المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 734 - بتاريخ: 28 - 07 - 1947 - مجلة الرسالة - جـ ٧٣٤

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 734

- بتاريخ: 28 - 07 - 1947

ص: -1

‌أحمد عرابي المفترى عليه

ذلك عنوان الكتاب الفريد الذي أخرجه للناس في هذا الأسبوع صديقنا الكاتب الشاعر المؤرخ الأستاذ محمود العقاد الخفيف، عن زعيمنا الوطني الأبي المجاهد المظلوم أحمد عرابي. هذا الكتاب هو الحق الذي اختفى منذ خمسة وستين عاماً لم يظهر في خلالها على لسان ولا قلم، حتى ظهر أخيراً على ضوء هذا اليراع النبيل رائع البيان ساطع الحجة. والحق كالصبح لابد أن ينبلج مهما تطاول الليل وأحلو لك ظلامه.

استبهمت معالم الحق في قضية الضابط الفرنسي (دريفوس) اثنتي عشرة سنة حتى جلاء الكاتب الجريء أميل زولا، فاجبر القضاء العسكري على رد اعتباره، وإطلاقه من إساره.

واستعجمت معالم العدل في قضية عرابي ثلثي قرن حتى أبانه الكاتب النزيه محمود الخفيف، فإذا عرابي زعيمنا الصادق، وقائدنا الشجاع وموقظنا المبكر!

تاريخ عرابي هو تاريخ الثورة الوطنية والنهضة القومية، و (المسالة المصرية) والنكبة الإنجليزية وقضية الوادي كله. فإذا كتب على النهج الواضح، والمرجع الثقة، والاستقصاء المحيط، والتمحيص الكاشف والاستنتاج الصحيح والتحليل الدقيق، والتعليل الصائب، والتبويب المحكم، كان لمصر من هذا التاريخ يضئ لها جوانب الطريق إلى (مجلس الأمن)؛ لأن عرابي هو اليد البريئة التي سخرها القدر لكشف الستار عن مأساة الاحتلال، والنقراشي هو اليد الجريئة التي يهيئها الله اليوم لإرخاء الستر على فصاها الأخير. ومن المحال أن تدرك مرامي الرواية إذا نمت عن بعض الحوادث أو غبت عن بعض الفصول. والأستاذ الخفيف قد اجتمعت له في هذا الكتاب أولئك المزأيا؛ فهو من حيث المادة لم يدع مصدرا يعول عليه من المؤلفات والمذكرات والمقالات والوثائق والرسائل والأحاديث إلا استمد منه بعد النظر النافذ والموازنة العادلة، ومن حيث الطريقة قد اتخذ المنطق ميزانا يأخذ به ويعطي، فهو يروى بالنص الصريح ويدعي بالدليل الناهض ويقنع بالحجة العالية، ويدافع بالحق المبين ويستقرى فيحسن الاستقراء ويستنتج فيجيد الاستنتاج ثم جعل همه منذ اللحظة الأولى تبرئة الجندي الثائر، فسلسل الوقائع والفصول سلسلة المقدمات الصحيحة ثم خرج منها بالنتيجة التي لا موضع فيها للشبهة. ومن حيث الأسلوب قد اختار اللفظ السائغ والنظم المتسق والسياق المطرد، والمعرض الجذاب حتى ليستولي على القارئ العجلان فيمعن فيه لولا أن الكتاب ستمائة صفحة والقيظ مقلق والصيام مرهق، ولكنه على كل حال

ص: 1

لن يفتح كتابا غيره حتى يفرغ منه!.

إن هذا الكتاب أول كتاب في بابه. ولعله هو وكتاب (الله) للأستاذ العقاد كتابا السنة؛ لأنهما على اختلافهما في الموضوع والوضع خطوا بالكتاب المصري خطوة سديدة وأضافا إلى الأدب العربي ثروة جديد.

أحمد حسن الزيات

ص: 2

‌5 - رحلة إلى الهند

غاندي في دهلي وفي المؤتمر

للدكتور عبد الوهاب عزام بك

عميد كلية الآداب

(تتمة)

ارتقب الناس قدوم غاندي إلى دهلي أثناء اجتماع مؤتمر العلاقات الأسيوية. فإن حدثا عظيما كهذا يعول عليه الهنادك في الإبانة عن حضارتهم ومكانتهم، والتمهيد لدواتهم في آسيا وفي تأييد آسيا لهم في العمل للهند المستقلة - لا يغيب عنه الرجل الذي يدعوه الهنادك (أبا الأمة) والذي هو اعظم زعيم سياسي وديني بينهم.

وكأن غاندي قبل اجتماع المؤتمر يطوف في إقليم بهار، وهو إقليم في شرقي الهند غربي بنغالة، ثارت فيه فتنة بين الهنادك والمسلمين والمسلمون قلة لا حول لها هناك فصال عليهم الهنادك، وفتكوا بهم وقتلوهم قتلا عاماً لا يفرق بين رجل وامرأة، ولا بين صغير وكبير. وكأن لهذا المذابح دويها في أرجاء الهند وأثرها في هيج الشر بين الفريقين وقد هاجر كثير من مسلمي بهار فرارا بأنفسهم ويأساً من أن يعيشوا في ذلك الإقليم بعدما شهدوه من هول تلك الوقائع. ورأيت للمهاجرين محلة في كراتشي كأنهم لم يشعروا بالأمن إلا في أقصى الغرب في ولأية السند، حيث للمسلمين الكثيرة والغلبة وهاجر جماعات منهم إلى إقليم أخرى.

ذهب زعماء المسلمين والهنادك إلى بهار حين ثارت الثائرة، وطوف غاندي في أرجائه يسكن الهياج ويطفئ الثائرة، ويحاول أن يصلح ما أفسدته البغضاء والعدوان والقسوة والفظاعة فلبث اشهرا يجول في الإقليم.

ثم جاء إلى دهلي أيام المؤتمر ونزل في محلة الكناسين وهي تسمى بهنكي كولوني (مستعمرة الكناسين). وفيها دور صغيرة نظيفة بنيت لهؤلاء الكناسين وهم من المنبوذين ولغاندي مسكن بينهم في دار لها فناء واسع في صدر معبد صغير وحجرات من الحصير نزل غاندي في واحدة بجانبها عبد الغفار خان زعيم ولأية الحدود الشمالية الغربية الذي

ص: 3

يسمى غاندي الحدود.

وكأن الناس يجتمعون إلى غاندي كل مساء قبيل الغروب ليشهدوا صلاته ويسمعوا خطبته.

وقد ذهبت مرة فرأيت إلى يمين الداخل جمعا حاشدا وقوفا وغاندي على منصة مشرقا على الحاضرين وإلى يمينه عبد الغفار خان حاسر الرأس كعادته. . . فانتبذت مكانا أرى واسمع، سمعت صبية هندية تنشد أناشيد بلغات مختلفة منها سورة الإخلاص بالعربية. وسمعتها تقول في أناشيدها راما كريم، راما رحيم بهذين اللفظيين العربيين.

وراما أحد الأبطال أو الآلهة في الدين الهندي.

وهذه الأناشيد من كتب مقدسة مختلفة للهنادك والمسلمين والفرس القدماء الخ ويريد غاندي أن يقرب بين الناس ما استطاع باقتباسه في صلاته من كتب مختلفة.

وقد عارض بعض الحاضرين يوما في تلاوة أي من القرآن فترك الصلاة في ذلك اليوم.

ولما جاء للصلاة يوما آخر قال أنه تلقى رسالة تطالبه بأن يكف عن تلاوة القرآن في صلواته أو يترك معبد بلميكي (حيث يقيم) وسال الحضور أفيهم من ينكر عليه تلاوة آيات من القرآن، فرفع نفر أيديهم قائلين أنهم لن يمكنوه من الصلاة أن تليت آيات من القرآن فترك الصلاة وصمت قليلا وقال أن الصلاة ذكر الله لتطهير القلب ويستطيع الإنسان أن يصلي صمتاً.

ثم قال في خطبته التي يلقيها بعد كل صلاة: أنه ليس بالرجل الذي يحجم عما يراه واجبا؛ ولكن دعوته إلى ترك العنف أوحت إليه أن يترك الصلاة إذا اعترض عليها أحد ولو كان صبياً واحداً.

ولكن هذا لا ينبغي أن يؤول بالجبن. أنه ترك الصلاة ليتجنب الجدال والعنف. أن من عمل الشيطان وقد جاهده طول عمره.

ثم قال: على الذين ينكرون صلاتي لا يشهدوها فإن شهدوا فليقتلوه أن شاءوا. أنه لن يقلع عن ذكر رام ورحيم وهما عنده اله واحد. وأنه يموت مطمئنا ذاكرا هذين الاسمين.

أن كف عن ذكر رام ورحيم فكيف يستطيع أن يلقى الهنادك في توكلي والمسلمين في بهار وهنادك نوكالي ومسلمو بهار قتلوا اضطهدوا في بعض الفتن.

ولما هم بالانصراف تنازع الحاضرون فخطب فيهم قائما خمس عشرة دقيقة وقال فيما قال:

ص: 4

أن الغضب لا يجدي نفعا؛ وأن عليهم أن يفكروا كيف يداوون جروح البنجاب دون أن يؤذوا أحداً فإن هذا ليس من دينهم.

وأنصرف غاندي إلى حجرته وتدخلت الشرطة لحفظ السلام. وكأن ذهابي إلى مقام غاندي في مساء الخميس 10 أبريل انتظرت بعيدا حتى فرغ من صلاته وحديثة؛ فجاءني عبد الغفار خان وشاب من أنصاره اسمه محمد يونس ودعواني إلى الدخول على غاندي في حجرته؛ فوجدته قاعدا على الأرض مستندا إلى الجدار وعليه إزراً قصير عاري الصدر والظهر. فتحدث عن اللغة العربية وقال أنه حاول أن يتعلمها وأنها لغة واسعة جدا وقال ضاحكا أن للجمل فيها مائتي اسم. وقال أنه قرا القرآن بالإنكليزية وبالأردية وأنه يؤثر قراءته بالأردية لأن بها كثيرا من الكلمات العربية فهو يقرا فيها كلمات من القرآن يجد فيها روحه.

وسألته: أكشفت في تجاربك الطويلة بين البؤساء عن دواء ينقذ الإنسانية من البؤس؟

قال: لم اكشف عن هذا الدواء ولكني أعدت الكشف عنه هذا الدواء هو الحق وتجنب العنف الحق هو الدواء. قلت أن المسلمين كذلك يجلون الحق ويقدسونه حتى يسموا الله تعالى - كما سماه القرآن - الحق. قال اعلم هذا.

ثم قال أنه يتكلم كثيرا ولا يجد من يصغي إليه. ولذا يود أن يطيل معنا الحديث ولكنه على موعد.

وشهد غاندي المؤتمر مرتين شهد إحدى جلساته وحفلة الختام وتكلم في المرتين في اتفاق أمم آسيا وفي توحيد العالم كله.

عبد الوهاب عزام

ص: 5

‌صفحة سوداء:

الاستعمار الهولندي يعتدي على جمهورية إندونيسيا الجرة

للأستاذ أحمد رمزي بك

قضى الأمر ووقعت الواقعة، وسالت الدماء في ربوع إندونيسيا بعد أن خيل إلى كثيرين أن دعائم الاستقلال قد وطدت وأن أعلام الحرية قد رفعت فإذا نحن بعيدون عن ذلك اليوم وناسف مرة أخرى أن يقع بعض ما تنبأنا به، فقد جهزنا بالقول: أن الدول الاستعمارية أشد اليوم تمسكا بسلطانها من أي وقت مضى، وإنها تسالم الحركات القائمة وتسايسها وتخضع لبعض مطالبها لكي تتم أهبتها وتستعيد قوتها ثم تضرب الشعوب القائمة ضربات حاسمة؛ وأن أوروبا تنتظر حتى تضمد جراحها وتجمع شملها وسيكون لها مع الأمم الناهضة موقف جديد. فعلينا أن نستعد لذلك اليوم.

وفي حديث طويل مع ويلكي الأمريكي الذي جاب العالم والتقيت به في منزل قنصل أميركا حينما أتى بيروت صارحته بما أعتقد وقلت له: أن كيان الدول الصغيرة واستقلالها مثل بلجيكا وهولندا والبرتغال يستندان على المستعمرات، وأن اليوم الذي تنال فيه الشعوب المظلومة المغلوبة على أمرها، شيئا من الحكم الذاتي أو التمتع ببعض ما يتمتع به الإنسان في القرن العشرين من حرية واستقلال ونهضة، تزول فيه هذه الدول الصغيرة من الوجود وتصبح أما ولآيات أو مدنا ساحلية، لأن بقاءها يعتمد على حكمها للمستعمرات واستغلالها لأرضيها وتحكمها واستبدادها بملايين من عباد الله، فهل في نظام العالم الجديد ما يسمح بتحقيق هذه الأهداف؟ فلم أسمع جواب من الزعيم الأمريكي.

ولقد مضت سنوات على هذا اللقاء وانتهى عهد روزفلت وويلكي وهما في مقدمة الرجال العالميين الذين سيذكرهم هذا الكوكب المسمى بالأرض، لأجيال قادمة وتبدلت في أثنائها شؤون الكون وتغيرت انهارت مبادئ وأفكار وأراء وأنظمة بنيت على الطغيان والجبروت، ولكن مظاهر الطغيان والجبروت لا تزال قائمة وطيدة الأركان في بقاء هذه الدول الصغيرة تحكم الإمبراطوريات الضخمة وتتحكم في مصير الشعوب المظلومة، واغرب المتناقضات وابلغه بروزا هو أن العالم الذي قام يحارب الطغيان والظلم يقر بحق هذه الدول الصغيرة ويعترف بسيادتها على هذه البقاع ولم يقف ليحول دون تعديها. لماذا؟

ص: 6

لأن مثل هولندا كمثل الطفل المدلل وسط الديمقراطيات الكبرى لأسباب كثيرة وعوامل متعددة سوف نكشف الغطاء عنها. مثلها كمثل الطفل المدلل الذي لا يعجبه شئ؛ فهو لا يرضى بما يقدمه إليه أميركا وبريطانيا من مزايا هو لا يعجبه الحيوان الأليف يلهو به ويلعب لأن جمعيات الرفق بالحيوان تخيف الدولتين إذا ما عذب الحيوان الأليف، أما إذا عذب الإنسان فليس هناك جمعيات تثور وتحتج.

هذا الطفل المدلل لا يرضى أن يلعب بالدبابات والأسلحة ومدافع التومي إلا إذا كانت حقيقة وهو لا يجمعها من الديمقراطيات ليلهو بها ويلعب أو ليضعها في متحف الأسلحة. هو بطل صغير يرضيه شئ واحد هو التحكم والسيطرة على ثمانين مليونا هم سكان إندونيسيا يريد استعبادها واستغلال أراضيهم. أما هذه الأسلحة فليست ليلعب بها الطفل المدلل أو يستعملها للزينة والصيد والقنص وإنما يسره ويضحكه ويسليه أن توجه هذه الأسلحة إلى قلوب أهل إندونيسيا ليفنى جموعهم ويجعل منهم يوم نادوا باستقلالهم، عبرة لمن اعتبر.

هذا الطفل المدلل على الديمقراطيات لم يجد من يقف أمام عبثه ولعبه، لم يجد من يمنع جنوده وطائراته من المرور، ولا من يمنع مدرعاته وسفنه المحملة بالعتاد من الوقوف في البحر، فلماذا لا يحارب؟ ولم لا يفرض إرادته على جاوة وسومطرة وبقية جزر الهند الشرقية؟ هذا ما تنبأنا به من قبل ولكن هنا يبرز الإسلام في هذه البقاع كقوة مقاتلة مكافحة لا تلين ما اتعس الاستعمار ورجاله حينما يواجهونه تفنى حيلهم وعلومهم وقوتهم أمام هذه الصخرة التي لا تلين. وسنرى من جهاد أهل إندونيسيا صفحة من الجهاد والكفاح في سبيل العقيدة يبرز فيها ما يجمع بين الموت والبطولة وهما اعظم ما أخرجته النفس البشرية في هذا الكون واعظم ما ورثه الإسلام أهله من عظمة وجمال من يوم أشرقت شمس الرسالة المحمدية.

فتحية منا إلى الشهداء الذين سقطوا في ميدان الحق أنهم الطليعة الأولى الذين ستتبعهم الجموع، إذ بموتهم واستشهادهم سيكون الخير كل الخير، لا للعالم الإسلامي وحده، بل سيضربون بموتهم مثلا خالدا للعالم كله ولشعوبه التي تئن تحت الظلم والطغيان. أننا ننحني أمام هذه الطليعة ونحي الدماء التي سفكت في سبيل الحق، ونصلي صلاة الغائب عليها في مساجدنا الجامعة ونهتف من أعماق القلوب ونقول أنها حية إلى الأبد في قلوبنا.

ص: 7

وغريب أمر المستعمرين أنهم شر ذمة واحدة تسير على خطوات منظمة. أنظر إلى القائد الذي يقول لجنوده: (أنكم لا تعادون الشعب الأندنيسي، بل تعملون على تحريره من الطغيان والإرهاب) أنه نبوليوني التفكير، لأن السر عسكر بونابرت خاطب جنوده بهذا الأسلوب وخاطب أهل الإسكندرية ولم يمنع هذا التحرير من الظلم أن أصاب مصر ما أصابها على أيدي جنوده ولا يزال لدينا مائة وثمانون أثرا إسلاميا وسدا خرابا من هدم جنوده غير الدماء التي سفكوها والحرم انتهكت على أيديهم.

ضع هذا التصريح بجانب منشور الطليان حينما دخلوا طرابلس وحينما بدأ بادوليو وجراتزياني حملاتهما على أهالي برقة وليبيا، وتساءل هل كان القتل والتشريد وإفناء السكان إلا لتحريرهم؟ أنهم شر ذمة واحدة تسير عل خطوات منظمة: لله درهم! ولكن مضى الوقت الذي كان يصدق فيه الناس هذه الأقوال.

أن أنظار العالم بأكمله تتجه اليوم إلى إندونيسيا وكفاحها وهو لا شك كفاح مجيد وسوف تتحطم مرة أخرى أصنام الطغيان وتبرز في العالم القيم الحقيقة المستمدة من روح الشعوب المجاهدة مهما لاقى الأحرار من عنت.

أنني احبكم من صميم قلبي أيها الزملاء في القتال، أيها الرفاق في السلاح، أنكم بمعارك اليوم وبأقدامكم وضحاياكم تفتحون طريق الحياة لعالم الجديد، فطوبى لكم!

أحمد رمزي

ص: 8

‌شهر النصر

للأستاذ محمود محمد شاكر

كأن محمد صلى الله عليه وسلم، قبل أن ينبأ رجلا من العرب، ثم كان أول ما بدئ به من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكأن لا يرى رؤيا جاءت مثل فلق الصبح ثم حبب إليه الخلاء، وكأن يخلوا بغار حراء فيتحنث فيه الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى جاءه الحق وهو في غار حراء. ومن يومئذ صار هذا الرجل من العرب رسول الله الذي وجبت على الناس كافة طاعته والامتثال لأمره فيما نهى عنه وما أمر. ذلك أول الإسلام الذي نفض العرب من بواديهم حتى ملأ الأرض عدلا وإيمانا وتكبيرا باسم الله العلي الأعلى.

وقد فجئه الحق وهو بغار حراء في يوم الاثنين لثماني عشرة ليلة خلت من شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن، فيومئذ نزل أول القرآن، إذ قال له الملك:(اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم) فرجع بها رسول الله خلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده فدخل على خديجة بنت خويلد فقال: زملوني زملوني، فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة واخبرها الخبر:(لقد خشيت على نفسي! فقالت خديجة: (كلا، والله لا يخزيك الله أبدا، أنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم وتقرى الضيف وتعين على نوائب الحق) فكأن كما قالت رضى الله عنها فلم يخزه ربه الذي أرسله بالحق ليهدي الناس إلى صراط مستقيم وذلك أول الإسلام.

ثم كانت سنة ثنتين من الهجرة ففي يوم الثلاثاء لسبع عشرة ليلة خلت من رمضان كانت غزوة بدر الكبرى وهي الوقعة العظيمة التي فرق الله فيها بين الحق والباطل، واعز الإسلام ودمغ الكفر وأهله وكانت فيصلا في تاريخ الإسلام. ويومئذ حقق الله للمؤمنين ما وعدهم إذ يقول:(كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وأن كثيرا من المؤمنين لكارهون، يجادلونك في الحق بعد ما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم، ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر القوم الكافرين ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون) ثم قال الله تعالي بمن على المؤمنين ما أكرمهم به: (واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن

ص: 9

يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون).

فكانت بدر الكبرى هي المنة العظمى على البشر جميعا إذ أتاح الله يومئذ للمسلمين أن يسيحوا في الأرض وأن ينصروا الله وأن يجعلوا كلمته هي العليا، وأن يردوا العرب إلى شريعة أبيهم إبراهيم عليه السلام وهي الحنيفية السمحة، فانكشفت خلائق العرب بنبلها وكرمها وعدلها وصفائها حتى لم يبق على ظهر الأرض من بلغته الدعوة، أو من رأى هؤلاء الأحرار المؤمنين حتى تبع قبلتهم وأثرهم بالحب، فمكن الله للعرب أن يفتحوا الأرض ويثلوا العروش ويملكوا ما أظل ملك كسرى وقيصر في ثمانين عاماً، وأقاموا حضارة قامت على العدل والمساواة والأنصاف والتسامح، وعلى رعاية أهل الأديان وحياطتهم وعلى رد بغي الباغين وعدوان المعتدين من أي ملة كانوا.

كأن الإسلام فيصلا حقا في تاريخ الأديان، وكان أول أمره في يوم الاثنين لثماني عشرة ليلة خلت من رمضان، وكانت غزوة بدر الكبرى التي نصر الله فيها أهل الإسلام من العرب في يوم الثلاثاء لسبع عشرة ليلة خلت من رمضان. ثم شاء الله أن يدور الزمن دورته على مجد العرب وحضارة العرب وأن تكون مصر والسودان مناط أمال العرب في هذا القصر وشاء ربك أن ينعقد اجتماع مجلس الأمن على أن تعرض قضية مصر والسودان في يوم الثلاثاء بعد أن تخلو من رمضان ثماني عشرة ليلة من سنة 1366 من الهجرة، وهو اليوم الموافق للخامس من أغسطس سنة 1947 من ميلاد المسيح عليه افضل الصلاة والسلام أنها أن شاء الله بشرى الحق بأن الله قد كتب لقضية مصر والسودان أن تخرج من معمعة مجلس الأمن مؤيدة بنصر الله (ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون). فهذا شهر مبارك قد عود الله فيه العرب والمسلمين أن بنصرهم على عدوهم، وأن يمكن لهم في الأرض، وأن يؤيدهم بالنصر في ساعة العسرة حيث هم قليل مستضعفون يخافون أن يتخطفهم الناس. . .

ولا يستهين أحد بخطر هذه القضية، فإن مصر والسودان هي قلب أفريقيا أولا، ثم هي قلب العالم العربي، ثم هي قلب العالم الإسلامي كله. فالنصر الذي سوف تناله أن شاء الله على بريطانيا هو نصر لهذه الثلاثة واجتماع لكلمتها وتاريخ جديد لحياة أفريقيا وحياة العرب وحياة الإسلام.

ص: 10

أنها ساعة فاصلة في تاريخنا، فعلى كل مصري سوداني أن يعد عدة الجهاد، وأن يملأ منذ اليوم كنانته، وأن ينصر هذا الوفد الذي سافر إلى أمريكا بيده وقلبه ولسانه. وهذا فرض واجب لا يكاد يسقط عن أحد منا من ذكر أو أنثى. فأننا في ساعة يصنع فيها التاريخ ولن يخطئ المخطئ المتعمد، أو يولى المقاتل للتهيب إلا كان ذلك فتاً في أعضاء المجاهدين الذين رموا بأنفسهم في وطيس المعركة.

ونحن نناشد زعماء الأحزاب الذين تعودوا الخلاف والنزاع أن يكفوا غرب ألسنتهم عن إخوانهم الذين سبقوهم اليوم إلى جهاد عدوهم، وأن يوجهوا قدرتهم على الطعان إلى نحور القوم الذين اغتصبوا حقنا وآذونا وضربونا بالذل والهوان أكثر من ستين عاماً، ولم يرعوا فينا شيئا من إنسانية أو شرف. وكل كلمة تنال من وفدنا إلى أمريكا هي ضرب من التخذيل يسوء مصر والسودان ويسر بريطانيا التي تحاول اليوم أن تملأ الدنيا علينا كذبا، فلا نكونن إذن حربا على أنفسنا، وعونا على اهتضام حقها، ونثرا لأعدائنا على أنفسنا.

وحقيق بمصر والسودان في هذه الساعة الفاصلة التي شاء الله أن يوافق تاريخها الساعات الفاصلة في تاريخ العرب والإسلام حقيق بها أن تتوجه إلى الرجل العربي الشريف والأصل الكريم المحتد الطاهر النسب والذي إن شاء كان النصر الأعظم الحاسم لقضية مصر والسودان، وكانت كلمته القضاء الفصل والحجة الدامغة لأباطيل بريطانيا ودعواها الرجل الذي هو ثاني اثنين في السودان فشق الإنجليز ما بينهما بالدسيسة والوقيعة والتخذيل حتى فرقوا بين الأخوين.

فإلى الرجل الذي مثلت بريطانيا بجثمان أبيه الطاهر وإلى الرجل العربي المسلم الذي يؤدي حق ربه وحق عباده خاشعا متخشعاً لله، وإلى المصري السوداني الذي أراد الله أن يمتحنه بأعظم المحن في هذه الساعة الفاصلة في تاريخنا وفي هذا الشهر المبارك من شهور الإسلام - إلى السيد مهدي:

إنك أيها الشريف رجل من العرب ثم رجل من المسلمين قد أكرمك الله وأيدك وبارك لك وأعانك، والرجل العربي المسلم لا يتخلف عن نصرة الحق بل هو كما قال له ربه:(وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا) والرجل العربي المسلم لا يلدغ من جحر مرتين وبريطانيا قد لدغتنا جميعا مراراً كثيرة. أليس زعمها أنها

ص: 11

حريصة على استقلال السودان وكفالة حرية أهله في تقرير مصيرهم هو نفسه ما كان يوم دخلت مصر زاعمة أنها لا تريد استعمارا ولا اعتداء وأنها إنما تريد تثبيت العرش صدقة وتبرعا فإذا استتب عادت إلى بلادها وجلت عن بلادنا؟ فهل فعلت أيها السيد الشريف العربي المسلم؟ أني لأنزهك عن أن تخدع بكذب بريطانيا فهي اكذب من هذه الحياة الدنيا واغدر.

وخلائق الدنيا خلائق مومس

للمنع آونة وللإعطاء

طورا تبادلك الصفاء وتارة

تلقاك تنكرها من البغضاء

فهذه بريطانيا العدو المحتال الذي من شيمته أن يوقع بين المتحابين ليحطم باسهم جميعاً وهذه مصر التي ربطها الله بالسودان منذ اقدم الأزل والتي هي قطعة من السودان يراد بترها منه، فإلى أيهما أنت اقرب وفي هوى أيهما أنت ارغب؟.

أننا ندعو الله الذي هدأنا وهداك إلى الإسلام أن يهديك إلى الحق ويسددك وينصرك وأن يوفقك إلى ما يتمناه قلب كل مصري وسوداني: أن تكون ناصر الإسلام وقاهر الأعداء ومحق الحق ومبطل الباطل فتضع يدك في يد أخيك السيد الميرغني وتخرجا على بريطانيا مرة أخرى واحدة تعلنان أن مصر والسودان أمة واحدة وأن بريطانيا كاذبة فيما ادعت علنيا وعليكم وأن لا حياة لأحدنا إذا اقتطع عن صاحبة. افعل هذا أيها السيد الشريف العربي، تكن اعظم مجاهد في تاريخ أفريقيا وتاريخ العرب وتاريخ الإسلام. افعل هذا في شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن، والذي نصر الله عباده ببدر وكانوا يومئذ مستضعفين في الأرض يخافون أن يخطفهم الناس افعل هذا أيها الشريف العربي تنل لكلمة واحدة مجد الأبطال ومجد الملوك. ويصبح اسمك هدى ومنا ر لكل عربي وكل مسلم ما بقى على الأرض عربي أو مسلم. أنني أدعوك باسمي وباسم الصداقة التي كانت بينك وبين أبي رحمة الله عليه. أدعوك دعوة رجل صائم لله وأدعو الله أن يهديك ويؤيدك بنصرك ويمكن لك، في هذا الشهر الطاهر المبارك يرجو المسلم أن تستجاب دعوته: اللهم أنقذنا وارحمنا وكن عونا لنا ولإخواننا في الدين والعروبة.

أيها الشريف العربي، أننا وقوف نترقب ونتوق ونتلهف وظني فيك أنك فاعل ما أراد الله من نصرك لأهله وأنت أهل الخير ومعدن الكرم وابن الصناديد الاماجد من بني قحطان

ص: 12

والسلام عليك أيها الرجل سلام أخ وابن أخ.

محمود محمد شاكر

ص: 13

‌صورة مشهودة:

من صميم الواقع. . .

للأستاذ محمد سليم الرشدان

عرفت أدبيا ذائع الصيت، طوف في بعيد الأقطار وقريبها، فأفاد من ذلك علما في خلائق الناس، إلى جانب ما هو عليه من سعة اطلاع ورجاحة عقل. وعرفته كذلك عصاميا ابن نفسه، لم يعتمد على مال يسنده ولا جاه يرفده فخاض ميدان الحياة دائبا صابرا، وانتهى إلى ما احب دون ما صخب أو جلبة، ودون أن يظهر عليه اثر من خيلاء الفوز ببلوغ الغاية.

وعرفته إلى جانب ذلك كله مؤمنا - مفرط الإيمان - في مبادئ اختطها لنفسه، ومقاييس وقف عندها لا يعدوها مهما يحوطه من ظروف وربما خطر لي أن أتهمه بأنه يحمل ذلك عن طريق تربيته الأولى فهي أصداء تتجاوب في قرارة نفسه، ولعله لا يقوى على دفعها ومغالبتها بل ربما ضاق بها أحيانا في إحدى هذه الفترات التي أبصره فيها ساهما واجما كأنما هو يلمس مكانها من نفسه (كلما عاد إلى تلك النفس) فيقف عند حدود ما اتهمه به! وهو مع ذلك لا يتنكر لها، ولا يتبرم بملازمتها، حين يرى هذا الإجماع من إخوانه وأخدانه على استهجانها واستثقال ظلها، في هذا الزمن الذي تغيرت فيه مقاييس الناس واعتباراتهم!.

أجل، كذلك عرفته منذ كشف لي عن دخيلة هذه النفس الغامضة، وطالما سمعته يتحدث إلى بصوته الخفيض كلما جلسنا على انفراد، فيقول: أتدري - ويحك - من هي فتاة أحلامي التي لم أجد لها شبيها منذ شرعت ابحث عنها؟! فابتسم في وجهه وأنا اعلم من هي، فقد حثني عنها طويلا - وأن اختلفت أساليب حديثه - ولكني لم أجد أبداً من أن استرسل في مجاملته فأقول: ومن أين لي أن أدري - يا حفظك الله - من تكون! فتبدوا على محياة سمات الرضوان لهذا (الجهل) الذي سيمكن له من أن يطيل في الوصف ما شاء خياله الجامح، ويقول: أنها - يا أخي - فتاة قد أصابت حظا من العلم، يكفى لأن يجعل منها أما صالحة وقد تقول أن هذا أمر ميسور يتفق فيه الفتيات جميعا! غير أن فتاتي يجب أن تكون إلى جانب ذلك، ربيبة بيت ما يزال يتفيأ ظلال الدين والتقوى، ويتقلب ذووه على مهاد وثير من الفضيلة والخلق العربي الكريم. ولابد من هذه الأخلاق وأتحسس مدى رجولتهم

ص: 14

وأنفتهم. فأنا مؤمن بالقول المأثور: (تكاد المرأة تلد أخاها. .) ولا يعزب عنك بأنني شديد الحرص على أن يكون هذا (الخال) الذي أتخيره لابني موضع اعتزازه حين ينصرف إلى أترابه ولداته. ولست أبالي من هذه الفتاة بعد ذلك أن تكون كيف شاءت فحسبي أن تستوفي جمال النفس وجمال الحق، فتجمع الكمال من أطرافه علم تزينه الفضيلة، وخلق يجمله النظام والتدبير. وهل سعادة العيش إلا بذلك؟!

ولا اعتراض ما يقول فطالما ألفيته شديد الغيرة على هذه الصورة الجميلة التي رسمها في خياله وحاطها بسياج من أحلامه الذهبية. وما أزيد على أن أقول: وأين تراك واجدا هذا؟ وهل تظن هذه المتعلمة ستضع نقابا على عينيها فلا تبصر من آثار هذه المجلات الداعرة التي تعرض عليها ألواناً شتى من ضروب العبث في كل أسبوع، وتريها مختلف الأوضاع في التبرج والعرى! ثم هي أن زارت (دار الخيالة) ولو لمأما، أفلا تظنها تقتبس منها ما يشوه عليك هذه الصورة الشعرية الفاتنة؟! ولا يكون من صديقي إلا أن يحدجني بنظرة ملؤها الإنكار وهو يقول: ستكون حيث وصف لك ما دمت قد نشأت في ذلك البيت الذي عينته.

هذا الحديث لم يكن جديدا على من ذلك الصديق، ولكن الذي كان جديدا أن أراه قد أقبل علي يوما وجهه يتهلل بشرا ويتدفق سرورا وهو يبادرني قائلا: لم أقل لك أنك تسرف في تشاؤمك حين تزعم أن الذي ابحث عنه ليس في عالم الحقيقة؟! لقد وجدتها على ما خيلت ووصفت وكأنما كنت استلهم الغيب حين تحدثت لك عنها فما تزيدت فيما قلب شيئا!! بالله ما عجب!! أتظن ذلك من ضروب المصادفة وليس غير!؟.

ولا يكون مني إلا أن أشاطر هذا الصديق سروره حين اعلم أنه تقدم فطلب يدها، ثم أجابه إلى ما طلب ذلك الصهر الذي لم يدع صفة من صفات الكمال إلا نسبها إليه، ومما حدثني به عنه أن قال: ليتك كنت معي، فتسمع إلى رجل يحدثك بقلبه ولسانه (وقليل ما أولئك)، تراه وأبناءه جميعا يلبون داعي الله إذا نودي للصلاة في أوقاتها، فيتسابقون إليها من صغير وكبير!! ثم أنهم لا يصيبون من طعام أو شراب، ولا يأتون عملا صغر أم كبر، إلا متأدبين بآداب الإسلام مقتفين سنة نبيه الكريم!! وما لك لا تراه نسيج وحده بين أهل هذا الزمان، حين اقسم لك جاهدا: أنني رأيته يدعو أبناءه ليتعطروا قبل الصلاة من يوم الجمعة، بعد أن

ص: 15

يأخذوا زينتهم يأتسون بالنبي فيما كان يصنع. أرأيت!! بل أني لك أن تكون رأيت أحداً من مثله؟!

وقال صديقي متحدثا عن هذا الصهر التقي كذلك: وقد أحببت - يا أخي - أن احتاط للأمر فحدثته أنني رجل كثير الخصوم، وأن كنت لا اعرف معظمهم!! فهم يخاصمونني لوجه الشيطان! وينتقصونني بما يفثأ سخيمة نفوسهم المضطرمة حسدا وغلا. . فقال الرجل النبيل: وهذا مما يزيد قدرك في نفوسنا! فذو العلم والفضل محسود من صغار النفوس، يتلمسون له العيوب ليجذبوه إلى حضيضهم الذي تردوا إليه، ورضاء الناس غاية لا تدرك. . .

فقلت - منشرحا لما أصاب صديقي من نعمة الاستقرار - إذن بوسعي أن أقول مع الشاعر:

فألقت عصاها واستقرّ بها النوى

كما قرَّ عيناً بالإياب المسافر

قال أجل. بوسعك بوسعك! وأنني منصرف إلى أهلي أزف إليهم البشرى. .

وانقضت أيام بعد ذلك. ثم لقيت هذا الصديق (مصادفة) في ندى، فإذا هو قد غاض من وجهه ذلك البشر، وإذا هو ساهم مطرق حائر. فقلت له: ويحك ماذا ألم بك؟ ألم تعثر على ضالتك المنشودة؟ فماذا ترتقب بعد ذلك!! قال لا ارتقب شيئا، فقد أضللتها ثانية، ولن أنشدها (من هذا السبيل) بعد اليوم!! قلب وكيف؟ لعلك انتهيت إلى غاية غير التي توخيت؟! قال اجل انتهيت إلى شر غاية! وأن كنت تعدني بأن لا تجادلني بسبب ما صرت إليه فيما أحدثك به حدثتك. قلت أعدك! قال: فاعلم إذن أن الرجل قد نكث العهد وخاس بالوعد!! قلت: التقي النقي (بقية السلف الصالح) كما قلت؟! قال: إياه عنيت وكأن هذا بعد أن أذعت الخبر في أهلي، ولقيت العنت في ارضائهم، ورد ما يعترضون به على!! واعلم أنني من جراء ذلك تنازلت عن يقين طالما حرصت عليه اشد الحرص، وهو الإنكار على (أبي العلاء المعري) مدلول بيت من أبياته، وأنا - بعد اليوم - ممن يرون رأيه. فلا عجب أن سمعتني اردد بلسان الإيمان قائلا ما يقوله عن يقين وتجربة، (وحسبك بالمجرب من عليم!!. . .).

وهنا ألفيت مدخلا عليه، فإذا أنا اطمئن في جلستي، استعدادا لجال طويل، وذلك على نحو

ص: 16

مما تعودت أن اصنع معه حين أجادله. ولكنه أدرك ما عزمت عليه، فإذا هو يبادرني بقوله: ماذا؟ أنسيت ما اشترطت عليك؟!

وما نسيت، ولكني أحببت أن أتأول، فلا تفوتني لذة المناقشة في هذا التقلب الذي صار إليه، فقلت: أنني لم أنس، غير أني. . . فقال مقاطعا حانقا: ولا هذه (الغير) تجوز لك، فأنته عند حدودها قبل أن توغل!!

فعز علي أن أضيف إلى ما انتهى إليه سوء العشرة، فقلت: افعل!

وانتهيت كما حب. وفي النفس حاجات. . . .

(القدس)

محمد سليم الرشدان

ماجستير في الآداب واللغات السامية

ص: 17

‌من وحي الصوم:

عشاق الطعام!!

للشيخ محمد رجب البيومي

النهار طويل ممل، والقيظ لافح محرف، وقد هجم رمضان على الناس بلا هواده، فجفف الحلوق وطوى البطون، وأخذنا نتلمس الليل فلا نكاد نظفر به لقصر مدته، وسرعة دورته، وكم امتدت الأيدي إلى عقارب الساعات نستخفها السير، وتسألها العجلة، فتمضي بطيئة ثقيلة وما تتم دورتها المحددة حتى تهن العزائم بعد قوة، وتستسلم الأجسام الفتية إلى الضعف والإعياء.

ولقد بينت في العام الماضي على صفحات الرسالة كيف وقف فريق من الأدباء موقف العداء الصريح من هذا الشهر الكريم فأوسعوه ما لا طاقة له باحتماله من الذم والقدح، وأريد اليوم أن ارفه عن القراء بحديث قوم اخلصوا لبطونهم واسترسلوا مع شهواتهم فهم يتفقدون الطعام في كل زمان ومكان، حتى إذا اشتموا رائحته سقطوا عليه كالضواري الفاتكة، وما اجمل أن نشيد بذكراهم في هذا الآونة، لنعتاض عن الطعام بالحديث عن أبطاله الأفذاذ وفرسانه المغاوير.

وإن تك قد منعت لقاء ليلى

ففي أخبارها أرج يفوح

ونحب أن نعلن أن التفتن في المأكل والمشرب ليس مذمة تشين صاحبها، فقد أباح الله لنا أن نأكل من الطيبات ما لذ وراق (قل من حرم زينة الله التي اخرج لعباده والطيبات من الرزق) كما حرص عز وجل على أن يسهب في غير موضع من القرآن في وصف ما بالجنة من فاكهة ولحم طير وخمر ولبن وعسل، لما يعلمه جل ذكره من لهفة ابن آدم على الطعام، وتطلعه إليه في شوق وانكباب.

ونحن نرى رجال الصوفية وهم المثل الأعلى في التقشف والزهد لا يتحرجون من الطعام الكثير متى وجدوه سمينا فقد كان عمر بن الفارض رضى الله عنه بطينا سمينا يأكل ويأكل حتى يلفت إليه الأنظار وكأن إبراهيم بن ادهم يتفق معه في مذهبه، فقد دفع إلى بعض إخوانه دراهم عديدة وقال: خذ لنا بهذه زبدا وخبزا وعسلا. فقال يا أبا إسحاق: بهذا كله؟ فقال إبراهيم ابن ادهم: ويحك، إذا وجدنا أكلنا أكل الرجال، وإذا عدمنا صبرنا صبر

ص: 18

الرجال.

كما يروى عن سفيان الثوري قصة عجيبة فقد جلس على مائدة مليئة وفوقها حمل شهي، فأخذ يأكل مع أصحابه بنهم؛ فقال صاحب المنزل يا غلام ارفع المائدة إلى الصبيان، فرفع الحمل إلى داخل البيت. فقام الثوري يعدو خلفه فقال صاحب المنزل إلى أين يا أبا عبد الله؟ فقال آكل مع الصبيان. فاستحيا الرجل وأمر برد الحمل ثانية إليه.

ولقد طلعت في كتب المتصوفين اصطلاحات عجيبة تدل على كلفهم بالمأكل والمشرب. فالحمل عندهم هو الشهيد بن الشهيد، والقطائف هي قبور الشهداء والفالوذج هو خاتمة الخير، واللوزينح هو أصابع الحور، وهذا قليل من كثير جدا ذكره الثعالبي في كنايته، والأصفهاني في محاضراته فليرجع إليهما من شاء.

وإذن فالكلف بالطعام ليس بمذموم على إطلاقه، ولكن لكل شئ نهاية، فإذا أدى الكلف إلى النهم والشره فذلك ما لا يطاق معه صبر واتئاد. واذكر أن صحابياً جليلا - أظنه ابن عباس - دخل عليه سائل نهم فأكل أكلاً عينفا، فجعل ينظر إليه في تعجب، حتى إذا خرج من عنده قال لخادمة إياك أن تدخله مرة أخرى، فأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: المؤمن يأكل في مع والكافر يأكل في سبعة أمعاء.

ويعجب المطلع على الأسفار الأدبية حين يجدها متخمة بأخبار الكثيرين ممن أطاعوا شهواتهم فجن جنونهم بالطعام، ينصبون له الحبائل، ويتصيدونه من مظانه، باذلين ما يملكون من جهد في تحقيق رغبات أمعائهم سالكين شتى الطرق المباحة والمحرمة لا يزعهم وازع من خلق، ولا يقف أمامهم زاجر من ضمير، حتى كان من أحدهم أن رفع يده إلى السماء - حين قيل له هذه ليلة مباركة - فقال: اللهم اجعل التخمة دائي وداء عيالي. وسلك نهجه شره آخر فقال: اللهم أني أسألك ميتة كميتة أبي خارجة، أكل حملا وشرب معسلا ونام في الشمس، فلقي الله شبعان ريان دفأن ملأن!!.

ومن المدهش الغريب أن يجاوز النهم طبقات العامة والدهماء إلى الملوك والخلفاء، وخاصة رجال العصر الأموي فقد أطلقوا العنان لملذاتهم، ونضدوا الموائد الدسمة لرغباتهم، وكأن كل خليفة ينظر إلى طعام من قبله فيزيد عليه متخيرا، وكأن الطعام قد صار كل شيء في الدولة، فهو الميدان الأول للتنافس والمباهاة!.

ص: 19

وقد انتقلت حمى الجشع والنهم من الخلفاء إلى الأمراء والحكام في هذا العصر الشره، فكأن عبيد الله بن زياد يأكل قبل غدائه أربع خرادق أصبهانية. وكأن الحجاج بن يوسف ينسج على منواله، قال سلم بن قتيبة: عددت للحجاج أربعاً وثمانين لقمة، في كل لقمة رغيف من خبز، وفي كل رغيف ملء كفه سمك شهى. وكم تندر العرب بنهم خالد القسري وعبد الله ابن المغيرة الثقفي، مما يؤكد لنا أن الناس على دين ملوكهم في كل زمان.

ونبدأ بمعاوية، فنذكر أنه كان ذا أنياب حادة، وأضراس مفترسة، تأتيه المائدة محملة مثقلة فترجع خاوية خالية. وكانت الوفود تترى عليه من القبائل النائية فتعجب لما تشاهده من طعامه وشرابه، وتتحدث بذلك في شتى الأصقاع حتى قال فيه الوليد بن عقبة:

إذا ما خرجنا من دمشق فلا نعد

لها أبدا ما دام فيها الجراضم

وأهل اللغة يقولون الجراضيم هو الواسع البطن الكثير الأكل ثم نثني بهشام بن عبد الملك فنسجل له مهارته النادرة في هذا المضمار، فقد خرج للتنزه ذات يوم فرأى راهباً يتحنث في بستان له، فدخل عليه فأخذ الراهب يجمع له من الفاكهة ما يقدم عادة للملوك والخلفاء، وهشام يأبى على ما يجيئه غير مقتصد في نهمه، ثم قال له: أتبيعني هذا البستان؟ فسكت الراهب لم يجب، فقال له: مالك لا تجيبني؟ فقال وددت لو مات الناس جميعا غيرك، قال: لماذا ويحك؟ الراهب: عسى أن تشبع!.

أما لوليد بن يزيد فلم يكتف بالبطولة في ميدان الطعام بل ضم إليها بطولة أخرى في ميدان الشراب، قال ابن أبي الزناد كنت عند الوليد ذات مساء فدعا بالعشاء فتعشينا ثم جاءت ثم جاءت المغرب فصلينا، وجلس ثم قال اسقني فجاءوا بإناء مغطى وجئ بثلاث جوار فصففن بيني وبينه حتى شرب ودهش فتحدثنا واستسقى ثم مازال كذلك حتى طلع الفجر، فأحصيت له سبعين قدحا من الشراب!!.

وقد يظن كثير من القراء أن هذا الأخبار ملفقة مصنوعة قد ألصقت بأصحابها إلصاقا لما يرون من غرابتها العجيبة، وأنا لا ارتاب في صحتها لحظة واحدة، لأننا نشاهد في عصرنا الذي نعيش فيه من يزيدون شراهة ونهما عمن ذكرنا من الخلفاء، فعندك (فقهاء) الريف يجلسون على الموائد المتعددة في ساعة واحدة ملالة أو سأم، وكأنهم يرجون الخدم فيغسلون الأطباق غسلا لا يحتاج معه إلى تنظيف وتجفيف. ورحم الله الأستاذ الشيخ عبد العزيز

ص: 20

البشري فقد ذكر في الجزء الثاني من المختار ما رآه بعينه من الجشع والشره دون أن يخبره به مخبر، وهو عندنا صدوق مصدق. ولم لا أعلن القراء شاهدت نهما يأكل من سقط مملوء بالخبز اللين والجبن - وكنا نركب القطار من المنصورة إلى الزقازيق - فما كدنا نقطع الطريق حتى كان صاحبنا قد ترك الوعاء خاليا مما فيه، وكأن يستعين على أداء رسالته الجسيمة بالشراب المثلج بين الفينة والفينة حتى وفق في مهمته اكبر توفيق!! فهل نشك بعد ذلك فيما ترويه الكتب من أنباء؟.

أما الطامة الكبرى فهو سليمان بن عبد الملك فقد فاق من تقدمه في مضماره، وتحدث الناس بنهمه كما يتحدثون عن معجزة خارقة أخذت بمجامع الألباب، وهم يروون له قصة عجيبة نسمعها فتدعنا في حيرة منها ومنه، وما ظنك بمن يأكل في مجلس واحد جديا مشويا وخمس دجاجات وقصعة كبيرة من الثريد ثم يقعد ليشتكي الجوع!! ولقد كان جشعه هذا سبب موته ببطنته. . . قال أبو الحسن المدائني أقبل نصراني إلى سليمان بن عبد الملك وهو بدابق بسلتين، أحدهما مملوءة بيضا والأخرى مملوءة تينا، فقال قشروا فجعل يأكل بيضة بيضة وتينة تينة حتى فرغ من السلتين ثم أتوه بقصعة مملوءة مخا بسكر فأكله فأتخمه، فمرض ومات صريع الطعام!!.

ونعرج على خلفاء العصر العباسي وأمرائه فنذكر أنهم ضربوا في هذا الباب بأوفر سهم، ويكفي أن نعلن أن الواثق والمتوكل والمستعين والمنتصر والمعتمد لم يكن يعنيهم من أمور الدولة ومشاعلها غير الطعام والشراب. وكانوا إذا فرغوا من الموائد انتقلوا إلى الحديث عنها مع من يلوذ بهم من الأمراء والسمار، حتى ليجوز لنا أن نسمى هذا العصر عصر الموائد والولائم - كما يقول الأستاذ العقاد - وهل رأيت قبل المتوكل على الله خليفة غضب على سميرة ونفاه من مجلسه لأنه لا يتفنن في الطعام؟ وهل رأيت أسفارا ضخمة كتبت في هذا الموضوع بذاته في غير زمان بني العباس؟ فقد ظهرت ثلاثة كتب في فن الطبيخ وحده وضعها أحمد بن يوسف الكاتب، وجحظة البرمكي، وإبراهيم بن العباس الصولي، (وخفت مذمة النهم لأنه اصبح قدوة علما وظمأ وكأنه في ذلك كله اقرب إلى الفخر منه إلى الملامة، وربما كان الخليفة وجلساؤه يتواعدون إلى الموعد، ومع كل منهم طعامه يتفهون باستعراض ألوانه والمقابلة بين صناعاته وطعومه).

ص: 21

وتسألني لماذا أولع المؤلفون بتسجيل نهم الأمويين ومذمتهم دون العباسين مع أن بين أمية لم يبلغوا شأوهم في هذا المضمار؟.

والجواب أن خلفاء العصر الأموي مبتدعون مخترعون، فحقت عليهم الملامة والمذمة دون من ترسموا خطواتهم، لا سيما وقد حكموا الناس بعد الخلفاء الراشدين مباشرة، وهم كما نعلم أهل تقشف وورع فكانت عورتهم واضحة، وسبتهم بلقاء، وليت شعري أين الأرض من السماء؟!.

هذا ولن يتعجب أحد من ميتة سليمان بن عبد الملك بسبب بطنه فكثير من الآكلين يرون من الفخر أن تحين آجالهم في معركة حامية تستخدم فيها الأنياب والأضراس، وبدور رحى الخضم والمضغ، وهنا تكون الشهادة في ذمة الشره والنهم، وأن قائلهم ليصيح:

ألا ليت خبزاً تسربل رائباً

وخيلا من البرنى فرسانها الزبد

فأقضي فيما بنيهن شهادة

بموت كريم لا يعد له الحد!!

وخيال هذين البيتين يعطيك فكرة حميدة عن النضوج الذهني لعقلية قائلهما، ويخبرك أن بين المنهومين من صقله الطعام، وثقفه الشراب فأتى في شعره بالتركيب المتسق والمعنى البارع، والعقل السليم في الجسم السليم!!.

وأنت لو نظرت إلى أجوبتهم المسكتة، وردودهم المفحمة لعلمت أن وراء هذه البطون المكتظة عقولا فذة مفكرة تفحم مناظرها، وتستحوذ على الإكبار والإعجاب ودونك فاستمع هذه النادرة:

كأن للمغيرة بن عبد الله الثقفي وهو على الكوفة جدي يوضع على مائدته فلا يأكل منه، فتقدم أعرابي وتعرق عظامه، فقال: يا هذا أتطالب هذا البائس بزعل؟ هل نطحتك أمه؟ فأجابه على البديهة؟ وأنت شفيق جدا عليه هل أرضعتك أمه؟.

وهذا الجواب من الإبداع بمكان وهو ينفي تهمة البلادة التي تلصق بهذه الطائفة إلصاقاً مع أن الذكاء والغباء لا يأتيان من القناعة أو الشراهة، بل عما مما ركب في النفس يوم أن ذراها الله وإلا فلدي قصة عجيبة تدل عل ذكاء لماح ونضوج فذ، وما أظنها تدع القارئ شكا في صحة ما أقول:

استضاف أعرابي صديقه وكأن نهما أكولاً، فقدم إليه فحلا من الإوز، وكانت الأسرة جميعها

ص: 22

تأكل معه، فأخذ الضيف الرأس وأعطاها لصاحبه، والساقين فأعطاهما لابنتيه، ثم هجم على الباقي فما ترك منه شيئا!! وحين اختلى الرجل بزوجته صمم على أن يكثروا من اللحم ما دام الضيف على هذا الجانب من الشراهة فاحضر على المائدة في المرة الثانية خمس دجاجات وانبرى الضيف للقسمة فقال أقسم بالشفع أم بالوتر؟ فقيل له بالوتر فأعطى الرجل وامرأته دجاجة وقال ثلاثة ثلاثة وأعطى الولدين دجاجة وقال ثلاثة ثلاثة، وأعطى البنتين دجاجة وقال ثلاثة ثلاثة!! وهنا صاحت المرأة نريد القسمة بالشفع، فأعطى الرجل وابنيه دجاجة وقال أربعة أربعة، وأعطى المرأة وابنتيها دجاجة وقال أربع أربع، ثم أشار إلى نفسه وتخذ ثلاث دجاجات قائلا أربعة أربعة!! ثم فأكل الجميع في وجوم ثم أنصرف الضيف بعد ذلك مشهودا له بالبراعة والتوفيق!!

(البقية في العدد القادم)

محمد رجب البيومي

ص: 23

‌هوى المرأة

للآنسة نعمت أحمد فؤاد

ليس جمال الرجل هو كل شيء في عين المرأة، بل هناك صفات أخرى فيه تستهويها وتستبيها، فالقوة قوة الروح، وقوة الجسم تأسرها وتروعاها، وللفظ العذب المشرق يحلو في سمعها ويسري في دمها غبطة، فتنتشي منه وتسكر.

ولعل الرجل الفنان هو أحب الرجال إلى المرأة وآثرهم عندها.

أن العلوم من صنع العقل وهي حظ مشترك بين الجميع، ولكن الفنون هبة من الله يمنحها بقدر.

ولكم رأينا من النساء المترفات من تهجر زوجها الطبيب أو العالم، وتعلق بموسيقار أو رسام أو شاعر.

إن نفس المرأة تفيض رقة لهزج القيثار وتلوين الريشة، وترنيمة الشاعر. . . هذه الروائع الخالدة التي أبدعتها السماء، فجاءت في صفاء جمال البدر ولآلاء النجوم، وباركتها يد الله وكأنها صيغت من القطر حين ينزله من الغمام.

هذا هو التاريخ اسمعه معي يحكى لنا ولع الغانيات ببشار ابن برد الشاعر.

لم يكن بشار وسيما تأخذه العين، بل كان كما وصفه الأصمعي ضخما عظيم الخلق والوجه مجدوراً طويلا جاحظ المقلتين قد تغشاهما لحم احمر، فكأن اقبح الناس عمى وأفظعهم منظرا، وكأن إذا أراد أن ينشد، صفق بيديه وتنحنح وبصق عن يمينه وشماله، ثم ينشد فيأتي بالعجب!.

كان بشار بمجلسه الذي كان يسميه (الرقيق) وقد مد بساط الراح وحوله ندامى شرابه وعشاق شعره.

كانت ساعة أصيل تودع الشمس فيها الأرض، وتمنيها الأماني أن ترسل إليها البدر يرفدها بنوره حتى تطالعها هي في صباح الغد الجديد وراحت الشمس ولم تخلف وراءها في الأفق غير ألوان منها الأحمر والأصفر والأزرق كأنها تستعرض ألوان الزهر الذي تصنعه بحرارتها، وتمد له في الحياة. . .

ودارت الكئوس على الرفاق حمراء من لون الخمر كان الورد أراق فيها شرابه فتضرجت

ص: 24

وارتفع الصخب حتى كاد يغطي رنين الأوتار، إذ وافى المجلس غانيات خمس كما يوافي الأمل دنيا موعود، فخشعت الأصوات وكأنها اطمأنت، وسكنت الضجة حتى وضح عزف المزاهر، واستوت القادمات مجلسهن حول بشار، ثم أندفع المغني يردد قول شاعرنا:

أيها الساقيان صبا شرابي

واسقياني من ريق بيضاء رُود

إن دائي الظمأ وإن دوائي

شربة من رضاب ثغر بَرُود

وأخذ الشادي يترفق باللحن تارة فتستنيم القلوب من النشوة، ويشتد به أخرى فتعصف بها الرغبة ويسمع لها وجيب.

هذا بشار في شغل بضيفاته يميل على هذه ويداعب تلك، ويهمس في إذن الأخرى، ويسر إليها حديثا لا يسمعه أحد، ولكنها تضحك فيفتضح المعنى وينكشف السر. وإذ تستجيب له الغانيات ويتهافتن عليه، تتمنع واحدة منهن وتزور عنه في كبرياء يمازجها دلال آسر. . . ويرتسم العجب على وجه بشار من أهوائها فيقبل على غلامه يسأله عنها فيعلم أنها (عبيدة).

كانت الفتاة كاملة الصغو للمغني تكاد تشرب النغم وكأنها لا تروى على كثرة العب وطول الرشيف، حتى إذا انتهى المغني أخذت عبيدة تعيد النغم بعده وتقلد تقليدا تاما راع الجمع وآثار دهشتهم وبشار في هذه المرة لا يتلاهى عن الغناء، بل ينصت ذاهلاً بحواسه كلها، حتى ليخيل إلى من يراه أن بصره ذهب في هذه اللحظة فقط استجابة لرغبته في أن يكون له عوضا عن البصر سمعان.

وتفرغ عبيدة من الغناء وتومئ إلى صاحباتها أن يتهيأن للخروج فيلبين دعوتها، وتخلف وراءها بشاراً غريقا في لجج النشوة، تائها عن نفسه وعن الوجود حتى إذا استفاق من غشيته ولم يجد الشادية، انطوى على نفسه، شارد اللب موزع القلب يعبث بعود ريحان في يده يخط به على الأرض تارة، يعبث بوريقاته تارة أخرى، ثم يسبح له خاطر فيضغط عل وريقات العود ويعتصرها في كفه، فتحتضر المسكينة ولا ذنب لها.

ويتقدم إليه هشام بن الأحنف راويته يسأله بمن يا ترى يهذي فيتمتم:

يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة

والإذن تعشق قبل العين أحيانا

ويكمل بشار القصيدة ويأمر راويته أن يكتبها ويسلمها لغلامه ليبلغها عبيدة التي هشت له،

ص: 25

وكانت تزوره مع نسوة يصحبنها، فيأكلن عنده ويشربن، وينصرفن بعد أن يحدثها وينشدها، ولا تطعمه في نفسها.

وظل الحبيبان يتزاوران تارة، ويتبادلان الرسائل أخرى، حتى شاع الخبر ورقى إلى أهلها ففزعوا إلى محتسب الجند بالبصرة واعلموا نبا بشار، فأخذ هذا يضيق عليه الخناق ويراقبه، فامتنع عن عبيدة، واسلم نفسه للجوى والسهاد. . . وهل غيرها عزاء للمحبين. . .؟

وأنه لذات يوم مع راويته هشام بن الأحنف يملي عليه شعر هواه، إذ أتته امرأة فقالت: يا أبا معاذ عبيدة تقرئك السلام، وتقول لك: قد اشتد شوقنا إليك، ولم نرك منذ أيام. فقال: عن غير مقلية والله كان ذاك. . ثم قال لراويته هشام: خذ هذه الرقعة واكتب فيها ما أقول ثم ادفعه للرسول:

عبدَ أني إليك بالأشواق

لتلاقٍ وكيف لي بالتلاقي؟

أنا والله اشتهي سحر عيني

ك وأخشى مصارع العشاق

وأهاب الحرسي محتسب الجن

د يلف البريء بالفساق

أعلمت لماذا أرسلت إليه عبيدة؟ لم يكن الشوق وحده هو الذي دفعها بل أرادت أن تراه لتفضي إليه بالنبأ الخطير. . .

أن أهلها عملوا على أن يزوجوها برجل من عمان لتخرج عن البصرة ليخفت الحديث الذي سار بين الناس وتناقلته مجالسهم.

ويذهب القوم ليحتفلوا بزفاف عبيدة ويشهدوا رحيلها مع زوجها إلى عمان، ويبقى شخص واحد!.

نحن هنا (بالرقيق) أيضاً ولكن لا كئوس ولا أوتار ولا ندامى!.

إن شاعرنا اليوم كاسف البال ملتاع الفؤاد قد اجتمع عليه الوجد والبعد والأسى ثلاثتهم وخيم على البيت الصاخب الكابة والسكون. . . سكون عميق لم يشقه إلا صوت بشار يسأل هشاما أين الأحنف: وهل رضيت عبيدة بالخروج مع زوجها إلى عمان؟.

نعم رضيت، ولعلها على مقربة من عمان الآن! فينكب بشار عل نفسه، ويتمتم في صوت خفيض:

ص: 26

هوى صاحبي ريح الشمال إذا جرت

وأشفى لقلبي أن تهب جنوب

وما ذاك إلا أنها حين تنتهي

تناهي وفيها من عبيدة طيب

نعمت أحمد فؤاد

ص: 27

‌الأشغال الشاقة المؤبدة

للأديب فؤاد السيد خليل

قالت: ما هي مدة الأشغال الشاقة المؤبدة؟ قال: خمس وعشرون سنة، ينقص ربعها الذين يحافظون على النظام والطاعة في السجن، فهل تريدين ارتكاب جناية؟ فابتسمت وقالت: لقد تزوجت! وعلى الرغم من محافظتي على النظام والطاعة، وتبرعي بما هو أكثر من النظام والطاعة، لم تنته مدة عقوبتي بعد نيف وعشرين سنة ولا أظنها تنتهي أبداً! قال: إنما كنت اعرضها للسعادة! قالت: هذه أمنية! قال: على كل حال كانت محاولة لم تنجح وشكرا لك. وما هي الأشغال الشاقة التي تفعلينها؟ ألا يقوم الخدم بأعمال المنزل؟ قالت: أيقومون بها دون مساعدتي بل اشتراكي الفعلي؟ ومع ذلك فهذه أمور يسيرة! قال: أعندك بعد هذا ما يسمى أشغالاً شاقة؟! قالت: نعم! الفكر والصبر، والقهر! قال: لا تبالغي! قالت: إنك لا تنكراننا لا نبلغك (كوارثنا) إلا بالتدريج، وبعد أن ننتهي من علاجها أن استطعنا وإنك قد تأتي من الخارج أو تصحو من نومك فلا تعلم كيف قضينا النهار أو الليل في قضايا وإسعاف وتمريض! قال: ولا تنكري أنني لا أبلغكم مصائبي أبداً، وأنني أعمل كالرجل الذي كان إذا أراد أن يدخل منزله ركع وقال للتعب والهم اركبا الآن يا ابني الزمان! قالت: ولكننا نقرا كل شيء في وجهك ونخبرك به! فهل استطعت أنت مرة أن تقرا ما نخفي عنك؟ قال: أشهد أنني أمي في قراءة الوجوه الناعمة! فخبريني بما عندك، وبالتدريج من فضلك. قالت: ابنك الكبير لم يكتب إلينا منذ بضعة شهور. قال: لأننا نكتب إليه، ونسأل عنه، ونحبوه عطفنا قبل أن يحتاج إليه، فهل تحبين أن نضطره إلى الكتابة؟ قالت: وهذا الطفل لا (يتعاطى) إلا الماء والشاي والبطيخ! قال: أخشى أن يأتي يوم تشتكين فيه من أنه (يتعاطى) كل شئ! قالت: لا تمزح، فإني لم أبلغك إلا أخف الأخبار! قال: فما الأخبار الثقيلة؟ قالت: هذه البنت تلزمها عملية جراحية وقد تموت فيها. قال الأعمار بيد الله، والحكومة (الله يسترها) تنقل الموتى من الموظفين وعائلاتهم إلى بلادهم على نفقتها، أما الإحياء فإنها تتركهم إلى أن يموتوا! قالت: فما كنت تريد؟ قال: كنت أفضل أن تنقل الإحياء كل عشر سنوات (بدل وفاة) ولا تتركهم يموتون من الحر والقهر! قالت: وإذا ماتوا؟ قال: تدفنهم حيث يموتون فليسوا خيرا من رسول الله صلى الله عليه وسلم! قالت: لا

ص: 28

تخرج عن الموضوع، فقد تشفى البنت و. . . قال: وهذه مصيبة أخرى! قالت: ألا تنظر ابعد من أنفك؟! ألا تعلم ما يلزم لكل فتاة؟ إنه هم ثقيل. قال: لا يكلف الله نفسا إلا وسعها. قالت: فإني لم أبلغك بعد اثقل الأخبار! قال: هاتي اثقل ما عندك! فابتسمت بحرارة وهي تقول: ابنك الثاني رسب في الامتحان كما تعلم و. . . قال: نعم، وسينجح في الملحق. قالت: كلا! إنه يأبى أن يذاكر ولا يريد أن يدخل المدارس! قال: لا شك أنه جن! قالت: لم يجن بعد، ولكنه في دور المراهقة وأنت تعلم خطورة هذا الدور عليكم معاشر الذكور. قال: إنني لا اعلم هذا الدور علي التحقيق يا عزيزتي، لأنني ولدت بعده! قالت: لا يغنك أن عصمك الزواج المبكر، فإن بعض الشيوخ يموتون وهم لا يزالون في دور المراهقة! قال: أتعنين أنه (كالحصبة) لا بد أن يمر به كل إنسان؟ قالت: نعم، وهو على الكبار اخطر! قال: فما العلاج؟ قالت: للصغار الرياضة وللكبار الزواج. قال: فهل تنصحين لي إذن بالزواج؟ فابتسمت وقالت: نعم! إذا مت أنا ووجدت من ترضى بك! قال: أرجو إذن أن تموتي الآن أو لا تموتي أبدا! قالت: اسأل الله أن أموت قبلك! قال: بل اسأليه أن يعيش أحدنا حتى يربي الأطفال قالت: وبم أربيهم أنا إذا بقيت لا قدر الله؟ قال: بالمعاش! قالت: وكم يكون هذا المعاش، ومن يستطيع الحصول عليه؟ ألم تقرأ أن والدة كاتب النيابة الذي قتله (الخط) في العام الماضي لا زالت تسعى للحصول على معاش ابنها بدون جدوى قال أعجزت النساء أن يلدن من يستطيع حل هذه المشكلة؟ قالت: إن النساء لم تعجز، ولكن الرجل عجزوا! قال: كان خيراً لنا والله أن ندفع ما ندفعه في المعاش لإحدى شركات التامين على الحياة! قالت: ولم لا تنشأ شركة للتأمين على المعاش؟ قال: كيف ذلك؟ قلت: تؤلف شركة يرأسها (خواجه) أو على الأقل (باشا) تحصل للمستحقين على معاشهم في مقابل نسبة مئوية من المعاش. وأؤكد أنها ستحصل على أي معاش قبل مضي شهر على تاريخ الوفاة. قال: توجد الآن طريقة أخرى، فقد سمعت أن أحد المحالين على المعاش أمكنه الحصول بسرعة على معاشه بواسطة صديق له من صغار الموظفين أهدى إليه (صفيحة ملوحة)! قالت: إنها تشنيعا من تشنيعاتك! قال: من يدري، فلعل ما خفي اعظم قالت: وما السبب؟ قال: كثرة اللوائح والتعليمات وقلة المرتبات. قالت: فما العلاج؟ قال: أما عن المستقبل، فالعلاج عدم التوظيف وعدم الزواج! وقالت: عن الماضي؟ قال: إني

ص: 29

أرى أن كثرة اللوائح والتعليمات والتعقيدات لا لزوم لها، فإن أية مصلحة حكومية في أي بلد يمكنها صرف المكافأة أو المعاش في بضعة أيام، كما تفعل شركات التامين، بغير أن تلزم الموظف أو أسرته بالجري سنين في وزارة المالية! قالت: وكثرة الموظفين وقلة المرتبات؟ قال: على الحكومة إبقاء الموظفين اللازمين وزيادة مرتباتهم وفصل الباقين! قالت: وماذا يصنع الباقون؟ قال: صحيح. . . إلى السودان! قالت: إنهم لا يستطيعون! قال: فإلى إنجلترا إذن! قالت: فإن لم يستطيعوا يهاجروا إلى روسيا! قال: هذا إذا لم تهاجر روسيا إليهم!

فؤاد السيد خليل

خواطر مسجوعة

المرأة

هي الناعمة الجبارة، واللينة القهارة، ذات الأدوار الغريبة والأطوار العجيبة. . .

أردت وصفها فأبدت زيفا، وتنكرت كما وكيفا؛ والمرأة أن تنكرت عكرت. وإن تغيرت حيرت. وإن ألغزت أعجزت.

فمعذرة يا قارئي إن بحثت عن حقيقتها فلم أجد، ورسمت صورتها فلم أجد، فليست لها صورة واحدة بل صور متعددة. وكلما زادت معرفتي لها ازداد الأشكال تعقدا، وزادت الأشكال تعددا؛ وأي قيس لم تخامره في ليلاه الحيرة، وأي رجل لم تساوره على أنثاه الغيرة؟! وإذا كان ذلك شأن من أبلى وتعلم، فما بال من لم. .؟!.

رأيت المرأة كالضلع على اعوجاجها حانية، وعل صنوها صلبة قاسية!

رأيتها - إن أخلصت - رحمة، وفضلا من الله ونعمة، ورأيتها - إن تنكرت - ليلا مظلما، ولغزا مبهما!

ترضى فتظهر الجميل، وتقنع بالقليل وتستر العيب، وتؤمن بالغيب، وتشفي العلة، وتروى الغلة، وتنير الظلام، وتنيل المرام.

وتغضب فتكدر الصفاء، وتجلب الشقاء، وتقبح الحسن، وتضمر الفتن؛ وتعمد إلى التدمير والتخسير فتبدد الكثير واليسير.

ص: 30

وللمرأة مقدرة في حروبها، وقوة لا يستهان بها؛ تحسبها عزلاء وكلها أسلحة وكلما حاربت كانت هي المفلحة وهل ترى سلاحا أقطع من دموعها الكذابة، وكلمتها الخلابة؟!.

تحسن المظاهر والله اعلم بالسرائر فتبكي إذا شاءت وتضحك كلما أرادت!

تذهب إلى المناحة كمحزونة ثكلى، وتعود إلى الزفاف كعروس تجلى! وقد تراها في المرقص راقصة لاعبة، وفي المعبد عابدة راهبة!.

تتقن المائد، وتتفنن في لامكائد؛ ومن عجب أنها على قسوتها مرحومة، وعلى جنايتها مظلومة، وعلى رقتها مرهوبة، وعلى إساءتها محبوبة!.

تبذل الجهود لأجلها ويستهان بالصعاب في سبيلها. ساكنة وهي المحركة، آمنة وهي اصل المعركة. فهي في خدرها ذات قيادة وصاحبة سيطرة وسيادة توقظ الهامة وتحبي العزيمة، وتفتق الذهن، وترفع شأن الفن؛ وهل ننسى ما لها من الأثر الهام، في الوحي والإلهام؟ وأهم من ذلك وأعم، إن كل عبقري ولدته أم؛ فللوالدة فضل المولود، بل عليها قوام الوجود. . . .

حامد بدر

ص: 31

‌تعقيبات

الانتحار في مصر:

في عدد سابق من الرسالة كتب الدكتور أحمد موسى مقالا عن الانتحار كظاهرة اجتماعية نفسانية قال في مطلعه: (لم يكن الانتحار معروفا في مصر قبل ربع قرن، وكان الناس على الأرجح أكثر قناعة واحتمالا وارحب صدرا لمقابلة آلام الحياة وأقل تبرما بها، أما الآن ولا سيما خلال عشر السنوات الأخيرة، فقد بدت ظاهرة مخيفة هي أقدام الكثيرين على الانتحار، سواء في ذلك لا شبان والشابات، والرجال والنساء دون فرق ظاهر بين متعلم وجأهل، وبين فقير وغني، وبين صحيح ومريض، وين متزوج وأعزب. . . . .).

وهذا كلام يحتاج إلى تصحيح، والصواب أن يقول: إن الانتحار لم يعرف في مصر كظاهرة اجتماعية قبل نصف قرن، ولم تتمثل هذه الظاهرة للعيان إلا بعد أن اتصلت مصر بأوربا، وأخذت تعب من شرور المدينة الأوربية أضعاف ما تقتبس من خيرها، وكان هذا الداء الوبيل ضمن الشرور التي أصابت المجتمع المصري وتأصلت فيه.

والطريق الذي وصل منه هذا الداء إلى مصر هو الأدب، أدب القصص الأوربي وما يحمل من انتحار أبطال تلك القصص وبطلاتها، ثم ما كإن يصوره ذلك الأدب من حوادث الانتحار على المسرح وقد وجد هذا النبات الغريب في بيئتنا تربة خصبة وعوامل للنمو مما خلفته العصور المظلمة في نفوس المصريين فما وفرع ولعل أوضح آثار لهذا الداء هو ما بدا بين تلامذة المدارس الراسبين في الامتحان من الإقبال على الانتحار بكثرة مخيفة أفزعت أولياء الأمور، وقد صور المغفور له أمير الشعراء هذه الظاهرة وندد بها في قصيدة من أروع قصائده إذ يقول:

كل يوم خبر عن حدث

سئم العيش ومن يسأم يذر

عاف بالدنيا بقاء بعد ما

خطب الدنيا وأهدى ومهر

حل يوم العرس منها نفسه

رحم الله العروس المحتضر

ضاق بالعيشة ذرعا فهوى

عن شفا الناس وبئس المنحدر

راحلا في مثل أعمار المنى

ذاهبا في مثل آجال الزهر

إلى أن يقول:

ص: 32

لامه الناس وما اظلمهم

وقليل من تغاضى أو عذر

قال ناس صرعة من قدر

وقديما ظلم الناس القدر

ويقول الطب بل من جنة

ورأيت العقل في الناس ندر

ويقولون جفاء راعه

أب اغلظ قلبا من حجر

وامتحان صعبته وطأة

شدها في العلم وأودى بالأسر

لا أرى إلا نظاماً فاسداً

فكك العلم وأودى بالأسر

ولما نظم حافظ إبراهيم قصيدته المعروفة في شكوى الحياة، وقال فيها عن نفسه:

سعيت إلى أن كدت أنتعل الدما

وعدت وما أعقبت إلا التندما

سلام على الدنيا سلام مودع

رأى في ظلام القبر أنسا ومغنما

أضرت به الأولى فهام بأختها

وإن ساءت الأخرى فويلاه منهما

فهي رياح الموت نكباء وأطفئ

سراج حياتي قبل أن يتحطما!

انتقدته الصحف ونددت بهذه الروح، وقالت إحدى المجلات الأدبية: حرام علت حافظ إبراهيم أن يصور اليأس لأبناء مصر بهذه الصورة، وأن يكون لهم قدوة في التلهف في الموت ومفارقة الحياة، لأن هذا مما يحبب لهم الإقدام على الانتحار.

ولاشك أن ظاهرة الانتحار في مصر قد تطورت في مظاهرها وفي أسبابها، فبعد أن كانت محصورة في استعمال الشنق أو تجرع المواد السامة، أصبحت تتم بفنون مختلفة لإزهاق الروح وبعد أن كانت قاصرة على التلاميذ الراسبين، غدت نهبا لكل أسباب المضايقة ونكد الحياة، وقد دل آخر إحصاء عن حوادث الانتحار والشروع فيه بمصر في عام واحد على أن الإقدام على هذا الجرم الشنيع يرجع إلى عدة أسباب تبلغ في النسبة المئوية 86 بدافع المرض المزمن، و54 بسبب الفقر المدقع، و30 من جراء الشقاق العائلي، و24 من المتاعب الزوجية، و22 لسوء المعاملة، و17 من اثر الحزن، و16 بدافع الكوارث المالية، و12 لأسباب غرامية، و9 سبرا للعار وخوفا من الفضيحة. وعلى أي حال فإن هذا المرض ليس من طبيعتنا، ولكنه لعنة لحقت بنا من لعنات المدينة الأوربية. وما أكثرها.

هذه الألفاظ الأثرية أيضا:

لا أريد أن أدخل في مناقشة مع الأستاذ أحمد رضا عضو المجمع العلمي العربي الدمشقي،

ص: 33

لأني على يقين أنه هو ومن يلف لفه من اللغويين يمسكون أنفسهم بفكره لا يريمونها، وهي أن القواميس قد جمعت من الألفاظ ما يكفي لكل معنى مستحدث فغاية البراعة في التقديم هي أن يبذل الرجل منهم جهد الطاقة ليظفر بكلمة مهما كانت مجفوة ميتة، ثم يكرهها إكراها على أداء معنى حادث ولو لأني ملابسة؛ وإني إذ اطلب منه ومن أصحابه الاتجاه إلى ناحية ارحب في توفير مادة اللغة، فإني أكلفهم خطة شديدة.

غير أني أعود إلى هذا الموضوع لأقول لحضرته في كلمة قصيرة أنني لا أقول أن (الألفة الذوقية وحدها تكون ميزانا لوضع الكلمات اللغوية واختيارها) كما فهم من كلامي، ولكني أقول أن اللغة لا شك ظاهرة اجتماعية تتطور بتطور الحياة، وأرجو أن لا يغضبه هذا التعبير، وهي بهذا المعنى تتأثر بالظواهر الاجتماعية الأخرى، وتكون صورة لأفكار أهلها وأذواقهم وما يناسب اتجاهاتهم وميولهم نحو الحياة، ولهذا تموت من اللغة ألفاظ وتعابير وتستحدث ألفاظ وتعابير، ولولا أن تكون اللغة مطواعة قابلة بمادتها لهذا التطور فإنها لا بد أنها تختفي ولهذا السبب كم اختفت لغات ولغات!.

ولقد ماتت من اللغة العربية ألفاظ كثيرة، ماتت لأنها فقدت ما يصلها بحياة الناس من الجرس والأداء والمعنى، ثم بقيت محفوظة في المعاجم كأنها قطع الآثار في المتاحف، وهي لاشك عربية أصيلة، وقد تكون وردت في أمثال من فصيح الشعر والنثر ومأثور الكلام، ولكنا لا نستطيع أن نبعث فيها الحياة مرة أخرى، وإلا لظلت هي حية على رغمنا، فالدرمك والدغري والمدغرة والدلق والمربقة ألفاظ عربية لا أماري في عربيتها ولكنها ماتت منذ زمن قديم وليس في طبيعتها نحن ما يهي لها الحياة ويقدر لها التداول في الألسن والسير في أساليب الكتابة والشعراء والخطباء وهم صيارفة الكلام.

ولعل الأستاذ يعرف أن جماعات وأفراداً من الأفذاذ المخلصين قد وقفوا جهودهم على هذه الخطة التي ينتهجها في خدمة اللغة بإحياء الألفاظ المجفوة الميتة، ولكنهم لم يجدوا كثيرا، فنادى دار العلوم والمجمع اللغوي القديم الذي تالف برياسة السيد البكري، والمغفور لهما فقيدا اللغة أحمد تيمور باشا، واحمد زكي باشا، وغير هؤلاء جميعا قد جهدوا في اختيار ألفاظ قديمة لتأدية المعاني المستحدثة، وأرادوا مدافعة الدخيل من أسماء المخترعات والمكتشفات بإحياء ألفاظ قديمة نسيها الزمان فما أجدى هذا العناء كما يجب.

ص: 34

اختاروا (البرندج أو الأرندج) لبوية الأحذية و (الوهين) لمقدم الفعلة، و (الدريئة) للهدف الذي يتعلم عليه الرمي، و (الطريخ) لسمك السردين، و (الطيلسان) للشال، وهو الكساء المعروف، كما اختاروا عشرات من أمثال هذه الكلمات، فأين هو الكاتب أو الشاعر أو الخطيب الذي استعمل هذه الكلمات حتى من بين أولئك الذين أضنوا أنفسهم في إخراجها واختيارها، وهكذا سيكون الشأن فيما اختاره الأستاذ رضا الدرمك والدغري والقنع، فسيظل الأدباء يؤثرون عليها في التعبير الدقيق، الفاخر، والحروب المفاجئة، وطبق الفاكهة. . .

وبعد، فلا يحسب الأستاذ إني أسد هذا الطريق من بابه، أو أنقضه من أساسه، أو أنكر إحياء الألفاظ العربية، ولكني أنشد الألفاظ التي تصلح للحياة حتى يمكن أن نحيا، ولي في هذا رأى قد ادعته في (الرسالة) منذ عشر سنوات في مقال بعنوان (مهجور اللغة)، ولولا ضيق المقام، وأن المقدر لي في هذا الباب أن يكون (تعقيبات) خاطفه، لمددت القول في تلك الناحية إلى الغاية.

(الجاحظ)

ص: 35

‌الأدب والفن في أسبوع

مصر وسودانها وشعرائها:

غنت أم كلثوم (أغنية السودان) في المذياع يوم الاثنين، بعد أن قدمت لها بكلمة رقيقة قالت فيها: (إنه في هذا الوقت الذي تعرض فيه قضية الوطن على مجلس الأمن أردت أن اقدم هذه الأغنية التي تعبر عما يجيش في نفوسنا نحن أبناء الوطن.

و (أغنية السودان) التي غردت بها أم كلثوم هي أبيات مختارة من قصيدة (اعتداء) التي قالها شوقي في تهنئة سعد زغلول بنجاته من حادث إطلاق الرصاص عليه، وذكر فيها من المسائل الوطنية مسالة السودان.

ومنذ شهور اختيرت لعبد الوهاب أبيات من قصيدة (شهيد الحق) التي قالها شوقي في ذكرى مصطفى كامل وجاء بها ذكر السودان في البيت التالي:

وأين الفوز؟ لا مصر استقرت

على حال ولا السودان داما

فأخذنا هذا البيت ضمن أبيات تندد بما كان في ذلك الوقت من اختلاف الأحزاب وانقسام الزعماء، وسميت أيضا (أغنية السودان) ثم غير هذا الاسم فكان (وحي السودان) ثم سميت (إلام الخلف) ثم طويت. . .

أما أغنية أم كلثوم فقد لوحظ في اختيارها أن يكون ذكر السودان فيها أكثر مما كان في أغنية عبد الوهاب؛ ويخيل إلي أن الذي قام باختيارها بحث في شعر شوقي حتى عثر على قصيدة (اعتداء) فتنفس الصعداء وشعر بلذة الظفر، إذ وجد بها عدة أبيات في قضية السودان، ولكن كيف يستخلصها؟.

بدأت الأغنية هكذا:

وفي الأرض شر مقاديره

لطيف السماء ورحمانها

وموضع هذا البيت هناك في قصيدته حيث التعبير عن الارتياح لسلامة الزعيم ولطف الله بالبلاد، فنقل البيت كارها متبرما ليكون مطلع الأغنية! فتبدأ به جثة مسلوبة الروح. . . ويأتي بعدة خمسة أبيات هي خمسة أشلاء متقطعة الأوصال فاقدة الحياة. . . ثم يأتي ذكر السودان، واصله في القصيدة هكذا:

ويا (سعد) أنت أمين البلا

د قد امتلأت منك إيمانها

ص: 36

ولن ترتضي أن تقد القنا

ة ويبتر من مصر سودانها

وحجتنا فيهما كالصبا

ح وليس بمعييك تبيانها

فيحذف البيت الذي فيه (سعد) ويبدأ البيت التالي بـ (ولن نرتضي) بتحويل تاء المضارعة إلى نون، ولا ادري من يكون المخاطب بقوله (وليس بمعييك تبيانها) بعد حذف (سعد)؟

ولا أريد أن أطيل بالاسترسال في بيان الاضطراب والتشويه والمسخ في هذه القطعة، وإنما أريد أن اخلص إلى أمرين:

الأول: إن اختيار الأبيات على هذا النحو من قصائد قيلت في حوادث ماضية، لمجرد التشابه بينها وبين حال حاضرة، إنما هو عبث بالآثار الأدبية وجناية عليها، ليس بالتشويه والمسخ فحسب، بل كذلك بعدم الالتفات إلى الدقائق الفنية التي تدل على الفوارق بين حال وحال.

الأمر الثاني: هو أنه ما دامت الرغبة متجهة إلى غناء قطعة موضوعها (السودان) فلم الالتجاء إلى تلك الطريقة؟ أذلك لاعتبار اقتصادي؟ أم أن مصر أقفرت من شاعر ينظم في السودان قطعة مناسبة تغنيها أم كلثوم أو عبد الوهاب؟

أيصح أن نبتغي الغناء بما يجيش في صدورنا نحو وطننا في الوقت الذي تعرض فيه قضيته على مجلس الأمن، فلأنجد شاعرنا يغنينا عما قيل منذ ربع قرن وقد تطورت الأفكار وجدت أحداث؟

فأين شعراؤنا من قضايا الوطن الحاضرة؟ ألا يشعرون بها؟ وأين التعبير عن هذا الشعور؟

لقد كان الشعراء يحفزون الهمم ويغذون المشاعر، أما الآن فالناس يتحفزون ويتوثبون وهم لا يحسون للشعراء بوجود. أنهم يلتهبون عندما تغنيهم أم كلثوم لشوقي من قصيدة (سلوا قلبي):

وما نيل المطالب بالتمني

ولكن تأخذ الدنيا غلابا

رأينا الجمهور يفور حماسة من هذا البيت وهو ليس نصا فيما يريد. . . مما يدل على أنه يتلمس الوقود تلمسا فلم لا يستجيب الشعراء لمشاعر الأمة ومطالبها الوطنية؟

إن من نكد الأيام على هذه الأمة المسكينة أن الفنون فيها إنما تستعمل لإثارة الغرائز وجلب ما يملأ البطون. أما الشعور بالصالح العام فليس حظ الفن منه بأكثر من حظ السياسة. . .

ص: 37

فلك الله يا مصر. . .

حول معجم الحديث:

أتينا في العدد الأسبق ممن الرسالة، على فحوى ما كتبه الأستاذ فرج جبران إلى الأهرام في شأن (المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي) الذي شرع فيه بعض المستشرقين بليدن ولكنه لم يتم إلى اليوم لأن إتمامه يحتاج إلى معاونات مالية ودعوته إلى تقديم يد المعونة إليهم لكي يتسنى لهم إتمامه.

وقد نشرت الأهرام تعليقات على هذا الموضوع تدور كلها حول الإشادة بعمل أولئك المستشرقين والثناء على مجهوداتهم في خدمة لغتنا وديننا إلى آخر ما طالما سمعناه من هذا الكلام ومللناه.

وأقول أولا أن ما تضمنته كلمة الأستاذ فرج جبران من أن مصر كانت قد ساهمت قبل الحرب في دفع النفقات اللازمة لإتمام هذا العمل - لم أجد أصلا في الجهات ذات الشأن في مثل هذا، التي رجعت إليها للتحقيق من صحته. ويعزز عدم صحته ما ذكره الأستاذ فؤاد عبد الباقي في الأهرام من أنه راجع مقدمة الجزء الأول، فلم يطلع فيها على ما يدل على تلك المساهمة.

ومما ذكره الأستاذ فؤاد أن الدكتور منسنك أراد قبل أن يبدأ في وضع العجم إشراك أكبر هيئة إسلامية فيه فقدم إلى الأزهر نموذجا منه لأخذ رأيه فيه فألف لجنة قامت ببحثه وقررت ألا فائدة ترجى منه.

أننا لا ننكر المجهودات القيمة التي قام بها المستشرقون في خدمة اللغة العربية والتاريخ العربي الإسلامي والتي لم يطلبوا مساعدة مالية فيها من الحكومة المصرية ولا من غيرها، ولكنا منذ نحو نصف قرن من الزمان نتلقى هذا المجهودات وننظر فيها وننتفع بها؛ وأكثرها، بل كل النافع منها، ما يتعلق بالترتيب والتنسيق ومن أهم ذلك الفهرسة أي أن جهودهم النافعة مما لا مشقة في اكتسابه، فهل تعلمنا ذلك منهم بعد كل ما تقدم؟ وهل أصبحنا نستطيع أن نقوم مثلهم بتلك الأعمال؟ إذا كان الجواب نعم فيجب أن نضع حدا لتلك الطريقة التقليدية في التنويه بكل ما يرد من الخارج، وأن لم يكن كذلك ففيم جهدنا طوال تلك السنين؟

ص: 38

فيصنع القائمون بذلك المعجم ما يصنعون من إتمامه، أو تركه حسبما يتفق لهم أما ما يرجى أن نساعد به من مال أو جهد فاستغلاله في بلادنا تحت أعيننا فيما نراه مفيدا خير على أي حال من الرمي به إلى ما وراء البحار. . .

رفض تمثيلية:

نشرت (أخبار اليوم) أن محطة الإذاعة وفضت تمثيلية معريه من مسرحية (كنديدا) للكاتب الإنجليزي برناردشو واتت بنص التقرير الذي رفضت به، واهم ما في التقرير من أسباب رفضها أن فيها سخرية بالقسيس زوج (كنديدا) وأنها تصور التهتك النفسي لزوجة تفاضل بين زوجها الطيب وعاشقها، وأنه ليس من الوفاء لوطننا أن نواصل الترويج لآداب الأمم الأجنبية في وقت نحن أحوج فيه إلى تغليب شخصيتنا الفكرية.

ولا شك أن تغليب شخصيتنا الفكرية على المترجمات مطلبنا القومي في الأدب والفن، ويسرنا أن تعمل إذاعتنا في تحقيقه بالإكثار من إذاعة تمثيليات مصرية بلغة مصري عربية فصيحة من إنتاج أدبائنا الناضجين.

ولكن (التغليب) ليس معناه رفض المترجمات كلها وعدم الانتفاع بالجيد منها، وهل نفهم من ذلك التقرير أن محطة الإذاعة لن تذيع بعد ذلك تمثيليات مترجمة كتلك التي يقوم عليها الركن الثقافي لهيئة خريجي القسم الإنجليزي؟

أن مسرحية كنديدا يعدها النقاد من الأدب العالمي، ويقولون أن برناردشو خرج في هذه القصة على مألوف عادته في تناول الموضوعات الوقتية وحاول أن يرسم فيها شخصية المرأة الخالدة.

على أنه، بغض النظر عن هذه التمثيلية بالذات، لا يجوز أن نختط هذه الخطة التي يرمي إليها تقرير الإذاعة فلا ينبغي أن يكون العمل على إبراز شخصيتنا الأدبية مدعاة إلى إغفال الروائع العالمية.

إصدار المطبوعات واستيرادها:

كتبت دار النشر العربية ببيروت إلى (الأهرام) كتابا أشارت فيه إلى ما قررته الحكومة المصرية من تقييد الاستيراد، وقالت إن هذا القرار يطبق على استيراد المطبوعات من

ص: 39

البلاد العربية ورجت فيه رفع هذا الحظر ذاكرة أن ما تصدره البلاد العربية كلها إلى مصر من المطبوعات لا يعدل واحدا في المائة مما تصدر مصر إلى لبنان وحده. وقال المسؤولون بوزارة المالية في ذلك أنه رأى وقف الإصدار والاستيراد مؤقتا ريثما تنتهي اللجنة المختصة من وضع القواعد الجديدة التي تقيدهما.

وهذا الذي أجاب به المسؤولون لا يزيل الباعث على شكوى دار النشر البيروتية، فهو يدل على وقف الإصدار والاستيراد، ولا شك أن الوقف أو التقييد في استيراد وإصدار المطبوعات يثير شكوى دور النشر في البلاد العربية كلها. وإصدار المطبوعات يثير شكوى دور النشر في البلاد العربية كلها.

وللمسألة وجه آخر غير الناحية المادية التي تقلق لها دور النشر، ذلك الوجه هو الرباط الفكري بين البلاد العربية التي تعد من هذه الناحية على الأقل أمة واحدة، يهيا لها زاد ثقافي واحد. ولا يجوز مطلقا أن توهن الاعتبارات الاقتصادية من هذا الرباط فيجب ألا يشمل أي إجراء من وقف أو تقييد في الإصدار والاستيراد - ما تتبادله بلاد الأمة العربية من جرائد ومجلات وكتب ولا ينبغي أن يكون هذا موضع بحث لجنة أو رهن الفراغ من عمل لجنة، إلا أن يكون كذلك إرسال ما يصدر في القاهرة من صحف ومجلات إلى الإسكندرية أو أسيوط. . . إنما هي مسألة بديهية يبت في بالفور ولا تحمل التسويف.

الأدب اللبناني في مصر:

تضمن كتاب دار النشر العربية ببيروت الذي أشرنا إليه، موازنة ما تصدره البلاد العربية كلها إلى مصر من المطبوعات بما تصدره إلى لبنان وحده. . . ولا يسعنا إلا الإغضاء عن حصر اهتمامها وقلقها في تقييد ما تستورده مصر من المطبوعات لأن ما تصدره مصر لا يعنيها في محيطها التجاري ولكن تلك الموازنة تنطوي على أمر وثيق الصلة بما يردده إخواننا أدباء لبنان من أن مصر تهمل الأدب اللبناني ون الكتاب اللبناني كاسد في السوق المصرية، وأن الأدباء المصريين لا يكترثون به، على عكس ما يلقاه الكتاب المصري في لبنان. . .

ومن ذلك كلمة لأديب لبناني هو الأستاذ سهيل إدريس في مجلة العالم العربي، قال فيها: (أن الكتاب اللبناني يموت في السوق المصرية ويهمل في الوسط الأدبي، ولا يتناوله

ص: 40

الكتاب المصريون بالنقد أو التعريف، على الرغم من أنه يضاهي - في كثير من الأحيان - الكتاب المصري روعة أدب وسمو فكر وإتقان إخراج. . . حتى لقد اصبح الشعور العام في لبنان أن هناك مؤامرة على الكتاب اللبناني يدبرها الأدباء المصريون!)

وجاء في رد محرر العالم العربي (أن حظ الكتاب المصري في هذا ليس خيرا من حظ الكتاب اللبناني، فحركة النقد هامدة ومعظم الذين يتولونها لا يصلحون لها. وفوق ذلك فكثير ممن يتولونها يرونها وسيلة لإرضاء الأصدقاء والتشهير بالأعداء، وكثيرون لا يتحركون للتنويه إلا تلبية لأغراض وردا لخدمات)

ولكن في ذلك ما يدل على أن حظ الكتاب المصري خير من حظ الكتاب اللبناني. . وإنما يتساوى حظهما إذا جاء المؤلفون اللبنانيون إلى مصر في اثر كتبهم وطافوا بالصحف والمجلات واصطنعوا بها ما يصطنع المؤلفون المصريون من أصدقاء التنويه. . ولن يفعلوا قلنا ما علينا فهل نقول ما لنا.؟

أن المؤلفين اللبنانيين لا يرضيهم أن ينقد أدباء مصر مؤلفاتهم نقدا حرا. . . ويرون فيه غضا من شأنهم والمصريون أهل حساسية (ذوق) وهم حريصون على مودة إخوانهم في العروبة على أن هذا وذاك إنما هو نظر في واقع. . أما ما يجب أن يكون فلا شك أنك تعرفه.

(العباس)

ص: 41

‌رسالة حائرة:

الرسالة الأولى

للأستاذ إبراهيم محمد نجا

إليك بعثت ألحاني

وفيك نظمت أشعاري

ليعلم قلبك ألحاني

بأحلامي وأسراري

لعلك تعطفين على

محب نازح الدار

ترقرق دمعه نغماً

على أوتار فيثار

حياتي كلها حلم

بأفْق غير منظور

تذيع طيوره سَحَراً

عناق الظل والنور

نعيش به كما نهوى

مع الأملاك والحور

يزف الحب ساحرة

إلى أحضان مسحور

احب الحب لكني

أعيش بغير ما حبَّ

شكا قلبي الذي يحيا

على الحرمان والجدْب

وما عندي سوى دمع

به ابكي على قلبي

إليك بعثت شكواه

وشكوى الروح يا ربي

خلقت الحب في الدنيا

جناناً ذات أفياء

ونيرانا تحيا

قلوب ذات أهواء

فإن أك طائعاً فاجعل

نعيمي حب عذراء

وإن أك عاصياً فاحرقْ

بنار الحب أحشائي

احب الدمع اشربه

بكأس مواجعي خمرا

أحب الليل أسهره

لأنظم لهفتي شعرا

وحيدا بين أحلام

تمر بخاطري مَّرا

وأطياف تراقصني

على ألحاني السكري

وقالوا أنه غني

وأن بغير ما جدوى

وضاع شبابه تفي الشو

ق، والأحلام، والنجوى

ص: 42

دعوني! أنني لا أم

لك النسيان والسلوى

حياتي كلها ألم

وعمري كله شكوى

أنا المحروم. . . لكني

أغذي بالخيال دمي

ظمئت، ولم أجد ماء

فهام إلى السراب فمي!

وغنيت الجمال، فلم

أجد إلا صدى نغمي

فغنى اليأس في قلبي

على قيثارة الألم

أنا الحيران في الدنيا

كطير ضل عن فننهْ

يَهيج الفجر صبوته

ويذكي الليل من شجنه

هبيه عشك ألحاني

ترديه إلى وطنه

ويكفيك الذي لاقى

من الحرمان في زمنه

أنا الروح الذي يهفو

إلى دنياك مسحورا

وضميه إليك يبُحْ

بسر ظل مستورا

ليفرح فرحة الزهر

عليه الطلُّ منثورا

أنا يا روح أيامي

خيال خافق القلبِ

أوقعَّ لحن أحلامي

على قيثارة الحب

تعاَليْ واسمعي لحني

تعالي واجلسي قربي

لنحيا مثلما كنا

معاً في عالم الغيب

تعالي يا منى عمر

ويا أحلام أيامي

تعالي يا هدى روحي

ويا روح الهوى السامي

تعالي؛ فالربيع البكِـ

رُ ناداني بأنغام

فغني الحب في نفسي

وغنت كل أحلامي

تعالي إن لي قلباً

يهيم كعطر أزهارِ

وروحا صيغ من نور

وهذا النور من نار

فأن شئت اكن نوراً

كنور الكوكب الساري

فنون علّمتْنها

خيالاتي وأفكاري

ص: 43

نعمت بها وحيدا في

عشياتي وأسحاري

فكانت نور أيامي

وكانت روح أشعاري

فنون أنت غايتها

وما هي؟ تلك أسراري!

سأحيا طول أيامي

أناجي حبك النائي

بلحن هاجه دمعي

فراح يبث أهوائي

لعل هواك يغمرني

بفجر منه وضاء

وإلا عشت منفرداً

بشجوى بين صحرائي

ص: 44

‌البريد الأدبي

طرائف:

قرأت نقدا أو تعليقا أو تصويبا أو أي شيء آخر عن كتابي (طرائف). وما كنت أحب أن أتناول الموضوع من جديد. غير أنه يحلو لي أن أشكر (الذي فكر في أن يصفني بالكاتب الصحفي) على هذا الوصف الجميل ثم أقول: (أن الكتاب كله (سخائف) ما في ذلك شك. والأسخف منه أن يمضي الكاتب في قراءة (سخائف) ويقيني أنه وهو الرجل الفاضل المتدين المتفقه في اللغة ما كان يجدر به أن يحمل نفسه عناء القراءة ثم الكتابة لو كان لديه (فسحة) من الفضل والأدب والدين.

فالمفكر العميق لا يمضي في قراءة البسائط. ورجل الدين المتعلق بإذا بليتم فاستتروا، ليس له أن يقف أما أبواب الحانات وأن يتسكع مع (الثقاة) و (السعادة) و (البغاة) وإنما عليه أن يمر باللغو كريما. وقد همس الدين بإذنه هذه الهمسة للطيفة الطيبة

وليس أسمي (محمدا) وإنما أسمي محمود فلعل في هذا التصويب ما يطمئن على أن اسم محمد من الفضل بحيث لا يقع في أمور اشمأز لها الناقد أو المعلق أو المصوب أو الشيء الآخر.

وماذا افعل - وقد ازدحمت أخطاء المطبعة - مع ما أنا عليه من أخطاء، وتكاتفت كلها متعاونة متآزرة حتى ظهر الكتاب على هذا النحو من السخف وضلال الرأي وقلة الحيلة.

والكتاب فيه أكثر من مائة وعشرين صفحة. لم يقع أخو القلم إلا على (غلطة) قد تكون صحيحة منى أو مطبعية من العمال ولكنها واحدة لي لا علي. وأحب أن أقول له أنني (بالذات) قد أحصيت أكثر من ألف غلطة بعد أن طبع الكتاب، فلو أراد صديق الرغبة في النقد إلى آخره أن يقف على هذا العدد فأنا على استعداد لأضع إصبعه عليها عندما يريد.

محمد صاحب الرسالة عليه السلام لا محمد صاحب السخائف (عليه اللعنة) كان رقيق العاطفة، واسع الفكر، كريم الملاحظة، وكأن في يده السف يستطيع أن يضرب به عنق من يخرج على أصول الدين، ولكن الذي أدبه ربه فاحسن تأديبه كان يتناول الأمور بما هو عليه من رقيق العاطفة وواسع الفكر، وكريم الملاحظة، فكأن يعالج هذه الأمور بروح عالية، روح العالم بالآداب والأخلاق وما انطبعت عليه النفوس من خصائص ومميزات.

ص: 45

أما محمد صاحب (السخائف) كما أرادته دار المعارف فلا يخرج عن كونه بشرا، له من الأخطاء في السلوك والمعاملة، وفي اللغة والأدب ما يجعله دائما بشرا، لا ملاكا ولا قريبا من ملاك. وكنت أحب أن أكون فنانا، أو مفتنا حتى اشكره على حسن الظن بأن يعقد مقارنة في الهواء بين الفن، وبين سخائف ولكن شاء القدر أن يسلبني كل شيء حتى صحيح الاسم. ولذلك قصة لا تخلو من السخافة كنت أود أن أرسلها على صفحات الرسالة. ولكن ما العمل وكتاب الرسالة خطباء منابر، ورجال دين وفقه وعلم لا ينفع معهم ارتفاع صوت مدني سخيف اسمه:

محمود العزب موسى

ما جرى من أرى:

من الظواهر الطبيعية في مصر أن المحسن لا يجيد من يقول له متطوعا (أحسنت) بينما يجد المسيء فورا من يقول له (أسأت) وهي ظاهرة لا تشجع على الإحسان، لولا أن المحسنين يستمدون الشجاعة من أنفسهم ويرون دليل إحسانهم أن أحدا لم يقل لهم أسأتم.

لبثت أربعين عاماً أقول الشعر في مصر لم اظفر خلالها بمن تبرع بتسجيل إحسان لي في صحيفة، حتى كدت احسبني مسيئا لولا إيماني بتلك الظاهرة، ولولا أن المجمع اللغوي سجل لي هذا الإحسان.

واليوم، حين يتوهم مني الخطا، اسمع كلمة (أخطأت) سريعة مجلجلة. ولا خطأ هناك، وإنما سقطت كلمة (أرى) من هذه الجملة (وما أرى الضمير الثاني إلا ضميراً قلقاً نابياً) فقرأت (وما الضمير الثاني إلا ضميرا قلقا نابيا) والصواب في الحالة الثانية رفع الضمير كما قال الأستاذ (ع) ولكن ما حيلتي ولم أكن أقدر أن ستسقط (أرى) فيجري منها ما جرى؟؟

وسائر الغلطات النحوية التي تقع في عبارات الكتاب في الصحف مردها إلى وجه كهذا الوجه والأصل فيها صواب الكتاب لأن قواعد النحو ميسرة للجميع.

على أني كنت بسبيل أن اشكر للأستاذ (ع) تصويبه، فهو وأن لم يفدني فقد يفيد غيري لولا غمزة خبأها الأستاذ في قوله أنه ما عمد إلى تصحيح كلامي إلا لأني حريص على تصحيح

ص: 46

كلام الناس.

أما تصحيحه كلامي فقد بينت نصيبه منه، وأما تصحيحه كلام الناس فذلك ما لا اعرف لي منه نصيبا فقد ظللت طول حياتي الأدبية منصرفا إلى شعري وحده بعيدا عن المجادلات والمساجلات التي هي سبيل الشهرة في مصر وأنا ازهد الناس فيها وما أثرت اليوم موضوع (الضمير القلق) لأخطئ به شخصيا بعينه ولكن لا تعرف مع القراء وجه الصواب فيه. .

محمود عماد

أفي مصر أيضا. . .!؟

لقد قرأت في العدد 731 من الرسالة الغراء كلمة للأستاذ الخفيف سطرتها براعته السيالة من وراء منظاره الذي حمله وأخذ يطوف به بين مجاهل حياتنا الاجتماعية باحثا مستقصيا عن جراثيم أمراضنا الاجتماعية، إلى أن هداه بحثه واستقصاؤه إلى مرض خطير ألا وهو مرض الجنون بالألقاب والرتب.

نعم لقد أقبلت على قراءة كلمة (يا خسارة) بشرهة ونهم كعادتي في تتبع إنتاج الأستاذ الخفيف ولا سيما من وراء المنظار - وما أن انتهيت من قراءة الكلمة حتى شعرت بوخزات الأسى والألم تحز في نفسي، وقلت سائلا مستفهما أفي مصر أيضا ينظر إلى المعلم الإلزامي تلك النظرة المزرية لأنه معدوم السلطان ولأنه لا يحمل لقبا من تلك الألقاب البالية. .!؟

أفي هذا المجلس الذي يضم القاضي والمحامي والأستاذ والنائب والكاتب والشاعر والصحفي هؤلاء النخبة الممتازة من سواد الأمة ومثقفيها يزدري المعلم الإلزامي ويضحك منه ويزور عنه رغم علمه وثقافته وسعة اطلاعه التي قرها له الجميع. . لا لسبب إلا أنه معلم إلزامي!! قلت في نفسي (يا خسارة) أن تكون في مصر مثل هذه المجالس. . (ويا خسارتين) أن يكون الجالسون فيها أمثال أولئك الذين فتنوا بزيف الألقاب والرتب. .!

البصرة - عراق

أحمد سالم الفرج

ص: 47

ما زال الضمير مطمئنا:

في العدد الأسبق من الرسالة الغراء لم يقنع الأستاذ محمود عماد ما سقته من القرآن الكريم دليلا ناهضا على أن تكرير الضمير المفيد للملكية صحيح، وأنه يراد به مع ذلك القصر، أو التقرير كما في قوله تعالى:(لكم دينكم ولي دين) وقول المصريين: (هذه المسالة لها أهميتها) ولجأ في رده إلى أن هناك فارقا بين الآية التي أوردتها والمثال العصري؛ إذ في المثال العصري يسبق الضمير صفة والآية ليست كذلك؛ فإن كان، ولا بد من إصابة الهدف فما على المرشد أو المجيب إلا أن يتوخى ذلك، ولا يتعداه؛ إذ له أهميته؛ وعلى هذا فما زال الضمير العصري قلقا، وخاصة أن الآية تقيد القصر بعد الملكية، والمثال العصري يفيد الملكية الخاصة وهي تطابق القصر أو التقرير والتفرقة بين الآية والمثال دعوى لا دليل عليها.

وتوضيحا للمقام نود أن نعرض على الأستاذ ما فيه المقنع، وها نحن نفتح المصحف في المرة الأولى فنقع على هذه الآية في سورة البقرة:(تلك أمة قد خلت لها ما كسبت، ولكم ما كسبتم) وفيها ما سنشده السائل: أي تلك أمة قد مضت لها كسبها، ولكم كسبكم؛ إذ أن ما مع الفعل يؤولان بمصدر. ونفتحه مرة ثانية فتصادفنا هذه الآية من السورة عينها:(الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم، ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون)، ونعيده مرة ثالثة فتطالعنا هذه الآية من سورة الشورى:(وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم، الله ربنا وربكم، لنا عمالنا ولكم أعمالكم، لا حجة بيننا وبينكم، الله يجمع بيننا وإليه المصير) وهنا أتوهم أن الأستاذ سيعيد ما سبق أن قاله: من أن المراد من المثال الوصف، وليسمح لي أن أقول له: إن هذا يعد تحكما ولا أدل على هذا من أننا لو قلنا: (هذه المسالة لها أهميتها) على سبيل التعريف لظلت المسالة بالوصف ليس وراءه كبير فائدة، وإنما الذي يتمسك به هنا هو تكرير ضميرين: كلاهما يفيد الملكية وأحدهما ليس له فائدة في رأيك وذا - في الواقع - هو محل النزاع بدليل ما عللت به في العدد 730 من الرسالة.

على أن أمثلتك التي أوردتها اتفق للضمير وما يليه أن يقع صفة؛ وأنت لو أوردتها على أن

ص: 48

يكون الضمير وما يليه خبرا لما كان هناك باس وبهذا وضح لنا أن التمسك بالوصف لا يجدي.

وإلى هنا صارت الأمثلة على اختلافها تتفق والآيات القرآنية السابقة، واللاحقة ومفادها كما قلت هو: القصر، أو التقرير؛ فعندما نقول:(هذه المسالة لها أهميتها، أو هذه مسالة لها أهميتها) أو يقول القرآن الكريم: (فلهم أجرهم) إنما يراد أن هذه المسألة بالذات أو المعينة في ذهن القائل مختصة وحدها بأهميتها، وكذلك اجر المنفقين بالليل والنهار سرا وعلانية، والمعلومين عند الله. . مقصور عليهم لا يتعداهم إلى غيرهم، ولعلنا إن نكون قد وفينا المقام حقه، وفي هذا القدر كفاية.

محمد غنيم

إلى الأستاذ محمود الخفيف:

كأن قارئا للقرآن يطوف بالبيوت وكأن له من وراء ذلك اجر فكأنما سدت في وجهه أبواب العمل فلم يجد إلا هذا رزقه الله ولدين وبنتا، فعلم الأكبر ما استطاعت ذات يده أن تمده حتى حاز كفاءة التعليم الأولى وعين مدرسا بالمدارس الإلزامية كان يضع فيه أمله في المستقبل ليكون عونا له ولزوجته وولده الثاني وابنته - على عادية الزمن.

زوجه وأنفق في سبيل كل ما يملك، ولكنه للأسف لم يعش طويلا إذ سرعان ما مات كمدا واسى فقد هجره ولده بعروسه وتنكر له يا ترى هل خلت الدنيا من الوفاء حتى بين الولد ووالده؟

واليوم سمعت الابن الأصغر - وهو لم يتعد الثانية عشرة من عمره - يقرأ القرآن في بيت بجوارنا حتى يستطيع أن يعين والدته وأخته على الحياة بذلك القليل الذي يجود عليه به الناس.

هذا طالب قوت بالريف وليست القاهرة وحدها المليئة بهم فما أحوج الريف إلى نظرة من منظارك.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

(أجا)

ص: 49

محمد محمد حسن الديب

نشيد فلسطين أيضا:

إلى الأستاذ إبراهيم عبد الستار:

لست أنكر شاعرية الأستاذ محمد حسن علاء الدين، ونشيده الذي نشرته (الوحدة) الغراء، لا شك في قوته، ولكنه لم يلحن، ولم ينشد، ولم تقره لجنة مسئولة فليس يكفي أن يشهد له أديب أو أن تقدمه جريدة وإنما المعروف في مثل هذا الموقف أن يعلن عن مسابقة في الموضوع ثم تؤلف لجنة من أعلام الأدب للنظر في الأمر تقرر النتيجة على مسئوليتها هي، لا على مسئولية شخص أو صحيفة.

أما أن في كتابكم (شعراء فلسطين العربية في ثورتها القومية) غير نشيد واحد فليس كافيا، لأن هذه الأناشيد محلية، وليس فيها واحد يردده جميع أبناء القطر، فكيف يكون أحدهما نشيدنا القومي المنشود؟!

وأما أنني اجهل الكثير عن الموضوع - كما حكمتم - بدليل أن في كتابكم المذكور غير نشيد واحد فأمر يتوقف على شهرة الكتاب إلى حد بعيد. . .

وأخيراً أرجو أن تطمئنوا إلى أن لا خطر من الصورة الأدبية التي ارسمها للأقطار الشقيق - لا الشقيقة كما كتبتم؛ إذ أن هذه الأقطار أعضاء في جسم الوطن العربي الكبير الذي اصبح بلدنا موضع الخطر فيه، وليس عربي عن أخيه بغريب!

(البقية - عكا)

حنا فارس مخول

ص: 50

‌الكتب

من وراء الأفق

(تأليف الأستاذ محمد عبد الغني حسن)

للأستاذ علي متولي صلاح

تفضل الصديق الشاعر الأستاذ محمد عبد الغني حسن فأهدي إلى ديوانه (من وراء الأفق) الذي ضمنه بعض قصائده التي قيلت في مناسبات شتى اغلبها في التغني بمفاتن ما جاس الشاعر من بلاد أوربا حيث كان يطلب العلم في ربوعها وهو بعد في فورة شبابه، واكتمال قوته وازدحام قلبه ونفسه بالصبوة واللهفة والحب.

والأستاذ محمد عبد الغني حين شاعر منذ باكورة صباه، وقد عرفته لأكثر من عشرين سنة وغرفت شعره كله منذ بدا يقول الشعر على وجه التقريب إلى الأن، وتبينت في وضوح وجلاء ملامح نفسه، وحركات قلبه، وعرفت طابعه في الشعر، وميسمه فيه، حتى لا كاد أرده إليه ولو لم يكن اسمه إلى جانبه!

وقد عجبت أن أغفل الأستاذ الكثير من شعره الذي نشره على الناس ولم يضمه إلى ديوانه هذا، على أنه لا يقل عنه شأنا، ولا يقف دونه عند الموازنة إن لم يكن خيرا منه وأعلى كعبا إلا أن يكون أراد لهذا الديوان معنى خاصا، وأراد له طابعا خاصا لا يحب أن بعدوه أو يحيد عنه أو ينحرف عما يبتغيه له. . .

وشعر ديوان الأستاذ عبد الغني يمتاز بسهولة عجيبة وسلاسة لا نكاد نظفر بها في شاعر اخر، فاللفظ يطاوعه ولا يكاد يعصي له أمرا! والكلمات تواتيه هينة لينة يجر بعضها بعضا إليه حتى لا أحسبه يحمل مشقة أو مجهدة في ذلك، وأنا أضمه في هذه الخاصة إلى شاعر العراق الكبير الأستاذ جميل صدقي الزهاوي.

وشعر الأستاذ على وجه العموم يمتاز إلى ذلك بجو (الإشراق) الذي تراه وهاجا في كل قصائده، وأنك لتحس هذا (الإشراق) يفيض عليك من كل جوانبك وأنت تقرا شعره، وأن هذا الجو المشرق ليرسل إلى نفسك نشاطا وقوة، وأنه ليحمل إليك لذة ونشوة، وأنك لتقرا وتقرأ فلا تمل ولا تكل ولا تحس رغبة في الانصراف عنه أو التحلل منه، وأحسب أن

ص: 51

مرد ذلك إلى طبيعة الشاعر نفسه، فأنك لتجد ذلك كله وأنت جالس إليه متنقل بك في حديثه هنا وهناك، فلا سام ولا ضيق ولا ملال. . .

وأغلب ظني أن الأستاذ عبد الغني تأثر إلى حد كبير - وخصوصا في صدر حياته - بشوقي، المح هذا في جلاء ووضوح في قصائده التي نظمها أول ما نظم الشعر، وقالها وهو بعد طالب مبتدئ، والمحه في التزامه ما كان يلتزم شوقي من الاستفهام في مطلع قصائده، والإكثار من سوق الحكمة فيها واتخاذ اغلب البحور والقوافي التي كان يتخذ واستعمال بعض ما كان له من عبارات ولازمات وأنك لتحس هذا التأثر واضحا جليا في إحدى قصائده (شباب) التي مطلعها:

يا شباباً بارك الله لكم

وتولتكم رعايات القدر

وفي (في نعش الامتيازات) التي يقدم لها بكلام شوقي نفسه في سينيته التي عارض بها البحتري فيقول الأستاذ عبد الغني (تحررت مصر من قيود الامتيازات الأجنبية وأصبح الدوح حلالا على بلابله بعد أن كان محرما عليها وحلالا للطير من كل جنس) وهذا الكلام كما قال شوقي هو:

إحرام على بلابله الدو

ح حلال للطير من كل جنس؟

وفي (مهرجان النيل) وفي (إلى الجبل الأشم) التي يقول فيها:

زمان الفرقة النكراء ولى

وزال عن العروبة الانقسام

ويقول فيها:

سلوا عنهم أبوة آل حرب

وما لأب على الدنيا دوام!

فإن شوقي يبدو هنا للعيان! وليس يعيب الشاعر أن يتأثر شاعرا آخر، وأن يتخذه رائدا له وإماما، وأن يجعله عمدته في قراءته، وإنما العيب أن يفنى فيه، وتمحى ذاته وشخصيته ويكون وكده أن ينهج نهجه، ويحذو حذوه، ويلوك كلامه!! وليس الأستاذ عبد الغني ممن انتهى إلى ذلك ولكنه تأثر فأسرف في التأثر كثيرا!

وفي الديوان قصائد ينبغي الوقوف طويلا عندها، والتنويه كثيرا بها، إنما اقدم للقارئ نماذج من جمال شعر الأستاذ يجد الكثير منه لو قرا الديوان كله! فمنها قصيدة (ذكريات نهر) التي يقول فيها:

ص: 52

ألفيت في واديك أنسا

وصفاء عيش ليس ينسى

أمسى طوته يد الغيو

ب فمن يرد إلى أمسا؟

أودعت تلك الذكريا

ت لديك بالكتمان رمسا

فاحفظ وديعتك التي

خلست من الأيام خلسا. . .

خلت الحياة على ضفا

فك لا تزول ولا تضيع

فإذا الحياة قصيرة

وإذا البطيء بها سريع

وإذا الليالي الذاهبا

ت هناك ليس لها رجوع

لا دام - يا نهر - الشتاء

بها ولا بقى الربيع. . .

وقصيدة (تحت ظل الصنوبر) التي يقول فيها:

سلي وادي الأحلام كيف قطعته

وكيف أثارته العواصف من بعدي

تفرقت الأحباب وأنفض عقدهم

وصرف الليالي لا يدوم على عقد

وأصبح ماضينا خيالا وأمسنا

مناظر لا تشفى الفؤاد ولا تجدي

قنعنا بذكراها وفي القلب حسرة

وفي النفس لوعات تزيد على العد

سلي شجرات الغاب ماذا أصابها

فعميت وصارت لا تعيد ولا تبدي

كأن لم يباكرنا النسيم بظلها

وينفح بأنفاس ألذ من الند

بشاشة هذا العيش ولى زمانها

وأصبحت من نار القطيعة في وقد

ومن عجب يلقى المحبون سلوة

بشعري. . . وأشقى دونهم في الهوى وحدي

وقصيدة (بقية الكأس) التي يقول فيها:

يا خائن العهد عهدي في الهوى باقي

تنبيك عنه صبابتي وأشواقي

أخلفت بالصد ميثاق الهوى زمنا

لكنني في الهوى أحكمت ميثاقي

لم يبق لي من تعلات تعللني

إلا خيالك فهو الدائم الباقي

يا مستخفا بمشتاق تؤججه

حرارة الشوق لا تهزأ بمشتاق

دارت عليه بكاس الهجر ساقية

كما يدور بكاس الخمرة الساقي

فما له من حلاوات الهوى بدل

وما له من مرارات الجوى وافي

في ذمة الله ليلاتي التي سلفت

وأخصبت بالهوى فيهن أوراقي

ص: 53

كم لألأت بمنانا أي لألأة

وأشرقت بهوانا أي إشراق

ما بالنا اليوم؟ لا بيض المنى بقيت

على المحب ولا ليل الهوى باقي

وفي الديوان إلى ذلك نواح أخرى من خصب وجمال، وفيه كذلك مأخذ يسيرة وهنأت هينة، سأكشف عن هذه وتلك في المقال الآتي إن شاء الله

(للكلام بقية)

علي متولي صلاح

رمضان

(تأليف الأستاذ محمد سعيد العريان)

كتب الأستاذ محمد سعيد العريان الحلقة الأولى في سلسلة جديدة اسمها (مكتبة الشعب) يقوم بإصدارها الأساتذة محمد ثابت ومحمد عبد الهادي البيومي واحمد يوسف، ويقصدون منها إلى تقديم زاد ثقافي مناسب للجمهور الذي لا يرتفع مستوى إدراكه إلى كتب الخاصة ومجلاتهم، بحيث يجد في هذه الثقافة الميسرة ما يغنيه عما يكتب لمجرد التسلية واللهو.

وهذه الحلقة الأولى بدا بها الأستاذ العريان موضوعها (رمضان) وقد تناول فيها رمضان من جميع نواحيه: الأحكام الدينية والعادات والصور الشعبية فجمع فيها بين الدين والفن والاجتماع بأسلوب سهل ممتع جذاب.

عباس حسان خضر

ص: 54

‌القصص

اشتراك في الإثم. . .

للشاعر الفرنسي القصصي بول بورجيه

بقلم السيد كمال الحريري

لقيت في ميلان على رصيف المحطة (آدم ريموند) بينما كنت اصعد إلى قطار من تلك القطر التي يتبجح الإيطاليون بتسميتها (البرق). بصور أن هذه القطر لا توصلك في أقل من سبع ساعات إلى بلد لا يستغرق الوصول إليه أكثر من خمس. ماذا، أتتسخط أتتذمر؟؟ إنك إن تفعل يجيبوك بابتسامة رقيقة لا تقاوم (ذلك هو الحظ الإيطالي! أيسخرون من أنفسهم أم يستهزئون بك؟؟ مهما يكن من الأمر فأنت مجبر على أن تغتفر لهذا القطار (البرقي) استراحاته المستمرة على طول الطريق ليتسلم حزم البريد من كل محطة. ومع ذاك ففيم الحنق والإنكار وأنت في رحلة لذيذة إلى (جه ن) لمشاهدة (القصر الأحمر) و (القصر الأبيض)؟ ذلك أني كنت أقصد (جه ن) حين دلفت إلى (آدم ريموند) وكأن قاصدا إليها أيضا فسألني:

- أترغب في مرافقتي يا صديقي؟ فأجبته وأنا أتقدمه في صعود القاطرة (ليس احب إلي من هذا) مع أني لم اكن مخلصا في قولها، لا لأن شخص (ريموند) كان مقيتا إلى، فهو فتى رقيق الحاشية ظريف الطبع، ما أنكرت منذ العشرين عاماً التي مرت على تعارفنا شيئا من علاقتنا الودية معا، رغم اختلافنا في الذوق والمنزع. زد على ذلك أنه حديث بارع ظريف الحوار له من ثروته الفائضة عن حاجاته ما يسمح بالارتحال والسياحة. ولقد ساح فعلا في بلاد كثيرة وشاهد ممالك مختلفة على أنه مهما كان من شأنه فهو (باريسي) وعندما لا يستطيع المرء أن يختلس من شتائه غير عشرين يوما يخصصها للاستحمام في حمامات إيطاليا، يتخوف ويتهرب من كل ملاقاة من شأنها أن تقذفه ثانية إلى (باريسه) المتروكة.

قص علي (رايموند) قصة كانت من التأثير على بحيث أريد أن أقصها بدوري، لأنها تتعلق بسلسلة من (حالات الضمير) وبالرغم مما قاله عنها (باسكال) فإن كل ما في الحياة الإنسانية من خير وجمال إنما يصدر عن هذه (اليقظات الوجدانية) وعما تؤدي إليه من

ص: 55

حلول. لقد كان رفيقي يسرد على هذه الحكأية، على حين يطوي القطار المسافة من (نوفي) حتى (سمبيه دارينا) في هضاب مرتفعة متعوجة على طول الوادي الضيق الذي تتلوى فيه (سكرفينا) الموحشة ولقد كنا نتبادل على مصادفات الطريق كثيرا من المناسبات والأحاديث، حين طرح على هذا السؤال العارض البسيط:

- أين تنزل في (جه ن)؟

فسميت له فندقا خارجا بعض الشيء عن منطقة أشباهه من فنادق المدينة. كنت أفضله لبستانه الفينان الواسع.

فقال (رايموند).

- يؤسفني إذا أننا سنفترق فكر يا صديقي في أن هذا الفندق يثير في نفسي ذكرى مؤلمة، وأني لأتطير أبدا من العودة إلى مكان جرى لي فيه حادثة مكروهة مزعجة. حادثة؟؟ إن هذا التعبير مجاوز حده. ولكن مع ذلك. . .

وسكت قليلا ثم قال: أتحب أن اذكر لك هذه الحادثة، خصوصا وأني ارغب في معرفة ما عساك تفعله لو كنت محلي آنذاك؟ لسوف أبدل لك أسماء أبطال القصة، وبهذا لا تعلم عن هويتهم شيئا. ثم ساق لي رايموند القصة فقال:

مضى على هذه الواقعة التي أنا بصددها خمسة عشر عاماً، وكأن ذلا لأول زيارة ازور فيها (جه ن) هبطت إذا ذلك الفندق الذي ذكرته أنت، لنفس الأسباب الني حببته إليك. وكأن الوقف خريفاً. وأؤكد لك أني زرت يومئذ جميع القصور والكنائس الشهيرة: قصر الفنان فانديك، قصر ده برينيول، سان بالبي، به ران، وكنيسة (سانت اسطفانو) و (سانتا ماريا) وتماثيل (ده سانت لورانزو) من هذا تعلم أني جواب بحق، وفي المساء بينما كنت جالسا إلى عريشة أنيقة من عرائش بستان هذا المنزل أدون بعضاً من مشاهداتي وتأثراتي اليومية، إذا برنين صوت نسائي على بضع خطوات مني في ممشى من مماشي البستان، يهزني من محلي. لقد كانت غادة تتكلم وهي تظن نفسها على التأكيد منفردة وفي نجوة من الآذان المتطفلة، وبجانبها فتى يمشي متمهلا مترفقا. وكانت جمل الحوار التي يرددانها، دارجة كثيرة الاستعمال مما يؤكد أنهما في حداثة الحب.

- كانت تقول (آه يا حبيبي العزيز. ما كنت لأجسر حتى على الحلم بهذا: إن أكون هنا

ص: 56

بجانبك إزاء هذا البحر وتحت هذه السماء وأمامنا ساعات طويلة للمتعة واللذاذات؟؟ فأجابها صاحبها:

- أما أنا فلست أقل منك سعادة وسرورا، لأني لم أكن أحلم أن باستطاعتك الانطلاق حرة إلى هنا. . ولكن ليكن رائدنا الحيطة، ولنعد إلى النزل فأنه أمن لنا من هذا البستان المكشوف الذي ربما نلقى فيه أحدا يعرفنا، فأسالته:

- ومن يكون إذا؟ أنه لمن الممتع اللذيذ أن أنشق هذا النسيم المنعش واشهد مغيب الشمس الجميل بصحبتك.

فقال الشاب:

- ومع هذا لقد كنت احسن صنعا، من هنيهة لو أني حين نزولي الفندق اتبعت فكرة البحث في قائمته عمن فيه من السواح. فأجابته الغادة بغتة العتاب الرقيق:

- يا ضنين؛ أتراك تأسف على عدم اختلاسك مني هذه الخمس دقائق؟ آه لو كنت شغوفا بي كل الشغف، ما تعاقلت كل هذا التعاقل، ولما عرفت لك كل هذه الفطنة والحذر.

فأجابها رفيقها:

- ولكن ذلك كله من أجلك يا حبيبتي وإنما ابغي بكل جهده مستطاع أن أجنبك المخاوف والمتاعب.

فتنهدت الفتاة قائلة:

ليأت من يريد أن يأتي، أني من الغبطة والانتشاء بالسعادة بحيث يستوي عندي كل شئ. أسمعت؟؟ كل شئ لا يهمني. ومر العاشقان بدون أن يلمحا شخصي، واترك لك الآن الحكم على مبلغ اضطرابي ومبعث ارتجاجي. لقد عرفت في شخصي هذه الصبية المستهامة التي لم تستطع أن تحبس لسانها عن الجهر بسعادتها وهواها، امرأة صديق من أعز أصدقائي وأخلص خلصائي. واسمح لي أن أطلق عليه سياقا للقصة (شارل روتيه) واسم امرأته أن أحببت (مارغريت) أما شريكها في هذا الموعد الغرامي لدى هذا الفندق المتطرف الضائع (بجه ن) فقد كان مجهولا عندي. ولا بأس أن تعلم أيضا، أني أثناء ذهابي في صباح تلك الملاقاة للبحث في شباك البريد عما لي من رسائل، تسلمت من نفس صديقي (روتيه) في باريس، رسالة يقص على فيها أن قرينته تستفيد من سياحتها القصيرة بإيطاليا عند ابنة عم

ص: 57

لها دعتها إليها كي تقضي خمسة عشر يوما في (فلورنسا) و (روما) ولقد سمى لي في رسالته اسم هذه (الابنة العم) بلهجة الامتنان والشكران على ما قدمته لامرأته الحبيبة من متعة وسرور. لم تكن عائلة صديق (روتيه) معدودة من العوائل الواسعة الثراء؛ فهو نفسه كان في مفتتح مهنة المحاماة التي بدا يلمع فيها نجمه ويعلو. أما ابنه العم فهي على العكس من ذلك: كان إيرادها في السنة مائة ألف فرنك. ولقد كنت اعلم كل هذا التفاصيل باعتباري كنت شاهدا لزواج صديقي (شارل روتيه) واذكر يومئذ أني سرت وابنة العم هذه في مركب القرآن وقد عقدت ذراعي بذراعها. دخل المحبان بهو الفندق منذ زمن، حيث أخذا هناك لا شك يتناولان الغداء على انفراد في جو من الإيناس المسكر الخطر، الذي خطره وحده يخلق اللذة والمتعة في العلاقات المستورة أما أنا فكنت ما أزال في البستان جالسا إلى المنضدة الصغيرة محدقا في دفتري المفتوح، غارقا في لجج التفكير. وبعد أن ثبت لدي انهيار بناء تلك العائلة، سأشعر بمض الألم أكثر من شعوري بعاطفة السخرية. ولكن أليس من السخر ما هو الألم مجسما؟ إن التناقض الظاهر بين حضوري مراسيم حفلة الزواج تلك، وهذا الموعد الغرامي أفعم قلبي منذ ذلك الحين مرارة غريبة أليمة. أضف إلى هذا أن (روتيه) كان عندي صديقا عزيزا. وهو يعبد امرأته التي تزوجته بالرغم من إرادة والديها. كما أني كنت اعرف تمام المعرفة أن شارل كان يرهق نفسه في العمل كل الإرهاق مناجل ترفيهها وتدليلها وأنه وهو العقيم الذي لم يرزق ولدا كان توأما إلى النسل. وأظنك لو جمعت كل هذه الأسباب جملة قدرت الاضطراب النفسي الذي أوقعني فيه ذلك الاكتشاف المفاجئ: اكتشاف المرأة المعبودة المقدسة تخون زوجها هذه الخيانة النكراء. ترى كم مضى من الزمن على هذه المغامرات؟ ثم أين التقت بهذا الفتى الذي لا اذكر أني شاهدته أو صادفته عندهم؟ وأخيراً ما هو الدور الذي تلعبه (ابنة العم) في هذه المأساة؟ أترى (مارغريت) متواطئة معها، أم أن الزوجة الخائنة استطاعت أن تجد الوسيلة لخداع ابنة العم، كما خادعت زوجها؟ وهل تكون هذه الملاقاة هي الأولى التي بات العاشقان فيها الواحد للآخر؟ من يدري لعل هذا الولد الذي يهفو صديقي إلى إيجاده مدفوعا بغريزة الأبوة النبيلة، أن يتولد ويتخلق هنا في هذا المنزل الذي أرى من خلال أغصان أشجاره، واجهته المضيئة بالنقوش والمثقبة بالنوافذ والشبابيك؟! ثم أي نافذة من تلك النوافذ هي التي تتفتح

ص: 58

على الغرفة التي يأوي إليها الزوجان غير الشرعيين؟! كل هذه الأسئلة كانت تخطر على ذهني دفعة واحدة، ثم تتجمع كلها حول هذا السؤال الأخير، عجبا ما هو واجبي أنا؟. . . هناك حكمة هندية تعلمها جيدا كما اعلمها تقول: لا ينبغي أن تضرب امرأة حتى بزهرة، إن فكرة الشرف والفروسية التي أنغرست في أعماقنا منذ عصور بعيدة كانت من التمكن (والتسلط) على بحيث أخذت اردد في نفسي: إن واجبي هو التزامي حدود الصمت والكتمان. . . السكوت؟ الكتمان؟. . . ورحت أتخيل (شارل روتيه) كما اعتدت رؤيته غالبا منذ زواجه مكباً على أضابير (زبائنه) يستقبلني في غرفة أعماله بهذه الكلمات أو ما يماثلها: ليس لدى من الوقت ما يمكنني من مصافحتك أني لأغص بالأشغال وأرهق بالدعاوى. ومصالحي وأعمالي تزيد وتطرد يوما فيوما. وثروتي الصغيرة تنمو معها أيضا ومع ذلك لا شئ يعجز الإنسان حين يكون له شخص حبيب إليه. كنت أتمثل وجهه وكأنه قناع جمدته المشاغل وحضرته المتاعب، تضئ من خلاله ابتسامة سعيدة راضية.

يا للجمود أفي الوقت الذي ينصب صديقي جسمه ويقتل نفسه بالانكباب على العمل المرهق ليؤمن لامرأته أسباب ترفها وبذخها تسلم هذه الأخيرة زمام فؤادها وعواطفها إلى شخص آخر؟ إنها لتنفق على تجملها وتزينها مالا بعرف جبين زوجها. وكل ذلك كي تعجب رجلاً غيره وا أسفاه! وأنا نفسي، هل يجمل بي أن أسمح باستغلال أتعاب صديقي النزيهة الشريفة على هذه الصورة المخزية، من قبل هذا السارقة الخبيثة بعد أن سمعت ما سمعت ورأيت ما رأيت؟ أأصمت فلا أنطق؟ ولكن ذلك اشتراك في الإثم!! ومرت على الذاكرة عهود صداقتي الطويلة المدى مع شارل: فتمثلته في سن العاشرة، بقميصه المدرسي المشابه لقميصي، وتمثلت ملاهينا وألعابناً آنذاك. ثم تخيلته في الخامسة عشرة وأنا معه في سفرة قصيرة لعطلة قضيتها عند أهله في الريف. لقد كنا طالين داخليين بمدرسة (لويس كراند) ترى أكنا سعداء ذلك الصيف بانصرافنا عن مرج المدرسة البارد الضيف إلى سهل (لوار) الأخضر الممرع؟ ثم تصورت صديقي في العشرين من عمره يمارس معي خدمته العسكرية، وكيف كانت بعد ذلك حياتنا في الحي (اللاتيني) ونحن نتابع دراستنا معا في كليه الحقوق كل هذه الصحبة الطويلة التي استمرت ما بيننا أربعين سنة، والتي هي بالاخوة أشبه، ثارت بي وتمردت على هذا الاشتراك في الجرم. وفي الحق أن صمتي لا

ص: 59

يمكن أن يوصف بأقل من ذلك. فلو فرضنا أن العاشقين اقترافا إثماً أو أتيا منكرا (ونزهتهما الحمقاء في البستان تبرر ذلك وتؤيده) فهل أجد الجرأة على أن أقول لشارل: (لقد كنت اعلم كل شئ من قبل؟. . . لئن جبهته بذلك القول ألا يسخط لأني لم أنذره من قبل؟ ولكن كيف لي بإنذاره وإعلامه؟ أفي الممكن الوشاية بامرأة؟ أمن اللائق والذوق فضحها وإشهار أمرها؟ كان لزاما على إعلام صديقي شارل برسالة عن كل شئ ولكن أليس يجدر بقلمي أن ينكسر بدلا من كتابته ما فاجأت به امرأته؟ وأخيراً أبي حاجة إلى أن أزيدك كلمة على ما ذكرت؟. . . وأظنك الآن فهمت لماذا يثير هذا الفندق الذي أمضيت فيه تلك الأمسية فريسة لتقريع الضمير، ذكرى أليمة لا تطيقها نفسي أبدا. إن نجرد شعوري بأن الخيانة وقعت على بضع خطوات مني، وأن ماري كانت بين ذراعي حبيبها، في غرفة ربما تكون ملاصقة لحجرتي كان يضيف إلى هذا الاضطراب النفسي عذابا جسيما كاد يطغى فيتحول إلى آلام لا تحتمل.

البقية في العدد القادم

كمال الحريري

ص: 60