الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 735
- بتاريخ: 04 - 08 - 1947
ملاحظات وردود على تأملات ونقود
للأستاذ عباس محمود العقاد
كتب الأستاذ مظهر في مجلة (المقتطف) فصلا افتتاحيا ضمنه بعض (التأملات والنقود) حول موضوع كتابنا عن (الله) ثم ألحقه بتذييل عن المصطلحات والأسماء التي (لا يوافق عليها).
وفي هذا وذاك مجال للمناقشة والتعقيب من قبيل التصحيح أو التوضيح.
وهذا بعض ما رأينا نناقشه من تلك النقود والملاحظات
انتقد الأستاذ مظهر ترجمة الأنيميزم بالاستحياء وقال أن حقيقتها الفكرة الروحانية واستشهد على ذلك بمعجم من المعجمات الإنجليزية.
ونقول أن هذه المصطلحات لا يرجع فيها إلى المعجمات العامة وإنما يرجع فيها إلى معنى المذهب الذي تدل عليه
فكلمة (الأنيميزم) لها معان كثيرة تختلف باختلاف العلوم التي تدخل فيها، وهي في علم وظائف الأعضاء غيرها فيما وراء الطبيعة وغيرها في علم أصول الإنسان.
والمعنى المقصود هنا في مذهب تيلور أن الهمجي كان يؤله الأشياء والظواهر الطبيعية لأنه كان كالطفل الذي يضرب الباب إذا اصطدم به لأنه يحسبه في حكم الأحياء. ونحن لا نقول أن الطفل يضرب الباب لأنه يؤمن بالفكرة الروحية وإنما نقول إنه يضرب لأنه يؤمن بالاستحياء، أو لأنه (يستحي) الأشياء التي ليست لها حياة.
وانتقد الأستاذ مظهر ترجمتنا البوليثزم بتعديد الآلهة وقال: (هو الإشراك أو الشرك وهو اصطلاح قديم جار على الألسنة وتضمنته المؤلفات العربية من اقدم عصور البحث الفلسفي فيها).
نقول نعم. . . ولكنك لا تقول أن القبائل الهمجية كانت تؤمن بالشرك لأن الإيمان بالشرك يقتضي الإيمان قبل ذلك بوحدانية الله. ولا معنى لأن تصف إنسانا بأنه مشرك قبل أن يظهر على الكرة الأرضية دين يدعو إلى التوحيد، أو يدعو إلى الإله الواحد الذي يدعو إلى غيره أولئك (المشركون).
وفرق بين كلام الكاتب العربي عن المشركين بعد ظهور الإسلام وبين كلام المؤرخ الذي
يرجع إلى التوحيد. فلو قال ذلك المؤرخ أن الهمج أشركوا قبل أن يؤرخ لنا ديانات التوحيد لكان كلامه هذا خطأ في التاريخ وخطأ في التعبير.
وانتقد الأستاذ مظهر بعض الحروف كقولنا الشيشيميون بدلا من (الخيخيميون) كما يرى أو كقولنا كرونوس بدلا من أخرانوس إلى أمثال هذه التصحيفات في رأي الأستاذ.
وجوابنا عن ذلك أن كتاب العربية يكتبون (أرشميدس) كما يكتبون (أرخميدس) أو يكتبون ارشميد وارخميد بغير سين
وانهم يكتبون كريستوفر كولمبس كما يكتبون خرستوف كولمبي أو كولمب في الحالتين.
وأن العرب اخذوا من الفارسية (خسروا) فجعلوها كسرى مع وجود الخاء في اللغة العربية.
وإن كرونوس بذاتها لا يصح أن تترجم اخرونوس في المقام الذي ترجمت فيه؛ لأنها تتصل بمعنى الزمان ونحن نقول اليوم (كرونومتر) ولا نقول (أخرونومتر) كما يريد الأستاذ.
ويعيب الأستاذ مظهر ترجمة الديالكتك بالثنائية وفضل ترجمتها بالجدلية.
وهو في ذلك على خطأ عظيم من جهة اللفظ ومن جهة المعنى؛ لأننا رددنا ديا إلى معناها الأصيل وهو التثنية ومنها الآن كلمة بالفرنسية بالإنجليزية.
ولأن مذهب كارل ماركس وهو (الديالكتك) يقوم على أن المادة ثنائية الخصائص تشتمل على الخاصة ونقيضها ولا يقوم على أن المادة جدلية أو يجادل بعضها بعضا في أطوارها المتتابعة وقال الأستاذ مظهر في مفتتح كلامه: (ما من شئ في دنيا الفكر ينبغي أن تحدد معانية تحديدا دقيقا إذا أردنا أن نأمن العثار ونطوي مراحل الجدل كتحديد المعنى ندركه من كلمة الله والمعنى الذي ندركه من الألوهية أو الربوبية. . . . ولكن ينبغي أن نتواضع على تفرقة بينهما في الاستعمال، وأود لو إننا ندرك إذا قلنا الله إنه موضوع مرده إلى الدين، وان ندرك من القول بالألوهية والربوبية انه موضوع مرده إلى الفلسفة والتأمل).
وقد كان خليقا بالأستاذ مظهر أن يرجع في هذا إلى غرضنا من الكتاب.
فنحن قد أردنا به أن نبين كيف وصل الإنسان إلى الإيمان بالله، ولم نرد أن نبين كيف وصل إلى مجرد الربوبية، لأنه آمن برب ما من الأرباب قبل عصور التاريخ.
وقال الأستاذ مظهر عن كلمة الوجود ينتقد قولنا (إننا نعطي الوجود الزم لوازمه إذا قلنا انه
غير المعدوم) فعقب على ذلك قائلا: (ذلك قول غير مستقيم ذهنا لأن الوجود يقابله العدم ولا يقابله المعدوم).
نقول نعم. . . ولكننا إذا قلنا الشبيبة قصدنا بذلك الشبان؛ وإذا قلنا العلم قصدنا بذلك المعلومات، وإذا قلنا: هذا الوجود قصدنا بذلك هذه الموجودات.
ومن اعجب قول الأستاذ مظهر أن الوجود يتوقف على إحساس من يحسونه. فهل معنى ذلك أن الشيء لا يكون موجودا لذاته إلا إذا وجد من يحسه انه موجود!
وانتقد الأستاذ مظهر قولنا أن الوعي الكوني هو علة البحث عن العقيدة، ثم استشهد بكلام (اوغست كونت) حيث يقول:(إن الاعتقاد في إرادات أو ذوات عاقلة لم يكن إلا تصورا باطلا تخفي وراءه جهلنا بالأسباب الطبيعية. أما الآن وكل المتعلمين من أبناء المدينة الحديثة يعتقدون بان كل الحوادث العالمية والظاهرات الطبيعية بدلا من أن تعود إلى سبب طبيعي وانه من المستطاع تعليلها تعليلا مبناه العلم الطبيعي فلم يبق ثمت من فراغ يسده الاعتقاد بوجود الله، ولم يبق من سبب يسوقنا إلى الإيمان به).
ونلاحظ أولاً أن الأستاذ مظهر يترجم باوغست فلماذا ترجمها هكذا وليس في الفرنسية حرف الغين!
ثم نلاحظ أن الأستاذ قد اغفل الجانب المهم من الفلسفة الوضعية كلها وهو أن كونت لا ينفي وجود ما وراء الطبيعة ولا ينفي ضرورة الاعتقاد، ولكنه يقول أن العقل قاصر عن عقيدة إنسانية تؤمن بالإنسان وتنوط الثواب الأعظم بإسداء الخير إلى بني الإنسان.
وقد وجد بعد كونت فلاسفة يعلمون ما لم يكن يعلمه في زمانه، ولم يكفوا عن البحث فيما وراء الطبيعة ولم يذهبوا إلى ذلك السخف الذي ذهب إليه حين وقع في ذلك التناقض الذي لا تقبله العقول فضلاً عن وجدان الدين.
فأي تناقض اسخف من تناقض القائلين بأننا نترك الإيمان بغير المحدود لأنه غير محدود؟
أي كائن أحق بالإيمان من الكائن المطلق الكمال؟ فلماذا يكون سبب الإيمان الوحيد هو السبب المبطل لكل إيمان؟
فإذا كانت المعرفة العلمية قاصرة عن الإحاطة بغير المحدود على زعمه فيجب أن يكون هناك سبيل إلى الشعور به من غير المعرفة العلمية، وهو سبيل الإيمان.
والمسألة ليست من البساطة والسهولة بحيث يقول الأستاذ مظهر أن علم التطور (اثبت أن الإنسان نتيجة مترتبة على النواميس القديمة الأزلية وان حدوثه ليس أكثر من توليف جديد حدث في جوهر المادة).
فكيف اثبت علم التطور أن الإنسان توليفة جديدة فقط حدثت في عالم المادة؟
هل اثبت علم التطور حتى الآن علة الفرق بين اصغر الخلايا الحية وبين الذرة المادية؟
وإذا كان علم التطور لم يثبت ذلك فكيف يجزم بالرأي في حقيقة الإنسان كله وهو أعلى ما شهدنا ظواهر الحياة؟
وإذا كان علم التطور قد اثبت ذلك فلماذا لا يخرج لنا خلية حية تنشطر وتلتئم وتتوزع وتتجمع وتدخل في الرحم بدلا من خلية الإنسان أو خلية الحيوان فينشا منها مولود جديد على مثال أمه وأبيه؟
إن جهل همجي لهو اصدق شعورا بالعالم من الفيلسوف المصري الذي يحصر مسالة الحياة هذا الحصر المعيب. لأنه على الأقل يدرك للكون عظمة ورهبة تخفيان على الفيلسوف الذي يظنن أن الآزال والآباد كانت في انتظاره حتى يظهر في سنة 180 أو 1900 أو 2000 فيضع الكون كله في تلك العلبة الصغيرة ويغلقه هناك بالمفتاح الأخير.
على إننا ندع الخوض في هذا الغمار عرفنا كيف كان وقوف الأستاذ مظهر على الشاطئ بين الماء والرمال، ونرجع إلى المصطلحات والنقود فلا نزيد على ما تقدم إلا أن نرجو الأستاذ ومن ينقدون على غراره أن ينقدوا بعد أناة طويلة. فقد تبين مما تقدم أننا لم يفتنا شئ مما يقع في خواطرهم، ولكنهم هم قد يفوتهم شئ كثير مما توخينا. . .
عباس محمود العقاد
القسم السابع:
فرنسا ومستعمراتها الاعتداء على الجزائر
للأستاذ أحمد رمزي بك
(يا ويلاه! أن المصائب والنكبات وامتحان الدهر ليست وحدها
العائق الذي يعترضنا في الحياة بل أن أعمالنا وجهودنا نفسها
كثيرا ما تكون حربا علينا)
(فاوست)
ليذكر العرب جميعا والعالم الإسلامي وسائر أمم الأرض أن فرنسا اعتدت بلا مبرر، بل بسبق إصرار وتربص على حرية الأمة الجزائرية، وكان ذلك بغير إعلان حرب ولا أخطار للدولة صاحبة السيادة، وإنما جمعت وحشدت الجنود وأنزلتها في يوم 19 يونية سنة 1830 عند الصباح في مرسى سيدي فرج، حيث انسحبت قوات والي الجزائر من البرج القائم حقنا للدماء وإثباتاً للتعدي أمام طوفان الفرق التي جاءت من فرنسا بمدافعها وعتادها الحربي.
هذا اليوم يجب أن يبقى خالدا في ذكريات كل فرد منا، مهما كانت ثقافته ومهما كانت آماله، ولأهل الجزائر أن يرفعوا أيديهم بالاحتجاج على هذا العدوان، وأن تنصت السماوات العلى إليهم، وتستمع الأرض ومن عليها لشكواهم وآلامهم.
وليتخذ أبناء العروبة هذا يوم حداد لهم يقفون دقائق معدودة تحية للمجاهدين والمقاتلين الذين جادوا بأرواحهم دفاعا عن حريات الأمة الجزائرية في كفاحها الطويل وجهادها، وليبق هذا اليوم الأسود قائما بيننا حتى يصفح الله عن شعبه وأرضه ويرد إليه حقه، والى أن تعود الحياة والنور إلى الشعب الجزائري على الثرى الذي حمل أمجاده والذي هو له وحده.
كان هذا الاحتلال نكبة كبرى على العروبة والإسلام، لا للحوادث التي تمخض عنها من ضياع استقلال تونس ومراكش، ولا لحوادث الكفاح والقتال والتصادم التي دامت سنوات
عديدة، ولا لما أثاره من المعارك والمقاتل والأيام المشهودة، وإنما كان محنة إزاء ما تبينه العالم من صمت المسلمين وجمودهم وتفرق كلمتهم. لقد كشفنا هذا العدوان الفرنسي أمام الدنيا وشعوبها. كنا قوة تخشاها أحداث الزمن، فإذا نحن لا شئ. كان العالم يحسب ألف حساب للروح التي تفيض حماسة وقوة ورفعة تلك الروح التي أفرغتها تعاليم الإسلام على الأفراد والجماعات والشعوب فإذا هذه الروح لا وجود لها، أنها قد ماتت ولم يعد لها بقاء ولم تقم لها قائمة، ولهذا حمل أهل الجزائر عبء القتال وحدهم، وكان عبئا ثقيلا عليهم. حقا انهم ما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا ولكن للطاقة البشرية حدا، انهم دافعوا دفاع المستميت حتى القوا في النهاية أسلحتهم.
هذه ناحية جديرة بالبحث والتحقيق، نقول ماذا دهى العالم الإسلامي وأهله؟ ماذا أصاب هذه الشعوب التي عهدناها في التاريخ زاحفة على الأخطار تتلقاها بصور ملاها الايمان، لا تلين يوم ترجف الراجفة ولا تخضع ولا تستأمن وإنما تقوم للأحداث وتقعد أين ذهبت تلك الحيوية التي كانت تتبع الرادفة بالرادفة، وتهز بعزائم أهلها الدنيا وتواجه بصدور أهلها طوفان الحوادث فتعلو عليه والنصر من كل جانب يواتيها؟
ولقد افتتحت هذا المقال بجعله من فاوست قالها جوتة الشاعر الألماني، هي تلخص حال المسلمين في افتتاح القرن الماضي، إذ كانت قد خفتت منذ سنوات وقرون أصوات المعارك الزاحفة، وانهدرت صروح الممالك القوية، وتفككت عرى الدنيا الإسلامية حينما أطلت طلائع القرن التاسع عشر علينا فأصبحت المدن التي كانت عامرة أنقاضاً وهبط عدد المسلمين في مصر وفارس وسوريا والمغرب، وضعف شان المسلمين كل جانب ومنذ ابتداء القرن الثامن عشر لم يبقى لهم إلا دولة آل عثمان التي وصلت جحافلها إلى فينا مرتين، ثم إذا هي تواجه الهجمات المتتالية في جبهة البلقان والمجر وتدافع ببطولة واستماتة؛ فمن كان بوسعه أن يخترق حجب الغيب قبل وقوع هذا الحدث الأعظم بثلاثة قرون، ويجاهر المسلمين بان مصائب القرن التاسع عشر وأرزاءه كانت نتيجة للأخطاء التي ارتكبها أسلافهم بحروبهم وسياستهم وتفرق كلمتهم؟
لم يبقى من شك في أن الحروب التي شنها سليم الأول على مصر وإيران اضعف الكيان الإسلامي كقوة فعالة، ولا سيما إذا حللنا على ضوء المنطق الأسباب التي دفعته إليها، فقد
كانت مشاكله مع الدولتين من الأمور التي كانت بوسعه حسمها بدون أن يتورط في معارك مع دول إسلامية بطبيعتها حليفة له. فكان من اثر حروبه أن زالت من الوجود دولة مصر التي كانت الحروب الصليبية في مواجهة أوربا، وناهيك بذلك مفخرة لها.
أن الضربة التي وجهت إلى مصر في سنة 922 هـ، كانت ضربة ضد العروبة الإسلام إذ كان من أثرها أن انهار ركن من دعائم دنيا المسلمين كان المقام الأول في الدفاع عن أراضيهم وصد أعدائهم، وسرعان ما ظهرت للعيان فداحة هذا الرزء حينما لم يمض نصف قرن حتى أعقب ذلك هبوط سريع في عدد السكان، ونقص في العمران الذي كان قائما بأراضي مصر والشام، بل أن اثر الفتح العثماني كان شديدا حتى على الحركة العلمية والأدبية التي كانت سائدة بمدارس القاهرة ودمشق، فلم نعد نسمع بمصر عن رجال من أمثال ابن خلدون والسيوطي والقريزي وغيرهم من أئمة الدين والفقه والشريعة، ثم انظر إلى اثر هذا العدوان ضد بلاد الإسلام في العقلية الأوربية نفسها، فهذه جمهورية البندقية استمرت في علاقات حسنة مع مملكة مصر طول القرون الوسطى. وانك إذا ذهبت إلى المدينة وزرت قصر الدوجات تجد في إحدى قاعات العرش رسما كبيرا يمثل سفراء إيران بين يدي عاهل البندقية أن هذه الصور توحي بأشياء كثيرة فان هذه الجمهورية بعد زوال مصر أخذت تبحث عن حلفاء لها من بين المسلمين.
والمعروف أن دوج البندقية كان عدوا للأتراك العثمانيين، فهو يضع في مواجهة العالم اعتزازه بتحالفه مع أعداء الدولة العثمانية من المسلمين وليس ابلغ للدلالة على تفرق كلمة المسلمين وتشاحنهم بعد حروب سليم من هذه الصور القائمة حتى اليوم درسا وعبرة لمن يريد أن يعتبر.
وما يقال عن إيران ينصب على سلطنة مراكش، فهي تمد عاشت أكثر من ثلاثة قرون في شبه عزلة تامة نتيجة للسياسة العامة التي وضعها سليم بضرورة فرض سيادة الخاقان الأعظم على بلاد المسلمين وممالكهم وهي سياسة لم تكن تسمح بإيجاد علاقات واضحة صريحة مع دولة مراكش المستقلة ولم يكن نتيجتها سوى توالي المحن والنكبات، وتحضير الظروف وتوطئة الأحوال الملائمة لذلك الهجوم الفرنسي الذي تمثل في الاعتداء على القطر الجزائري الشهيد.
قارن هذه السياسة المبينة على الدعوة إلى السيطرة العامة والخضوع لسلطان الخلافة مع المرونة التي أظهرها ملوك مصر ابتداء من الملك الظاهر بيبرس مع خانات التتار والقبيلة الذهبية وأصحاب عروش الفنجان في روسيا، تجد انهم نقلوا هذه البلاد من الوثنية إلى الإسلام.
أما السياسة العثمانية فلم تنجح مع أنها كانت قريبة منهم لأنها جاءت لملوك هذه البقاع وفضلت فرض نوع من الوحدة والسيادة عيهم، وكان هؤلاء في عنفوان قوتهم فرفضوا الإذعان لسلاطين آل عثمان وكانت دولة الخلافة في أبان مجدها وفتوتها فتمسكت بسياستها، وبعد قرنين ضعف الجانبان ودخل خانات القرم طوعا تحت كنف السلطان الأعظم، فإذا هو عاجز عن حمايتهم، وإذا بالقوى تتجمع ضد الدولة العثمانية، وكان أول من جاهر بالعصيان جماعات القوزاق الذين خضعوا لملوك المسلمين أباطرة وقياصرة، وكانت قلاع العثمانيين على نهر الدنيير في شمالي رومانيا وفي وسط بلاد المجر كافية لصد جموع أوربا مجتمعة، ولكن ماذا تفعل الجحافل العثمانية وقد امتدت الجبهة شرقا وظهر عدو جديد هو الروسيا التي أخذت تكتسح الإمارات الإسلامية حتى وصلت إلى شواطئ البحر الأسود الذي عرفته القرون بحيرة إسلامية؟
لقد ظهرت للعيان أخطاء قرنين من الزمن لان حلفاء الدولة العثمانية الطبيعيين هم سكان نهر الفولجان المسلمين وأمراء القرم وهم الذين كان بوسعهم دفع الشر أبان قوتهم وكان المنطق والعدل والاخوة تملي بتقوية هذه الإمارات وتشجيعها بدلا من مناوأتها فإذا هي أول ضحايا الزحف المسكوبي وإذا بالجبهة العثمانية تنهار بسرعة إذا بمجهود السلطنة والخلافة ينصرف من يوم حصار فينا إلى عهد حملة نابليون 1812 في صد الهجمات المضادة التي شنتها أوربا فإذا وفقت في صدها عالجها الذئب الروسي الأسيوي مستعينا بمن كانوا حلفاءها، لقد كانت محنة كبرى ولكنها من صنع أيدينا قبل أن تكون من عمل أعدائنا. فالويل إذا تكررت مرة أخرى.
فهل كان من حرج على سلاطين آل عثمان لو اتبعوا أساليب وسياسة سلاطين القاهرة في علاقتهم مع مسلمي الفولجا والقرم؟ لقد أثبتت الأيام أن ملوك مصر كانوا ابعد نظرا وأكثر انتباها.
ولذلك لم تكسب الدولة العثمانية كثيرا في سياستها الإسلامية وجاء اتساع رقعة أراضيها فلم يمكنها من أن تصير دولة متماسكة قوية ومع خدماتها الجلى للإسلام جاء وقت كانت هي وحدها الدولة الإسلامية التي تتلقى الصدمات التي يوجهها أعداء الإسلام وخصومه إلى أممه. وفي غمرات هذه الحالة جاءت حملة فرنسا على القطر الجزائري فإذا القوى مبعثرة والأيدي مغلولة وأراضي المسلمين الشاسعة خالية من السكان.
نذكر هذا ونكرره إزاء الصيحات التي نسمعها نحو الوحدة وتأليف دولة موحدة إسلامية ونحن نبادر إلى القول بان المتناقضات لا تزال قائمة في داخلية العالم الإسلامي هذه المتناقضات التي أورثتها لنا الأطماع والحزازات والعقد النفسية، فلنحذر من الوقوع في أخطاء السلف لان هذه الأخطاء قد تكون أكثر وبالا علينا من المصائب والنكبات التي يسببها الأعداء لنا.
وكلمة هادئة نسوقها هنا وهي: إننا من دعاة حرية الشعوب الإسلامية ولكن مع الإسراع في الأخذ بمدنية القرن العشرين ومع العمل على نقل الشعوب إلى وعي قومي صحيح مبني على العلم والنور وفهم الحقائق والتثبت منها، بحيث لا يمكن التأثير عليها وقيادتها إلى أعمال تحمل من المبدأ جراثيم الفشل وتنتهي إلى نكبات ومحن تضعف من شان المسلمين، فعلى ضوء تجارب الماضي ودروسه القاسية تبنى وتؤسس دعائم المستقبل فنحن طلاب حرية وتقرير مصير واستقلال كل شعب داخل نطاق حدوده القومية والتاريخية، ولسنا من أمصار الفكرة العثمانية الني رأينا أثرها بعد ثلاثة قرون ممثلة في ضياع شمال أفريقيا، وإنما ندعو إلى تأسيس علاقات جديدة بين الوحدات العربية والإسلامية تنو على ضوء التجارب مع الزمن نحو التحالف والتكاتف والتعاون، حتى يعاد العمران وتنشا المواصلات وتختفي الأنقاض والخرائب وتحطم أغلال الجهل التي أورثتها لنا أجيال عشنا منها تحت كنف الاستعمار والاستعباد.
هذه ناحية هامة أعادتها إلينا ذكرى احتلال الجزائر وما لمسناه من خمود أية فكرة عليا للدفاع عن هذا القطر الشهيد؛ فلننظر من ناحية أخرى لهذا الحدث الكبير في تاريخنا لنعرف الدوافع الكامنة وأثرها.
لقد رأينا جيوش المسلمين تسير لتحرير العالم، حتى إذا انتهت إلى إسبانيا عبرت جبال
البرانس ودخلت فرنسا بقيادة عبد الرحمن ابن عبد الله الغافقي في سنة 732 ميلادية.
وكانت انتصاراته سهلة على حكام البلاد فوصل زحفه إلى وادي نهر اللور، ولكن في وسط الوديان الشاسعة بين بلدتي تور وبواتييه، حيث المروج الخضراء، التقت جموع العرب لأول مرة مع جموع عنصر أوربي مقاتل عم الجرمان وعلى رأسهم شارل مارتل، ودارت رحى معركة قال عنها كتاب أوروبا (هي المعركة الفاصلة الإسلام والمسيحية لان اغلب مقاتلة الجرمان كانوا وثنيين، ولكن الدعاية والرغبة في التهويل والتفخيم أسبغت على هذه المعركة ثوبا فضفاضا لان نتيجتها كانت انسحاب العرب من وسط فرنسا إلى جبال البرانس، فقالوا هنا التقت أوربا واسيا، وفي هذه المعركة انهزمت قوى الإسلام ومن الغريب أن يذكر بعض المؤرخين أن بين من حارب في صفوف المسلمين أمراء مسيحيين.
لقد شاءت الروح الصليبية السائدة في أوروبا أن تجعل من معركة تور وبواتييه ابتداء الهجوم المضاد على المسلمين، لا في فرنسا وحدها بل في إسبانيا، واستمرت هذه الدعوة القائمة على الكراهية والإفناء سائدة لمدة ثمانية قرون وهي تلاحق العرب حتى صفيت المشكلة الإسلامية فيبحر من الدماء والمذابح في إسبانيا وغادر آخر ملوك غرناطة ساحل الجزيرة الخضراء.
ولقد ظن المسلمون أو خيل إليهم أن نكباتهم قد انتهت وان جحافلهم قد أن لها أن تستريح وكانوا في ذلك من الواهمين لأنه لم تمض ثلاثة قرون حتى لاحقتهم الحروب في عقر ديارهم، وقذفت فرنسا التي حكمها العرب وفتحوا ديارها بحملة قوامها أربعة وثلاثون ألفاً من خيرة جنودها وحملوها على أسطول عدته أربعمائة سفينة أنزلت مع الحملة مائة وعشرين مدفعا تجرها الخيل.
ولم تكن هذه أولى الحملات بل تقدمتها محاولات أخرى لقيت فيها مدينة الجزائر الكثير من عبثهم وهدموا أحياء منها، ويذكر التاريخ مثل هذا الهجمات على مدن السواحل الأفريقية كلها حتى مدينة الإسكندرية وبيروت وسواحل الشام أصيبت في عهد الدول العثمانية وقبلها بشيء من هذا العدوان على أيدي قراصنة الأوروبيين.
ومع ضعف المسلمين وتفرق كلمتهم تمكن أهل المدن الساحلية وهم أهل المتاغرة والرباط
من رد هذه الحملات إلى البحر والمحافظة على السواحل الإسلامية واسترجاع المناطق التي سيطر العدو أحياناً عليها، ولعل هذه الانتصارات السهلة هي التي جعلت أمراء المماليك بمصر يستصغرون شان الحملة الفرنسية عليهم، وكانوا في هذا من المخطئين فدفعوا الثمن غاليا بهزيمتهم وموتهم وأضاعوا البلاد من أيديهم.
وبهذه الحملة انتقلت حلقات الهجوم المضاد لمعارك تور وبواتييه إلى الشاطئ العربي وبدأت حرب الموت والفناء تشنها قوة تعتقد أنها تستعيد مجد روما على الرمال التي حملت أعلام روما القاسية، وتستوحي في قتال المسلمين ذكريات الحروب الصليبية ومعارك لويس التاسع في أفريقيا، وهكذا شاءت فرنسا أن نعيش نحن معاشر العرب بأفريقيا الشمالية في غمرات الهجوم المضاد الذي بدأه الجرمان شارل مارتل علينا.
ولم يكن هناك ما يبرر هذا العدوان فقد تقرا الكثير مما ذكره المؤرخون عن حادث إهانة الوالي حسين باشا للجنرال دوفال قنصل فرنسا حينما قدم عليه للتهنئة بعيد الفطر سنة 1234 هجرية وما سبق هذا من النزاع على الديوان التي ماطلت فرنسا في دفعها لحكومة الجزائر والدور الذي لعبه كل من يعقوب كوهين بلري وميخائيل أبو زناك اليهودي في هذه القضية وهل ترفع إلى مجلس الجزائر أو إلى محاكم باريس التجارية للفصل فيها ثم احتجاج القنصل ومغادرته البلاد ومن معه من التجار الفرنسيين وما قيل من أن هذا القنصل تعمد إيجاد هذا الحادث بتوجيه عبارة غير لائقة للوالي حينما طلب إليه إجابة صريحة من حكومته فرد عليه انه ليس من عادة ملك فرنسا أن يكاتب من هو دونه بغير واسطة فأثار بقوله غضب الوالي.
إذ ما الفائدة في تعرف أسباب العدوان بين القوي والضعيف والنية مبيتة والاستعداد قائم، ولم يكن اختيار الجنرال ليرأسها وهو عسكري إلا توطئة وتحضير للأعمال الحربية القادمة.
ووقعت الواقعة في التاسع عشر من يونية سنة 1830 إذ أقدمت فرنسا بغير إعلان حرب ولا أخطار للدولة صاحبة السيادة أو إنذار للوالي فأنزلت عساكرها في مرسي سيدي فرج، وهي بقعة خالية من الناس لا تحرسها غير قوة صغيرة من الجنود في برج قائم رأت أن تنسحب بغير قتال حقنا للدماء أمام طوفان الفرق النازلة من الأسطول بمدافعها وعتادها
الحربي.
فلنذكر جيدا هذا اليوم ولا ننسه، لأنه يحمل ذكريات العدوان الفرنسي على الأرض الأفريقية على بر الجزائر الشهيد. وبعد مائة عام أي في 19 يونية 1930 احتفلت فرنسا بهذا اليوم فأثارت بعملها حمية شر ذمة من أباة الجزائريين واحرارهم وخرجوا من ديارهم يجوبون المماليك حتى لا يروا بأعينهم في ديارهم وأوطانهم ذل يوم يحتفل فيه الغاصب ويرفع أعلامه على أنقاض الوطن الجريح والشعب الشهيد، فلقيني جماعة منهم في مدينة استنبول، وذكروا لي مشاهد عما يلقونه من عنت وما صارت إليه أوطانهم ومرابعهم وهي البلاد العزيزة التي حملت أعلام المرابطين والموحدين وقبائل المسلمين من العرب والبربر، وكانت لهم السيادة والقيادة والحول والقوة أيام كانت ترتج أمام أمجادهم وعزائمهم جحافل الفرنجة وتخشاهم الدنيا.
وجاء منهم فريق إلى مصر، فأمضى أياما من غير أن يسمع لهم صوت أو أنين ولما جاء الفوج الثاني أرجعهم بوليس مصر وشرطة المواني بحجة أن مصر لم تكن موقعة على جوازات سفرهم وضحكت من الأيام التي جعلت بولسينا حريصا على تنفيذ تعليمات حكومة الاستعمار الفرنسية متيقظا إلا يدخل مصر العربية من هم من اقرب الشعوب إلينا وألصقهم بنا، ومن يحملون تأشيرة مصرية قانونية، ولا ادري من الذي لفت الأنظار إليهم ومن حال بينهم وبين مصر ومن أعطى التعليمات بإعادتهم.
وارتجت مدن الجزائر في يونية 1830 وقامت القائمة فيها، والوالي يجمع جنده ويحشدهم ويرسل إلى البلاد والأقاليم يدعو للجهاد والدفاع ويطلب النجدة من وهران وقستنطينة وخرجت الجموع لمهاجمة معسكر الفرنسيين، فاقتحموا المراكز الأمامية أمام تراجع الجنود الفرنسية حتى إذا صاروا تحت مرمى المدفعية حصدتهم بنيرانها حصدا، فاختلت صفوفهم وأخلوا الأماكن التي احتلوها وتعقبهم الفرنسيون وكانت هذه أول ملحمة على ارض الجزائر في يوم 25 يونية 1830.
وكانت قوات والي الجزائر محتشدة داخل حصون في ناحية أبي جارية، فخرجت منها للقتال والتحمت مرة ثانية مع الفرنسيين فلم تصبر على النيران وارتدت وأخلت هذا المعسكر فاحتله القدو ثم تقدموا منه واحتلوا بساتين المدينة وأطرافها وبدءوا حصارها.
وبعد أيام اخذوا في إطلاق نيران المدفعية فأصابت قذائفها برج مولاي الحسن وكانت فيه مخازن البارود. فأصابتها قنبلة سببت انفجارا هائلا. فاندك البرج على من فيه وتطايرت حجارته وتهدمت عدة منازل ومات خلق كثير تحت الأنقاض.
وبهذه النائبة اهتزت أركان المدينة وفقدت روح المقاومة واستولى الرعب والقلق على السكان فقرر الوالي تسليم المدينة.
وفي صباح يوم 6 يولية 1830 المحرم 1246 دخلت جيوش فرنسا من الباب الجديد وأنزلت الأعلام العثمانية من القصبة والأبراج ورفعت الرايات الفرنسية واحتلت الجنود القصبة والقلاع والشواطئ وزالت من الوجود حكومة الجزائر الإسلامية.
وتم العدوان على الأرض التي أمضت فرنسا السنين تحلم بوضع اليد عليها بعد أن فقدت أملاكها في الهند وأمريكا وجزائر المحيطات، ولم يرد في ذكر شروط الهدنة والتسليم نص على الاحتفاظ بحقوق الأهالي وتقرير مصيرهم سوى النص الاستعماري الذي وضعه نابليون في مصر وهو: احترم الديانة المحمدية وعدم التعرض لنساء المسلمين.
وهو النص الذي ما انفك دعاة الاستعمار يرددونه في كتبهم وأبحاثهم وخطبهم دليلا على روح التسامح، ويقولون وماذا يريد المسلمون وقد تركنا لهم حرية التدين وحفظنا لهم أعراضهم كان حياتهم وقف على هذا لا تتعداه أو كأنهم أهل آخره لا تشغلهم أمور الدنيا فلا تهمهم العاجلة ما داموا قد ضمنوا الآجلة واخذوا بأيديهم مفاتيح الجنان.
ويقولون مؤرخو المسلمين: اهتزت لهذه النائبة المشارف والمغارب وكانت من اعظم النوائب. والحقيقة أن العالم الإسلامي الذي عهدناه يهتز لما يحدث في كل ركن منه لم يتحرك لهذه الكارثة ولا لما تلاها من نكبات وإنما تحرك القطر الجزائري وحده أمام العدوان وقامت قبائله ورجاله يذودون عن حياضهم وانضموا تحت لواء الأمير عبد القادر، يكتبون بدمائهم ملحمة من ملاحم الحروب القاسية، في تاريخ الإسلام الذي واجه الحقائق وقال:
(لقد تبينت ما قدر على وهاأنذا مستعد للأقدام).
ولكن بعد مضي قرن من الزمن يقف أهل الجزائر مرة أخرى للامتحان أمام فرنسا ويرددون هذا القول لقد عرفوا وتبينوا ما كتبته لهم الأقدار فهل عم على عهد الأقدام
قائمون؟
هذا ما ستفسره الأيام.
وسنرى في القسم التالي ما كان من هذه الواقعة الخالدة
أحمد رمزي
عشرة أيام في الشام
للأستاذ علي الطنطاوي
يمضي المسافر أياما طوالا لا يقطع فيها إلا أذرعا من طريقه، ثم يجتاز الفراسخ والأميال في ساعات ويعيش المرء سنين لا يفهم فيها من أسرار الحياة، ولا يرى من معالم الكون إلا الأقل، ثم يرى في لحظة أخفى المعالم، ويفهم اعمق الأسرار، وكذلك شأني:
سرت على طريقة العمر قريبا من أربعين سنة، فلم أدرك من حقائق الحياة حولي، ولم اعرف من خلائق الناس مثل الذي أدركته وعرفته في هذه الأيام العشرة التي (طرت) فيها فجأة إلى دمشق، ثم عدت طائرا منها، وعلى دين أكاد اعجز عن قضائه لا اعرف السبيل إلى استرضائه ولكني مع هذا عدت رابحا لأني تعلمت فصولا من كتاب الحياة كنت أجهلها وهذا قليل من كثير مما تعلمت:
- 1 -
كان أقصى علمي بالصديق انه الذي يألفني وألفه، ويأنس بي وانس به، ويسال عني أن غبت ويزورني أن حضرت ويستقبلني أن زرته، ويصغي أن حدثته، وكنت اعتز بصداقات رجال احسبني نلت بهم ما تمناه المأمون وهو خليفة وعجز عنه، وما عده الأولون ثالث المستحيلات، وحشروه مع الغول والعنقاء ولم احتج إلى واحد منهم كي أجربه فلما كانت هذه التجربة (تجربة دخول الانتخابات) رأيت أكثر هذه الصداقات كأنها بقايا ثلوج الشتاء تحت شمس الصيف سرعان ما يذهب بياضها ونقاؤها ثم تذوب ثم تجري على التراب فتكون سواقي عكرة تنحدر إلى الحضيض، بعد أن كانت في العلاء ما بقي بين يدي من هذه المودات إلا كالذي يبقى من هاتيك الثلوج على صخور الجبل!
لقد تنكر لي رجال كانوا رفاقي في السفر وفي الحضر، وإخواني في الصبا والشباب، واعرضوا عني إيثاراً للراحة، أو هرباً من إغضاب الحكومة، أو فروا من المشاكل وحبسوا عن مساعدتي أقلاماً لهم والسنة طالما شددت أزرها، ودافعت عنها بقلمي ولساني، وامسكوا عن نصرتي أكفاً طالما امتدت إليها_مصافحة مؤازرة_كفى. وقالوا ما لنا ولمرشح نساعده على الحكومة ونقويه عليها، وهي ذات السلطان وبيدها العطاء والحرمان؟
ونسوا إني موظف في الحكومة، لست عدوا لها، ونسوا عهود الإخاء، وأيام الصفاء هذا وما
سقطت السقطة التي لا يرجى لها قيام ولا كنت تاجرا افلس، ولا موظفا عزل ولا صحيحا ازمن، ولا حكم على بسجن أو نفي، ويبقى عيالي من بعدي أمانة عند الصديق وإنما هي تجربة هينة فكيف لو كان شئ من ذاك؟ وعل من اعتمد بعد اليوم؟
سأعتمد على الله ثم على هؤلاء الذين وجدت من إخلاصهم، وحبهم وعطفهم علي، أيام العسرة ما هو اثمن عندي من النيابة والوزارة، ومناصب الأرض كلها. ولن أنسى أبداً لان هؤلاء هم الذين ابقوا علي القليل من ثقتي بهذا الإنسان وأنقذوني من أن اكفر به كفرا مركبا تركيبا مزجيا كحضرموت. . . . . لا يستطيع إخوانا عبد المنعم خلاف أن يحله أو يزيله ولو انزل عليه في دينه الجديد كتاب آخر؛ وأن أومن بان الكلاب والحمير أو في من الناس واحفظ للوداد.
- 2 -
وكنت احسب كل متظاهر بالتقي تقياً، وكل لاهج بذكر التصوف صوفيا، وكل مزهد في الدنيا زاهداً وكل داع للعبادة عابدا، واحبهم جميعا وأراهم أهل الدين وأرباب الاخلاص، ولا يبلغ وهمي أن يكون في الألف منهم مراء واحد أو خداع، فلما جربتهم وجدت. . .
لا احب أن أقول ماذا وجدت منهم، لأني اظلم العلماء إذا أخذتهم بجريرة نفر تسلطوا على (رابطة العلماء) التي هللنا لظهورها وباركنا يوم إنشائها وسيروها على هواهم وكفوا أيدي العلماء الاجلاء من أعضائها.
ولكن أقول أن الصالح المصلح، والعالم العامل، هو من يجعل هواه تبعاً لحكم دينه، ويضيع منفعته أن كان فيها مضرة أمته، ويؤخر نفسه ويقدم من هو اصلح منه، ويحكم الشرع في دقيق أمره وجليلة وظاهره وخفيه أما تكوير العمة وتطويل اللحية وحسن الكلام وسائر هاتيك المظاهر، فهو لآخر ما يستدل به على الصلاح وهو أهون شئ عند الله الذي لا ينظر إلى الصور وإنما إلى السرائر وعند الناس.
- 3 -
وكنت اكبر هؤلاء الذين وقفوا أنفسهم على الجمعيات الخيرية، وقصروا عليها جهودهم واثروا خدمة أمتهم على راحتهم واراهم مثلا في الإخلاص من أعلى الأمثال، لأني لا اسمع
عنهم إلا الرغبة في إعلاء كلمة الله، وإحقاق الحق وإذاعة الخير، فلما بلوتهم في هذه الأيام العشرة وجدت أكثر الجمعيات يسيرها رجل أو رجال، يستبدون بها، ويسمون لها أعضاءها ممن يعرفونهم موافقين لهم، ووجدت في هؤلاء، على إخلاص بعضهم وأمانتهم. . .
أأقول ماذا وجدت، فأضع في أيدي خصوم الإسلام سلاحا جديدا يقاتلون به أهله؟ أم اسكت عن بيان الحق؟
المسألة مشكلة. .
وأنا أسال الله أن يعجل اليوم الذي نجد فيه رجال هذه الجمعيات قد نسوا نفوسهم وأهواءهم فجعلوها كلها جمعية واحدة، لها فروع وأقسام إذ لا يعقل أن تتعدد الجمعيات ما دامت تزعم أن غايتها واحدة هي خدمة الحق والخير، وان يكون القائمون على هذه الجمعية أمناء يعلمون أن لكل مسلم حقا في أموالها يحاسبهم يوم القيامة على كل قرش منه أنفقوا في غير وجهه، وعلى كل مقعد للجمعية قعدوا عليه لغير مصالحها، ودار لها أقاموا فيها ساعة لغير خدمتها وسيارة لها ركبوها من غير ضرورة لركوبها وراتب أخذوه لأنفسهم أو أعطوه موظفا أقاموه، ما دامت المصالح العامة تسير بغير هذا الموظف وتضمن بغير هذا الراتب.
فهل نرى هذا اليوم؟
إذا لم أره، فحسبي إني قد رأيت حقيقة هذه الجمعيات وكنت لا أرى من قبل إلا الستار اللماع الذي يخفيها.
- 4 -
وكنت اقرأ مهاترات الصحف الحزبية في مصر والشام وما تسوق من تهم، وما تصب من فرى، فأرى المبالغة ظاهرة، ولكني أقول انه لا دخان من غير نار. ما كنت أظن أن القحة في الشر تبلغ برجل أن يفتري كذبا يعلم انه لن يصدقه أحد، ولا يقبله عدو فضلا عن صديق، واحسن الظن بالبشر، فاحسب انه لا يزال في نفوسهم بقية من الوفاء والحياء، فهم يقدرون الإخاء ويستحبون من اختراع الكذب المحض، فلما قرأت ما كتب في الصحف عني وعن غيري وجدتني قد وضعت ظني الحسن في غير موضعه وأنا رجل في نقائص كثيرة، وعيوب جمة ويستطيع من يكتب عني أن يعرض لها فيكون قد نال مني وبلغ ما أراد من هجائي أما أن تبلغ بكاتب قلة الفهم، والجهالة بأصول الشم إلى أن ينسى عيوبي
كلها ثم لا يلقى إلا أشياء أنا ابعد الناس عنها يلصقها بي فيضحك الناس عليه، فهذا يدعو إلى الأسف على ضياع (الهجاء) في هذه الأيام.
لم تجد هذه الصحف ما تقوله عني إلا أن تعرض تعريضا غامضا بسيرتي في العراق وتقول إني أسأت بقلمي لوطني لأني انتقدت في الرسالة ما كان في احتفال الجلاء من تكشف وبلاء، وتنقل عن مجلة تصدر في دير الزور إني كنت من صنائع الفرنسيين.
أما سيرتي في العراق فان هؤلاء يعلمون أن الرسالة تقرا في العراق أكثر من جرائدهم، وأنا استحلف في الرسالة كل من يعلم عني مخزية في العراق أن ينشرها في الصحف أو يبعث بها إلى هؤلاء الخصوم وماذا صنعت في العراق ويحكم؟ هل فجرت؟ هل سرقت؟ هل كنت جاهلا في العلم الذي ادرسه أو مهملا في العمل الذي أمارسه؟ وهل كان في كل من قدم العراق مدرسا من هو احفظ لوده وأكثر (بعد الدكتور زكي مبارك) كتابة عنه مني؟
أما صلتي بالفرنسيين فمن كان يعلم إني عرفت فرنسيا من كان معلما أو مستشارا في الوزارة فليقل ومن كان يعلم أنها خلت سنة مدرسية من نقلي مرتين لخلافي مت الوزارة - وكانت الوزارة هي المستشار أو يعلم إني مدحت فرنسيا بلسان أو قلم أو أعنته بيد أو يعرف رجلا كتب في سب فرنسا مثل الذي كتبت، حتى يوم سقطت باريز وكانت الحرب مستمرة، والفرنسيون حاكمين؛ فليقل أما إني أسأت لوطني في الرسالة فهذا هذيان لا يقبل من محموم. وهل جرى قلم كاتب في القديم والحديث بوصف محاسن الشام، وتمجيد أيامها، وتصوير جهادها، بمثل ما جرى به قلمي في الرسالة منذ سنة 1933 إلى اليوم، وفي فتى العرب واليوم، وألف باء، والزهراء، قبل أن تنشا الرسالة، وهذا كلام ما كنت أظن إني سأقوله يوما من الأيام، ولكني اضطررت إليه وأنا اعتذر إلى القراء واستغفر الله، ولن أعود إلى مثله.
- 5 -
وبعد فأنا رجل قاض وأديب، ولكني لم اكن اعرف قبل هذه الأيام قيمة ما أنا فيه، ولقد حمدت الله أن انتهت هذه الأزمة وعدت قاضيا أقول الحق أياً كان أثره، وأديباً يشرك قراءه في نعيمه وبؤسه، وخواطر نفسه، وحديث يومه وأمسه لا يكتم عنهم امرا، ولا يمسك سرا ونجوت من السياسة وشرورها.
ومالي وللسياسة؟ وما لبست لها لباسها، ولا أعددت لها سلاحها، ولا عرفت مسالكها ورب جاهل جال في الطرقات، وصاح في المواكب، وولج وخرج، وخالط الكبار والصغار، وصحب الأعلياء والأدنياء وعرف لسان كل فخاطبه بلسانه، اقدر على السياسة مني ومن كل أديب في الدنيا وكل عالم. ورب رجل مثل هذا لا يموت حتى يصير اسمه ملء الأسماع، وملء الصحائف، ويكون علما في طريق التاريخ وآلاف مثلي في (أخصاصهم) لا يدري بهم أحد!
ولكني راض بما أنا عليه قانع به، لا ابتغي أكثر منه، وهل ابتغي أكثر من مرتب كاف يريحني من الكدح للعيش والسعي للخير، وعمل لا يأخذ من وقتي وذهني إلا الأقل أقوم به بما أستطيع من الأمانة، فأخذ الراتب بما يمكن من الحل، ثم اتصل بقراء أشاركهم أفراحي وأتراحي وبصحب انس بهم ويانسون بي، وأهل اخلص لهم ويخلصون لي؟
فماذا بعد هذا؟ وهل النائب أو الوزير أو الرئيس اسعد نفساً واهدأ بالا مني؟ وهل السلطان اكبر من الأديب؟ هل النعمان اعظم من النابغة؟ وسيف الدولة اجل من المتنبي؟ والخديوي عباس اخلد من شوقي؟ وهل بيني الحكومات ويهدمها، وينشئ الممالك ويدمرها ويرفع الأمم ويخفضها إلا الأديب؟
فمالي وللسياسة، وأنا قد تشرفت بان أسير في ذيل ركب الأدباء إلى سوح الخلود؟
لقد كانت تجربة لن أعيدها، ولو جرتني إليها كل حروف الجر، لقد كانت تجربة تعلمت منها دروسا جمة أهمها إني لست مخلوقا للسياسة، أن السياسي هو الذي يقول للحمار: أنت غزال بأذنين طويلتين! وأنا لا أقول للحمار، إلا يا حمار، فان غضب فدونه (بردى)!
(القاهرة)
علي الطنطاوي
حجة تاريخية
للدكتور جواد علي
نعم حجة تاريخية من تلك الحجج التي يتذرع بها المدعون ولكنها من أوهى ما عرفه المؤرخون فلسطين وطن العبرانيين! فيها نشا هذا الشعب واليها يريد العودة بعد هجرة طويلة تزيد على عشرين قرنا. يريد أن يستردها وان يكون فيها ثقافة يهودية ووطنا يجمع شمل يهود العالم.
لا اعتقد أن رجلا صاحب منطق يجازف بشخصيته فيقول مثل هذا القول؛ لان نبش الماضي السحيق والحكم عليه معناه تغيير خارطة العالم وتوزيع الأراضي على شكل جديد ولو أخذنا بهذا المبدأ لوجب علينا رد دعوى الصهيونية مقدما لأن الأرض التي يقال لها عند اليهود (أرز إسرائيل) أي (ارض إسرائيل) لم تكن ارض إسرائيل بل كانت (ارض الكنعانيين) و (ارض الفلسطينيين) قبل أن يتبرع متعصبو التوراة بمنح هذه الأرض إلى الإسرائيليين باسم (إله إسرائيل) وقبل أن تعرف عند العبرانيين المتأخرين باسم (ارض الميعاد)
وكلمة (فلسطين) نفسها حجة قوية تطعن مزاعم الصهيونيين في الصميم وترد دعواهم لأنها تشير إلى نسبة الأرض إلى شعب قديم كان يسكن في هذا الموضع قبل مجيء العبرانيين وكان يقال له (الفلسطينيون) وقد عرفت الأرض التي كانوا يقيمون بها والتي هي السهل الساحلي في الأغلب في التوارة باسم (فلسطيا) نسبة إلى هذا الشعب ثم أطلقت على كل الأراضي التي أقام بها الإسرائيليون فيما بعد.
وقد ذكرت فلسطين في النصوص العبرانية بلفظة بلشتيم و (بلشتيم) وقيل (لفلسطية) وهي المنطقة التي كان يقيم فيها (الفلسطينون)(بليشيت) وقيل للفلسطنيين (بلشتي) وتقابلها في النصوص المصرية
وولا بد أن تكون للفلسطينيين قوة وشكيمة دفعت اليهود إلى تسمية (أرز كنعان) أي (ارض كنعان) كما كانت تعرف في الأسفار الأولى للتوراة باسم (فلسطين) حتى تغلبت على كلمة (أرز إسرائيل) أي ارض إسرائيل. والأرض الموعودة وقد أطلقها الكتاب باليهود المتأخرون الذين دونوا الأسفار المتأخرة فشاعت بين الشعوب الأخرى منذ ذلك الحين. وقد
ذكر المؤرخ (هيرودوتس) أن العرب كانوا قد تمكنوا من الدخول إلى منطقة (فلسطينية) قبل أن يتمكن من ذلك الإسرائيليون وانهم كانوا في تلك المنطقة في أيامه.
لم يترك البشر الأولون الذين سكنوا هذه المنطقة قبل العصور التاريخية أثاراً يمكن التعرف منها على طبيعتهم. وكل ما يمكن أن يقال عنهم انهم كانوا يسكنون المغاور والكهوف ويظهروا أنها أصبحت في العصور التاريخية تحت نفوذ (الاكادبين) كما يتبين ذلك من النقوش.
وفي الألف الثالث قبل المسيح كان يقيم في فلسطين شعب لا نستطيع أن نعرف عن هويته شيئا؛ إذ أن العظام التي عثر عليها في المغاور والكهوف وفي الحفريات التي أجريت منطقة (حيزر) كانت في حالة تلف شديد. والظاهر أن ذلك الشعب كان من شعوب البحر المتوسط ولعل (الحوريين) الذين ورد ذكرهم في التوراة هم من نسل هذا الشعب القديم. ويظهر مما ورد في التوراة كذلك أن (الحوريين) هم سكنة منطقة (ادوم) و (جبل سمير) وانهم من نسل (عيسو) الذي هو جد الادوميين وانهم كانوا من سكنة الكهوف في المنطقة التي أطلق عليها اليونان اسم والتي كان يسكنها العرب في أيام (سترابو) ولذلك سماها أو (العرب سكنة الكهوف) والذين كان يقال لهم في اليونانية القديمة. ويرى (سترابو) أن هذه الكلمة تصحيف أي بمعنى (عرب) أو (عربي).
وفي حوالي سنة 2500 قبل الميلاد لعبت الشعوب السامية دورا هاما في فلسطين؛ وقد عرف هؤلاء باسم (الكنعانيين) والذين يقال لهم (العموريون) كذلك. وقد أطلقت التوراة وجميع الكتاب على ارض فلسطين اسم (ارض كنعان) وقد عرقوا في النصوص المصرية باسم أو ويرى بعض العلماء أن (العموريين) اقدم من الكنعانيين وان الكنعانيين هم فرع منهم بدليل تشابه اللهجات والأسماء وعدم تمييز التوراة في كثير من المواضع بين الجنسين.
وكان (حمورابي) من ملوك العموريين في العراق. وهم الذين سكنوا سهل (شنعاد) ويرى بعض العلماء أن العموريين هم من أسلاف العرب لوجود تشابه كبير في طرق الحياة والأسماء واللغة فيما بين العرب والعموريين.
ويرى العلماء أن الكنعانيين والعموريين ظلوا محافظين على خصائصهم الجسمية وان كانوا
قد بدلوا ديانتهم فاعتنق قسم كبير منهم الديانة اليهودية ثم اعتقوا بعد ذلك الديانة المسيحية وتثقفوا بالثقافة الآرامية الني تغلبت على اليهودية أيضاً. ولما تحررت فلسطين من ربقة البيزنطيين وعادت إلى أصحابها الشرعيين كان أكثر هؤلاء قد تثقفوا بالثقافة العربية الآرامية فحاربوا في صفوف المسلمين ضد أبناء دينهم البيزنطيين ثم اعتنق أكثرهم الديانة الإسلامية وتكلموا باللغة العربية. وأما الذين فضلوا البقاء على ديانتهم وهي المسيحية فانهم تكلموا باللغة العربية التي تكلموها قبل الإسلام ولا زالوا يتكلمون بها حتى اليوم وقد شاركوا إخوانهم في تقدم بلادهم وفي تقدم الخلافة الإسلامية ولم يكن الدين ليميز بين الطرفين. ولما وقعت الحروب الصليبية اشترك هؤلاء مع إخوانهم المسلمين في مقاومة الغزاة وابلوا في ذلك بلاء حسنا ولا يزالوا يحاربون من اجل فلسطين.
ويمكن ملاحظة الخواص والمزايا الجسمية واللغوية والصور الكنعانية العمورية حتى الآن بين السكان الفلسطينيين الأصليين وهم القرويون والفلاحون الذين يمثلون اقدم شعوب فلسطين والذين لم تذهب عنهم ميزاتهم التي ورثوها عن ألوف من السنين وقبل مجيء المهاجرين من اليهود بكثير. والذين لم تتمكن السنون من تغييرهم على الرغم من الحوادث الدامية الطويلة التي جرت على هذه البلاد.
وبالنظر إلى اتصال فلسطين بمصر اتصالا طبيعيا أصبحت مقدراتها ومقدرات مصر مرتبطة بعضها ببعض ارتباطا كليا. وهذا أمر هام يجب الالتفات إليه لان عدم الاهتمام به معناه تجاهل أمر طبيعي من الأمور المفروغ منها. وقد خضعت فلسطين قبل هذا العهد الذي نتحدث عنه إلى الأسر الفرعونية المختلفة. وقد دخلت في أيام (تحتمس الثالث)(حوالي سنة 1500 قبل الميلاد) وفي أيام (امنهوتب)(انحوتب الثالث) حوالي سنة 1450 قبل الميلاد في حكم المصريين تماما وأصبحت من المقاطعات الفرعونية يحكمها ملوك يخضعون لفرعون وللحكام الذين يعينهم عليهم.
وقد شغل الفرعون (امنحوتب الرابع) بالإصلاحات الدينية التي حاول إدخالها إلى الشعب المصري ومن جملة ذلك عقيدة التوحيد عن إدارة أملاك مصر والشؤون الداخلية المصرية فانتهز أعداؤه هذه الفرصة وثار الحكم في الداخل والخارج على (امنهوتب) لأنه جاء نظرهم ببدعة جديدة وأخذت الممتلكات المصرية في الخارج تستقل الواحدة بعد الأخرى
ومن جملتها مدن فلسطين.
وتتحدث ألواح (تل العمارنة) عن شعب اخذ يهاجم ارض فلسطين اسمه (خبيري) وقد ارتأى قسم من علماء التوراة أن هذا الشعب هو (العبري) أو (العبرانيون) غير انه لا توجد هنالك أدلة مقنعة تؤيد أن (الخبيريين) هم (العبرانيون) بالذات ولو أن جماعة من علماء اليهود تحاول البرهنة على ذلك لتظهر أن اليهود كانوا قد دخلوا ارض فلسطين منذ هذا العهد.
والذي يظهر من التوراة أن (العبرانيين) كانوا أرقاء في مصر ثم خرجوا منها هاربين حوالي القرن الثالث عشر قبل الميلاد تحت قيادة زعيم لهم هو (يشوع) الذي حل محل (موسى) وخلفه وهو ابن (نون) من سبط (افرايم) الذي عبر الأردن وقاد جماعة (إسرائيل) إلى (ارض الموعد) وحارب شعب كنعان ست سنين واخذ أرضهم وقسمها بين الإسرائيليين. وسقطت على يديه أسوار أريحا وست إمارات صغيرة غير أن الإسرائيليين لم يتمكنوا من فتح كل فلسطين ومن التغلب على الإمارات الوطنية وعل مقاومة كل الكنعانيين.
ويفهم من الكتابات القديمة للتوراة أن من الأسفار المكتوبة قبل الأسفار الني أخذنا منها روايتنا الأولى أن الإسرائيليين عبروا إلى حدود فلسطين ولم يكن على رأسهم قائد أو زعيم بل تقدموا على هيئة قبائل متفرقة ثم صاروا يهاجمون المدن الفلسطينية الضعيفة من جهات مختلفة ولم يتمكنوا من الاستيلاء إلا على نواح قليلة من فلسطين وهذا ما يلائم ما جاء في نصوص (تل العمارنة) كل الملاءمة.
لم يتمكن الغزاة من الاستيلاء على كل فلسطين ولم يتمكنوا من احتلال السهل الخصب المهم المسيطر على البحر الأبيض المتوسط وهو سهل (فلسطية) نسبة إلى سكانه القدماء وهم (الفلسطينيون) وظل الفلاحون القدماء على تقاليدهم القديمة وفي محلاتهم مثل (الجبعونيين) الذين كانوا يقيمون في مدينة (جبع) والذين ظلوا يقاومون الإسرائيليين مع أن مدينتهم هذه لا تبعد سوى خمسة أميال تقريبا عن جنوب القدس والتي تقع في موضع (الجب) في الوقت الحاضر، وقد اشتركت مع الملوك (الكنعانيين) في محاربة (الإسرائيليين) ومهاجمتهم مرارا عديدة؛ وقد اضطر إلى مغادرة وطنهم بعد أن دخلت في
حوزة (البنياميين) غير انهم لم يذهبوا بعيدا عنهم واضطر العجزة منهم إلى اعتناق الديانة الإسرائيلية غير أن كثرتهم ظلت تحارب الإسرائيليين.
جواد علي
اُمّان
للسيدة الفاضلة منيبة الكيلاني
لا ادري أين قرأت أن اجمل منظر في الدنيا هو منظر الأم الشابة، هو قول ينطبق عل الواقع كثيرا؛ غير إني في الوقت ذاته أراني أتصور أن اقبح منظر في الدنيا هو منظر الأم الشابة أيضاً!
هذه الفتاة الشابة الجميلة تمر من هذا الشارع كل يوم في ردائها الأسود الجميل فتثير على جانبي الطريق جدالا بين الناظرين إليها، في قامتها الأنيقة وانسدال السواد عليها، وفي عينيها الباهرتين وتجللهما بالصمت المبين، وفي شعرها الذهبي الرائع وإهمال تنسيقه على نحو ما يليق به. تثير جدالا بين الناظرين إليها فينبري دعي يقول بان هذه الفاتنة احتسبت أباها أو ماتت عنها أمها فهي تتشح بالسواد على أحدهما. ويقول دعي آخر أن ظهور الحزن عليها وتطامنه في عينها الساجيتين ليومئ بأنها احتسبتهما جميعا. وإن القلب لا ينضح بما فيه دائما، فتسير الغانية من دارها إلى حيث تريد، وتعود إلى دارها من حيث انتهت لا يجد في استشفاف أمرها جديد. والراجح في الظن أن الغانية جاءت هذا البلد وافدة من مواطن الذكريات لتطوي ماضيا بأحداثه الكثيرة طي السجل للكتاب، ولتجد في هذا المنهج ذي الوتيرة الجديدة المحدودة بلسما للجرح في صيدلية الزمن، فإنها فيها أنجع الأودية لأخبث الجراح.
وما كان ليفوتها أن تلج بيت الله في أيام الآحاد تنفض في ساحته الكبرى خلجات الضمير وتمد بصرها راجية راحة النفس وطمأنينة الحس، وتسأله العون وتستر فده الرعاية، فقد ذهب الراعي فبدلها ذهابه من حال إلى حال. . .
الأمن يكون راعيها الذي تشكو خلو مكانه إلى الله آسى القلوب المحطمة التي لا تشعب؟ ومن يكون راعيها هذا الذي تلتقي بطيفه في ساحة الله الكبرى فتنعم بالذكرى تحيط بالطيف، وبأنغام الأرغن والصلاة الصاعدة إلى ملكوت السماء تحيط بالذكرى. ثم تخضل عينان من دون العيون بأدمع قليلة بالغة السخونة. . ثم تنفرج شفتان من دون الشفاه بصلاة قصيرة. . ثم تنهنه الدمعة. . وتطبق الشفتان ثم تستدير القامة الفارعة الجميلة فتيمم شطر الباب ثم تمتد اليد بالصدقات للفقراء والمساكين؛ ثم يتكرر المنهج اليومي محاطا بالذي
يقول أنها فقدت أمها أو فقدتهما جميعا.
وإنه ليوم من أيام الآحاد في الربيع الباسم وقد انتثرت فراشات الحقول وتحمل النسيم رسائل الفل والياسمين وجاءت الساعة التي تقف فيها الغانية في ساحة الله بقلب رققته الذكرى المفعمة هذه المرة بمعاني الربيع، وانكفأت الحسناء كعهدها كل مرة ولكنها ساقها التوت وسقطت على الأرض سقطة غير متوقعة فأنهضها رجل بجانبها ورافقها حتى الباب. . . ثم تمنى لها العافية وانصرف.
ورآها مرة أخرى فسال عنها ثم كان طريقهما واحد فتحادثا. وقد يلذ للإنسان أن يتحدث عن نفسه، وقد يلذ أن يسمع. . فتحدثت وسمع. . ثم تحدث فسمعت. . وقد تقابلا من بعد فعرف منها ما استعصى على المدعي من قبل وما كان خليقا به وبغيره أن يستعصي عليه؛ فقد عرف أنها أرمله وان الذي فقدت هو زوجها الذي بنت به في الربيع الخامس عشر من عمرها والذي تخلو بطيفه في ساحة الله الكبرى على نغم الأرغن وصلاة الكاهن خلوة الروح. . . بالروح!. . وقالت له فيما قالت أنها أم لابنة أيضاً وكان الرجل يصغي لها وهو يرتشف الكلام ارتشافا ويسكر من جرسه سكرا لا يعرفه إلا صرعى العواطف المؤججة. وأحيط قلب الرجل بشغاف من حسنها وإخلاصها وعرف انه باخع نفسه على آثارها أن هو لم يحط الخطوات الأخرى في إخراجها من دنياها السابقة إلى دنياها اللاحقة، وينعم بها ويبذل لها النعيم المقيم وفاتحها في الأمر مفاتحة الخائب المترقب رفضاً أو إعراضاً وأعاد عليها المفاتحة صابرا متفائلا، ثم أعاد حتى انتهى معها إلى خاتمة البداية فمهدت له زورة في دارها يحتسيان فيها الشاي ويبحثان الموضوع بحثا جديا جديداً.
وكان هذا - فرأى الرجل أن يجمل لابنة الحبيبة هدايا يعقد بها معاهدة التحالف وحسن الجوار فقد تحدجه الطفلة غيري. وقد يحز في قلبها اللدن الغرير أن تجد رجلا يحل من قلب أمها الحلوة الشابة مكانا ودخل الرجل خميلتها موقرا بهداياه لابنتها هدايا من الألاعيب لبنات خمس أو دونهن قيلا. . . وحفت للقائه. . ثم كان كلام وحديث ثم عرض هداياه سال عن الطفلة فأخبرته أنها في حاشية الحديقة تلهو وتلعب وان من الخير له أن يذهب بالهدايا إليها ويفاجئها فان هذا قد يكون ادعى لبهجتها وسرورها. فعل الرجل هذا وانتهى إلى الطرف الذي أشارت إليه الأم وهتف باسم الطفلة فردت عليه كاعب على العشب في
السابعة عشرة من عمرها وقد استلقت تردد طرفها الأزرق البهي في أكناف كتاب، وانبهر الرجل وأسقطت اللعب من يده وفهمن الفتاة القصة وتضاحكت من فعلته؛ ولكن لغة أخرى تتحدث بغير اللعب لان لغة الكلام انتهت رسالتها. . ووقفت الأم الشابة الحلوة ترقب قيام المعجزة وتمددها وطغيانها وجمعها القلبين على طرف الحديقة فلم لا تأتي هي بمعجزة اكبر ولم لا تقول ما يخشع له الطرف وقد رأت ابنتها تستملح الفتى ورأت هذا ينعقد لسانه ويزوغ طرفه. . دلفت الأم تجمع اللعب وقالت وهي تعود إلى البناية سأحتفظ بهذه اللعب ملهاة الأطفال ستلهون بهم كثيرا وانقلبت مسرورة فقد أسعدت قلبين وقد سعدت بالتضحية سعادة لا يعرفها إلا ذوو القلوب الكبرى التي تستطيب الحرمان لتذود عن غيرها اجمل منظر في الدنيا في ثوبها الأسود وقامتها الهيفاء. . وعينيها الصافيتين وفعلتها السامية. . . وستنعم كل يوم بدموعها وتضحيتها لأنها أحيت قلبين وجمعت نفسين.
وهذه فتاة شابة دون الجميلة قيل لها أنها جميلة تمشي من هذا الشارع كل يوم فتثير على جانبي الطريق جدالا بين الناظرين إليها فينبري مدع يقول بان هذه الفتات أجنبية جاءت هذا البلد مع الحرب كأنها علة من عللها. . . فركنت إلى هذا المنزل الذي تديره هذه البدينة الأجنبية لصلة بين الاثنتين. ويقول مدع آخر بل هي من أهل البلد تنهز مع الغواة بدلوهم وتسوم سرح اللهو حيث أساموا، فتعود في أخريات الليالي حينا وفي أواسطها أحيانا أخر، وتحتسي الخمر حتى تتقطع أحشاؤها ويغيض ماؤها، ثم تستدرك الفائت على يد الطبيب، ثم توغل في حركات منعكسة بعضها عن بعض لا ينتظمها تدارك ولا يخترمها نظام فيضل المدعون لان السر لا يطفو على الوجوه جميعا وان القلب لا ينضح بما فيه دائما فتذهب الوجناء من نزلها حيث تريد وترجع إلى نزلها لا يجد في استشفاف ما بها جديد، ويرجح أمرها أنها جاءت هذا البلد وافدة تتبدل زمانا ومكانا كانا بالمساعفين وقد قيل لها أنها جميلة. وإنها مرهفة الحس عصبية كنود بينها وبين أن يجهز عليها الموت شعرة. . . شعرات ثلاث بينها وبين الحياة فلتمرح ولتطرب فهي جميلة قصيرة العمر لو شاءت. . . مديدته لو شاءت، فحملتها في قلبها وفكرت بهذين جميعا فأولدتهما أفانين من الأعمال وضروبا من الأقوال. وخيل إليها أن الناس كلهم خاطبون وان دنياها ملئت بالمدلهين هذا بينه وبين الانتحار بسببها قليل وهذا خطبه في رفضها ودلالها جليل. . فلتنأ بنفسها عن
الماضي نايا ولتطو ذكريات حبها وزواجها. . . وولادة طفلين حبيبين وأمومة وفشلا وطلاقا جاهدت من اجله واستحقته استحقاقاً طي السجل للكتاب. ولتمش في هداة الليل البهيم في ثوب اسود حتى لا يراها الشيطان الذي استأجرها لروحه ومغداه ولتسر طويلا، ولتعبر النهر خائفة مذعورة ولتنظر من ورائها ومن جانبها وليرها القمر الآفل خيالها المعقب المتأثر الملحاح المستهزئ ولتسر من شارع إلى شارع لا ترى إلا النوافذ المغلقة ولا تبصر إلا السكون المتمطي، ولتغذ السير حافية إن أرادت منتعلة أن شاءت ولتمش في نفس المسالك التي مشت فيها سيارة الخاطب الموهوم أو الكاذب المشئوم ذلك الذي اتخذت منه مدلها ممعنا في الغلام ولتسمع ضحكاتها من السيارة التي مرت في دماغها ولتذهب إلى ساحة كبرى ليست من سوح الله لا لتفض همومها وآلامها، بل لتقف وقفة المدان تستنزل عليها اللعنة الكبرى باردة في هجمة الليل وهداة الظلام لتذهب فقد اخذ مدى عينها يستوعب بنية سوداء في المبنى المحيطة بها تحدق بها حديقة ساهمة هاجعة. . والكوي راجعة إلى طبعها السادر الحالم في أخريات الليالي لا نفضي بأسرارها. وهنا؟ هنا. رأت نفسها غير مرة على متن سيارة إلى جانب قريب أو خاطب. . في ألوان زاهيات لا تقربها من الأمومة أبداً. . فهي توكل السيدة البادنة ربة المنزل بخصائص الأمومة التي برئت نفسها منها. . تنساب هي مع مقتضيات الحديث من جانبها جادة أو هازلة حتى تنقضي الزيارة المبتورة بأن حمل للطفلين عن الأم المحمولة على غارب الهوى. فاكهة يطعمانها عن غير يدها وغير قلبها. فلتقف هنا. . ولتنتظر نزول اللعنة في منبلج الفجر.!
وجاوزت السياج واتقت إلى الكوة ارتقاء مزعجا، فالكوة لا تريدها، ونظرت عل خيوط الشفق البيضاء الأولى بين الأطفال الهاجعين في ذلك الملجأ. . طفلين. . هما الوحيدان اللذان فيهما معنى اليتم. . وما هو باليتم من فقدان الأبوين بل من فقد العطف ولاحمان عند هذه الأم الأغلف قلبها فلا يعقل. . الصم آذانها فلا تسمع. العمى عيونها فلا تبصر، وطفلاها اللذان حملتهما كرها ووضعتهما كرها. . في ملجأ الأطفال الغافلين العاثرة جدودهم. . الطائشة حيلتهم. . صبرهم هباء. . وأفئدتهم هواء.
وتشرق الشمس فتتمطى هذه الأم مفيقة من الحلم الذي أسرى بها ليلا من المنزل إلى الملجأ. . من حيث لم تبرح فراشها
وإن الأسس بشرابه وسهره وألحانه ودعاباته قد أورثها صداعا لا بد له من الطبيب والحبيب والقريب والخطيب، ولا بد من صحب ولدات يرون هذا فيغبطون أو يرثون، ولا بد أن تبدأ عندما تساعفها أصابعها الواهنة في خنق شئ. . هو حب الطفلين. . وإنكار عطفها أو علاقتها بهما. . للخطيب الموهوم ليتم اقبح منظر في الدنيا منظر أم شابة مؤتزرة بتضحيتها لأنها ضحت بقلبين، وقربت طفلين للصم الذي خيل إليها انه يهب الخير ويتم النعمة. . وستبقى هكذا ما بقى خيالها وخيالها ورجالها.
الأم الشابة! اجمل منظر في الدنيا. . واقبح منظر في الدنيا. . لا ادري أين قرا هذا، ولكني قرأته وعرفته. . وأمنت به. . فلننظر الأم أين هي؟ أهي اجمل منظر؟ أم اقبح منظر؟ أما الوسط في هذا فمحال!
منيبة الكيلاني
من وحي الصوم:
عشاق الطعام!!
للشيخ محمد رجب البيومي
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
النهار طويل ممل، والقيظ لافح محرق، وقد هجم رمضان والعاشق النهم لا يعذر في محبته. فكم من أكول هده العشق، وبراه الوجد، ثم هو لا يقدر على التصريح بما يختلج في صدره لما وقر في نفسه أن القلب لا يتسع للطعام والغرام، وقد يكون نبيها فطنا فيحاول أن يوفق نهمه وولهه فيأتي بما يسميه البديعيون حسن التعليل، كان يقول:
وإن طعاماً ضم كفى وكفاها
…
لعمرك عندي في الحياة مبارك
فمن اجلها استوعب الزاد كله
…
ومن اجلها أهوى يدي فأدارك
وأنا لا ادري لماذا تنكر الصبوة من هؤلاء؟ ولهم عيون تنظر وقلوب تخفق!! ويخيل إلي أن كراهية الناس للأكول جعلتهم يستنكرون جميع ما يأتيه، ولو كان عاديا مألوفا وإلا فهال من المنطق الصحيح أن يقول الشاعر في صديقه النهم:
ويعجبني من جعفر أن جعفرا
…
ملح على قرض ويبكي على ُجملْ
فلو كنت عذري العلاقة لم بيت
…
سمينا وأنساك الهوى كثرة الأكل
ثم ما هي العلاقة بين الحب والامتناع عن الطعام؟ الحق أن هذا منطق غريب!
ومن جماعة الشرهين من يستغل ذاكرته القوية فيشحنها بشتى الأخبار والأحاديث فإذا استضافه إنسان اخذ يعرض معلوماته عرضا، فما يدع صغيرة أو كبيرة مما اختزنه في رأسه إلا كررها مثنى وثلاث ورباع، فيضيف إلى ثقل بطنه ثقل حديثه، وهنا يتضاعف البلاء وتعدد الكارثة وفي هذا الطراز المتكلم يقول حميد بن الأرقط:
يسطرون لنا الأخبار أو نزلوا
…
وكلما سطروا للقم تمكين
باتوا وقصعنا الصهباء بينهم
…
كان أيديهمو فيها سكاكين
والغريب أن ألسنتهم تنعقد غب الطعام فما يكادون ينطقون بكلمة واحدة بعد التشدق والتفيهق، وكان ازدحام المعدة قد عطل مجرى التفكير، وأوقف دولاب النطق - وقتا ما -
فغدا الأكول صنما لا يبين، وصدق عليه قول القائل:
أتانا ولم يعدله سحبان وائل
…
بيانا وعلما بالذي هو قائل
فما زال منه اللقم حتى كأنه
…
من العي لما أن تكلم بأقل
تجهز كفاه ويحور حلقه
…
إلى الزور ما ضمت عليه الأنامل
ومن اطلع على هيئة هؤلاء في أثناء تناول الطعام اخذ منه العجب كل مأخذه ليحقن في وجوههم فتربد، وان أيديهم ليسرع في القذف وللقم وان أعضاءهم لا تستقر على حال من القلق حتى يبلغوا ما يريدون.
(امتنع الحارثي عم مؤاكلة صديقه الأسواري فيقل له في ذلك، فقال: ما ظنكم برجل نهش قطعة لحم فانقلع ضرسه وهو لا يدري! وكان إذا أكل ذهب عقله وجحظت عيناه وسكر، وسدر، وتربد وجهه، وغضب ولم يسمع ولم يبصر فلما رايته وما يعتريه ويعتري الطعام منه صرت لا أذن له. . . الخ)
وقد أجاد ابن الرومي حين شبه هؤلاء بمن أصيبوا بالحمى فهم معها في تغير دائم، وانفعال مستمر اسمعه إذ يقول:
تعلوه حمى شره ناهض
…
لكن حمى هضمه صالب
كأنما الفرّوج فيكفه
…
فريسة ضرغامها دارب
ذي معدة ثعلبها لاحس
…
وتارة ارنبها ضاغب
وابن الرومي اقدر من غيره على الإجادة في هذا الفن فقد كان كما يقول صاحب زهر الآداب منهوماً شرها، وكان جشعه من أسباب حتفه، وله في المآكل وصف طويل فهو أذن ينطق عن خبرة وابتلاء، ولا يعرف الشوق إلا من يكابده، وأنت ترى وصفه للمنهومين ينبئ عن حصافة ويخبر عن دقه ووعي كقوله:
ألم تره لو شاء بلع تهامة
…
وأجبالها طاحت هناك بلا ارش
على انه ينعى إلى كل صاحب
…
ضروسا تأتي على الصلب والهش
تخبر عنها أن فيها تثلما
…
وذلكمو أدهى وآكد للجرش
ألم تعلموا أن الرحى عند نقرها
…
وتجريشها تأتي على الصلب والهش
وهو في قوله هذا متخصص متفنن يغوص على المعنى الخفي ويأتي بالتعليل المطابق
فيشبه الأسنان الثلمة بالرحى الجرشة، في القدرة على الطحن والهضم وهو يذكرني بابن هانئ الأندلسي فله من هذا الباب كلام جيد. وان كان إلى لا وضوح اقرب منه إلى التعمق ولكنه يلذ القارئ ويمتعه ويوقفه على الحقيقة سافرة في سهولة ورقة كان يقول:
يا ليت شعري إذا أوحى إلى فمه
…
أحلقت لهوات أم ميادين
كأنها وحثيث الزاد يضرمها
…
جهنم قذفت فيها الشياطين
لف الجداء بأيديها وأرجلها
…
كأنما افترستهن السراحين
وغادر البط من مثنى وواحدة
…
كأنما اختطفتهن الشواهين
أين الأسنة أم أين الصوارم أم
…
أين الخناجر أن اين السكاكين
تبارك الله ما أمضى أسنته
…
كأنما كل فك منه طاحون
ونحب أن نعلن أن ابن هانئ كان قنوعا راضيا ولكنه يصف حالة رآها فقط دون أن ينطق عن ذات نفسه كابن الرومي ذلك الذي يرضي بالبطنة الممرضة والكظة القاتلة معللا نفسه بزوالها بعد يوم فيقول مخاطبا لائمته في شرهه:
دعيني قسطنطين آخذ شهوتي
…
وتبشمني إني بذلك راضي
فأكثر الزاد ما ألقى من الزاد كظة
…
مدى يومها واليوم اسرع ماض
ويخيل إلي أن الكظة لو استمرت معه طيلة حياته - لا يوما واحدا كما يزعم - ما رجع عن نهمه العجيب!!
ويطول بنا البحث لو تقصينا ما ورد عن هؤلاء من النوادر وما قيل فيهم من رائع الشعر. ولكن احب أن انصفهم بعض الشيء فأعلن أن شرههم هذا غريزة نفسية ركبت في طبائعهم فهم معذورون حين يهجعون على الموائد، وماذا عسى أن يصنعوا وأمعاؤهم تتلوى كالأفاعي القاتلة. لذلك نجد الكثيرين منهم يعلنون عن أنفسهم بالقول حتى لا يفاجئوا الناس بشرههم الجشع قبل التمهيد له. واظرف ما قرأت في هذا الموضوع ما حدث به معبد بن خالد الجدلي قال: خطبت امرأة من بني أسد في زمن زياد فجئت لأنظر إليها وكان بيني وبينها رواق فدعت بجفنة عظيمة من الثريد مكللة باللحم فاتت على أخرها وألقت العظام نفية ثم دعت بشن مملوءة لبنا فشربته حتى أكفته على وجهه وقالت: يا جارية ارفعي السجف فإذا هي جالسة على جلد أسد، وإذا شابة جميلة، فقالت يا عبد الله، أنا أسدة من
أسد، وعليّ جلد أسد، وهذا طعامي وشرابي فعلام ترى؟ فإن أحببت أن تتقدم فتقدم، وان أحببت أن تتأخر فشانك فقلت استخير الله في أمري وانظر قال فخرجت ولم أعد!!
ولعمري أن هذه المرأة وإضرابها جديرات بالعطف والإشفاق! ومن يدري لعلها تكون خفيفة الظل فكهة الروح كالتي قالت لزوجها وقد أكلت حملا سمينا وأراد أن يتغشاها فلم يصل إليها مهلا فبيني وبينك بعيرا!!
على أن الرجل لا يرحم امرأته إذا كانت مصابة بهذا الداء الفاجع، وقد رأينا في كتب الأدب أمثلة عديدة من الهجاء الفاحش الذي صب فوق رؤوس النهمات الشرهات من الزوجات بل قد تجاوزهن إلى الأمهات على ما لهن من حرمة التربية والرضاع وحسبك أن يقول العجيف في هجاء صاحبة الفضل الأول عليه.
يا ليتما أمنا شالت نعامتها
…
أما إلى جنة أما إلى نار
ليست بشبعى وان أسكنتها هجرا
…
ولا بريا وان حلت بذي قار
تلهم الوسق مشدودا أشظته
…
كأنما وجهها قد ساح في القار
وأمثال هذه الطعنات الجارحة لا تحصر في طيات الأسفار!
وبعد فالطعام كما يقول الأستاذ البشري فن جميل. وأبطاله النوابغ فنانون مطبوعون، وقد جحدهم الناس وأنكروا ما لبطونهم من مواهب نادرة، فلا اقل من أن ننصفهم بعض الشيء فنستغفر الله لهم في شهر طالما حاربهم في حياتهم ثم ها هو ذا يذكرنا بهم في سباتهم العميق. .
(الكفر الجديد)
(محمد رجب البيومي)
يوم (17) رمضان:
يوم بدر
للأستاذ إبراهيم محمد نجا
سوف تبقى على مدى الأيام
…
شرعة الخير. . شرعة الإسلام
أنت بعث من البلى، وشفاء
…
لصدور مليئة بالسقام
وهدى يمحق الضلال، ونور
…
سر مدى يشق قلب الظلام
وصعود إلى العُلا، وسمو
…
عن حياة الشرور والآثام
يا رعاك التاريخ يا يوم بدر
…
أنت في الدهر غرة الأيام
أنت معنى الكفاح في الحق، لافي
…
باطل موهوه بالأوهام
أنت بدر وافى الظلام، فولَّتْ
…
من سناه كتائب الإظلام
إنما أنت يقظة بعد نوم
…
وصفاء في الأفْق بعد الظلام
إنما أنت قوة بعد ضعف
…
وحياة من بعد موت زؤام
إنما أنت عودة النور والآ
…
مال، بعد الظلام والآلام
فيك أصغى الزمان، والتفت الده
…
ر إلى ساحة الوغى والصدام
حيث جند الضلال قد جاء يبغي
…
نصرة الشرك بالقنا والسهام
والنبي الكريم بين صحاب
…
كل فرد كالصارم الصمصام
لم يروا في الحياة إلا حطاما
…
فاشتروا دينهم بهذا الحطام
كبَّروا ثم أرقلوا بقلوب
…
ونفوس إلى الحمام ظوامي
وتلاقى الجمعان أي تلاقٍ
…
أرأيت الأسود في الآجام؟
فتعالى الغبار، وانعقد العث
…
ير فوق الرءوس مثل الغمام
لو رأيت السيوف تلمع فيه
…
خِلْتَ ناراً تطايرت في قتام
وأمد الله النبي بجيش
…
من جنود مسوَّمين كرام
لم ير المشركون غير سيوف
…
تتهاوى بالهام بعد الهام
عن يمين وعن شمال ضراب
…
وطعان من خلفهم والأمام
ففريق على الرمال صريع
…
وفريق تساق كالأغنام
وفريق مشردون حيارى
…
في فجاج الصحراء مثل النعام
قنعوا بالهون والذل عقبى
…
ورضوا بالنكوص والأحجام
هدّ ركن الضلال، وانصدع الشر
…
ك، وباءت فلوله بانهزام
واستفاض الرشاد، وانقشع البغ
…
ى، ودالت عبادة الأصنام
واستقام الإسلام حصنا قويا
…
ثابت الركن، مستقر الدعام
ومضى يفتح الممالك باسم الل
…
هـ، لا باسم سلطة وانتقام
أينما سار فالحياة رخاء
…
في سلام، وعزة في وئام
يا لقومي مما أرى في زمان
…
حائر الخطو ما له من زمام
لا أرى فيه للهدى من سبيل
…
لا، ولا للرشاد من أعلام
قد بغى أهله كاسد ضوار
…
هيجتها الرعود في الآكام
وأحالوا الحياة حربا ضروسا
…
طال فيها تناحر الأقوام
تلك حرب الضلال. . . سيان فيها
…
- لو علمنا - مهاجر ومحام
أرهقتنا! لا بارك الله في جن
…
د، ولا قادة، ولا حكام
نحن لم نشعل الضرام. . لعمري
…
كيف نكوى بنار هذا الضرام؟!
زعموها قد أطفأت، ولظاها
…
لم يزل يستكن تحت الحطام!
قد أضرت بنا سنون عجاف
…
صيرتنا خطوبها كالحطام
قلق دائم، وهم مقيم
…
وغلاء في ملبس وطعام
قد شكونا لهم بقلب حزين
…
وبكينا لهم بجفن دام
وأنظارنا، فما أفادت شكاة
…
لا، ولا أجدت الدموع الهوامي
ورجونا الغيث الكثير، ولكن
…
قد رجوناه من سحاب جهام
ورأينا الأحكام تترى، ولكن
…
أين تنفيذ هذه الأحكام؟
تلك فوضى قد أحدثوها، لكن
…
البسوها زورا لبوس النظام
ضاق صدري بما أحس، ولكن
…
في فمي الماء يا أولي الإفهام!
يا لقومي! لقد تغير قومي
…
ورماهم زمانهم باصطلام!
غيروا قوة بضعف! وعزا
…
بهوان! وصحة بسقام!
واستعزوا بغيرهم، ففضى (الغي
…
ر) عليهم بالعسف والإرغام
ورماهم من شره بدواه
…
قاتلات. . . شلت يمين الرامي
فأقاموا على الهوان، وساروا
…
في طريق الحياة كالأيتام
ونسوا مجدهم، وكان حياة
…
وضياء، بعد الردى والظلام
أين مجد الإسلام ضخما عريضا؟
…
أين بنيانه المتين السامي؟
لا تقولوا مضى إلى غير رجعى
…
لا، ولا تسمعوا لقول النيام
وأعيدوا ذكراه في كل يوم
…
فقليل ذكراه في كل عام
واستعيدوه مثلما كان صرحا
…
محكم الخلف أيما إحكام
ودعوا اليأس والتعلل بالوه
…
م، ولا تركنوا إلى الأحلام
أتريدون عزكم بالتمني؟!
…
أتريدون مجدكم بالكلام؟!
تعست أمة تحاول بالقو
…
ل بلوغ المنى، ونيل المرام
إنما منطق الضعيف ضعيف
…
وكلام القوي حد الحسام
فاتركوا الضعف، وارفعوا الذل عنكم
…
واهجروا الآن مضجع النوام
واعملوا؛ إنما الحياة كفاح
…
وجهاد في ساحة الأيام
وامسحوا عنكم الفتور، وبثوا
…
في النفوس القوى، وفي الأجسام
انزعوا اليأس، حطموا الخوف، هبوا
…
هبة الأسْد روعت في الموامى
واهزؤوا بالخطوب أن عبس الده
…
ر، ولا تعبؤزا بكيد الخصام
واحملوا مشعل الهداة، وسيروا
…
في طريق الحياة نحو الأمام
وليكن حكمكم بما حكم اللّ
…
هـ ودستوركم هدى الإسلام
سوف نبني صرح السلام مكينا
…
مستقراً. . . والويل للهدام
سوف نحمي الأخلاق من نزوة الشر
…
وبغى الهوى، وجهل الطغام
ونعيد الحياة روضا جميلا
…
يتغنى بزهره البسام
ثمر يانع، ودوح ندى
…
وارف الظل، ريق الأنسام
ونضم القلوب بعد انفصام
…
ونلم الصفوف بعد انقسام
ونعيد المجد القديم كما كا
…
ن، وانف الطغيان تحت الرغام
ولنا الدين غاية وطريق
…
وأمام. . . انعم به من أمام
ولنا الله. . ناصر ومعين
…
وهو نعم النصير، نعم الحامي
إبراهيم محمد نجا
أنغام الحب
ومن الحب عبقري الأغاني
للأستاذ أنور العطار
عش بقلبي كما تعيش الأماني
…
واثر خاطري ونضّر جناني
وأعدني كالناي أسكره اللح
…
ن فغنى في رقة وحنان
تتهامى ألحانه مشجيات
…
ومن الحب عبقري الأغاني
يا هواي الذل أناجيه لهفا
…
ن ويا منيتي ويا سلواني
أمن العدل أن يبت أخو الحب صريع الهموم والأشجان
ينهب الشوق عمره غير وان
…
ويُقَضى الحياة في الهجران
يهب القلب للهموم توالي
…
والأسى والدموع والأحزان
ويبيت الحبيب يغمره الصف
…
ووبحبوحة النعيم الداني
وهو الحب خافق غير مرتا
…
ع وقلب مؤجج الخفقان
وخدود مجرحات دموعاً
…
وخدود نواضر الألوان
وعيون من المسرات ملأى
…
وعيون مخضلة الأجفان
ها هنا البشر سائغاً مستطايا
…
وهنا الشجو خالدا غير فان
يا هواي الذي أغنيه أحلى
…
ما تغنت بلحنه شفتان
طف بقلبي كما تطوف الشاشا
…
ت وجدد على المدى الحاني
لك من مدمعي ينابيع تهمي
…
بغزارة من ماء قلبي قان
لك من خاطري نشيد رقيق
…
طافح بالهيام والتحنان
لك من روحي اللهيف نزوع
…
كنزوع الغريب للأوطان
لك سر مغيب في جناني
…
لك شدو مفجر من بياني
لك يا ملهمي الأناشيد بكرا
…
أتغنى برائعات المعاني
ويجوز الخيال أخبية الوه
…
م ويمشي على ثغور الأماني
أنور العطار
تعقيبات
تراث المعري:
منذ ثلاث سنوات تألفت في وزارة المعارف لجنة من الأساتذة الأفاضل: إبراهيم الأبياري وعبد السلام هارون ومصطفى السقا وعبد الرحيم محمود وحامد عبد المجيد لتقوم على بعث تراث الشاعر الفيلسوف أبي العلاء المعري ونشر مصححا، وشرحه شرحا يقربه من الأفهام، وهو عمل جليل أشدنا به على صفحات الرسالة من قبل، وباركنا ما بدا من اثر ذلك في همة اللجنة وعنايتها. وإني اشهد الله أن أعضاء اللجنة الأفاضل قد تجردوا لمهمتهم في عزيمة صادقة، وعكفوا عليها في صبر العلماء وشغفهم بمكاره الدرس والمراجعة، فانفردوا في غرفة منعزلة بدار الكتب المصرية بين أكداس من المخطوطات ومجفو الطوامير يراجعون ويحققون ويبذلون ماء عيونهم لإلقاء النور على ذ لك التراث المدفون فكأنهم جماعة العلماء الذين يعكفون على الأبحاث الذرية في أمريكا. . .
وقد استطاعت اللجنة أن تخرج في هذه المدة كتاب (تعريف القدماء بابي العلاء) والجزأين الأول والثاني من (سقط الزند) وما له من شروح وهي الآن بصدد إخراج الجزء الثالث منه، وستتمه بجزء رابع يتضمن فهارس كاملة ثم تأخذ بعد ذلك في إخراج ديوان (لزوم لا يلزم) وما عليه من الشروح. . .
ولكني ألاحظ أن اللجنة تمضي بطيئة في أداء مهمتها وإنجاز عملها وقد سالت فقيل لي أنها تحتاج إلى أكثر من عشر سنوات للفراغ من هذا العمل إذا سارت بهذه الخطوات، ومعنى هذا أنها ستخرج ذلك التراث للجيل القادم على أن اللوم في هذا البطء لا يرجع إلى اللجنة بل أنها نفسها تشكو ذلك وتحرص على أن تسير في عملها بخطى واسعة، وإنما اللوم على نظام دار الكتب لان المطبعة لا تسعف اللجنة في إنجاز الطبع والإخراج بحجة كثرة العمل، وذلك في الوقت الذي تجد فيه هذه المطبعة الوقت الواسع جدا لإخراج مؤلفات مدير الدار ومؤلفات المؤلفين الذين يتاجرون بمؤلفاتهم مع أن الواجب يقضي بان تخصص مطبعة الدار لإنجاز مطبوعات الدار.
ومسالة أخرى تدعو إلى العجب، وهي أن ما تخرجه اللجنة من آثار المعري تضع وزارة المعارف يدها عليه وتنقله إلى مخازنها ولا تسمح إلا بإهدائه لذوي الجاه في الدولة ممن لا
يعنيهم المعري وتراثه في كثير ولا قليل، فكأني بالوزارة قد قررت بعث تراث المعري لتنقله إلى قبر جديد.
كلا! أن هذا التصرف ليس بالعمل الذي يؤثر في خدمة الأدب، وقد أحسنت الوزارة من قبل يوم أن قامت بطبع ديوان حافظ إبراهيم وعرضه للبيع بنفقات الطبع، فهل لها أن تؤثر هذا الصنيع في بعث تراث المعري ونشره والإفادة به؟!
ولكنهم المعلمون:
نشرت إحدى الصحف خبرا زعمت فيه أن المعلمين ألفوا عصابة من بينهم لبيع أسئلة الامتحانات العامة، وان التحقيق كشف عن أمور خطيرة من أعمال هذه العصابة، ولما كانت تلك الصحيفة قد هولت في إيراد الخبر وتهجمت به على كرامة المعلمين، فقد أذاعت (جمعية المعلمين) بيانا على الصحف ترد على هذا التهجم وتقول (وما كان للصحيفة المذكورة أن تتسرع بهذا الاتهام حتى ينتهي التحقيق وتظهر براءة البريء أن كان بريئا وذنب المذنب أن كان مذنباً. . .).
وأنا لا يعنيني هنا تلك الواقعة، ولا تصحيحها ولكني اشهد الله أهي لا افهم (براءة البريء أن كان بريئا) ولا اعرف ذلك في أسلوب عربي إلا أسلوب الصحف التي تقول:(وتزوجها زوجها وعاشرها معاشرة الزوجية)
ولو أن هذا التعبير وقع من جماعه المهندسين مثلا لأغضينا عنه، وقلنا انه أمر ليس من صميم صناعتهم فلا لوم عليهم ولا ابتغينا له اوجه التأويل ولكنهم المعلمون وصناعتهم العلم، وهم الذين يتعهدون أبناءنا في تعليم اللغة والبيان فيضيعه الأبناء المساكين (ويا ضيعة اللغة والبيان) إذا كانت لغة المعلمين من نحو (براءة البريء أن كان بريئا)
كان آباؤنا أبر واكرم:
نشرت مجلة (المسامرات) في عددها الأخير صفحة مصورة عن إنشاء بيت في لندن لتأجير ما يلزم للعرائس من الثياب ليلة الزفاف نظير مبلغ خمسة جنيهات وذلك تخفيفا عن الفتيات الرقيقات الحال واللائي لا يستطعن الحصول على الثياب اللائقة بهن نظرا لشدة قيود التموين التي لا تزال قائمة في إنجلترا، وقد أشادت المجلة بهذا الصنيع كما أشادت به
المجلات والصحف الإنجليزية وقالت انه عمل مشكور أعاد الإشراق إلى وجوه العرائس وادخل السرور والانشراح على قلوبهن.
قلت أين هذا من مآثر أبانا السابقين ومكارمهم التي من هذا القبيل فقد كانت ابر واكرم وكان عملهم مما يدل على عراقة الروح الإنسانية في نفوسهم.
فمن ضمن وثائق الأوقاف الإسلامية وثيقة بوقف خيري في مكة المكرمة لإعارة الحلي وأدوات الزينة للفقراء ومتوسطي الحال الأعراس والأفراح بحيث يستعيرون منه ما يلزم حتى تظهر العروس في المظهر اللائق جبرا لخاطرهم ثم يرد مكانه بعد مضى مدة الفرح المعتادة، كما كان في مكة أيضاً وقف لإعارة المفروشات وأدوات السفر في إقامة الولائم والحفلات.
وذكر ابن بطوطة في رحلته وقفا في دمشق اسمه وقف (الزبادي) وهو مكان توجد فيه الأواني الفاخرة من الصين وقفها أصحابها بحيث إذا كسر خادم آنية مطبخ سيده وخاف أن يضربه السيد أو يحسم ثمنا من أجرته قصد إلى ذلك المكان وسلم من الآنية المكسورة وتسلم بدلها صحيحة وقد علمت أن في فاس وقفا مثل هذا الوقف وكذلك في تونس.
ومن الطف ما يتصل بهذا وقف في فاس خصص ريعه لمن وقع على ثيابه زيت من الفقراء أو مادة تذهب ببهجته وجدته كالحبر، فيأخذ منه نقودا ويشتري ثوبا جديدا مماثلا لذلك الثوب الذي كان يلبسه.
وفي تونس وقف لتزويج الشابات الفقيرات وآخر لختان الأولاد الفقراء وإعطائهم كسوة ودراهم وثالث لتوزيع الحلوى على المحتاجين بالمجان في شهر رمضان.
وفي مراكش مؤسسة اسمها (دار الذمة) عليها أوقاف كثيرة وهي دار تقصد إليها النساء اللاتي يقع بينهن وبين أزواجهن نفور وليس لهن عائلات فيقمن فيها أكلات شاربات متمتعات بكل وسائل الرفاهية حتى يذهب ما بينهن وبين أزواجهن من الجفوة ويعدن إلى دار الزوجية.
وفيها أيضاً مكان اسمه (سيدي فرج) عليه أوقاف كثيرة تدر الأموال الوفيرة وقد أوقفها أصحابها لإيواء المجاذيب ولتجهيز الموتى من الفقراء وتكفينهم وشراء ملابس توزع على الفقراء في أول الشتاء.
وروى الكاتبان الفرنسيان الأخوان (جان وجيروم تارو) في رحلتهما إلى مراكش انهما شاهد هناك مؤسسة لا يوجد مثلها في الدنيا وهي دار كبيرة فسيحة تتسع لستة آلاف ممن أصيبوا بمحنة العمى من الفقراء فيقيمون فيها يأكلون ويشربون ويقرؤون، ولهم أنظمة وقوانين يسيرون عليها، وتشرف على شئونهم إدارة كبيرة تدبر لهم كل وسائل الراحة والرفاهية. . .
وفي أوقاف مصر وقف لسكنى الأيامى الفقيرات، ووقف أخر لكسوة أولاد الفقراء وثالث لإطعام الكلاب التي ليس لها أصحاب. . .
فهذه وأمثالها كثير مما يطول سرده وعده من مآثر أبانا الكريمة وأريحيتهم النبيلة التي كانوا يبذلونها استجابة لداعي الإنسانية وتلبية لنداء الخير والمروءة، وما كانوا يرجون عليها أجرا إلا ثواب الله وحسن جزائه، فكل ما يجري الآن من صنائع المدنية الحديثة في الترفيه عن الفقراء وإدخال السرور على نفوسهم لا يعدل قليلا من ذلك الذي كان.
والواقع أن روح الإنسانية التي تملكت أبانا السالفين ووصلت قلوبهم بقلوب هي التي وقت المجتمع الإسلامي على تطاول العصور من الهزات الاجتماعية العنيفة، ومن الثورات التي تصطدم بها النفوس المحرومة على أهل السعة وأصحاب والاموال، وليس من المعقول أن يثور الفقراء أو ينقموا السعادة على الأغنياء ما داموا يجدون في أموالهم الحق للسائل والمحروم. . .
(الجاحظ)
الأدب والفن في أسبوع
عام التوائم:
توالت على الصحف أنباء التوائم في أنحاء البلاد، وأفاضت الصحف في الكتابة عن أحوال هذه الولادات، لما فيها من غرابة وطرافة.
وقد لاحظت اقتران هذا الإخصاب في الولادة، بإخصاب آخر في التأليف، واسترعى نظري إعلان أحد المؤلفين عن كتابين أخرجهما معا، وزاد انتباهي إعلان آخر مماثل. . فقلت في نفسي: نحن حفا في عام التوائم!
ومما يدل على الإخصاب في التأليف هذا العام أن (الأهرام) هالها ما يرد إليها من المؤلفات، ولعلها ضاقت بإلحاح أصحابها في طلب التعريف والتنويه بها، فكتبت يوم الثلاثاء بعد ثبت طويل من الكتب التي عرفت كلا منها بكلمة_كتبت بعد ذلك تعتذر من عدم استطاعتها التعريف بكل ما ورد إليها، فقالت أن عدد المؤلفات قد زاد في هذا العام زيادة لم نعهدها في السنوات الماضية فقد بلغ ما تلقته الأهرام في ثمانية الأشهر الأخيرة 382 كتابا بمعدل 50 كتابا في الشهر تقريبا واعتذرت من التأخير في الإشادة بكل هذه الكتب ووعدت بأنها ستواصل التعريف بها ما استطاعت!
وقد لاحظ بعد الكتاب أن النساء المنجبات هن من الطبقة الفقيرة؛ ولا عجب هي هذا فالطبقات الدنيا هي العاملة المنتجة النجبة في المجتمع. ويلاحظ أيضاً أن أكثر تلك الكتب الوفيرة تدل على أن أصحابها من فقراء الفكر وكثير من هؤلاء يوالي الواحد منهم إصدار المؤلفات في أوقات متقاربة والذي افهمه في فن التأليف أن الشارع فيه تقوم بذهنه فكرة الكتاب، يعاشرها زمنا يقضيه في التفكير فيها وتحقيق مادتها وتحين الفرص التي يبيح ما يخدمها في أثناء المطالعات والتأملات؛ حتى إذا نضجت على مهل، أخرجها للناس كتابا سويا فيكون كالوليد الذي تتغذى أمه وهي تحمله جنينا بغذاء كامل ملائم للحامل، وتتبع في حياتها النظام النافع للحمل، وتقضي المدة اللازمة قبل أن تضع حملها.
وقد أفضى طبيب (ملوى) بأسباب وفاة ثلاثة من الأربعة التوائم التي ولدتهم أمهم هناك، فقال أن أهم تلك الأسباب رداءة تغذية الأم وهي حامل، فهل نأخذ العبرة من هذا للتأليف مع فرق واحد هو أن الوليد السقيم قد تجدي عليه العناية والمعالجة، أما الكتاب الملفق
المرتجل فهو الموت في مهده على ميعاد. . .
حكايات (أبو النواس):
جاء في العدد الخاص (بالفراشة) من مجلة الاثنين، فصل في (الفراشة عند العرب) احتوى على بضع حكايات قدم لها بما يلي:(كان العرب يتذوقون النكتة ويجزلون العطاء لقائلها، وقد حفلت كتب الأدب العربي القديم بألوان طريفة من الفكاهات ويرى القراء طائفة منها فيما يلي) والقارئ المستنير يتوقع أن يطالع بعد هذه المقدمة ملحا وطرائف من التي حفلت بها كتب الأدب العربي حقا، والتي هي جديرة أن يزود منها عدد خاص بالفكاهة أو (بالفراشة) كما أطلقوا عليه؛ ولكن الحكايات التي أتى بها إنما هي من التي يتبادلها العامة، ويحصلونها من الكتيبات التي وضعها لهم بعض الوراقين وخاصة ما كان منها عن (أبو النواس) كما يسميه العوام؛ وإلا فقل لي أي كتاب من كتب الأدب العربي القديم حكى عن الرشيد انه أراد أن يفاجئ أبا نواس بزيارته في داره فاختبأ أبو نواس وراء الباب وأزعج جواد الرشيد وهو يهم بالدخول فسقطت عمامة الرشيد فتطير من ذلك وأمر بضرب عنق أبي نواس فيضحك أبو نواس معللا ضحكه بأنه يقتل بغير سبب، فيقول له الرشيد:
- إنما أقتلك لأنك مشئوم الطالع. فقد (اصطبحت) برؤيتك فسقطت عمامتي!
- وأنا اصطبحت بوجهك ففقدت حياتي، فأينا أكثر شؤما؟ فهل كان من طبيعة العلاقة بين الرشيد وأبي نواس، وهل يليق بهما، أن يحدث بينهما هذا الذي يشبه لعب الأطفال المسمى (استغماية)؟ وهل كان خلفاء المسلمين يقتلون للطيرة وشؤم الطالع. .؟ وهل يصح أن يساق هذا الكلام المسف المبتذل على انه فكاهات مختارة من الأدب العربي؟!
لقد كان يمكن تحقيق الرغبة في الإضحاك بإيراد طائفة من فكاهات الأدب العربي (الحقيقية) التي يزخر بها (الأغاني) و (العقد الفريد) و (عيون الأخبار) و (ذيل زهر الآداب) وغيرها من كتب الأدب. وكان يمكن بهذه الفكاهات الجمع بين (الفرفشة) والمتعة الفنية، وكان كل ذلك خيرا من حكايات (أبو النواس) التي لا منفعة فيها إلا أن تفغر أفواه الفارغين. . .
شخصية الفنان:
نشرت بعض الصحف البيروتية خبر حادث أسفت له، وأشارت إلى سوء موقعه من النفوس، ذلك أن الأستاذ محمد عبد الوهاب كان في مجلس (عالية) ضم نخبة من رجال السياسة والأدب، وفيهم الأمير مجيد أرسلان وزير الدفاع في لبنان، الذي طلب من عبد الوهاب أن يغنى فرفض واختلفت الروايات فيما حدث بعد هذا الرفض، فقيل انه حدثت مشادة تخللها اعتداء وقيل أن الوزير نهض واقفا كأنه يهم بالاعتداء. . وتدارك الحاضرون الموقف فانتهى بسلام وكذبت الحكومة اللبنانية (أن وزيرا حاول ضرب الأستاذ محمد عبد الوهاب في عالية) وقالت انه خبر عار عن الصحة. ونفى الحكومة ينصب على الاعتداء ومحاولته، أما الاجتماع وما كان فيه من طلب الغناء ورفضه فلم يكذب خبره. وهذا الجزء من الخبر هو الذي يتعلق به موضوعنا أما الإساءة إذا كانت قد وقعت فاليقين أن إخواننا اللبنانيين قد عالجوها أمرها على خير ما يرجى.
أما الذي أرمى إليه فهو (شخصية الفنان) التي حفها عبد الوهاب برفضه إجابة طلب الغناء فهو اعتزاز في موضعه، وحفاظ على كرامة الفنان أن يكون طوع إشارة وزير أو كبير. وقد مضت العصور التي كانت الفنون فيها تعيش في ظلال الكبراء، وصار الفنان (من موسيقى وأديب وغيرهما) يستمد عزته من فنه ومن جمهوره، كما تستمد الحكومات الدستورية سلطاتها من أممها. .
تلك هي روح العصر في الفن وهي اثمن ما كسبناه، وهي تتمثل في أولئك الأعلام الذين برزوا في حياتنا الفنية بأنواعها نهضوا على سوقهم ومشوا بجهودهم إلى غاياتهم مسددين ويسير الجميع الجديد على أثرهم في هذا السبيل، من الشعب نحو الشعب، يرعى الجميع جلالة الفاروق.
أبو زيد الهلالي:
كتب إلى الأستاذ عبد الحميد يونس ما يلي:
(طلب المدير المنتدب للإذاعة المصرية في عهدها القومي إلى الأدباء والكتاب أن يشاركوا بأفكارهم وأقلامهم في تدعيم هذه المؤسسة الثقافية العظيمة التي بلغ من خطورتها في توجيه الرأي العام أن احتفلت بها الهيئات الدولية العليا، وقد رأيت أن أتقدم إلى هذه
الإذاعة بطلب متواضع من الجهد الفني، هو تقريب الآثار الشعبية المعروفة إلى جمهور الخواص وبدأت بحلقة من حلقات سيرة أبي زيد الهلالي، ولأمر ما انصرف المعنيون بإخراج هذه الآثار عن اللغة الفصحى إلى اللغة العامية مع أنني كتبتها باللهجة الفصيحة لحكومة ظاهرة، وهي جعل الخواص والأوساط يتذوقون هذه الآثار الشعبية التي يحفظها العامة عن ظهر قلب، ثم أخرجت هذه الحلقة دون أن يصلني كتاب واحد من الإذاعة اللاسلكية القومية التي تشرف عليها الدولة المصرية ينبئني بقبولها أو رفضها أو يدعوني على الأقل إلى مشاهدة إخراجها وإقرار هذا الإخراج، وقد حضرت التجربة النهائية اتفاقا محضاً وكنت بين المخرج وأعوانه كالتطفل على مأدبة لم يدع إليها. وعند التسجيل سحب الصوت من الغرفة التي اجلس فيها عمدا وعلمت بعد ذلك أن القصة التي قدمتها قد حورت في مصنعين تحويرا يمس أثراً محفوظا لدى الشعب قد وقف في تطوره عند صورة متبلورة بعينها، كما أن الحوار حمل أفكاراً وصورا لا يمكن أن اقرها بحال فاضطررت إزاء هذا كله إلى أن اطلب بما لي من حق الاستماع إلى التسجيل الكامل، ولولا وساطة بعض أصدقائي ممن احترمهم وأوقرهم لوقفت إذاعة هذه الحلقة واحتكمت إلى القضاء وبخاصة لأنهم جعلوا المؤلف غيري واكتفوا بان ذكروا أنني قدمت (المادة العلمية) كما يفعل رجال الدعاية الزراعية مثلا. والإذاعة وان غيرت هذا الوضع بعض التغيير وإلا أن الأمر لا يزال على حاله من حيث تحوير القصة وتحميل النص مالا يحتمل. .
ولعل هذا يدعوك إلى تنبيه الإذاعة اللاسلكية في هذا العهد القومي إلى احترام المؤلفين ومحاولة القضاء على ما يشبه الاحتكار الثقافي والفني لفرد أو طائفة.
وأملي أن ينال هذا الموضوع ما يستحق من عنايتكم وعناية الرسالة الغراء)
وقد أصغيت إلى هذه التمثيلية وقت إذاعتها يوم الثلاثاء، فسمعت أصواتا تتصايح بلغة لست ادري ما هي بالنسبة إلى قصة أبي زيد الهلالي، فلا هي لغة جمهور المستمعين العامية ولا هي لغة (شعراء الربابة) التي هي اقرب إلى الفصحى من لغة التمثيلية ولا هي لغتنا العربية الفصحى؛ وإنما هي من لغة بعض القبائل البدوية المعاصرة ولم هذا وقد وضعها مؤلفها معربة فصيحة؟ يقولون في مثل هذا: انه تهيئة للجو الفني في القصة. . فهل يطابق هذا الحوار الذي وضع لقصة ابي زيد الهلالي لغة القبائل العربية بنجد في
القرن الخامس؟ وما أظن لغتهم في ذلك الوقت كانت قد بعدت كثيرا عن الفصحى.
على أنني سمعت في تمثيل القصة غناء ينصت إليه أمراء القبيلة، فيدخل عليهم أفراد من القبيلة يصيحون بهم: أمنصتون إلى الغناء والطرب والشعب يهلك من الجوع؟ وسمعت أحد أفراد القبيلة يحاول أن يبيع ابنته ليلقى ضيفاته فيعلم بذلك أمير القبيلة فلا يمنح الرجل ما هو في حاجة إليه ويطلق الفتاة بل يتزوج منها فيعترض عليه أبو زيد ويعلن أن الوقت وقت شدة وعسر ولا يليق أن ينفق في الأفراح بل يجب أن ينفق في مصلحة الشعب ورخائه.
وليست تلك الأفكار الاشتراكية مما يتفق والروح السائد ف زمن القصة وتصرف أمير القبيلة مع والد الفتاة ليس من النخوة العربية، فهل يتفق هذا مع الجو الفني للتمثيلية الذي يعملون على تهيئته بتلك الأصوات المنكرة. .؟
واكبر الظن أن ذلك مما يقصده الأستاذ عبد الحميد بقوله أن القصة حورت وحمل الحوار أفكارا وصورا لا يمكن أن يقرها ويبدو من تغافلهم عنه في أثناء الإخراج انهم كانوا يخفون عنه ما يصنعون بقصته حتى ينتهوا ويضعوه أمام الإفساد الواقع. ومن عجيب الأمر أن ينزل الكاتب المبين منزلة صاحب (المادة العلمية) الذي لا يقتدر على التعبير فيقدمها لمن يصوغها في أسلوب صحيح. .
وبعد فهل تتفق دعوة مدير الإذاعة الأباء إلى المشاركة بأفكارهم وأقلامهم في تدعيم الإذاعة المصرية في عهدها القومي مع هضم حقوق المؤلفين والتصرف في أناجهم بما لا يقرونه؟ أو ليس من حق الأدباء أن تعاملهم الإذاعة في التقدير والأدبي على الأقل معاملة المغنين ومن دونهم من الملهين. . .؟
(العباسي)
البريد الأدبي
القران والفرقان:
اطلعت في العدد الأول من مجلة (لواء الإسلام) على مقال وصين للأستاذ الكبير عبد الوهاب حمودة بعنوان (التعريف بالقران) جاء فيه قوله (وللقران أربعة أسماء هي القران، والذكر، والكتاب، والفرقان)
ونحن نوافق الأستاذ في الأسماء الثلاثة الأولى ولكننا نخالفه في الرابعة وهي كلمة (الفرقان) بمعنى القران إطلاقا، لان من معانية الذكر ودليلنا في ذلك قوله تعالى وهو اصدق القائلين (شهر رمضان الذي انزل فيه القران هدى للناس وبينات من الهدى (الفرقان).) وقوله تعالى (وإذ أتينا موسى الكتاب و (الفرقان). .)
ثم أن الأستاذ زيادة في الإيضاح يقول مستشهدا: ثم نزل لفظ (الفرقان) في سورة (الفرقان) في قوله تعالى: (تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً) فلو صح ما ذهب إليه الأستاذ في معنى الفرقان لصح وجود سورة باسم سورة (القران) ولكان القران ما نزل على العاملين إلا ليكون نذيرا لا غير.
ثم أن الآية (ولقد أتينا موسى وهرون الفرقان) تنفى ما ذهب إليه الأستاذ في معنى الفرقان على انه القران نفيا لا ياتيه الشك من بين يديه ولا من خلفه. ويكون الفرقان بمعنى الذكر الذي يفرق بين الحق والباطل من الاقوال والافعال. وللأستاذ في الختام وافر التحية والسلام. . .
(الزيتون)
عدنان أسعد
1 -
إلى سائلين:
كتب إلى الأفاضل: السيد (سعيد احمد) من القنيطرة، والسيد (نهاد عيسى) من حيفا، والسيد (حنا نصار) من طبريا وشافهني آخرون ممن الق، وكلمهم يسال عن (فصول الأدب في فلسطين) ولماذا توقفت عن متابعتها؟
وجوابي إلى هؤلاء السادة: أنني سأتابع هذه الفصول حين يتسع المجال في (الرسالة)
الزاهرة فتنشر فصلين وجهتهما للإدارة. وذلك ليتسق نظام الحديث.
2 -
الحاصرة:
كتب الأديب (فلسطيني) في بريد الرسالة الأدبي. يرتأي أن نستبدل بالزنزانة (الحاشرة). وكتبت آنذاك وقد توهم بعض إخواني أنني ذلك (الفلسطيني) انفي ذلك الوهم، وأبين أن (الحشر) في اللغة هو:(الحشد والجمع) من ذلك (يوم الحشر) ولا يكون بمعنى: (الحبس والتضييق) إلا في مدلول الكلمة العامي عند أهل فلسطين. . . ومن هنا كان خطا اللغوي (فلسطيني)! ولعل الكلمة التي تؤدى المعنى المراد_هاهنا_هي: (الحاصرة). .
وفي عدد الرسالة الأخيرة رأيت الأستاذ حسني كنعان يستعمل هذه الـ (حاشرة) بمدلولها العامي في فلسطين، في موضوعه القيم:(نهاية دجال) ولذا رأيت أن أعود ثانية فانبه إلى ذلك
3 -
أروقة سود:
جاء في بداية موضوع السيدة الفاضلة منيبة كيلاني (لسان الدين بن الخطيب) ما يلي: (مد الليل أروقته السوداء في غرناطة. . .) والمعروف أن (سوداء) وصف لمفرد مؤنث، ووصف الجمع منه (ومن جمع التكسير) هو (سود).
فنقول في الأفراد: ليلة سوداء، كما نقول: حية رقطاء. ونقول حين الجمع: ليال سود وأيام بيض وحيات رقط. . ولعل هذا لا يغيب عن الأديبة الفاضلة.
(القدس)
محمد سليم امرشداق
1 -
إلى الأستاذ محمود شاكر:
في مقال الأستاذ الكبير (محمود شاكر)(شهر النصر) أورد الأستاذ آيات من كتاب الله جاء فيها سهو بين وتلك الآيات هي قوله تعالى (كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وان كثيرا من المؤمنين) والصواب (وان فريقا من المؤمنين لكارهون) وسهو أخر في قوله تعالى (ويقطع دابر القوم الكافرين) والصواب (ويقطع دابر الكافرين) بإسقاط لفظ القوم وفقنا الله
للصواب.
2 -
إلى الشيخ محمد رجب البيومي
في مقالك - عشاق الطعام - أوردت ما نصه (واذكر أن صحابيا جليلا - أظنه ابن عباس - دخل عليه سائل نهم فأكل أكلاً عنيفا فجعل ينظر إليه في تعجب حتى إذا خراج من عندجه قال لخادمه: إياك أن تدخله مرة أخرى فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول. المؤمن يأكل في مع واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء) واحب هنا أن اذكر - للحقيقة - أن ذلك الصحابي هو ابن عمر لا ابن عباس - كما ذكرت أنت - وذلك كما جاء في رواية البخاري (عن نافع قال: كان ابن عمر لا يأكل حتى يؤتى بمسكين يأكل معه فأدخلت رجلا يأكل معه فأكل كثيرا فقال: يا نافع لا تدخل هكذا علي. سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: المؤمن يأكل في معي واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء) وأنت ترى - أيها الزميل - أن لفظ معي ورد هكذا في الرواية الصحيحة بكسر الميم وفتح العين منونا مقصورا فإني لك مخالفة الرواية المشهورة؟ أقنعنا وفقك الله
(دميرة)
علي زين العابدين منصور
الأشغال الشاقة المؤبدة:
جاء في كلمة للأديب فؤاد السيد خليل بالعدد (734) من الرسالة الغراء (إن الأشغال الشاقة المؤبدة مدتها خمس وعشرون سنة، ينقص ربعها للذين يحافظون على النظام والطاعة في السجن) وتحديد العقوبة بهذه المدة خطا كثير الشيوع والصحيح أن الأشغال الشاقة المؤبدة ليست محددة بمدة معينة، وإنما تكون إلى نهاية حياة المجرم.
على أن نظام الإفراج الشرطي يجيز الإفراج عن المحكوم عليه بهذه العقوبة إذا أمضى في السجن مدة لا تقل عن عشرين عاما، وكان خلالها حسن السير لذلك رأيت التنويه إرضاء للقانون، وتكديرا لخواطر المجرمين
محمد محمود عماد
القصص
اشتراك في الإثم
للشاعر القصصي (بول بور جيه)
بقلم السيد كمال الحريري
(تتمة ما نشر ف العدد الماضي)
وفي الصباح صحت عزيمتي، على الكتمان. لا أبداً لن افضح امرأة صديقي، ولن يعلم صاحبي عن خيانتها شيئا: فما هو أول زوج ولا أخر زوج تخونه زوجته، ويعيش مع ذلك هادئا قريرا شارل صديقي، يذهب في حب امرأته أنزه المذاهب وأقربها من التقديس، لذلك سيكون في اطلاعه على خزيها وشنارها. وضع للسلاح في يده ليقبل نفسه به. فمن الخير إذا أن يجهل الأمر كل الجهل أما فيما يتصل بي، فإني أرجو أن أتناسى مشهد هذه المصادفة الغريبة، ولا سيما أن (مرغريت) لم تراني أبداً وتجهل اطلاعي على أمرها وسوف تجهله إلى الأبد. فمن الحتم على أن ارحل بقطار معاكس لقطارها يبرح (جه ن) في نفس الساعة. ولقد عولت على تأخير ذهابي إلى المحطة كيلا أتعرض لملاقاتها هناك برغم تحقيقي من أنها ستأتي المحطة بمفردها، فليس من الجائز أن تكرر مخاطرة الأمس الحمقاء فتبرز للملأ مع عشيقها على إني لم اقدر نشوة الخطر الخبيثة التي تدفع بالمحبين إلى أن يقتحموا كل خطر مهما كان نوعه أو زمنه. ذلك أن في المرأة التي تستهيم بصاحبها وتتدله بهواه فتهبه سرا جسمها وقلبها شهوة طاغية للظهور في ملأ من الناس، مستندة إليه معقودة الذراع بذراعه، كأنها تبغي الإعلان للناس عن أنها امرأته الشرعية؛ ترى لماذا تفعل هذا؟ إني لا أستطيع لذلك تفسيرا ولكنه يقع غالبا. والمآسي العرضية التي تقوض سعادة الأسر بنسبة 99 في المائة ليس له من سبب إلا ما ذكرت. مع أن شدة الحذر واليقظة من الزوج كافية لمنع حدوثها. واحسن مثال على ذلك واقعة صديقي، على إني في تلك الليلة المؤرقة خرجت باكرا من الفندق وفي نيتي إلا ارجع إليه إلا متأخراً حين أكون مرغريت قد غادرته إلى المحطة، فبعد أن جلست فترة في المدينة ذهبت في الساعة العاشرة إلى زيارة (القصر الأحمر)(باله روج) لمشاهدة لوحات الفنان (فانديك) وادع لك
أن تحكم على مقدار ذهولي ودهشتي حين طرق مسمعي مجددا، في صالة هادئة من صالات ذلك المتحف، جرس الصوت نفسه الذي هزني وزغرني البارحة مساء تحت أشجار البستان. لقد كانت هي نفسها هناك نعم وبرغم تخوفي واحتسابي من ملاقاتها ولو بمفردها. حبذا لو كانت حقا وحدها! ذلك أن صوتا كان يحاورها، هو صوت رفيقها في أمسية البارحة. وكنت أمام لوحة المركيزة (باؤل) المشهورة. الاتذكرها؟ أنها تمشك بكفها البيضاء قرنفلة حمراء وترتدي فستانا اخضرا غامقا كان العاشقان يدنوان مني شيئا فشيئا. كنت أحس ذلك من وضوح حديثهما بالتدريج في اذني، فهما يتخاطبان بصيغة الجمع وكان هذا التحفظ القليل منهما تنبيها لمن عساه أن يسمعهما أو يعرفهما من الأصدقاء والمعارف. عند ذاك يكون في مقدورهما تبرير نزهتهما المنفردة مع بعضهما بانتحال مصادفة ملاقاتهما في بهو المتحف، وسكتا فى حين غرة ولكني بفضل حاسة السمع اليقظة التي ترهف في مثل هذه اللحظات، ميزت وسوسة هامسة فيما بينهما لقد خافا فجأة من صوتهما لان ماري أبصرتني ولا ريب عندي في أنها أسرت حينذاك لعشيقها هذه الكلمات المخيفة الهائلة لديها (صديق لزوجي) ومع ذلك لم تغادر الصالة بل كانت خطواتهما تقترب قيلا قليلا مني ووقعهما على بلاط الصالة يجعل صمت الأصوات أكثر وضوحا وجلاء. هناك تساءلت وعيناي مثبتتان في اللوحة وذراعاي معقودتان إلى صدري في متأملة غارقة: أليس الأولى بي الزوغان عنها وتجنب محنة ملاقاتها المربكة؟؟
ليس من المعقول على أي حال استمراري هكذا جامدا دون حراك، لأني بذلك أتخذ هيئة من يراها فعلا، ويتظاهر بعدم رؤيتها، وتلك وقاحة بلا مراء ذلك أن عدم إرادتي النظر إليها هو الإقرار بأنها تصاحب رفيقا أما إذا حييتها فلسوف أفسح لها المجال لكي تشرح موقفها وتتلل بعذر من واجبي التظاهر بتصديقه ومع إني فكرت وقدرت كل هذه الحلول لوقفي فإني لم ارم مكاني. ووقف الحبيبان أخيراً ورائي. لا جرم أن المرأة كانت تتساءل عما إذا كنت امثل دورا. وعلى أي حال لم ترد أن تكون هي البادئة بالاقتراب مني غير أنها اجترأت أخيرا اجتراء المرأة التي تبغي حماية هنائها فجهرت بصوتها لكي تضطرني إلى الالتفات إليها قالت لصاحبها:
- انك لعلى حق يا سيدي فهذه الصورة من أروع وأبدع الصور في الرواق كله، ولن أنسى
لك جميل تعريفي بها وإظهاري على جمالها. وإني لجد سعيدة بالمعاونة الطيبة التي جمعتني بك، وأمل أن ألقاك في باريس. . أما الآن فينبغي لي أن أعود سريعة إلى المحطة كي لا يفوت موعد القطار. لقد كان من المحال إلا اسمع صوتها، ولكني أم أتحرك حركة ولم انقل قدما ولم أكلمها كلمة. فترددت (مرغريت) لحظة ثم ابتعدت وكأنها هي أيضاً لم تبصرني (مع أن خطابها المرتفع لم يكن موجها إلا إلى) واقتفى الفتى أثرها بعد بضع لحظات كنت أثناءها ما أزال على هيئة استغراقي الذاهل غير المعقول في صورة (لادام) للرسام (فانديك) ولما ابتعدت خطوات حبيب مدان رددتيه عن الصالة واستأنفت سيري المعتاد انتابتني نوبة من الندم والألم من الصعب وصفها: إني بتظاهري عدم مشاهدة مارغريت عرفتها بجلاء بهائها ودللتها على جرمها. ولا ريب في أن أول عمل سيقوم به الفتى حين رجوعه إلى الفندق هو مراجعة قائمة النازلين فيه. وماذا بعد عثورهما على اسمي إلا أن يستخلصا أمر اكتشافي وجودهما في هذا الفندق! أن عدم التفاتي إليهما في صالة (القصر الأحمر) يعني إني لم أجد في مرافقتهما مفاجأة غريبة، وإلا كانت المباغتة دفعتني إلى بعض الحركات والإشارات وإذا فالنتيجة المنطقية هي: إني لا أستطيع أبداً الاستمرار في تظاهري أمام امرأة (شارل) إني اجهل علاقتها بعشيقها. هي تعلم إني ادري لها عشيقا وهي تدرك إني اعلم من هو جيدا ليت شعري كم ضيقة هي المسافة التي تفصل الواحد منا عن الآخر في العالم. . لقد كنت أشفق كل الإشفاق من اشتراكي في الإثم، وإذا بي الآن احشر نفسي فيه حشرا. والمجرم حين يستوثق من معرفتنا بجرمه ومن حمايتنا إياه بسكوتنا عنه، له كان الحق أن يعتبرنا متواطئين معه على الجرم لقد كان الحزم والحكمة يقضيان على أن اشترك (في الملهاة) التي دعتني إليها جملتها. فلو كنت ملتفتا إليها ببساطة، لقلت لها: أهي أنت يا مدام؟؟ حينئذ كانت تعرفني بصاحبها معلنة مصادفته في (جه ن) ولكانت أنبأت بصاحبها بذلك زوجها بكتاب كما كان في مقدوري أن اكتب أنا إليه أيضاً على حين أنها ملزمة بالسكوت أمام زوجها كيلا يناقض قولها ما لعلني أتحدث به أنا إليه (هذا إذا كان في عزمي أن أتكلم) لسوف تسمم هذه الرعونة التي ارتكبتها انا، علاقتنا إلى الأبد فهذا الحزم في غير موضعه مني هو أشد شئ يدعو إلى الاتهام. لهذا كان من اثر هذا الموقف الخاطئ. أن بات من المحال على الرد على كتاب صديقي شارل،
طيلة الأيام التي استغرقتها سياحتي. ولعلها المرة الأولى منذ طفولتنا التي لبثت فيها مدى أسبوعين دون إثباته بصحتي وأخباري أو أنبائه عن صحته وأخباره. وحين حللت باريس بقيت أسبوعين أيضاً دون أن أكلف نفسي زيارته مع ثقتي بان ذلك التغيب هو اشد مخالفة للصواب من مسلكي في رواق (القصر الأحمر) فليس من المعقول أن لا يندهش شارل من انقطاعي عن زيارته، فلا يستفسرني عن الأسباب التي كنت مصمما على كتمانها عنه، وإذاً فأي معنى لتأخري عن زيارته!
كل هذا كنت أعلله واستخلصه ولكن التفكير في إني سأشترك في قذف افحش شتيمة يمكن لرجل أن يتعرض لها في عرضه كانت تثني خطاي إلى أن كنت ذات يوم في منزلي أفكر في الوقت الذي يجب فيه استئناف علاقاتي مع أسرة (شارل) وإذا بخادمي ينبئني بان سيدة ترغب في لقائي فأمرته أن يدلها. وإذا بي ابصر (مرغريت روية) تدخل غرفة الاستقبال وكانت أول كلمة لقيتني بها (إني هالكة) ولم تزد عليها شرحا واو تفسيرا. ثم انفجرت كالمجنونة قائلة: المصادفة وضعت سري بين يديك، وأنا اعلم انك لم تش بي إلى (شارل) وبسبب هذا وحده كان انقطاعك عن زيارتنا. ولكن بين جنبيك قلبا نبيلا، يرثى لحال امرأة تعسة. . أعيد عليك القول باني من الهالكات. . . نعم وإني حامل. . . لم تكن الشقية تطلب مني الاشتراك السلبي في الآثم فحسب، بل الاشتراك الإيجابي أيضا. فلقد عادت من إيطاليا منذ ثلاثة أيام موقنة من أنها حامل لشهر. . . وينبغي لي إضافة ما أقرت به أيضاً خلال العبرات والشهقات، قالت: أنها من حين تعلقها بصاحبها أخذت تنتحل الأعذار باختلال صحتها كي تعيش بعيدة عن زوجها. ولقد تهددتها هذه الأمومة اللائمة في الوقت الذي كنت فيه أنا صديق بعلها الوفي وخله الأمين، هناك في النزل ولماذا؟ لكي اكتفى فقط بما رايته وسمعته. . . . أما هي فقد فكرت بالفرار مع عشيقها، وحاولت أن تسلكه في طريقها بأساليب شتى، لم تزدها كلها إلا معرفة بالعواطف الكاذبة التي يكنها لها ذلك الرجل حتى الانتحار فكرت فيه، لولا أن غريزة صون الحياة ردتها عن فكرتها لأجل هذا جاءت إلى في نوبة من نوبات هواجسها وهذيانها تستجدي عطفي وتستنجد رحمتي.
ماذا؟. . آه! ما أوهي ذلك الحاجز الذي يفصلنا عن الجريمة؟ لقد أتت تبتهل إلى أن أرافقها إلى طبيب لستعطفه وتتوسل إليه لماذا؟ بمساعدتها في الإجهاض. . . أراني محتاجا إلى أن
أحدثك عن جوابي ونصيحتي لها ورجائي أن تحفظ شبابها وتبقى على ذلك الطفل الذي تحمله في أحشائها؟! لقد سمعتني اردد في إلحاح:
- الأولى بك أن كنت ترجين لأمرك خلاصا أن تعترفي (لشارل) بكل ما حدث. . . وبهذا تحتفظين بطفلك وثروتك وتجدين الوسيلة إلى طلاقك ذلك خير من تحمل جريرة القتل وبينما كنت أكلمها هكذا، كانت إمارات الهدوء تعاودها قليلا قليلا فانسحبت من عندي بعد إذ أعطتني ثقتها من أنها لن تقترف جريمة الانتحار ولا قتل طفلها. وفي الغد وضعت حدا لترددي في الذهاب إلى منزل (شارل) صديقي. فلم تحن الساعة العاشرة حتى كنت عنده، بعد وثوقي من لقائه في ذلك الوقت لقد أشعرني استقباله لي بأنه كان فارغ البال من المأساة الأليمة التي كان منزله لها مسرحاً قال لي بلهجة المعاتب وهيئة المداعب.
- انك لا تستأهل مني أن أعرفك بعد الآن ما معنى هذا التصرف الغريب؟ أن (مرغريت) لم تعد من هناك بل أبت من (إيطاليا) مبتهجة بسياحتها. . .
ولكن قل لي بحقك، ما الذي حدث لك أنت؟؟ أظنها مغامرة غرامية جديدة. . لعمري أليس في نيتك الاستقرار والانتظام في حياتك. . .
ومع ذلك فالسعادة في الزواج. . . نعم وكل السرور والنعيم فيه، ثق بذلك وصدقني يا صاحبي. . أما أنا فلن أعيد عليك الأسباب التي ادعيتها لذل الزواج المخدوع تبريرا لسكوتي وغيابي عنه. . . وفي مساء ذلك اليوم كنت أتعشى معه بجانب امرأته، التي كان في وجهها الساكن الجامد ما ينم على أنها نسيت تماما نوبة الألم التي جازتها وهول الخطر الذي كان يتهددها. . . على إني فهمت أي حل حلت به عقدة هذه المشكلة المؤسية. . . وذلك إني كنت عند صديقي (شارل) بعد شهر من زيارتي الأولى، وكنا ندخن منفردين حين بدرني قائلا:
- أني لجد مغتبط يا صديقي: لقد كاد حلمي أن يتحقق فأنا أمل بعد مدة أن أغدو أبا. . . لوليد ستكون لا شك أنت (إشبينه). . .
لم تكد تمضي على هذا ثمانية شهور، حتى ولد ذلك الطفل الذي اخبرني ابوه (المدعي) عن زنته لبالغة. فقال في كبرياء وافتخار لم يخطر لي وفتئت أن اسخر منهما.
- نعم يا صديقي، انه يزيد كيلو غراما عن وزن الطفل. العادي ثم انه ولد قبل الميعاد
المنتظر لولادة الأجنة. . . ستة شهور ونصف فقط. . . أليس ذلك عجيبا!؟ لقد تملكني الخوف منه بادئ الامر، ولكن الطبيب طمأنني وهو طبيب من النوع الممتاز عرفت (مرغريت) عنوانه على سبيل الصدفة بواسطة إحدى صويحباتها لدن عودتها من (إيطاليا). . . (واحفظ عني يا صديقي. . . لقد تألمت المسكينة بالوضع اشد الألم، حتى إني لم أمل أن اصبح أباً. . . بيد أن ذلك لم يكن له كبير خطر لان الطبيب عرف كيف يعتني بها الاعتناء المطلوب. . . وبينما كان شارل يفضي إلى بسعادته الكاذبة، كنت أذوب خجلا وأملاً في نفسي. وفي الواقع لم اكن واحدا من أولئك الذين ائتمروا به حتى يثبتوا في ذهنه الوهم الفاحش الخادع الذي سيعيش ويموت على لضلاله وبطلانه؟
على إني علمت من ذلك أن مرغريت حين بارحت منزلي، ذهبت فورها إلى طبيب من الأطباء وعرضت عليه عملية الإجهاض، ولكن الطبيب نصح إلى (زبونته) المرتاعة بالعودة إلى زوجها، وبأن تزن نفسها حين تقترب ولادتها بإقناعه بتاريخ لحملها منه. . . يكون. . بعد ذلك مقاربا للحقيقة أكنت على حق أم في ضلال بعيد لعدم إفشائي الحقيقة في حينها؟؟ أمصيباً كنت أنا بالسكوت أم مخطئا؟ إني وقد تعاقبت على هذه الحادثة سنون عدة ما افتأ أتساءل وأقاول نفسي بكل هذه الأسئلة. ولكن دون أن اظفر لها بجواب. . . ترى هل أصبت أم أخطأت بغمسي في ماء (التعميد) لذلك الطفل الذي أنا اعرف الناس بابيه؟! لم تمض خمسة شهور على ولادته حتى وجدت أمه الوسيلة إلى إفساد ما بيني وبين زوجها الذي لم أجر أنا منع نزعي معه، لان التردد على ذلك المنزل كان يسبب لي كثيرا من الغصص والندامة.
ولعلك تفهم جيدا علة عدم مرافقتي لك إلى ذلك المنزل في (جه ن). أمن اللازم اعترافي أنا الآخر بان عدم حلولي في ذلك الفندق مراعاة لشعور صديقي رايموند؟. . . ومع ذاك لم انفك أسائل نفسي منذ ذلك الحين، ترى ما عساني كنت فاعلا لو أني مكانه؟! تجاه صديق صدوق، يعد الصمت عن مثل هذه الجريمة جريمة ابلغ وأنكر كما يعد إفشاؤها فظاعة ما بعدها من فظاعة.
وفي هذا، ما يبرهن على انه يجعل أحياناً أن يجهل المرء أسرار غيره أن من أمن شئ واسلم عاقبة في هذه الحياة الدنيا، أن تغمض عينك فلا ترى وتسد أذنك فلا تسمع شيئا عن
مثالب ونقائض الآخرين ذلك السبيل الأوحد كي يظل الإنسان على خالص طهره ونقائه ولكن هل ذلك مستطاع؟
حلب
كمال الحريري