ثروة ما كانوا قبل دخولهم الحياة العامة.

كثيراً ما كانت تخونه أعصابه، ولكني لم أعرف لحظة واحدة خانه فيها إيمانه. كثيراً ما تحمس وانفعل ولكن كثيراً ما تحمل لأن قلبه كان كبيراً وعامراً بالدوافع الكبرى: فهو قد حقق مع زملائه لوطنه ما رسمه في مخيلته من حرية واستقلال، وكان يؤمل أن ينقل أمته إلى المكانة التي كان يحلم بها. حقق الله آماله من بعده

إني أعزي الشعب السوري الشقيق وفخامة رئيس الجمهورية ودولة جميل بك مردم وزملاء الفقيد وآل الجابري وأعد فقده خسارة للعرب ولمصر التي أحبتهوأنزلته في قلبها لما ظهر من حبه لها ولأهلها، أسمى منزلة وإكرامها.

أحمد رمزي

ص: 19

‌ابني!

للسيدة الفاضلة منيبة الكيلاني

لا أدري لماذا ترجع بي الذاكرة إلى الوراء، إلى يوم في شارع ضريح الملك في الأعظمية حيث تقوم (دار لنا بمدرجة الريح). في أمسية هادئة ساجية وقد جلست أنظر في شمعتين اثنتين هما رمز العامين الأولين من عمر (ابني) ولا أدري لماذا تستقيم لي نظرة الوراء. وكيف لا أذكر إلا ذلك العيد الذي احتفلت به بين وفاة الوالد وميلاد الولد: شمعتان اثنتان في ضوئهما الخافت المتراقص. . . وقرص من الكعك صغير، وطفل غرير يزدهيه منظر الشمعتين يريد إطفاءهما. . . وأم تنظر كيف تسير في وادي الزمن مع وحيدها متوجسة متسائلة: ترى كم عيداً تستقبل هي وهو؟ وعند أية شمعة من شموع حياته تخبو شمعة حياتها؟. . . هكذا كانت ترتسم الصورة في ذاكرتي: لون من الليل فاحم ولون مغمور بضوء الشمعتين البرتقالي تخالطه الدكنة في أكثر حواشيه. . . والصمت يحيط بالمكان والمناسبة والنفوس، فلا موسيقى ولا مهنئون، وقد انتهى العيد بأن نام (ابني) في أول يوم من عامه الثالث من عمره المديد السعيد.

وما أدري لماذا أستشعر الكآبة العميقة من هذه الصورة فأجاوزها إلى سابقتها وإلى لاحقتها فأنظر إلى اللاحقة. . . لا شمع ولا فرح وإنما هي صورة في القطار يطوي الشقة الشاسعة. . . إلى مصر. . . يطويها قليلا حتى تنتهي. . وينام (ابني) في أول يوم من عامه الرابع من عمره المديد السعيد! فأحس لذعة في نفسي، ولذعة في هيكلي، فأشكو الأخرى شكاة مؤزرة بالأولى مؤكدة بها. ثم أشكو الصداع ثم أتخاذل فينظر إلي (ابني) وأنظر إليه. . . ثم يأتي الطبيب يفصل في شكاتي الأولى بأن أسكن دار الحميات زمناً. . . وأن يحاط بي فلا أرى (ابني) ولا ألمسه ولا أقوم على خدمته أبداً.

وقال قلبي: ودعي أيتها الأم طفلا، وقال الشيطان. . . إلى غير لقاء، وقال آخرون عرفوا بالرأفة والحنان: سنكفل الطفل ونرعاه، فذريه معنا يرتع ويلعب وإنا له لحافظون.

وتجاوبت لغة التشاؤم في نفسي المثقلة بذكرياتها، واشتجرت في قلبي شجرة طلعها كأنه رؤوس الشياطين، ولم يبق في حسي إلا بقية الآية: إني ليحزنني أن تذهبوا به. . .!

أجل!. إني ليحزنني أن يذهبوا به. . . وإن كان القوم ذوي أطفال، وإن كانوا ذوي نفوس

ص: 20

كريمة وطبع سمح جميل. . .! وأعود من هذا إلى ما سيحس هو به فأقول:

ألا من رأى الطفل المفارق أمه

قبيل الكرى عيناه تنهملان

ولقد ذهبوا به في رأد الضحى بجدائله التي عقصتها له بيدي المتخاذلتين وقلبي المستخذي الخفاق يمد عيني المحمومتين بالدمعة المهراقة التي لا ترقأ. وأضحى كل ألم في كل مفصل له بولدي صلة؛ فأنا آلم برأسي ألم رأس وألم حس بفراق (ابني)؛ وأنا آلم بحسي ألماً يكبر عن الألم المألوف لأنه مزيج من ألم الحس المثخن وألم الأم تريد ابنها ترى فيه آلامها الكبار السابقة لينحط هذا الألم بفعل المقارنة إلى ما يجوز استمراؤه وقبوله. فهل أكون عقصت شعره لأخر مرة؟

وتعظم هذه الآلام وتبسق وتمد ظلالها فتساقط على نفسي الحالمة بذكرياتها كسفاً من الليل المفعم بأعاصير الكدر، وتتزلزل قواعد الصبر في نفسي وتلقى بها الريح في مكان سحيق فأرتد خاسئة الطرف ذاوية، وأضؤل وأضوي.

وهنا تنفتح عينيعلى غير إرادة، وأرفع كفي إلى رأسي المسجور، لأني أرى في ضعفي هذا وبؤسي هذا. . . ويأسي هذا (ابني) الذي حملوه مع الحقائق إلى دار الكرام الذين قالوا ذريه معنا يرتع ويلعب وآنا له لحافظون. . . وأدير رأسي رويداً رويداً لأسكب على الوسادة دموعاً ثقالا بعد اليوم، لا حراراً كما اصطلح عليها، دموعاً ثقالا من ذوب القلب الحنون تنقض البؤبؤ السقيم فأطرحها على الوسادة طرحاً، وأراها تتدحرج قطرة قطرة. . . وتفرغ عيني منها فأستجلي صورة ابني على مقربة من رأسي. ثم يعتلج في نفسي تسأل هين رقيق.

رققه المرض كثيراً وأمسك عليه الاجابة، ترى علام خلق الدمع؟ الأجل أن يضفي على ألماً جديداً فأرى من خلال ودقه صورة ابني متراقصة وأراها متحركة وأراها ناطقة بدون كلام، وأراها ضاحكة تهون على الصعب، وأراها باكية تشاركني الخطب وتقاسمني الكرب. ولقد أراني الدمع صورة ابني من مشتقات معانيه يزم جبينه وشفتيه شروعاً في جهشة. . . وأراني صورة أمي بجانبه صابرة متجلدة كشأنها، وأراني أمسي داكناً إلا شمعتين، وأراني غدي في لون الضباب. . . ولون الضباب كلون الكفن!!

ولقد يطلب للمريض في فرض الضنى أن يرقب مواكب المنى تمر مستأنية في وخدها

ص: 21

وإرقالها، مثقلة بأوقارها وأحمالها. . . تقبل من الأفق الأيسر وتذوب في الأفق الأيمن مارة عبر جسمه المسجى الضعيف تحدو حداتها فيهيم طرفه الفاتر ونظره الغائر في الحدوج ويستلهم الأحمال ويتنخل ما فيها لأيامه الحسان المقبلة، وأنا. . . أرقب هذه المواكب زاخرة بأمانيها، ملأى بما فيها، يقودها الدمرداش من أفق العباسية إلى أفق الزمالك - حيث أبني - فلا أرى ما يستفزني في الأفانين إلا ركوب يستوي على متنه شيء يشع فيمسك الرمق، يدنو في أخريات الموكب فإذا هو طفل بسام الثغر مصفف الشعر هو (ابني) فأصيح وأريد اللحاق فيقال: لا: أنت رهينة التيفوئيد. أجل لقد ذهب الموكب صداحاً لين اللحن عبق الخطو والحداء. وقد رأيت ابني فيه بسام الثغر مصفف الشعر. . . فأبسم لنفسي وأهزأ من دموعي وأجد القدرة على الشفاء. أين الدكتور الدمرداش أشكره على ما أتاح، وأين زوجي أسأله عن ابن فيص على الأمر فأرتاح.

لقد قيل لي منذ أيام إن - ابني - عني سأل، ولابد أنه ألقى سؤاله ذلك خجلا أحمر الوجنتين، خائب الشفتين، فأجابوه بأن أمه في المدرسة. فما أحسن الإجابة! إنني في مدرسة الصبر، أتعلم الموت كيف يهون، وفراق الابن كيف يكون. أما أن ابني احمر الوجنتين خجلا، خائب الشفتين أملا، فلك الله يا مناي، ولي. ما ودعتك أمك وقلت، ولا نسيتك أمك ولا سلت.

منيبة الكيلاني

ص: 22

‌عبرة من كتاب:

حذار يا سيدتي

للأستاذ سعيد الأفغاني

الآن، وقد بلغت بك نهاية الحديث عن السيدة عائشة ومغامراتها السياسية، وآثارها القريبة والبعيدة في حياة المسلمين أودعك موصياً أن تجعل بالك أبداً - كلما قرأت التاريخ - إلى عبره وتجاربه، فتأخذ من كل شيء أحسنه، وتربأ بنفسك وبأمتك أن تغامر في تجربة ثبت ضررها وفسادها، وخاصة إذا كان الثمن الذي قدمناه فيها دماء عشرات الألوف. وأنا أريد أن أختم كلامي بالنص على عبرتين اثنتين من هذه العبر الكثيرة التي تعرض لقارئ هذا الكتاب، تنقذاننا مما نحن فيه اليوم من تخبط، وتنيران لنا طريقاً طال تعسفنا في المتاهات دون أن نهتدي إليه.

أما الأولى: فهي أن المرأة لم تخلق قط لتدس أنفها في المنازعات السياسية. إن لها أن تنصح وتبصر القريبين منها بعواقب الأمور، وليس لها أن تشارك في القلاقل والاضطرابات والفتن. إن بيدها مفاتيح خطرة في التأثير في نفوس الجماهير وفي استغلال حميتهم ونخوتهم ومشاعرهم، وهذا السلاح غير حميد في العواقبولا يصح استعماله بحال. وقد أبنت لك أنه لولا موقف السيدة عائشة في أمر عثمان ثم المطالبة بدمه من بعد لتغير مجرى الحوادث في تاريخنا التغير كله، ولسارت سيراً مأموناً مطرد الرقي مباركا، فيه الخير كل الخير للأقطار الإسلامية. . .

وكان الله الذي جعل النساء لتنشئة الرجال وتربية الأجيال وإدارة البيوت، أراد أن يعظ المسلمين عظة علمية لا تنسى، كلفتهم كل تلك الدماء المهراقة، وفجعتهم بالألوف من الصحابة الأجلاء المهاجرين والأنصار ومن الفحول المذاويد من أبطال الفتح وأعاظم الفقهاء وأساطين القراء ورؤوس الناس. . . ليعلموا: إن لو كان أمر من أمور الرجال الخاصة بهم يقوم بامرأة، لقام بعائشة أم المؤمنين، تلك السيدة الحصيفة التي أوتيت من المواهب والذكاء والعلم والبلاغة والصلاح. . . ما لم يؤته رجال كثيرون مجتمعين، والتي جمع الله فيها من المآثر العظام ما تفرق في العدد العديد من الفحول.

لقد خلدت حرب الجمل مناراً في تاريخ المسلمين: كلما نزغ بهم نزغ من تقليد أعمى

ص: 23

لغيرهم من الأمم؛ أو مس من رجعية ذميمة، فهبطوا بالمرأة من الصيانة إلى الابتذال، أو هموا أن يخرجوا بها عما خلق لها وخلقت له. . . قالوا لأنفسهم: أخفقت هذه التجربة في صدر تاريخنا؛ فما بنا من حاجة إلى أن نعيدها عبثاً، أو أن نهرق في سبيلها ثانية دماء جديدة ونخرب بيوتاً عامرة. . . ومن لنا مع هذا بمثل عائشة.

وليذكروا أبداً أقوال عائشة بعدما عاينت هول ما جرته مغامرتها السياسية على الأمة من ولايت، إنها قضت عمرها حسرة وندامة، حتى أذابت الحسرة قلبها وكبدها وحتى قتلها الحزن قتلا. وفي هذه الكلمات البليغات منها عبرة لنا أي عبرة:

(ليتني لم أخلق)، (ليتني كنت شجرة)، (ليتني مت قبل يوم الجمل بعشرين سنة) وقد كانت آخر كلماتها التي ودعت بها الحياة قولها:(إن يوم الجمل معترض في حلقي، ليتني لم أخلق).

إن هناك مجالاً واسعاً لنشاط المرأة حين تجد وقتاً فاضلاً عن شؤون التربية وإدارة المنزل، تستطيع به أن تملأ الأجواء خيراً ورحمة وإحساناً. هذه وجوه الخير مفتحة الأبواب في وسع المرأة أن تلجها فتمارس أموراً عظاماً وتبذل مجهوداً مشكوراً يعود على أمتها بما لا يقل عما يأتيه الرجال المحسنون ثمرة وغناء وطيب أثر.

أمامها من ميادين الخير: التمريض وإسعاف الفقيرات من بنات جنسها بالعلاج والدواء والطعام والكساء. وفي مجتمعنا من المحتاجات ما يشغل عشرات الجمعيات الخيرية من النساء ولا يفي بحاجتهن عشرات المستشفيات.

وأمامها أيضاً كفاح الجهل في بنات جنسها، فلتنشئ لهن المعاهد ذوات المناهج الصالحة لتنشئة الأمهات على ألا تستعير لها برامج الذكور (ببعض التعديل) فقد ثبت مع الزمن أنا حتى الآن لم نقم التعليم الصالح للبنات.

وهناك أمام المرأة العناية بتربية اليتيمات وإنشاء (المياتم) وتعهد أمهاتهن بالرعاية والتوجيه ثم إشاعة الثقافة الصحية بين النساء عامة. . .

ويجب أن ينشأ فيهن المتخصصات في جميع الفروع التي يحتاج إليها النساء والأطفال، وأن يكون منهن العدد الوافي بالحاجة بحيث يسددن عوز النساء في علاج أمراض العين والأسنان والأمراض الداخلية والجلدية وفي حاجات التوليد.

ص: 24

فإن كان ولابد من زيادة فإلى المساهمة في كفاح ما يتفشى في المجتمع من امتهان المرأة وإشقائها عن طريق البغاء والقمار والخمور وغيرها من المفاسد التي ضاق بشرورها المفكرون في الغرب والشرق. . .

لدى المرأة إذن كثير من أعمال الإحسان تنتظر من يقوم بها، وفي ذلك الخدمة المخلصة للأمة وأعمار البيوت وإفاضة الخير والسعادةفي المجتمع. . .

ونحمد الله على أن في فضليات نسائنا من تحاول سد هذه الثلمة، إلا أن نسبتهن قليلة جداً بالقياس إلى اللائي تنكبن الجادة متخبطات على غير بصيرة، فهجرن بيوتهن واكلات أمورهن إلى الخوادم، وطفقن يمارسن مالا يعود عليهن وعلى أسرهن وأمتهن إلا بالضرر الخالص والإفساد الكبير: من إقامة حفلات ساهرة مخجلة، وغشيان مجتمعات وأندية، واقتحام أسفار، وعقد مؤتمرات لا يبلغن فيها أمراً نافعاً، بل كثيراً ما يرجعن وقد سبقتهن أشأم الحوادث وأسوأ الأخبار. . . مما يدع السامع ينشد قول جرير يخاطب الفرزدق:

وكنت إذا حللت بدار قوم

رحلت بخزية وتركت عاراً

يقلدن بذلك نساء ضج عقلاءأممهن من أحوالهن وسقط مقامهن فيها من كثرة هذا التبذل، والعبث، وعدن على بنات جنسهن من البريئات بأبلغ الضرر لما لوّثن من سمعة المرأة عامة. ليتنا إذا جئنا بالتقليد اخترنا من نقلد، ففي كل أمة من فضليات النساء النافعات من يحسن الاقتداء به، ولكننا ننتقي أحط المبتذلات ثم نسبقهن في الابتذال أشواطاً يخجلن هن أنفسهن من السعي إليها.

وأبعد من هذا، أننا إذا أمعنا في البيت وما يحتاج إليه تدبيره على خير نسق من علم واسع غزير في الصحة والأخلاق والتربية وعلم النفس، وسياسة الزوج والأطفال، وسياسة المورد والمصرف ورعاية ذلك كله. . . وجدنا أن علم ذلك وإتقانه وحسن إمضائه لا يكاد يبقى للمرأة القديرة ذات المواهب الجمة من فراغ أو جهد فكيف المتوسطات يله الضعيفات. إن ما يلزم لتصبح الأنثى امرأة (مثقفة) ليتضاءل أمامه - في اعتقادي - كل ثقافة ثانية مهما كانت رفيعة مفيدة.

وعلى المرأة الجادّة بعد ذلك واجبات عديدة تستطيع أن تشارك في شرف الخدمة فيها، على شرط واحد: هو أنتتم كل ما عليها من واجب نحو بيتها وأسرتها أولا، وإنما يكون التطوع

ص: 25

والصداقة والإحسان فيما فضل عنك من مال أو وقت أو جهد.

هذا، ولست أقول إن المرأة لا نفع منها في باب السياسية، أستغفر الله، إن منها النفع كل النفع من طريق واحد فقط: هو أن تتحلى بكل فضيلة رسمها لها دينها ثم تنشئ عليها أولادها، فما في امرأة فرطت بفضائل دينها من خير قط. والناس على حق حين يهملون كل أدب واحترام إذا رأوا امرأة جامحة على الآداب النسوية التي شرعها الله. والدين للمرأة هو كل شيء في نظر زوجها وولدها وأسرتها والناس أجمعين، فإذا جاهرت بشيء من الخروج عليه فقدت كل احترام في النفوس، وانتقلت نظرة الناس لها دفعة واحدة من التقديس إلى الزراية.

إن من لم تكن أمينة على دينها لن ينتظر منها إلا الشر والخيانة لأسرتها ووطنها، مثلها في ذلك مثل الرجال: رق دينهم فلما مارسوا الشؤون العامة مالئين الدنيا صخباً بدعوى إخلاصهم ووطنيتهم، كان بلاء الأوطان منهم وحدهم إذ كانوا لا يخافون الله ولا يرعون لدين عهداً ولا لضمير حرمة، فانطلقوا يشحنون الأرض خسفاً وكسفاً ونهباً وسلباً واحتكاراً وغلاء وإهداراً للكرامات والقيم وتضييعاً للأمانات والحقوق. وبذلك ضربوا أسوأ الأمثال وأظهروا وطنهم بشر الظاهر. . . ومن مات وازعه الديني ونسى يوم الحساب فلن يرده عن طغيانه رادع من الناس ولا رقيب. . .

وأنا على يقين من أن أمهاتهم مسؤولات - إلى حد بعيد - عن هذا الخزي الذي ارتطموا فيه، إذ أهملن فيهم تربية الوازع وإحياء الضمير وإشعارهم خوف الله والحساب. لقد حرمنهم النشأة الدينية الفاضلة فلم يعرفوا لذتها، ولم يتعهدن ذمتهم وأخلاقهم ففقدوا في أنفسهم الكرامة الإنسانية، فلما تغلبوا وسيطروا كانوا فوق الوحوش ضراوة وشراسة وقسوة قلب، فعم البلاء البلاد والعباد. . .

إلى هذا الحد تبلغ جريمة المرأة الناشئة على غير دين، وتعظم المصيبة بها، وتستفحل آثار شرورها في مستقبل الأمة وسلامة المجتمع.

فلها إذن آثار بعيدة في السياسة، وهي تسدى لوطنها أعظم الفضل أو تبلغ منه أعظم النكاية، لا بنفسها مباشرة فقط، ولكن بنفسها وبما تنشئ عليه أبناءها سياسي الغد من فضائل أو رذائل، وبما تنال ضمير الناشئ ووازعه الديني من عناية أو إهمال.

ص: 26

ذلك وقد أعان على تردي المرأة في الخروج على أنوثتها وفطرتها فريق من أشباه الكتاب حملوا أقلاماً ولم يحملوا إخلاصاً ولا أمانة ولا نصحاً. دفعهم الرياء المغشوش على أن يغرقوا في مجاملة المرأة المشتطة الطائشة ابتغاء العبث بها وبكرامتها، فحمَّلوها فوق ما تستطيع من السخط على الطبيعة التي فيها لكل كائن عمل خاص. وكان حق المرأة على هؤلاء أن يأخذوا سيدة بيت ومربية أجيال. وكان من حقها أيضاً على من يزعم نصرتها أن يمسكها عن أن يهوى بها الطيش في مكان سحيق فتفقد ما لها من حرمة هي ملاك أمرها كله في المجتمع. ليتنا في غمراتنا اليوم نسترشد بتجارب الماضي ونسير غير متخبطين: نبصر مواطئ أقدامنا ونتقي المزالق، ونجند كلا في ميدانه الذي يصلح له. لقد تداعت علينا الأمم، وطمع فينا حتى (الصهاينة) من شذاذ الآفاق، وغزينا في أخلاقنا وبلادنا وأموالنا. . . وليس في جهودنا فضل ننفقه في رد العابثين عن عبثهم؛ فليتق الله حملة الأقلام وليصونوا الشاردات عن القطيع، وليرجعوا بهن عن طريق وضعن أقدامهن في أوله وما آخره إلا مستقبل أسود حالك للأنثى أولا، ثم خراب البيوت وهدم الأسر وارتكاس المجتمع وموت كل كرامة امتاز بها الإنسان من دون الحيوانات الدنيا.

وما الانهيار السريع الذي قضى على بعض دول الغرب العظمى في مثل لمح البصر بسبب فساد المرأة، ببعيد فينسى. ولنا فيه درس وموعظة وبلاغ.

سعيد الأفغاني

ص: 27

‌لماذا ينتحر الناس؟

بحث نفسي اجتماعي

للدكتور أحمد موسى

لم يكن الانتحار معروفاً في مصر قبل ربع قرن! وكان الناس على الأرجح أكثر قناعة واحتمالا وأرحب صدراً لمقابلة آلام الحياة وأقل تبرماً بها! أما اليوم ولاسيما خلال العشر السنوات الأخيرة فقد بدت ظاهرة مخيفة، هي إقدام الكثيرين على الانتحار سواء في ذلك الشبان والشابات والنساء والرجال دون فرق ظاهر بين متعلم وجاهل وبين فقير وغني وبين صحيح ومريض وبين متزوج وأعزب.

ولبيان خطورة هذا المسلك ودراسة الدوافع إليه والنتائج المترتبة عليه يجدر بنا أن نلقي نظرة بسيطة على الإحصاء الدقيق المعمول في أمريكا وأوربا.

وخير ما يمكن أن يدرس هو الإحصاء الذي سجله الدكتور فردريك هوفمان أحد مديري شركات التأمين الكبرى في نيويورك، وهو بحكم دراسته ووظيفته ومدة اشتغاله بالإحصاء أكثر من ثلاثين عاماً يعد من الثقاة في هذا الموضوع. يقول هوفمان إن عدد المنتحرين بلغ في سنة 1935 سبعة آلاف، ويقرر بعد عمل المقارنة أن هذا العدد الهائل يعادل ما حصل في بحر عشر سنوات من سنة 1889 إلى سنة 1898، وهذا دليل على أن ترمومتر الانتحار آخذ في الارتفاع.

ومع الاعتراف بفضل تقدم الوسائل الاقتصادية وتأمين العمال ومساعدة العاطلين مالياً وإيجاد سبل العمل لأكبر عدد منهموالتقدم العمراني العام وانتشار التعليم إلى جانب انتشار وسائل التلهية والتسلية؛ فإن هذا كله لم يكن ليمنع ازدياد الانتحار بين الناس على غير ما كان منتظراً ومأمولا.

هذا ما وقع في أمريكا ولكنه قد لا ينطبق تمام الانطباق على ما يحدث في أوربا، وقد يخالف ما يحصل في الشرق على وجه الخصوص.

والشيء الذي تجب ملاحظته هو أن الانتحار يكثر عادة في البلاد المتمدينة عنه في البلاد المتأخرة، وفي العواصم والمدن الكبرى عنه في البلدان الصغيرة والقرى، أي أن حوادث الانتحار ترتبط ارتباطاً وثيقاً بانتشار المدينة؛ ولذلك فلا غرابة إذا وجدنا أن الانتحار غير

ص: 28

معروف عند السود في جنوب الولايات المتحدة وفي أواسط أفريقيا. والسبب في ذلك أن مطالب الحياة في البلاد المتمدنة أكثر تنوعاً وأشد إلحاحاً منها في البلاد البعيدة النائية حيث الحياة بسيطة أقرب إلى الفطرة.

وسكان جنوب الولايات المتحدة وإن كان معظمهم من الزراع وعمال مصانع النسيج الفقراء فإنهم يعيشون في أمان من الانتحار إذ لم تزد نسبة المنتحرين عندهم عن اثنين في كل مائة ألف من السكان، على حين قد ثبت أن هذا العدد بلغ ثمانية في كل مائة ألف في الأماكن المجاورة حيث توجد المدنية!

والإحصاء العام يدل في غير شك على أن معظم المنتحرين كانوا من بقاع النصف الشمالي للكرة الأرضية بنصفيها الغربي والشرقي حيث سارت المدينة بخطى أوسع وبسرعة أكبر، وحيث العوامل الجوية دائمة الانقلاب والتغير والتباين، وهو نفس الجو الباعث على النشاط والعمل والإنتاج، فكأن الشعوب التي نالت القسط الأوفى من التعليم والثقافة والتي لديها الأسس الاقتصادية، امتازت أيضاً بزيادة عدد المنتحرين فيها.

وثبت من الإحصاء أن انتحار النساء يكون على أشده بين سن 15 و14 والرجال بين سن 25 و60. إلا أن عدد المنتحرات كان دائماً أقل من عدد المنتحرين، لأن المرأة بطبيعتها المولودة معها أكثر جلداً وصبراً واحتمالا لآلام الحياة، وهي كأم أقل تبرماً بالقدر وأكثر تضحية بنفسها لأولادها، فضلا عن أن مسئوليتها في الحياة أقل نسبياً من مسئولية الرجل المولودة للكفاح والقوامة على المرأة، وليس في مكنته التحرر من واجبات الزوجية أو إهمالها، كما أن واجباته الأولى مساعدتها على البقاء وتأدية رسالتها التي خلقت من أجلها وهي الأمومة، ولذلك فعندما تصادف المرأة من مرارة العيش قدراً مساوياً لما يصادفه الرجل كالآلام النفسانية أو الجسمانية أو الصدمات الحيوية العنيفة؛ فإنها لا تفكر في الانتحار أو على الأقل لا تمثل إليه بمقدار قوة ميل الرجل، لأنها أمهر منه في إيجاد نوع من السلوى وأكثر رضوخاً للتعاليم الدينية وأميل للانحياز نحو الآمال التي قد تتحقق حيناً وتخيب أحياناً.

نعم إن هناك مشكلة التقدير لهذه المتاعب، فقد يصيب المرأة ما يصيب الرجل، وكلاهما يختلف عن الآخر في التقدير.

ص: 29

ويمكن التأكد من صحة هذه المعالجة بالنظر إلى عدد المنتحرين في مصر عام 1927 مثلا، فقد بلغ مائة وستة أشخاص بيانها:

السن

من - إلى

ذكور

إناث

1019

10

14

2039

40

11

4059

14

6

60فما فوق

4

5

يضاف إلى ذلك اثنان انتحرا في سن أقل من العاشرة.

ومن هذا البيان يتضح أن المرأة أقدمت على الانتحار بنسبة أكثر في وقت كانت فيه أبعد عن الرزانة وأقرب إلى الآمال، على حيث أقدم الرجل بكثرة عندما شعر بالمسئولية. وكذلك يلاحظ أن عدد المنتحرين قل إجمالا بعد سن الأربعين وتساوى مع الرجل بعد سن الستين. وهذا يؤيد أيضاً أن المرأة أقل اندفاعاً نحو الانتحار من الرجل، وذلك بالنظر إلى مجموع الرجال ومجموع النساء ولا يختلف هذا عن نتائج الإحصاء في أمريكا وأوربا.

وقد كثرت حوادث الانتحار في العهد الأخير بين المتعلمين في القارتين الأمريكية

ص: 30

والأوربية، ولاسيما بين الأفراد الذين نالوا قسطاً وافراً من المعارف ولم يكن ميسوراً لهم الانتفاع بمعارفهم سواء في خدمة المجموع أو خدمة أنفسهم، وكان الباب في غالب الأحيان موصداً في وجوههم لتفشي داء المحسوبية الوبيل الذي كان من أكبر أسباب انهيار فرنسا بجيشها الباسل ورجال العمل فيها. وإن كلمة بيتان في سبب الانحلال الأخلاقي الأكفأ والأحسن والأسمى، ولو اتعظ الناس في بلادنا لأعرضوا جميعاً عن تشجيع المحسوبية بل لعملوا على محاربتها، لأنها تقتل الكفاءات وتثبط العزائم وتحارب العاملين وتدفع ببعضهم إلى الانتحار مللا وضجراً ورغبة في نهاية فيها الراحة مهما كانت مرارتها.

ولوحظ أن حوادث الانتحار تكثر في أوقات الأعياد ولاسيما الدينية منها كعيد الميلاد ورأس السنة المسيحية، وكذلك عقب الامتحانات العامة وخصوصاً في مصر، والانتحار سواء بالغرق وهو أكثر ما يلجأ إليه أو بتناول السموم أو بقطع الشريان أو بالرصاص قد كثر في عهدنا الحاضر كثرة تبعث على القلق وتحفز ذوي الهمم إلى وجوب الدرس والفحص والعناية.

ودلت التجارب على أن حوادث الانتحار منتشرة في البلدان التي يكثر فيها العاطلون من ذوي النفوس الحساسة والعقول التي تقدر المسئولية؛ لذلك قامت الحكومات المتمدينة بمحاربة البطالة بمختلف الوسائل ووفق بعضها توفيقاً هائلاً إلى ما قبل الحرب الأخيرة.

ومن الغريب أن معظم حوادث الانتحار أقدم عليها أفراد من الريف انتقلوا إلى المدن الكبرى والعواصم مأخوذين بسحرها وأضوائها واتساع شوارعها وسهولة العيش فيها، فإذا ما استقر بهم الحال هبوا سعياً وراء الرزق والعمل، ولكن سرعان ما يصطدمون بصخرتها القاسية فيفروا من ذلك السحر وهذا الجمال إلى حيث النهاية التي لا عودة بعدها.

والانتحار عمل ناشئ عن اختلال التوازن العقلي واضطراب المجموع العصبي، فيختل تقدير الإنسان للمسئولية الأدبية والاجتماعية فيندفع إلى تلك الخاتمة الأليمة التي لو ساعدت الظروف الخارجة عن إرادته على منعه لعاد إليه صوابه وندم على ما كان شارعاً فيه

وتكاد كل حالات الانتحار تتشابه من حيث الدافع إليها، أي أنها تسلط فكرة (التخلص) من متاعب لا نهاية لها، سواء في ذلك المتاعب الجسمية أو النفسية، والجسمية مرضية معظمها ميئوس من شفائه كالسرطان والتدرن الرئوي والأمراض التناسلية، أما النفسية فهي مع

ص: 31

تنوعها لا تحتاج إلى إيضاح كثير ولكنها مع كل حال لا تخرج عن يأس وقنوط لإيجاد حل (معقول) لمشاكل لا حدود لها.

وكم من مرة سمعنا بعض الناس يقول (إن الحياة عندي لا تساوي مليما) أو (إني أفضل الموت على الحياة) أو (لماذا ولدنا وكل ما في الحياة عذاب) وهذه الكلمات لا تصدر عفواً ولا يقولها القائل تلهياً وعبثاً؛ فواجبنا جميعاً يقضي بدرس هؤلاء الناس والعمل على تخفيف آلامهم، ولا ننسى أن بعض هؤلاء انتحر فعلا بعد أن التمس من الحكومة الأخذ بيده ليتمكن من القيام بواجبات الأبوة والأطفال صغار.

إن مما يؤسف له حقاً أن تكون المدنية السبب الأول لهذا البلاء لأنها هي التي جرت على الناس مصيبة الترف ودقة الإحساس والمبالغة فيتقدير المتاعب، وقربتهم إلى (النعومة) فأصبحوا خائري القوى لا يرغبون في المقاومة بل ويستسلمون لأقل قوة، فترى البعض يثور إذا ما أصاب مصعد العمارة التي يسكنها أي خلل مؤقت يترتب عليه بذل جهد بسيط في الصعود إلى الطبقة الرابعة أو الخامسة، وزاد بالناس التبرم بالحياة إلى حد الرغبة في إحداث (ثورة) منزلية إذا ما وجدوا ماء الحلاقة بارداً أو فاتراً أو شربوا الماء وهو في درجة ترتفع عن الصفر!

لقد فقد الناس الجلد وقوة الاحتمال بفضل المدنية الحديثة واختراع الآلات الميكانيكية التي تؤدي كل عمل؛ ولذلك فلا غرابة إذا زادت نسبة المنتحرين بين الطبقة المتمتعة بمثل هذه (النعم) أو الراغبة فيها أو الساعية إليها!

ويظهر أن هناك علاقة وثيقة بين الموقع الجغرافي والجو في بلد ما وبين عدد المنتحرين فيه. فمثلا نجد أن منطقة سان ديجو في كاليفورنيا أكثر من غيرها بالنسبة إلى عدد المنتحرين، فقد بلغ هذا العدد 46 في كل مائة ألف، وبعدها سان فرانسسكو 38 ولوس أنجلوس 33 وأوكلاند 30 فقط، والتباين بين هذه المناطق ظاهر وراجع إلى اختلاف الموقع واختلاف الجو.

ولم يلاحظ أن جمال البقعة أو الوسط مما يخفف من اندفاع الناس نحو الانتحار، فمدينة واشنطون معروفة بجمالها وبكثرة بساتينها وأنها بلد محوط بالحدائق، ومع ذلك ازداد عدد المنتحرين فيها عن بايون في نيوجرسي التي لا تدانيها في جمال الطبيعة فيها؛ فنرى في

ص: 32

الأخيرة أن عدد المنتحرين كان خمسة في كل مائة ألف على حين وصل في واشنطون 18.

ويظن بعض الناس أن سكان البلدان الحارة وهم أقرب إلى الاندفاع العصبي وسرعة الغيظ والغضب لأقل الأسباب أسرع من غيرهم شروعاً في الانتحار، وهذا مخالف للواقع؛ إذ أن نسبة عدد المنتحرين في إيطاليا والبرتغال وأسبانيا ومصر أقل بكثير عن نظيرتها في البلدان الشمالية.

وإذا عد الانتحار دليلا علىالفشل في الحياة وعلى اليأس والقنوط فإن البعض يعده أنانية، وسواء أكان هذا أو ذلك فإن ذلك لا يمنع من درسه والعناية به؛ لأن الدافع إليه تسلط فكرة واحدة وانحلال قوة التفكير أمامها، وهذه الفكرة هي (التخلص) من الحياة.

ولا أصدق من موليير عندما قال في مقطوعته أن الموت أشبه شيء بزجاجة الدواء، يمكن لكل فرد أن يتناول منها في وقت معين، فمن اندفع نحوها قبل الأوان فقد اندفع بعدما فقد عقله!

أحمد موسى

ص: 33

‌البحر والقمر

للأستاذ علي محمود طه

(من ذكريات مدينة (كان) بالريفييرا الفرنسية صيف عام

1946 وقد أقيمت في خليجها الفاتن حفلة شائقة للسياحين

والسياحات ذات ليلة مقمرة استمرت حتى مطلع الفجر)

تساءل الماء فيكِ والشجرُ

من أين (كانُ) هذه الصورُ؟

البحر والحور فيه سابحة

رؤًى بها بات يحلُمُ القمرُ!

أطلّ والضوء راقصٌ غزِلٌ

دعاه قلب، وشاقه بصرُ

يهمسُ فيما يراه من فِتَنٍ

آلهةٌ هؤلاءِ أم بشرُ؟

يقفز من لجةٍ إلى حجرٍ

كأنما مسَّ رُوحَه الضَّجرُ

معربداً لا يريم سابحةٌ

إّلا ومنهُ بثغرها أثرٌ

من كل حواء مثلما خلقت

يعجب منها الحرير والوبر

ألقته عنها غلالة ونضَتْ

جسما تحامى نداءه القدر

في حانة ما علت بها عمد

ولا استوى في بنائها حجر

جدرانها الماء، والسماء لها

سقيفة، والنسائم السُّترُ

خَّمارُها منشد، وسامرُها

حور تلوَّى، وفتية سكروا

لم تبق في الشط منهم قدم

قد خوَّضوا في العباب وانتثروا

وشيَّعوا العقل حينما شربوا

وودَّعوا القلب حيثما نظروا

والسابحاتُ الحسانُ حولهمو

كأنهنَّ النجوم والزهرُ

يزيد سيقانهنَّ من بهج

لون عجيب الرواء مبتكر

يضئ ورداً وخمرة وسني

ذوب من المغريات معتصر

تغاير الموج إذ طلعن به

وثار من حولهن يتشجر

بهنَّ يلتفُّ مرتًقى ويُرى

ينشقُّ عنهن فيه مُنحدَرُ

منفتلات قدودُهنّ كما

ينفتل الغصن آده الثمرُ

ص: 34

ملوحات بأذرُعٍ عجب

تحذرهن النهودُ والشعرُ

والضوءُ فوق الخصُور منهمرٌ

والماءُ تحت الصدور مستعرُ

ما زِلْنَ والبحر في تَوَثُّبهِ

يُرْغِي كما راع قَلْبَهُ خطرُ

قد جاوز الليلُ نِصْفَهُ فمتى

تؤمُّ فيه أصدافَها الدُّرَرُ

فيصخبِ البحرُ ولتئن به

رماُله، وليثرثرِ الشجَرُ

ولتعصف الريحُ فوق مائجه

ولينبجسْ من غمامه المطَرُ

أقسمنَ لا ينتحين شاطَئهُ

وإن تَرامَى بمائه الشررُ

حتىُ يَرى وهوٍ فضّةٌ ذَهبٌ

تمازجَ الليل فيه والسَّحرُ!

ص: 35

‌من وراء المنظار

يا خسارة!

المجلس حافل كعهده كل ليلة بالشخصيات من كل نمط، ففيه القاضي والمحامي والأستاذ والنائب والكاتب والشاعر والصحفي وغير هؤلاء ممن أداروا ظهورهم للعمل وركنوا إلى المعاش أو إلى الراحة. . .

يتشقق الحديث حتى لينسى المجلس كيف بدأ ولا أين اتجه، ثم لا يلبث أن ينتهي بنكتة أو ينقطع بسلام قادم يأبى على عادتنا إلا أن يصافح الجالسين من يعرف منهم ومن لا يعرف في حماسة وشوق. . .

وظل هذا حال المجلس ساعة ثم انتظم الحديث وأخذ سمته إلى غايته، واتجهت الأنظار إلى شاب من صحابتي لم أقدمه إلى أحد وإن كان هو يعرفالكثيرين بأسمائهم وأشخاصهم.

أخذ هذا الفتى يتكلم بعد صمت، وأنصت السمار إليه أول الأمر يتبينون من هذا القادم الجديد، وإني لأعلم من قبل أنه سوف يأسرهم بحديثه، ففي صوته ما ترتاح إليه الآذان من إشباع في غير غلظ، ومن رنين غير حدة، وفي منطقه ولهجته من الظرف والهدوء وحسن السياق ما يجذب إليه النفوس من حيث لا تشعر؛ وفي محياه من الفتوة والقسامة، وفي عينيه من البريق والدعة، وفي فمه من الابتسام والسلام، في كل أولئك وفي حسن إشارته وإيماءته ما يجعله حديث مجالس من طراز نادر. . .

هو في الخامسة والثلاثين أو زاد عليها قليلا، مهندم الثياب في تواضع يدل على رقة الحال أكثر مما يدل على السعة، ولكن خفة روحه وبراعة تحدثه يصرفان الأعين عن ثيابه إلى شخصه ثم عن شخصه إلى حديثه. . .

واتجه الحديث بعد أن انتهى شوط منه إلى السياسة بعد الأدب، فأعجب هذا الشاب الواسع الاطلاع سامعيه على اختلاف مذاهبهم إذ أشار إلى أن بعض النقص في كمال هذا الزعيم يعوضه بعض الكمال في نقص ذاك.

وانتقل الكلام إلى الاقتصاد فأنصت ملياً ثم أدلى برأيه فلخص ما سمع من آراء تلخيصاً جميلا فكأنما أتى برأي جديد وهو لم يأت بشيء إلا ما نسقت فطنته وأدت بلاغته. . .

ومال الحديث بالسامر إلى قضية المرأة والرجل، فقال إنه لا الرجل صالحون للحكم على

ص: 36

النساء، ولا النساء صالحات للحكم على الرجال، وهذه هي القضية التي لا يوجد فيها حكم من غير الطرفين. ولسوف تنعقد جلساتها ثم تؤجل إلى أجل غير مسمى، وذلك لأن الرجال والنساء لا يرتضون الحكم الأول الذي صدر من الغيب على آدم وحواء. . .

وضحك السامرون وخرجوا من الجد إلى المزاح، وراح كل يدلي بما يحفظ من نكتة أو يذكر من نادرة، ثم أنصتوا إلى صاحبي الشاب فأضحكهم جميعاً بنكاته وأقاصيصه، وراعهم بحافظته وسرعة انتقاله من نكتة إلى نكتة وهو ينسبها جميعاً لأصحابها بل ويذكر الصحف التي نشرتها والمناسبة التي أخرجتها.

وبدا لأحد الجالسين فسأل هذا الشاب ما عمله؟ وابتسم الشاب ابتسامة عريضة تجلت فيها خفة روحه ولكن مازجها شيء من الدعابة الناقمة وقال أنا ناظر مدرسة. . .

وعاد سائله يستفهم أثانوية أم ابتدائية هذه المدرسة؟

ورد الشاب بقوله (لا يا فندم إلزامية بس)

وصاح أحد الجالسين من غير وعي قائلا (يا خسارة!)

وضج بعض الجالسين بالضحك؛ ونظر آخرون في ساعاتهم يريدون أن ينصرفوا؛ وصمت في غيظ وعبوس شخص كان يناديه تارة يا أستاذ وتارة يا بك، وانتحى البعض جانباً مزورين وهم ينظرون نظرات كريهة إلى هذا الذي أعجبوا به منذ دقائق.

وارتفع صوت أحد الفضلاء يول للذي أعلن الخسارة: حسبتك والله تقول (ونعم). . . حتام يا قوم تغرنا الألقاب والرتب؟ وكم عندنا من نظار المدارس الابتدائية أو الثانوية من نضعهم إلى جانب هذا الأستاذ في سعة اطلاعه ورجاحة عقله. . . ألا إن المرء بأصغريه. . . ألا إن المرء بأصغريه.

أما صاحبي فلم يأبه حدث لأنها كما حدثني ليست أول مرة يلقى فيها مثل ما لقي، وما زاد على أن ضحك ملء نفسه من المزورين جميعاً وإن كنت أحسست في ضحكه المرارة والألم. . .

الخفيف

ص: 37

‌تعقيبات

العربية الفصحى والنحو العربي:

الأستاذ أحمد خاكي باحث أديب عرفه قراء الرسالة منذ سنوات بما كان ينشر من بحوث ثقافية تمتاز بالعمق وبالإحاطة، وهو الآن وكيل مكتب البعثات المصرية في لندن، وله هناك نشاط ثقافي جدير بالحمد والثناء. وقد كتب الأستاذ خاكي مقالا في العدد الخاص الذي أصدره مكتب البعثات عن التطورات والإصلاحات التي نالتها مصر من يدي الملك فاروق، وقد عنيت جريدة (المانشستر جارديان) بالتعليق علىهذا المقال تعليقاً شاملا عرضت فيه لمسألة العربية الفصحى وإصلاح النحو العربي فقالت:(إن أكبر عائق في سبيل نشر التعليم بمصر، وبالتالي في تحقيق التقدم الاجتماعي في شتى النواحي، هو الاختلاف الكبير بين العربية الفصحى واللغة العامية الدراجة، مما جعل ملايين من الناطقين بالعربية أصلا لا يستطيعون فهم الفصحى إذا سمعوها من أفواه المتحدثين بها فضلا عن قراءتها وكتابتها. . . وستكون لجهود العلماء المصريين في سبيل إصلاح النحو في العربية آثار بعيدة المدى، ولكن من سبق الحوادث أن يتكهن المرء بالفائدة التي ستعود على النشء من إصلاح النحو العربي، وفي وسعنا أن نقول مع ذلك إنه لن تتحقق الآمال المعقودة على هذا الإصلاح إلا بعد أن تقيم مصر نظاماً للتعليم الابتدائي أوسع مدى وأحسن توزيعاً من النظام الحالي، ولا نزاع في أن النحو الجديد سيجعل التعليم بين مختلف طبقات الشعب عاماً ميسوراً. . .)

هذا ما قالته الجريدة الإنجليزية، وهو كلام لا جديد فيه، ولكنه ترديد لرأي طائفة من المستشرقين، وطائفة من أبناء العربية يتقلون في كل كلام وافد من الخارج بالتقديس والتسبيح

والواقع أن مسألة إصلاح النحو العربي، أو على التحديد تيسيره وتسهيله، حقيقة تملأ أذهان العلماء من أبناء العربية، وقد أثيرت هذه المسألة منذ سنوات وتناولتها الأقلام والأحاديث بالمناقشة، وكانت صفحات (الرسالة) مجالا لهذا، وإذا كان القوم لم يصلوا حتى اليوم إلى طريقة مثلى، فإن الأفكار متعلقة بالوصول إلى هذه الغاية، وتعميم النفع بها على أوسع نطاق.

ص: 38

أما مسألة العربية الفصحى فلا زلنا نقول إنها ليست بمشكلة كما يتصورها المستشرقون وأتباعهم، (وليست بعائق في سبيل نشر التعليم) كما تقول الجريدة الإنجليزية، لأن للعربية الفصحى مراتب في التعبير، فكما أن فيها المرتبة العالية الصاعدة، فإن فيها أيضاً المرتبة السهلة القريبة، فمثلا الصحف العربية تكتب بأسلوب عربي فصيح، وهو أسلوب لا يتعذر فهمه على العامة وجمهور الشعب، بل إننا كثيراً ما نجد رجلا أمياً يستحضر قارئاً يتلو عليه الجريدة وهو منصت لما يتلو عليه، فلا يجد أدنى مشقة في فهم ما يسمع وإدراك ما ينطوي عليه من التلميحات والإشارات.

ومنذ سنوات مثلت في مصر روايات شوقي، وهي بالعربية الفصحى العالية، فأقبلت عليها جماهير الشعب إقبالا كبيراً، وكانوا يفهمون قصائدها ومقطوعاتها فهماً طيباً، وكثير من العامة يحفظون مقطوعات كاملة وأبيات سائرة من هذه الروايات ويفهمون ذلك فهماً لم يعنهم عليه من مدرس أو شارح.

إن الصلة بين العامية الدراجة والعربية الفصحى ليست بالبعد الذي يتصوره أولئك الثائرون على العربية الفصحى، وإن الشعب ليس بمنقطع عن هذه العربية كما يخيل لأولئك الناس، فإن بين العامية والفصحى صلة وثيقة في النطق وفي استعمال كثير من الألفاظ والتعابير، ويمكن أن يكون الاختلاف التام بينهما في الإعراب، وهو اختلاف لا تأثير له في هذه الناحية، ولا يصح لباحث أن ينسى في هذا المقام أن القرآن الكريم وهو أفصح ما نزل في العربية يتلى على جموع الشعب ليل نهار، وأن خطب الجمعة تلقى في كل أسبوع بالعربية الفصحى، وأن عامة الشعب يؤدون صلواتهم ويرددون أورادهم وكلها بالأسلوب العالي الرفيع، وأن خطباء المحافل في الوعظ والإرشاد وفي التأبين والرثاء، وفي الدعايات الانتخابية والسياسية إنما يتحدثون إلى الشعب بهذا النمط من الأسلوب، وكل هذا مما طبع ذوق العامة بطابع عربي، وقرب المسافة في إدراكهم إلى حد كبير بين العامية الدارجة والعربية الفصحى. . . فكل الكلام الذي يثار في هذا الشأن، ويصور مسألة العربية الفصحى على أنها معضلة يجب التغلب عليها بالتدلي إلى العامية إنما هو كلام متهم وتصوير مبالغ فيه لا يقوم على إدارك الحقيقة ومعالجة الأمر بنزاهة. . .

هل هي أزمة ثقافية:

ص: 39

تقول الأنباء الواردة من أمريكا إن (الفلم) السينمائي هناك يعاني أزمة كالتي في مصر، وإن رجال هذا الفن يجتهدون في التدبير لعلاج هذه الأزمة والتغلب على أسبابها حماية لهذا الفن من نكسة تضر بنموه وتقدمه. . .

والمسألة ليست مسألة الفن السينمائي فحسب، بل إنها كذلك مسألة المسرح، وهي أيضاً مسألة الكتاب، وكل الوسائل التي تحمل إلى الناس ألوان الثقافة المختلفة. فهناك شكوى عامة من قلة الإقبال على هذه الوسائل والرغبة في القراءة والاطلاع عما كانت عليه الحال في الأيام الأخيرة، أعني سنوات الحرب الماضية.

وعندي أن هذه الحال الطارئة ليست مظهر أزمة ثقافية تدل على انصراف الناس وقلة رغبتهم في الاطلاع كما يقدر بعض الباحثين، ولكنها فترة يقف فيها الجمهور موقف التروي والتمهل للاختيار وإيثار النافع وما يجد فيه من الفائدة ما يوازي، بل ما يزيد، على ما يدفع فيه من الثمن. . .

وهذه لا شك نتيجة طبيعية للحال التي شاهدناها أيام الحرب ولمسنا فيها الرواج العظيم في جميع وسائل الحياة، ومن بينها وسائل الثقافة المختلفة. . .

فالجمهور أيام الحرب كان يتلهف على كل شيء، ويرضي بأي شيء، سواء في غذائه أو في ملبسه أو في ثقافته، فكان حسبه أن يجد ما يطلب، لا أن يختار فيما يطلب، وعلى هذا طعم الخبز المخلوط بالرمل والحصى والتراب، ورضى الملبس الخشن الغليظ الذي لا يجزئ في تفصيل الثياب، وتقبل كل ما يقدم إليه من ألوان الثقافة ما دام يجد فيه تزجية للوقت وتسلية عما يحيط به، أما وقد زالت دواعي تلك الحال وضروراتها فإن الجمهور اليوم يتخير، وإنه ليتروى في هذا التخير، فهو لا يرضى إلا بالرغيف الأبيض الصالح للغذاء، ولا يطلب إلا الثوب الجيد الملائم للمقام، ولا ينشد إلا الكتاب الذي يتحرى فيه النفع والفائدة، ولا يقبل على أي لون من ألوان الثقافة إلا إذا وجد فيه ما يجزي وما يغني. . .

هذه حقيقة يجب أن يقدرها القائمون على نشر الثقافة، والذي ينتجون فيها، ويظهر أن أصحاب المتاجر كانوا أسرع فهماً وأحسن تقديراً لهذه الحال، فقد أصبحوا يعلنون عن بضائعهم بأنها من (أجود الأنواع وأرقى الأصناف) لأنهم أدركوا أن الجمهور الآن إنما يطلب الجودة والرقي. . . فخير للقائمين بأمر الثقافة أن يدركوا هذه الحقيقة، وأن يجعلوها

ص: 40

مدار المعاملة بينهم وبين الجمهور حتى لا يصدمهم الكساد الذي يحسبونه انصرافاً من الجمهور، وما هو إلا البوار الذي يصيب كل بضاعة مزجاة.

هنري فورد والشعر:

مات منذ قريب هنري فورد ملك السيارات ورجل الصناعة كما يصفه الصحفيون، وقد كتبت عنه جريدة (نهضة العرب) التي تصدر في المهجركلمة بهذه المناسبة قالت فيها:(وكان هنري فورد محباً للشعر، وخاصة للشعراء الذين جعلوا مثلهم الأعلى وحدة الإنسانية ونشدوا حكومة عالية تسهم الأمم كلها في إنشائها، وكان من مبادئه أن الثقافة والدين يجب أن يسيرا جنباً إلى جنب)

يا الله. . . هنري فورد العظيم كان يحب الشعر!؟

ولكن ماذا وهب مالك خزائن قارون في سبيل هذا الحب، وماذا أجدى من ملايينه في تشجيع أولئك الشعراء الذين يدعون إلى وحدة الإنسانية!؟

ألا ما أكثر المحبين الذين ليس عندهم إلا كلمات الإعجاب والإطراء. . .

(الجاحظ)

ص: 41

‌الأدب والفن في أسبوع

بين أدبائنا الكبار:

كتب الأستاذ محمود تيمور بك مقالا في (الهلال) عن (طه حسين) في باب (صور وصفية لشخصيات لامعة) قصد فيه إلى تصوير حياة الدكتور طه حسين بك منذ طفولته. والواقع أن الدكتور طه لم يغادر في حياته الأولى (من متردم) بصنيعه في كتاب (الأيام) وقد جنى هذا الصنيع على الشطر الأول من مقال الأستاذ تيمور، فهو يبدو لقارئ الأيام وصفاً موجزاً مجملا لتلك الحياة التي فصلها صاحبها وحللها صادقاً مجيداً.

ولكن الأستاذ تيمور أجاد حقاً في تصوير شخصية (طه حسين) من حيث أنه (مزاج قوي بين حضارتين متغايرتين: حضارة الشرق وحضارة الغرب، وعصارة طيبة من معهدين مختلفين: الأزهر، وجامعة باريس) كما قال الأستاذ في مقاله، وكما قال أيضاً: (وإذا كان طه حسين قد جمع في شخصه بين الشيخ والدكتور، فقصارى ما فعل أنه لاءم بين نشاطين من ضروب النشاط الذهني للإنسان، وكان بهذه الملاءمة نموذجاً مثالياً للأديب الشرقي المعاصر.

(وحسبنا، لكي تتجلى مزية هذه الملاءمة، أن نتمثل طه أزهرياً استأثرت به أزهريته، أو جامعياً لم يفز من الثقافة العربية في غمارها الملتطم بنصيب.

(فإن الأزهري أو الجامعي قد يكون له أثره وخطره، ولكنه لن يكون تلك الشخصية المثالية المكتملة التي نسميها طه حسين).

وختم الأستاذ تيمور مقاله بالإشادة بأسلوب الدكتور طه حسين الذي عده مظهراً رائعاً من مظاهر ازدهار البيان العربي في الوقت الحاضر.

وأخلص من هذا كله إلى كلمة صريحة: هي أن الأستاذ محمود تيمور، وهو بصدد التصوير الوصفي لشخصية طه حسين وأدبه، قد أعطى له كتابه بيمينه. . . وأهمل شماله إهمالا تاماً، فهل يعتقد فيه وفي أدبه الكمال المطلق الخالص، أو هو يجامله، وهل تتفق هذه المجاملة مع رسالة الفن والأدب التي نعتقد أن الأستاذ تيمور من أخلص الناس لها؟

ولعله ذهب في ذلك مذهب الدكتور طه الذي جرى عليه أخيراً في الكتابة عن بعض المعاصرين، ذلك المذهب الذي يكاد يخرج عن نطاق النقد ذي الكفين. . .

ص: 42

وإذا كان كبار أدبائنا من طبقة الكهول قد رضوا لأنفسهم (ولا أقول للأدب) هذه المجاملات، فما أظن أن هذا مما ينبغي أن يتأثرهم فيه الجيل الجديد.

أقدم مسرحية:

أثبتنا في عدد مضى من الرسالة ما قال به الأستاذ سليم حسن بك من أن المصريين الأولين هم أول من كتب الدرامية التمثيلية والقصة الخرافية، لا اليونان كما هو شائع.

ولابد أن يكون للدرامة التمثيلية مسرح تمثل عليه. ويدلنا على هذا المسرح مقال بجريدة (المصري) عنوانه (مصر أول من أقام المسرح في العالم) قال كاتبه: (كان الشائع أن الإغريق هم الذين أوجدوه (يعني المسرح) ولكن الحقيقة المكتوبة على ورق البردي وعلى جدران المعابد المصرية القديمة أنارت السبيل للمؤرخين وأثبتت أن المصريين لا الإغريق هم أول من أقام المسرح في العالم).

وذلك أنه كان في التاريخ المصري القديم أشياء لم يفهم لها المؤرخون تعليلا مقبولا، مثل الساحات الواسعة أمام المقابر والأهرام وبعض المعابد. فلما أصبح من المستطاع قراءة اللغة الهيروغليفية أسفر البحث عن أن تلك الساحات كانت مسارح.

وقد وقف الباحثون على بعض المسرحيات التي كانت تمثل بتلك المسارح، منها (مسرحية الأهرام) وتعد أقدم مسرحية في العالم، لأن بعض نصوصها يرجع إلى سنة 4000 قبل الميلاد، وموضوعها جزء من العقائد المصرية القديمة يدور حول صعود روح المتوفي وبعث الجسد الميت. والأدوار الرئيسية فيها هي (أوزوريس) وهو رمز للجسد الميت ويؤديه أحد الكهنة و (حورس) ويمثله رئيس الكهنة أو فرعون نفسه؛ وتظهر فكرة المسرحية عندما يقف الكاهن أمام جسد الميت مخاطباً روحه قائلاً:(أيها الملك أونيس، إنك لن ترحل ميتاً بل حياً) وذلك عندما يكون التمثيل في الجزء الخاص بصعود الروح. أما في الجزء الخاص بالبعث فيقول الكاهن للجسد الميت (انزع لفائفك وانفض عنك الرمال، ثم ألق عنك الحجارة، هيا. . . قياماً أيها الجسد المسجى).

وقد أثبت البحث أن المصريين القدماء استخدموا الأقنعة و (الماكياج) في تمثيل الشخصيات المختلفة أو في أدوار الحيوان.

تمثيلية عربية:

ص: 43

ومن المعروف أن العرب لم يكن لهم شغل بالتمثيل، ولم يلقوا إليه بالا، ولكني وقفت على خبر غريب أتي به صاحب (العقد الفريد) في (أخبار الممرورين والمجانين) بالجزء الرابع.

ذلك الخبر هو ما أعني بالتمثيلية العربية، وذلك أنه كان في زمن المهدي رجل صوفي، وكان عاقلا عاملا، وكان يتلمس السبيل إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فكان يركب قصبة في كل جمعة يومين: الاثنين والخميس، فإذا ركب في هذين اليومين فليس لمعلم على صبيانه حكم ولا طاعة، فيخرج ويخرج معه الرجال والنساء والصبيان، فيصعد تلا يتخذه مسرحاً. ثم يبدأ فينادي بأعلى صوته: هاتوا أبا بكر الصديق. فيتقدم إليه غلام ويجلس بين يديه، فيقول: جزاك الله خيراً أبا بكر عن الرعية، فقد عدلت وقمت بالقسط، وخلفت محمداً عليه الصلاة والسلام أحسن الخلافة، اذهبوا به إلى أعلى عليين. ثم ينادي: هاتوا عمر. فيجلس بين يديه غلام فيقول: جزاك الله خيراً أبا حفص عن الإسلام، قد فتحت الفتوح، ووسعت الفئ، وسلكت سبيل الصالحين، وعدلت في الرعية، اذهبوا به إلى أعلى عليين بحذاء أبي بكر. ثم يأتي عثمان، فيقول له: خلطت في تلك السنين، ولكن الله تعالى فيقول:(خلطوا في تلك السنين، ولكن الله تعالى يقول: (خلطوا عملا صالحاً وآخر سيئاً عسى الله أن يتوب عليهم) اذهبوا به إلى صاحبيه في أعلى عليين. ثم يتقدم علي بن أبي طالب، فيقول له: جزاك الله عن الأمة خيراً أبا الحسن، فأنت ولي النبي، بسطت العدل، وزهدت في الدنيا، واعتزلت الفئ، فلم تخمش فيه بناب ولا ظفر، وأنت أبو الذرية المباركة وزوج الزكية الطاهرة، اذهبوا به إلى أعلى عليين الفردوس.

ومما يقول لمعاوية: أنت الذي جعل الخلافة ملكا، واستأثر بالفئ، وحكم بالهوى، واستبطر بالنعمة، وقام بالبغي، اذهبوا به فأوقفوه مع الظلمة ويقول ليزيد: أنت الذي قتلت أهل الحرة وأبحت المدينة ثلاثة أيام، وانتهكت حرم رسول الله، وآويت الملحدين، وتمثلت بشعر الجاهلية:

ليت أشياخي ببدر شهدوا

جزع الخرزج من وقع الأسل

وقتلت حسيناً، وحملت بنات رسول الله سبايا على حقائب الإبل، اذهبوا إلى الدرك الأسفل من النار. وهكذا يتتابع أمامه الخلفاء حتى يأتي دور عمر بن عبد العزيز، فيقول له: جزاك

ص: 44

الله خيراً عن الإسلام، فقد أحييت العدل بعد موته، وألفت القلوب القاسية، وقام بك عمود الدين على ساق بعد شقاق ونفاق اذهبوا به فألحقوه بالصديقين.

ولما بلغ دولة بني العباس سكت، فقيل له: هذا أبو العباس أمير المؤمنين. قال: فبلغ أمرنا إلى بني هاشم، ارفعوا حساب هؤلاء جملة، واقذفوا بهم في النار جميعاً.

وإذا كان لابد لهذه التمثيلية من اسم كسائر التمثيليات، فليكن اسمها (مسرحية الخلفاء) أما مؤلفها ومخرجها وممثلها فلم يسمه الرواة، واكتفوا بأنه رجل صوفي عامل عاقل وإن كان ذكره ورد في أخبار المجانين!

التعاون الإذاعي العربي:

كانت بعض الصحف اللبنانية قد رددت فكرة التعاون الإذاعي العربية بإيجاد برامج عربية مشتركة، كأن تخصص جميع محطات الإذاعة العربية يوماً في الأسبوع مثلا لتنقل إلى مستمعيها برنامج محطة عربية واحدة.

وقد قيل إن مديري الإذاعات العربية ينتظرون سنوح الفرصة لهم لعقد مؤتمر إذاعي كبير يدرسون فيه المسائل الإذاعية، من حيث البرامج المشتركة وتقريب الفنون والثقافات العربية بعضها إلى بعض بوساطة المذياع.

ولما كان من أهداف الجامعة العربية الثقافية تنوير الجمهور العربي ورفع مستواه الثقافي بالوسائل العامة كالصحف والسينما والإذاعة. فقد فكرت الإدارة الثقافية بالجامعة في الإذاعة العربية العامة، فوجدت أنه وإن لم يكن ميسراً لها في وقت الحاضر إنشاء محطة عربية كبرى تضم هيئات أدبية وفنية من كافة الدول الأعضاء بالجامعة، إلا أنه يمكن تنظيم إذاعتين شهريتين: إحداهما للثقافة والأخرى للتسلية؟ تذيعهما كل من المحطات العربية مرة كل شهر.

وعرضت الفكرة على ممثلي الدول العربية فصادفت ارتياحاً وموافقة منهم جميعاً، وفوتحت فيها محطة الإذاعة المصرية فرحبت بها، ولكنها اشترطت أن تقوم الأمانة العامة للجامعة بالنفقات اللازمة للتسجيل وغيره. ولم تجتز الفكرة هذه المرحلة، ونرجو أن تسرع إلى الظهور، فلا أقل منها في تحقيق التعاون الإذاعي العربي.

معهد عربي بأمريكا:

ص: 45

من أنباء نيويورك أن إدارة (معهد آسيا) بها قررت إنشاء فرع يسمى (معهد الدراسات العربية) إلى جانب فروع المعهد الحالية وهي (المعهد الإيراني) و (المعهد الصيني) و (المعهد الهندي).

وقد اختير الأستاذ إسماعيل راغب الخالدي مساعداً لمدير المعهد الجديد، وسيقوم في هذه الأيام برحلة إلى الأقطار العربية، لعرض هذا المشروع على حكوماتها، وليجتمع بالأدباء العرب البارزين ممن يهمهم تحقيق هذه الأمنية. وسيعني (معهد الدراسات العربية) بدرس حاضر العالم العربي من جميع نواحيه العلمية والأدبية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وسيعمل فيه نخبة من الأدباء والمختصين العرب والأمريكيين.

وهذا المعهد الجديد، المأمول له التمام والنجاح، سيكون صفحة جديدة تضاف إلى صفحات الجهود المجيدة التي يقوم بها مهاجرو العرب لإعلاء شأن الأدب والثقافة العربية ونشرهما في العالم الغربي، تلك الجهود التي توازن ما يقوم به الغربيون من نشر ثقافاتهم ببلاد الشرق، وهي جهود توسع آفاق الدراسات العربية وتكسبها صفة العالمية أو تزيد فيها.

بالعربي:

يعجبني من القائمين بأمر الإذاعة إفساح صدورهم للنقد، وإعلانهم الترحيب به والانتفاع بالمحق الممكن منه. وقد عددت من هذا القبيل ما أفضى به مدير الإذاعة الجديد إلى بعض الصحف من أن اللغة العربية في مقدمة ما تعني به إدارة الإذاعة من وجه الإصلاح؛ وهذا على أثر ما كتبناه عن الإذاعات العامية وعن عدم الاهتمامبلغة الأحاديث وصحة النطق.

سرني ذلك الذي أفضى به الأستاذ محمد قاسم بك وبعث في نفسي الأمل، ولكن في ليلة من الليالي الفائتة سمعت محدثاً في المذياع عن (الكتلة الإسترلينية) فأصغيت لعلي أفهم شيئاً في هذا الموضوع الذي لا أراني أجهل شيئاً أكثر منه. . . سمعت المتحدث يقول: إذا أريد أحد أن يرسل نقوداً إلى قريب له في بلد من غير بلاد الكتلة الإسترلينية، فإنه يسأل، فيما يسأل عن قرابته ويطلب منه أن يحدد مداها. ثم يقول:(يعني بالعربي أريبه أوى ولا أرابه كده من بعيد. . .).

يا سبحان الله! كأن أخانا كان يتكلم بلغة أعجمية، فلما أحس أنها غير مبنية أراد أن يعبر

ص: 46

بكلام عربي مبين، فأتي بما بين القوسين!!!!

مأدبة وأدب

دعا الدكتور زكي المحاسني وقرينته الأديبة السورية المعروفة السيدة وداد سكاكيني، طائفة من رجال الأدب والصحافة، إلى مأدبة شاي، في دار الاتحاد العربي.

وقد قصد الداعيان أن يهيئا فرصة اجتماع أدبي ودي بين أصدقائهما من أدباء سوريا وأدباء مصر، قبيل انتهاء إقامتهما في مصر التي ختمت بنيل الأستاذ المحاسني دكتوراه الآداب من جامعة فؤاد الأول.

وما فرغ الجميع من المأدبة حتى ائتلف منهم مجلس أدبي تناقلوا فيه الطرف وتناشدوا الشعر، ومما كان أن السيد نزار القباني أنشد قصيدة من شعره كان يقف في بعض أبياتها على كلمات بالسكون، فلم تعجب هذه الطريقة الأستاذ خليل بك ثابت، وسأل الشاعر: لم لا تضبط الكلمات بحركاتها وتقف عند آخر الشطرات والأبيات؟ وقال إنه يلاحظ شيوع هذه الطريقة في الإنشاد بين كثير من شعراء الشباب، وقد دارت المناقشة في هذه المسألة بين محبذ للتسكين ومنكر له، وأهم ما استند إليه مؤيدو التسكين أنه وقوف عند الكلمات التي يعمق إحساس الشاعر بمدلولها، وكان من رأى المنكرين أن التسكين إخلال بالوزن العروضي وبموسيقى البيت. وأخيرا وفق الأستاذ عادل الغضبان بين الرأيين بأنه يمكن الوقوف الخفيف مع التحريك، فيؤدي الشاعر غرضه مع الاحتفاظ بسلامة الوزن وموسيقاه.

(العباس)

ص: 47

‌البريد الأدبي

هذا ضمير مطمئن أهميته:

كتب الأستاذ الشاعر محمود عماد كلمة بالعدد (730) ينحي فيها باللائمة على من يستعمل هذه الجمل: (هذا كلام له وزنه، وهذه مسألة لها خطورتها، وهذا رجل له رأيه) وما ماثلها. وحجته في ذلك: أنه لم يعثر على أمثال هذه التراكيب في كلام عربي قديم؛ على أنه قبل إيراده هذه الحجة علل بطلان هذه الجمل: بأن الضمير المجرور باللام فيها يفيد الملكية، فإعادته مرة أخرى في الكلمة التي تليه تكرير لا فائدة فيه. وعزا استعمال هذه الجمل في أساليب الكتاب والأدباء، إلى سقطة سقطها أحد الكتاب المتأخرين فتبعه فيها كثيرون بغير تحرز.

والذي أراه: أن أمثال هذه التعبيرات إنما ترد في مقام القصر، أو التقرير، ويستدل لهذا بقوله تعالى في سورة (الكافرون)(لكم دينكم ولي دين) أي أن دينكم مختص بكم لا يتعداكم إلى غيركم، ولي دين مختص بي لا يتخطاني إلى غيري، وعلى هذا يصح لنا أن نستعمل هذه الجمل في مقاماتها وكفى بالقرآن حجة في مثل هذا المقام، ولا أحسب الأستاذ بعد هذا إلا مصدقاً، ومذعناً، وراجعاً عن تخطئته، ولنا عذرنا إن أسعدتنا الرسالة الغراء، ونشرت لنا هذه الكلمة الموجزة.

محمد غنيم

كلمة أخيرة حول خطأ عروضي شائع:

. . . لقد أثار نقدي لقصيدة (الأستاذ مختار الوكيل)؛ التي بعنوان (إلى أخي)؛ جدلاً بين نفر من الكتاب.

إذ قلت - ولا أزل أقول - بأن القصيدة خليط من بحرين مختلفين، وهما: بحر الهزج، ومجزوء الوافر.

ولقد قال بعض المعقبين بخطأ ما ذهبت إليه، ولكن (الرسالة) تولت الإيضاح، وأعتقد، كما يعتقد غيري، بأنها أماطت اللثام عن الحقيقة الساطعة، ودعمت وجهة نظري، بالقواعد العروضية المنصوص عليها.

ص: 48

وأما استشهاد أولئك المعقبين بأبيات لشعراء معاصرين فأمر لا يعتد به. . .!

ولتسمح لي الرسالة ببعض البيان. . . فأقول:

إن النقص (- الذي هو مركب من العصب والكف - كتسكين الخامس المتحرك وحذف السابع الساكن من مفاعلتن فتنقل إلى مفاعلت)؛ زحاف مركب، يلحق ثواني أسباب الأجزاء للبيت الشعري - كما هو معلوم - ويدخل عروضياً على سبيل القياس فقط، مفاعلتن، في البحر الوافر؛ فتصبح تلك التفعيلة:(مفاعلت) كما قدمت سابقاً، وهذه يقابلها مفاعيل، من التفاعيل المستعملة، وهي صورة ثابتة ل (مفاعلين) التي هي إحدى التفعيلات الأصلية في بحر الهزج؛ ولكنها (أي مفاعيلُ) مصابة بالكف، والوافر لا يدخله الكف مطلقاً، فعندها يحمل البيت على الهزج، لا على مجزوء الوافر، لأن هذه التفعيلة أصيلة فيه. ولهذا قالت (الرسالة): إن النقص لا يلحق مفاعَلَتُنْ، في الوافر، في حالة الشعر الصحيح، وإن لحقها قياساً وظاهرياً. وهو أمر واضح لا غبار عليه.

وإني لأشكر للرسالة، حسن إيضاحها.

(المجدل)

خليل إبراهيم الخطيب

شخصية عمرو بن العاص:

قرأت للأستاذ الجليل علي الطنطاوي مقالا تحت عنوان: (وقفة على الفسطاط) وقد لاحظت أنه انتقد تمثيل شخصية عمرو كرجل قميء ثعلبي. . . الخ وقال إنا ما عرفنا عمراً وأنا قرأنا ما كذبه عليه المؤرخون يوم التحكيم ولم نقرأ الحقيقة التي رواها المحدثون في مثل (كتاب القواصم والعواصم للقاضي أبي بكر ابن العربي).

فهلا كان من الواجب على حضرته أن يوضح شيئاً مما في هذا الكتاب؟ أم رأى أنه يجب أن يكون لدى كل إنسان نسخة من القواصم والعواصم؟!

أفيدونا أفادكم الله. وللأستاذ الطنطاوي تحياتي وإجلالي.

(قوص)

محمد محمد حسن الديب

ص: 49

نشيد فلسطين:

اطلعت على مقال للأستاذ حنا فارس مخول حول نشيد فلسطين القومي في عدد الرسالة 728 - وقد رأيت ولا عجب كلمة تثار حول النشيد القومي. . .

ولا أدري كيف نسى الكاتب أن هناك أناشيد فلسطينية ونشيداً قومياً واحداً نشرته صحيفة (الوحدة) في أحد أعدادها (الممتازة)، والنشيد قوي السبك، متين الأسلوب لا ينقصه سوى التلحين. . . وواضعه شاعر فلسطيني هو الأستاذ محمد حسن علاء الدين. . .

وفي كتابي (شعراء فلسطين العربية في ثورتها القويمة) يرى الأستاذ الفاضل أكثر من نشيد واحد يتغنى به أبناء هذا القطر. فأرجو ألا يتسرع في الكتابة عن موضوع يجهل عنه الكثير. إذ بتصريح كهذا يرسم للأقطار الشقيقة صورة أدبية نائية عن الصواب.

إبراهيم عبد الستار

رئيس نادي الإخاء العربي بحيفا

حول تاريخ النوبة:

إذا كان القارئ الفاضل يسأل عن كتاب في تاريخ النوبة فقد أجابته (الرسالة) الغراء حين أشارت إلى كتابي (صحائف مطوية من تاريخ النوبة) ولست أعرف كتاباً صدر في هذا الموضوع غير هذا الكتاب.

أما إذا كان يريد المراجع، فهذه هي الكتب التي رجعت إليها:

1 -

مصر والسودان في نظر العلموالتاريخ للدكتور أحمد فؤاد.

2 -

العقد الثمين لأحمد باشا كمال.

3 -

تاريخ السودان لنعوم بك شقير.

4 -

الأثر الجليل لأحمد بك نجيب.

5 -

تقارير مصلحة الآثار عن حفائر النوبة.

6 -

دلي المتحف المصري.

7 -

الخطط المقريزية.

ص: 50

8 -

البيان والإعراب للمقريزي.

9 -

الخطط التوفيقية لعلي باشا مبارك.

10 -

مذكرات لم تنشر للمؤرخ البحاثة الأستاذ سليمان.

عبد الرحمن كبير محضري محكمة الإسكندرية الوطنية عن القبائل العربية في وادي النيل.

هذه هي المصادر التي رجعت إليها عندما وضعت كتابي منذ أربعة عشر عاماً، مضافاً إليها دراساتي الشخصية لآثار بلاد النوبة وحفائرها التي تمت قبل تعلية خزان أسوان الأخيرة.

وثمة مراجع أخرى ظهرت بعد ذلك يجدر بالباحث أن يطلع عليها، وأهمها مؤلفات المرحوم عبد القادر حمزة باشا والأستاذ الكبير سليم بك حسن عن تاريخ مصر القديم.

وقد يعتبر كتابي (صحائف مطوية من تاريخ النوبة) أحد المراجع التاريخية في هذا البحث رجع إليه الأستاذ عبد الله حسين المحامي عند وضع كتابه عن السودان، ومعالي الأستاذ مكرم عبيد باشا في بحثه القيم الذي يعد الآن للطبع عن (الوحدة الطبيعية الوطنية لوادي النيل).

وللرسالة الغراء، أصدق الشكر وخالص التقدير.

محمد كامل حنة

إلى الجاحظ:

حينما نشرت مقالي عن عبد المطلب توقعت أن الأستاذ الجاحظ سيعقب عليه، لما أعرفه من إلمامه الواسع بتاريخ أدبنا المعاصر، ويسرني أن أعلن في اغتباط زائد - كالدكتور زكي مبارك - أن الحق كل الحق فيما كتب، راجياً أن يسعدني دائماً بتعقيبه المفيد، وسلام عليه.

محمد رجب البيومي

ص: 51

‌القصص

القطة الصغيرة

للأديب مصطفى محمود

أرسلت القطة الصغيرة مواء ضعيفاً وهي تتنقل بين الكراسي وتتمسح بالأرجل وتتلقف الفتات المتناثر تحت الموائد، فقد كان اليوم يمثل وليمتها الأسبوعية الفاخرة، فالكازينو النيلي الجميل كان عامرا زاخرا برواده شأنه دائماً في ليالي الأحد. . . والفضلات كانت ترى هنا وهناك في كثرة ووفرة. فأقبلت عليها تلتهمها في شهية ونهم حتى أتخمها الشبع فتكاسلت في مشيتها تداعب الأرجل وتتسمع إلى أحاديث الناس وترقب جموعهم العديدة فيفضول. وطال مكثها تحت إحدى الموائد دون أن تظفر بعناية أو اهتمام أو حتى بلقمة صغيرة تلقى عفوا فرفعت عينها الخضراوين لترقب ما يجري على هذه المائدة الغريبة:

كان سطح المائدة نظيفا خاليا إلا من فناجين للقهوة وحقيبة من الجلد وقد جلس إليها رجلان ق خيم على وجهيهما العبوس وبدت عليهما سيما، رجال المال والأعمال. . . وأنشآ يتبادلان حديثا جديا. . . قال الأول وهو بعض شفتيه.

- إن كرم اسحق قد قدم للمناقصة بسعر خمسة قروش ومليمللقطعة.

- ومليم.

- سيفوز بها ما في ذلك شك.

- وحليم سمعان.

- خمسة قروش وأربعة مليمات.

- عجيب. . . لست أدري كيف يفيد كرم اسحق من هذا المشروع بهذا السعر الضئيل.

- خامات الجيش.

- فعلا. . . خامات الجيش.

- لن يقل مكسبه الصافي عن خمسة آلاف جنيه.

- ونحن نبيت ونصحو على خمسمائة جنيه في الشهر.

- لقد فعلت كل ما بوسعي.

- والنتيجة أننا لا زلنا نحيا كمتسولي التجار.

ص: 52

- إن مفاجأة كرم اسحق لم تكن في حسابي.

- عليه اللعنة.

وهنا رشف الرجل الأول رشفة من القهوة ثم أبعد الفنجان قائلا.

- قهوة رديئة.

- ومع ذلك فالمكان مزدحم. . . والإيراد حسن.

- مشروع ناجح. . . لقد فكرت فيه من قبل، وكان في نيتي أن أهيئ فيه حماما للسباحة فإن هذا يدر أرباحا حسنة في الصيف حيث يقل مرتاده في حر النهار.

- وهو يصلح (كباتيناج) في أمسيات الشتاء الباردة.

- أو (كباريه).

- إن المكان صالح للاستغلال في كل أوقات السنة.

وسكت الرجل الأول ثم عاد يداعب مقبض الحقيبة الجلدية وقال متململا.

- إن الجو راكد.

- والمكان مزدحم.

- وهذه الحيوانات القذرة لا تنقطععن التسمح بالأرجل. يا للقذارة.

وركل القطعة الصغيرة في قسوة فولت هاربة ثم هب في ملل ودفع الحساب واختفى مع زميله.

وراحت القطعة تمسح رأسها المرضوض في الأرض وتموء في ألم ثم لجأت إلى مكان متطرف منعزل من الكازينو حيث يجلس على مائدة صغيرة فتى وفتاة ورفعت إليها رأسا مريضا فألقى إليها الشاب بقطعة من الخبز وراح يدللها ويداعبها بقدمه. . . فارتاحت القطة إلى هذا الحنان ولذ لها أن تستمع إلى الحديث الخافت وترقب العيون المتناجية. قال الشاب.

- إن الجو قطعة من السحر.

- حقا. . .؟ إذن لن نجلس هنا مرة أخرى.

- لماذا.

- لأنك تذوب في سحر الجو وتنساني.

ص: 53

- أيتها الحبيبة أنسيت أنك جزء من هذا السحر.

- جزء.

- بل كل هذا السحر.

- إن حبك على شفتيك دائماً.

- إن قلبي لا يسعه ولذلك يفيض على شفتي.

- ألا تخونك شاعريتك أبدا.

- إنها ليست شاعرية بل شعور والشعور الصادق لا يخون، ولمعت عينا الشاب وهو يتكلم ثم رفع كأس البيرة ورشف منها رشفة طويلة ثم عاد يقول.

- إن هذهالبيرة جميلة. . . جميلة كشفتيك.

- بودي لو أعرف كم من ألوان البيرة تتذوق شفتاك.

- مهما تذوقت فأنت اللون الوحيد الذي يسكرني.

- إنك دائما تجيد الكلام. . . إني أحبك. . . ولكني أخشى على ثروتك التي تتبدد في سبيلي.

- أيتها الحبيبة. . . دعي شئون المال. . . وهل يذكر المال والجمال معا. . . إن المال هو العبد الذي يجود بكل شيء. . . والجمال هو السيد الذي يرخص في سبيله كل شيء. . . والحب. . . الحب. . . هو النافذة الوحيدة التي يطل مها الإنسان على الجمال. . . إني أدفع مالي وروحي ونفسي لتظل هذه النافذة مفتوحة أمامي إلى الأبد.

- أمين!

- بثينة!

وتلامست الأيدي واقترب الوجهان وامتزجت العطور الغالية في لحظة من الحنان الغامر فانسحبت القطة الصغيرة في سكون بعد أن أدركت أن هذين المخلوقين في حالة لا تسمح لهما بالالتفات إلى أي شيء. . . وسارت تتثاءب وتتمطى بين الموائد، ثم اجتذب انتباهها مائدة يجلس عليها شيخان قد ملأت وجهيهما التجاعيد وألقت عليهما الشيخوخة ظل من الهدوء والوقار. . . فجلست غير بعيدة ترقب ما يدور بينهما وتتبع الحديث دون أن تفهم شيئا.

ص: 54

قال الشيخ الأول

- لقد رسب محمد في الحساب. . . لا أدري متى يلتفت هذا الولد إلى دروسه. . . لقد يئست من إصلاحه.

- إن أولاد هذا الزمن جميعهم على شاكلته. . . ولهم العذر، إن مباهج هذا العصر وشواغله أكثر مما كان في أيامنا.

- أيامنا. . . ما أجملها. . . لم يكن هناك من المباهج إلا الخيال الظل. . . واللونابارك.

- والموالد. . . هل نسيت أنككنت من هواة الموالد.

- حقا. . . وأذكر أنك وشيت بييوما أيها اللعين. . . وكانت (علقة) لازلت أذكر أوجاعها.

- أرأيت أن ابنك له عذره.

- ولكن هذا الكلب لا يصلي!

- ومنيصلي الآن غيرنا؟

- وهو لا يفتأ يجادلني في الجنة والنار.

- إن الحرية تؤدي إلى الحرية.

- ماذا تعني؟

- فلسفة العجائز.

- يعلم الله إلام نسير.

- إنالعالم بخير. . . وكفى. . . أما نحن فنسير إلى القبر.

- إلى القبر؟

- نعم. . . أكنت تظن أنك تسير إلى (لونابارك) آخر.

- لا. . . إنه القبر أيضا. . . من يدري فقد يكون مكانا طيبا.

- إنه راحة على أي حال.

- راحة.

واستبدت بالشيخ سبحة فلسفية. . . فأرسل نظره إلى الأفق البعيد. . . ثم أوغل في التفكير. . . وثقلت أجفانه. . . فمال برأسه ونام. . . شأن العجائز ينامون في كل مكان. . . ونظرت القطة إلى سكونه وأنفاسه البطيئة. . . ثم انسحبت في اشمئزاز وهي لا تدري

ص: 55

ما شأن هؤلاء الأموات بهذا المكان. . . وأدارت رأسها فوجدت أن الكازينو قد خلا تقريبا إلا من أشباح قليلة متناثرة. ومن هذه الأشباح. . . رجل جلس منفردا في نهاية المكان وهو يكب ثم يمزق ما يكتب. . . بأصابع عصبية ثائرة. . . فاقتربت منه في حذر ثم لمست قدمه. . . فانتفض غاضبا ودفعا بعيداً في قسوة. . . وعاد يكتب ويمزق. . . وتناثرت بعض القصاصات تحت مصباح منعزل. . . فاقتربت القطة تتذوقها وتقلبها. . . وتتأمل الخطوط السوداء العجيبة التي تملؤها. . . وقرأت بلا وعي أو فهم

(أن الحياة التي أحياها. . . خاوية. . . باردة. . . مظلمة. . . إني لا أجد نورا ضعيفا أسير فيه. . . ولا أشعر بلذة أعيش من أجلها. . . ولا بمخلوق واحد يهمني أمره. . . فالناس تتجنبني وأنا أتجنبهم. . . وقد أسمعهم يهتفون (ما أجمل هذا) فأدير عيني فلا ألمس فيما يشاهدون جمالا. . . فأدرك أنني ميت في عالم حي، وأشعر بالعذاب والنقص والحرمان وألوى وجهي لأنتحر. . . ثم أعود فأجبن وأتردد وأرجع أملا أن أعيش كما يعيش الناس. ولكني الآن سأختار المكان الذي يناسبني. . . نعم سأنتحر. . . لن أتردد هذه المرة. . . بل إني لأشعر أنني قد مت من زمن طويل وأننيأسير كالآلة الصماء. . . فماذا يضيرني إذا أوقفت هذه الآلة البغيضة. . . لن أشعر بأي شيء أكثر مما أشعر به. . . نعم سأنتحر. . . سأنتحر هنا في هذا البحر الساكن الداكن. .).

وانتهت القصاصة عند هذه الكلمات ولم تجد القطة العابثة أي شيء يثير اهتمامها في هذه الأوراق الممزقة فغادرتها وهي ترمق الرجل التعس الأحمر العينين وهو يغادر المائدة ويسير إلى الخارج في عزم وتصميم. . . ولم تعرف أين ذهب فأمره لم يكن يهمه في قليل أو كثير.

وأدارت القطة عينها مرة أخرى في المكان فوجدت أنه قد خلا إلا من جماعة الندل والخدم. . . وهؤلاء لم يكونوا يوما على علاقة طيبة معها. . . فآثرت الاكتفاء بهذه السهرة الممتعة وولت وجهها شطر بيتها الدافئ اللين.

وفي الطريق شاهدت رجلا نحيلا ضئيلا يجلس في ركن مظلم، ودهشت عندما وجدته يلقى إليها بقطع كبيرة من الخبز واللحم. ولكنها لم تجد غضاضة في أن تنتقي اللحم وتترك الخبز وراحت تدور حول قدميه وقد رفعت ذيلها في سرور. . . ثم انطلقت تموء حينما

ص: 56

وجدته يقوم ويتركها. . . ولكنه كان في نفسه يحفظ لها جميلا كبيرا فقد أوحت له في هذه الجلسة الهادئة بقصة لم يكن يحلم بها. . . ورأى الحياة من عينيها كالكرة المضاءة تدور حول محورها. . . وقد راح كل إنسان يرى منها وجها لا يراه الآخر. . . شاهد في هذه الساعات القليلة ما كان يحتاج لسنين ليفهمه. . . شاهد نظرات الناس إلى الحياة. . . وقد تباينت واختلفت، وكأن كلا منهم يحيا في عالم من صنعه ومن خلقه.

مصطفى محمود

ص: 57