المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 732 - بتاريخ: 14 - 07 - 1947 - مجلة الرسالة - جـ ٧٣٢

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 732

- بتاريخ: 14 - 07 - 1947

ص: -1

-‌

‌ 3 - رحلة إلى الهند

اليهود في المؤتمر الآسيوي

للدكتور عبد الوهاب عزام بك

عميد كلية الآداب

كان بين وفود المؤتمر وفد من اليهود فيه ثمانية رجال وامرأتان. ليس بينهم من ولد في فلسطين أو نشأ به إلا رجل وامرأة. . .

وقد رأى ممثلو مصر والجامعة العربية أن يكونوا لهم بالمرصاد حتى لا يتخذوا من المؤتمر فرصة لنشر دعوتهم، وتزيين أباطيلهم.

فعملنا على أن يعرف المؤتمرون أنهم لا يمثلون فلسطين. فقال مندوب الجامعة العربية في كلمته إنه يمثل دول الجامعة، وإن لم يكن في فلسطين دولة فممثل الجامعة العربية يمثلها. ثم ذهبنا إلى رئيسة المؤتمر فقالت إنها تعرف بأن هؤلاء اليهود إنما يمثلون الجامعة العبرية، وأن فلسطين إنما يمثلها مندوب الجامعة العربية. وقالت إنها أمرت أن يسجل هذا في سجلات المؤتمر. وأعربت عن حبها العرب وإعجابها بهم. . .

وكذلك حرصنا على أن ترد على اليهود كل كلمة يتحدثون فيها عن حقوق لهم في فلسطين أو أعمال لهم فيها. . .

وقد نشروا في بعض جرائد الهند مقالات عن صلتهم بآسيا ومكانتهم في فلسطين بالإنكليزية كلمة وقعتها أنا ومندوب الجامعة العربية هذه خلاصتها بالعربية.

اطلعنا على بيان في الجرائد نشره بعض اليهود المشتركين في مؤتمر العلاقات الآسيوية. وقد حاول ناشرو البيان أن يحرفوا الحقائق، ويصوروا فلسطين بغير صورتها.

قالوا: (إن الأوربيين يكرهون اليهود لأنهم يمثلون روح آسيا، وأن الأوروبيين في بغضهم اليهود إنما يعربون عما يكنونه من الكراهة والاحتقار للأمم الآسيوية التي يمثلها اليهود).

والحق أن هؤلاء المدعين أنهم من آسيا وأنهم يمثلون روحها إنما جاءوا إلى فلسطين أو شاباً من أمم أوربية مختلة لا يحملون وعدوان وظلم، فما هم إلا جماعة أوربية تحاول اغتصاب قطر آسيوي

ص: 1

ويزعمون (أن العرب استفادوا كثيراً من أعمال اليهود في فلسطين).

ونحن لا نريد أن نفصل اليوم ما أصاب العرب على أيدي اليهود الوافدين على بلادهم، وحسبنا أن نقول إن أعمال اليهود هناك تقصد إلى أن يحولوا العرب من سادة في بلادهم إلى عبيد، ومن ملاك إلى عمال لا يملكون شيئاً. وكل أمم الأرض تعرف حرص اليهود على أن ينفعوا أنفسهم وقلة مبالاتهم بمنافع غيرهم، فإن ظن اليهود أن لهم على العرب فضلاً فالعرب في غنى عن هذا الفضل، وأعظم فضل لديهم أن يتركهم اليهود أحراراً في وطنهم وأن يحرموهم من هذه النعم التي يمنون بها.

ويقول أصحاب البيان:

(أنه ليس بين اليهود في فلسطين حتى جماعات الإرهاب، من يريد أن يسلب العرب بلادهم).

فإن لم تكن هجرة اليهود إلى فلسطين الصغيرة أفواجاً تضيق بها البلاد، وإصرارهم على أن تستمر الهجرة حتى تكون لهم الكثرة فيها، ومحاولتهم أخذ الأرض من العرب بكل وسيلة ظاهرة وخفية - إن لم يكن هذا سلباً لبلاد العرب فكيف يكون سلب البلاد من أيد أهلها. إن دعوى اليهود إنهم لا يريدون أن يحلوا محل العرب في أرضهم لا قيمة لها ما دامت أفعالهم تكذيب هذه الدعوى تكذيباً صريحاً بيناً لا خفاء فيه، ماذا يقصد إذن بهذه الهجرة التي يصرون عليها بكل الوسائل وهم يعلمون أن فلسطين مزدحمة بأهلها وقد رمى إليها اليهود نصف مليون زادها ازدحاماً ثم هم لا يكفون عن الهجرة؟ ألهذه الهجرة غرض سوى غلبة العرب على أرضهم، وإخراجهم من ديارهم؟

إنهم بتجارتهم وصناعتهم، وهي لخير اليهود وحدهم، يبغون أن تكون لهم الكثرة فيتسنى لهم بهذا وذاك أن يسيطروا على البلاد. ثم هم مع هذا يزعمون أنهم محسنون إلى العرب.

ينبغي أن نذكر اليهود بتاريخ العرب - وهم بسجاياهم أحرار كرام لا يستعبدون ولا يستعبدون، ولا يبخلون أن يشركوا الناس في خيراتهم - هؤلاء العرب كانوا على مر العصور حماة اليهود. لجأ اليهود إلى ظل العلم العربي حيثما كان. وقد دخلوا إسبانيا في كنف العرب، فلما أخرج العرب منها خرجوا، ويوم قامت للعرب دولة في فلسطين كان اليهود مشردين في الأرض وكانت معابدهم مزابل، فطهر العرب معابدهم، ومكنوهم أن

ص: 2

يرجعوا إلى فلسطين، وأن يعيشوا أحراراً في رعاية العرب وسماحة الإسلام. وهكذا أحسن العرب إلى اليهود على مر العصور واختلاف الأقطار. فلما رأى اليهود المحن تتوالى على العرب، والمصائب تحيط بهم بأيدي الأوربيين جاءوا في ظلال الأعلام

الأوربية باغين على بني عمومتهم، ناسين كل فضل لهم، يجزونهم شر الجزاء بما أحسنوا إليهم كل الإحسان. لقد جاءوا معتزين بوعد بلفور ليكونوا أعواناً لأعدائهم على أصدقائهم. فخسروا آخر صديق لهم على وجه الأرض، إنهم لم يأتوا إلى فلسطين بروح الآسيوي المعترف بالفضل، المقر بالحق، المؤثر للعدل، بل جاءوا في ظلال الأعلام الأوروبية أعواناً لبغي أوربا يجدون في ضعف العرب فرصة ليسلبوهم أرضهم وديارهم، ثم يدعون أن الأوربيين يكرهونهم لأنهم آسيويون حملوا إلى أوربا روح آسيا.

وقال أصحاب البيان آخراً: (إن يسيراً أن نجد الحل السلمي الملائم). . .

نعم نحن نعرف الحل العادل الملائم. وقد دعونا إليه ونادينا به واقترحته جامعة الدول العربية في مؤتمر لندن. هذا الحل هو أن يعيش الناس في فلسطين لمن فيها اليوم، ويكف سيل الهجرة المتدفق ويعيش العرب واليهود على النظم الديمقراطية التي تسيطر على العالم كله. يقبل العرب هذا ويتجاوزون عن كل ما وقع، ويعدون اليهود الذي هم في فلسطين اليوم وقد جاءوا إلى البلاد في السنوات الأخيرة من أقطار أوربية مختلفة - يعدون هؤلاء الأوربيين المعتدين المغيرين شركاء لهم في فلسطين، ويقبلون أن يقيموا معاً دولة على أسس ديمقراطية.

فهل يقبل اليهود هذا؟ كلا إن الحل السلمي الملائم عندهم أن يوالوا الهجرة إلى فلسطين بغياً وعدواناً حتى يكثروا العرب، ثم يقيموا بكثرتهم دولة يهودية، كما يشاؤون، هل هذا حل سلمي؟ كلا إنه الوسيلة لزلزلة السلم في الشرق الأدنى، وإشعال الفتن والحروب في هذا القسم من العالم بل في آسيا والعالم كله. . .

إن خيراً لليهود أن يعدلوا عن هذه المطامع الظالمة، ويعترفوا للعرب بحقهم الحاضر وفضلهم الماضي، ويعشوا في سلام وأمان في رعاية العرب في فلسطين وغيرها).

(للكلام صلة)

عبد الوهاب عزام

ص: 3

‌هذه بلادنا

للأستاذ محمود محمد شاكر

هذه بلادنا: العراق، وسورية، ولبنان، وفلسطين وشرق الأردن، وجزيرة العرب، واليمن، ومصر والسودان، وبرقة، وطرابلس، وتونس، والجزائر، ومراكش - هذه بلاد العرب التي ينطق أهلها اللسان العربي ويدين أكثرهم بالإسلام، فهما من أجل ذلك جبهة واحدة ممتدة من الشرق إلى الغرب، وتملأ رحابها أكبر قادرة على وجه هذه الأرض. وهي جميعاً أرض بكر لم ينبش العلم ذخائرها المدفونة تحت ثراها الغني، ولم تنل يده إلا قليلا مما تقله أرضها من حيوان ونبات، ولم تنفطر روحها بعد عن الإنسان الجديد الذي انساح فيها من قبل يوما ما، فملأها عدلا وكانت ملء جنباتها ظلماً وعدواناً وبغياً وكفراً بالله ثم بالطبيعة البشرية المطهرة من أدران الحقد والأثرة والجشع وقلة الإنصاف.

فلنلق نظرة عليها جميعاً بلداً بلداً، لنر ماذا فعل الله بأهلها، وماذا كتب عليهم، وماذا قدر لهم.

فالعراق أغنى مشارف الجزيرة العربية وأكرمها تربة، وقد نزلت عليه بريطانيا محتلة وسامته الخسف سنين حتى عقدوا معه معاهدة لم تمنع بريطانيا من التدسس بسلطانها إلى جميع مرافقه، فهو لا يستطيع أن يؤدي حق أرضه عليه كما يجب، وسلطان بريطانيا هناك سلطان جائز عنيف لا يزال كما كان على أول عهد الاحتلال، ويخشى أن يزداد فيه سلطانها وسلطان شريكتها ووارثتها أمريكا، بما جد من شئون النفط والبترول وما إليهما.

وأما سورية ولبنان، فقد جلت عنهما فرنسا جلاء تاماً على أثر الأحداث العالمية التي جاءت مع الحرب الماضية، فاستردتا استقلالهما بغير قيد ولا شرط. ولكن يخاف عليهما ما يخاف على سائر البلاد العربية من تسرب السلطان البريطاني والسلطان الأمريكي، وطغيان هذا السلطان بالضرورة الملحة الملزمة، إذا قدر لهما أن تظلا محاطتين من جميع النواحي بالمواقع التي فيها لهذا السلطان أثر قوي.

وأما فلسطين، فهي الأرض المظلومة المضطهدة التي أراد بغي بريطانيا وأمريكا أن يجعلاها وطناً لأعوانهم من نس إسرائيل، ومعنى ذلك أن تصبح فلسطين كهف الجشع البريطاني الأمريكي، يعمل له وفيه جيل من خلق الله الذي عرفوا بالخسة وقلة المبالاة

ص: 5

وعدم الورع فيما يأتون وما يذرون، وهم ولا ريب يؤيدون، سياسة بريطانيا وأمريكا في فرض سلطان القوة وسلطان المال على هذه البقعة من الأرض المقدسة، وعلى كل مكان آخر يحيط بها من قريب أو بعيد.

وأما شرق الأردن، فقد كفتنا المعاهدة التي عقدت بينه وبين بريطانيا أن نقول فيه قولا يصفه بأفضل مما وصفته هذه المعاهدة، وهو أنه أرض بريطانية في قلب البلاد العربية.

وأما جزيرة العرب، فقد تدفق عليها سلطان بريطانيا وأمريكا من كل مكان، لأنه فرض أن آبار البترول تكاد تكون حقاً خالصاً لهما، يدفعان في سبيل أخذه مالا قليلا زهيداً، ثم ينقلانه إلى بلادهما ليكون ذخيرة من ذخائر القوة التي تحرك الآلات، وتنتج المصنوعات وتمد أمريكا وبريطانيا بكل أسباب القوة والغلبة في هذه الدنيا الجديدة التي لاحظ فيها إلا للقوي الغاضب. واستقلال جزيرة العرب أصبح اليوم مهدداً بتغلغل نفوذ ملوك البترول الذين يخدمون ولاشك سياسة بلادهم على أي وجه كانت هذه السياسة.

وأما اليمن فلبريطانيا هناك بعض السلطان، ويخشى بعد قليل أن يتدسس إليه سلطان أمريكا أيضاً وتصبح اليمن مضطرة إلى الخضوع لما خضعت له جاراتها العربية من سلطان هؤلاء الأقوياء.

وأما مصر والسودان، فمن الذي يجهل سلطان بريطانيا في أحد شقيه، وهو مصر، إنه سلطان قد ظلت السياسة البريطانية تمهد له منذ ستين عاماً بكل أسلوب من أساليبها في اتخاذ الصنائع، وإضعاف الأخلاق، وابتزاز الأموال، وفتح أبواب الهجرة لصعاليك الأمم، وقذف الأرض بكل سخافة من سخافات المدنية، وحجبها عن كل جد وكل عمل يراد به خير هذه البلاد. وأما السودان، فلم يزالوا به حتى كادوا ينتزعونه جملة واحدة، وحتى قسموه إلى جنوب وشمال، وحتى حرموا على أهل الشمال أن يخالطوا أهل الجنوب، وحتى حرموا على أبنائه أن ينالوا قسطهم من العلم والحرية والتجربة في هذه الدنيا المملوءة بالعلم والحرية والتجربة.

وأما برقة وطرابلس فقد انتهت بها الحرب إلى أن صارتا تحت سلطان بريطانيا المباشر، ولا يدري أحد ماذا يجري فيهما هناك الآن على وجه التحقيق، ولكنهما على كل حال تحت سلطان بريطانيا وشريكتها أمريكا.

ص: 6

وأما تونس والجزائر ومراكش فهي أسوا بلاد العربية كلها حالا بوقوعها تحت سلطان فرنسا. وفرنسا هذه أمة أهل جبروت وحماقة وجهل، فهي تتخذ العسف وتصطنع القسوة في كل عمل تعمله في تلك البلاد. ولكن ليس يدري على وجه التحقيق ما الذي تضمره بريطانيا وأمريكا لفرنسا وحكمها في تلك البلاد. أنريد حقاً أن تؤازر فرنسا مرة أخرى على استعادة بعض مجدها وسلطانها في هذه الدنيا، وبذلك يزداد طغيانها وبغيها على أهل تونس ومراكش والجزائر؟ أم تراهما يريدان أن يحتالا حتى يزيلا فرنسا عن تلك البلاد ليفرضا معاً عليها سلطاناً بريطانياً أمريكياً - إما متعاونتين وإما منفصلتين؟ ومهما يمكن من شيء فالذي فيه هذه البلاد اليوم، أو الذي يخشى أن يقع عليها غداً هو أن السلطان الأجنبي هو السائد فيها قوة واقتداراً.

فأنت ترى غير مرتاب أن هذه الأمة العربية التي تعيش في كل هذه البلاد العربية، قد أصبحت هدفاً لأطماع دولتين متحدتين في أغراضهما وأهدافهما: هما بريطانيا وأمريكا. فهل يشك في هذه الحقيقة أحد؟ كلا ولا ريب، وإذن فنحن أمة واحدة مقسمة اليوم إلى أمم متعددة تواجه في الميدان جبهة واحدة لها أغراض لا تختلف ولا تفترق. وهذه الجبهة الوحدة لم تزل تتعاون بأسلوب بعد أسلوب في تنفيذ أغراضهما في كل بلد من بلادنا، وتتآزران على فرض سلطانهما مجتمعاً أو مفترقاً، وتتوسلان لي ذلك بالوسائل التي تتاح لكل منهما في كل بلد من هذه البلاد.

فالآن وقد تبين أننا أمة واحدة مقسمة إلى أمم، وأننا نلقى عدواً واحداً هو بريطانيا وأمريكا مجتمعتين يضربان بسلاحهما غدراً هنا وهناك وثمة بلا رحمة ولا شفقة ولا إنسانية، فقد أصبح لزاماً علينا وفرضاً لا مخلص لنا منه أن ننظر إلى الحقيقة الواحدة التي لا يختلف عليها إلا من نزع الله من قلبه البصيرة الهادية إلى سبل الرشاد، ألا وهي الاتحاد التام في لقاء هذا العدو.

ومنذ سنوات أجمعت طائفة من أمم العرب على تكوين الجامعة العربية، واشترطوا في الأمة التي تصير عضواً في هذه الجامعة أن تكون مستقلة. ومعنى ذلك هو الاستقلال المعترف به دولياً، لا الاستقلال الحقيقي، فإنهم لو طلبوا ذلك لما كان في الجامعة العربية عضو واحدة من هذه الأمم التي ذكرنا. فالجامعة العربية كما هي الآن لا تفي البتة بحاجة

ص: 7

العرب، ولا تقوم على الأساس الصحيح الذي ينبغي أن تقوم عليه. نعم إن الجامعة العربية لم تقصر في الدفاع عن حق العرب تقصيراً

تلام عليه، وهي تبذل غاية جهدها في صد عدوان المعتدين عليها، وتبذل أقصى جهدها في أم المشاكل العربية، وهي مشكلة فلسطين التي سوف تكون يوماً ما، أول شرارة تنطلق في تاريخ العرب الحديث لتنير لنا الطريق السوي الذي ينبغي أن يسلكوه.

ولكن لابد منذ الآن أن تعمل الجامعة العربية على ضم سائر البلاد العربية الأرض واللسان، لتكون شعوب هذه البلاد كلها جبهة واحدة، ذات سياسة واحدة، وأهداف واحدة، وقيادة واحدة، حتى نلقى في الميدان ذلك العدو الواحد المتآزر على هلكة العرب، وهو بريطانيا وأمريكا. وإنه لا معنى لأن تبقى فلسطين وتونس ومراكش والجزائر وبرقة وطرابلس غير ممثلة في جامعة الدول العربية تمثيلا صحيحاً كسائر الدول العربية، فإن مهمة الجامعة هي أن تعمل على أن تجعل هدفها الأول أن تتخذ كل وسيلة لتضم شتات العرب في هذه الدنيا، كما فعل اليهود من أهل الأجناس المختلفة في توحيد قيادتهم وجعل قضيتهم قضية واحدة، وهم معتدون على أرض ليست لهم، ونحن أهل أرض واحدة، وهم معتدون على أرض واحدة نملكها نحن العرب ملكا لن ينازعنا فيه أحد. وليس من الرأي ولا من الحكمة أن نترك هذا العدو الواحد يلقانا في أكثر من جهة واحدة وهو صاحب القوى الطاغية الباغية، وأن نظل نحن متفرقين ليس يجمعنا نظام واحد تحت قيادة واحدة تعمل لهدف واحد هو تحرير البلاد العربية كلها جملة واحدة من هذا النير المضروب عليها. وكما قلت من قبل إننا شعب واحد، وقضيتنا قضية واحدة، فلا معنى لأن نجعل هؤلاء يتلاعبون بنا، ويقسموننا ويفرقون بين قلوبنا، ويشغلوننا حيناً بهذه القضية، ثم يعملون فينا حتى نيأس، فإذا بقضية أخرى تستنفد جهودنا، ثم أخرى ثم رابعة. كلا! هذا فساد في الرأي وضلال قديم قد جربناه فألفيناه وبالا علينا ونقضاً لقوانا وتمكيناً للعدو من أنفسنا.

إنه لابد من تجديد النظر في شأن الجامعة العربية، فإن العرب قد هبوا بعد هذه الحرب من رقدة طالت عليهم، وهم مقبلون على العالم شعثاً غيراً كما أقبل آباؤهم من قبل، وهم ينظرون إلى مدينة عظيمة قد بلغت غايتها وهي اليوم في سبيل الانحدار إلى الهوة العميقة

ص: 8

التي طمرت فيها مدنيات سالفة لم تكن أقل منها شأناً ولا أضعف خطراً. وينبغي أن تعلم جامعة الدول العربية، أو الجامعة العربية، أن عملها ليس سياسة محضاً بل هو أيضاً حض وتحريض وبعث لهذا الجيل من الناس المعروف باسم العرب، حتى تتم يقظته وحتى يعرف أي شيء يستقبل وأي شيء يستدبر، ليرث هذه المدنية التي أوشكت أن تزول عن وجه هذه الأرض.

إنه قول جرئ، ولكنه حق ملء السمع والبصر، حق لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فلنأخذ أهبتنا قبل أن تأتي الساعة التي نضطر فيها إلى العجلة التي كان لنا عنها مندوحة، إن كل عربي قد فرض عليه واجب هو أقدس الواجبات في هذه الدنيا - ألا وهو الأمانة التي يرث بها الأرض ويكون فيها خليفة يصلح فيها ولا يفسد ولا يسفك الدماء ولا يأكل حقوق الناس بالبغي والعدوان. والجامعة العربية إذا بنيت على هذا الأصل وقامت على هذه الفكرة، فقد أدت للبشرية أكبر خير أدى إليها على وجه الدهر، وقد استنقذت حضارة الإنسان من الهلاك المحقق على يد الجنس الأوربي، بل لعلها لم توجد في هذا الوقت من هذا العصر إلا لتؤدي هذه المهمة وحدها بعد أن تجمع شمل العرب وتقف بهم وصفاً واحداً يقاتل طغيان عدوها المستبد الذي يلقاها بسلطانه الجائر، ويقاتل أيضاً ذلك السلطان الذي انفجر من ملتقى القارتين، أوربة وآسية، لكي يكون دماراً لنفسه وللحضارة الأوربية الفاسدة الضحلة.

ونحن العرب - فيما أرجو - لن نباع منذ اليوم في سوق الرقيق التي يسمونها (هيئة الأمم المتحدة)، فقد عرفنا بالتجربة كيف فعلت هذه الهيئة في مسألة فلسطين وسواها من عربدة القوى الذي أطارت صوابه نشوة السلطان المسكر.

محمود محمد شاكر

ص: 9

‌على ثلوج (حِزْرين)

للأستاذ علي الطنطاوي

- 2 -

قالت:

بدأت هذه القصة منذ أربعين سنة، ولم تكن هذه الظهور موحشة مقفرة كما تراها اليوم، ولم يكن القصر مهجوراً خرباً، بل كان حافلا بالأنس، فياضاً بالنعيم، يمرح فيه الصبا، ويضحك الطهر، وإن كان قد خلا من هيبة السلطان، وهجره الجند والأعوان، بعد ما قضى بـ (مذبحة عين داره) الأمراء التنوخيون سادة الجبل، ودالت دولتهم وذهبت أيامهم، فلم يبق لسيدي الشيخ ناصر رحمه الله (مشيخة) بعدهم على هذه البقاع، وكان هو (شيخها) وحاكمها - فما خلال من النبل والفضل، ولا هجره العافون ولا الوافدون، بل كانوا يؤمونه أبداً فينصرفون وقد حفل وطاب كل واحد منهم بما يشتهى وما يريد من مال الشيخ ومن طيب قلبه، ونبل نفسه، وإشراق وجهه، فكان مجده في عزلته أكبر من مجده في إمرته.

وكانت ربة القصر قد مضت جميلة طاهرة كزنبقة الجبل، شابة ناضرة كطلائع الربيع، وكانت تنشر عطر الحب أينما سارت فتترك حبها في كل قلب، فلما تولت أبقت في كل قلب أعطر الذكريات، وأحر اللوعات، ورعى سيدي الشيخ عهدها، وحفظ ودها، فلم يحل محلها من قصره أو فؤاده امرأة غيرها، ووقف نفسه على ولديها: علام وليلى، فكان لهما من بعدها أباً وكان لهما أماً، ولم يكن في القصر امرأة إلا أنا، وكنت غضة الإهاب، ريانة الشباب، فكنت أقوم على خدمتها وتربيتهما.

وكنا نعيش سعداء لا ندري ما الهموم، ولا نسأل عن الغد، كنا كالمسافر يقف على العين الباردة، يتمتع بالماء العذب، والظل الظليل، ثم يسير لا يحمل معه قربة من ماء، ولا يتزود زاداً، لأنه لا يعلم أن الطريق أمامه شمس كله وعطش وجوع وضلال، ولا بد له من سلوك هذا الطريق. . .

كانت حياتنا كالبركة الساكنة، ولكن الأيام ألقت في بركتنا حجراً كبيراً، أزعج سكونها، وكر ماءها، فلم تصف من بعد أبداً، وكان الحجر الذي رمتنا به الأيام غلاماً قذراً حمله سيدي من أزقة بيروت. . .

ص: 10

وهنا تبدأ القصة التي أروي لك مقاطع منها، لأنها لا تروى. كلها: ومن يستطيع أن يروى قصة حب، بكل ما فيها من عواطف وأفكار، وآلام وآمال؟

إن النفس البشرية أعمق من البحر، فمن دخل البحر غرق فيه فلم يخرج منه ليخبر عما رأى، ومن وقف على الشاطئ لم يلمس منه إلا الزبد الذي يحمله إليه الموج، وإن أعظم القصص التي كتبها الأدباء، لم تكن إلا زبداً يلقيه الموج إلى الشاطئ، أما اللجة الكبرى فلم يصل إليها قلم أديب، ولا غاص على جواهرها، ولا وصل إلى عجائبها.

هل رأيت الأفق عند الغروب، والشمس تلونه كل لحظة بلون، تخلق فيه عجائب لم تعرفها الأرض ثم تبيدها وتأتي بغيرها، وتخط فيه خطوطاً سحرية بألوان ما عرفها الفن ثم تمحوها وترسم سواها، كذلك النفس البشرية، إنها تبني وتهدم في (الثانية) من الأفكار والعواطف، والخواطر والتأملات، ما يعجز أدباء الأرض جميعا عن حبسه في القرطاس. فكيف يصف حياة امتدت أربعين سنة، من عجز عن وصف حياة ثانية واحدة؟ وكيف يصور ألوان النفس الخفية من لم يستطع أن يصور ألوان الأفق الظاهرة؟

إن الأدباء لم يأخذوا من قصص الحياة إلا حوادثها، وما الحوادث؟ ما خطرها؟ إنها جسم القصة، فهل رأيت محباً يقتل حبيبته ثم يعانق جسدها يحسب أن الجسد هو الحبيبة؟

هذا ما يصنعه الأدباء!!

أروي لك حوادث هذه القصة وأدع لك أن تفهم ما وراءها، وأن تلمس بيد بصيرتك روحها حتى لا تكون جسما بلا روح، وأن تسمعها بأذن نفسك لا بأذن رأسك، فإن النفوس متشابهات ورب إشارة أو كلمة أدلُّ عند النفس من كتاب ضخم عند العقل.

بدأت حوادث هذه القصة يوم عاد سيدي الشيخ من بيروت راكباً فرسه، إذ لم تكن قد وطئت حرم الجبل الأشم هذه السيارات. . . وقد لفَّ عباءته على غلام وضعه بين يديه لا يبدو منه إلا رأسه، فلما وصل كشفها عنه فإذا غلام (شحاذ) عمره نحو عشر سنين، وسخ الجسم، قذر الأسمال، فقال لنا:

- إني وجدته في رأس بيروت يهم بأن يلقى نفسه في البحر فحملته معي.

وجعل الولد يتفلت منه كأنه قط وحشي يريد أن يفرَّ من الصياد، فشد يده عليه، ، ودفعه إليَّ وقال لي:

ص: 11

- خذيه فأطعميه.

ويا ليته تركه يرمي بنفسه في البحر، أو يا ليته خّلاه ليهرب ولا يعود، إذن لما شقينا به ولما شقى بنا أربعين سنة كوامل، لم نستمتع فيها بشباب، ولم نعرف فيها السعادة ولا الاطمئنان.

وسحبته من ذراعه، وهو يحاول التملص مني، ويعضُّ يدي، وينطحني ويثبت قدميه مستعصما بالأرض كالتيس العنيد، حتى بلغت به المطبخ ووضعت له الطعام فأكل أكل من لا يخشى الفزر، فلما شبع عدت به إليه - وكان يحدث الولدين ويدفع أليهما هداياه التي طلباها منه: القيثارة للصبي والسوط المرصع اليد للبنت - فلما رأته ليلة، قالت:

- بابا. إنه قذر.

ورحمته. أما علام فقد أبغضه منذ اللحظة الأولى.

فقال لي سيدي الشيخ:

- خذيه فاغسلي جلده، وألبسيه.

ففعلت فرأيته قد استحال إنساناً آخر، وخيل إليَّ أني لمحت على وجهه وميض نبل قديم، فلما أنعمت النظر فيه وجدته قد انطفأ وعاد وجها عادياً لغلام وضئ رائع المحيا.

وعدت به إلى الشيخ، فسرَّ به وقال:

- لقد أسميته (هاني) وجعلته مني كولدي.

ونظرت إلى الولد فأبصرت عينيه تلمعان، ثم رأيته يسرع إلى الشيخ فيخبئ وجهه في طيات جبته ويبكي، يعبر بالدمع عن الشكر الذي يقصر عن التعبير عنه اللسان.

وكانت ليلى ترمقه باسمة، أما علام فكان يأكل قلبه البغض ويجلّل وجهه الغضب.

ومرت الأيام، وألفته ليلى إذ كان في مثل سنها وألفها، أما علام فلم تزده له الأيام إلا كرهاً، وكان الشيخ قد اشترى لكل من الثلاثة فرساً، فأقبل علام يوماً على هاني وكان يساير بفرسه ليلى، فقال له آمراً:

- انزل عن الفرس وهاته، فإن فرسي قد أصابه العرج.

فأبى، فسبَّه وأخذ الفرس منه قسراً، وآلمه عدوانه عليه، وأنساه كرم الوالد أصله، وأنه لقيط من الطريق، وأن (علام) هو الولد والوارث والفرس فرس أبيه، وأنه أكبر منه سناً، وأقوى

ص: 12

ساعداً، فهجم عليه يريد أن يسترجع الفرس منه فضربه علام على وجهه وصدره، ثم أخذ حجراً ضخما فرماه به، فشجه وكاد يقضي عليه، لولا أن أقبلت ليلى تدافع عنه بسوطها، تنزل به على وجه أخيها حجزته عنه. . .

في هذه اللحظة ولد المخلوق الجبار الذي اسمه الحبّ.

أشفقت عليه، وشفقة الفتاة على الفتى الجميل بذرة الحب تختفي في قلبها، فلا تحسّ هي بها، كما تختفي حبة الصنوبر الصغيرة في حدور الجبل تطؤها الأقدام، وتتجاوزها الأبصار، ولا يدري بها أحد، ثم لا تلبث أن تكون شجرة باسقة الفرع، ممتدة الأصل، شامخة الهام.

وجعلت تواسيه فيعرض عنها، يستحي برجولته (الصغيرة) أن تراها كليمة مهزومة، وهي تلح عليه، حتى قالت له:

- هلم نقطف (أزهار الجبل).

فأبى. فرفعت ذيلها وانحنت له متشبهة بالعقائل على عادتهن في تلك الأيام، فاستلّت بدلالها غضبه، وابتسمت فأنارت بابتسامتها قلبه، فأطاعها وغلبت أنوثتها رجول الرجل. . . ولا تزال المرأة غالبة ما حاربت بالأنوثة، فإن زهدت فيها وحاولت أن تجاري الرجل في ميدانه، وتسابقه في حلبته، وتقاتله بسلاحه، اصطكت ركباتها، وكلت قدماها، وعجزت يداها، وسقطتومسحت دمه، وعصبت جرحه، وأركبته فرسها، ومشت به الهويني، تلقي في أذنه كلاماً من كلام الطفولة العاشقة، يرفعه في عين نفسه ويحقق فيه عندها ما تتمناه هي في رجل أحلامها، ولكل بنت حلم ولو كانت بنت عشر، ولا يخلو حلم بنت من رجل، ولو كان (رجلا) ابن عشر! حتى إذا اقتربا من هذه الصخرة التي تراها قائمة على شفير الوادي، كأنها قلعة من قلاع الجن، أمامها خندق لا تبلغ قراراته الشياطين، ولا تصل إلى ذروته المردة، قالت له:

- اسمع ما أنت بالوضيع ولا اللقيط، أنت سليل الأمراء التنوخيين، أنت الذي نجا يوم (عين دارة) وهذا قصر أجدادك.

فنظر مشدوهاً، وقال: هذه صخرة!

- قالت: كلا، أنعم النظر إنها قصر أجدادك، وهذا الفارس الأسود بالباب يمنعك من دخوله

ص: 13

فخذ هذا السيف واعد إليه فاقتله، اعُدُ. . . اعُدُهْ. . .

- قال: هذا سوط!.

فصاحت متحمسة، وضربت الأرض دلالا بقدمها، وانتثر شعرها الذهبي، وزادها الغضب جمالا على جمالها، فأراه غضبها الصخرة قصراً، والسوط سيفاً، وأي رجل لا تخذعه الجملية عن الأوهام حتى يراها حقائق، ولا يندفع من أجلها إذا دفعته إلى المهالك؟

وعثر به الفرس، وكاد يهوى إلى الأعماق المظلمة، ولكنه قفز إلى الأرض، وانطلق يقارع بسوطه الهواء، وهو يرى أنه يجالد الفارس الأسود، حتى إذا قتله. . . مسح سيفه من دمه. . . ووضع قدمه على عنقه. . . وصرخ بها صرخة الظافر، فأقبلت إليه وقالت:

- أنت الملك، وأنا أمتك.

- قال: بل أنت مليكتي.

وانحنى أمامها فقبل يدها، وذهب يقطف زهور الجبل ليصنعها لها تاجاً. . .

ونما الحب الوليد فجأة، فكانت له قوة هذه الصخرة وسموها، وله طهارة هذه الثلوج ونقاؤها، وله خلود هذه الجبال وبقاؤها.

قال صديقي:

وسكتت العجوز حيناً، ثم قالت لي:

- انظر إلى ما تحت قدميك.

فنظرت وإذا أفتن منظر وقعت عليه عينا سائح وأبدعه.

قالت:

- هذا هو المشهد الذي كنت تراه في ظلام الليل أسود مخيفاً، يبعث الرعب، ما تبدل، ولكن غابت عنه الشمس فاستحال جماله قبحاً، وكذلك الدنيا: تكون في عينٍ سوداء وفي عين بيضاء، وتكون يوماً حلوة حبيبة، ويوماً مرة كريهة، ولقد اسودت دنيانا منذ مات سيدي الشيخ، وغربت عنها شمسه المضيئة فشملها الظلام، وذهبت منها حلاوة نفسه، فصارت مرة لا تطاق.

تبدلت هذه (الدنيا) منذ مات، وشب الصغار، فلم يعد في القصر ثلاثة أطفال يلعبون قد ساوى بينهم كرم الوالد، بل سادة وخدم، وظالم ومظلومون، صار عّلام سيد القصر، فكشفت

ص: 14

منه السيادة عن نفس عبد، وأظهر السلطان منه طبع سوقة، فاستبد بأخته واستأثر بالخير من دونها، وجعل هاني خادم الإسطبل، وسائس الخيل، يمسك له فرسه، وينحني له ليضع نعله الدنسة على كتفه ليركب، ويعدو معه في ركابه، ويذيقه ألوان الذل، ويتعمد أن يحمله صنوف الأذى، وهو صابر من أجل حبّه، وهي ترى هذا فيقطع نفسها حسرات، ويمزق فؤادها أن ترى حبيبها و (ملكها) ذليلا ممتهناً، ولا تدري ما اللذة ولا تعرف طعم الحياة إلا إذا غاب الأخ، فهرعت إلى الصخرة تسبقه أو يسبقها إليها، فألقت بنفسها بين ذراعين، ما تبالي حطة منزلته ولا وساخة بزّته، لقد كانت هذه الصخرة ملاذهما، وعش هواهما، يستندان إليها، فإذا الصخرة التي كانت صمّاء خرساء، قد عاشت بالحب، وعدتها حياته الخالدة، فصارت قلباً كبيراً أحنى من قلوب الأمهات، ولساناً أحلى من ألسنة العشاق، وعز كل شيء حواليها وغلا، فالشمس عندها أضوء في عينهما من شمس القصر، والليل أعذب، والورد أعطر، والثلج أطهر، وكان يحسّ وهو معانقها أن هذه السفوح، وهذه الإحراج المطيفة بالقرى، وهذه السواقي المنبثقة من الإحراج، وهذه الذرى العالية، وهذه الحدود المتتالية وهذا البحر العظيم الذي يمتد حتى يصعد إلى السماء أو تنزل هي إليه، فيكون البحر سماء والسماء ماء - كل ذلك ملك له وحدهّ!

ويشعر بالقوة قد ملأت نفسه حتى كادت تنفجّر نشاطاً واندفاعاً، وبالعاطفة يكاد يتمزق من طغيانها قلبه، وأنه لم يعد السكون والانطواء على نفسه بعدما حركة الحب؛ فهو يريد أن يصنع المعجزات، أن يزيح الجبال، أن يكون قائداً فيفتح بحبها الأرض، أن يكون شاعراً فيملأ بتقديسها الأسماع، أن يكون كاتباً فيخلدها بروائع الآداب: بكل مقالة هي أعظم من قلعة يشيدها الملك، وأمتن منها بناء، وأعلى، وأبقى على وجه الدهر، تتخرب القلاع وهي باقية، وتنسى أسماء الملوك، وأسماء قائليها درر في صحائف التاريخ، وجمال للماضي. . .

وتنالها من خمرة الحب مثل نشوته، وتغيب معه في سكرة الغرام، فتهمس وشفتاها على خده:

- هل في الدنيا أسعد منا يا هاني؟ هل في الوجود متعة أعظم مما نحن فيه؟

- فيقول: نحن الوجود يا ليلى، نحن المحبة والمحبة سرّ الوجود. هذه الصخرة مارست هنا

ص: 15

منذ الأزل إلا لنأوي إليها، هذه السفوح ما بسطت إلا لنطل عليها، والقمر ما طلع من وراء الأفق إلا لينظر إلينا، والنجوم ما أطلت من فرج السماء إلا لتناجينا، والفلك كله يدور من حولنا. نحن قطب الوجود، أناوأنت يا ليلى. لقد كنا متحابين من قبل أن نلتقي، وقبل أن نولد، وسنبقى متحابين بعد أن نموت، وهذا هو الحب.

الحب أن يعرف الحبيبة قبل أن تقع عليها عينه، ويسمع باسمها أذنه: يعرفها في سبحات التأمل في ليالي الوحدة، في ثوران الميل في أعصاب الشباب، في خفقات القلب للجمال، في تطلع الفكر للمجهول، في فراغ النفس، في صراخ الأعصاب، في كل فرحة، وفي كل ألم، وكل ذهول هذا هو الحبُّ الضالَّ الذي لا يعرف طريق الحبيب.

ليس الحب ضمَّة ولا شمَّة ولا قبلة، الحب أن يرى المحبوبة فيحس في نفسه جوعاً سماوياً إليها، رغبة جامحة في أن يفتح قلبه ويضعها فيه ويضمه عليها، الحب أن تفنى هي فيه، وأن يفنى هو فيها، أن لا يفرق بين الحبيبين الزمان ولا المكان ولا الميول ولا الأهواء، فيكون أبداً معها، هواه هواها، وميوله ميولها، ويكون في رأسه صداعها، وفي معدته جوعها، وفي قلبه مسراتها وأحزانها، وأن تكون له ويكون لها، وأن يدخلا معاً مصنع القدرة الإلهية مرة ثانية ويخرجا وقد صارا إنساناً واحداً، في جسمين اثنين. فأين تروى جرعات اللذائذ الحسية هذا الظمأ الروحي؟! إنها كالخل للعطشان، يشربه فيحرق أمعاءه، ويزيد ظمأه.

- فتقول له: يا ليتنا نموت الآن يا هاني، حسبنا هذا من العمر. أو يا ليت الزمان يقف فلا يدور أبداً، ولا نعود إلى القصر ولا نرى الناس.

- فيقول: ما الناس؟ وما القصر؟ كله باطل! كل ما عند الناس أوهام! الحق هنا، هذا وحده الحق، هذا هو الواقع، هنا الدنيا!

ويعجز النطق، وتضيق اللغة، فيتكلمان باللغة التي يفهمهما البشر كلهم، لأن لغة البشرية ليست لغة أمم ولا أقوام، اللغة التي ليس فيها إلا كلمة واحدة ولكن معانيها أوسع من كل ما حوت المعاجم، اللغة التي لا يفهم الرجل عن المرأة، ولا تفهم المرأة عن الرجل، إلا بها: لغة القبل!

وتكون وسوتها الخافتة أبلغ من كل ما قال الشعراء.

ص: 16

(البقية في العدد القادم)

علي الطنطاوي

ص: 17

‌9 - تفسير الأحلام

للعلامة سجموند فرويد

سلسلة محاضرات ألقاها في فينا

للأستاذ محمد جمال الدين حسن

الرموز في الأحلام:

والأشياء التي تمثل في الحلم بالرموز ليست كبيرة العدد، وهي تنحصر في: جسم الإنسان كمجموعة، والأباء، والأبناء، والإخوة، والأخوات، والولادة، والعرى - وثمة شيء آخر. والتمثيل النموذجي الوحيد، أي الذي يتكرر ظهوره باستمرار، لجسم الإنسان كمجموعة هو (المنزل)، كما يقرر ذلك الفيلسوف (شرنر) الذي أراد أن ينسب إلى هذا الرمز دلالة شاملة فوق ما يستحقها. والناس يرون في أحلامهم أنهم يهبطون الدرج الخارجي للمنزل وقد انتابهم شعور من الفرح أحيانا ومن الفزع أحيانا أخرى. والمنزل إذا كان أملس الحائط فهو يرمز إلى رجل، أما إذا كان يحتوي على بروزات وشرفات تصلح للتعليق بها فهو يرمز إلى امرأة. والأب والأم يظهران في الحلم على شكل (إمبراطور) و (إمبراطورة) أو (ملك) و (ملكة) أو أية شخصية عظيمة أخرى. أما الأبناء والأخوة والأخوات فإنهم يعاملون في الحلم برقة أقل، فيرمز إليهم (بحيوانات صغيرة) أو (حشرات). والولادة تمثل غالباً بإشارة إلى (الماء)؛ فنرى أننا إما نقع في الماء أو نخرج منه، أو ننقذ أحداً من الغرق أو ينقذنا منه، أي أن العلاقة بين الأم والطفل تبدو في صورة رمزية. أما الموت فيمثل بالاستعداد للقيام (برحلة) أو (سفر) بالقطار، بينما ترمز (الملابس) و (البزة الرسمية) إلى العرى. وهنا ترون أن الخط الذي يفصل بين التمثيل الرمزي والتمثيل التلميحي يمثل إلى التلاشي.

ونحن لا يسعنا بجانب هذا الفقر في الإحصاء إلا أن نعجب أيما عجب عندما نرى أن أشياء كثيرة من التي تنتمي إلى أفق آخر من الأفكار تمثل بعدد وافر من الرموز، وهذه الأشياء التي أعنيها هي كل ما يختص بالحياة الجنسية من أعضاء التناسل والعمليات الجنسية والجماع. فكمية فائقة منالرموز في الأحلام عبارة عن رموز جنسية، ومن هنا

ص: 18

يختل التوازن إذ أن الأشياء التي تعالجها الرموز قليلة العدد بينما الرموز نفسها عديدة بشكل غريب، بحيث يمكن لكل من هذه الأشياء القليلة أن يعبر عنه برموز كثيرة متماثلة تقريباً من الوجهة العلمية. ولذا فإننا عندما نقوم بتفسير هذه الرموز فإن هذه الخاصية تتسبب في جرح الشعور العام لأن هذه التفسيرات كلها تعتبر واحدة إذا قسناها بالأشكال المختلفة التي تمثل بها في الأحلام. وهذا من غير شك لا يسر كل من يقدر له أن يعرفه، ولكن ماذا في وسعنا أن نعمل؟.

ولما كانت هذه هي المرة الأولى التي أتكلم فيها عن الحياة الجنسية، فإنني أجدني مديناً لكم ببعض الشرح عن الخطة التي سأتبعها في معالجة هذا الموضوع. فالمحلل النفساني لا يرى أي داع لأن يخفى شيئاً أو يلمح إليه بطريقة غير مباشرة، وهو لا يجد غضاضة في ال بمادة غزيرة كهذه المادة، وإنما هو من الرأي القائل بأن من الأصوب والأفضل لنا أن نأمن جانب التأويلات المختلفة. ولئن كنت أتحدث إلى خليط من الرجال والنساء، فلن يغير هذا من الموقف شيئاً. فليس هناك من العلوم ما يمكن معالجته بطريقة تصلح لفتيات المدارس، كما أن النساء الموجودات قد عبرن بحضورهن إلى هذه القاعة تعبيراً ضمنياً عن رغبتهن في المعاملة كالرجال سواء بسواء.

والجهاز التناسلي للذكر يمثل في الحلم برموز كثيرة قد نستطيع أن نتبين في معظمها وجه المقارنة بوضوح. فمثلا العدد المقدس (ثلاثة) عبارة عن رمز للجهاز بأكمله. أما الجزء المعروف منه وهو ما يهم الجنسين على السواء، أعني القضيب، فيرمز إليه أولا بأشياء تشبهه في الشكل أي طويلة منتصبة مثل (العصا) و (المظلة) و (الأعمدة) و (الأشجار) وما شابه ذلك. كما أنه يرمز إليه كذلك بأشياء لها مثله خاصية الاختراق، ومن ثم إيذاء الجسم أي الأسلحة المدببة من أي نوع كانت مثل (المدية) و (الخنجر) و (الرمح) و (السيف). والأسلحة النارية أيضاً (كالبندقية) و (الطبنجة) و (المسدس) يستخدم كثيراً لما لها من شكل يجعلها رموزاً صالحة للاستعمال. فنجد أن المطاردة بواسطة رجل مسلح بمدية أو بندقية في آخرها حربة تلعب دوراً كبيراً في أحلام القلق للفتيات الصغيرات. وربما كان هذا الرمز أكثر الرموز ظهوراً في الأحلام، وها أنتم الآن تستطيعون ترجمته من تلقاء أنفسكم. والاستعاضة عن القضيب بأشياء يفيض منها الماء مثل (الصنبور) و (الينبوع) وكذلك

ص: 19

الاستعاضة عنه بأشياء لها القدرة على الاستطالة مثل (المصابيح التي تعلق على بكرة) و (الأقلام التي ينزلق فيها الرصاص داخل وخارج الغلاف) تعتبر من الرموز السهلة الفهم. ومما لاشك فيها أيضاً أن (المطرقة) و (قلم الرصاص) و (مبرد الأظافر) و (البنة) وغير ذلك من (الأدوات) عبارة عن رموز جنسية مذكرة من السهل جداً معرفة وجه المقارنة بينها وبين القضيب.

ولهذا العضو صفة خاصة (وهي جزء من ظاهرة الانتصاب) تمكنه من القيام من تلقاء ذاته غير مكترث بقانون الجاذبية، وهذه الصفة تؤدي إلى أن يرمز إليه في الحلم (بمنطاد) أو (طائرة) وأخيراً فقط (زبلن). بيد أن الأحلام لها طريقة أخرى أشد غرابة في الرمز إلى الانتصاب وذلك بأن تدمج العضو الجنسي في الجزء الرئيسي من الشخص بحيث يرى الحالم (أنه نفسه يطير). أرجو أن لا تقلقوا لسماعكم لأول مرة أن الأحلام الجميلة التي نعرفها كلنا والتي نرى أنفسنا نطير فيها، يجب أن تفسر على أنها تهيج جنسي أو أحلام انتصاب، فهذا التفسير قد أثبته أحد علماء التحليل النفسي وهو (ب. فيدرن) بشكل لا يدع مجالا للشك. هذا علاوة على أن (مورلي فولد) وهو رجل يثنى عليه كثيراً لأحكامه الرزينة، قد أجرى تجارب كثيرة على أوضاع اصطناعية للأيدي والأقدام فوصل إلى نفس النتيجة مع العلم بأن نظرياته كانت تبعد في الواقع كثيراً عن نظريات التحليل النفسي (بل لعله في الحقيقة لم يكن يعلم شيئا بالمرة عن هذا العلم) كما يجب عليكم أن لا تفكروا في المعارضة باعتبار أن المرأة ترى أيضاً أنها تطير في الحلم، فالأفضل لكم أن تتذكروا أن الغرض من الأحلام هو إشباع الرغبات، وأن الرغبة في أن تصير رجلا كثيراً ما تقابل في المرأة سواء شعرت بها أم لا. وفضلا عن ذلك فإن الشخص الذي له إلمام بعلم التشريح أن تستطيعوا التمويه عليه إذا قلتم له إنه من المستحيل على المرأة أن تحقق هذه الرغبة عن طريق احساسات تشبه احساسات الرجل، لأنه يعلم أن الجهاز التناسلي للمرأة يحتوي على عضو صغير يشبه القضيب، وهذا العضو الصغير، المسمى بالبظر، يلعب في الطفولة وفي السنوات التي تسبق المعاشرة الجنسية نفس الدور الذي يلعبه القضيب.

وهناك رموز جنسية مذكرة يصعب فهمها قليلا مثل (الأفاعي) و (الأسماك) ومثل الرموز المشهور (الثعبان). كما أن الصعب علينا فعلا أن نتكهن بالسبب الذي من أجله تستخدم

ص: 20

(القبعات) اهتمامو (المعاطف) بنفس الطريقة، غير أن معناها الرمزي لا ريب فيه من غير شك. وأخيراً فإن لنا أن نتساءل إذا كان من الممكن أن نعتبر تمثيل القضيب بأحد الأعضاء الأخرى مثل اليد أو القدم تمثيلا رمزيا؟ أظن أن سياق الحوادث وما نصادفه من الرموز المؤنثة المقابلة لذلك سيضطرنا إلى الاعتراف بهذه النتيجة.

أما الجهاز التناسلي للأنثى فيرمز إليه بكل الأشياء التي تشترك معه في صفة الإحاطة بفراغ أو التي تصلح للاستعمال كأوعية مثل (الحفرة) و (الحب) و (المغارة) وكذلك (الجرة) و (الزجاجة) و (الصناديق) من مختلف الأحجام والأشكال، و (الخزانة) و (الأدراج) و (الجيوب) وما شابه ذلك و (السفن) أيضاً تدخل ضمن هذا الاعتبار. وكثير من الرموز حرية بأن تشير إلى الرحم أكثر من أي عضو تناسلي آخر، مثل (الدولاب) و (الموقد) وأهم من ذلك كله (الحجرة). والتمثيل الرمزي بالحجرة هنا يرتبط مع التمثيل بالمنازل، بينما (الأبواب) و (البوابات) تمثل الفتحات التناسلية. وهناك أيضاً مواد من أنواع مختلفة ترمز إلى المرأة (كالخشب) و (الورق) والأشياء المصنوعة منها مثل (الكتب) و (الموائد). أما من عالم الحيوان (فالقواقع) و (أم الخلول) يجب أن تدخل على أي حال ضمن الرموز المؤنثة التي لا يخطئها الظن. وأما من أجزاء الجسم نفسه (فالفم) يمثل الفتحة التناسلية، بينما نجد أن (الكنائس) و (المعابد) بين الأبنية عبارة عن رموز للمرأة. ومن هذا ترون أن هذه الرموز كلها ليست على درجة واحدة من سهولة الفهم.

والنهود كذلك يجب أن تدرج ضمن الأعضاء الجنسية وهي تمثل (بالتفاح) و (الخوخ) و (الفواكه) على العموم. أما شعر العانة في الجنسين فيرمز إليه في الحلم (بغابة) أو (أيكة). وترجع العلة في تمثيل الجهاز التناسلي للأنثى غالباً (بأصقاع) تحتوي على غابات وصخور ومياه إلى طبيعته التبوغرافية المعقدة، بينما التركيب الميكانيكي الدقيق للجهاز التناسلي للذكر يؤدي إلى الرمز إليه بكل الأنواع المعقدة التي لا يمكن وصفها من (الآلات).

غير أن هناك رمزاً آخر للجهاز التناسلي للأنثى يستحق الذكر هنا وهو (صندوق الجواهر) بينما (الجواهر) و (الكنوز) تستخدم في الحلم كرموز تمثل الشخص المحبوب، و (الحلوى) تقوم غالباً مقام اللذة الجنسية. أما التلذذ الجنسي الناتج عن اللعب في الأعضاء التناسلية

ص: 21

للشخص نفسه فيرمز إليه بأي نوع من أنواع (اللعب) ومن بينها (اللعب) على البيان. والتمثيل الرمزي (للعادة السرية)(بالانزلاق) و (التزحلق) وأيضاً (يجذب فرع من الشجرة) يعتبر تمثيلا نموذجياً. ومن الرموز التي تستحق النظر أيضاً (سقوط أو اقتلاع الأسنان) ومعناها المبدئي من غير شك هو الخصي كعقاب للإدمان على العادة السرية. ومن الغريب أن عملية الجماع نفسها تمثل في العلم بدرجة أقل مما كنا نتوقع بعد كل هذا، ولكنا نستطيع أن نذكر هنا أنواع الرياضة ذات النغم المطرد مثل (الرقص) و (ركوب الخيل) و (التسلق)، وكذلك (تعرض الإنسان للشدائد) كأن تدهمه مركبة كما أن في إمكاننا أيضاً أن نضيف إلى ذلك بعض الأشغال اليدوية وكذلك التهديد بالأسلحة من غير شك.

(يتبع)

محمد جمال الدين حسن

ص: 22

‌رأي الأكثرية في السياسة الشرعية

للأستاذ عبد المتعال الصعيدي

ذكر صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ رزق الزلباني في مقال له (السياسة الدستورية الشرعية) نشر في عدد صفر سنة 1366هـ من مجلة الأزهر حكما في رأي الأكثرية لا يصح أن يترك من غير أن تبين حقيقته الدينية، لأنه يتعلق بأمر له خطرة في نظام الحكومات الدستورية الحاضرة، وقد أخذت به الحكومات الإسلامية في هذا العصر، فتألف في كل حكومة منها مجلس نيابي يقوم نظامه على الأخذ برأي الأكثرية، وقد رأى فضيلة الأستاذ أن هذا يخالف السياسة الدستورية الشرعية، لأنها توجب رد المتنازع فيه بين أولي الأمر إلى الكتاب والسنة، ولا توجب الأخذ برأي الأكثر كما توجبه الحكومات الدستورية في عصرنا، ثم ذكر أن ما درجت عليه الشريعة من ذلك أدنى إلى الصواب، وأجدر بتحقيق المصلحة واتفاق الكلمة، لأن الأكثرية قد تكون من حزب واحد ينصر بعض أفراده بعضاً في الحق وفي الباطل، فمتى شاء زعماء الحزب تقرير أمر ولوبباعث المصلحة الشخصية تبعهم الباقون من أعضائه، فيصبح ما قرروا واجب الاتباع لأنه رأي الأكثر، وإن كان ظاهر الضرر قبيح الأثر، فتضيع المصلحة العامة، وتتزعزع ثقة الأمة بأمثالهم، وتجد الفتنة والتفرق طريقهما إلى النفوس، وفي ذلك الخطر كل الخطر، وفي الرد إلى الله والرسول اطمئنان كل نفس وراحة كل ضمير، وضمان وحدة الأمة وسيرها على صراط مستقيم.

ولا شك أن ما ذهب إليه فضيلة الأستاذ من رد المتنازع فيه بين أولى الأمر إلى الكتاب والسنة هو ما جاء في قوله تعالى في الآية - 59 - من سورة النساء (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول) وقد ذكر المفسرون أن ذلك خاص بأمور الدين، فهي التي يرجع فيها عند التنازع إلى كتاب الله عز وجل، وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم ما دام حياً، فإن مات ردت إلى سنته، فإن لم توجد في كتاب الله ولا في سنة رسوله فسبيلها الاجتهاد، وقيل الرد إلى الله ورسوله أن يقولوا لما لا يعلمون: الله ورسوله أعلم.

فأما أمور الدنيا فقد فوض الأمر فيها إلينا، نحكم فيها بما فيه مصلحتنا، ونرجع فيها إلى ما يراه أولو الأمر فينا، كما قال تعالى في الآية - 83 - من سورة النساء، (وإذا جاءهم أمر

ص: 23

من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى الرسول وإلى أولي الأمر منعم لعلمه الذين يستنبطونه منهم) فأدخل هنا أولي الأمر فيما يجيئهم من أمور الأمن والخوف، لأنه من أمور الدنيا، قال المفسرون: أولو الأمر هم ذوو العقول والرأي والبصيرة، أو أمراء السرايا والبعوث.

وقد أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بمشاورة أصحابه في الآية - 59 - من سورة آل عمران، فقال (وشاورهم في الأمر) وقد اختلف العلماء في المعنى الذي من أجله أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بالمشاورة لهم، مع كمال عقله وجزالة رأيه ونزول الوحي عليه ووجوب طاعته على الخلق كافة فيما أحبوا أو كرهوا، فقيل هو عام مخصوص، والمعنى وشاورهم فيما ليس عندك من الله فيه عهد، وذلك في أمر الحرب ونحوه من أمور الدنيا، لتستظهر برأيهم فيما تشاورهم فيه، وقيل إنه أمر أن يشاورهم في أمر الدين والدنيا فيما لم ينزل عليه فيه شيء، لأن النبي صلى الله عليه وسلم شاورهم في أسرى بدر وهو من أمر الدين، وقد اتفق العلماء على أن كل ما نزل فيه وحي من الله تعالى لم يجز لرسول الله صلى عليه وسلم أن كل ما نزل فيه وحي من الله تعالى لم يجز لرسول الله صلى عليه وسلم أن يشاور فيه الأمة، وإنما أمر أن يشاور فيما سوى ذلك من أمر الدنيا ومصالح الحرب ونحو ذلك.

وقد مر النبي صلى الله عليه وسلم على قوم يؤبرون نخلهم، فقال لهم: لو تركتموه لصلح فتركوه ففسد، فأتوا إليه فأعلموه بفساده، فقال لهم: أنتم أعلم بأمور دنياكم.

فهناك إذن أمور كثيرة لا يجب على المسلمين أن يرجعوا عند التنازع فيها إلى الكتاب والسنة، وهي أمور الحكم التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بمشاورة أصحابه فيها، لأنها هي محل الشورى، وهي التي تؤلف المجالس النيابية في الحكومات الدستورية للرجوع إليها فيها، أما أمور الدين فشأنها في ذلك شأن القوانين الوضعية، ولا شك أن وجود القوانين الوضعية لا يمنع من تأليف المجالس النيابية في الحكومات التي تأخذ بها، فكذلك لا يمنع وجود القوانين السماوية من تأليف المجالس النيابية في الحكومات التي تأخذ بها، لأن المجالس النيابية ليست محاكم تنظر في مسائل القوانين السماوية أو الوضعية، وإنما هي رقيبة على حكوماتها، تعطيها ثقتها إن عدلت في الحكم، وتعزلها من الحكم إن جارت

ص: 24

فيه.

وقد سار النبي صلى الله عليه وسلم على الشورى في حكمه، حتى قالت عائشة رضي الله عنها: ما رأيت رجلا أكثر استشارة للرجال من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ومن ذلك أنه في غزوة الأحزاب أراد أن يصالح عيينة بن حصن والحارث بن عوف على ثلث ثمار المدينة، فعرض ذلك على سعد ابن معاذ وسعد بن عبادة سيدي الأوس والخزرج، فقالا له: يا رسول الله، إن كان أمراً من السماء فامض له، وإن كان أمراً لم تؤمر به ولك فيه هوى فسمعاً وطاعة، وإن كان إنما هو الرأي فما لهم عندنا إلا السيف. فقال لهما: لو أمرني الله ما شاورتكما. ثم اختار ما أشارا به، ورجع عما أراده من ذلك الصلح.

وإذا كان الإسلام قد جاء بالشورى التي تقوم عليها الحكومات الدستورية في عصرنا، فقد جاء أيضاً بالرجوع إلى رأي الأكثرية عند اختلاف أهل الشورى، وبهذا لا يكون هناك خلاف في هذا الأمر بين السياسة الدستورية الشرعية وغيرها من السياسة الوضعية، بل تتفق السياستان في الأخذ برأي الأكثرية فيما ثبتت فيه الشورى من أمور الدنيا كلها، ومن بعض أمور الدين على ما ذهب إليه بعض العلماء فيما سبق.

وقد أتى الإسلام بالأخذ برأي الأكثر في غزوة أحد في السنة الثالثة من الهجرة، وذلك حين اقترب المشركون من المدينة فنزلوا بذي الحليفة، فجمع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه فقال لهم: إن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم حيث نزلوا، فإن هم أقاموا أقامو بشر مقام، وإن هم دخلوا علينا قاتلناهم فيها.

فقال رجال من المسلمين ممن كان فاته يوم بدر: يا رسول الله، اخرج بنا إلى أعدائنا، لا يرون أنا جبنا عنهم وضعفنا. وقال آخرون: يا رسول الله، أقم بالمدينة لا تخرج إليهم، فوالله ما خرجنا منها إلى عدو لنا قط إلا أصاب منا، ولا دخلها علينا إلا أصبنا منه، فدعهم يا رسول الله، فإن أقاموا أقاموا بشر محبس، وإن دخلوا قاتلتهم الرجال في وجههم، ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم، وإن رجعوا رجعوا خائبين كما جاءوا!

فانقسم المسلمون بذلك إلى فريقين: فريق على رأسهم النبي صلى الله عليه وسلم، وفيهم شيوخ المهاجرين والأنصار، يرون البقاء في المدينة، وفريق أكثرهم من الشبان الذين لم يحضروا غزوة بدر، وأرادوا أن يعوضوا ما فاتهم منها بغزوة أحد، يرون الخروج من

ص: 25

المدينة إلى العدو.

وقد نظر النبي صلى الله عليه وسلم فرأى الأكثرية في جانب الذين يرون الخروج من المدينة، فلم ير إلا أن يترك رأيه إلى رأيهم، وإن كان يرى أن رأيه هو الأرجح، لأنه قد أمر بالشورى، والشورى تقتضي أن يأخذ برأي من يستشيرهم إن اتفقوا عليه، فإن اختلفوا فيه أخذ برأي أكثرهم، حتى تمشي الشورى على قاعدة مطردة، وتجري على منهاج معروف، تجتمع عليه كلمة الأمة، ولا تكون الشورى معه سبباً لانقسامها واختلافها، وقد عمل النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك بقاعدة ارتكاب أخف الضررين، لأن ضلالا مخالفة رأي الأكثرية في الخروج من المدينة أشد من مخالفة رأيه في البقاء فيها. وقد بعث صلى الله عليه وسلم معلماً ومرشداً، فضرب بهذا مثلا في حكم الشورى، ليأخذ المسلمون به بعده، وتكون القاعدة فيه الأخذ برأي الأكثر عند الاختلاف في الرأي.

فكيف مع هذا يرى فضيلة الأستاذ أن الأخذ برأي الأكثر ليس من السياسة الدستورية الشرعية، وفي الإسلام مجال واسع للأخذ برأي الأكثر، وذلك في كل ما يؤخذ فيه بالشورى من أمور الدنيا، ومن بعض أمور الدين التي لا يوجد فيها نص قاطع من الكتاب أو السنة، ولا شك أن تقييد الأخذ برأي الأكثر بذلك لا شيء فيه، لأن المجالس النيابية في الحكومات الحديثة لا يصح لها أن تتدخل في كل شيء من أمور الدولة، بل تقف سلطتها عند حدود لا تتعداها، ولا تطغى بمجاوزتها على غيرها من السلطات التي تتألف منها الحكومة.

وأما ما ذكره فضيلة الأستاذ من ضرر الأخذ برأي الأكثرية عندما تكون من حزب واحد فهم أمر قد يعرض لهذا النظام، ولا يصح أن يؤخذ به، كما لا يصح أن يؤخذ كل أمر نافع بسوء استعماله. بل يجب أن يعالج هذا فيه بما يصلحه.

عبد المتعال الصعيدي

ص: 26

‌الفلسفة العربية وكيف تدرس

للأستاذ عبد العزيز محمد الزكي

تعم الشرق العربي نهضة تشمل مختلف نواحي الحياة من سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية. ولكي نسير بهذه النهضة إلى الأمام يجب أن نقيمها - ونحن في بدايتها - على أسس وطيدة تلائم استعداداتنا العقلية وتقاليدنا الاجتماعية. وذلك يلزمنا بأن نتوجه إلى حضاراتنا العربية نبعث تراثها من جديد؛ ونستكشف من بين ثنايا مخلفاتها مقوماتنا النفسية، واتجاهات ميولنا الفكرية، ومعاييرنا الخلقية، وعاداتنا الاجتماعية. فيجب علينا أن نجد في بحث تراثنا العربي لا نترك فيه علماً أو فناً من غير أن نستوفي دراسته، ونسرع في نشر أبحاثه في جميع أنحاء العالم العربي، حتى يدرك كل عربي ما هي المبادئ المقومة لفكره، وما هي الاتجاهات الثابتة التي ينزع إليها دائماً عقله؛ فيأخذ في تنمية مواهبه، ويشغلها بالموضوعات التي تتفق مع نزعاته الفكرية الصحيحة؛ وكل ذك يؤهل الشعوب العربية لأن تقوم وتؤسس حضارة عالية تنشأ في أحضان الأصول الروحية الشرقية وترتقي بنضوج الخصائص الرئيسية لعقليتنا العربية. . .

علينا إذن نحن العرب واجب مقدس نحو مستقبلنا الحضاري، وهو أن نتعاون جميعاً على تحليل علوم العرب وآدابهم وفنونهم إلى عناصرها الأولية، قاصدين معرفة محتوياتها وأصولها وبواعثها ومناحي مذاهبها. وأحسب أن تحقيق ذلك يتطلب دراية واسعة وفهما عميقاً لكل التيارات الثقافية التي أثرت في العقلية العربية، حتى يمكننا أن نميز بين ما هو أصيل في الحضارة العربية وما هو دخيل عليها، ولذلك قبل أن نقدم على مثل هذه الدراسات، يجب أن نتزود بالزاد الثقافي الذي يعدنا للاشتغال بتراث العرب، وأن نحدد لمختلق العلوم والآداب والفنون البرامج الثقافية التي تعين كل باحث في تفهم مادة بحثه وفي هذا المقال سأحول أن أضع البرنامج الثقافي الذي أرى أنه يفيد كل من يرغب في الاشتغال بالفلسفة العربية. . .

نشأت هذه الفلسفة في بيئة ثقافية معقدة أشد التعقيد، وتطورت في ربوع شعوب متباينة الاتجاهات، وتأثرت بحضارات متعارضة النزعات. فلقد كان العالم العربي يمتد من غرب الهند شرقاً إلى المحيط الأطلسي غرباً، وضم بلاد الأندلس والمغرب ومصر والشام وشبه

ص: 27

جزيرة العرب والعراق وفارس وما وراء النهر، فتلاقت ثقافات هذه البلاد وتمازجت، كما تسربت إليها الأفكار الهندية، وتأثرت بما ترجم من التراث اليوناني إلى اللغة العربية، وأخذت عن الدين الإسلامي، وعرفت تعاليم الدين المسيحي وتعاليم الدين اليهودي. فنبت التفكير الفلسفي العربي من فلسفة وتصوف وعلم كلام وترعرع في كنف ذلك المجمع الثقافي والمتحف الحضاري، ونحن لا ندري إلى الآن أي هذه الثقافات كان أقوى تأثيراً من غيره في الفكر العربي، وإلى أي حد كان أخذ العربي ومحاكاته لثقافات غيره من الشعوب، ولا نعرف ما هو نصيبه الحق في تراثه الحضاري. . .

لكي نكشف عن حقيقة هذه المسائل العويصة، يجب أن نسترشد بكل ما يقال إنه من العوامل التي أثرت في كل من الفلسفة والتصوف وعلم الكلام إذ قد تدلنا على قسط كل ثقافة في الحضارة العربية، وتحدد لنا نصيب الفكر العربي فيها.

أولاً: يلاحظ على الفلسفة العربية أن هناك من لم يقتنع بوجودها، ويشك في قدرة العقلية العربية على التفلسف، ويرى أن الفلسفة العربية ما هي إلا خليط مشوه من الأفكار اليونانية لا نصيب فيها للفكر العربي؟ وأن هناك من يدعي بأن للعرب إضافات مبتكرة تشهد بأن الفكر السامي في قدرته أن يضع نظريات ويقيم كليات، وأن هناك من يقول بأن هذه الإضافات ليست مبتكرة وإنما هي مأخوذة من الأفكار الهندية والفارسية ولكي نتوصل إلى الرأي الصواب؛ يجب قبل أن نشتغل بهذه الفلسفة، أن نجيد فهم الفلسفة اليونانية، ونتتبع تاريخ تطورها من يوم ظهورها إلى أن ترجمت إلى اللغة العربية، وأن نعرف مراحل تطور الفكر الفارسي من قبل نهضة زرادشت إلى أن استولى العرب على بلاد فارس، وأن نلم بكل الديانات الهندية من هندوسية وبوذية سواء في أصولها أو في صورها التي وصلت إلى العرب. وبعد أن نحيط علماً بكل ذلك يمكننا أن نبحث في الفلسفة العربية، وأن نحدد موقف العقلية العربية منها.

ثانياً: أما عن التصوف فتضاربت الأقوال شتى المذاهب في نشأته وتطوره، فمن يرى أنه هروب من ارتباك الحياة السياسية وانحطاط الحياة الاجتماعية، ورجوع الحياة الصوفي القديمة التي كانت في الهند وفارس، ومن يرى أنه محاكاة للرهبة المسيحية، وأنه استمد تفسيراته للأحوال الصوفية من أفكار الأفلاطونية المحدثة، ومن يرى أن دين الإسلام برئ

ص: 28

منه، لأنه دين جاف لا يلين للعواطف الصوفية، بينما يستند الصوفية دائما في أقوالهم إلى الآيات القرآنية والأحاديث النبوية. فكل هذه الآراء تجبرنا وتلزمنا بأن نلم بالأصول الثقافية التي دعت إلى ظهور التصوف وساعدت على نموه؛ وأن نعرف قبل أن نقبل على دراسته تاريخ الإسلام السياسي وأثره في الحياة الصوفية، وتعاليم الدين المسيحي ونظم رهبنته ومدى نفوذه في العالم العربي، ونظريات الأفلاطونية المحدثة، ودين الإسلام وروح تعاليمه في القرآن الكريم والحديث الشريف، وتاريخ التصوف الهندي والفارسي.

ثالثاً: إن كان هناك من يؤكد بأن نشأة علم الكلام دعت إليها الحياة العربية، وحاجتها للدفاع عن تعاليم الإسلام، ومقاومة كل الحركات التي ناهضت الإسلام، وعملت على تقويض نفوذه وهدم تعاليمه؛ إلا أن هناك أيضاً يمن يعتقد أن علم الكلام كان مجرد محاكاة للجدل اللاهوتي المسيحي، وأن حججه وبراهينه كلها مأخوذة من الفلسفة اليونانية. ولكي نمتحن هذه المزاعم يتطلب منا أن نحيط علماً بمختلف التيارات الثقافية التي ناهضت الإسلام وتعاليمه، وبنوع الجدل اللاهوتي الذي كان يدور بين المسيحيين ومدى شيوعه في المملكة العربية، وبالفلسفة اليونانية وطرق إقامتها للحجج وأسلوب جدلها المنطقي وروح براهينها.

نستنتج مما تقدم أن الباحث في الفكر العربي لن يصل إلى شيء ذا خطر علمي، ما لم يمون نفسه بالزاد الثقافي الذي يحتاج إليه، حتى يكون دقيقاً عميقاً في أبحاثه، صادقاً مصيبا في أحكامه ولكي نسهل عمل كل من يرغب في أن يشتغل بهذا الفكر، نخطط له برنامجاً ثقافياً، عليه أن يستوعبه قبل أن يبدأ في تناول أي بحث فلسفي عربي أياً كان نوعه، ويتخلص هذا البرنامج الثقافي في الخطوات الآتية:

1 -

أن يبدأ الباحث بدراسة تاريخ الفكر الفارسي، وتاريخ الفكر الهندي في أصوله، ثم على حالتيهما اللتين وصلتا العرب.

2 -

ثم يدرس الفلسفة اليونانية دراسة تفصيلية في مختلف أطوارها، منذ نشأتها إلى يوم أن نقلت إلى اللغة العربية.

3 -

ثم يدرس تعاليم الديانات السماوية الثلاث، وهي الإسلام والمسيحية واليهودية، ويدرسها أولا في أصولها، ثم علي حالتها التي كانت عليها في العصور العربية.

4 -

أن يتتبع تاريخ الإسلام السياسي، ومدى أثره في الحياة الثقافية.

ص: 29

وبعد أن يعطي الباحث هذه العلوم حقها من الدراية والفهم، يسمح لنفسه بأن يتناول الفكر العربي بالبحث، لأنه في ضوء ثقافته هذه، يمكنه أن يتتبع نشأة كل أنواع هذه الفكر، ويتلمس أماكن ظهورها في مختلف البلاد العربية، ويدرك أدوار تطورها، بل يمكنه أن يعين العوامل التي أدت إلى رقيها أو التي عاقت تقدمها، وأن يوضح مكانة العقلية العربية ومدى تفاعلها مع الثقافات الأخرى. وكل ذلك يساعده مساعدة فعالة في شرح تفاصيل الفلسفات العربية شرحا وافياً دقيقاً غير متأثر في أحكامه بأي عاطفة سوى حب الحقيقة، كما يساعده في تحديد عناصر الحضارة العربية ومقومات روحها الحق.

عبد العزيز محمد الزكي

ليسانسيه في الفلسفة

ص: 30

‌هذه الألفاظ الأثرية

للأستاذ أحمد رضا

تحت هذا العنوان كتب (الجاحظ) في مجلة الرسالة الغراء كلمة وصف بها ما اخترته من الأسماء للمعاني المستحدثة الطارئة. فقال إنها ألفاظ أثرية مجفوة ميتة، ولم أهتد إلى وجهة نظره في توجيه هذا النعت.

الآن هذا المختار غير مألوف في الذوق عنده أو عند أدباء هذا الدور من هذا العصر؟؟ ولماذا؟ والألفة الذوقية وحدها لا تكون ميزاناً للوضع والاختيار، وإلا لما كان من حاجة إلى الوضع، ولا سيما إذ كانت الكلمات المختارة فصيحة في أصلها جارية على ألسنة الفصحاء زمن ازدهار اللغة ونموها.

وربما كان المألوف لك عامياً صرفاً أو أعجمياً، فهل تفضله لمجرد الألفة وأنس الذوق به على الصحيح الفصيح لأنه غير مألوف؟ والألفة وأنس النفس إنما يكونان بطول الصحبة وكثرة المزاولة فحيث تكون كانتا.

أو لأن هذا المختار ألفاظا نابية في السمع لتعقد تراكيبها، وسماجة لفظها، وتنافر حروفها؟ ولست أشعر بشيء من ذلك فيما اخترته ولا نبه الناقد إليه.

انتقد (الدرمك) للدقيق المحور وهو لفظ فصيح استعمله فصحاء العرب بل جاء في كلام أفصح من نطق الضاد، فقد قال صلوات الله عليه في وصف الجنة (وتربتها الدَرْمَك) وفسره ابن الأثير في النهاية بالدقيق الحوَّاري.

وأنكر (الدّغْري) للحرب المفاجئة. وقد وردت في كلام فصحاء العرب من غير استغراب ولا استهجان ولا نكير (قالت امرأة من العرب لولدها: إذا رأت العين العين فدغرى ولا صفّي) تقول إذا رأيتم عدوكم فادغروا عليهم أي اقتحموا بغتة واحملوا ولا تصافُّوهم (كما في اللسان والأساس والتاج).

ثم هل ترى في مادة (د غ ر) أو تركيب دغر شيئاً من تنافر الحروف ونبوّ المخارج أو ما ينفر منه السمع، وهل فرق بينها وبين مثيلاتها كالدغم والرغم والوغم الوغر والرغد، فهل رأيت أحداً يشكو منها، أو يتأفف من مكانها في اللغة؟ أنكر إطلاق (الدَلَق) على ثوب القضاة والمحامين، والدلق دويبة كالسمّور تتخذ جلودها للفراء، واستعير لثوب القضاة لأنه

ص: 31

يعلّم به، قال في صبح الأعشى: الدلق ثوب متسع الأكمام طويلها، مفتوح فوق كتفيه بغير تفريج، سائل على القدمين، يلبسها القضاة في الدولة الأيوبية، وهذا الذي أطلقناه على الروب.

فما ينكر من هذه الكلمة؟ وهل مثلها إلا مثل الفلق والأرق والعلق والدمث في هذا الشأن، أو ليست هي أولى بالاستعمال (وإن كانت معربة في الأصل عن الفارسية) من الروب من حيث أن قدماءنا استعملوها ونحن نجري مجراهم؟

وتنكر للربِيذة وهي في كتب الأئمة قمطر السجلات (أي المحاضر) وقد كان مجمع نادي العلوم في مصر وضع لها (الملف) ولكنني اخترت الربيذة لأنها أخص بالدلالة على المراد، فهل الدوسيه الأعجمية خير منهما، وهل التجافي عنهما وعن أمثالهما واللجوء إلى الكلمات الأعجمية الغريبة عن لغتنا، يبلغ بنا الآمال في تهذيب لغتنا، وتطهيرها من الأدران.

وجئت بالكِنْف لجزدان الطبيب، وقد استعمله الراعي العربي في أداته التي يضع فيها مبراته ومقصه، والصائغ لأدواته، والتاجر للخفيف من متاعه، وها أنا أريده هنا لمقص الطبيب وسكينه وملقطه وقطنه، فأي محذور في ذلك سوى أن ذهن منتقدي الفاضل ولسانه لم يألفه مع أنه كلمة مفردة ثلاثية ساكنة الوسط وحروفها معدودة من الدرجة الأولى في استعمال حروف الهجاء العربية.

وانتقد إطلاق الشوذر والعلق على القميص بلا كمين، وقد نص الأئمة على أن الشوذر برد يشق ثم تلقيه المرأة في عنقها من غير كمين ولا جيب، وأن العلقة قميص بلا كمين، أفلا تكون إحدى اللفظتين خيراً من الشورت التي هي غريبة عنا وعن لغتنا؟

وكذلك القنع للطبق الذي توضع فيه الفاكهة على الموائد، (وقد أقره المجمع العلمي العربي الدمشقي واختاره على القناع لتقليل الاشتراك) وجاء في الحديث أتيته بقناع من رطب، قال في النهاية ويقال القنع بالكسر والضم، وقال الأئمة القنع الطبق من عُسُب النخل تجعل عليه الفاكهة.

وقد كنت عارضت بعض ما وضعه مجمع اللغة العربية بمصر في الأوضاع العامة بعد أن فسح المجال مدة سنة لمن يريد ذلك من الباحثين في اللغة، فاخترت مثلا الطِرْز وزان علم على الطَزَر وزان قلم للبيت الصيفي (الفيلا) والجناح مكان الشقة، والحيفة موضع البراءة

ص: 32

وكلمات أخر، فرد على فيها اللغوي النحرير الأب أنستاس الكرملي، وناقشني غيره فيها وفي غيرها نقاشاً لم يكن اعتباطاً بل كان مستنداً إلى الحجة والرهان وحبذا مثل هذا الجدال الذي يمحص الحقائق ويرشد إلى الصواب. وأرى في مزيد إيضاح لهذا البحث:

إن كل عربي غيور على أمته ولغته ينظر ما آل إليه أمر اللغة الفصحى في العصور المتأخرة حتى أواخر القرن الثالث عشر يجدها قد انهزمت انهزاماً مؤلماً أمام طغيان اللغة العامية المستعجمة منذ استولى سلطان الأعاجم على الدولة وملكوا قيادها. وإنما الرعية على دين ملوكها. حتى تعدى ذلك إلى المؤلفين من هاتيك العصور فتجد في النجوم الزاهرة مثل قوله (وعندما يعزلونه من الوزارة يصبح يأخذ غلامه الحرمدان ويرح يعقد في ديوان الإنشاء) ونجد في نشوار المحاضرة، من الكلمات الطارئة الأعجمية التي حلت محل مرادفاتها من الفصيح ما تنوسى معه الفصيح ولم يبق مألوفاً، كالدقدان والكردناج والشامرغ والسكردان وغير ذلك ثم ما نرجو من زمن أو دولة زمامها بيد طرنطاي ومنكوتمر أن تنهض باللغة وتطهرها من مثل هذا الفساد وترجعها إلى ما كان عليه أو لها من بلاغة في الأسلوب، وفصاحة في الكلمات وعذوبة في اللفظ، ورشاقة في المعنى.

آلم ذلك الكرام البررة أهل الغيرة على لغة الكتاب والسنة، لغة البيان والبلاغة التي خص الله بها هذه الأمة النجيبة فكانت مفخرة من مفاخرها، وآية في إعجازها وإيجازها وبراعة أسلوبها، آلمهم ذلك وهم يرونها في هزيمة شنعاء أمام هذه اللغة الفاسدة الفائلة فحاولوا تطيرها من هذه الأدران، وكانت محاولتهم تعلو وتنحط وتذكر وتخبو ثم تتراجع بتأثير الزمان والمكان والأحوال الطارئة، إلى أن قيض لها ثلة من الأبرار الأطهار من رجال مصر في أخريات القرن الهجري الثالث عشر وأوائل القرن الرابع عشر للهجرة، ودعا المرحوم عبد الله فكري في سنة 1881إلى إنشاء مجمع لغوي فحالت دونه الثورة العرابية، ثم دعا إليه ثانية في سنة 1893 فلبى دعوته العلماء البررة كالشيخ محمد عبدة والشنقيطي والمويلحي وفتح الله وحفني ناصف فلم يوفقوا كل التوفيق، وقام نادي دار العلوم بالعبء، حتى التأم السعي بنشاط الدولة المصرية لهذا الأمر، فتألف مجمع اللغة العربية بمصر، ونشطت قبل ذلك الحكومة الفيصلية بالشام، فكان المجمع العلمي العربي، وشعرت اللغة العربية منذ سرت هذه الروح الطيبة في علماء سائر الأقطار العربية وعلى الأخص مصر

ص: 33

والشام بانتعاش سيرجع بها إلى سيرتها الأولى إن شاء الله لولا ما يعترض ذلك من تفنن بعض أدبائنا وتعلقهم بالأساليب الأجنبية التي لا تتمشى مع استقلال اللغة ومميزاتها القومية الخاصة، ولست أعني بذلك أننا نجمد على القديم، بل علينا أن نماشي التطور الذي لا يدفع بنا إلى نكران ميراثنا، بل يعيننا على تحسينه وتهذيبه بما لا يذهب بمقوماته وخصائصه، وهل يتم لنا ذلك ما لم نتقن لغتنا وخصائصها، بياناً وأسلوباً، ونعرف ما كان عليه قومنا الأولون في نهضتهم الأولى ونجري على سننهم.

نعم إن اللغة العربية غنية بمادتها بحيث تكفي ألفاظها لكل معنى مستحدث وفي كل غرض جديد، كما يقول المنتقد الفاضل، فهل اختيار الأسماء لهذه الطوارئ المستحدثة يؤثر في أصل معناها المراد، وإلام يرجع الناشد لهذا في اختياره؟ أإلى الكلمات القديمة التي استعملت زمن العرب، وفي العصور الأولى، عصور النهضة وقد نعى ذلك المنتقد الفاضل علينا وضرب لها مثلا بالدرهم والدنانير المضروبة زمن هارون الرشيد؟ أو نصوغ لها ألفاظاً جديدة تكون من ضرب هذا العصر وليست من لغة القواميس العتيقة؟

وهل ضرب الدينار العراقي اليوم كون اسمه ديناراً لأن الموضوع له حديث والاسم قديم من ضرب زمن الرشيد؟

نعم، إن على من يعنى بهذا الأمر، وهو من أهله، إذا سنح له الاختيار، أن يختار الأخف الأعذب من الكلمات العربية التي هي أقرب في معناها الأول الذي وردت به عن العرب إلى معناها المستحدث، الذي يراد وضعها له. فإذا أغلق عليه ذلك، ولم يوفق له، انتحى ناحية النحت والاشتقاق والتعريف في الوضع، ولا يتعدى في ذلك كله طريقة الاقتراح، فلا يبت في شيء ما لم يقره أحد المجامع اللغوية، التي لها القول الفصل، فأن خرج عن هذا وعمل كل أديب أو من يشدو شيئاً من الأدب على ذوقه كانت هي الفوضى وأشكل الأمر، والله الموفق للصواب.

النبطية: جبل عامل (لبنان)

أحمد رضا

عضو المجمع العلمي العربي بدمشق

ص: 34

‌من وراء المنظار

طلاب لهو وطلاب قوت وطلاب موت

كل أولئك رأيتهم في ليلة واحدة وفي شارع واحدة لعله أكبر وأحفل شوارع عاصمتنا، وكل أولئك قل أن يخلو منهم شارع من الشوارع الكبيرة في عاصمتنا العظيمة. . .

أما طلاب اللهو فهم أنماط حسب ما يبتغي كل لنفسه مما يلهو به أو يزجي به فراغه، وأكثرهم بادون للأعين في غير حاجة إلى منظار فالشوارع بهم مكتظة، ومنهم فريق هم طلاب اللهو الخفي والعياذ بالله لا يكاد يتبينهم المنظار حتى يرتد عنهم فراراً أو يختفوا هم عنه. . .

وأما طلاب القوت فهم كذلك طوائف وأنماط من الخلق، ولكن دع عنك أصحاب الملاهي والمتاجر، فهؤلاء في الحق طلاب ذهب لا طلاب قوت. . .

وإنما أعني بطلاب القوت أولئك الذين (يسرعون) من بنين وبنات وفتيان وكهول بأوراق (اليانصيب) أو بالصحف أو بصناديق مسح الأحذية أو بصناديق الحلوى أو أدوات الحلاقة أو السجائر أو غيرها؛ ثم أولئك الذين لا تجد في أيديهم شيئاً من هذا وتراهم يتساقطون على الموائد تساقط الذباب، أو يقعون على مقربة منها إقعاء القطط وغير القطط من الدواب ينتظرون لقمة أو يفتشون في قمامة أو يلتقطون ما يلقى من أعقاب السجائر. . .

وطلاب القوت هؤلاء وبخاصة من يطلبونه بغير عمل قذى في العيون بأسمالهم وأذى للنفوس بألفاظهم ومعاركهم وصخبهم. . .

ولكن أكبر ظني أن ولاة الأمر قد اقتنعوا أنهم زينة ينقص بغيرهم جمال العاصمة نقصاناً كبيراً، أو لعلهم أيقنوا أنهم باتوا بحق من ميراثنا القومي ومن تقاليدنا الأهلية، فلو خلت الشوارع منهم بمعجزة من المعجزات لبثت الحكومة عيونها وأرصدت أعوانها حتى يأتوا بهم طائعين فيعود للعاصمة جمالها الذي غاضت بشاشته ورونقها الذي انطفأت بهجته. . . وأما طلاب الموت فأحسب ذهنك أيها القارئ قد وثب إلى أولئك الجنود الذين كانوا يدبون بالعاصمة كالجراد المنتشر، ولكني لست أقصد هؤلاء فقد أراحنا الله سبحانه من عفاريتهم الحمر والسمر والسود إلى غير رجعة إن شاء الله. . .

وإنما طلاب الموت هم أولئك العظام الملقاة على طواري الشارع، والذين يعدون في

ص: 36

الأحياء وهم من الموتى لولا أنفاس ضئيلة في صدورهم تتردد. . .

رأيت خمسة من هؤلاء على مسافات متقاربة، أما أولهم فقد تكور في ثيابه كالقنفذ وبجانبه زجاجة لعله كان يدور بها في نهاره على المستشفيات وتحسبه في الثمانين وقد لا يزيد عن الأربعين.

وأما ثانيهم فغلام في نحو الخامسة عشرة بسط إحدى ذراعيه على الأرض ووضع الثانية على بطنه، حيث موضع الألم أو موضع الجوع وفي وجهه الذابل المتجه إلى السماء صفرة الموت وفي ساقيه أو في عظمتيه الممدودتين فقاقيع حمراء مخيفة تشيع في صفرتها، ولقد حسبت أنه لن يرى وجه النهار. . .

وأما ثالثهم فكهل ضرير ناحل البدن، خائر القوة تدور حول صدغيه من أسفل ذقنه إلى قمة رأسه لفائف بيضاء تحتها قطع من القطن، ولعله قدم بها من إحدى (العيادات الخارجية) واستلقى هنا يطلب الراحة لبدنه بالموت. . .

وأما رابعهم فشيخ تدل لحيته البيضاء ويداه المعروقتان وجبينه المغضن على أنه جاوز السبعين، وقد ألقى عصاه بجانبه ووضع تحت رأسه بعض العلب من الصفيح لعله كان يلعق ما ترك فيها من طعام.

وأما خامسهم فقد آلمني مرآه أكثر مما فعل مرآي سابقيه جميعاً فهو مقطوع اليدين والرجلين كأنه بقية تمثال قديم، ولست أدري كيف يتحرك المسكين وكيف يأكل إن وجد ثمة من أكل!.

وقلت لصاحبي، وقد زفرت زفرة طويلة أيرى الناس هؤلاء كما أرى؟ فضحك وليس المجال مجال ضحك وقال أف لمنظارك، فأجبته بل أف لهؤلاء الذين يملئون الصحف بأسماء المؤسسات والمبرات، والذين يتكلمون كثيراً عن أوجه الإصلاح وأنماط المشروعات. . .

ومضيت وأنا أسال نفسي في أي بلد من بلاد العالم يجتمع فيه شارع واحد بين اللاعبين بالذهب وبين الذين يعيشون كما تعيش الكلاب والقطط، والذين يطلبون الموت فلا يظفرون حتى بالموت؟. . .

الخفيف

ص: 37

‌في سيدي بشر

للأستاذ خليل شيبوب

سلوتُ أحلامي وآمالي

فأكسبتني راحةَ السالي

وحينما عدتُ إلى العقل لم

أجد بديَل الحال من حالي

ما قيمةُ العقل أراني به

أهتاجُ بالتفكير بلبالي

إن الورى حربٌ على جانح

كما يريدون إلى السَّلْم

كلاُمهم أسخفُ من صمتهم

يجري على أَلسنةٍ عجْم

هذا وذا ويلٌ أَلا إنهم

كالبَبَّغَاوات بلا فهْمِ

يا خلجات الصدر طال الأسى

وطال هذا الدقُّ في صدري

إن كنتِ آليتِ لتحصينَ لي

عمري لقد أَفسدتِ لي عمري

فعلتِ في صِدريَ بِالدقّ ما

تفعله القطرةُ في الصخر

نزلتُ سيدي بشر مستشفياً

مما بصدري من أَسىً نازِل

في جنة صَّيرتُها عُزْلةً

ليس بها غيريَ من آهلِ

طريدةُ الجناتِ يثوى بها

طريدُ هَمّ لازبٍ قاتِل

ينعشها البحرُ بأنسامِه

تهبُّ والشاطئ منها بعيدْ

هنالك الأقوامُ قد آثروا

عيشَ اصطهاب وزحامٍ عهيدْ

وهاهنا الأمنُ لمستنجدٍ

بالأمن من ذاك الصراع العتيدْ

صحراءُ إلا أن واحلتها

معروشة الأشجار بين الرمال

مِثْلَ بقايا الحبِّ في مهجة

أحرَقها اليأسُ وكرُّ الليال

قد حَفلتْ بالحسن داراتُها

واتسقتْ في صدرها كاللآل

تطيفُ بي منعرجاتُ اللوى

كل كئيبٍ معقلٌ ناهضُ

والرمل معقودُ الثَّنَايا بِه

يستمسك الرافعُ والخافضُ

أُلقى بجسمي فوقه متعباً

يثورُ فيه قلبي النابضُ

قلبي أُداريه هنا عاكفاً

عليه وهو الهادئ الوادع

أخشى عليه رجَعات الهوى

إنَّ الهوى أَقْتَلُهُ الرايلّتزم الصَّمْتَ ولكنني=رَوَّعَ لبى صمتُهُ

ص: 39

الرائع

أَلم تزَلْ تذكُرها بعدما

عرفتَها في الحب خوَّانهْ

حبيبةٌ كانت وزالت وهل

تدومُ للإنسان إنسانَهْ

والحب لو صفَّيْتَهُ وازناً

لَرجَّح الزَّائف ميزَانَهْ

يا هذهِ لو ينفعُ العَقْل في (م)

الهوى لحكمتُ لك العقلا

وهبتك العمرَ فلم تُحسني

أخذاً له بل زدتِه خَبْلا

وإنَّ حسنَ الأخذِ فضلٌ وما

عرفتِ يوماً ذلك الفضلا

لَاحقني طيفُك في عزلتي

ماذا يريدُ الطيفُ من ناسي

ألا أرى لي راحةً بعد ما (م)

اعتصَمْتُ بالبعِد عن الناس

إن ضلالي ليَ عينُ الهدى

ووحشتي مبْعَثُ إيناسي

يا ليلَ سيدي بشر رفْرفْ على

وجهي بشف من نسيم البحار

ينتعش القلبُ به بعدما

أوْقدَ فيه اليأسُ أتوُّن نارْ

روائحُ الأمواج والرمل في

بردَيه تشفى من لهي الأوُارْ

ترمقني هِذي النجومُ التي

فوقي بعين الشاهِد المشْفِق

والأفق مبهوتُ الحواشي به

يختلطُ الأسوَدُ بالأزرق

والغيمُ قد راحت جماعاتهُ

طرائدَ المغرِب والمشرق

وخيَّم الصمتُ فلا نبأةٌ

إلا قطارٌ صافرٌ يعبرُ

له صدًى في الرمل ترجيعُه

هريرُ كلبٍ جاٍثم يخفر

وغارت الأعلام في حلكةٍ

تحدجها العينُ ولا تبصر

ثم تراَءى قمرٌ طالعٌ

في الشرق خلفَ الغيم مستهلَا

أكدرُ إلا أنهُ كلما

علا صفت صفحتُه وانجلى

وفضَّض الرمل بأضوائه

فوقَّ ثوبُ الليل مسترسلا

ياربِّ هذي ساعةٌ سرها

يملأ نفسي فيضُه الغامر

يكاد ينشقُّ بها الغيبُ لي

عما حواه العالم الآخرُ

إن كان نام الكون حولي فهل

يكفيكَ منه قلبي الساهرُ

ص: 40

خليل شيبوب

ص: 41

‌تعقيبات

واحد من ثلاثة:

كتب إلى أديب فاضل يقول: (رأيتك أيها الجاحظ في عدد الرسالة السابق تحمل على جريدة المانشستر جارديان فيما زعمته من أن أكبر عائق في سبيل نشر التعليم بمصر، وبالتالي في تحقيق التقدم الاجتماعي في شتى النواحي، هو الاختلاف الكبير بين العربية الفصحى واللغة العامية الدراجة، ثم دعوتها إلى الانحدار بالفصحى إلى مدارج العامية، ولكنك تغاضيت عن رأي مماثل أبداه الأستاذ أحمد أمين في مقال كتبه منذ شهور بمجلة المستمع العربي التي تصدر في لندن، وزعم فيه أن جمهور الشعب في مصر لا يصل إليه الأدب. . . الذي يثقفه ويعلى مستواه ويرقي ذوقه ويهذب عواطفه، وذلك لأنه ليس عندنا أديب للعامة وإنما كل أدبائنا للخاصة، والسبب في ذلك - كما يقول - هو وجود لغتين: لغة عامية ولغة فصحى. وأننا إلى الآن لم ننجح في التوفيق جع

بينهما. فماذا تقول أيها الجاحظ في هذا الرأي الذي يراه شيخ من شيوخ الأدب في مصر؟! وكيف تسكت عن هذا الرأي يخرج من مصر ولا تسكت عنه إذ يأتي من أوروبا؟!).

وأنا أحب أن أقول (للأديب الفاضل) قبل كل شيء إن الأستاذ أحمد أمين ليس من شيوخ الأدب، وإن من الظلم أن نحشره بين الأدباء، وإنما هو رجل باحث يتحلى بصبر العلماء، فغاية ما تؤهله إليه مواهبه أن يعكف على مراجعة آراء السابقين، فيقابل بينها، ويرتبها، ويعلق عليها بما يبدو له في ثناياها، وإنه ليظلم مواهبه ويتكلف الشطط إذ يزج بنفسه في مضمار الأدب، وإنه ليخرج على طبيعته خروجاً متكلفاً إذ يمضي على طريقة الأدباء فيمد بصره إلى (النظر في النجوم)، أو يجلس لمداعبة (صندوق الكتاكيت). . .

وإذا كان الأستاذ أحمد أمين يقول إن وجود لغة عامية ولغة فصحى هو العائق في سبيل توصيل الأدب إلى العامة، وأن الواجب، كما يفهم من قوله، أن نوفق بينهما، فإني لا أناقشه في هذا الكلام، ولكني أسأله أن يتقدم فيأتي لنا بأسلوب خليط من العامية والفصحى لنرى أي شيء يكون هذا الأسلوب الخليط، ولعله يوفق في هذا فيكون صاحب طريقة في الأسلوب تؤثر عنه، وتعرف فيما بعد بالطريقة الأحمدية الأمينية، كالطرق الجاحظية والعميدية والفاضلية التي عرفت في أساليب الجاحظ وابن العميد والقاضي والفاضل. . .

ص: 42

ألا رحم الله الرافعي ونضر قبره، فقد كشف عن العلة في هذا الرأي المريب إذ قال في إحدى مقالاته: (إني لا أعرف من السبب في ضعف الأساليب الكتابية والنزول باللغة دون منزلتها. إلا واحداً من ثلاثة، فإما مستعمرون يهدمون الأمة في لغتها وآدابها لتتحول عن أساس تاريخها الذي هي به أمة ولن تكون أمة إلا به، وإما النشأة في الأدب على مثل نهج الترجمة في الجملة الإنجيلية والانطباع عليها وتعوج اللسان بها؛ وإما الجهل من حيث هو الجهل أو من حيث هو الضعف، فإنه ليس كل كاتب ببليغ، ولا كل من ارتهن نفسه بصناعة نبغ فيها وإن هو نسب إليها وإن عد في طبقة من أهلها، والكتابة صناعة لها أدواتها، وفيها النمط الأعلى والأوسط وما دون ذلك. . . أفمن الرأي أن نعين المستعمرين على خصائصنا ومقوماتنا أو نتخذ في اللغة أديانا شتى، أو نجعل قياس العلم من الجهل في بعضه والضعف عن بعضه، وإلا فماذا بقى بعد هذه الثلاثة مما ينفسح له جانب العذر إذا نحن قلنا بمذهب جديد في اللغة. . .!!

(أحسب إخواننا في مصر أنهم كانوا يحسنون اليوم شيئاً من الكتابة الفصيحة لو لم يكن في العصر الذي خلا من قبلهم أمثال السيد جمال الدين ومحمد عبدة وعلي يوسف والبارودي والمويلحي وغيرهم ممن دفعوا الاستعمار عن اللغة ببلاغتهم وردوا أساليب السياسة اللغوية بأساليب الفصاحة، وأشرعوا دون الميراث العربي أقلامهم، وحاطوه بألسنتهم، وحفظوه بعقائدهم حتى أمنوا عليه أن ينقص أو يمحق). . .

وبعد، فتلك هي العلة، وذلك هو الأصل في هذه الدعوى المربية، وإن من دلائل الريبة أن تظهر هذه الدعوة وتتطاول بها رءوس دعاتها في وقت يجاهد فيه أبناء العروبة لدعم الروح العربية وتآلفها وإقامتها رباطاً وثيقاً بين أبنائها وأقطارها فيأبى هؤلاء إلا أن ينقضوا ذلك الرباط بالدعوة إلى العامية. . . والأمية. . .

على أني لا أتهم الأستاذ أحمد أمين، ولكني رأيته ينادي بدعوة مريبة فكان لابد أن أكشف عن الأصل فيها، وإني لمنتظر من الأستاذ الفاضل أن يقدم لنا نمطاً من ذلك الأسلوب الذي يراه في التقريب بين العربية والعلمية.

الفن للاشتراكية!!

تقول برقية من موسكو: إن الحزب الشيوعي قد قام بحملة في الأشهر الأخيرة لتخليص

ص: 43

الفن السوفيتي من آثار البرجوازية الغربية، وتقول البرقية: إن هذه الحملة قد كللت بالنجاح، فأصبحت الكتب والروايات والمراقص ودور الأوبرا والسينما وغيرها من معارض الفن مصبوغة بصبغة الجهاد الاشتراكي، فهي لا تعرض إلا إلى إظهار سمو المواطن الروسي والدعاية للسياسة الشيوعية في تذليل مصاعب الإنتاج والحياة المنزلية والشئون الدولية، فإن جاوزت هذا الهدف فإلى إظهار الأخطاء التي ارتكبت في معالجة هذه المسائل في دول الرأسمالية.

وقد ذكرني هذا الصنيع بما عمدت إليه النازية الهتلرية في ألمانيا من قبل، إذ أصدر (جوبلز) أمراً يحرم به على النقاد عرض الموضوعات وبسطها دون التعليق عليها أو إبداء الرأي فيها، وقال في تعليل هذا الصنيع:(إن الفن لا يفقد شيئاً إذا ما بعد أولئك النقدة الأغرار من الميدان، إذ العظمة الزائفة تسقط من غير أن يسقطها النقد، أما أصحاب العظمة الحقيقة فيجب أن يسمح لهم بحريةالابتكار والاحتفاظ بكرامتهم الفنية)، والواقع أن ذلك الداعية النازي لم يكن يقصد بهذا العمل إلى حماية (أصحاب العظمة الحقيقية) وإنما كان يقصد إلى وضع الإنتاج الأدبي تحت سيطرة السياسة، وتسخيره للدعاية النازية. . .

وهذه محاولات باطلة، لأنها مصادمة للأدب في طبيعته ومصادرة له في مهمته، فإن الأدب - كما يقول مكسيم جوركي أديب روسيا الشيوعية - يجب أن يتلمس الإنسانية من جميع أطرافها، وأن يخاطبها بالإخلاص المنبثق من أعماق الروح الطاهرة، وأنت إذا ما نظرت ملياً إلى هذا الاتجاه ظهر لك الغرض الخطير الذي يقصد إليه الأدب، وهو الذهاب بسائر الفروق ووجه الخلاف والنزاع القائم بين الناس وإنقاذ الإنسانية من شر هذا التنازع، والتغلب على قوى الطبيعة الغامضة المرهوبة، ويوم يحقق الأدب ذلك يصبح دين الإنسانية جمعاء.

ديناً يشمل كل ما حوت الكتب المقدسة في عبادات الهند القديمة، وفي كل ما جاءت به التوراة والإنجيل والقرآن. . .

وماذا يصير إليه الأدب أو يكون إذا ما عمدت كل حكومة في كل دولة إلى جعله أداة مسخرة لأغراضها، وحتمت على الأدباء أن لا يتكلموا ولا ينتجوا إلا في حدود مرسومة وأغراض معلومة مثل رجال السياسة، إنه لا شك سيفقد صفته الإنسانية، ويصبح مثار

ص: 44

الحزازات والخلافات، ومبعث الأحقاد والعدوات، ويصبح مثار الحزازات والخلافات، ومبعث الأحقاد والعدوات، ولن يكون الأدب أدباً يومذاك، ولكنه سيكون الجحيم الذي لا يطاق. . .

إن روسيا لا تخدم حياتها الفنية بهذا العمل، ولن تستطيع إذا ما أصرت على هذا الصنيع أن تجعل أدبها صلة تربطها بالعالم الإنساني، وعن قريب سيفقد الأدب الروسي الروح الإنسانية التي تجعله قريباً إلى كل نفس، حبيباً من كل قلب، وإنها لخسارة على روسيا لا أي نظام اشتراكي أو شيوعي في الأرض. . .

الفن الفن، تلك هي الحقيقة الأزلية التي كان بها الأدب صورة للطبيعة الإنسانية، أما الفن للاشتراكية أو لأي نزعة سياسية. فذلك لا يكون إلا في تقدير الجشع السياسي، على أنه تقدير لن يثبت أبداً.

(الجاحظ)

ص: 45

‌الأدب والفن في أسبوع

بشار في الإذاعة:

أذاعت محطة الإذاعة موضوعاً عن (بشارة بن برد) أعد على النسق الذي تسميه (برامج خاصة) والذي يقوم على الرواية والتمثيل. . .

وكانت المحطة قد أعلنت عن هذا الموضوع على أنه فاتحة برامج من نوعه تصور رجال الأدب والشعر الماضين، ولابد أنها أرادت بذلك أن تجدَّ في عهدها الجديد، وتقدم للمستمعين من محبي الأدب مادة نافعة تستعين على جذبهم إليها بحسب العرض في هذا النسق التمثيلي الإذاعي؛ وهي رغبة محمودة، ولكن هل تحقق المرجو منها؟

بدأ (الرواية) يحدث عن نسب بشار، واستمر يسرد بعض أخباره وقام الممثلون والممثلات في أثناء ذلك بتمثيل كل حال تنبئ عنها تلك الأخبار التي اختارها واضع البرنامج من أخبار بشار المنتثرة في كتب الأدب. . .

وهذا الذي اختير وتألف منه الموضوع لم يكوَّن لبشار الشاعر هيكلا حياً، ولم يعط صورة صادقة لحياته وشعره، بل كان أهم ما قام عليه البرنامج أن بشاراً نشأ صبياً يقول الشعر في شتم الناس فيضربه أبوه بالعصا، وكبر وهو يهاجي الشعراء، ثم يهجو الخليفة ووزيره، مما أدى إلى اتهامه بالزندقة وضربه بالسوط حتى يموت. ويلخص (الرواية) حياة بشارة بقوله في آخر البرنامج: وهكذا قضى حياته بين العصا والسوط!

وقد تعودنا أن نسمع اللحن أي الخطأ في نطق الكلمات العربية من إذاعتنا. . . ولكن كنت أتوقع أن يتجنبوا هذا ويتحروا الضبط ويلتزموا صحة النطق في مثل هذا الموضوع الأدبي العربية البحت، ولكنهم لم يفعلوا. . ولو تجاوزنا عن لحن الرواية وغيره فلا يصح التجاوز في ذلك يعوضها لبشار نقصه، فلا يليق به أن يلحن وألا يحسن ضبط شعره، فقد آذى أسماعنا الذي مثله أو مثل به - بقوله في صوت مجلجل:

(ويحك) بضم الحاء. . . وكررها في مواقف مختلفة متعددة ولما أنشد هذه الأبيات:

إذا بلغ الرأي المشورة فاستعن

برأي نصيح أو نصيحة حازم

ولا تجعل الشورى عليك غضاضة

فإن الخوافي قوة للقوادم

وما خير كف أمسك الغل أختها

وما خير سيف لم يؤيد بقائم

ص: 46

نطق كلمة (نصيحة) في البيت الأول بالنصب، ولفظ كلمة (الغل) في الثالث بفتح الغين.

واكتفى بتلك الأمثلة، وهي قليل من كثير، لأذكر بعض الملاحظات في التأليف والتمثيل، فقد ذكر أن (عبدة) صاحبة بشارة أتت إليه في خمس نسوة يطلبن منه شعراً يندبن به قريباً لهن قد مات. والذي نعلمه أن عبدة كانت إحدى القيان المتأدبات اللائي كن يقصدن بشاراً ليسمعن شعره، وكن يعابثنه ويغنينه؛ ولعل هذا كان فرصة يحسن انتهازها في موضوع الإذاعة لتقديم إحدى المغنيات لتغني قطعة رقيقة من شعر بشار.

ولم يكن من السائغ أن يرفع النسوة الخمس أصواتهن بضحكة مفردة وقد جئن حزينات على فقيدهن يطلبن شعراً لندبه. . . لم يكن من المفهوم أن يقول أحد الذين جاءوا يشكون بشاراً إلى أبيه لهجائه إياهم: (فقه برد أغيظ لنا من شعر بشار) قبل أن يقول لهم برد: إنه أعمى وقد قال الله تعالى (ليس على الأعمى حرج) وما أظن هذا الممثل كان يعي ما يقول!

وبعد فإذا كانت (البرامج الخاصة) التي تريد محطة الإذاعة أن تذيعها عن أعلام العرب، ستكون على هذا المنوال، فخير لها وللأدب ألا تستمر فيها، بل يجب إعداد (تسجيل) بشار وعدم تكرار الإساءة بإذاعته.

هنا كما هناك:

كتب الأستاذ فرج جبران إلى (الأهرام) من أمستردام يصف زيارته للمعهد الشرقي في ليدن الذي يشرف عليه بعض المستشرقين، فقال (وفي هذا المعهد يجد الزائر نفسه محاطاً بالكتب العربية، ويسمع هؤلاء الأساتذة يتكلمون العربية، ويسألونه عن أحدث المؤلفات التي ظهرت وعن أخبار المؤلفين المصريين وغيرهم من أبناء العربة) ثم قال إنه يقصد إلى أن يوجه انتباه ولاة الأمور في مصر إلى مجهود ضخم هو وضع (المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي) الذي شرع فيه المستشرقان ونسنك ومنسج، ولكنه لم يتم إلى اليوم لأن إتمامه يحتاج إلى معاونات مالية وأدبية منتظمة، وقال الكاتب:(وإن هذه المستعمرة العربية التي تعمل هنا في صمت دون أن يسمع بها عنها أحد لتتطلع إلى مصر، رافعة لواء الأدب العربية في الشرق، لكي تقدم لها يد المعونة).

وعلقت (الأهرام) على ذلك بدعوة وزارة المعارف إلى الاهتمام بهذا المشروع عن طريق مجمع فؤاد الأول للغة العربية (لأن وضع مثل هذا المعجم المفهرس داخل في اختصاصه

ص: 47

وفقاً لأحكام المرسوم الملكي بإنشائه).

ولا أظن أن لدى المجمع من الجهد ومال ما ينفع في ذلك المشروع، على أن الأعمال الداخلة في اختصاصه إنما يقوم هو (لا غيره) بها، وفي المجمع نفسه مشروعات وأعمال لم تتم بعد، رغم مضي الزمن الطويل عليها، كالمعجم الوسيط، ومعجم فيشر، ولا يتوقع تمامها للتقتير عليها في الجهد والمال.

وفي غير المجمع أعمال أدبية معطلة شملها بطئ الأداة الحكومية، كالكتب العربية التي كان يقوم بإحيائها القسم الأدبي بدار الكتب المصرية.

فهنا كما هناك، بل أكثر، وإن كان لما هنا لون خاص، يكسبه من التراخي مع وفرة الوسائل.

هل في مصر أديبات؟

وجهت بعض المجلات اللبنانية هذا السؤال إلى قرائها، فعلق عليه كاتب في مجلة (صوت المرأة) بأن هذا السؤال يحمل في طياته الشك في وجود أدبيات بلبنان، وقابل السؤال بسؤال مثله: هل في لبنان أدباء؟ وهو يقصد بالأدباء الذين يشك هو أيضاً في وجودهم بلبنان - المثاليين الذين ذكر وصفهم - وقد نقلته (الكاتب المصري) في عددها الأخير، كما نقلت عن مجلة (المرأة) الدمشقية ما كتبته بها (نديمة المنقبادي) في مثل ذلك قالت:(فالمجهود الأدبي يقوم الآن في كافة نواحيه على الرجل وحده. . . أما المرأة في بلادنا فما أعتقد أنها سارت في ذلك شوطاً بعيداً أو قريباً، وإذا حدث أن ظهرت مؤلفات أدبية لبعض الكاتبات فهي من الندرة بحيث تعد في يسر وسهولة)

وأنا أيضاً أسأل: هل في مصر أدبيات؟ أستطيع أن أعد نحو ثلاثين أدبياً في مصر لهم شأن وأثر في العالم العربي، فهل لدينا أدبيات من هذا الطراز؟ كدت أرجع عن هذا السؤال لأني ذكرت واحدة. . . ثم ذكرت أخرى (على سبيل جبر الخاطر) ولكني أصررت عليه لأن هاتين اثنتان وأنا أسأل عن (أدبيات) وأقل هذا الجمع ثلاث. . . فهل من مجيب؟

الاتحاد الثقافي المصري:

وأخيراً حل (الاتحاد المصري الإنجليزي) وتقرر أن يقوم على أنقاضه (الاتحاد الثقافي

ص: 48

المصري) وهي فكرة موفقة من غير شك، ولكنا لا نجب أن يعقب إشادتنا بفكرة الاتحاد الثقافي الجديد ما أعقب الإشادة بفكرة ذلك الاتحاد المنحل. . .

والذي أعقب ذلك أن ارتمي بعض كبار المصريين من المستوزرين و (المتعهدين) في أحضان الانجليز، فكان ما كان.

أما الذي نريده الآن فأن لا تعلو القبعة ثقافتنا. . . عندنا قوم يروجون للثقافة الفرنسية، وآخرون للانجليزية، وغيرهم لغيرها؛ وهم يستهلكون أنفسهم في ذلك غير مرتكزين على قاعدة من الثقافة العربية.

نريد أن تكون ثقافتنا هي ذات الحجم الأكبر الذي تنجذب إليه الأجرام الصغيرة.

الطالب يساهم في بناء عالم جديد:

نظمت جمعية الشبان المسيحية بالقاهرة مؤتمراً للطلبة اشتركت فيه وفود الطلاب التي تمثل فروع الجمعية في الإقليم. وكان موضوع هذا المؤتمر (الطالب يساهم في بناء عالم جديد) وقد ألقى الأستاذ محمد شفيق غربال بك وكيل وزارة المعارف كلمة في حفلة افتتاح المؤتمر، أشاد فيها بفكرته ورجا أن تتسع في المستقبل حتى تشمل طلبة سائر الأقطار العربية ليتحقق بينهم التعاون الثقافي المنشود:

وفي اليوم التالي ألقى الدكتور إبراهيم سلامة محاضرة في موضوع (الطالب يساهم في بناء عالم جديد - في محيط الأسرة والنادي والجماعة) بين فيها واجبات الطالب في الأسرة من النواحي الاقتصادية والثقافية، بأن يكون منتجاً، فطالب الآداب - مثلا - يمكن أن يشتغل بالصحافة، ويمكن الصحف أن تستعين به في تكوين معلومات تحفظ لديها (أرشيف) عن العلماء والسياسيين وغيرهم من كبار الرجال.

ومن واجب الطالب بأن يذيع في الأسرة ما يتلقاه في المدرسة والجامعة من ألوان الثقافة والمعرفة، وعلى الطالب والطالبة أن يسهما في تربية الذوق الفني في الأسرة بإشاعة الهوايات الطيبة فيها كالرسوم والموسيقى، حتى لا تشتري الأسرة السرور الرخيص من السوق في أفراحها ومجتمعاتها، وحتى لا يندفع الشاب إلى دور الملاهي اندفاعه الخطر على الأسرة من الناحتين الخليقة والاقتصادية.

ثم قال الدكتور إن الطالب يمكنه أن يحدث في النادي تفكيراً جديداً في عالم جديد، من حيث

ص: 49

إزالة الفوارق لأن النادي تسوده الديمقراطية، والديمقراطية الحقيقية أساسها نبل العمل لا نبل الوراثة؛ ومن حيث الاحترام المتبادل بين الأعضاء المشتركين في الفكرة والغاية؛ ومن حيث المساهمة العقلية التي تتاح لها الفرصة في النادي أكثر من المدرسة، لأن عضو النادي يجد لذة في إظهار المعرفة، بخلاف ما يكون في الجامعة حيث تدفعه المنافسة إلى الأنانية.

وقد عرض الدكتور سلامة لمسألة تعدد النوادي، فتساءل: هل الأوفق أن يكون النادي لأبناء الثقافة الواحدة أو لأبناء الثقافات المختلفة؟ ثم قال: تلك مسألة خطيرة لأنها أسفرت في بلادنا عن تمزيق لا ينفع عالم اليوم، ولا يمكن أن ينفع عالم الغد. وظهر هذا التمزق في الأحزاب السياسية، وجبر السياسيون هذا النقص بالبرلمانات، فلا بد لنا إذن أمام تمزق النوادي من عمل اتحادات جامعة لكل مجموعة منها ابتغاء الانسجام وتكوين الوحدة التي تعتبر أساساً للقومية والعالمية. . .

وانتقل بعد ذلك إلى واجب الطالب في محيط الجماعة فقال: يخرج الطالب من الأسرة إلى النادي ومنه إلى الجماعة وهي هنا الوطن والقومية، انتظاراً لإعداد النفوس للعالمية، والطالب في غمار الجماعة لابد من أن يلتزم مبادئ ثلاثة:

1) أن يلحم الاتصال بقومه وأن يعتز بمصريته ويعتقد أنها مدنية ككل المدنيات وأنه ليست هناك مدنية واحدة نموذجية تفرض فرضاً على مدنيته، ومن هنا يتكون رأي عام للقومية السياسية والقومية الخلقية. 2) روح النظام، والنظام أحياناً معناه الحرمان، فتمثل غيرك في كل تصرفاتك، واعلم أنك ستؤذي غيرك بعملك الضار كما أنه سيقع إثمه عليك حتما.

3) الحرية المطلقة، فلست حراً في الأسرة ولا في النادي ولكنك حر في الحياة، والعلوم تحرر الفكر من الأوهام، ومتى تحرر الفكر تحرر الخلق، ومتى شاعت الحرية أتى اليوم الذي يؤمر فيه الجندي بقتل أخيه الجندي فلا يفعل، لأن الحرية التي فهمها ستضع عقله في رأسه لا في رأس السياسيين الذين يجرونه إلى الحرب كما تجر السائمة إلى المجزرة.

(العباس)

ص: 50

‌البريد الأدبي

الفروسية:

قال الإمام شمس الدين أبو عبد الله المعروف بابن القيم (إمام الجوزية) في كتابه (الفروسية):

الفروسية أربعة أنواع:

أحدها ركوب الخيل والكر والفر بها. الثاني الرمي بالقوس. الثالث المطاعنة بالرمح. الرابع المداورة بالسيوف.

فمن استكملها استكمل الفروسية. ولم تجتمع هذه الأربعة على الكمال إلا لغزاة الإسلام وفوارس الدين وهم الصحابة (رض) وانضاف إلى فروسيتهم الخليلية فروسية الإيمان واليقين والتنافس في الشهادة وبذل نفوسهم في محبة الله ومرضاته، فلم تقم لهم أمة من الأمم البتة، ولا حاربوا أمة إلا قهروها وأذلوها وأخذوا بنواصيها، فلما ضعفت هذه الأسباب في من بعدهم لتفرقها فيهم وعدم اجتماعها دخل عليهم من الوهن والضعف بحسب ما عدموه من هذه الأسباب، والله المستعان!

قلت: لكل وقت سلاح و (السلاح ثم الكفاح) ولكل وقت فروسية حاشى فروسية اليقين والإيمان فإنها لكل زمان، والمدرسة العظمى (الجامعة الكبرى) لهذه الفروسية وتحصيلها وحذقها إنما هي مدرسة (القرآن). وقد كان أبو محمد الحجاج بن يوسف بن الحكم رحمه الله يقول لقائده قتيبه بن مسلم:

(خذ أهل عسكرك بتلاوة القرآن، فأنه أمنع لهم من حصونك).

وكان التالون يفقهون ما يتلون، فيجسرون ويقدمون ذلك الإقدام، ونفر الجن وتهرب الغيلان من قدامهم.

ثم صرنا - نحن معشر الخلف الصالح - نتلو (الكتاب) كتلاوة صاحب النخعي.

(قال رجلا لإبراهيم النخعي: إني أختم القرآن كل ثلاث ليالي.

قال: ليتك تختمه كل ثلاثين وتدري أي شيء تقرأ. . .

يا أيها العرب، يا أيها المسلمون، اقرءوا القرآن، افهموا القرآن فهما صحيحاً عربياً لكي تبلغوا السماء قوة وفروسية وسطوة وعزة وسلطاناً وهناءة وسعادة ومجداً (أفلا يتدبرون

ص: 51

القرآن أم على قلوب أقفالها)!!!

السهمي

إلى الأديب محمد الديب:

يا أخي. أنا لا أوجب على كل قارئ أن يكون عنده نسخة من كتاب (العواصم من القواصم) ولكن أوجب على كل قارئ للرسالة في مصر أن يكون عنده الداعي إلى البحث عن الرجل الذي جعله ينطق العربية، ويديه بالإسلام، وجعل بلده (بلد الأزهر) و (مقر جامعة الدول العربية)، وصاحبة اليومين الخالدين في إنقاذ الحضارة الإنسانية:(يوم عين جالوت) و (يوم المنصورة)، والذي لولاه لكانت مصر اليوم مثل إيطاليا أو اليونان، وأن يعرف هذا الرجل على حقيقته لا من كتاب العواصم والقواصم وحده، بل كل كتاب ذكر فيه ثم يوازن ويحقق ويميز الصحيح من الموضوع، وأن يؤلَّف عنه في مصر من الكتب بمقدار ما ألف عن شكسبير في إنكلترا، ونابليون في فرنسا، وإن لم يكن لهما في الدنيا درهم من كل قنطر من أثره الخيِّر فيها، وأن يكون (يوم الفتح)، أعظم عيد وطني في مصر بلا استثناء. . .

أما كتاب العواصم (وما فهي إلا صفحة عن عمرو، فيها

تحقيق خبر التحكيم)، فإنك حين تريد الاطلاع عليه حقيقة لا

تجد أسهل من الوصول إليه، لأنه مطبوع مملوءة بنسخه

المكتبات. والسلام عليك أيها الأخ ورحمه الله وبركاته. علي

الطنطاوي

إلى الأستاذ محمود عماد:

جاء في كلمة الأستاذ محمود عما في بريد الرسالة (730) قوله (وما الضمير الثاني إلا ضميراً قلقاً نابياً) على نصب (ضمير) وتأكيد النصب بالصفتين، مع أن الصواب الرفع لأن الاستثناء. يمنع عمل (ما). ولولا أن الأستاذ حريص على تصحيح كلام الناس ما

ص: 52

صححت له هذه الكلمة. وعلها من سبق القلم. وله تحياتي.

(ع)

ما زال الضمير قلقا:

قلت في كلمتي (ضمير قلق) المنشور في العدد (730) من الرسالة الغراء، إن الضمير الثاني المضاف الذي نراه هذه الأيام في مثل قول القائل (هذه مسألة لها أهميتها) إنما هو ضمير قلق يفيد ملكية سبقه إليها الضمير المجرور باللام قبله. وقلت إني لم أر مثله في كلام عربي قديم، إلا أن يكون غيري قد رآه فيتفضل بالإرشاد.

وقد انبرى للإرشاد الأستاذ محمد غنيم فقال إن هذا الضمير مطمئن (له أهميته) واستشهد على اطمئنانه بالآية الكريمة (لكم دينكم ولي دين).

والذي رأيته بعد هذا الإرشاد أن الضمير ما زال قلقاً، ودليلي على قلقه قول الأستاذ نفسه، تفسيراً للآية (أي أن دينكم مختص بكم، لا يتعداكم إلى غيركم، ولي دين مختص بي لا يتخطاني إلى غيري).

فإن الاختصاص الذي أشار إليه الأستاذ في الآية غير ملحوظ في قول القائل (هذه مسألة لها أهميتها)، وإلا فهل هو يعني أن هذه المسألة مختصة وحدها بأهميتها، وأن أهميتها لا تتعداها إلى غيرها من المسائل، كما أن الكافرين مختصون وحدهم بدينهم، لا يتعداهم دينهم إلى الرسول الكريم؟ إن كان هذا ما عناه فما جدواه وقصاراه؟ إن عمل الضمير في الجملة غير عمله في الآية. فلم يقصد من الجملة إلا أن المسألة لها أهمية مطلقة، أي أنها مسألة مهمة فحسب، لا قصر أهميتها هي عليها، وعدم إشراك غيرها معها فيها، كما قصرت الآية دين الكافرين على الكافرين.

فالضمير العصري يفيد الملكية المكررة، وضمير الآية يفيد القصر بعد الملكية. ولهذا ما زال الضمير العصري قلقاً في رأيي، وما زالت أرجو التدليل على اطمئنانه وصحته بمثال آخر من القرآن الكريم، أو الكلام العربي القديم، على أن يكون المراد بالمثال (الوصف) الذي أريد وحده في الجمل العصرية، لا (القصر) الذي لا موضع له فيها على الإطلاق.

محمود عماد

ص: 53

سؤال:

طالعت في عدد الرسالة الأخير ذلك البحث القيم للأستاذ الكبير عباس محمود العقاد تحت عنوان (من تجارب المؤلفين) فرأيته قد جاء فيه بكلمة (الغيبورين) مرتين. فقال أولا: (إن الدكتور شبلي شميل قد استطاع أن يفعل ذلك لأن الغيورين على العلم والثقافة أعانوه على طبع المجموعة) وقال ثانياً: (ولكني أقول إن الأغنياء الغيورين على الثقافة يستطيعون أن يقيموا المكتبات العامة).

والذي تعلمناه أنه يشترط في الصفة التي تجمع هذا الجمع أن تكون مما لا يستوي فيه المذكر والمؤنث مثل جريح وصبور وغيور. فإنه يقال رجل جريح وامرأة جريح، ورجل صبور وامرأة صبور ورجل غيور وامرأة غيور. فهل عند الأستاذ الكبير وهو الحجة في الأدب غير هذا فنستفيده منه ونشكره عليه؟

(الزقازيق)

محمد عبد المقصود هيكل

ص: 54

‌القصص

قصة الهواجس

للأديب مصطفى محمود انفض الأصدقاء والصديقات وخلا (الصالون)

إلا من سيدة البيت التي جلست منزوية في أحد الأركان وكأنها ما

زالت تتحدث إلى صديقة وفية لم تشأ أن تتركها كما تركها الآخرون

فجلست إليها تبادلها الهمس وتسر إلى كوامن الأشجان. . . ولم يكن

الحديث إلا حديث النفس تهمس به في ساعات الوحدة فتكشف به ما

انطوى في أعماقها البعيدة.

هتف بها إبليس وقد وجد طريقه إلى عقلها الواعي.

- ألست جميلة؟

فرفعت رأسها إلى المرآة لتتأمل السحر الأسود الذي يكمن في عينيها الواسعتين والعقيق الذي يحتل شفتيها الرقيقتين وهتفت في ألم.

- نعم جميلة. . . رائعة!

فأردف إبليس وقد وجد طريقه ممهداً

- وهذا الجمال ألا يذبل؟

فقطعت حاجبيها وامتلأ جبينها بالتجاعيد وغاضت الدماء من خديها وطالعتها مئات من الصور البشعة ولم تجب، فاسترسل إبليس وقد شاع الحزن في نبراته.

- نعم إنه يذبل. . . ويترك وراءه الأسى والأحزان.

ثم صمت فترة وتركها بين أشتات الهواجس. ثم عاد يقول:

ولكنك جميلة الآن. . . ألا ما أجمل هذه الكلمة (الآن) إنها الكلمة الوحيدة التي تحوي كل شيء. . . فما أشد غفلة الإنسان حينما ينسى بهجة الحاضرة ويتعزى بلذائذ الأوهام.

- جميلة. . . وما الجمال، ولماذا خلق؟

- الجمال. ولماذا خلق؟. وهل خلق الجمال إلا لاجتذاب الفراش.

- الفراش. . . يا للشرير. . حقاً لقد ذكرتني أنه لا يفتأ يتهافت على كما يتهافت على النور

ص: 55

الساطع. . . ولكن هناك زوجي. . . زوجي دائماً.

- آه، هذا الفراش العجوز الذي فقد جناحيه، يا للمأساة كم أضحك حينما أراه يتودد إليك وأسمعه يفتح فمه الواسع الخالي من الأسنان ويقول (أحبك). . . كم يبدو بشعاً قبيحاً ثقيل الظل. . . أليست هذه سخرية مريرة من سخريات الحياة، أين هو من فهمي وصبحي وصفوت من هؤلاء الشباب ذوي الخدود الوردية والدماء الحارة.

والضمير. . . أنسيته؟

- هذا المخلوق الهزيل الذي لا يني يحدثنا بالأباطيل ويهرب بنا من الواقع ليجد كنفاً أميناً في أحضان الخيال والوهم. . . إنه ألذع السخريات التي ابتكرها العقل ليحارب بها فطرة الجسم وطبيعته. . . إني أربأ عن الخضوع لهذا المرض الذي يسمونه الضمير.

- مرض؟!. . . يا للبشاعة؟!

- نعم إنه مرض عقلي. . . يقضي على كل راحة ولذة وصفاء وهناء في الحياة.

وسكت الشيطان بعد أن أوقعها في أحابيله وتركها تعاني الوساوس وتتقلب بين نوازع الشر وتبحث في أعماق نفسها المضطرمة عن الملاذ الأمين الذي تسكن إليه وترتاح إلى نجواه. . . وأخيراً جاءها صوت الخير رقيقاً ملائكياً.

- أنت أيتها الباحثة عن اللذة. . . هل وجدت لذة فيما سلف من أيامك.

- لا. . . ما وجدت إلا الألم.

- وحينما كنت تبلغين أمانيك.

- كانت تبدو هزيلة أمامي وتفقد سحرها الماضي فلا يسعني إبقاء على اللذة وخيالها الحبيب إلا الاستسلام إلى أماني ورغبات جديدة.

- وهكذا ظلت حياتك رغبات وآمال كاذبة، ولذة مفقودة لا تورث إلا الألم والحسرة.

- نعم هكذا ظلت دائماً. . . رغبة جائعة نهمة لا تشبع.

- ولن تشبع.

- نعم لقد بدأت أرى أنها لن تشبع.

- وهكذا الحياة. . . آلام تتفاوت مقاديرها. . . فحسب العاقل أن يخرج منها بالقليل من الألم. . . أما اللذة فهي غاية الأحمق ولن يحصل منها إلا على غاية الألم.

ص: 56

- لقد فهمت الآن. . . فهمت الآن. . . ما أجمل كلام. . . انك حكيم

وسكت الخير قانعاً وانطوى في أعماق النفس بينما أخرج إبليس لسانه السليط وعاد يقول:

ولكن بالرغم من كل هذا الكلام فهناك لذة. . . أولى بالضعيف أن يقول:

(إنني بائس) من أن يقول: (إن الحياة مليئة بالبؤس) نعم صدقيني يا سيدتي إن الحياة مليئة باللذة وهي تنتظر إيماءة من رأسك الجميل لتقدم إليك الحب، تحية الجمال، واللذة ثمرته اليانعة الغضة. فلا تترددي وتذكري أن الزمن يرسم خطوطه الكريهة على الوجه الجميل، وينزع السواد عن الشعور الفاحمة ويطفئ بريق الحياة من العيون المليئة بالحياة. - كفى أيها الشرير. . . كفى.

- ويقوس الظهور التي لم تتعود ذل الانحناء ويتقل الأصدقاء ويشتت الأحباء، ويقدم الصاب والعلقم في كؤوس الوحدة والسأم والمرض وأخيراً يفتح لنا باب القبر على مصراعيه ويهيل علينا التراب. . . ذلك التراب الذي كنا نطؤه بأقدامنا.

- رفقاً بالنفس الضعيفة يا رسول السوء.

- وهو لا يرحم. . . فأولى بنا ألا نرحمه. . . وأن نقتله كسباً ولذة وحياة فعقارب الساعة لن تقف دقيقة واحدة من أجلنا والشمس لنا تقف عن دورتها يوما لتعطينا فسحة للتفكير.

- أنت. . . أنت هو العذاب والجحيم نفسه فكفاني من لهيب ألسنتك يا هاتف الشر. . . فلو لم تتكلم لكنت الآن سعيدة قانعة راضية. . . أما الآن. . . فالويل لي من جحيم النفس. . . الويل.

- عجباً من هذا الإنسان ومن منطقه الأعرج. . . أدفعه إلى اللذة فيقول إنني إبليس اللعين. . . ويسمع هاتفاً آخر يدفعه إلى الألم والعذاب والحرمان فيقول هذا ملاك الخير. . . أليست هذه كبرى مهازل العقل.

وسكت إبليس وهو يبتسم ويرقب الصراع الأليم والعذاب يتجسمان في ملامح المرأة التعسة والدموع تطفر من عينيها والعناء النفسي يبدو في أصابعها الشاحبة الباردة وهي تتصلب وترتعد في عصبية وسمعها تهمس وهي تبكي.

- حقاً ما أضعف الإنسان يشقى في الحياة ويعاني حتى إذا ما سكن وهدأ واستقر. . . شقي في نفسه.

ص: 57

وتيقظ الخير من نومه العميق فقال في نبراته الحزينة.

- نعم. . . لقد أدركت الآن لم أجر ورائي مواكب الألم والحرمان لأني أفضلها على مواكب الوهم.

وسكت هاتف الخير وهاتف الشر وغرقت أصوات النفس في أصوات الحياة حينما امتلأت الحجرة بأشباح صغيرة. . . وقامت المرأة المعذبة تمسح دموعها وتستقبل لوناً جديداً من ألوان الكفاح والعناء.

ومرت الأيام والشهور وتزوجت الشابة الجميلة من شاب جميل. . . فهل ماتت الهواجس. . . وهل حصلت النفس على راحتها؟ لا يا سيدي. . . إن قصة الهواجس قصة حية خالدة ما خلدت النفس فيها هي صاحبتنا التعسة في (صالون) آخر ربما كان أبهى وأجمل من زميله القديم ولكنها لا ترى هذا الجمال ولا تشعر به بل ترى بعين النفس وفي مرآتها عشرات من أشباح النساء الجميلات تلتف كالأفاعي حول الزوج الجميل. . . وتسمع صوت إبليس يصرخ.

- إنه لم ينم هنا البارحة وتعلل بالأسباب والمعاذير. . . ولكن من يدري في أي أحضان قضى تلك الليلة. . . يا لك من ساذجة. . . لماذا لا تقابلين الخيانة بالخيانة. . . إن أمين يتمنى لو.

وتكاد تضعف وتخضع حينما تسمع صوت الخير يهتف.

- يا للمسكين. لقد بات ليلته مسهداً يفكر فيك ويستعجل أنوار الصباح ليلقاك. . . يا له من زوج وفي.

وتحار الزوجة التعسة وتتعذب، وليست هذه هي المرة الأولى التي تحار فيها وتتعذب. . . فقصة الهواجس تكون حياتها كما تكون حياة كل إنسان وحياة كل نفس فما أشقى نفوسنا نحن البشر وهي تتمزق تحت ضغط القوة الهائلة التي ركبت فيها.

مصطفى محمود

ص: 58