الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 733
- بتاريخ: 21 - 07 - 1947
الأدب بين الوجدان والتفكير
للأستاذ عباس محمود العقاد
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد. إن القارئ يفهم من بعض الكتب الحديث أن الأدب فن، والفن يختص بالوجدان، فعلى ذلك ماذا يكون حكمنا على الإنتاج الذي يغلب عليه الطابع الفكري؟ أرجو أن اقرأ ردكم على صفحات الرسالة، ولكم وافر الشكر والسلام.
فتحي السمن محمد
إذا قلنا الأدب (يختص) بالوجدان ففي هذا القول جانب كبير من الصواب.
ولكننا إذا قلنا هذا وسكتنا عليه فقد يفوتنا أكثر الصواب، يجمع الفائدة من المعني المقصود في هذا الباب.
فأي وجدان هو هذا الوجدان للذي يعتمد عليه الأدب أو يعتمد عليه الفن أو الفنون على التعميم؟
أن الإنسان الهمجي له وجدان وشعور، ولكن وجدانه يكتفي بما يكفي غريزة الحيوان أو يزيد قليلا على غريزة الحيوان.
والإنسان (الصوفي) له وجدان وشعور، ولكنه إذا عبر عن وجدانه وشعوره دق تعبيره على عقول الكثيرين أو الأكثرين
فليس شرط الوجدان أن يكون مقصورا على أجهل الناس وأعجزهم عن التفكير.
لأننا لا نرادف بين معني الجهل ومعني الوجدان في اللغة ولا في مصطلحات الفنون والعلوم.
هذه حقيقة من الحقائق التي يحسن بنا أن نحضرها في إخلادنا حين نعرض لحديث الفن والجدان.
وحقيقة أخرى ينبغي أن نحضرها في إخلادنا أبداً لأن إغفالها يفسد كل تعريف مفيد في هذا الباب، وهي أن الأدب الرفيع لم يخلو قط من عنصر التفكير، وشاهدنا على ذلك أدب الفحول من شعراء الأمم العالمين، ومنهم أمثال شكسبير وجيتي والخيام وأبو الطيب.
ونخص الشعراء بالذكر لأن صدق هذه الملاحظة فيهم يجعلها أقمن بالصدق على الأدباء الناثرين.
فأغاني شكسبير مثلا سلسلة من الأفكار التي يمزج فيها الفهم بالشعور، ودع عنك قصائده التي نظمها في الروايات أو أجراها على السنة الرجال والنساء. فأن شعر الأغاني أحق شعر أن يقصر عليه (الوجدان) إذا صح ما يفهمه بعضهم من الأغراض الوجدانية وخلوها من التفكير.
وقصة (فاوست) الكبرى - وهي أعظم أعمال جيتي - هي فلسفة الحياة والبقاء، وفلسفة الخير والشر، وفلسفة المعرفة والضمير.
وليس فهمها بأيسر من فهم قضايا المنطق أو معادلات الرياضة والكيمياء.
ورباعيات الخيام يصح أن تسمى (فكر الخيام) لأن الرباعية منها تدور على فكرة أو خلاصة أفكار ولا يمنعها الشعور أن تكون شعور إنسان من المفكرين.
والحكم على المتنبي ميسر لمن يقرأ العربية وحدها ولا يقرأ غيرها من اللغات.
وليس في قصائد المتنبي قصيدة واحدة يقول القائل إنه أهمل الفكر فيها، أو إنها وجدان بغير تفكير.
ومن أمثلة ذلك هذه (القضية) التي صاغها في بيت من الشعر حيث يقول:
وإذا لم يكن من الموت بد
…
فمن العجز أن تموت جبانا
أو هذه القضية التي صاغها في هذا البيت:
وإذا أتتك مذمتي من ناقص
…
فهي الشهادة لي بأني كامل
أو هذه التقسيمات الوافية التي يقول فيها.
تصفو الحياة للجاهل أو الغافل
…
عما مضي منها أو ما يتوقع
ولمن يغالط في الحقائق نفسه
…
ويسومها طلب المحال فتطمع
فأن التفكير إذا ذهب في هذا المعني إلى غايته لم يأتي فيه بمزيد بعد الجهل والغفلة والمغالطة في الحقائق. وهي شروط صفاء العيش في حكمة هذا الحكيم، أو في شعور هذا الإنسان.
وندع الشعر إلى الغناء والموسيقي، وقد يخلوان من اللفظ ولا يخلوان من التفكير.
فنشيد الرعاة وجدان.
والحان فاجنر وجدان.
ولكن الفرق بين الوجدانيين كأبعد فرق بين شيئين يوجدان في طبيعة إنسان.
ومن الحقائق التي تحضر في هذا السياق أن نقص الفكر ليس بزيادة في الحس والوجدان، وان زيادة الفكر لا تمنع الإنسان أن يحس وان يتسع وجدانه لأوسع آفاق الحياة.
فقد ينقص فكر الإنسان وينقص حسه على السواء، وميزة الإنسان دائما أن يحس إنه يفكر وان يفكر إنه يحس، وان يكون نصيبه من الإنسانية على قدر نصيبه من الفكر والإحساس، فليس هو بإنسان كامل إذا خلا من التفكير، ولا يكون الأدب كاملا وهو يعبر عن إنسان ناقص في الزم مزاياه.
وللأدب بحوث غير بحوث العلم والدراسات الاجتماعية أو الاقتصادية.
فهل تحسب هذه من الأدب أو لا تحسب منه لأنها تحتاج إلى تفكير؟ وهل يمكن أن يتم بحث بغير تفكير ولو كان من البحوث في الشعر والإحساس؟
فالبحوث الأدبية أدب وليست علما بالمعني المعروف للعلوم التجريبية، لأن البحوث العلمية تتفق في النتيجة ولو جرت على أيدي مئات من العلماء. وقد يبحث ألف ناقد في ديوان واحد ثم يخرجون منه وكل منه ينقض أقوال الآخرين أو لا يلتقي بهم في موقع لقاء. وإنما يفعلون ذلك لأن الباحث منهم يعتمد في فهم المعني على مرجعه من الإحساس، فيفهم الإحساس على وجه ويفهمه غيره وجوه. ولا يقال من اجل ذلك أنهم ينبغي أن لا يفهموا أو لا يفكروا لأنهم يحسون!
وبعد، فأن الإحساس طبقات وليس بطبقة واحدة بين جميع الناس.
وكل طبقة من هذه الطبقات فهي لغز مغلق بالنسبة إلى من يقفون دونها ولا يرتفعون إليها، فإذا عبر أحد منها عن شعوره ولم يفهمه الذين يقصرون عنها ويهبطون دونها فليس ذلك بمخرجه من أفق الشعور الذي هو فيه، ولكنه يخرجهم من ذلك الأفق الرفيع.
ولعلنا بحاجة إلى التنبيه إلى سخافة شائعة في مصر والشرق بين أدعياء الإحساس ممن لا يحسون ولا يفكرون، وهي اعتقادهم أن الإحساس والتخنث مترادفان. ويوشك أن يموت الإنسان عندهم من فرط الإحساس، لأنه يحس في زعمه بمقدار ما يتراخى ويتخاذل ويئن وينوح!.
وأحوج ما يحتاج إليه هؤلاء المتأنثون (مزعج) قوي ينقذهم من (فرط الإحساس) على
مذهبهم الذي لا فرق فيه بين فرط إحساسهم وبين الموت. . . أو الإغماء على أهون تقدير: صفعة على القفا هي (جرعة) نافعة ناجعة في علاج هذا الداء. صفعة على القفا بقلم الكاتب، أن لم تكن بالقلم المعهود في لغة الأكف والأقفاء!
ونخلص من هذا جميعه إلى قول واحد يجمل جميع الأقوال في الفن والأدب، وهو أن الفن والأدب وجدان ولكنه وجدان إنسان، ولا يكمل الإنسان بغير الارتفاع بطبقة الحس والارتفاع بطبقة التفكير فلا يخلو الأدب المعبر عنه من هذا وذاك، ولا يقاس نصيبه من الحس بمقدار نقصه في التفكير، ولا يقال أن أحس تماماً لأنه لم يفكر تماماُ؛ بل يقال أن التمام في مزاياه الإنسانية أن يتم له الحس ويتم له التفكير.
عباس محمود العقاد
4 - رحلة إلى الهند
المسلمون والمؤتمر الأسيوي
للدكتور عبد الوهاب عزام عميد بكلية الآداب
في الهند اليوم حزبان يسيطران على شؤونها: حزب الرابطة الإسلامية وحزب المؤتمر والأول يمثل مسلي الهند إلا قليلا. والثاني يمثل الهنداك وقليلا من المسلمين وكان الحزبان على وفاق، كل يسير في طريقه غير محاذ للآخر. وكان زعماء الرابطة، ومنهم السيد جناح، عاملين في حزب المؤتمر.
وقد حدثت شؤون انتهت إلى القطيعة بين الحزبين سنة 1937 وأبانت على اختلافهما كل الاختلاف على الهند بعد استقلالها. أتقوم فيها دولة واحدة أم دولتان إحداهما إسلامية في أقاليم تسمي، باكستان، والأخرى هندوكية في أقاليم أخرى تسمي هندوستان.
ولست في مجال الإبانة عن هذا الخلاف، فقد تكلمت فيه من قبل، ونشرت في الصحف ما يغني من إعادة القول، وحسبي أن أقول هنا: أن المؤتمر الأسيوي دعي إليه معهد يسمي (المعهد الهندي لشؤون العالم) وهو ذو صلة وثيقة بحزب المؤتمر. وكان لهذا الحزب الإشراف على المؤتمر الأسيوي والسيطرة عليه، فرأت الرابطة الإسلامية أن تقاطعه.
وكانت وفود الدول الإسلامية في حرج من هذه المقاطعة، وكثيرا ما سألوا: ألم تعلموا أن المسلين قاطعوا هذا المؤتمر؟ إلا تعطفون على مسلمي الهند الخ.
وقد اختلفت الإجابة عن هذه الأسئلة، واتفق المسؤولون على أن يهتمون كل الاهتمام، ويعطفون كل العطف على مسلمي الهند.
وقد انتهي الجدال إلى الإجماع على أن قدوم الوفود الإسلامية إلى الهند في ذلك الحين، وشهودها هذا المؤتمر ينفع مسلمي الهند ولا يضرهم، إذا يبصر البلاد الإسلامية بأحوال الهند، ويعرفهم بحقيقة الأمر فيما شجر من خلاف بين المسلمين والهنادك.
ونشر بعض الوفود الإسلامية كلمة أعربوا فيها عن رأي الوفود الإسلامية كلها، هي أن اشتراكهم في المؤتمر لا يدل عل ي تأييدهم حزبًا من أحزاب الهند، وان هذا المؤتمر كما دعوا إليه وشهدوه ليس سياسيا.
وكان من الداعين إلى المؤتمر والمناصرين له جمعية علماء الهند، وقد حرصت طائفة منها
على الاتصال بالوفود الإسلامية والتحدث إليهم في الخلاف بين الرابطة والمؤتمر، ثم دعوا وفود البلاد الإسلامية إلى حفلة في فندق كبير حضرها مولانا أبو الكلام أزاد وزير المعارف في الحكومة الموقوتة، وشهدها كذلك جواهر لال نهرو رئيس هذه الحكومة، ووزعت على الحاضرين صحيفة كبيرة بالأردية فيها ترحيب بالوفود وبيان لمكانة جمعية العلماء في الهند وتاريخها في الجهاد للاستقلال، والرسالة صغيرة بالعربية في هذا المعنى.
وبعض المعاهد الإسلامية كالجامعة الملية الإسلامية في دهلي ضالعة مع المؤتمر أيضاً؛ ولكن الجمهرة العظمي من المسلمين يؤازرون الرابطة الإسلامية.
وقد حرص القائمون على المؤتمر الأسيوي، لهذا الخلاف بينهم وبين الرابطة، على أن تشترك الحكومات الإسلامية فيه، وأرسلوا دعاتهم على بعض الأقطار ليعملوا على استجابة المسلمين دعوتهم، ولاسيما البلاد العربية.
وقد حرصنا على لقاء زعماء الرابطة لنزيل استيائهم من حضورنا المؤتمر، ولنعرف حقيقة الخلاف بينهم وبين حزب المؤتمر.
وقد زرت رئيس الرابطة في داره أنا والسيد تقي الدين الصلح مندوب الجامعة العربية والساعة إحدى عشرة ونصف من صباح يوم. فتكلمنا عن اشتراكنا في المؤتمر فسئلنا هل قرأت جريدة الفجر - وهي لسان الرابطة باللغة الإنكليزية - ثم تناول عدد منها قرأ فيه شيئاً عن اشتراك الوفود الإسلامية في المؤتمر وتقدير مسلمي الهند نواياهم، واعترافهم بأن شهود المؤتمر عسى أن يكون خيرا: وقال أن هذا ينهي الكلام في هذا الموضوع.
وقد تحدثت عن مؤتمر إسلامي يجتمع في الهند أو حيث يشاء المسلمون ويتناول البحث فيها شؤون إسلامية كثيرة فيها ولاسيما شؤون مسلمي الهند، وانتهى حديثنا والساعة واحدة وربع على أن نلتقي يوم السبت الآتي.
ولما التقينا في الموعد حدثناه عن عبد الغفار خان زعيم ولاية الحدود، والذي يتقيل غاندي ويصاحبه كثيراً حتى سمي غاندي الحدود. وكان عبد الغفار قد حدثني مرة والمؤتمر على مائدة حضرها نهرو وبعض أعضاء المؤتمر ومرة أخرى حيث يقيم مع غاندي فشكا من الرابطة وقال إنه كتب إليهم طالبا أشياء يسيرة تكفل له إذا قامت دولة باكستان فلم يظفر منهم بجواب. وقال أن الإنكليز اضطهدونا فاستنجدنا الرابطة فلم تبال بنا، وتطوع حزب
المؤتمر لنصرتنا والدفاع عنا فكان ميل الناس من ولايته إلى حزب المؤتمر طبعياً. فنقلت هذه الشكوى إلى السيد جناح أملا أن اقرب بينهما. فقالت السيد جناح إنه لم يتلقى رسالة ما من عبد الغفار خان وان الحوادث التي يشير إليها الخان كانت سنة 1929 ولم يكن للرابطة إذ ذاك قدرة على النجدة ولم تكن بلغت من الشان والنظام ما بلغت. ثم قال ومع هذا كافحت كثيراً من أجلهم حتى نالوا ما نالوه من النظام الذي يتمتع به الإقليم اليوم. وقال فليدخل عبد الغفار خان في الرابطة ثم يطلب ما يشاء. ولست مسيطرا على الرابطة ولكني واحد منها فلا أستطيع أن امنح أو أعد بما لم تأذن به.
وحدثته في تقسيم الهند وفي انحياز إقليم في باكستان إلى دولة هندوستان أو العكس، وفي دعوة المؤتمر والربطة في ولاية الحدود الشمالية الغربية. فقال إنه لا يملك أن يمنع الناس من الانحياز إلى جانب الذين يرغبون في الانحياز إليه، وإنه يعترف لأهل هذه الولاية بحقهم في الانحياز إلى هندوستان أن أرادوا. ولكن الرأي في هذا الأمر ليس لعبد الغفار خان وأمثاله ولكن لجمهور الناس. هم الذين يفصلون في انضمامهم إلى أحد الجانبين.
وتكلمنا عن مصر والسودان، فقال لا ترجعوا عن مطالبكم في السودان قيد شعرة. وانتقل الحديث إلى فلسطين فوكد حق العرب فيها وأوصى بأن لا تكون موضع مساومة.
وعدنا إلى الحديث عن مؤتمر إسلامي فاستحسن الرأي وقال سننظر أيكون في كراتشي أو دهلي أو مكان آخر.
ورجع إلى حديث عبد الغفار خان فوكد ما قاله من قبل غاضباً متحدياً. وفي ختام الحديث قال أيبلغ رئيس الوزراء النقراشي باشا أني لا أزال اذكر حديثه الودي وحفاوته بي ومبالغته في إكرامي حينما مررت بالقاهرة؟
ثم سأل كاتبه هل أعد رسالة عزام باشا، فعرض عليه الصحيفة مرقومة فأخذ عليه بعض الغلط وردها إليه فأصلحها. وقد حمل هذه الرسالة السيد تقي الدين الصلح مندوب الجامعة العربية في المؤتمر.
وقد تحدث عن باكستان في المرتين حديث المجاهد الموفي على غايته، الواثق بظفره. وكان في حجرته لوح صغير عليه خريطة باكستان الغربية والشرقية من الذهب أو مذهبة.
وهو رجل طويل نحيف معروق يجلل رأسه شعر اشمط يوحي إلى محدثه العزم والمضاء
بكلماته وإشاراته.
وقد جزى الله جهاده وإخلاصه هو وأنصاره أن ظفروا بما أرادوا وبلغوا ما رجوا والله ولي توفيقهم.
(للكلام صلة)
عبد الوهاب عزام
القسم السادس:
فرنسا ومستعمراتها
للأستاذ أحمد رمزي بك
بدا الفرنسيون تنفيذ برنامجهم الإصلاحي على مراحل في مراكش، فقد نقلت إلينا الأنباء البرقية طرفا من أخبارهم وهي تتلخص في بعض تغييرات إدارية أدخلوها ذراً للرماد في العيون فقالوا أن الوزارة ستتألف من عشرة وزراء مراكشيين وعشرة من فالفرنسيين واختير مستشار فرنسي يبحث القوانين واللوائح قبل عرضها على السلطان، وصرح فرنسي مسؤول بأن فرنسا تريد تحويل مراكش إلى دولة ديمقراطية حديثة كما ترغب بإخلاص في زيادة مسؤولية المراكشيين في حكم أنفسهم. وهذه نواح جديرة بالبحث والتأمل.
ولقد كنا أول من أذاع شيئاً عن اجتماع الدار البيضاء الذي حضره روزفلت وجيرو وديجول الفرنسيين وقلنا أن أراضي تونس والجزائر ومراكش كانت وديعة بيد الحلفاء، وقد أعيدت للسلطات الفرنسية بعد أن تعهد رجالها لروزفلت أن تسير هذه البقاع في ركب الحضارة نحو الحرية وتقرير المصير؛ ولكن شيئاً من هذا لم يحدث، وإنما تحت ستار الإصلاحات الجديدة وتحويل مراكش إلى دولة حديثة وزيادة مسئولية المراكشيين في حكم أنفسهم، تقدم فرنسا للعالم المتمدين مشروعا استعماريا له خطورته لأنه ضربة جديدة موجهة إلى استقلال مراكش وحريتها ومستقبلها، ولذلك لم نستغرب أن رفض الأحرار المراكشيون هذه السياسة ونددوا بها وقالوا عنها (إنها تريد أن تغتصب البقية الباقية من مظاهر وجودهم. ونحن الذين تابعوا قضية المغرب من يوم أنزل الحلفاء جنودهم، وأنصتوا طويلا إلى أقوال قواد الحلفاء وبعض رجال السياسة الذين تحدثوا عن مستقبل هاتيك البلاد وعرفوا الكثير من تحمس رجال فرنسا وتمسكهم بوحدة إمبراطوريتهم ورفضهم الدخول في أي حديث يشتم منه طلائع الحرية والاستقلال لشعوب المغرب، ولم نتردد في أن نجهر بالقول لإخواننا أهل المغرب أن الخطر الذي يبدو لنا هو أن نوفق فرنسا لإقناع العالم أن سياسة الاتحاد الفرنسي مشروع إنساني يدعو إلى رفع مستوي الشعوب ويعد تنفيذه تحقيقا لما وعدوا به روزفلت في اجتماع الدار البيضاء أو إنه مرحلة
في طريق الرقي الاجتماعي.
ومراكش ليست دولة في مجاهل الدنيا حتى تدرب على حكم نفسها. وقد عاصرت القرون وكانت أمجادها وبطولتها مضرب المثال، فهي دولة مستقلة ذات سيادة وصولة وتاريخ وشخصية قبل أن تعرف فرنسا شيئاً من ذلك، وهي أمة موحدة قبل أن تحقق فرنسا وحدتها الإقليمية في قارة أوربا، ولإخواننا المراكشيين جولات في أفريقيا وفي القارة الأوربية، وبين ملوك مراكش وملوك فرنسا مكتبات ومعاهدات قديمة عامل فيها كل واحد الآخر معاملة الند للند.
لهذا كله دهشنا من موقف فرنسا ورجالها بعد سنة 1912 وموقفها اليوم في سياسة المقيم العام التي يريد أن يفرضها على دولة قائمة ذات سيادة وسلطان وشخصية دولية. وكنا نؤمل أن تغير دروس الماضي بعد الحرب العالمية الأولي، ثم بعد الحرب العالمية الثانية، شيئاً من أساليبهم وعقليتهم، ومراكش بلاد لم تفتح وإنما تعاهد سلطانها معهم وحالفهم على شروط معلومة، فإذا هم ينزعون البلاد انتزاعا، ويصبح المقيم العام سلطاناً وحكومة، بجمع السلطات كلها بين يديه من تنفيذ وتشريع وقضاء، ويسيطر رجاله على الشئون المالية والاقتصادية والإنشائية، ويضع يده على الحبوس والأوقاف، وينتزع أملاك الدولة فيوزعها على المستعمرين من الفرنسيين.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل ضربت بالمواثيق والعهود التي أخذتها الدول عليها عرض الحائط، فهي لم تحترم ما جاء باتفاق الجزيرة سنة 1907، ولا ما جاء بالاتفاقات التي أعقبت حادث أغادير المشهور، وكلها تنص على احترام سيادة سلطان مراكش ووحدة بلاده وبقائها بلاداً مفتوحة لتجارة الدول.، وميداناً للنشاط الأمم.
ولقد رأينا الأسلوب الفرنسي في حكم البلاد التي نكبت به ينتزع السلطات جميعاً من أيدي الحكام الوطنيين فتصبح الحكومة المراكشية التي يطلق عليها اسم (المخزن) صورة لا تملك من الأمر شيئاً. وإذا بدار المقيم العام بيدها السلطات الفعلية: يتولاها بواسطة مستشاريه على الطريقة الفرنسية المباشرة التي رأيناها في سوريا ولبنان أيام الانتداب. فتصور هذه الدار تتولى الأمن العام والجمارك والضرائب وتدير الأوقاف وتفتح المدارس وتغلق الكتاتيب، وبيدها التشريع والبرق والبريد، وتسيطر على النقد ووسائل المواصلات، وتمنح
الأراضي لمن تشاء وتوزع الثروة على شركات الاحتكار والاستثمار.
هذه هي مناطق القانون التي يسود فيها الحكم المدني. أما المناطق العسكرية فهي تخضع لجبروت الجيش وضباطه السياسيين، فهناك يجمع القائد الفرنسي كل السلطات في يده ولا مرد لحكمه: إذا تكفي إرادته لنزع الأملاك وتنفيذ حكم الإعدام والسجن ونقل قرى بأكملها وإخلائها من السكان، ولا يمكن مراجعة حكمه أو الاعتراض عليه أمام سلطة مدنية، وأهالي البلاد من المسلمين حيارى بين براثن الاستعمار الفرنسي في مراكش، هم في حالة حرب منذ عام 1912 لا يرتفع عن كاهلهم سوط الأحكام العرفية ولا يشعرون بالراحة يوماً، تؤخذ أولادهم للحروب، ويرسل بشبابهم إلى المعتقلات والسجون.
لقد آن للعالم أن يفهم حقيقة الحال في أفريقيا الشمالية، وحسنا فعل المجاهدون المراكشيون من المبادرة إلى أمريكا وتعريف العالم بقضيتهم لأنها قضية عادلة: وقد شرحنا أساليبه ومراميه وأهدافه ويؤكد سيطرة فرنسا وتدخلها في شؤون بلادهم أجيالاً من الزمن لا تزال في علام الغيب أو المستقبل.
أن كفاح أهل مراكش سيكون طويلا وصعبا لا هوادة فيه، لأن بلادهم موطن الثروة المعدنية، واليها تتجه أنظار الاستعمار الفرنسي للحصول على المواد الخام من البترول والفحم والحديد، وهذا الاستعمار يفرط - كما قلنا - في ولايات من أوربا ولا يتنازل عن شمال أفريقيا، وهو يعلم تماماً أن أي تساهل أو اعتراف من جانبه باستقلال أو حكم ذاتي يمنح لأهل البلاد المراكشية معناه انهيار الإمبراطورية الفرنسية بأكملها في أفريقيا الشمالية.
فعلى الذين يتصدرون الحركة الاستقلالية في مراكش أن يفهموا أن العراك سيكون شديداً وقاسياً، وعليهم أن يكتسبوا المعركة الخارجية، وهي معركة الدعاية لقضيتهم في أمريكا وفي بقية أنحاء العالم، عليهم أن يظهروا مساوئ الاستعمار وأضاليله، وان يجعلوا الدعاية قائمة في كل مكان، وان تمتاز بالثبات والرسوخ والهدوء والمداومة.
ففي مصر لا يكفي شعور الناس بالعطف على قضيتهم، بل يجب إبرازها كل يوم في ثوب جديد على صفحات الجرائد والمجلات، بل نريد أن نسمع رأيهم وصوتهم، ونرى مناظر بلادهم ومساجدها وأسواقها، ونقرا لأدبائهم وزعمائهم كل يوم، ونود أن نشاركهم أفراحهم
وأيامهم، ونسمع أغانيهم، ونرتل شعرهم، ونظهر على مطبوعاتنا صور معاهدهم ورجالهم ومظاهر الحياة عندهم.
إننا في حاجة إلى أن نتعرف على أهل المغرب، لأننا في مصر نحن أهلها اقرب أهل المشرق إليهم.
لقد تلاقت النفوس قبل اليوم، وارتبطنا بهم بروابط لا تنفصم عراها، لأن مصر أسراً بأكملها تنحدر من تلك الأصول العربية التي جاءت من ارض المغرب.
إننا لا تطمئن نفوسنا قبل أن ينال المغرب استقلاله ويحصل على حريته.
أحمد رمزي
لسان الدين بن الخطيب
الصفحة الخيرة من حياته
للسيدة الفاضلة منيبة الكيلاني
مد الليل أروقته السوداء في غرناطة الأندلسية العظيمة، واتشحت سماؤها المرصعة بالنجوم الزاهرة تلك الليلة بالغمام، وتضاحك البرق من عربدة الرعد المدوي، وتهادى الثلج نازلاً بأناة وكرم يكسو بالبياض كل ملون. . . ويتراكم طبقات بعضها فوق بعض، وخلت الدروب من كل صوت ونأمة. . .
وسرت عدوى السكون العميق إلى قصر أبن الخطيب الباذخ فما كان يسمع فيه شيء مما اعتاد أن يزخر به إلى القصر العتيد من صوت القيان أو نداء المزاهر، وما كان يري في أكنافه الرحيبة من وراء الكوى، إلا ضوء واحد يمرق من نافذة في غرفة رب القصر، وان كان قد انتصف الليل من وقت طويل.
وهدر الرعد من جديد، ففتحت على أبن الخطيب بابه فتاة في مقتبل العمر وانزاحت من الباب رفيقه إلى حيث يجلس الكهل، وتقدمت إليه تحييه وتقول له في دل:
- أو لا تزال يا عماه مسهد الجفن تكتب والناس رقود؟
فيرفع أبن الخطيب رأسه ويمد بصره إلى ابنة اخية، وقد أضنى عينيه ضوء الشموع وصفحة الكتاب ويقول لها:
- إن الذي ميزني يا ابنتاه عن الناس الذين تسمين، إنما هو هذا السهاد وهذا الاعتكاف، وما بلغ امرؤ يا بنتاه في غطيطه ما يبلغ الساهر في سبيل العلم، ولو درى أولئك السادرون في غوايتهم أية لذة أطعم، وأية العادة أذوق، لاستبدلوا بالفراش المحابر، ولأوغلوا فيما أنا في سبيله. . . ألا يستوي جاهل وعالم، وساع إلى الراحة ومتشبث بأذيال العلم. . . وهذه غرناطه تعلم أن شيخها يسهر والناس حوله نيام، فيصيب من سهرة ما يميزه عن النائمين والغافلين. . .
ثم يعود الشيخ إلى نفسه ويستدرك ويقول:
- وأنت يا ابنتي ما بالك بارحت الخدر وأنت إلى الرقاد أحوج من شيخ غرناطه؟. . . اهو حلم لذيذ أرسلك إلى عمك تقسمينه خبره؟ فتجيبه: لقد أيقظتني جلجلة الرعد، فما
استطعت من اليقظة إغفاءة!
وتجلس الفتاة، فيسألها عمها أن تكتب له الصحائف الباقية من كتابه (الأصول لحفظ الصحة من الفضول). فتكتبها وهو يميلها عليها. . . وتنتهي فتعلق الفتاة عليه بأنه عمل متعب قد يؤذي صحته الغالية. فيقول لها:(يا بنتاه، العجب حتى مع تأليفي لهذا الكتاب الذي لم يؤلف مثله في الطب، فإني لا أقدر على مداواة داء الأرق الذي بي). فتقول مجيبة: (ولكنه يا عماه أرق مفيد على كل حال، وهل تنكر فضل الأرق الذي أخرجك في الفلسفة والطب والتفسير والحديث والفقه والتاريخ وعلوم العربية من شعر بارع ونثر بديع؟
فيبتسم الشيخ ابتسامة استكبار وتيه. . . ولم تكن الفتاة مجاملة ولا مراوغة في هذا الذي قالت، فقد عرفته الليالي طالب علم ورجل جد، وعرفه أساتيذ غرناطة ذكي الفؤاد، واعي البصيرة، سديد التفكير.
ويغرق لسان الدين في فكره طائرة، وتسهم مقلتاه الزرقاوان في غير وعي. . . فتقول له ابنة أخيه: (لقد فرغت يا عم من مطالعة ما زودتني به من كتاباتك، فراقني منك شعر الغزل الجميل في هذه الموشحات التي رصعتها بما يعيا به الصاغة الماهرون، وأعجبني كلام الأتقياء، ولكني وجدت في رسائلك التي تتندر بها على الحال الاجتماعية سجعا غريبا، وإطالة لا عهد لك بمثلها، فقد أطلت فيما كتبت وأطنبت في التصوير إطنابا خيل إلى معه انك قد ملئت من الفكرة الصغيرة صفحات، فهل ستنسيك السياسة ذياك الأسلوب والنغمة التي فتنت بها غرناطة ورقصت عذاراها زمنا؟
وهنا يتبسم لسان الدين مرة أخرى، ويهيب بفتاته أن تعود إلى مخدعها، فقد انقطع الرعد، ولم يبقي من الليل إلا رمق، وانه ليرى أن السهاد قد يضر جمالها الضحيان. . . وإذا تذهب يقيم لسان الدين يفكر، ويعمل الرأي في هذه الأحداث التي توالت ادراكا، ويبحث هذا القلاقل السياسية التي أوشكت أن تؤدي بأدبه الغض وخياله الرائع. . . لقد صدقت بنت أخيه، فأن السياسة التي فتنته قد انبرت تخرس تلك النغمة السائغة المنسابة التي أرقصت عذارى غرناطة زمنا، وهذه الفتنة لا يدري هو أيضاً كيف استحوذت عليه، فتبدل بالعلم والأدب السياسة ومشتقاتها، وأقام برهة يتفكر في عواقب الأمور وما قد تجره عليه من وبال، ووقر في نفسه أن ينتقل إلى هامش أن هو استطاع إلى ذلك سبيلا.
ثم يعود فيمد بصره في الماضي، حيث كان السلطان أبو حجاج يوسف يعطف عليه، ويقرب مجلسه، ويستأنس برأيه، وقد اختصه بكتابته، واجرى عليه صنوف الرفد والعطاء، فانتج ما شاء له الإنتاج، وأبدع ما وسعه الإبداع.
ثم يموت أبو الحجاج يوسف، فيخلفه ابنه محمد بن أبي الحجاج وهو الفتي الذي خدمه أبن الخطيب اصدق خدمة ووفاه أقصى حقوق الولاء، فجزاه معروفا بمعروف وخيرا بخير، وأبقاه في مكانه وضاعف له الرعاية، ولكن الفتنة الراقدة تململت، وحجب الناس لأخي الملك الجديد أن يناوئ أخاه ويزعج نفسه، فهو لا يدري كيف يأخذ ولا ماذا يصنع. وقد قال له هذا الأمير المحق أن يتبين له وجها من الرأي ودربا من الرشاد ينفذ منهما إلى صرع الباطل والحسد الاثيم، ولابد لابن الخطيب من نصيحة يسديها لمولاه ضحى الغد، وهو الذي عرف عنده أصالة الرأي وسداد الفكر، فماذا تجدي عليه هواجسه من السياسة ومشتقاتها ومغبتها، وهي مفروضة عليه يحتمها الولاء والوفاء لمن والاه ووفاه حقوقه.
هنا ينبلج الصبح ويقطع على لسان الدين التأمل رسول الملك فقد جاءه يخبره بأن الملك يريد البراح بعد أن أخفقت كل محاولة في تحسين الحال، فيخف إليه أبن الخطيب تاركا المهاة في خدرها والكتب في أدراجها ويبارحان المملكة. . . وقد تقطع قلب لسان الدين لكلمة وداع لابنة أخيه المساعفة وكلمة وصية بكتبه فما افلح.
ولم يكن الهروب لينجي أبن الخطيب، فقد وقع في قبضة السلطان الجديد، وأراد التنكيل به لولا أن سلطان المغرب الذي شغف بأدبه وعلمه يحميه من البطش، ويمهد له من مدينة فاس أرضاً صالحة خصيبة تواتي قريحته، فيرسل زفرته الخالدة:
جادك الغيث إذا الغيث
…
همي يا زمان الوصل بالأندلس
لم يكن ووصلك إلا حلماً
…
في الكرى أو خلسة المختلس
وتلفقها أبنة أخيه، وتقرؤها على أترابها، وتتيه بها إعجاباً وفرحا. . فلقد ارقص لسان الدين عذارى غرناطة من جديد.
هنا يتأزم الوضع في غرناطة تأزماً جديدا ضد لسان الدين، ويعمل العلماء والفقهاء من أعدائه ضده ويرسلون فيه هجر القول ويرمونه بكل نقيصة، ويرجون فيه إنه كافر، وهم إذ يفعلون ذلك ينتقمون لمنازلهم التي احتلها هو في قلب السلطان الماضي، وينافقون للسلطان
الحاضر، وكلا الآمرين يؤتي بالثمرة المحرمة، التي يريدونها.
وأمر ما لقي لسان الدين من هذه البلوى أن يقود هذه الفئة المعادية والفتنة العمياء تلميذه أبن زمرك وهو الذي نشا وترعرع على يديه. . فقد وكل هذا المخلوق المنحوس قلمه في شرح وتبسيط كفر لسان الدين الذي علم الله إنه منه براء.
ويعود لسان الدين - وهو لا يدري بما حدث، ويجتمع الفقهاء والعلماء يقررون مصير لسان الدين. ولا بد من الفتيا وقد أقام لسان الدين ينتظرها في السجن الذي زجوه به حتى إذا جاءته كانت تحتم قتله.
عرف لسان الدين أن الأمر قد تم، وان السهم وقد نفذ، وان لا مرد لأمر الله، فحن من بين مصائبه واحنه وسلاسله وأغلاله إلى نظرة في كتبه، والى كلمات يريد أن يضيفها على آخر كتاب لما يكلمه. وتلهف إلى جامع غرناطة وجامعتها، حيث كان يلقى دروسه قبل أن يقرر كفره.
وقطع هذه التأملات جلجلة السلاسل، وجاءه قوم غلاظ يحملون المشاعل يتقدمهم رجل فيه بسطة في الجسم لا قبل للسان الدين وهو في الثالثة والستين من العمر بمثلها. تقدم هذا العملاق من السياسي الشيخ الفيلسوف الطبيب العالم الفقيه الشاعر الأديب يزيح لحيته التي خطها الشيب، فلم يبق من سوادها إلا ما بقي من سواد تلك الليلة. . يزيح لحيته ليمهد لقبضته الخشنة القوية من عنقه مكانا يخنقه منه، ووضع ركبته على صدر الرجل وأخذ عنقه وتحسس فيه البلعوم فقبض عليه قبضة شديدة منكرة تزايلت لها وتلاينت وتقلص وجه الرجل واختلفت سحنته ورفس من احتباس النفس رفساً شديداً فما رحمه. واحتقن الدم احتقانا مروعا وجحظت عيناه جحوظا غريبا كأنها تفتش عن الكفر الذي رما به. . . ثم تخافتت نفسه. . . وفاضت روحه التي ملأت الأندلس أدباً وعلماً وفناً.
وزفت بشرى خنقه إلى من حكم بقتله فأمر بإخراج جثته وإحراقها علناً. . . وهكذا كان. . . فما بقي للسان الدين غير اسم عظيم وتراث خالد.
وعرفت ابنة أخي لسان الدين هذا. . . . فاتشحت بالبياض حداداً. . . وخرجت هي وأترابها حيث أحرق. . . وهناك قرأت عليهن قوله:
لم يكن وصلك إلا حلماً
…
في الكرى أو خلسة المختلس
وأسكبت على الأرض التي قد يكون فيها شئ من رماده دمعات من مقلة زرقاء.
منيبة الكيلاني
10 - تفسير الأحلام
للعلامة سجموند فرويد
سلسلة محاضرات القاها في فينا
للأستاذ محمد جمال الدين حسن
الموز في الأحلام:
ولكن يجب أن لا تظنوا أن هذه الرموز سهلة الاستعمال أو سهلة الترجمة فنحن أينما تلفتنا عثرنا على ما لم نكن نتوقعه. فقد لا تصدقوا مثلا إنه لا يوجد في الغالب حد فاصل بين الجنسين في هذا التمثيل المزي، فكثير من الرموز تقوم مقام الأعضاء الجنسية على العموم، سواء أكانت للذكر أم للأنثى مثلا طفل (صغير) أو ابن أو ابنة (صغيرة) كما إننا قد نجد في حالات أخرى أن أحد الرموز التي تشير في الغالب إلى عضو جنسي مذكر قد استخدم في هذه الحالة للدلالة على عضو مؤنث أو بالعكس. وهذا القول قد يظل غير مفهوم حتى نستطيع أن نحصل على بعض المعلومات عن نضوج التفكير الإنساني فيما يختص بالعلاقات الجنسية، فهذا الغموض قد يكون في كثير من الأحيان غموضاً ظاهرياً فقط وليس حقيقياً، وعلاوة على ذلك فإننا نجد أن أشد هذه الرموز لفتا للنظر مثل الأسلحة والجيوب والصناديق لا تستخدم أبداً للدلالة على الجنسين.
والآن دعوني اقدم لكم بيانا موجزا مبتدأ بالرموز نفسها بدلا من الأشياء التي ترمز إليها، لأطلعكم على المصادر التي اشتقت منها هذه الرموز الجنسية في الغالب، وسأضيف إلى ذلك بعض الملاحظات خصوصا عن تلك الرموز التي يصعب فيها تحديد وجه المقارنة بينها وبين الأشياء التي ترمز إليها (فالقبعة) مثلا أو أغطية الرأس على العموم تعتبر من الرموز الغامضة، وهي في العادة رمز مذكر وان كانت تجئ من الحين لحين كرمز مؤنث. و (المعطف) بالمثل يدل على رجل ولو إنه قد يدل في بعض الأحيان على الأعضاء الجنسية عموما من غير تميز، ولكم أن تتساءلوا عن السر في هذا. أما (ربطة الرقبة) فباعتبارها شيئاً يتدلى إلى اسفل ولا ترتديه النساء فهي بلا شك رمز مذكر بينما (الملابس الداخلية) أو (الكتان) على العموم يمثل الأنثى. و (الملابس) و (البزة الرسمية) كما قلنا
تمثل العرى أو جسم الإنسان. و (الموائد) و (الخشب) قلنا عنها إنها رموز محيرة ولكنها مع ذلك رموز مؤنثة؛ ومن المحقق أن (عملية تسلق) السلالم أو الأماكن الوعرة عبارة عن رمز للعملية الجنسية. وقد نلاحظ إذا دققنا النظر أن اطراد النغم أثناء التسلق هو النقطة المشتركة بين العمليتين، وربما أيضاً ازدياد اللهفة الذي يصحبهما، واحتباس النفس كلما أوغل المتسلق في الصعود.
رأينا أن (الأصقاع) تمثل الأعضاء التناسلية للأنثى، والجبال والصخور عبارة عن رموز للقضيب. و (الحديقة) وهي رمز يتكرر ظهوره باستمرار يشير إلى الجهاز التناسلي للأنثى بينما (الفاكهة) تقوم مقام النهود لا الطفل. (والحيوانات المتوحشة) تدل على الأشخاص المنفعلي الحواس ومن ثم على الدوافع الشديدة والعواطف الآثمة. و (النور) و (الأزهار) تمثل الأعضاء التناسلية للأنثى، وعلى الأخص وهي عذراء. وبهذه المناسبة أذكركم بأن النور في الحقيقة عبارة عن أعضاء التناسل في النبات.
ونحن نعلم من قبل كيف تستعمل الحجرات كرموز، وقد نستطيع أن نتوسع قليلا من هذا التمثيل فنقول أن:(النوافذ) و (الأبواب)(وهي المداخل إلى الحجرات والمخارج منها) قد تعني فتحات الجسم، ومما يتفق. مع هذا المثيل الرمزي أن الحجرة تكون (مفتوحة) و (مغلقة). و (المفتاح) الذي يفتحها هو من غير شك رمز للقضيب.
هذه المادة لا بأس بها تصلح للدراسة الرمزية في الأحلام، وهي ليست مادة كاملة، فقد نستطيع أن نتوسع ونتعمق فيها معا. ولكني مع ذلك أظن إنها قد تبدو لكم إنها اكثر من اللازم وربما لا تجوز لديكم القبول فيتساءل الواحد منكم قائلا:(أتراني حقا أعيش وسط رموز جنسية!؟ أكل هذه الأشياء التي تحيط بي، والملابس التي ارتديها، والأدوات التي استعملها عبارة عن رموز جنسية دائما ولا شئ غير ذلك؟). وهناك في الواقع أسباب وجيهة تدعو إلى هذه الدهشة والتسائل، وقد يكون أول هذه الأسباب هو: كيف ندعي إننا نستطيع الوصول إلى معني هذه الرموز التي تظهر في الأحلام في الوقت الذي نقول فيه أن الحال نفسه لا يستطيع أن يمدنا عنها بمعلومات تذكر؟
وجوابي على ذلك إننا نستقي معلوماتنا من مصادر كثيرة مختلفة: نستقها من الأساطير والخرافات، والملح والنوادر، وقصص الأولين، أي نستقيها مما نعرف عن أقوال وأغاني
الشعوب المختلفة والعادات والأخلاق التي كانوا عليها، ومن طريقة استخدامهم اللغة في الشعر وفي الكلام الدارج. ففي كل من هذه المجالات المختلفة نعثر على نفس الرموز، وقد نستطيع في كثير منها أن نقف على المعنى المراد بغير حاجة إلى دراسة سابقة لها. فإذا نظرنا إلى هذه المصادر المختلفة كل على حدة فسنعثر على كثير من الرموز التي تطابق ما يظهر في الأحلام يضطرنا على الاقتناع بصحة طريقتنا في التفسير.
قلنا أن الجسم الإنسان كما يقرر (شرنر) كثيراً ما يرمز إليه في الأحلام بمنزل، فإذا توسعنا في هذا التمثيل الرمزي قليلا، فأن النوافذ والأبواب والبوابات تقوم مقام فتحات الجسم، والجدر كما قلنا أما أن تكون ناعمة ملساء، أو تحتوي على بروز أو شرفات تصلح للتعلق بها. وهذا التمثيل الرمزي نفسه نراه في اللغة الدارجة، فنحن مثلا نتكلم عن (سقف من الشعر)، كما إننا نقول عن شخص ما أن (طابقه الأعلى) ليس على ما يرام. وفي علم التشريح كذلك تسمي فتحات الجسم (بالبوابات).
وقد ندهش لأول وهلة عندما نجد أن الأباء والأمهات يظهرون في أحلامنا كملوك وملكات، ولكنا نجد شبيها لهذا في (الحواديت). إلا نشعر عندما نسمع كثيراً من (الحواديت) التي تبدأ بالكلمات:(يحكي يوم أن ملكا وملكة) إنها تعني بكل بساطة (يحكي ذات يوم أن أبا وأما.)؟ كما إننا نجد الأطفال في الحياة العائلية يلقبون بالأمراء على سبيل المزاح، والأكبر فيهم يلقب بصاحب السمو. والملك نفسه يدعي أبا الشعبة، وكذلك نجد الأطفال في كثير من الممالك يتحدث الناس عنهم كحيوانات صغيرة، فيقولون مثلا:(ضفدع صغير) أو (حشرة صغيرة) كما في ألمانيا.
والآن دعونا نعد مرة ثانية إلى التمثيل الرمزي بالمنزل. إذا كنا في أحلامنا نتخذ من البروز التي في المنازل حوامل نتعلق بها إلا يذكرنا هذا بقول عامي معروف جدا في اللغة الألمانية للدلالة على المرأة ذات الصدر الناضج وهو: (لأن لها شيئاً يستطيع المرء أن يتعلق به) بينما هناك قول عامي آخر للدلالة على نفس المعني وهو: (أن هناك كثيراً من الخشب أمام المنزل). كأنما كان هذا القول على بالنا عندما قلنا في تفسيراتنا أن الخشب يرمز إلى المرأة أو الأم.
وهناك شئ آخر يجب أن يقال بخصوص الخشب، فليس من السهل أن نري على الفور
كيف صار استخدامه للدلالة على المرأة أو الازم، ولكن المقارنة بين عدة لغات قد تفيدنا في هذه الحال. يقال أن الكلمة الألمانية (خشب) مشتقة من نفس المصدر الذي اشتقت منه الكلمة الإغريقية التي معناها المادة الخام. وهذا مثل لعملية ليست نادرة الحدوث، وهو أن اسما يدل على المادة على العموم قد صار استخدامه أخيرا للدلالة على مادة معينة فقط. والآن لعلكم تعرفون جزيرة (مادييرا) التي تقع في المحيط الأطلنطي والتي أطلق عليها البرتغاليون هذا الاسم عندما اكتشفوها لأنها كانت في ذلك الوقت مغطاة بغابات كثيفة، إذا أن كلمة في اللغة البرتغالية معناها الخشب. ولكني أحسبكم لن تغفلوا عن أن تلاحظوا أن كلمة ما نهي إلا صورة منقحة من الكلمة اللاتينية التي تدل أيضاً على المادة عموما. ولكن مشتقة من ومعناها الأم. والمادة التي يصنع منها أي شئ يمكن أن ينظر إليها على إنها قد تسببت في ولادة هذا الشيء. وعلى هذا فنحن في استخدامنا الخشب كرمز للدلالة على المرأة أو الأم إنما نحيي هذه الفكرة القديمة.
والولادة يعبر عنها غالبا بإشارة إلى الماء، فأما إننا نغوص فيه أو نخرج منه، أي إننا نلد أو نولد. وهذا الرمز يجب أن لا ننسي إنه يشير إشارة مزدوجة إلى الحقائق الثابتة في نظرية التطور. فالثدييات البرية، التي نشا عنها الجنس البشري، لم تهبط من كائنات تسكن الماء فحسب، بل أن كل ثديي، أو كل كائن حي، قد امضي الفترة الأولي من حياته في الماء - أي كجنين في السائل الأمنيوتي الذي يملأ رحم الأم وبذا يكون عند الولادة قد خرج من الماء. وأنا لا اقرر أن الحالم على علم بشيء من ذلك، بل أنني على العكس أصرح لكم إنه لا حاجة به إلى العلم، فهو في الغالب يعلم شيئاً آخر مما كان يحكي له وهو كفل، ولكني اقرر كذلك إنه حتى هذا لا دخل له في تكوين الرموز. فالطفل تقول له مربيته أن طائرا كبيرا (أبو حديج) هو الذي يقوم بإحضار الأطفال، فإذا سأل: ومن يأتي بهم؟ قيل له من البئر أو من (الفسقية) أي من الماء مرة أخرى. وقد حدث لأحد مرضاي الذين قيلت لهم هذه الحكاية وهم أطفال (وقد كان في هذا الوقت (كونتا) صغيرا أن اختفي طيلة بعد الظهر وأخيراً وجد راقدا على حافة البحيرة التي في القصر وقد انحني وجهه الصغير على صفحة الماء الرائعة وأخذ يحدق في لهفة عله يستطيع أن يلمح الأطفال الذين في قاع الماء.
وفي الأساطير التي تروي عن ولادة الأبطال، وقد قام (أو. رانك) ، بدراسة وافية لها، نجد أن التعرض للماء والنجاة منه يلعبان دورا كبيرا. وقد أدرك (رانك) أن هذا يرمز إلى ولادة بطريقة شبيهة بالطريقة المستخدمة في الأحلام. فالشخص الذي يري في الحلم إنه ينقذ أحداً من الماء، يجعل هذا الأحد أما له، أو أما على أية حال. وفي الأساطير نجد أن من تنقذ طفلا من الماء تعتبر نفسها أمه الحقيقة. وهناك نادرة تروي عن طفل ذكي من بني إسرائيل، وهي إنه عندما سئل من تكون أم موسى، أجاب على الفور:(الأميرة) فقيل له: (كلا إنها التقطته من الماء فقط) فأجاب: (هذا ما تقوله هي). وقد دل بذلك على إنه قد وقع على التفسير الصحيح للأسطورة.
(يتبع)
محمد جمال الدين حسن
من ذكرياتي في بلاد النوبة:
إلى عُنيبة!!
للأستاذ عبد الحفيظ أبو السعود
ما كاد القطار يتحرك من أسوان متجها إلى الشلال. حتى أحسست وزملائي براحة لا تدانيها راحة، وهدوء لا يماثله هدوء فقد مكثنا بأسوان خمسة أيام بلياليها على الرغم منا، إذا إننا لم نجد أمكنة في الباخرة التي ستنقلنا إلى هذا المكان النائي البعيد في بلادنا المصرية.
وعجيب أن نشعر بالراحة والطمأنينة، ونحن في طريقنا إلى بلدة لا نعرف عنها شيئاً، ولا ندري من أمرها لا ما يرغب عنها مما استمعنا إليه من أفواه المتحدثين - ولكن هذا دائما شعور كل مسافر فانه يود أن يصل إلى غايته بأي ثمن.
ولا يمكنني بوجه من الوجوه أن اعبر عن مقدار الرهبة التي سيطرت علينا، والخوف الذي ملا قلوبنا عندما وصل القطار إلى الشلال. وعندما شارفنا النيل، باتساعه وروعته. . . ووقف القطار وزكمت أنوفنا رائحة الشواء العجيب. . شواء السمك، والطعمية وألوان مختلطة الملوثة بالتراب، والرمال التي تهب مع الريح من فوق السفح والجبل من هنا وهناك. .
وركبنا الباخرة البطيئة (توشكي) وهي إحدى البواخر المصرية التي استولت عليها الحكومة السودانية ظلما سنة 1925، وأخذنا أماكننا في ثلاث مقصورات متجاورة، وسارت الباخرة في الثانية مساءاً رويداً رويدا، تشق صفحة الماء في بطئ، وكأنما هي شيخ محطم أثقلته الخطوب، وآدته فوادح الزمن، فمضى يعدو، ويجمع قواه المتهدمة ويلهث ويحشرج، ومع هذه تخونه دائماً قواه، ولا يحصل من هذا كله إلا على ما يكفيه ليسير بطيئاً متئد الخطا، كأنما يجر وراءه جبال الدنيا بأرسان من حديد. .!
يا لله: إننا لا نري من هنا أو هناك، سوي جبال شامخة، ينهي تلول من الرمال. . ما أروع هذا المنظر العجيب. . جبال مسراء، وأخري حمراء قانية، وبينها رمال مناسبة منحدرة، تخالها أنهار من الذهب الوهاج.!!
وهنا وهناك على الشاطئ من الجانبين نجوع تختلف باختلاف طبيعة الأرض، فهذا نجع
يرتفع عن شاطئ النيل بمتر أو مترين على الاكثر، ويحتضنه الجبل في حنان ودعة، كما يحتضن الأب الرحيم ولده في حرارة الشمس اللاذعة خشية أن تفتك به، وتضربه ضربة لا يفيق منها مدى الحياة.
وهذا نجع آخر يسير مع الشاطئ في تتابع وتناثر. . بيوت متواضعة متفرقة أن صح أن تسمي هذه الأكواخ المتواضعة بيوتا وتسير مع الشاطئ ألفي متر أو تزيد، بيد إنها ليست عريضة عامرة بالسكان، آهلة بالناس، ولكنها ضيقة لا تكاد ترى فيها أثراً من الحياة، اللهم إلا أشباحاً هزيلة ضعيفة، تبدو عليها آثار الفاقة، وسيما الضنى واللوعة، والأسى والهمود.
وهذا نجع ثالث تخاله ميتا لا يتنفس فيه حي، ولا يعيش فيه مخلوق، ولكن الباخرة إذا توقفت وارتفع صفيرها في الجو، انبعث الرجال والنساء من كل حدب وصوب يتلقون (القافلة). التي تسير في عرض النيل على بركة الله، تحمل لهم الزاد والمؤن، والكسى والمتاع. . أنهم ينتظرونها مرة في كل أسبوع قادمة من الشلال، ومرة أخرى قادمة من حيفا، وفيها البريد. . حتى إذا أرتفع لها في الهواء دخان، وعلى لها صوت، انطلقت الحناجر مدوية من هنا وهناك، في فرح ومرح وبشر وسرور، فهذا موعد الرسائل من الأحباب والأزواج. . . والأباء والأعمام.
أجل فأهل هذه النجوع يحيون وأكثرهم نساء مترملات أو في حكم المترملات، فهن لم يفقدن العائل بالموت، ولكنهن فقدنه بالبعد والفراق، وطول المسافة التي يضل فيها الرسول، والنوى الذي يكاد تتقطع معه في سبيل الوصول واللقاء. .
وهذا نجع رابع - ومثل كثير - مرتفع جدا، فهو على ارتفاع خمسين مترا تقريبا من سطح النيل، على ربوة مرتفعة صخرية، عليها المساكن شامخة على الرغم من حقارتها، عزيزة مع ما هي فيه من ضآلة الشان، وقلة القيمة. أن الباخرة لتقف أمام هذا النجوع كأنما هي ليست حقيرة تستجدي الاكف، وتطلب من الناس المعونة والإحسان.!
يا لله! ما اعجب هؤلاء الذين يقبلون من فوق الجبل من الرحال والنساء، والبنات والأولاد الصغار في سرعة عجيبة، يقفزون من فوق الصخور، على مسافات شاسعة، بسرعة توقعك في الحيرة والخوف، تضن بأن أحدهم سينحدر إلى الهوة العميقة لا قيامة له منها، ولكن شيئاً من هذا لم يحصل. كأنما بينهم وبين هذه الصخور المحدبة الدقيقة عهد وميثاق،
لا تؤذي أحد منهم أو تناله بمكروه. وما اعجب مظهرهم وهم يفدون زرافات ووحدانا في ثياب بيض، وعمائم مثل الثياب. تتماثل كلها في طرازها وهيئتها وحياكتها. . وما الثوب إلا قميص له جيب واسع، وأكمام فضفاضة والعمامة مكورة في ضخامة تأبى القلة، وتأنف من البخل والتقتير، ومن تحت العمامة ترى هذه الوجوه السود، وتلمع تلك الأسنان الناصعة البياض، وتلك العيون الحوراء. وتلوح من جيب القميص تلك الصدور السود. ومن اسفل القميص تلك الأرجل المفلطحة. . إنه لمنظر يستهوي الأفئدة. ويسبي العقول، وخاصة تلك السذاجة التي تدفعك دفعا لاحترام هؤلاء، أو بالحرى الرثاء لحالهم، والإشفاق بهم، والعطف عليهم اجل. فانك إذا تفقدت احوالهم، واطلعت على مواردهم، أخذ العجب منك كل مأخذ وملكت الدهشة عليك عواطف. ووجدت تنفسك متسائلا في إلحاح: من أين يعيش هؤلاء؟
لن تجد جواباً شافياً على تسائلك، سوي الإيمان المطلق والتسليم المطلق. الإيمان بالله الخالق الاكبر، والتسليم المطلق الذي لا ينسي، ومحال أن ينسي عبدا خلقه وسواه، وشق سمعه وبصره، فخالق الكون كفل الرزق والحياة لكل فرد، مادام له عمر ممدود، أجل محدود، كان من كان، صدق الله العظيم. (وفي السماء رزقكم وما توعدون).
وكأني بهذا الشيخ المقبل من نجع (السبوع) لغاية في نفسه، فما هي يا ترى هذه الغاية؟ أن منظره ليثير في النفس عوامل الأسى واللوعة، والشفقة والحزن. . إنه قد جاوز الثمانين دون ريب. . أحناه الدهر فكأنما هو قوس متحرك. يتوكأ في بطئ شديد على عصاه. وكأنما هذه العصا رجل ثالثة يدب بها على الأرض، لارتيابه في رجليه واعتقاده أنهما لم يحملاه إلى ما يريد، ومع ذلك فهو يهرول بشدة، ولكنه لا يبلغ السرعة التي يريدها ويتمناها، فأن أنفاسه منقطعة، وعبثه شديد الوطأة، اليم الخطر. .
ويلاه. . لقد وصلت الباخرة ورست على الشاطئ أمام نجع (السبوع) ووصل الشيخ المتهدم إلى المرفأ، وجلس متكئاً على عصاه أيضاً، واعتمد برأسه عليها في اطمئنان عجيب. . ولكنه لم يسافر؟ ولم ينزل إليه من الباخرة أحد؟ حتى من نزل لم يعرج عليه. . ترى أكان ينتظر بريداً؟ أم تموينًا؟ أم عزيزاً لديه من ولد أو حفيد؟ لم يبدو عليه شيئاً من ذلك، يبدو أن ملامحه كانت تنطق بشيء خفي غريب ذلك إنه يأنس بالباخرة وأصوات من فيها، ويطرب بذلك الهرج الذي يحدثه الركاب حينما تقف بين حين وحين. إنها تذكره بعهد
الشباب والصبا، يوم كان يقفز هنا وهناك دون حاجة إلى سند أو معين، ولا افتقار إلى تلك العصا اللعينة التي تضيق عليه الخناق فهي تلازمه في كل مكان وزمان. . ومن يدري فربما تذكره هذه الباخرة بابن قد افتقده في ميعة صباه فهو يحن إليه كلما ترسو، فيقبل وكأنما ليلقي فيها أبنه الراحل، وفلذة كبده العزيز. . وأرتفع صفير الباخرة وأخذت تبتعد عن المرفأ فجمع الشيخ أطراف نفسه، وقام متحاملاً عليها، وعاد كما جاء، ولا يزال بصره عالقاً بالباخرة ومن فيها وكأنما يودعهم الوداع الأخير.
عبد الحفيظ أبو السعود
المعبرة والتاريخ
نهاية دجال
للأستاذ حسني كنعان
ظهر منذ سبعة عشر عاماً في غوطة دمشق، إحدى جنان الدنيا، رجل أمي يدعي (طه أبو الورد) يخرج في (الطريق) على بعض مشايخ الصوفية، ثم جمع حوله من القرويين الجهالة وقطاع الطرق. فتزيا بزي العلماء وأخذ يمخرق عليهم وينشر عن نفسه الدعاوى المظللة في قرى الغوطة على يد طائفة من الاتباع الذين أذاعوا عنه الأخبار الملفقة كادعاء إنه هو النبي المنتظر في آخر الزمان الذي يطهر البشرية من أدرانها وأوشابها، وانه من الملهمين الذين يوحي إليهم، وأنه يبرئ المرضى ويحي الموتى ويطعم الجائعين، فاصبح في قريته (عربين) مليكا غير متوج، وشاد مسجدا في ضاحية القرية وجعل فيه (زاوية) له بين الخمائل الوارفة ومنحدرات السواقي والأنهار وبن الورود والرياحين، ونصب فيها كعبة مزوقة يتوسطها صندوق من زجاج فيه حجر اسود. وجعل الطواف حولها يغني عن شد الرحال إلى الكعبة في مكة، فجازت هذه الشعوذات على بعض القرويين السذج ولقيت عندهم سوقا رائجة، ونال صاحبنا بمر الأيام شهرة فائقة وصيتا بعيدا تجاوز الغوطتين الشرقية والغربية إلى جبال القلمون، وأقبل عليه الناس زرافات ووحدانا وقدموا إليه الهدايا والأموال فغني بعد فقر، واثرى بعد إملاق.
وعلم بأمره علماء دمشق فثارت ثائرتهم، وذهبوا إليه في قريته يستطلعون طلعه ليقفوا على خبره، ولكنه كان يتظاهر أمامهم بالورع والتقوى، ويدعي إنه استطاع أن يجعل من اللصوص وقطاع الطرق قوما متعبدين متنسكين بعد أن استتابهم وأصلحهم ولم يستطع أحد من الوافدين على هذا (المخلوق) أن يقف على جلية أمره.
وبدا لي أزوره في يوم الجمعة. وكان رسولي إليه من اشد اتباعه تعصبا له، وكان لا يألو جهدا في أن يحدثني - ونحن في طريقنا إليه - عن معجزاته وخوارقه، ويحذرني من الظهور أمامه بمظهر غير لائق بمقامه الرفيع أو اشك في أعماق نفسي بصدق دعوته ونبوءته، لأن الرجل يعرف خفايا القلوب وأسرار النفوس، فإذا لقي أمامه إنساناً جاحداً أو كافراً مسخه قرداً أو أبن آوى، ثم قال لي: أنت رجل (ابن حلال) حسب ما يبدو لي فأفهم
ما قلت لك. فأجبته ضاحكاً: لا تخف، فأنا لم اقصد صاحبك إلا من احل أن اهتدي بهديه واطهر نفسي مما علق بها من الرجس، فبرقت أسارير صاحبي واطمأن إلى وطمع في رضا سيده عنه وتقريبه إليه. ولما بلغنا المكان الأقدس سمعنا أصوات المؤذنين تتجاوب بها المآذن، وشهدنا زحاماً عظيماً على بابه، فشق لي صاحبي طريقاً للوصول إلى المصلى فدخلته ورأيت الناس ما بين قائم وقاعد ومتوضئ، ودنا وقت الخطبة، فخرج على القوم شيخ هائم غائر العينين، وتراكض القرويون إليه يقبلون يده فحسبته صاحبهم وهممت أن افعل فعلهم لولا أنني سمعته يقول: استعدوا فنبيكم قادم، فأدركت إنه أحد صحابته المقربين، وما لبث الشيخ أن اقبل على مهل، وروائح الند والكافور والطيب تضوع من أردانه، فخر القوم سجدا وبكيا، فرأيت عملا بوصية ديدباني أن افعل فعلهم، ولم ادر ماذا كانوا يقولون في سجودهم غير أنني سمعت رجلا إلى جانبي يقول:(يا أبا الورد، يا منبر الظلمة في اللحود، ويا منقذ الصحب في اليوم الموعود، كن لنا شفيعا للغفور الودود)! وقد كال سجودهم ولم يرفعوا منه رؤوسهم إلا بعد دقائق عشر، ولما نهضوا تقدم فوج من النسوة يلثم الأيدي الشريفة، وتبعهن الرجال وأنا في مؤخرتهم، ومذ وقع بصره علي وصافحت عيناه عيني حد جنبي بطرف موقر وأدرك بثاقب بصره أنني ما أتيت متجشماً المصاعب إلا من اجل الوقوف على رجليه أمره، فتظاهر أمامي بالورع والسذاجة وابدى لي الاحترام ورحب بي، وصعد المنبر وأخذ يتدفق في خطابه تدفق السيل وأورد من الأحاديث العجيبة ما لم يسمع به إنسان، ولو أن (سيبويه) سمعه لفضل الموت انتحاراً. .
وبكى المستمعون ما وسعهم البكاء، وبدا لهم بثوبه الأبيض الناصع الحريري، وعمامته الضخمة المكورة على رأسه والمنتهية بعذبة طويلة كأنه ملك من الملائكة. . واختتم خطبته ونزل إلى الصلاة وهم يتسابقون إلى التمسح به والسعيد منهم من حظي بلمس طرف ردائه، ووقف للصلاة وسبحته الطويلة تهتز على صدره، ويبدو الكحل في عينيه خطوطا سوداء براقة، وما كاد يقرأ الفاتحة حتى اهتز القوم طربا لبراعته بالتلحين والتطريب حتى كدت احسب إنه يغنى (العتابا) أو (الميجانا) وانبعثت من حناجرهم الفولاذية الصرخات المدوية، وأخذوا يبكون في الصلاة ويجهشون في البكاء ويقفزون في الهواء قفزات بهلوانية ويقلدون أصوات الحيوانات فكنت لا اسمع إلا الثغاء والمواء والعواء والجئير والزئير
والهدير. ففت في ساعدي واسقط في يدي وهممت أن انفلت من بين الصفوف هاربا ولكني خشيت سوء العاقبة، وقضيت الصلاة بعد ساعة شعرت فيها أن الأرض قد دارت بي مما اعتراني من الإعياء والتعب، فلقد كان يطيل ركوعه وسجوده ويتنطع ويتقعر في القراءة، وتلمست طريقا للخلاص متسللا من بين الصفوف دون أن يشعر بي أحد ناجيا بنفسي، وفور وصولي إلى دمشق أذاعت في الصحف نبأ ما سمعت وما رأيت محذرا أولي الأمر والرأي العام من خطر هذا الأفاك الأثيم، فلم تلق صرخاتي آذاناً صاغية ولا قلوبا واعية لأن الحكومة الفرنسية كانت تشجعه وتشجع أمثاله وتلقي لهم الحبل على الغارب وبقي هذا الطاغية يعبث بعقول السذج البسطاء من اتباعه فيسلبهم العقل والمال والعرض منذ بدء العهد به حتى يومنا هذا. وقد مد الله ليتيح له فرصة التوبة ولكنه لم يتب برغم بلوغه الستين من العمر، فأخذه أخذ عزيز مقتدر، وألقي الرجل منذ أيام في غياهب السجن بين جدران حاشرة لا يري فيها النور الشمس، وها هو ذا اليوم يدان بفضيحة جديدة تثبت سطوه على أعراض النساء اللواتي كن يستسلمن له، فضيحة جرت فضائح، كان لها ريح خبيث، ودوي مزعج، وصور لا يستطيع أن يرسم أفحش منها إبليس نفسه.
ولقد ثار العلماء وأعلنوا البراءة منه ومن امثاله، ونرجو أن يكون مصيره عبرة لكل ممخرق يريد أن يخدع الناس باسم الصوفية والدين، فحسب الشريعة البيضاء النقية، ما أصابها من سواد، وما مسها من عكر!
دمشق
حسني كنعان
كتاب مقاييس اللغة لابن فارس
للأستاذ حامد مصطفي
تكثر المخطوطات العربية في مكتبات أوربا كثرة تدعو إلى الالتفات إلى هذه الثروة العظيمة من أدب العرب وتاريخ العرب وعلوم العرب. ومهما كانت الوسائل التي اجتمعت بها هذه الثروة في خزائن الكتب الغربية فأن هناك ما يبرر الارتياح إلى انتقالها إلى تلك البلاد. ذلك أن النهضة العلمية التي قامت في أوربا على أثر اختفاء نور الحضارة العربية كانت مأخوذة بالحرص على أسباب النهضة ومقومات الثقافة فوجدت في هذه الكنوز العربية ما يغذي الحركة العلمية ويؤلف عنصراً مهماً من عناصر البحث فأقبلت عليها درساً واهتماماً وحاطتها بكل أسباب العناية والحفظ.
هذا على حين كانت العقلية العلمية في الشرق على الضد من ذلك: فتن وقلاقل وغزوات وانشغال بهذه الحوادث عن العلم والأدب والفنون، فهجر العلماء والأدباء موطنهم وفقدوا خزائن كتبهم بسبب هذه الهجرة واغتصبت منهم أحياناً فأحرقت أو رميت في الأنهار. وما أصاب خزائن الكتب الغربية لم يكن إلا بقايا هذه الكتب التي بعثرت في الأرض فأخذت أيدي الصبيان والجهلة أو استخلصت من لهيب النيران.
وربما كان أول البلاد التي فقدت ثروتها من الكتب العراق وسورية وأحسنها حظا في هذا مصر، والحوادث السياسية والاجتماعية هي التي تؤول أسباب فقر ذنيك البلدين من الثروة العلمية وحسن حظ هذه منها. على أن الأيام قد عادت بنا إلى الأمل بإمكان العثور على بعض من الكتب القيمة التي لم يكتب لها حظ الطبع والانتشار. ففي بعض المكتبات الشخصية في العراق يمكننا أن نجد مخطوطات تعد في طليعة الكتب العربية أثراً وفائدة، منها كتاب العين للخليل بن أحمد وكتاب المحيط للصاحب بن عباد، والمجمل لابن فارس وغيرها ومن بين هذه كتاب المقاييس في اللغة لابن فارس. ولابد من الكلام على شئ من سيرة أبن فارس مع الكلام على مؤلفه الذي نحن في عرض ذكره. فهو أحمد بن فارس الرازي. ينسب إلى الري. عاش في أواسط القرن الرابع الهجري ومات سنة 395 عاصر الصاحب بن عباد وابن جني وأخذ عنه بديع الزمان الهمذاني الأسلوب المعروف بأسلوب المقامات. وفي عصره ظهر مؤلفو المعاجم الأولى مثل الصاحب بن عباد صاحب المحيط
والجوهري صاحب الصحاح والأزهري صاحب التهذيب. . وكان أديبا حسن الأدب والشعر ومن شعره قوله:
وقالوا كيف أنت فقلت خير
…
تقضي حاجة ويفوت حاج
إذا ازدحمت هموم القلب قلنا
…
عسي يوماً يكون لها انفراج
نديمي هرتي وسرور قلبي
…
دفاتر لي ومعشوقي السراج
وقوله:
إذا كان يؤذيك حر الصيـ
…
ف وكرب الخريف وبرد الشتا
ويلهيك حسن زمان الربيـ_ع فأخذك للعلم قل لي متى
ومن لطيف نظمه قوله:
يا دار سعدي بذات الضال من أضم
…
سقاك صوب حيا من واكف العين
إني لأذكر أياماً بها ولسنا
…
في كل إصباح يوم قرة العين
تدني مشعشعةً منا معتَّقة
…
تسحها عذبة من نابع العين
إذا تمزّزها شيخ به طرَق
…
سرت بقوتها في الساق والعين
والإبريق ملآنُ من ماء السرور فلا
…
تخشى توله ما فيه من العين
وَغاب عُزّالنا عنا فلا كدر
…
في عيشنا من رقيب السوء والعين
يقسم الودّ فيما بيننا قسماً
…
ميزان صدق بلا بخس ولا عين
وفائض المال يغنينا بحاضره
…
فنكتفي من ثقيل الدين بالعين
والمجمل المجتبي تغني فوائدُه حفاظه
…
عن كتاب الجم والعين
ولست تجد شيئاً عن أبن فارس اكثر من مثل هذه الأخبار المتناثرة شانه من هذا شان كثير ممن يترجم من رجال اللغة خاصة، ومن مؤلفاته عدا كتاب المقاييس كتاب المجمل وهو اشهر كتبه، أخذه سماعا عمن تقدمه من علماء اللغة الذين يثق بهم. وكتاب متخير الألفاظ، وكتاب فقه اللغة، وكتاب الصاحبي في اللغة صنفه للصاحب بن عباد وهو مطبوع بمصر، وكتاب نقد الشعر وغيرها من الكتب المفقودة أو الموجودة في بعض المكتبات المصرية أو الأوربية. وكتاب المقاييس من أهم مؤلفات أبن فارس في اللغة. وقد ذكره له السيوطي في كتابه المزهر وياقوت في معجم الأدباء. ولم يذكره له صاحب وفيات الأعيان من المتقدمين
ولا الأستاذ جرجي زيدان من المتأخرين في كتابه تاريخ آداب اللغة العربية، وإنما عرض له في الجزء السابع من مؤلفه هذا في مناسبة الكلام على بعض المكتبات العربية في العراق. وكتب الأستاذ عبد القادر المغربي في مجلة المجمع العلمي العربي إنه عثر على نسخة من كتاب مقاييس وذكر أوصاف هذا الكتاب ورسمه وحجمه ولكن هذا الوصف لا يصدق على النسخة التي نكتب هذه الكلمة عنها ربما كانت النسخ التي رآها ليست كتاب المقاييس أو إنها إيجاز له. فقد قال إنها تبلغ 779 صفحة وهي بقطع دون المتوسط وخطها من النسخي الحسن الصغير الحروف وفي الصفحة الواحدة 27 سطرا. على حين أن النسخة التي نتكلم عليها تقع في 1200 صفحة من القطع الكبير في كل صفحة 27 سطرا يبلغ السطر بين 16 - 21 كلمة بخط نسخي جميل.
وفيما يلي فاتحة الكتاب وخاتمته لتمتاز بهما النسخة الحقيقة كم هذا الكتاب الجليل:
بسم الله الرحمن الرحيم
(الحمد لله وبه نستعين. وصلى الله على محمد وآله أجمعين. أقول وبالله التوفيق. للغة العرب مقاييس صحيحة وأصول تتفرع منها فروع. وقد ألف الناس في جوامع اللفظ ما ألفوا ولم يعربوا في شئ من ذلك عن مقاييس ولا اصل من تلك الأصول والذي أومأنا إليه باب من العلم جليل وله خطر عظيم. وقد صدرنا كل اصل بأصله الذي يتفرع منه مسائل حتى تكون الجملة الموجزة شاملة للتفصيل ويكون المجيب عما يسال عنه مجيبا عن الباب المبسوط بأوجز لفظ وأقربه. وبناء الأمر في سائر ما ذكرناه على كتب مشتهرة عالية تحوي اكثر اللغة. فاعلاها وأشرفها كتاب أبي عبد الرحمن بن احمد المسمى كتاب العين.
اخبرنا به علي بن إبراهيم القطان بعد أن قرأ عليه قراءة. وقال حدثنا أبو العباس أحمد بن إبراهيم المدني عن أبيه إبراهيم بن إسحاق عن ميدان بن كبرة الأصبهاني ومعروف بن حسان عن الليث. ومنها كتابا أبن عبيد في غريب الحديث ومصنف الغريب حدثنا علي بن عبد العزيز عن أبي عبيد. ومنها كتاب المنطق. اخبرني به أبي ووالدي فارس بن زكريا عن أبي نصر أبن أخت الليث بن إدريس عن الليث عن أبن السكيت. ومنها كتاب أبي بن دريد صاحب الجمهرة. أخبرنا به أبو بكر محمد بن أحمد الأصفهاني علي بن أحمد المساوى عن أبي بكر. فهذه الكتب الخمسة معتمدنا فيها. ومنها استنبطنا كتابنا هذا المقاييس
اللغة وما بعد هذه الكتب فمحمول عليها وراجع إليها حتى إذا وقفنا على شيء فيها نسبناه إلى قائله أن شاء الله فول ذلك كتاب الهمزة 220 وخاتمة الكتاب تنتهي هكذا:
(قال الشيخ الإمام الأجل السعيد أبو الحسين أحمد بن فارس واجزل له الثواب. قد ذكرنا ما شرطنا في صدر الكتاب أن نذكره وهو صدر من اللغة صالح فأما الإحاطة بجميع كلام العرب مما لا يقدر عليه إلا الله تعالي أو نبي من أنبيائه عليهم السلام بوحي الله تعالي وعز إليه. . . والحمد لله أولاً وأخراً وباطناً وظاهراً والصلاة والسلام على رسوله محمد واله الطيبين الطاهرين أجمعين والحمد لله رب العالمين. تم على يد أفقر العباد وأحوجهم إلى رحمة ربه الغني خليفة بن يوسف النجفي في يوم الجمعة 18 رجب المرجب من شهور سنة 1117 (كذا) وألف 22.
والطريقة التي اتبعها أبن فارس في تأليف هذا الكتاب الطريقة الأبجدية وذلك أن المؤلف أراد أن يتجنب العيوب التي تتعرض لها الخليل في ترتيب كتاب العين ووقع معه فيها اكثر مؤلفي المعاجم اللغوية حتى ظهور الصحاح للجوهري. مثل الهروى وأبي عمرو الشيباني في كتابي الجيم والجمهرة لابن دريد والأزهري في التهذيب وأبن سيده في كتابه المحكم.
والترتيب الذي اتبعه أبن فارس في المقاييس هو الترتيب الأبجدي الذي يلتزم أحداث كتب بعدد الحروف الأبجدية ثم إنشاء أبواب تحتها بعدد هذه الحروف ناقصا ما سبق منها ترتيبه، ترتب الكلمات فيها على الأصل الثلاثي بحسب ترتيبها الهجائي، ينقص من هذه الأبواب بطبيعة الحال مالا وجود له من الأصول في اللغة ومما لا يراه المؤلف صحيحا (وقد شرطنا في أول كتابنا هذا أن لا نقيس إلا الكلام الصحيح). مثال ذلك كتاب الهمزة. فانه يبدؤه بالهمزة ومضاعف ما بعدها وهو الباء مثل الأب وأت وأث وأج وأح حتى يستوفي جميع الحروف، ثم يحدث بابا للثلاثي الذي أوله همزة مثل أبت وأبث وأبد وأبر. . الخ وبابا للثلاثي الذي أوله الهمزة والتاء وما يثلثهما مثل أتل وأتم. الخ وبابا ثالثا الذي أوله الهمزة والثاء والراء وما يثلثهما مثل أثر وأثل وأثم وأثن وأثوي. وبابا للثلاثي الذي أوله الهمزة والجيم وما يثلثهما مثل أجح وأجد وأجر وأجص وأجل. . . الخ وهكذا يجري المؤلف حتى يستوفي حرف الهمزة وما يكمل معه الأصل الثلاثي متبوعا بغيره. وبعد أن
يفرغ من باب الهمزة ينشئ كتاب الباء ويستوفيه على النحو الذي استوفي فيه كتاب الهمزة. وكذلك يفعل حتى يأتي على عدد من الكتب بعدد حروف الأبجدية متروكا منها ما لا اصل له في اللغة. والطريقة التي يسلكها في شرح الألفاظ هي الطريقة القاموسية التي تعطي لكل لفظ ما له من معني مع شئ من الشواهد وتصنيف المعاني ما وجد إلى التصنيف سبيلا. وبذلك فهو يجمع بين طريقة المعجم الخالصة وطريقة فقه اللغة. مثال على ذل قوله في أول كتاب الباء بت. الباء والتاء له وجهان واصلان أحدهما القطع والآخر الضرب من اللباس. فأما الأول فقالوا البت القطع المستأصل، يقال بتت الحبل وابتت. ويقال أعطيته هذه القطعة بتاً بتا وألبتة اشتقاقه من القطع غير إنه مستعمل في كل أمر يمضي ولا يرجع فيه. يقال انقطع فلان عن فلان فابتت وانقبض، قال شعر
فحل في جشم وابتت منقبضاً
…
بحبله من ذري الغر القطاريف
قال الخليل أبت فلان طلاق فلانة أي طلاقاً باتاً. . الخ
وكذلك كلما جاء على اصل من الحروف تتبع له أصوله وان لم يجد له أصلا أو لم يره نبه على ذلك بمثل قوله: بخ الباء والخاء قد روي فيه كلام ليس أصلاً يقاس عليه وما أراه عربيا وهو قولهم عند مدح الشيء بخ وبخبخ فلان إذا قال ذلك مكررا له. وإذا شذ عن الأصل لفظ عرف بهذا الشذوذ بمثل قوله: وقد شذ عن هذا الأصل كلمتان: قولهم للرجل العظيم الخلق ابد. قال شعر: ألد يمشي مشية الأبد.
حامد مصطفي
عضو في مجلس التمييز الشرعي
من وراء المنظار
ولكنني كسبت القضية!
هي قضية اعرضها عليك يا قارئي العزيز بعد أن كسبتها على حد تعبير حضرات المحامين. . .
واحب أن تعلم قبل أن أحدثك عن القضية أنني رجل لا أطيق أن أرى مخلوقا في موطن مواطن الضعف أو المذلة، ولقد يجبهني شخص بما لا أحب فافضل ذلك على أن أراه يستعطف ويبكي؛ ولقد احب من أحد تلاميذي أن يكلمني في شيء من أن يجهر لي بالقول، ولا أحب منه أن يستخزي ويضعف ويستكين. . .
ومن أراد أن يزحزحني عن شيء عقدت الشيء على ألا أتزحزح عنه، ومن أراد أن يستلب مني شيء وهو عزيز على أن كان ثمة عندي ما يستلب، فليأت إلى ثم فليتصنع الضراعة وليظهر التفجع والتوجع فانه إذ ذاك يراني تراجعت تراجعا عجيبا ثم ليجهش إجهاشه واحدة فعندئذ يراني قد سلمت تسليما. . .
وليغفر لي القارئ إسرافي هذا الحديث عن نفسي فما كنت لأفعل لولا إنه يتصل بسبب قوي من قضيتي التي أريد أن أتحدث عنها. . .
دخلت على أحد ذوي قرباى في بيته وهو ممن يشغلون أحد المناصب الكبيرة، فلمحت في وجهه من إمارات الغضب والتكره ما لم أرى مثله من قبل في هذا الوجه السمح وما كاد يراني حتى ابتدرني بقوله: ادخل هذه الحجرة فستجد سيدة مع زوجتي فأخرجها وإياك أن تبطئ أو تتهاون.
فدخلت الحجرة مندهشا، فإذا بي تلقاء سيدة في حدود الأربعين غارقة في دموعها كما يقولون، ويقطر من منديلها الدمع وتسح عيناها سحا وتجهش حتى لا تكاد تبين الكلام، والى جوارها ابنة لها في نحو الخامسة عشر حسناء رائعة لولا ذبول وصفرة في محياها ونحول في بدنها، وطفلان أحدهما في العاشرة أو فوقها قليلا والثاني طريدة في العمر، وكانت البنت تجهش لإجهاشات أمها والطفلان ينظران في دهشة وألم يمسح كبيرهما عينه بمنديله.
وعلمت أن زوج السيدة مختلس، وان التحقيق أدانه، وإن زوجته باعت حليها وأدت عنه ما
اختلس، وإنها علمت إنه سيطرد من عمله وان قريبي هو الذي أعد مذكرة يقترح فيها الطرد؛ وأخرجت السيدة صورة طفلين آخرين من أولادها وقالت ماذا نصنع جميعاً والي أين نذهب؛ ثم أجهشت إجهاشة طويلة أستفرغت فيها كل المها ووضعت بنتها وجهها بين كفيها وشهقت شهقة طويلة.
وما وقعت والله عيناي على صورة الطفلين الصغيرين، وما سمعت بكاء الأم وبنتها حتى انخلع قلبي وأحسست بالدموع تتساقط على وجنتي ساخنة وأنا لا ادري ماذا أقول، وما أحسبك أيها القارئ إلا تحبس دمعك في جهد الآن أو لعلك تسخر مني وتضحك من ضعفي سامحك الله. . .
واستبطاني قريبي فناداني، فخرجت إليه وأنا على هذه الحال، ورحت أتوسل إليه أن يخفف العقاب، قائلا ما ذنب هؤلاء وأين تذهب هذه البنت؟ وكيف تطعم هؤلاء الصغار؟
ونظر إلي طويلا وهو يتفكر ثم قال: (ولكنه مختلس وانه يسلب حق المجتمع، أنني تلقاء اختلاس محض. . . ألم يكن يعلم هذا المختلس السافل أن له زوجة وأطفالاً؟)
وقلت ناشدك الله أن تعفيني من سماع هذا كله - ماذا يصنع هؤلاء وما جريرتهم؟
وتنهد وقال أنت لا تصلح أن تكون قاضيا. فقلت يرحمك الله ما سالت أحد أن يجعلني قاضيا، ولو أعطيت إضعاف ما أعطى أجراً على عملي ما قبلت أن أكون قاضيا ولا فقد أطلقت كل مستعطف ودفعت ما اقبض من اجر لكل باك متوسل.
وضحك قريبي وقال: لم ارفع المذكرة إلى الوزير بعد وسأقترح خصم نصف مرتبه وإنذاره بالرفت. . .
وأسرعت إلى الحجرة فما كدت أفضي إليها بهذا النبأ حتى أقبلت على تريد أن تقبل يدي، فحلت بينها وبين ذلك في رفق ثم سألتها كيف تعيش الشهر بنصف المرتب؟ فقالت (وعد إخوانه إن وصل الأمر إلى هذا أن يجمعوا له إعانة. . . ولكني لن ارضي بهذا وسوف أبيع صيوان الملابس.)
وخرجت ولست انسي أبداً نظرة الشكر في عينها وعيني بنتها، وعدت إلى قريبي فنظر إلى يسخر من ضعفي وأعاد على قوله: أنت لا تصلح أن تكون قاضيا. . وابتسمت وأجبته ولكنني كسبت القضية.
وإياك أن تسخر من ضعفي أيها القارئ، وخير ما أرجوه لك أن تكون ضعيفا مثلي وان لم تبلغ في الضعف حد البكاء.
الخفيف
تعقيبات
جناية أدبية
لكل شئ في مصر حمي يرعى من رادع القانون أو زاجر الضمير أو
حرمة التقاليد إلا مسالة الملكية الأدبية، فإنها لا تزال كالكلأ المباح
ينتبه الناهبون تحت سمع الناس وبصرهم في غير تحرج ولا تأثم،
وكان أثر الفكر، وهو الغالي العزيز، كتب عليه في هذا البلد أن يكون
كالطفل اللقيط، يصح لأي عقيم من الناس أن يتبناه. . .
على أني قد استسيغ انتهاب الأثر الفكري يتأتى من جاهل يريد أن يتحلى بالانتساب إلى العلم، لأنه يكون كجرم من عالم إذا يسرق ليأكل، ولكن كيف يستساغ هذا الجرم من عالم يجب أن يتحلى بأمانة العلم وكرامة العلماء، وبخاصة إذا وقع من الحي نحو الميت، ومن الصديق مع الصديق، وكان الأمر في هذا معلما لسائر الناس؟
وهذه قصة من قصص الجنايات الأدبية التي تقع كثيراً في مصر، ولكنها غريبة في أطوارها مريبة في تفصيلها، وان الأمر فيها ليتجاوز كل ما ألف الناس في هذا السبيل.
يرجع الفصل الأول من هذه القصة إلى اكثر من عشرين عاما مضت، إذ كان أستاذنا وصديقنا الأستاذ محمود مصطفي رحمة الله عليه قد تملكته الرغبة في نقل كتاب قصص اللغة العربية بأسلوب جزل يقوي ملكة الإنشاء في الشباب ويقوم ألسنتهم في التعبير، وما كان الأستاذ محمود مصطفي يعرف لغة أجنبية، أو قل إنه كان لا يدرك من ذلك القدر الذي يعينه على النقل والترجمة، ولكنه رأى أن السيد مصطفي لطفي المنفلوطي وهو أيضاً لم يتعلق بلغة أجنبية قد نقل إلى العربية عدة روايات عن الفرنسية وغيرها، إذ كان يعتمد في هذا على مترجم ينقل له نقلا حرفيا، ثم يأخذه فيصقله صقلا عربيا مبينا، بعد أن يتصرف فيه على هواه ويجري به في السرد كما يرى، ومن ثم قوبلت روايات المنفلوطي بالارتياح والتقدير من ناحية أسلوبها العربي ولكنها قوبلت بالاستنكار من ناحية ارتباطها بالأصل الأجنبي، حتى قال أحد الأدباء أن من الخطأ والإسراف أن يسمي المنفلوطي عمله هذا نقلا وترجمة وإنما الأحرى أن يسميه مسخا وتشويها.
ثم كان أن نهض الأستاذ الزيات (صاحب الرسالة) بترجمة (رفائيل) و (آلام فارتر) عن الفرنسية بأسلوب عربي هو أسلوب الزيات، وفي رعاية دقيقة للأصل الأجنبي مكنه منها حذقه للغة الفرنسية، فقوبل هذا العمل ببالغ التقدير والثناء في الدوائر الأدبية؛ وكان هو الباب الذي دخل منه الزيات) إلى ما بلغ من مجد أدبي.
وعلى نهج الأستاذ الزيات أراد أن يسير الأستاذ محمود مصطفى في تنفيذ رغبته، وان يراعي في نقل الكتاب الذي يريد نقله دقة الارتباط بالأصل الأجنبي حتى يتقي ما وجه إلى المنفلوطي من نقد وان يكسب ما كسب الزيات من تقدير، وقد كان المختار (يوميات الفيلسوف القانع) واعتمد على الأستاذ اسعد عبد الملك - وكان زميلا في وزارة المعارف - في نقل هذا الكتاب نقلا حرفيا، ثم ترك أهله وداره وسكن مصر الجديدة ليتفرغ إلى صقل الكتاب في الأسلوب الذي يريد، وقد تم له ما أراد وظهر الكتاب في طبعته الأولي وعليه اسم الأستاذ محمود مصطفي - وفيه الأسلوب وروحه وجهده، والي جانبه اسم الأستاذ اسعد عبد الملك الذي نقله عن الفرنسية نقلا حرفيا. . . وكان الأستاذ محمود مصطفي شديد الاعتزاز بهذا الأثر، وكان يحدثني كثيراً عما لاقي فيه من العناء، وقال لي: لا تحسب يا فلان أن الترجمة الصحيحة عمل سهل، بل إنه عمل اشق من التأليف. . .
وفي هذه الأيام ظهر كتاب (يوميات الفيلسوف القانع) في طبعة ثانية، ولكنه يحمل اسم الأستاذ اسعد عبد الملك وحده، ويعلل حضرته هذا الاستئثار بملكية الكتاب بأنه أولا رأى أن أسلوب الكتاب في طبعته الأولى أشبه بأسلوب الجاحظ وابن المقفع وكتاب الصدر الأول فعمد إلى تبسيطه وحذف ما فيه من كلمات وتعبيرات رآها غريبة عميقة مما لا يناسب روح العصر كما يقول، ومن جهة ثانية لأن الأستاذ محمود مصطفي نزل له عن الإسهام في الترجمة بعقد مؤرخ في 5 - 9 - 1927م.
أما مسالة تغيير الأسلوب فانه جناية على الأستاذ محمود مصطفي لأنه مسخ لجهده، وجناية على الكتاب لأنه حط قيمته، على أني قابلت بين الطبعتين فلم أر هذا التغيير إلا في كلمات وتعبيرات كان الأستاذ محمود مصطفي يشرح معناها، فحسبها صاحبنا غريبة لا تلائم العصر.
أما مسالة العقد فقد حدثني الأستاذ محمود مصطفى رحمة الله إنه لما فرغ من الكتاب اتفق
مع زميله على أن يتقاضى منه قدرا من المال وينزل له عن الحق المادي فيه ليتولى هو تصريفه وجمع نقوده لأنه لا يصبر على المساومات المادية، وقد كان هذا شأن الأستاذ محمود مصطفى في جميع ما ألف من الكتب، وهب أن الأستاذ مصطفى نزل عن حقه الأدبي فهل يكفي هذا العقد لنقل هذه الملكية، وهل يصح يا أخي لدور النشر التي تشتري حق تأليف الكتب من المؤلفين أن ترفع أسماءهم من عليها وتدعي إنها من تأليفها وعبقرية أموالها؟!
إنه الواقع عمل غير مستساغ، إنها تجارة بأكفان الموتى إنها جناية أدبية أضع تفاصيلها تحت الأنظار ليرى الناس فيها رأيهم.
أستاذي يا صاحب الرسالة. أرجو ألا تغير حرفا من هذا الكلام فيما يخصك أو يخص غيرك، فانه حق الأدب والتاريخ، وإني لأكتب للأدب والتاريخ، وقد عاش الأستاذ محمود مصطفى يقاسي أهوالاً من الجحود، وأنا لا ارضي - وأنا تلميذه الوفي - أن يلاحقه هذا الجحود في قبره، نضر الله قبره، ورحمة رحمة واسعة. . .
ولكنها الأوضاع المقلوبة:
كتب صديقنا الأديب الأستاذ (وديع فلسطين) في جريدة الإنذار التي تصدر بإقليم المنيا يقترح على جامعة فؤاد الأول أن تأخذ بتلك السنة التي استنتها الجامعات الغربية بمنح الأفذاذ من العلماء والساسة درجة الدكتوراه الفخرية دون أن تكفلهم أعداد رسالة خاصة أو أداء امتحان شفهي كما يحدث مع سائر الذين يظفرون بالدكتوراه.
وبعد أن سرد الأديب أسماء بعض العظماء الذين منحوا الدكتوراه الفخرية من الجامعات الغربية والأمريكية مثل الرئيس ترومان والمستر مارشال والمستر بيفن والدكتور تشارلس واطسون والدكتور فارس الخوري ممثل سوريا في مجلس الأمن قال: (أما في مصر فلا نكاد نشعر بأن جامعاتنا تقدر هذه الدرجة الفخرية، ولذلك لم تمنحها إلا إلى أفراد لا يتجاوز عددهم ثلاثة أو أربعة مع أن في مصر عشرات من الأدباء والعلماء والساسة الذين يخلق أن تفكر الجامعة في منحهم الدكتوراه الفخرية أمثال الأساتذة عباس العقاد وفؤاد صروف واحمد أمين واحمد حسن الزيات وأنطون الجميل باشا وخليل ثابت بك وخليل مطران بك ومحمود تيمور بك وإسماعيل صدقي باشا وعبد العزيز فهمي باشا، فأن جميع هؤلاء
وغيرهم يستحقون عن جدارة أن تكرمهم الجامعة هذا التكريم الرمزي بأن تمنحهم شهادة الدكتوراه الفخرية اعترافا منها بالخدمات الجليلة التي أسداها كل منهم في ناحية من نواحي الحياة العامة).
وهذا اقتراح حميد في ذاته، وأنا أرجو أن تأخذ الجامعة بهذا التقليد، لا لأن الدكتوراه سترفع من قيمة هؤلاء الأساتذة، بل لأنه سيكون دلالة على أن الجامعة عندنا قد نضجت وإنها تحسن تقدير القيم الفكرية وتعترف للموهوبين بمواهبهم، وإلا فإن هؤلاء الأساتذة قد أخذوا مكانتهم في تقدير الأمة وفي تقدير الأجيال القادمة، ولن تستطيع أية دكتوراه في العالم أن تفرض لإنسان مكانة في هذا وان فرضت له مكانة في وظائف الدولة وأفسحت له مكانا في مكاتب الحكومة. . .
ولكني أرجو أن لا يتم هذا التقليد في هذه الاونة، لاننا في وقت أفسدت فيه السياسة الحزبية عندنا كل تقدير وكل تصرف، ولعل لنا في مسالة اختيار الأعضاء لمجمع فؤاد اللغوي اكبر عبرة، فقد رأينا كيف يختار فلان وفلان أعضاء في هذا المجمع، على حين ينسي ويهمل الذين هم أهل لهذا من العلماء والأدباء، ولولا أن أكون معيبا - كما يقول شيخنا الجاحظ - لضربت بالقول رأس فلان وفلان ممن لا يصح أن يكونوا من أهل هذا المجال قلامة ظفر، ولكن السياسة الحزبية أصرت على أن تربطهم رغم العلم والأدب بهذا المجال.
وكذلك الشان لو أن الجامعة أخذت بهذا التقليد المقترح، فإني أتوقع أن تجري الأمور على ما عرفنا وألفنا، وسينال الدكتوراه الفخرية كل من هو على شاكلة فلان وفلان، ولن ينالها أولئك الأدباء والعلماء والساسة الذين ذكرتهم.
يا سيدي. اترك الملك للمالك كما يقول أبناء مصر، وانشد مع المتنبي:
وكم ذا بمصر من المضحكات
…
ولكنه ضحك كالبكا
بها نبطي من أهل السواد
…
يدرس انساب أهل الفلا
فنحن في كل أمورنا ما زلنا نأخذ بهذه الأضحوكة، نجعل تدريس انساب العرب لكل نبطي أعجمي من أهل السواد، ونعوذ بالله من انعكاس الأوضاع، وانتكاس الأوجاع.
(الجاحظ)
الأدب والفن في أسبوع
بين الشبان والشيوخ:
مسالة الشيوخ والشبان في الأدب بمصر، مسالة قديمة ظهرت بوادرها منذ سنين، إذ هب بعض أدباء الشباب يعلنون أن الشيوخ يستأثرون بمجالات الأدب، ويتجاهلون الشبان، ويسدون عنهم الطرق؛ وقامت إذ ذاك معركة كان هجوم الشباب فيها عنيفا، ودفاع الشيوخ متثاقلا غير مكترث. . وسكن عجاجها، ولكن دواعيها وآثارها بقيت كامنة، تبدو في أحاديث المجالس وخاصة بين الشباب، وتحجم عن الظهور في كتابة منشورة، لأن فرقاً الشباب قد انطووا تحت ألوية الأدباء الكبار، وخاصة من رأوهم بحيث يقدمون ويؤخرون، وينفعون وقد يضرون. . . ومن الشباب من لم يستطيع أن يعلن ثورته، لأن المشرفين على النشر من الشيوخ لا يمكنون له، أما مجاملة، أو لأن ما يكتب يند عن اللقيان.
استقرت الحال على ذلك، ودامت الهدنة طيلة السنين الماضية، ولكنها الآن أعيدت جذعة. . . فمن آثارها؟ أهو الدكتور طه حسين بك في (هلال) يونية الماضي، أم الأستاذ سيد قطب في (العالم العربي) هذا الأسبوع؟
قال الدكتور طه في مقاله بالهلال: أن الشباب يقولون للشيوخ أفسحوا لنا الطريق إلى الأدب والعلم والفن، والشيوخ لا يصدون الشباب عن أدب أو علم أو فن، وتساءل: أليس من الممكن أن يكون ينفسه الشباب على الشيوخ إنما ما قد ينتجه الأدب والعلم والفن من إقبال الناس على الشيوخ اكثر مما يقبلون عن الشباب؟ وقال أن الشهرة لا تكسب ألا بالعمل الشاق، والمال يسعى إلى العاملين وهم اشد مما يكونون ابتذالا له واستهزاء به. والشيوخ في طريقه إلى الراحة الموقوتة أو الدائمة، والشباب في طريقهم إلى أن يأخذوا مكان الشيوخ، والذوق كل الذوق ألا يتعجل الأبناء مصارع الاباء، والخير كل الخير أن تقوم الصلات بين الأجيال على المودة والحب لا على التنافس الذي يحفظ القلوب ويفسد الضمائر.
مر هذا الكلام عابرا سالما أربعين يوماً، ولكن الأستاذ سيد قطب عده اعتداء على دولة الشباب، فأعلن بدء المعركة بين الشبان والشيوخ في العدد الأخير من مجلة العالم العربي، قال إنه يواجه الدكتور وسائر الشيوخ بالحقيقة التي يحسها الشبان ويرددونها في ندواتهم
ومجامعهم: إن هذا الجيل من الشيوخ قد تخلى عن امانته، لا لذلك الجيل من الشبان فحسب، ولكن للوطن، وللمجتمع، وللإنسانية، وأخيراً للضمير الأدبي كله).
وبين هذا التخلي عن الأمانة بأن شيوخ الأدب لم يرعوا قضايا الوطن المعلقة في خلال الحرب الماضية، وإنما انصرفوا إلى الدعاية لقضية المستعمرين في الإذاعة والصحف والكتب ابتغاء الذهب، وإيثاراً للذائذ الخاصة على مصائر الأوطان ومصالح الأقوام.
ولما وضعت الحرب أوزارها لم يكونوا في نصرة الشعوب العربية التي نهضت تطالب بحقها، ولم يكونوا في الميدان القومي، بل كانوا في ميدان الحزبية أبواقاً لها. . . ولم يناضلوا لتحقيق العدالة الاجتماعية إلا قلة منهم استجابي في تخاذل لهتاف الشعب، واندفعت الكثرة وراء أرستقراطية مصطنعة تتظاهر بها، ووراء رخاء مادي تناله من ذوي السلطان والثراء، ثم قال:(هجرتم صحفكم الأدبية العلمية النظيفة، ورضيتم صحفا أخرى، وواعدتمونا هناك، حيث لقيناكم وبجواركم الأفخاذ العارية والموضوعات القذرة)، وقال (إننا لم نجد عندكم الضمير الأدبي الذي كنا نتخيله في الأساتذة المرموقين. فانتم لا تحاولون أن تبرزوا على المسرح إلا أذيالكم وبطانتكم، والذين يؤدون لبعضكم خدمات شخصية قد لا يؤيدها الرجل الشريف!. . . وإننا معذورون إذا شككنا في شهادتكم لبعض الناس، وفي إغفالكم لبعض الناس!)
وهذه التهم التي وجهها الأستاذ سيد قطب إلى شيوخ الأدب صحيحة في جملتها، وان كان قد بالغ في بعضها واشتط في بعض. .
ولكن هل هي القضية بين الشبان والشيوخ في الأدب؟
لقد كان كلام الدكتور طه في هذه القضية، أما الغارة التي شنها الأستاذ قطب، فليس من العدل أن يخص بها الشيوخ دون الشبان! لأنها قضية الوطن مع الأدباء عامة شيخهم وشبابهم، وإن كانت تبعة الشيوخ فيها اكبر، بحكم الإقبال عليهم في الأعمال التي أخذها عليهم، وبحكم مكانتهم والثقة بهم. ولم يكن فيما قاله من قضية الشبان والشيوخ في الأدب إلا ما جاء في الفقرة الأخيرة من أن الشيوخ لا يبرزون على المسرح لا أذيالهم وبطانتهم، وانهم ينحرفون في شهادتهم لبعض الناس وفي إغفالهم لبعض الناس، ولكن كيف فات الأستاذ قطب أن هؤلاء الذين يسميهم أذيالاً وبطانات من الشبان الذين يقودون المعركة
باسمهم ضد الشيوخ؟
الاتحاد الثقافي المصري:
عرف القراء مما كتبناه في العدد الماضي من الرسالة، إنه تقرر أن يقام الاتحاد الثقافي المصري على أنقاض الاتحاد المصري الإنجليزي المنحل.
ونضيف الآن إلى ذلك إنه تجري الآن تصفية أمتعة الاتحاد القديم ومحتوياته ليأخذ كل عضو لا يرغب في الانضمام إلى الاتحاد الثقافي - ما يستحقه نقدا أو عينا، وفي جملة هذه الأشياء مكتبة الاتحاد، وفي مكتبة قيمة تحوي كبيرا من المؤلفات العربية والإنجليزية، واكثر هذه المؤلفات تتناول الموضوعات المصرية من مختلف نواحيها، وكانت الفائدة الوحيدة التي جنتها مصر من ذلك الاتحاد، استفادة الشباب المثقفين المصريين الذين انضموا إليه من تلك الكتب.
ولقد أثير موضوع مكتبة الاتحاد قبل نشأة فكرة الاتحاد الثقافي، من حيث مصيرها والأسف عليها، فلما استقر الرأي على تكوين الاتحاد الثقافي، هشت نفوس الآسفين لملاءمة المكتبة لفكرة الاتحاد الجديد. . . ولكن التصفية ستحتم عرضها للمزايدات والمساومات. . . وهنا تبدد أمل النفوس الهاشة، ولا يزال الأمر موضع التفكير.
ونحن نعلم أن بين الأعضاء المصريين من كانوا يهبون المئات والآلاف لحلفائنا الأعزاء. . . ولإنشاء نادي العلمين الذي انكشف بعد الجلاء عن عراء. . . ولما أضيف إلى (العلمين) ميم (المعلمين) كانت كميم المساكين، ومن أولي بالعراء منن المساكين؟
فهلا تفضل أولئك الواهبون بأقل مما كانوا يهبون لإنقاذ المكتبة؟
ولكن الأمل ضعيف في هؤلاء، فمالهم احب إليهم من العلوم والآداب والفنون، ولا احسبهم سينضمون إلى الاتحاد الثقافي، ولا باس بذلك فحسبنا الشباب المثقفون ومن في حكمهم من الشيوخ، أما المكتبة فيمكن فداؤها بجزء من ألف الجنيه التي كانت الحكومة تمنحها سنويا للاتحاد القديم، وستستمر على منحها للاتحاد الثقافي الجديد.
هذا وستدعي الجمعية العمومية من الأعضاء المصريين إلى الاجتماع في أوائل أكتوبر القادم، لتكوين الاتحاد الثقافي. والفكرة السائدة أن أعضاء مجلس الإدارة سيكونون جميعاً من المصريين، وان غير المصريين الراغبين في الانضمام إلى الاتحاد يعتبرون أعضاء
منتسبين.
بقي أمر نحب أن نفضي به إلى المشرفين على تكوين الاتحاد الثقافي، ذلك إنه، وقد هدأت الحالة النفسية التي نشأت مما حدث في الاتحاد القديم والتي كان من نتيجتها الشعور الحاد بالمصرية، يجب أن نشرك شقيقاتنا العربيات في الاتحاد الثقافي، ويكون اسمه (الاتحاد الثقافي العربي) لأن العرب جميعاً يتجهون إلى الوحدة الثقافية، بل هي واقعة فعلا، وجميع الآراء متفقة على تنمية هذه الوحدة، وإنها ألزم أنواع التعاون العربي لصالح جميع الأمم العربية.
الشعر والصور:
تتحايل مجلات اللهو والتسلية بشتى الحيل على نشر صور النساء المغرية بأوضاعها المثيرة بأوضاعها المثيرة. . . فهذه ذات نظرة فاتنة، وهذه ترجل شعرها بطريقة مبتكرة، وهذه تداعب كلبها، وهذه صاحبة اجمل (مايوه) وهذه تبدو في (مايوه سنة 1947) وهذه لا يرضي عنها الشيخ أبو العيون. . .
ولم يقتصر على ذلك نشاط الصحفيين المشتغلين بهذا النوع من الصحافة، بل امتد إلى الشعراء يستعينون بهم على جديد في ذلك المضمار. . .
- ما رأيك يا أستاذ في هذه الصورة؟
- وجه حالم. . يوحي بالشعر!
وينزل الوحي) على الشاعر فيكون (جوازاً) لنشر الصورة. . . وقد أكثرت تلك المجلات في الأسابيع الأخيرة من نشر هذه الصور مع أشعار الشعراء، وقد لا يري في ذلك باساً من ينظر إلى المسالة من الناحية الفنية البحتة، ولكن الواقع أن ما ينشر من الشعر على هذه الطريقة لا يرضي الخاصة ولا يعجب العامة، لأنه مصنوع لا يعبر عن عاطفة ولا ينبئ عن احساس، وإنما يقال بدافع الرغبة في شئ ينشر، فهو أشبه بتصريحات بعض الكبار للصحفيين التي تكذب في اليوم التالي، لأنهم أرتجلوها ثم رأوا أنها لا تليق بهم!
ذكرى محمد عبده:
احتفل في هذا الأسبوع بذكرى المغفور له الشيخ محمد عبده فنشرت الصحف وبعض
المجلات كلمات تناولت صاحب الذكرى من نواحيه المختلفة.
والشيخ محمد عبده حقيق بالذكرى، والناس في حاجة إلى دروس من حياته، فقد كان من أوائل المجددين في العصر الحديث. جدد في الفكر الاسلامي، وكان ممن حرروا الكتابة العربية من تكلف السجع، فقد عدل عما بدا به من التزامه، فأرسل كتابته طليقة منه، فساهم بذلك في رقي الأسلوب الكتابي وخلوصه من أغلال الصنعة؛ وقد كان الفضل في ذلك لتوجيه أستاذه السيد جمال الدين الأفغاني الذي كان يدعو تلاميذه إلى صرف الجهد عن الزخارف اللفظية في الكتابة إلى تأدية المعاني والأفكار مع أحكام التعبير. . .
ومن آثار الشيخ محمد عبده الأدبية (شرح نهج البلاغة) وشرح (مقامات بديع الزمان وكتابته في مؤلفاته ورسائله الخاصة تضعه في صفوف البلغاء من الكتاب. وتمام صفاته الأدبية براعته في الخطابة، فقد كان من خطباء الثورة العربية البارزين الذين قادوا الجماهير وغرسوا في النفوس بذور القومية المصرية.
ذكرى حافظ:
في مثل هذا اليوم الذي يصدر هذا العدد من الرسالة أي في (21 يوليه سنة 1922) نعى حافظ إبراهيم، فنحن اليوم في ذكراه الخامسة عشرة، وليت شعري ماذا يفعل قومنا في أحياء ذكرى هذا الشاعر الذي قاوم الاحتلال بشعره، والذي وضع سيفه في الجندية المغلوبة على امرها، وشهر سيفا آخر لم يكن إلا شعره، وجهه إلى صدور المحتلين.
ما أحوجنا اليوم وفي هذه المرحلة التي تمر بها قضية الوطن قاصدة نحو تمام التخلص من احتلال وادي النيل - إلى ذكرى شاعر النيل والى شعره الوطني الذي عبر به عن الأم بلاده وأمالها داعيا إلى الجهاد لتحريرها وإصلاح عيوبها ورفعة شأنها.
وما أحوجنا اليوم، وفي هذه الآونة التي اتجهت فيها الأمم العربية نحو الوحدة والتضامن في الدفاع عن حقوقها إلى ذكرى حافظ إبراهيم الذي دعا إلى الوحدة العربية، وقال الشعر في شؤون الشرق والإسلام، وغرد في حفلات التكريم العربية الجامعة.
وما أحوجنا اليوم، وقد استراح شعراؤنا من الوطنيات والقوميات و (المناسبات) وتعلقوا بذيل فكرة (الفن للفن) إلى الانتفاع بذكري حافظ إبراهيم.
(العباس)
هوى وفقر
للمرحوم التيجاني يوسف بشير
سما بالهوى فقري ومن لك بالهوى
…
سماوي معني كله أبداً نبل
هوى ساوقته النفس والشعر فانتمي
…
إلى القلب واستولي مقاوده العقل
وهبت له نعمي الحياة وزدته
…
ذخائر أسرار المفاتن من قبل
وهبت له الدنيا فاثري ولم أهب
…
له التبر منها أن مشرعه ضحل
عجبت لها كم ذا أروح واغتدى
…
على ظمأ، يروي سواي ويبتل
وما بي ما أفلت منها وإنما
…
تخيرت من دنيا الصبابة ما يحلو
ولي في كنوز الروح سلوى وغنية
…
بحسبي لا خلف لديها ولا مطل
غفرت لها أني شقيت وأنها يصح
…
بها مرضي النفوس وأعتل
وهل كان ما أسموا نضاراً وفضة
…
وما كاثروا الدنيا به وهم قل
وما هموا فيه الزمان ولم يزل
…
يقدس من رحمانه العلم والجهل
سوي الترب وطأنا سوانا فصكه
…
دنانير لم يأخذ بناصرها العدل
ضللنا وسامرنا خداعاً وبهرجاً
…
ونكب عن نهج الحقيقة من ضلوا
جراح!
للأستاذ محمد برهام
يا ويح نفسي. هل عمري سأقضيه
…
على الأسى، وشبابي الغض اطويه؟
يقال لي (كل ما في الكون مبتسم)
…
فما لعين أصابت ظلمة فيه؟
لا الخرد الغيد تسبيني ملاحتها
…
ولا الرياض بمرأى الطرف تسبيه
أعمي وما هو أعمي، غير أن رؤى
…
عن الجمال، ودنيا الحسن تقصيه
ليت الذي سرد من دنياه ينصت لي
…
حتى أقول الذي عندي وأمليه
أمشي وئيداً بأعصاب محطمة
…
ومن يراني خطوي ليس يرضيه
يترحم الحطو تصغيراً، فيظلمني
…
بالقول يطلقه، والذنب يلقيه
ترمي رديئاً، ولو لم تقض عن عجل
…
لكنت بالخير لا بالسوء ترميه
ذهن ملول، فأن يوكل له عمل
…
يروح ينقضه طوراً، ويبنيه
يستحسن الليل ما لم يستسغه ضحي
…
والرأي يرجع عنه، ثم يبديه
أني أطل بمنظار برمت به
…
على الوجود وصرف الدهر مهديه
قد أعجز الكون في شتى محاسنه
…
عن أن يسوق لعيني أي ترفيه
حاولت تحطيمه لكن حلوكته
…
أخشى تدور على جهدي فتفنيه
فما حياتي أسواناً ومغترباً
…
أن العليل جوار الناس يشفيه
دعني من الناس أدناهم وأبعدهم
…
كل أقل شكاة منك تؤذيه
فداو نفسك بالسلوان عن أمل
…
ظللت عمرك مخدوعاً ترجيه
واهاً لدمع يد الآلام تدفعه
…
إلى الأمام، وكف الحزم تثنيه
هو الصديق الذي أشكو فيرحمني
…
ويعلم السر في همي ويخفيه
أحلام وردة
للأستاذ أحمد عبد الحفيظ سلام
هات يا صبح ورقرق في رياضي نسماتي
وابعث الأضواء ترقص حول غصني ومضاتي
وانثر الطل على كاسي وتوج ورقاتي
أنني نضرت من فجر حياتي أمنياتي
ريثما انساق من مهدي إلى شعر فتاتي
أيها الجدول واف الروض بالري النمير
واقذف الموجات في شطي ولطف من هجير
واسق أغصاني وسلـ - سل نفحاتي وعبيري
أنني رقشت من أضـ - واء أحلامي مصيري
ريثما اهتز من سحر الهوى فوق الصدور
خضبي يا شمس من لألائك الباهي وشاحي
والثميني يا فراشا - تي بأهداب الجناح
واسكبي الأنفاس في ثغري كأنفاس الصباح
كي انمي في هوى أطيا - فك البيض الوضاح
زهرة يروي شذاها
…
صدر أصحاب الجراح
غني يا طير وردد
…
نغمة العشاق غني
وأملا الكون فإني
…
منك قد ألهمت فني
حينما تهتز بالألحان
…
يا صداح دعني
أنظم الفن الذي
…
ينساب من وحيي المرن
كي يدوي غنوة
…
في عالم الأحباب مني
البريد الأدبي
أسف واعتذار:
منذ أسبوعين انتقلت إلى الإسكندرية، وكان يشرف على تحرير الرسالة صديقنا الأستاذ علي طنطاوي؛ ولكنه أضطر في آخر الأسبوع الماضي أن يعود فجأة بالطائرة إلى دمشق. ففي هذه الفترة التي ارتفعت فيها الرقابة مني ومنه عن المجلة نشرت في (تعقيبات) كلمة ينكرها الذوق والحق في صديقنا الأستاذ الجليل أحمد أمين بك. وليس في موضع الإنكار النقد في ذاته؛ وإنما موضعه ذلك التهكم الكاذب الذي لا يجوز في رجل يعد عاملاً من عوامل النهضة الفكرية، ومفخرةً من مفاخر مصر الحديثة
فنحن نأسف لنشر هذه الكلمة بهذا الأسلوب. ونعتذر لصديقنا الأستاذ من خطأ لم نكن طرفاً فيه، ولم يكن في مقدورنا تلافيه. . .
رئيس التحرير
إلى الأستاذ (أبو بكر نمري):
أرسلت إلى ردك الطويل على تعليقي القصير فرأيت ألا أنشره حتى لا يتشكك القراء في نيتك حين يرونك تنقل الحديث من الأدب إلى الدين، وتثير الجدل بين عيسي ومحمد. ولا أدري مالك ولهذا كله وأنا حين أشرت في كتابي (دفاع عن البلاغة) إلى غثاثة الترجمة الأمريكية للتوراة والإنجيل لم أكن بسبيل البحث في رواة العهدين من هم، ولا في اللغة الأصلية (للأناجيل) ما هي، ولا في الترجمات المختلفة للكتابين المنزلين أيها أبلغ؛ إنما كنت بسبيل التدليل على إفساد الترجمة الحرفية الركيكة لبلاغة الأصل، فضربت المثل بهذه الترجمة المتداولة بين الناس للتوراة والانجيل، وهما في اعتقادنا من كلام الله أنزلهما على موسى وعيسى بلسان قومهما فليس صورة من صور البلاغة تناسب المتكلم الأعلى. والترجمة الأمريكية وهي التي قصدناها ليس فيها من العربية غير الألفاظ، أما أسلوبها فغريب عن أساليب اللغات على الرغم من أن الذين نقحوها كانوا من أفاضل الأدباء النصارى.
ذلك أصل الموضوع، وهو بهذا التحديد لا يقبل الجدل، لأنها قضية الترجمة الحرفية
صادقة، ولان الترجمة الأمريكية ركيكة. أما نقل المسألة إلى جهة الخلاف بين الأديان، وتعارض ما تعتقدونه مع القرآن، فذلك موضوع رجاله من غير أهل الأدب، ومجاله في غير الرسالة.
(صاحب دفاع عن البلاغة)
من يكون إذق
قرأت للأستاذ إحسان عبد القدوس مقالا بمجلة المصور العدد 1187 - مقالاً تحت عنوان (بنات الصيف) ولست أجد وصفا لذلك المقال غير إنه دعوة خليعة ماجنة، وتحلل خلقي يدني من النهاية، وخروج على تعاليم الإسلام الحنيف وآدابه، فقد قال حضرته بالحرف الواحد: لست من الهاتفين في موكب الفضيلة، ولست من أنصار الشيخ أبي العيون ولا من دعاة الحشمة. . . الخ (كذا والله) ولست أدري ماذا يكون الإنسان أن لم يكن من الهاتفين للفضيلة أو من أنصار الشيخ أبو العيون أو دعاة حشمة؟؟!
محمد محمد حسن الديب
إلى الشيخ أبي العيون:
يا سيدي: قرأت حديثك المنشور بمجلة آخر الساعة، ورأيت صورتيك المعلنتين مع هذا الحديث.
فما الحديث، فلا غبار عليه، ولا شية فيه.
وأما الصورتان، فعليهما ما عليهما، وفيهما ما فيهما!
وأنا أعرف أن الصورتين ملفقتان. وذلك واضح لكل ذي عينين؛ ولكن ذلك لا يغير من الأمر شيئاً.
فأن كنت يا سيدي لم ترض بما كان فعلمهم أن يوقروا رجال الأزهر، ويرعوا حرمات الدين.
ووان كنت يا سيدي - ولا أخا لك - قد رضيت بهذا الأمر؛ إيثاراً لذيوع الاسم! وطمعاً في بعد الصيت! فوا أسفاه! ثم وأسفه!
إبراهيم محمد نجا
العالمية مع إجازة التدريس من كلية اللغة العربية
1 -
طرائف!!
طالعت العدد - 56 من اقرأ (طرائف من الصحافة) للكاتب الصحافي محمد العزب موسى وبرزت لي من بين سطور الطرائف واللطائف (سخائف) لا تقل عن أختها طرافة، أورد منها على سبيل المثال لا الحصر (سخيفتين) اثنتين في الأخلاق واللغة. . .
أما التي في الأخلاق فهو قوله في ص 93:
قالا (أمعك الآن مال في الجيب الوقور)
قلت (نعم)
قالا (إذن هيا)
هيا إلى امرأة عجوز تعيش في بار متواضع غير معروف لا تبيع فيه غير النبيذ الرخيص. . فدلنا إلى بارها. وشربنا ثلاث زجاجات من النبيذ القاتل. . .)
وكنا نظن أن الحديث الشريف (وإذا بليتم فاستتروا) له عند الأستاذ في مجال الصحافة والتأليف مقام واحترام. ولكن المؤلف وهو الذي يبدأ أسمه بلفظ (محمد) يلبي الاعتراف بحديث محمد. . ولا يجد غضاضة في عرض الحرام في كتاب يطالعه من الشباب وغير الشباب ألوف وألوف. . .
وأما الثانية - وهي اللغة - فكثيرة الوقوع في أنهر الجرائد والمجلات الأخبارية التي لا تعني بالأصل والصواب وإنما تقذفها إلى القراء وفيهم السذج البسطاء - قذفاً جريئاً بلا تحقيق ولا تدقيق، من ذلك ما وقع في ص24:
(كان أصحاب الصحف أخلاطاً من الناس وكانوا (ثقاة) في الجهل الخ) فالأستاذ يجمع (ثقة على (ثقاة) بالتاء المربوطة شانها شان (الدعة والسعاة والبغاة. .)
2 -
المرأة والمساواة:
أطلعت في العدد - 728 من الرسالة الغراء على مقال (بين أدب المرأة وأدب الرجل) للكتابة العراقية الفاضلة منيبة الكيلاني؛ وليس بودي أن أتعرض للمقال في قليل أو كثير وإنما أستسمح الكاتبة الفاضلة في أن اقتطف من مقالها المانع بعض أبيات لشاعرة من
شواعر العرب لأقدمها إلى بنات الجنس أولئك اللائى يطلبن المساواة مع نقص الأداة. . .
تقول الشاعرة عفيدة بنت عفان:
وإن أنتمو لم تفضوا بعد هذه
…
فكونوا نساء لا تعاب من الكحل!
ودونكموا طيب العروس فإنما
…
خلقتم لأثواب العروس وللغسل!!
. . . . . . الخ
أقول إلى بنات الجنس أهدي هذين البيتين على لسان شاعرة لا شعر يؤخذ كلامه على الظن والاتهام. . وهي بعد أبيات صريحة تقرر حقيقة المرأة ووضعها في الأسرة الإنسانية إزاء الرجل
ثم يا أيها المدافعون عن حقوق المرأة من الرجال. . خذوا الحكمة من شعر الشاعرة، فعند (جهينة) الخبر اليقين. . .
3 -
في قصيدة:
في مجلة (العلم العربي) العدد الثالث لشهر يونيو الجاري قصيدة للشاعر السوداني المرحوم التيجاني بشير بعنوان (في محراب النيل) فيها هذا البيت:
واستفاقوا يا نيل منك لنغا - م شجي من إلهي ربابك
والقصيدة من الخفيف، والبيت بصورته مكسور، وأغلب ظني أن الصواب في الأصل. . . فحبذا لو انبرى من إخواننا السودانيين من يدلنا على الصواب، إحقاقا لشاعرية الشاعر، ودفعاً للشك العارض غير المقصود. والسلام
(الزيتون)
عدنان
الدكتور أحمد فؤاد الاهواتي:
اسمح لي يا سيدي الدكتور بتقديم الأسئلة الآتية وأنت أهل لأن تجيب عليها بما يشفي الصدور:
1 -
يذكر (التنويم المغناطيسي) محاطاً بالغموض والإبهام فهل هو علم ثابت الأساس أم شعوذة وإيهام وما مدي اتصاله بعلم النفس.
2 -
هل هناك من خطر في تعلمه وأن كان هناك خطر فما هو؟ وهل يتعارض والدين؟
3 -
إلا ترى إنه يعصف باليقين بنتائجه الخارقة المدهشة؟ هذه أسئلة نرجو أن يجيب عليها الدكتور مشكوراً
(ج ع م)
كوستي السودان
القصص
أسطورة من روائع الأدب الروسي:
العمل والموت والمرض
للفيلسوف الروسي العظيم ليو تولستوي
للأستاذ مصطفي جميل مرسي
(هذه قصة الإنسانية من قديم الأزل. . وقصة البشرية منذ فجر التاريخ. . . تتجلى لنا فيها النوازع التي تضطرب بين انفس البشر، والعواطف التي تمور في قلوبهم، والنزوات التي تختلج في أفئدتهم. . .
تناولها تولستوي ببراعته البارعة الملهمة، وعقله الفذ الجبار - وقد راعه ما بلغته حال العالم من شر وفساد - فتلمس بين تجاربه البعيدة في الحياة، ودراسته العميقة للنفوس وحياً طريفاً صاغ منه القصة الرائعة. . . التي تتمثل فيها - على بساطتها - الدعوة إلى (الحب والخير) وهي دعوة طالما نادي بها تولستوي. بل ظل ينادي بها حتى أدركته منيته وقد بلغ الثمانين)
(م. جميل)
إنها الأسطورة من تلك الأساطير التي يؤمن بها (هنود جنود أمريكا). . . ويتناقلوها خلفاً عن سلف!.
حينما فطر الله البشر - كما يقولون - جعل الإنسان في غير حاجة للعمل والسعي!. فما تعوزه دار يؤوي إليها ولا ثياب يلقيها على جسده يتقي بها لفحة الحر ونفحة القر. . . بل ما كانت تضطرب في نفسه رغبة إلى طعام ولا شراب!. فامتدت بهم الحياة مئات من السنين. . لا يعرف المرض إليهم سبيلا. .
فلما تجلي (الله) تعالى على الكون - بعد أن تصرمت حقب ودهور - لينظر خلقه كيف يعيشون. . ألفاهم - وقد حسب أن السعادة ضاربة بينهم إطنابها - يتشاجرون ويتضاربون. وراح كل منهم يعني بنفسه دون رعاية لأخيه. . فساءت حالهم وفسدت دنياهم وحاق الشر بهم. . .
فحدث (الله) نفسه، وهو يتدبر صلاحية لهذه الحال:(إن الذي أوردهم هذا المصير تفرقهم، وعيش كل منهم على حدة!) فهيا الله أمور الحياة، وجعل من المستحيل على الإنسان أن يحيا دون أن يجد ويعمل!
فسخر عليهم الحر والبرد حتى يسعوا في طلب الملبس وبناء المسكن!. وسلط عليهم الجوع حتى يفلحوا الأرض ويبرزوها ما ركزت فيها الطبيعة من خيرات ورزق ويخرجوا منها الثمرات فيتخذوا فيها غذاء لهم. . .
وانثنى (الله) يفكر: (إن العمل سوف يوحد بينهم ويجمع شملهم، فلن يستطيعوا كل منهم أن يعتمد على نفسه في صنع آلته وحمل أخشابه وبناء داره وغرس حقله وجني محصوله ونسج ثيابه بعد غزلها. . . وتهيئة طعامه!. أن ذلك سوف يجعلهم يدركون إنه ما دام الإخلاص سيدهم والود رائدهم في تعاونهم على العمل!. فسيضاعف الله ما يأتيهم به من الخير والنعم. ويعيشون في رغد وبلهنية. . . سوف يزيد ذلك من وحدتهم وتضامنهم في الحياة!. . .)
دارت عجلة الزمن، وتقضت الدهور سراعاً بعضها أثر بعض. . . وعاد (الله) يقلب النظر في صارت إليه حال الخلق. . . ويري أن كانوا في عيشتهم سعداء أم ما برح الشقاء ينغص حياتهم. . . فوجدهم في حال اشد سوء مما كانوا عليه. . . فقد أقاموا يعملون معا - كما أرادهم (الله) فليس لهم من سبيل في الحياة غير ذلك - بيد أنهم تفرقوا شيعاً وأحزاباً وانقسموا على أنفسهم جماعات تحاول كل منها أن تحرم غيرها من العمل وتعوقها عنه حتى تنفرد به وحدها!.
فراحوا يهدرون أوقاتهم في نزاع لا نفع فيه وينهكون قواهم في صراع لا طائل منه. . فاضطربت أمورهم واختلت حالهم!. .
فلما رأي (الله) ذلك السوء الذي انحدرت إليه حال الخلق عزم على أن يهيئ أمور الحياة بحيث أن المرء لا يلم بالحين الذي توافيه منيته فيه. فيفاجئه الموت على غرة منه في أية لحظة. ثم أوحي بذلك إلى الخلق. . وقال يحدث نفسه:
(إذا علم كل منهم أن الموت سوف يخترمه في أي حين. . داخلت قلبه الخشية، وأشفق أن يضيع ساعات العمر في شغب وعراك لا يرتد بفائدة عليه!.)
فلما آب (الله) - بعد أن طويت صفحات كثيرة من الزمن - ليراجع النظر في أمور الخلق، وكيف يعيشون. . ساءه أن يري الشر قد اتسعت هوته وأستفحل شأنه! فقد أفاد هؤلاء الذين وهبتهم الطبيعة قوة جبروتاً من الحقيقة الأبدية التي سنها الله للبشر، إلا وهي أن الإنسان عرضة للموت في أي حين. فسخروا أولئك الضعفاء وسلطوا عليهم نقمتهم، فقتلوا منهم كثيرين وراحوا يهددون الآخرين بالموت. .
اصبح هؤلاء الأقوياء ينعمون وذريتهم دون أن يعلموا شيئاً. . ثم ما لبثت السآمة إلى نفوسهم من البطالة والعطل أما أولئك الضعفاء فلا يبرحون يعملون فوق طوقهم ويتلمسون شيئاً من الراحة فلا يدونها ويتنسمون ريح السكينة فلا يصادفونها. . .
فأخذ كل فريق يضج بالشكوى ويحمل ألوانا من البغضاء وصنوفا من الحقد للفريق الآخر. . فازدادت الحياة سوء على سوء وتتابع الشقاء شرا أثر شر!.
فلما أحاط (الله) علما بما حاق بالخلق، عقد العزم على أن يراب الصدع ويقيم الأود. . فأخذ يتلمس وسيلة أخرى لذلك. . فلم يلبث أن سلط عليهم الأمراض والعلل. . وجعلها تشيع بين الناس فلا تذر واحداً منهم!. .
وظن (الله) أن البشر إذا ما أعتقد كل منهم إنه عرضة لأن يخر صريع المرض ضجيع الفراش، فلسوف يدركون ما على الأصحاء من واجب الرحمة والعطف، ومد يد المعاونة إلى من برحت بهم العلة وأشتد عليهم السقم!. وحينئذ يلقون من جانب الآخرين شفقة ورحمة وعوناً.! ومضي (الله)!
حتى إذا عاد لينظر حال الخلق، وقد تفشى بينهم المرض. . رأى أن السوء قد أستفحل أمره واستشرى شره. . فامرض - وقد ظنه (الله) جامعاً لهم موحداً بينهم - أدى إلى تفرقهم وتنافر بعضهم. .
فأولئك الأقوياء الذين يسخرون غيرهم من الضعفاء في العمل اضطروهم أيضاً إلى رعايتهم والعناية بهم حينما تنشب فيهم العلة أظفارها!. . بيد أنهم لا يسعون إلى معاونة الضعفاء إذا ما مرضوا بل يبالغوا في إرهاقهم، فلا يتيحون لهم فترة من الراحة للعلاج والشفاء!.
وجعلوا لهم بيوتاً حقيرة في عزلة عنهم، يعاني فيها هؤلاء الضعفاء سكرات الموت،
ويلفظون بين جدرانها أنفاسهم الأخيرة بعيداً عن القوم المنعمين، حتى لا يكدر منظر هذه المجموع التعسة الشقية - وقد أصابها المرض - متعة الأثرياء وبهجتهم!. . . وحتى لا تتسلل إلى أجسادهم العدوى من هؤلاء المرضي المكروبين. .
فقال (الآله) يحدث نفسه - وقد نفض يديه من أمور الخلق (إن كانت هذه طرائق والأسباب لا تجعل من البشر من يفطن إلى مستقر سعادته. . فلندعهم يدركونها من بعدد ما يعنون منها ما يعانون!.)
وخلى الله بين الناس وبين أنفسهم!.
عاش الناس حقباً طوالاً في بلاء مع أنفسهم، قبل أن يدركوا إنه ينبغي عليهم أن يكونوا جميعاً سعداء. . .
ففي القرون الأخيرة تجلي الخلق عن فئة من البشر. .
يعلمون حق العلم إنه يجب إلا يكون العمل كشبح مخيف لبعض الناس، وكغنيمة خالصة للبعض الآخر. . . بل يجب أن يكون مدعاة للتعاون لصالحهم، ومبعثاً لخيرهم وأسعادهم، وسبيلاً لوحدتهم وتضامنهم!. .
ويعلمون أن الموت، وهو سيف مسلط على قارب العباد في غير ميعاد!. . لا يلائمه إلا العمل الحكيم، فواجب كل إنسان أن يستفيد من سنوات حياته وأيامها وساعاتها بل ولحظاتها التي يوهب إياها. . فيبذلها في الخير والحب والتأليف بين القلوب!
ويعرفون أيضاً أن المرض - بدلا من أن يكون سبباً للتفرقة وأداة للتنافر بين الناس - يجب - على الضد من ذلك أن يؤدي إلى تهيئة المجال للمحبة والمودة، والتعاطف والإيناس. . .
(طنطا)
مصطفي جميل مرسى