الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 736
- بتاريخ: 11 - 08 - 1947
نحن والظالم أمام القضاء!
كان يوم الثلاثاء الماضي يوماً مشهوداً في تاريخ مصر؛ رددت ذكره الألسنة والأقلام في كل أرض، وستردد ذكراه الألسنة والأقلام على مدى الأحقاب في كل عهد وفي كل معهد! في ذلك اليوم وقفت مصر كلها ممثلة في النقراشي، بجانب إنجلترا كلها ممثلة في كادوجان، أمام العالم كله ممثلاً في مجلس الأمن، ندعي نحن ونثبت، وتغالط هي وتراوغ، ويوازن هو بين حجج الإنسان يبسطها لسان فيصل، وحجج الذئب يؤيدها ناب أعصل، والناس في مشارق الأرض ومغاربها يتتبعون المحاكمة ويترقبون الحكم ليرو بالتجربة أيخضع الأقوياء كما زعموا لسلطان العدل والعقل، أم يظلون كما كانوا يحافظون على الموضوع ولا يغيرون إلا في الشكل!
قضية وادي النيل قضية الحق الذي لا يمارى فيه إلا الذين يتكئون إلى الباطل، ويعيشون على الحرام، ويتسمون على الظلم؛ وقد جعلها النقراشي أداته الواضحة، وحججه الملزمة، من بدائه العقول، فلا يمكن أن تؤتى من جهة القانون والمنطق؛ إنما يجوز أن تؤتى من جهة السياسة التقليدية القائمة على تبادل المنفعة وتقارض المعونة، ويومئذ علم المؤمنون بتقدم العقل، والمتفائلون بتغلب العدل؛ إن العالم يكابد اليوم خدعة أخرى، وإن (هيئة الأمم المتحدة) لم تره إلا اسماً جديداً للاستعمار في أخس معانيه وأقبح صوره.
كان النقراشي بإجماع المنصفين عظيماً في موقفه، رائعاً في بيانه، بارعاً في خطته، صريحاً في طلبه، موفقاً في عرضه؛ فإذا لم يستطع صديقنا الأستاذ الجليل فارس الخوري رئيس مجلس الأمن أن يعصم البصائر من الزيغ، والضمائر من الخدر، فلن نقول يوم يعمى أعضاؤه عن الحق أننا أسأنا الدفاع، أو أضعنا الفرصة، أو تنكبنا الطريق؛ ولكننا سنقول تعلقنا بالخيال وتركنا الواقع، وتدرعنا بالحق وأهملنا القوة سنقول النقراشي يوم يجعلون الحق دبر آذانهم: أراهم أننا أقوياء كما أريتهم أننا محقون. وقل لهم إن شعباً كان تاجه الشمس، ولا يزال علمه الهلال، ومن بين يديه كتاب الله ينطق بالحق، ومن خلفه دول العرب والإسلام تمده بالقوة، لا يفشل من ضعف، ولا يخذل من قلة.
- ولكن ما بالك تتسلف الخذلان وتتوقع الجور وتغلو في التشاؤم وسوابق الأقضية في مجلس الأمن تقوى الثقة به وتنعش الأمل فيه؟ ألم تسمع بما قضى به على الروسيا في إيران، وعلى إنجلترا وفرنسا في سورية ولبنان، وعلى هولندا وإندونيسيا في ساحة
الميدان؟
- بلى قد سمعت. ولكن لا ننسى أن الذي تصرف كان الهوى لا القانون، وأن الذي تعفف كان العجز لا العدالة. فهم إذا اختلفوا حكموا على أنفسهم، وإذا اتفقوا حكموا على الناس!
أحمد حسن الزيات
في الماضي
للأستاذ محمود محمد شاكر
كنت أتمنى أن يكون لي مكان هذا القلم الأصم قلم حيي نابض يصحبني حيثما سرت، ويلهمه الله من دقة الحس ما يجعله يتلقف كل خاطرة تومض في أعماق نفسي، ويشعر بكل هاجس يعتلج في سر ضميري، وإلا فإن الكاتب ذا لقلم أعجز من أن يطبق لم هذا الشعث المنثال المتتابع من الخواطر والهواجس التي تنتابه وتعتريه وهو يرى أو يسمع أو يفكر. وفي هذا اليوم بعينه كنت أشد الناس ضراعة في التمني أن لو أتاح الله لي مثل هذا القلم النابض الحي حتى يأخذ عني وعما يحيط بي، ويسجله قبل أن تمسحه عن قلبي يدالدقائق والساعات التي جعلها الزمن رصداً على الأفكار تمحوها بالنسيان، أو تطمسه بالفتور، أو تعفيها بتراب الحوادث التي تجد في كل لحظة من لحظات العمر.
خرجت أنا وصديقان لي، هما الأستاذ علاّل الفاسي الزعيم المراكشي الصابر على لأواء الجهاد في سبيل بلاده، والأستاذ محيي حقيالقصاص المبدع في زمن ليس للإبداع فيهقيمة ولا قدر، وكان الذي دعانا إلى هذا الخروج فنان كهل قد ودع الصبا ولكنه تشبث بعطره ونفحاته وتوهجه، فلا تزال تشم من فنه حين يتحدث عنه شذاً لطيفاً من عنفوان الصبا والشباب، وذلك الفنان هو الصديق الأستاذ حسن فتحي المهندس الذي أبى أن يتعبد للهندسة، بل أرادها أن تكون عبداً له يخدمفنه الذي يعيش فيه ويعيش به.
كان يوم الأحد السادس عشر من رمضان سنة 1366 يوماً قائظاً ومداً يجعل العرق ثقيلاً كثيفاً يضجر النفس ويأخذ بالأنفاس، فلما ركبنا السيارة، وتخففنا من بعض ثيابنا، واستقبلتنا لفحات الهواء السخن، انتعشت القلوب ودبت فيها الحركة، على سكونها وفتورها من شدة الصيام وحاجة الأبدان إلى الماء في مثل هذا اليوم. وعندئذ بدأ الفنان يتحدث عن الوجه الذي يقودنا إليه، فطاف علينا من حديثه مثل الظل، حتى نسينا إننا في رمضان في يوم قائظ تحت الشمس. إنه ماض بنا إلى أثر عربي قديم في ناحية (بيت القاضي) يقال له (قاعة حب الدين الشافعي) وتعرف أيضاً بقاعة (كتخدا). فلما أوشكنا على دخول القاهرة القديمة شمعت روائح مصر الإسلامية، وتمثلت لعيني خوالي أيامها، ورأيت كأن هذه الجموع التي تسير في الطرقات كأنما انبعثت من الماضي البعيد بلباسها وشمائلها وآدابها
رائحة غادية تحت عين. وكان حديث الفنان يحيي هذه الصور في نفس حياة جديدة، حتى كدت إخالنيأحدثها وأسمع وجع حديثها، وأرى الثياب الفضفاضة، والعمائم البيض، واللحى المرسلة، والسمت الوقور، والمشية الهادئة، وكأن كلل شيء قد أنقلب فجأةفصار ماضياً لم تمسخه يد الحضارة الغربية الحديثة، ولم تمح من بهائه وروائه ذلك الجمال الوديع اللطيف المطمئن القانع بالحياة كما شاء الله أن تكون.
ثم نزلنا من السيارة، وفتح لناباب القاعة التي صارت في عداد الآثار، فماكادت قدمي تطأ بلاطها الضخم حتى أحسست كأن قلبي ينتفض من فجاءة الذكرى، وكأني دخلت داري التي ألفتها وعشت فيها، وسمعت في أرجائها غمغمة الحديث وقهقهة الضحكات، والتي سعيت في نواحيها طفلاً وشاباً وكهلاً حتى نشأت لها في قلبي مودة لا تبليها الغربة، ولا تطمس آثارها الرحلة في أرجاء الدنيا، وتطارح الزمن المشت الفرق بين الأحباب والأحباب. ففي هذا المكان عهدتني أجلس على أريكة موشاة بالثياب المطرزة، وأستقبل هذه (الفسقية) الجميلة التي أراهافي وسط القاعة، مزينة أرضهابالرخام الملون المرسوم على أشكال تستريح إليها العين راحة لا يعدلها شيء من متاع هذه الأرض. ومن هذا المكان عهدتني أرى تلك الحلية الهائلة التي كأنها محراب الدهر، مصنوعة منمقة، قد أجلها وأدقها الصنع الماهرالذي لم يعبأ بالزمن كيف يمضي ويتصرم، بل كانكل همه أن يتقنالفن الجميل الثابت الذي يربك الإبداع في صورةحيةباقيةتشعرك بأن الحياة هي الاستمتاع بفن الحياة لا بأشياء الحياة. ومن هذا المكان كنت أرسل طرفي إلى القبة العالية التي تتوسط السقف كأنها هامة مفكرة كل أفكارها أحلام جميلة سامية لم تتدنس بالمطامع الدنية التي يكدح في سبيلها الإنسان على أديم هذه البسيطة.
وجعل صديقنا الفنان يحدثنا وهو يتدفق من نواحيه عن روعة هذا الذي نرى وعن جلاله وعظمته، وعن هذه الضخامة الهائلة في البناء، وكيف استطاع بانيها الفنان أن يحفظ النسب بين ضخامتها وبين سائر ما في القاعة كالأبواب وغيرها حتى لايشعر الإنسان بالرهبة والمخافة والارتياع، بل يشعره بأنه مالك هذا كله والمستولي عليه والمستمتع به، فهو يروض الفخامة والضخامة حتى تكون أليفة مستأنسة محبة إلى رائيها وصاحبها، فجعل الأبواب بين بين لا تطول قامة الرجل إلا قليلاً، ولم يجعلها هي أيضاً عالية ضخمة فخمة،
فيحس المرء عندئذ بالقلة والذلة والغربة والوحشة في البيت الذي هو سكن النفس ومكان ارتياحها؛ وكنت أسمع هذا ونحواً منه، ولكن لم يأخذني منه شيء، فإني كنت أسمع همسات من هنا وهنا ومن ثم، هي همسات الآباء والأجداد تذكرني بما أضعناه من فن نحن أنشأناه وتعهدناه، وقمنا عليه وأتقنا دقيقه وجليله، ثم رحنا نستعير أشياء الناس نتشبع بها ونتصنع، على غير هدى ولا بصيرة ولا فن، وأكاد أقولولا حياة، فنحن أحياء ولا أحياء، لأننا نستعير حياتنا ولا ننشئها إنشاء، ونتزين بزينة سماوية نحن فيها كالصعلوك الأشعث الأغبر في ثياب ملك. كنت أسمع حديث الأسلاف، وأسمع في صوت صديقنا الفنان وهو يشرح ويبين بكاء وحسرات وتنهدات وآلاماً كأنه وقف يؤبن أعز أحبابه متجلداً خاشعاً بين أقوام لا يحسون ما يحسولا يشعرون ما يشعر به. إنه خليق أن ييأس، ولكنه يجاهد حتى ينتزع الأمل من بين دواعي اليأس، يريد أن يستنقذ الدرة المضيئة قبل أن تلفها الأمواج الطاغية العاتية وتذهب بها إلى حيث لا رجعة.
كنت كالمأخوذ لا أريد أن أفارق هذا الملك الذي أعيش في رحابه. إنها قاعة صغيرة، ولكنها اتسعت حتى رأيتها تشمل كل هذه الأرض المصرية لأن كلشيء فيها منتزع من طبيعة الأرض وجوها وسمائها وأيامها ولياليها واختلاف فصولها، ومن طبائع أهلها وشمائلهم ونوازع قلوبهم ومن كل شيء يقول أنا مصري عربي. وأخيراً فارقتها على رغم، ولم أدر حتى انتهينا أو انتهت بنا السيارة إلى قاعة أخرى أو أثر آخر بني بعد جيل من زمان هذه القاعة، فكان الفرق بيناً. فقد أخذ الضعف يغزو القوة، ولكن القوة أبت إلا أن تتبدى كما هي برغم هذه الطوارئ التي تنتابها أو تعمل فيها. فهاهنا أثر الضعف الإنساني إذا بدأ الإنسان يشعر بأنه غير حر وغير مريد للحرية، وإنه مروع في حياته بشيء لا يملك له دفعاً ولا رداً، فهو يتخاذل وكذلك يتخاذل فنه ويتخاذل بناؤه. وهو حائر لايدري مايأتي وما يذر، فإذا فنه حائر لا يدري ما يأتي وما يذر، وهو مختلط الإرادة، وإذا فنه مختلط يأخذ بأسبابها الأولى ولكنه لا يلبث أن يحيد عنها إلى شيء ليس منه ولا من خاص طبائعه. ومع كل ذلك فإن النفحة الخالدة لا تزال عالقة به تجعله قوة صريحة مصممة مريدة للبقاء.
ثم خرجنا إلى آخر أثر زرناه وهو (بيت السحيمي)، وهو بيت كامل - لا قاعة ولا جزء
من بيت - وأخذنا نطوف في أرجائه ونواحيه، فهذه غرف الضيوف، وهذا مصلى الرجال، وهذا مكان الطعام، وهذه غرفة استقبال النساء، وهذه غرف النوم، وهذا مصلى النساء، وكلها موزعة على مساحة الأرض في الطابق الأسفل والأعلى على نظام هندسي فيه شيء من التحرر من أسر الهندسة الدقيقة، فتكاد تشعر بأن بانيه لم يكن يبالي أن يتقيد بشيء، بل يريد أن يكون حراً طليقاً يفضي من مكان إلى مكان كما يشاء له هواه. وكنت كلما دخلت منها مكاناً أحسست بشيء فيه يناديني، فلما دخلنا القاعة الأولى هتف بي الهاتف إلى الصلاة، فقمنا نصلي، فكأني ما صليت في دار قط سوى هذه الدار. إن في روح البناء إسلامية عجيبة، فيه ورع وصدق ومحبة وتخفف من ثقل هذه التكاليف الداعية إلى الكدح والطمع والعدوان، وفيه ألفة لم أحس بمثلها قط، ولم أشعر إلا يومئذ أن أصدقائي الذين معي هم أصدقائي لا معارفي، ألقاهم بوجه وأستدبرهم بوجه، ولم أجد إلا يومئذ تلك اللذة المنعشة بالأخوة تجمع بين الرجلين على اختلاف الدار والنشأة، وخفق قلبي خفقة كأنه يقول لعلال الفاسي: مرحباً بك من أخ جمعت بيني وبينه أخوة هذا الدين النبيل الذي جعل أهله أمة واحدة فكانت خير أمة أخرجت للناس.
ومضينا نطوف بالدار العجيبة، فكأني كنت أسمع حس أهلها وهم يتنادون، وأراهم وهم يسعون وأشهد إمائهم وعبيدهم وهم يطوفون عليهم، وأرى الضيوف وهم يتسامرون. فلما دخلت غرفة استقبال النساء، ورأيت الذوق اللطيف والنوافذ عليها المشربياتالدقيقة الصنع، والخزانات القائمة في الجدران بنقشها البديع، ورأيت (الصفة) التي يلمع رخامها وتتحلى بزينةمن رسومها الدقيقة وأعمدتها القائمة كأنها ساق غانية راقصة، ورأيت ذلك الزجاج الملون بالألوان الهادئة الناعمة، وهذا الجو الساطع بالغنى والنعمة، الساكن بالوقار والطمأنينة، الناعم بالرقة والجمال؛ عندئذ أخذني مثل الحلم فرأيت ربة الدار في حليها الأنيق وثيابها الموشاة، وضفائرها المرسلة. ووجه ينير في جنبات هذه القاعة بالنبل والكرم والحفاوة بضيوفه من الأصحاب والأحباب، وسمعت حديثهن المتخافت باللفظ المرقق والصوت الناعم المنغم، وانتهت إلى ضحكاتهن الحبيبة التي كأنها ابتسامة مشرقة من وراء نقاب. رأيت الماضي ينبعث كله بفضائله ورذائله، ورأيتني أعيش ساعة أتنسم نسمات من حياة أجدها في دمي، كما يجدها كل مصري وعربي في دمي، ولكننا كدنا ننساها بطول
الترك وقلة العمل على استحيائها واستنقاذها واستعادتها، حتى نتعلم منها كيف نكون أحراراً في التعبير عن سر طباعنا الكامنة في أعماق قلوبنا وضمائرنا. إن هذا الفن الذي أوحت به حضارة لها أصول لا تزال قائمة في نفوسنا، وفي تربة أرضنا، وفي جو سمائنا - ينبغي أن ينبعث جديداً مرة أخرى بما يلائم حاجتنا، وبما يعنينا على تمييز أنفسنا بين الناس فلا ندخل في غمار حضارات الأمم التي لا يجمع بيننا وبينها وطن ولا دين ولا أدب ولا جنس ولا دم ولا شيء مما يتقارب به الناس أو يختلفون، وتمنيت عندئذ أن أفيق من أحلامي فأجدني قد رجعت إلى داري فإذا هي تنفحني بهذه النفحات التي تحيي النفس لأن فيها شيئاً من سر هذه النفس. فلما خرجنا من بيت السحيمي حقق الله طرفاً من هذه الأمنية.
لقد حملنا صديقنا الفنان إلى داره، وهي في عمارة كسائر عمارات القاهرة في ظاهرها، وهو يسكن منها شقة كسائر الشقق التي يسكنهاسائر المصريين، بيد إن المصريين يعيشون عبيداً لهذه الهندسة الغربية الغريبة عن بلادهم، ويسكنون فيها إلى أنماط من الحياة ليست وليسوا منها في شيء. أما هو فما كاد يفتح لي الباب حتى هبتتلك النفحة المسكرة من الماضي المنبعث حياً نابضاً كأحسن ما تنبض الحياة. لقد رفعت هذه الأبواب الحديثة الثقيلة ووضعت مكانها الستائر من النسيج العربي الشرقي بألوانه وتقاسيمه وفنه، ووضع مكان بعضها أبواب مشبكة، وأقيمت هنا وهنا المشربيات الدقيق، وبسطت الأرض بالبسط العربية الرسم المصرية الصنع، وهذه الأرائك والمناضد والقناديل وكل شيء يجعل البيت عربياً هادئاً مطمئناً في وسط هذه المعمعة الطاحنة الفوارة التي تسحق طباعنا، وتمسخ قلوبنا، وتحيل أذواقنا، وتجعلنا عالة على الأمم، نأخذ منها عارية لا تزيدنا حضارة بل تزيد بؤساً وشقاء وحيرة ونفوراً وقلقاً في هذه الحياة وفي هذه الأرض، وفي هذه الطبيعة التي تكتنفنا من حولنا، وفي هذه الطبائع التي تستولي على دخائلنا وضمائرنا.
هذا بيتي! هكذا قال لي قلبي، فاطمأننت وكان الصوم والتعب قد بلغا منا جميعاً، فأوينا إلى مضاجعنا، فلما قمنا إلى إفطارنا، وأضيئت القناديل (بالكهرباء) ورأيت ظلال الشبك على الجدران وطالعتني المشربية من ناحية البيت، رأيتني أحيا في هذا الغموض الهادئ بقلب جديد نابض مؤمل في الحياة، مستبشر راض عنها غير يائس منها. وتمنيت لكل مصري أن يقضي في الماضي يوماً من كل أسبوع حتى يجدد حياته، وحتى يتاح لنا بذلك أن نجدد
لأنفسنا فناً وعيشة وسيرة وحضارة ليست مسلوبة ولا منتزعة ولا مستعارة من أحد من خلق الله، بل هي فتنتنا نحن وعيشتنا نحن وحضارتنا نحن، تألفها نفوسنا وقلوبنا، ويعرفنا الناس بها وتكون علماً علينا، وتدل على أننا نصنع الفن فنجيد، ونبني الحضارة فنبدع كما أبدع آباؤنا رضي الله عنهم. يوم واحد تعيشه في الماضي وتحس أنك قد عشته وتمليت بالعيش فيه، لهو ذخيرة لا تنقد تعينك على فهم طبيعة الأرض التي تسكنها، وعلى الوصول إلى كنه ما تنطوي عليه نفسك، وهو بعث للهمة الراقدة وإحياء للقوة الكامنة، وتحرير لنا من أسر التعبد للمدنية الغربية على غير هدى وفي غير طائل. يوم في الماضي يحرر المرء من أسر الحاضر، فإذا نالت النفس حريتها فهي خليقة أن تعرف طريقها إلى تحرير أمة من استعباد أمة أخرى، أرادت أن تفرض عليها إرادتها وحضارتها معاً. ونحن مقبلون على اليوم الذي ينبغي أن تملأ فيه قلوبنا حرية مستمدة من أصولنا البعيدة، لا حرية مستعارة من الأمم المعاصرة، فلترجع إذن إلى الماضي قليلاً، ففيه المدد الذي لا ينفد والمعين الذي لا يغيض.
محمود محمد شاكر
على ثلوج (حزرين)
للأستاذ علي الطنطاوي
- 3 -
ولو استجاب لهما الكون فثبت الفلك، ووقف الزمان، لكانا أسعد سعيدين عرفتهما الأرض، ولكن هيهات. . . فالفلك دوار، والزمان سيار، والأيام لا تستقر على حال، ورب يوم يحمل محض السعادة، يتبعه يوم يحمل محض الشقاء، ورب فرح بالولادة والموت مترقب على بابه، ومسرور بالوصل والهجر متربص على أعتابه، ولو كشف للناس الغطاء لضحك باك، وبكى ضاحك، واستحالت مآتم أفراحاً وأفراح مآتم.
لقد غابا عن الدنيا في عناق لذ تهون معه الدنيا وما عليها، وتدنو به الآمال حتى لا مأمل بعده إلا أن يدوم، ولكن الدنيا لا يدوم فيها شيء.
لقد وقف هذا الطفل الجبار، الذي ولد بلا حمل، ونما بلا زمن، يعبث بهما، هذا الطفل الذي اسمه الحب. . . فلما شبع من العبث، نام، وترك الفتاة لشياطين اللهو والترف والغنى تلعب بها، كما تلعب بكل فتاة في الدنيا، نام في صدرها الحب أو شبع.
ولقد كانت تستطيع أن تجمع الحب والغنى، والعاطفة والمال، لولا أن هذا الطفل كان (على جبروته) أعمى لا يبصر، أمسك بيد ليلي فانقادت له وهي لا تشعر، ثم جرها وهو يتلمس طريقه في الظلام حتى إذا وقعت يده على أول رجل لقيه، عقد قلبها بقلبه، عقداً شيطانياً بلا شرع ولا عقل، وقال لها: هذا هو الحبيب.
وكان أول رجل لقيه هاني، هاني الذي لا يستطيع أن يصعد إليها ليعقد له عليها عقد الشريعة والعرف، ولا تقدر أن تنزل هي إليه، ولولا أن سيدي الشيخ رحمه الله أشفق عليه فحمله معه، ما علقت به ولا علق بها، ولا كان هذا القيد الذي ألقاهما معاً في جحيم الدنيا.
أفرأيت كيف يعلق القدر سعادة الناس وشقاءهم بأوعى الأسباب؟.
حكمة إلهية تخفى عن إفهام البشر!
هذا هو الحب: ثوب براق تحمله المرأة وتمشي حتى تلقى رجلاً، فتخلعه عليه فتراه به أجمل الناس، وتحسب أنه هو الذي كانت تبصر صورته من فرج الأحلام، وتراها من ثنايا الأماني.
مصباح في يد الرجل، يوجهه إلى أول امرأة يلقاها، فيراها مشرقة الوجه بين نساء لا تشرق بالنور وجوههن، فيحسبها خلقت من النور وخلقن من طين، فلا يطلب غيرها، ولا يهيم بسواها، لا يدري أنه هو الذي أضاء محيّاها بمصباح حبه.
خدعة ضخمة من خدع الحياة، خفيت عن المحبين كلهم من عهد آدم إلى هذا اليوم.
هذه هي حقيقة الحب، فلا تسمع ما يهذي به المحبون!
لقد قبضت ليلى على الحاضر، وهي عند الصخرة، واطمأنت عليه ففكرت في المستقبل، فقالت لهاني:
- ماذا تنتظر يا هاني! اذهب فاضرب في الأرض وعد إليّ غنياً قوياً، فاحملني معك إلى حيث تشاء.
- قال: كيف أفارقك يا ليلى؟ كيف أعيش بعيداً عنك وأنت حياتي؟ ولكن تعال نذهب معاً.
ولو سمعت هذه الكلمة قبل لحظات، قبل أن يشبع هذا (الطفل الجبار) وينام، لوثب قلبها إلى لسانها ليقول نعم، ولانطلقت معه إلى البحار لتخوضها، والجبال لتقطعها، ولكنها سمعتها والحب شبعان نائم، فقالت له:
وكيف نعيش يا هاني؟ ومن أين ننفق؟ أنام على بلاط الشارع؟.
وتصور هذا المصير الذي لا يرضاه لها، فذابت كبده رقة عليها، وقال لها:
- إذن أبقى معك، وأحتمل كل شيء من أجلك.
وسكتا، وتكلم في أذنها شيطان اللهو والترف، وغمز فؤادها فنظرت تحتها، فرأت أضواء تلمع في أوائل الليل تبدو من (عاليه) من بيت فارس أفندي طنوس الذي عاد إليها من أمريكا وفي جيبه نقد جديد لم يألفه أهلوها، وعلى جسده ثياب لم يلبسوها، وفي رأسه أفكار لم يعرفوها، ولمحت بريقاً وحركة فعلمت أنها حفلة من حفلاته الراقصة التي أرقصت أحاديثها صبايا الجبل وشبابه، وأغضبت مشايخه وكهوله، فاستطارت قلبها الرغبة في رؤيتها، وقالت:
- هذا ما أبتغي، هذا ما أريد، فتعال، تعال نرها من قريب وسحبته من يده وانطلقت به، يقفزان كغزالين روعهما الصياد، لا يشعران بقسوة الحجر، ولا بصعوبة المنحدر، ولا يبعد الطريق، حتى وصلا (عاليه) وكانت دار فارس أفندي التي بناها على الطراز الأمريكي
أول دار فيها. فوقفا على صخرة أشرفا منها على الدار، وطفقا ينظران.
رأيا الأبهاء قد حفلت بنساء يلبسن الثياب الكواشف من الحرير، ورجال يلبسون السراويل الضيقة من (الجوخ)، وهم يرقصون متخاصرين حيناً متباعدين حيناً، ينقلون الخطى على رنات العيدان، وسجحات المزامير، ورأت الرجال يأخذون بأطراف أنامل الفتيات وهم يحنون لهن رؤوسهم، ويبدون إعجابهم فتخيلت نفسها في هذا النعيم، وتصورت هؤلاء الرجال ذوي السراويل الأمريكية الضيقة ينحنون لها، وقابلت في أعماق سرها بينهم وبين هاني، ثم طردت هذا الخاطر، وأبعدته عن حسها وحسبت أنها تخلصت منه، لم تدر أن (السوسة) بدأت تنخر جذع السنديانة الضخم!
- قالت: هلم ندخل.
- قال: ومن أين ندخل يا ليلى؟
- قالت: أريد أن ندخل. أريد أن ندخل
وألحت إلحاح الولد المدلل، فأطاعها، وهل يخالف العاشق معشوقه؟ إنه لا يستحق اسم العاشق حتى يرى كل نزوة للمعشوق حكمة بالغة، وكل رغبة فرضاً لازباً، وكل نقيصة كمالاً ما بعده كمال.
وتسلق الجدار، وهبط بها، فلم تكد تستقر على أرض الحديقة، حتى أحس بها كلبان كأنهما ذئبان، فوثبا إليها فأنشبا فيها أنياباً من حديد، ولم يستطع هاني دفعهما عنها، وأسرع القوم إلى الصوت، فرأوا المشهد، رأوا فتاة ناضرة الصبا، نقية الثياب، وفتى قذراً، فحملوها مكرمين، وأمروا الخدم بالقبض على (اللص)، فأمسكوا به ونزلوا عليه ضرباً حتى هدوه. . .
ثم جاؤوا به إلى البهو، وكانت على كرسي والخادمات يعالجن جروح قدميها، فاقترب منها فسألها أن تعود معه، فاعتذرت بعجزها، وزجره القوم، فقام بينهم فاستنزل اللعنة عليهم، وأوعدهم أنه سيرجع فيهدم هذه الدار على رؤوسهم، وبصق على الأرض وذهب. وبقيت هي في الدار التي كانت تحن إليها.
لا، لا تلمها إن فكرت في الترف، ومدت عينيها إلى متع المال، وهي عند الصخرة. محراب الحب الأقدس، وجرت هذا البلاء على حبيبها، فإنه لابد للحبيبين من مشغلة فإن لم
يجدها، وظلا متعانقين العمر كله والحب بينهما، فإنه يختنق.
وكيف يعيش الحبيبان إن اقتصرا على حديث الحب؟ وهل في لغة الحب إلا: (أحبك) و (أحبك)؟ كررها عشرين مرة تتم. . . وهل في دنيا الحب غلا العناق والقبل؟ فهل تمضي الحياة تقبل وتعانق؟ ألا تمل؟ ألا تكل؟ ألا تجزع، ألا تجوع؟ ألا تظمأ؟ إن حياة كهذه خير منها السجن، وأحلى منها الموت، وأولى بالعاشق أن يفر منها ولو إلى سقر.
ذاقت ليلى في هذه الدار لذة الغنى، وعرفت متعة الترف، واستمرأت الرقص والغناء، وتخطرت في الثياب الغاليات، وأصغت إلى حفيف الحرير من أردانها، وإلى منمقات الألفاظ من القوم العلية من حولها، فتملك شيطان الترف روحها فأفسدها كما تفسد جراثيم السل أجساد الأصحاء، وشغلها بفقاقيع البحر من جواهره، وأبداها لها تلمع في أشعة الشمس فحسبتها أكرم من الجواهر وأغلى، وزاغت من بريقها عيناها فلم تعد ترى وجه الحب، ولم تعد تذكر الحبيب، ولبثت شهراً كاملاً تتقلب في الحرير، وتمشي على الذهب وهو ينام على الجمر، ويخطو على الشوك، حتى تم شفاؤها ولم يبق بد من عودتها إلى المنزل، فحملتها العربة الفخمة، تجرها الجياد المطهمة حتى بلغت بها الباب، فنزلت منها، وأقبلت على دنياها التي لم تكن تعرف غيرها ولا تطمح إلى سواها، فرأتها ضيقة مقفرة، وأحست بأن قلبها قد بقى في تلك الدار، فتمسكت بأسعد (ابن فارس أفندي) الشاب المهذب الأنيق الذي رافقها إلى منزلها، تتذكر به الشهر الذي مضى كأنه رؤيا منام.
وإنها لفي هذا الشعور، وإذا بهاني قد وقف أمامها بثيابه الوسخة ثياب الإسطبل، فابتعدت عنه، وضمت إليها ذيل ثوبها الأبيض، ولم تكن تعرفه من قبل إلا في هذه الثياب، ولكن الحب كان (صابوناً) يزيل اوضارها، وطيباً يذهب ريحها، وصبغة زاهية تفيض عليها، فأين الحب الآن؟ إنه نائم لم يفق بعد في قلبها، لذلك أنكرت هذه الثياب، وفرت منها، وأبدت الترفع والاستعلاء، ولم تذكر إلا إنها ابنة صاحب القصر، وأنه صبي لقيط سائس خيول يقابل أدبارها، ويرفع أقذارها، وتألمت لدخوله عليها أمام أسعد، ورأت في ذلك صغاراً لها في عينه وخاف أن يظن أنها ليست من طبقة الأكابر المتمدنين. . .
غضبت لعدوان هاني على كرامتها، وتخطيه قدره إلى محاذاتها، ولم ير هو فيها إلا الحبيبة قد لبست هذه الثياب التي تكشف مفاتنها التي يعبدها، وأبدت أعضائها التي يقدسها، لغريب
عنها، فغضب للحشمة الجبلية أن يذهب بها هذا التكشف، وللحب أن يهينه هذا العبث، وقال لها:
- ما هذا؟
- قالت: وأنت من أذن لك أن تدخل عليّ؟
- قال: أنا. . . من أذن لي. . . يا ليلى؟
- قالت: لا أسمح لك أن تناديني باسمي لقد عدوت حدّك.
ودخلت الخادم فقالت لهاني:
- أمسك عربة أسعد أفندي.
- فصاح بها: ليمسكها هو.
وخرج مغضباً.
وقال أسعد: أنا لا أفهم ما صبرك على هذا الخادم القذر.
الخادم القذر؟ لقد كانت هذه الكلمة صرخة عالية أيقظت الحب النائم، فقالت له:
- أنا لا أسمح لك، إنه صديقي، لا أسمح لك، أخرج من داري، أخرج.
وتركته حيران مشدوهاً، وانطلقت إلى (صخرة الملتقى).
(البقية في العدد القادم)
علي الطنطاوي
2 - حجة تاريخية
للدكتور جواد علي
لم يتمكن الغزاة أو المهاجرون الجدد من احتلال كل فلسطين فظل ساحل (فلسطية) بأيدي الفلسطينيين الذين جاءوا إلى هذا المكان مكن الخارج. ويقال إن أصل هؤلاء من (جزيرة كريت) وقد نزلوا في أيام الكنعانيين. وظلت أماكن أخرى بأيدي أصحابها القدماء، وقد كان الكنعانيون على ما جاء في التوراة منقسمين إلى أحد عشر سبطاً أو أكثر وكان من أشهرهم (اليبوسيون، والعموريون، والجرجاشيون والجوبون والفرذيون والعرقيون والسينيون والإرواديون والصماديون والحماثيون.
وقد اشتركت كل هذه الأسباط في مقاومة العبرانيين واتحدت مع الإمارات الأخرى في طرد العبرانيين وفي الدفاع عن أرض فلسطين من هجمات الأمم القوية كالآشوريين والبابليين. وقد عثر في هيكل الكرنك في أرض الصعيد على جدول مثلث لمدن كنعان يتضمن ذكر 1118و119 مدينة يظن أنها المدن التي افتتحها (تحتمس الثالث) قبل أيام يشوع أي قبل مجيء الإسرائيليين.
كان الإسرائيليون على جانب عظيم من البداوة عند دخولهم (أرض كنعان) وكانوا في درجة واطئة من الحضارة والثقافة بالنسبة إلى الكنعانيين ولذلك تأثروا عند مجيئهم إلى هذه الأرض بالثقافة الكنعانية ولا سيما أولئك الذين قيل لهم (الإسرائيليون) وهم الذين سكنوا في الشمال واتصلوا في بالفينيقيين وتأثروا بهم وعبدوا الإله (بعل) بدلاً من إلههم (يهود) إله التوحيد. أما أولئك الذي سكنوا المنطقة التي عرفت فيما بعد باسم (مملكة يهودا) فإنهم ظلوا على فطرتهم الأولى وعلى جانب من البداوة وقد كان هذا الاختلاف الثقافي من عوامل الانقسام الذي حدث في أيام الملك (رحبمام).
قيل لليهود (العبرانيون) وفي اللاتينية وقد أخذت هذه الكلمة من (عبراية) الآرامية. وهذه من (عبرى). أو (عبريم) الواردة في التوراة والتي كانت تطلق بصورة عامة على (بني إسرائيل) ' أي (أبناء إسرائيل).
وقد أطلق الكنعانيون كلمة (العبرانيين) على المهاجرين الذين كانوا يدعون أنهم من صلب (إبراهيم)(إبرام) لتكون لهم علامة فارقة ولتدل على إنهم من الشعوب الغريبة الطارئة
على الكنعانيين.
أما النظرية اليهودية فتقول أنهم إنما سموا (عبرانيين) لعبورهم نهراً أو لقطع حد (أي عبورهم من جهة إلى جهة أخرى. . . عبرها - ناهار) - أي (عبور النهر إلى الجهة الثانية منه) ويظن إن المقصود من (النهر) نهر الفرات الذي عبره عند (حاران)
ويقال للأرض التي خرج منها إبراهيم وناحور (آرام النهرين) - ويرى العالم (سايس) أن معنى الكلمة (تجار) لأنهم كانوا يعبرون نهر الفرات لأغراض تجارية).
ويرى بعض العلماء أن كلمة (عبرانيين) من (عابر) وهو حفيد (سام بن نوح). ولعابر على ما جاء في جدول أنساب التوراة أولاد ولهؤلاء أولاد أيضاً وقد تكونت من ذريتهم قبائل وعشائر. ويرى بعض علماء التوراة أن هذه الأسماء هي أسماء مواضع جغرافية تقع فيها بين النهرين وأن الموطن الأصلي التي انحدرت منه الشعوب السامية هو منطقة (أرآرات) انحدرت منه إلى شمال العراق ثم إلى الجنوب فسائر الأنحاء.
على كل فقد رأيت أن موطن العبرانيين على ما جاء في التوراة وهو كتاب اليهود المقدس كان خارج فلسطين وأن (إبراهيم) الخليل وهو الجد الأعلى للعبرانيين لم يكن من أهل فلسطين بل كان من العراق على ما جاء في التوراة ثم انتقل إلى أرض كنعان فسكن بين الكنعانيين حيث تكونت له ذرية. ثم استرق المصريون الإسرائيليين إلى أن تمكنوا من الخروج من مصر بزعامة (عيسو) حيث اتجهوا نحو الشرق إلى أراضي كنعان.
وتفند أسفار التوراة دعوى اليهود في أرض كنعان أو (أرض فلسطين) كما دعيت فيما بعد. فسكانها القدماء على ما جاء في التوراة هم الكنعانيون وذلك قبل مجيء العبرانيين بآلاف السنين. واليهود حسب رواية اليهود هم مهاجرون جاءوا إلى أرض فلسطين وعاشوا مدة عيشة (عشائرية) إذ كان يحكم كل عشيرة منهم (قاض) هو شيخ العشيرة وحاكمها؛ ولذلك عرف الدور الأول من أدوار اليهود في فلسطين باسم (دور القضاة).
وأما الذين جاءوا من مصر وهم من نسل (يعقوب) فإنهم كانوا قد استعبدوا في أيام الفراعنة بعد أن غادر (يعقوب) أرض فلسطين ونزح إلى مصر حيث تكاثرت ذريته هناك وتولوا مراكز سياسية ولم يفكروا في العودة إلا بعد أن ساءت حالتهم هناك وبعد أنم استرقهم الفراعنة؛ عندئذ فكروا في الهجرة إلى مكان جديد فلم يجدوا محلاً آمناً غير فلسطين وقد
جاءوا بعدد قليل وعلى دفعات فلم يتمكنوا من الدخول إليها عنوة ولم يتمكنوا من قهر أهل أرض كنعان والتغلب على الكنعانيون ويظهر ذلك بكل وضوح من أقوال التوراة.
ووردت في التوراة بعض الشهادات التي تفند مزاعم الصهيونية تماماً فما ورد فيه إن الشعب الذي يسكن في هذه الأرض كان على جانب عظيم من الحضارة وأن العبرانيين كانوا على العكس على جانب كبير من البداوة. (ومتى أتى بك الرب إلهك إلى الأرض التي خلف لآبائك إبراهيم وإسحاق ويعقوب أن يعطيك إلى مدن عظيمة جيدة لم تبنها وبيوت مملوءة كل خير لم تملأها، وآبار محفورة لم تحفرها، وكروم وزيتون لم تغرسها؛ وأكلت وشبعت، فاحترس لئلا تنسى الرب الذي أخرجك من أرض مصر من بيت العبودية).
فهذه شهادة عبرانية واردة في أقدس واقدم كتاب عند العبرانيين وهو الكتاب الذي استشهد به اليهود في إثبات حقهم في فلسطين؛ هي شهادة تتكلم بكل وضوح عن بداوة العبرانيين وانحطاطهم بالنسبة إلى (الكنعانيين) سكان فلسطين القدامى.
وهناك شهادة أخرى تلفت الأنظار حقاً وهي تشرح لنا حالة اليهود عند محاولتهم الدخول إلى فلسطين ودرجة انحطاطهم وحالتهم البدائية وقلة عددهم كذلك ومقدار تفوق الشعوب الأصلية على اليهود. فها هو إله إسرائيل يخاطب (موسى) فيقول (أرسل هيبتي أمامك وأزعج جميع الشعوب الذين تأتي عليهم وأعطيك جميع أعدائك مدبرين، وأرسل أمامك الزنابير فتطرد الحوبين والكنعانيين والحثيين من أمامك، لا أطردهم في سنة واحدة لئلا تصير الأرض خربة فتكثر عليك وحوش البرية، قليلاً قليلاً أطردهم من أمامك إلى أن تثور وتملك الأرض. فهذه شهادة تشرح حالة اليهود عند مجيئهم إلى فلسطين وقلة عددهم وانحطاط مستواهم الثقافي والمدني بالنسبة إلى شعوب فلسطين وهي شهادة لا تصلح أن تكون حجة في صالح اليهود.
لم يتمكن اليهود من تثبيت أقدامهم في المناطق التي استولوا عليها من فلسطين إلا بعد مدة طويلة ولم يكن ذلك إلا بعد اتخاذ طرق مختلفة منها التزاوج ومناه التبشير بالديانة اليهودية ولم يتمكنوا من تشكيل حكومة بالمعنى الحديث المفهوم من كلمة (دولة) إلا لمدة قصيرة جداً وتحت عوامل ضغط شديدة؛ ولم تعمر هذه الدولة طويلاً بل عاشت منذ عهد (شاوؤل) في
سنة 1020 قبل المسيح وهو أول ملك تولى الملك عند العبرانيين وانتهت مع حكم سليمان حوالي سنة 930 قبل المسيح أي أنها عاشت فقط بجهود شاوؤل وداود وسليمان. فلما مات سليمان وانتقل الملك إلى ابنه (رحبمام) وكان ضعيفاً انقسمت المملكة إلى قسمين مملكة يهوذا ومملكة إسرائيل.
هذا هو عمر الدولة العبرانية الموحدة التي يتغنى بها الصهيونيون. ومما يستحق الالتفات كذلك أن ملوك هذه الدولة لم يكونوا ليتمكنوا من تكوين دولتهم هذه لولا المساعدات الخارجية التي كانت تصل إليهم من الأمراء الفلسطينيين عن طريق التقرب والصداقة. فهذا (داود) وكان من قواد الملك شاوؤل ينتهز الفرصة فيتحالف مع ملوك الفلسطينيين للإيقاع بالملك شاوؤل ليتولى بنفسه الحكم، فلما تولى الحكم لاقى مصاعب كبيرة في سبيل التوفيق بين (إسرائيل) ويهوذا، لما كان بين الطرفين من تباعد بسبب الاختلاف في درجة الثقافة والحالة الاجتماعية؛ ولم يتمكن داود من تعمير قصره في القدس إلا بمساعدة الفينيقيين والفلسطينيين بل حتى والعرب الذين كانوا على اتصال باليهود كما يفهم ذلك من التوراة وكذلك في أيام سليمان.
وإذا استعرضنا تاريخ المملكتين الصغيرتين اللتين تكونتا فيما بعد نجد أن العبرانيين لم تكن لديهم فكرة (حكومية) بل كانت عندها فكرة (دينية) هي الغالبة على كل شيء وكانت هي من عوامل انقسام العبرانيين كذلك. ولذلك نجد قتلاً واغتيالاً وثورات على الملوك وطلب نجدات من الأمراء الوطنيين ومن الحكومات التي كانت في العراق أو في سوريا أو في مصر للاستعانة بها على محاربة ملوكهم. وكان رجال الدين في طليعة الثائرين على الحكام عند ظهور أقل شيء منهم يدل على أنهم يريدون الانتقاص من نفوذهم أو ميلاً إلى التجدد أو الأخذ بأساليب الثقافة التي كانت عند الكنعانيين أو الفينيقيين، حتى آل ذلك إلى سقوط مملكة إسرائيل وعاصمتها (السامرة) سنة 722 ثم سقوط القدس على أيدي البابليين سنة 586 قبل الميلاد.
جواد علي
الخلان والزمان
بين أبي فراس والبارودي
للأستاذ محمد محمد الحوفي
تمهيد:
1 -
نفسية الأديب هي الشاعرة أو الناثرة؛ فهي أحق بالدراسة حين تريد أن تفهم الآثار الأدبية للشاعر أو الكاتب.
2 -
المقارنة المفصلة الشاملة بين الآثار الأدبية طريقة طريفة مشوقة، تميز الجيد من الرديء، وترينا نوع العلاقة بين الأديب اللاحق والأديب السابق.
3 -
وعن طريق هذا الأدب النفسي المقارن، سنعمد إلى تفهم أبي فراس والبارودي إذ وجدنا بينهما تشابهاً عجيباً في نواح كثيرة.
4 -
أبو فراس الحمداني: من آل حمدان ملوك حلب، ولد 320هـ وتوفى 357.
ومحمود سامي البارودي: من سلالة المماليك بمصر، ولد 1255هـ وتوفي 1327.
الخلان
تركت أبي طفلاً وكان أبي
…
من الرجال كريم العود ناضره
هذا بيت لأبي فراس، وهو صورة لقلب آس دامع، ودليل على يتم مبكر شعر بهوله ذلك اليافع؛ فماذا عسى أن يكون هذا اليتم في نفس أبي فراس وفي تفكيره وفي عبقريته؟
خلفه أبوه في الثالثة من عمره، فشب أبو فراس في حضانة أمه، وتلقن منها ذكريات العزة والبسالة التي آثرت عن أبيه.
وما ظنك بطفل أول ما يدرك يعرف أن أباه إنما عاش محارباً ومات محارباً! إن هذا الناشئ لابد أن ينطبع على شيعة أبيه فينشأ بازلاً باسلاً، ولا سيما أنه في بيئة بني حمدان، وطابعهم كلهم النزال والصيال.
ثم ما ظنك بصبي يتيم ينشأ في وسط أبناء عمه من الأمراء الذين لم ييتمهم الزمان؟ إنه يرى هؤلاء الأبناء من حوله مدللين مكرمين مغمورين بعطف آبائهم، محظوظين برعايتهم، ويرى الناس يجاملون أولئك الأبناء، ويعطفون عليهم؛ رعياً لمكانة آبائهم، وتزلفاً لهؤلاء
الآباء الأمراء.
أما أبو فراس فمن يعوضه عطف أبيه، وأي الناس يلاعبه ويناغيه، في حين أن لا أب له يتزلف إليه الناس بالعطف على ابنه.
وإذن فقد نشأ أبو فراس شاعراً بنوع من النقص - والشعور بالنقص أول مراتب الكمال - فلابد أن تدفعه الطبيعة إلى استكمال ما نقص، فينشأ فارساً أي فارس.
ولابد كذلك أن يعتز بكرامته وشرفه، ويفخر بنفسه وأهله وأبيه حتى إنك تراه لا ينسى هذا الفخر، وإن كان يعاني كرب الأسر.
فها هم أولاء آباؤه مغاور، يقدمون حين يحجم القساور، ومن ورائهم شهب ثواقب، وهو أثقبهم شهاباً، وأحماهم ضراباً:
أنا ابن الضاربين الهام قدما
…
إذا كره المحامون الضرابا
ألم تعلم ومثلك قال حقا
…
بأبي كنت أثقبها شهابا
وها هو ذا يستحث سيف الدولة على فدائه، بأنه نسيج وحده في المعالي، وفي الذود عن حمى أسرته:
متى تخلف الأيام مثلي لكم فتى
…
شديداً على البأساء غير ملهد؟!
فإن تفتدوني تفتدوا لعلاكم
…
فتى غير مردود اللسان ولا اليد
يطارد عن أحسابكم بلسانه
…
ويضرب عنكم بالحسام المهند
ثم يستحثه بأن الإسلام لا يستغني عن حراسته:
فإن لم يكن ود قريب نعده
…
ولا نسب دون الرجال قراب
فأحوط للإسلام ألا يضيعني
…
ولي عنك فيه حوزة ومناب
وهو يقرع عشيرته بأنه بازلها الذي يحميها، وهو ذؤابة أشرافها وأعاليها:
تمنيتم أن تفقدوني وإنما
…
تمنيتم أن تفقدوا العز أصيدا
أما أنا أعلى من تعدون همة
…
وإن كنت أدنى من تعدون مولدا
وهو سيد قومه وعمدتهم:
منعت حمى قومي وسدت عشيرتي
…
وقلدت أهلي من هدى القلائد
خلائق لا يوجدن في كل ماجد
…
ولكنها في الماجدين الأماجد
وإنه في أسره ليحزنه أن تمر به الليالي آمنة ساكنة لا يغير فيها ولا يجير:
تمر الليالي ليس للنفع موضع
…
لدي ولا للمستقين جناب
ولا شد لي سرج على ظهر سابح
…
ولا ضربت لي بالعراء قباب
ولا برقت لي في اللقاء قواطع
…
ولا لمعت لي في الحروب حراب
وهكذا نجد ديوانه مليئاً بشعر الفخر والاعتزاز بالكرامة، وهذا كما قلنا طبيعة نشأها فيه اليتم المشعر بالنقص، الحافز إلى الكمال.
وقد جر أبو فراس البلاء على نفسه بسبب عبقريته الحربية: فالناس في كل زمان يحقدون على العباقرة، ويتمنون لهم كل فاقرة. وإن عشيرة أبي فراس وأقرانه ليعجبون! ما لهذا اليتيم يبز أبناء عمه ممن تربوا في رعاية آبائهم، وتلقوا عنهم دروس النزال والصيال، ثم ما له يخنق صيتهم بصيته، ويعفى على آثار سيوفهم بصليته، مع أنه - إلى يتمه - ليس أغناهم مالاً؟!
لابد إذن أن يأكل الحقد صدور هؤلاء الناس، وأن يفرحوا بكل سيئة تصيب أبا فراس.
كما جر أبو فراس على نفسه البلاء بسبب فخره وتعاليه، وغلوه في اعتداده بنفسه، فالناس إن حقدوا على العباقرة فهم أحرى بالحقد على المتحدثين عن أنفسهم، الفخر بأعمالهم وأحسابهم، ولا سيما إذا كان الفخر من مثل أبي فراس، هذا اليتيم الذي لم يسمع من أبيه كلمة مجد أو عزة، وأي الناس لا يحقد عليه، ولم يدع لغيره فضلاً، وكرر دعواه بأنه سيد عشيرته، وألمع شهاب في سماء أرومته.
وقد كان أسر أبي فراس محكاً ميز أصدقاءه الأوفياء من غيرهم فقد حسب الذين كانوا يدارونه أن لا فداء له، ولا غناء فيه، فكشفت هذه الشدة خفاياهم، وكذبت ألسنتهم ومراياهم.
وبعد:
فليس بدعاً من أبي فراس بعد ما قدمنا أن يشغل بالتحدث عن الصداقات والصحاب والحساد والمرائين، في كل مناسبة، ولا سيما مدة أسره. وقد قرر هو بعد التجربة أن الدنيا خلو من الصديق الوفي الذي يرضيك ما ظهر منه وما خفي.
وها هو ذا قد خبر أصحابه، فرأى أنهم كلهم عبيد المنفعة، وأنهم يضرون ولا ينفعون، حتى أصبح الخليل هو من يبتعد عنك حتى لا يضرك:
تناساني الأصحاب إلا عصيبة
…
ستلحق بالأخرى غداً وتحول
وإن الذي يبقى على العهد منهم
…
وإن كثرت دعواهم لقليل
أقلب طرفي لا أرى غير صاحب
…
يميل مع النعماء حيث تميل
ومنها ترى أن المتارك محسن
…
وأن خليلاً لا يضر خليل
تصفحت أقوال الرجال فلم يكن
…
إلى غير شاك في الزمان وصول
أكل خليل أنكد غير منصف
…
وكل زمان بالكرام بخيل؟!
والناس في نظره ذئاب في ثياب فلا تتخيل أن كل الملاطفين صحاب
بمن يثق الإنسان فيما ينوبه
…
ومن أين للحر الكريم صحاب
وقد صار هذا الناس إلا أقلهم
…
ذئاباً على أجسادهن ثياب
وهو يتحسر في أسره على صاحب فرد، لا يريم عن وده، وإن تتنكر الزمان وأشتد:
أما ليلة تمضي ولا بعض ليلة
…
أسر بها هذا الفؤاد الموجعا
أما صاحب فرد يدوم وفاؤه
…
فيصغي لمن أصغى ويرعى من رعى
وفي كل دار لي صديق أوده
…
إذا ما تفرقنا حفظت وضيعا
وليس بدعاً كذلك من أبي فراس وقد شام الغدر في الناس أن يكون أول ما يمتدح به الوفاء، فها هو ذا يقول لصاحبه أبي الحصين وقد كان من أوفيائه:
أبا حصين وخير القول أصدقه
…
أنت الصديق الذي طابت مخابره
أين الخليل الذي يرضيك باطنه
…
من الخليل الذي يرضيك ظاهره
وكذلك يمتدح نفسه بأنه يسار صديقه بعيبه، ويجهر أمام الناس بفضله وحبه:
وإذا وجدت مع الصديق شكوته
…
سراً إليه وفي المحافل أشكر
ويقول لأبي زهير ابن عمه:
ابن عمي إني على شحط دار
…
والقريب المحل غير قريب
صادق الود خالص العهد أن
…
س في حضوري محافظ في مغيبي
وفي توديع أبي الحصين صديقه يقول:
يا من أصافيه في قرب وفي بعد
…
ومن أخالصه إن غاب أو شهدا
أضحى وأضحيت في سر وفي علن
…
أعده والذي إذ هدني ولدا
وليس معيار الصداقة عند أبي فراس وعند أحرار الناس، أن يغدق الصديق على صديقه عطاياه، أو يمطره إطراء عندما يراه ولكن هو الذي يصون الغيب، ويصفو على البعد والقرب، والأصدقاء بهذا المعنى أعزاء قلة؛ ومن ينبئك عن حقيقة الصحاب غير أبي فراس وقد خبرهم:
أعيا على أخ وثقت بوده
…
وأمنت في الحالات عقبى غدره
وخبرت هذا الدهر خبرة ناقد
…
حتى أنست بخيره وبشره
لا أشتري بعد التجارب صاحباً
…
إلا وددت بأنني لم أشره
ويجيء طوراً ضره في نفعه
…
جهلاً وطوراً نفعه في ضره
وأحب إخواني إلي أبرهم
…
لصديقه في سره أو جهره
وإنه ليعرف الصداقة والعداوة تعريفاً جديداً استمده من تجاربه، كما يعرف (القريب) و (الغريب):
أشد عدو بك الذي لا تحارب
…
وخير خليلك الذي لا تناسب
لقد زدت بالأيام والناس خبرة
…
وجربت حتى هذبتني التجارب
فأقصاهم أقصاهم من إساءتي
…
وأقربهم مما كرهت الأقارب
ولا أنس دار ليس فيها مؤانس
…
ولا قرب أهل ليس فيهم مقارب
وتبعاً لهؤلاء الحساد الكلاب، يتلفتون ليتأكدوا أن أبا فراس غاب، ثم يسلقونه بألسنة حداد؛ ولكنه يعتبر هذا شرفاً له؛ فإنما يحسد ذو النعمة:
ومضطغن لم يحمل السر قلبه
…
تلقت ثم اغتابني وهو هائب
تردى رداء الظل لما لقيته
…
كما يتردى بالغبار العناكب
ومن شرفي ألا يزال يعيبني
…
حسود على الأمر الذي هو عائب
رمتني عيون الناس حتى أظن - ها ستحسدني في الحاسدين الكواكب
ولست أرى إلا عدواً محارباً
…
وآخر خير منه عندي المحارب
فهم يطفئون المجد والله واقد
…
وهم ينقصون الفضل والله راهب
ويرجون إدراك العلى بنفوسهم
…
ولم يعلموا أن المعالي مواهب
وقد كان حرصه على غيظ الحساد مشجعاً له على تجلده في الأسر:
وإني لمجزاع ولكن همتي
…
تدافع عني حسرة وتغالب
ورقبة حساد صبرت اتقاءها
…
لها جانب مني وللحزن جانب
(يتبع)
محمد محمد الحوفي
العلاقات الدبلوماسية الجديدة بين إندونيسيا وهولندا
(بمناسبة عرض القضية على مجلس الأمن)
للأستاذ محمد جنيدي
في 17 أغسطس سنة 1945 - أعلن الإندونيسيون استقلالهم السياسي التام وقيام حكومة جمهورية ترعى كيان الوطن. وتحفظ حقوق الشعب. وانتخب الزعيم الإندونيسي الشهير الدكتور سوكارنو رئيساً للجمهورية. ثم ناشد الدول العظمى الاعتراف بها كدولة مستقلة ذات سيادة تامة.
إذن. . . لقد دخلت إندونيسيا في عهد جديد. فقد تحررت من الحكم الهولندي ومن الاحتلال الياباني.
وفي شهر سبتمبر سنة 1945 - تدفقت القوات الإنكليزية التي تمثل القوات المتحالفة إلى إندونيسيا لتجريد أسلحة القوات اليابانية وتسريح المعتقلين الأوربيين. وتولى قيادتها اللورد مونتباتن. وقد انحشرت القوات الهولندية في القوات الإنكليزية لتقوم باستعادة إندونيسيا وإرجاعها إلى حظيرة الاستعمار الهولندي. وقد دارت رحى الحرب بين القوات المتحدة والفرق الإندونيسية المجاهدة. واستمرت هذه الحرب دائرة حتى 17 نوفمبر سنة 1946 - ذهب خلالها ثلاثة ملايين إندونيسي.
وفي سبتمبر سنة 1946 - ظهرت القوات الهولندية في بعض المدن الإندونيسية، فعبثت بالسلام؛ ثم اصطدمت مع القوات الإندونيسية في معارك عنيفة لم تنته حتى الآن. وأن معارك (موجوكارنو) الأخيرة تدل على أن الحكومة الهولندية تريد خلق اضطراب في أداة الحكومة الإندونيسية في جميع ولاياتها ومناطقها وإساءة سمعتها في الدوائر السياسية العالمية.
ومضى الزمن مسرعاً طاوياً في أعماقه الصفحة الأخيرة من صفحات الاستعمار الغربي.
وهناك الرقباء ومندوبو الدول الشرقية والغربية يراقبون ثم يقررون دقة السياسة السلمية والحربية الإندونيسية، وانتشار الروح الديمقراطية بين الشعب وانتظام الحياة الاقتصادية في أنحاء الجمهورية. فتضطر الحكومة الهولندية إلى إشعار ممثلها الدكتور فان موك بإجراء محادثات سياسية مع زعماء الجمهورية للوصول إلى نتيجة مرضية لها. وفي 31
أكتوبر سنة 1945 اجتمع ممثلو الجمهورية الإندونيسية مع ممثلي الحكومة الهولندية بمدينة جاكرتا (بتافيا) وترأس مندوبي الحكومة الإندونيسية الدكتور أمير شريف الدين رئيس الوزارة الإندونيسية الحالي واشترك معه الدكتور محمد حسني نائب رئيس الجمهورية والدكتور أحمد سوبارجو وزير الخارجية الإندونيسية السابق والحاج أغوس سالم وزير الخارجية الإندونيسية الحالي كما ترأس مندوبي الحكومة الهولندية الدكتور فان موك. وحضر معه المستر فاندر فلاس، والمستر ايدنبورخ، وحضر الاجتماع أيضاً المستر مايرلاي ممثلاً للورد مونتباتن.
بحث في هذا الاجتماع الحالة السياسية الإندونيسية. ثم عرض الدكتور فان موك (الحكم الذاتي) لإندونيسيا فرفضه المفاوضون الإندونيسيون. وانفض عقد الاجتماع.
وفي 16 نوفمبر سنة 1945 - طلب ممثل الحكومة الهولندية من الحكومة الإندونيسية للدخول في مفاوضات أخرى لبحث المسائل السياسية المعلقة بين إندونيسيا وهولندا. واجتمع ممثلو الحكومتين الإندونيسية والهولندية. وكان رئيس ممثلي إندونيسيا الدكتور سودان شاهرير رئيس الوزارة الإندونيسية السابق، ورئيس ممثلي هولندا الدكتور فان موك. وفي هذا الاجتماع عرض الدكتور فان موك نظام (الدومنيون) لإندونيسيا فرفضه ممثلو الحكومة الإندونيسية.
ومضى الزمن مسرعاً طاوياً في أعماقه الصفحة الأخيرة من صفحات الاستعمار الغربي.
وفي يناير سنة 1946 - أثار الدكتور مانوليكي مندوب أوكرانيا المسألة الإندونيسية في مجلس الأمن الدولي شارحاً لمندوبي الدول المتحدة خالة الجمهورية الإندونيسية ومدى اشتداد القتال فيها بين القوات الهولندية والبريطانية متحدة، والقوات الإندونيسية، وطلب إرسال لجنة تحقيق دولية إلى إندونيسيا للوقوف على حالة الجمهورية الإندونيسية، والتحقيق عن أسباب القتال. فرفض ممثلو هولندا وبريطانيا طلبه، كيلا ينكشف عملهما الحربي. ثم أسدل الستار على المسألة الإندونيسية. وقد استفادت إندونيسية من عرض أوكرانيا لمسألتها فائدة كبرى إذ عرف العالم ماذا يجري فيها، وما هو موقفها، وسياستها السلمية، إزاء العدوان الاستعماري المتحد.
وفي فبراير سنة 1946 - بعثت الحكومة البريطانية سفيرها في موسكو السير ارشيبالد
كلارك كير إلى إندونيسيا للاشتراك في المباحثات السياسية بين ممثلي هولندا وإندونيسيا.
وفي 10 فبراير سنة 1946 - عقد ممثلو الحكومتين اجتماعاً بدار السير ارشيبالد بجاكرتا. وفي هذا الاجتماع قدم الدكتور فان موك المشروع الذي وضعه مشتركاً مع المستر اتلي في لندن إلى ممثلي الحكومة الإندونيسية. ويحتوي على خمس عشرة مادة وهو مشروع يخول لإندونيسيا إنشاء (كومونويلث) على غرار الحكومة الأسترالية؛ فرفضه ممثلو الحكومة الإندونيسية قائلين لممثلي هولندا (إننا لن نقبل غير اعتراف حكومتكم باستقلال الجمهورية الإندونيسية التام) ثم انفض الاجتماع وأسفر عن رفض الحكومة الإندونيسية لمشروع الحكومة الهولندية.
ومضى الزمن مسرعاً طاوياً في أعماقه الصفحة الأخيرة من صفحات الاستعمار الغربي. . .
وفي 30 مارس 1946 - قدم الدكتور فان موك مقترحات أخرى لرئيس الحكومة الإندونيسية.
وفي أول إبريل سنة 1946 - رد الدكتور شاهرير على مقترحات فان موك بشأن العلاقة الجديدة بين هولندا وإندونيسيا ثم سافر وفد دبلوماسي إندونيسي إلى هولندا مكون من الدكتور سواندي رئيساً والدكتور سودارسونو والدكتور عبد الكريم فرينغديغديغو أعضاء لشرح غاية استقلال الجمهورية الإندونيسية للحكومة الهولندية. وقد كانت الحالة السياسية في هولندا مضطربة في ذلك الظرف، لسياسة الحكومة الهولندية المتطرفة إزاء الحكومة الإندونيسية، فالشعب الهولندي يريد السلم والاتفاق مع الشعب الإندونيسي ولكن المستعمرين الرأسماليين منهم أمثال المستر (وولتر) وزير المستعمرات الهولندية السابق يريدون التشدد في بقاء السيادة الهولندية على إندونيسيا. بعد أن أعلنت للعالم حريتها واستقلالها.
هذه مراحل المباحثات السياسية بين إندونيسيا وهولندا وقد ظهر منها أن الحكومة الهولندية قد عرضت على الحكومة الإندونيسية المستقلة أنواعاً من الحكومات بعد أن يئست من الوصول إلى استعادة سيادتها على إندونيسيا. . . وهذه الحكومات هي. . (1) الحكم الذاتي (2) الدومنيون (3) الكومونويلث وقد رفضتها إندونيسيا لأنها متمسكة باستقلالها التام.
ومضى الزمن مسرعاً طاوياً في أعماقه الصفحة الأخيرة من صفحات الاستعمار الغربي. . . وفي 17 نوفمبر 1946 اجتمع ممثلو الحكومة الإندونيسية والهولندية واشترك معهم ممثلي الحكومة البريطانية اللورد كايرن. وفي هذا الاجتماع اتفق الطرفان الإندونيسي والهولندي على عقد اتفاق سياسي بين حكومتيهما يوضح علاقة كل منهما بالأخرى. ثم وضعا مواد الاتفاق، وعرف هذا الاتفاق باسم (اتفاقية لنجرجاتي) وهي تحتوي على سبع عشرة مادة ونحن نقدمها للقارئ العربي ليعرف مدى السيادة الإندونيسية على إندونيسيا وعلاقة إندونيسيا بهولندا في المستقبل.
نص الاتفاق السياسي بين إندونيسيا وهولندا المتفق عليه في
17 نوفمبر 1946
المادة الأولى: تعترف الحكومة الهولندية بسلطة الحكومة الجمهورية الإندونيسية على جزيرة جاوا وسومطرا ومادورا وتضم المدن التي تحتلها القوات المتحدة والقوات الهولندية الداخلة في نطاق هذه الجزائر إلى الحكومة الجمهورية الإندونيسية قبل أول يناير 1949.
المادة الثانية: تتعاون الحكومتان الهولندية والإندونيسية على إنشاء دولة حرة ذات سيادة تامة تسمى (دولة إندونيسيا المتحدة)
المادة الثالثة: تتكون دولة إندونيسيا المتحدة من جميع أراضي جزر الهند الشرقية ما عدا الأراضي التي تقرر ذلك. فسننشئ لها علاقة خاصة مع الحكومة الإندونيسية وهولندا.
المادة الرابعة: تنشأ دولة إندونيسيا المتحدة على النظام الديمقراطي.
المادة الخامسة: القسم الأول. إن قانون دولة إندونيسيا المتحدة تقرره هيئة خاصة لتنظيمه. حسب القواعد الديمقراطية الصحيحة. وهذه الهيئة مكونة من ممثلي الحكومة الإندونيسية وأعضاء الولايات المنضمة في الدولة الإندونيسية المتحدة، وملاحظة ما يشير إليه القسم الثاني من هذه المادة.
القسم الثاني: إن إنشاء هذه الهيئة يكون باشتراك ممثلي الحكومة الجمهورية وممثلي الولايات. ويسمح أيضاً بالاشتراك في هذه الهيئة لطبقات الشعب التي لم يتم لها وكلاء يمثلونها في هذه الهيئة.
المادة السادسة: تتعاون الحكومتان الإندونيسية والهولندية على إنشاء رابطة بينهما وتحل وصية المملكة الهولندية السابقة المكونة من هولندا، سورينام، كاراكاو، الهند الهولندية وتجزأ إلى قسمين:
1 -
هولندا، سورينام، كاراكاو.
2 -
إندونيسيا المتحدة.
المادة السابعة: القسم الأول. لتوثيق العلاقة بين المملكة الهولندية ودولة إندونيسيا المتحدة يكون كلاً منهما مجلساً خاصاً.
القسم الثاني: إن الوسائل لإنشاء دولة إندونيسيا المتحدة تشترك في القيام بها الحكومة الجمهورية والحكومة الهولندية.
القسم الثالث: إن العلاقات بين دولة إندونيسيا المتحدة والحكومة الهولندية ستكون في الدفاع والتمثيل الخارجي. وإذا احتاجت الظروف ستكون أيضاً في الاقتصاد والثقافة والمالية.
المادة الثامنة: لتمثيل العلاقات بين هولندا ودولة إندونيسيا المتحدة يشكل مجلس فيه مظاهر التعاون بين الحكومتين.
المادة التاسعة: تنشأ هيئة عالية من ممثلي دولة إندونيسيا المتحدة وممثلي الحكومة الهولندية للعمل لتقدم الدولتين.
المادة العاشرة: أن تعاون الدولتين - الهولندية وإندونيسيا المتحدة - يشمل:
(أ) ضمان كل دولة القيام بواجبها إزاء الأخرى.
(ب) تنفيذ إجراءات الدولتين - الهولندية وإندونيسيا.
(ج) ترتيب كيفية تبسيط الإجراءات إذا كانت هيئة التعاون لم تتوفق إلى الموافقة في قرارها.
(د) تنظيم كيفية مساعدة الحكومة الهولندية لدولة إندونيسيا المتحدة.
(هـ) إن أصول معاهدة التحالف تعرض على هيئة الأمم المتحدة للتصديق عليها.
المادة الحادية عشرة: إن نظام التعاون يضعه مجلس مكون من مندوبي الحكومة الهولندية ودولة إندونيسيا المتحدة.
القسم الثاني: إن هذا النظام ينفذ مفعوله حينما يصدق عليه مجلس نواب الدولتين.
المادة الثانية عشرة: إن الحكومة الجمهورية الإندونيسية والحكومة الهولندية تبذلان جهودهما إنشاء دولة إندونيسيا المتحدة قبل أول يناير 1949.
المادة الثالثة عشرة: تسعى الحكومة الهولندية بضم دولة إندونيسيا المتحدة إلى منظمة الأمم المتحدة.
المادة الرابعة عشرة: تعترف الحكومة الجمهورية الإندونيسية بأملاك الأجانب الموجودة في نطاق دوائرها الجمهورية، ولإعادتها إليهم تشكل لجنة من الطرفين - الهولندي والجمهوري - للنظر فيها.
المادة الخامسة عشرة: لتغيير وضعية المملكة الهولندية تعدل الحكومة الهولندية تنظيماتها في الهند الهولندية مؤقتاً حتى يتم التصديق، وتقرر وضعية هولندا الجديدة.
المادة السادسة عشرة: بعد إبرام الاتفاق ينقص الطرفان قواتهما العسكرية، ويجتمعان لتعيين سبيل النقص ووقته. وكذا يبحثان مسألة التعاون العسكري بينهما.
المادة السابعة عشرة: القسم الأول: للتعاون المشترك بين الحكومة الهولندية والحكومة الجمهورية الإندونيسية، ينشأ مجلس مكون من ممثلي الحكومتين وهيئة سكرتارية.
القسم الثاني: إذا حدث خلاف بين الحكومة الهولندية والحكومة الجمهورية الإندونيسية تعرضانه على المحكمة العدلية العليا.
هذه خلاصة مشروع (اتفاقية لنجرجاتي) وقد حدثت مناقشات حادة في الدوائر السياسية الإندونيسية والهولندية حولها وحاول الهولنديون نقضها؛ لأنهم غلبوا في ميدان السياسة واستمروا في التشبث ببعض المواد والتفسيرات في هذه الاتفاقية التي ترتكز سيادتهم في إندونيسيا رغم أن الدولة المراد إنشاؤها (دولة إندونيسيا المتحدة) مؤقتة لنهاية 1948.
وفي مارس 1947، وقع مندوبو الحكومة الهولندية والإندونيسية على اتفاقية لنجرجاتي رسمياً. وقد وضحت موادها العلاقات السياسية والاقتصادية الجديدة بين إندونيسيا وهولندا؛ فالمادة الأولى منها تشير إلى أن الحكومة الهولندية تعترف بسلطة الحكومة الجمهورية الإندونيسية على جزيرة جاوا وسومطرا ومادورا. ومعنى هذه المادة أن الجمهورية الإندونيسية دولة حرة مستقلة استقلالاً تاماً. فبعثت مندوبيها السياسيين إلى ممالك الشرق والغرب لعقد العلاقات السياسية والاقتصادية، رغبة منها في تركيز أساس السلام العالمي،
وإنعاش الحياة الاقتصادية المالية، واشتركت الحكومة الإندونيسية في المؤتمرات الدولية لبحث الوسائل المنتجة لتثبيت دعائم السلام في المعمورة.
وفي يونيو 1947عقدت الجمهورية الإندونيسية مع الحكومة المصرية معاهدة إخاء وتجارة مؤقتة. وتدل هذه المعاهدة على حرية الجمهورية الإندونيسية التامة. وسوف تظهر الأيام وقرارات مجلس الأمن مقدرة الجمهورية الإندونيسية في الاحتفاظ باستقلالها، ومركزها الدولي الجديد.
محمد جنيدي
من وراء المنظار
شيخ وشيخ
هاأنذا في الريف أضع على أنفي منظار القرية، وقد تركت فوق مكتبي في (الرسالة) منظار القاهرة حتى أعود إليه بعد حين. وكان أول ما وقع عليه في القرية منظاري الجديد بعض ما صنع هذان الشيخان في ضحى يوم من أيام رمضان.
أما أولهما فشيخ من حيث الاصطلاح والملبس، فقد لبث في الأزهر من عمره سنين ولا يزال في القرية يضع على رأسه عمامة هي كل حجته على العلم والورع وإن كانت بعض وسائله إلى المال والشبع. وأما ثانيهما فشيخ من حيث العمر فقد تخطى السبعين منذ سنتين وبعض سنة كما ذكر لي حين حدثني عن سنه. . .
جلست أمام داري عند مخرج القرية إلى الحقول وأنا أعجب كيف يغدو الفلاحون إلى أعمالهم صابرين، وقد قضى الصوم والحر على كل ما كان من نشاط في بدني فما أتحرك لكي أبقى في الظل إلا في مشقة وجهد. وبينما كنت أتفكر في أمر هؤلاء المساكين إذ أقبل على أحدهم فسلم وجلس القرفصاء إلى جانب كرسي وأسند إلى الحائط ظهره، ونظرت إليه فإذا هو من فرط نحوله وشحوبه أشبه شيء بعود الذرة جف فاغتدى عوداً من الحطب.
وتكلم فقال: (لن ينقذني من الشيخ فلان إلا أنت؛ فقد اضطرتني الحاجة إلى أن أقترض منه منذ شهرين جنيهين ونصف جنيه على أن أعطيه وفاء لديني أردباً كاملاً من القمح الجديد. ولما كنت أستطيع أن أبيع الأردب اليوم بخمسة جنيهات فقد ألححت عليه أن يأخذ ثلاثة جنيهات؛ ولكنه تمسك بأردب القمح كاملاً. وها هي ذي ثلاثة جنيهات ونصف أرجو منك أن تتوسط لدى الشيخ ليقبلها) ومد الرجل إلى يده بالنقود وهي ترتعش، ولمحت في وجهه من السخط المكظوم ما زاده بؤساً على بؤس. . . ولكنني أخذت منه قيمة الدين ورددت إليه جنيهاً، فنظر إلي دهشاً وسكت.
ومضيت إلى الشيخ وفي خاطري خيال (شايلوك) يهودي شكسبير، وسلمت وقلت إن فلاناً ذو عسرة؛ وقد توسل إلي أن أؤدي عنه ما عليه لك من دين. ومددت إليه يدي بجنيهين ونصف جنيه فحسب. فما إن عدها حتى اصفر وجهه وتكره لي كأني أشتمه، ثم أخذته حيرة من أمره وتمتم وعبس وتأنف ودس المال في جيبه وهو يلعن هؤلاء الفلاحين الذين
لا أمانة لهم ولا عهد ولا ذمة. وتعجبت أو تظاهرت بالتعجب وقلت متجاهلاً، وهاهو ذا دينه يؤدي إليك. فنظر إلي نظرة كلها لؤم وخبث يتبين ما إذا كنت أعلم شيئاً من قصة أردب القمح. ثم تركته في غيظه وألمه ينتفض انتفاضة من لدغته عقرب ويقسم أغلظ القسم أن لن يعين أحداً من هؤلاء الفلاحين ناكري الجميل بعد اليوم. . .
ومررت أثناء عودتي بدار عم محمد النجار فأبصرته في مدخل الدار وبين يديه أدوات عمله وبعض أشياء من الخشب كان يصلحها؛ فسلمت على الشيخ فنهض للقائي في خفة ودعاني إلى الجلوس، فجلست بجانبه على حصيرة وهو يكرر في بشاشة وترحاب قوله (رمضان كريم) وإنه ليعلم أني أحبه كما أعلم أنه يحبني ويأنس إليّ؛ وقلما رآه أحد من القرية يقبل على امرئ أو يهش له كما يقبل عليّ ويهش لي، وذلك أن هذا النجار الشيخ على فاقته الشديدة يظن الظنون بمن يراهم أكبر منه قدراً أو أكثر منه مالاً لأنه يكره أشد الكره أن يتكبر عليه أحد مهما بلغ من جاهه أو ثرائه، والويل كل الويل لمن يغلظ له في القول من أعيان القرية فإنه عند ذاك ينقلب من شيخ وديع هادئ إلى نمر شرس هائج لا يخيفه شيء، وقد أحس الشيخ أني أكبره وأحب حديثه فخفض لي جناحه وبسط لي مودته.
ونظرت إلى وجهه المسنون وإلى عينيه البراقتين وهو يصلح بعض أدوات الزراعة وكأنما يزداد هذا المحيا بشاشة ونضرة كلما علت بصاحبه السن، ولو أراد أن يعتذر إلي من عدم انصرافه عن العمل احتفاء بي كما كان ينبغي في رأيه فقال إنه يصلح هذه الأشياء الزراعية الصغيرة بغير أجر في رمضان من كل عام ليغنم الثواب مضاعفاً على الصوم، وهو لا يحب أن يخلف الوعد، فعما قليل سيأتي أصحاب هذه الأدوات لأخذها؛ وأثنيت عليه ما وسعني الثناء، فقال إنه يحمد الله على العافية وأنه يرى أعظم أنعم الله عليه أنه لم يقف مرة واحدة موقف الحاجة من أحد، وأنه لا يذكر لأي امرئ يداً عليه حتى أولاده الأربعة الذين يعيشون كل في داره عيشة هي أوسع من عيشته. ونظر إلي مبتسماً وقال: إن خير ما أدعو لك به وأنا أحبك أن يديم الله عليك العافية وألا تحتاج يوماً إلى إنسان. . .
وبينما كان يتحدث إلى النجار وهو يصلح تلك الأدوات الزراعية إذ دخل عليه رجل فسلم وقال: يا عم محمد. . . علمت أنك تبيع فجلك المزروع في جهة كيت فجئت لأشتريه. . . وتفكر النجار الشيخ قليلاً وقال: كم تدفع ثمناً له؟ فقال الرجل: ستة جنيهات. فنظر إليه
النجار وقال انتظر قليلاً. وطلب النجار إلى أحد المارة أن يرسل فاطمة بائعة الفجل، فلما حضرت قال لها، هذا الرجل يشتري الفجل بستة جنيهات وقد بعته لك، فما رأيك هل تبيعينه إياه؟ لقد صرت صاحبته وليس لي فيه شيء وإن لم أقبض منك ثمنه بعد. فقالت المرأة بعته إياه. وتناول النجار الجنيهات الستة، فأخذ منها أربعة هي ما أتفق مع المرأة عليه ثمناً لفجله ودفع لها جنيهين. . .
وازداد في قلبي قدر هذا النجار الشيخ، وظللت لحظة أقلب نظري في محياه الأبلج السمح وهو منكب على أدوات الزراع يصلحها في نشاط وهمة؛ وانصرفت وأنا أدير في رأسي قصة القمح وقصة الفجل، أو قصة الشيخ الذي تعلم ويأكل الربا أضعافاً مضاعفة، وقصة النجار الذي لم يعرف غير أدوات نجارته ويتصدق بعمله على الزراع في رمضان ويأبى أن يكون وقد أربى على السبعين كلاً على إنسان.
الخفيف
(أدب العروبة في الميزان)
للأستاذ علي متولي صلاح
ما حق الأدب على الدولة؟ وما ينبغي أن تقوم الدولة به للأدب من نصر ومعونة وتأييد؟ ذلك هو السؤال الذي نبدأ به كلامنا عن (أدب العروبة) الذي أخرجته للناس جماعة (أدباء العروبة) التي تنعقد رياستها للوزير الأديب الشاعر الأستاذ إبراهيم دسوقي أباظة باشا.
نحسب أنه قد مضى الزمن الذي كان الأدب فيه في نظر البعض نافلة لا ضرورة إليها، وترفاً لا تدعو إليه حاجة، وأبهة وبلهنية يزجي بهما الفراغ!
نعم، عرفت الدول وعرف الناس أن الأدب لسان الكون وتعبيره، وترجمانه وتفسيره، وأن الناس شعروا قبل أن يتكلموا، وتغنوا قبل أن ينطقوا!
وعرفت الدول وعرف الناس أن الحياة لن تكون - إن هي خلت من الأدب - إلا بيداء مجهل، وصحراء لافحة، وجحيماً لا ظل فيه ولا ماء!
عرفت الدول وعرف الناس ذلك وصار الكلام فيه معاداً مكرراً فهل أدت الدولة ما لهذا الأدب من حق؟ وهل قامت بما ينبغي له من واجب؟
عندما نهض الوزير الأديب الأستاذ إبراهيم دسوقي أباظة باشا بإنشاء هذه الجماعة العاملة ورعايتها - ولأول مرة فيما أعلم ينهض وزير قائم في الحكم برياسة جماعة أدبية - شاعت حولها الشائعات، وكثرت التخرصات والتقولات، وقالوا: وزير يستخدم مرافق الدولة ويستغل منشآتها لمنفعة جماعة هو رئيسها!
وقالوا: لقد انتفعت هذه الجماعة بسبل المواصلات يستعملها أفرادها بغير الجعل المقرر والأجر المرسوم!
وقالوا لقد أضفى الوزير على أفرادها الفراغ الشامل والتحلل الكامل من واجب (الوظيفة)، وآثرهم بالدرجات والعلاوات ينعمون بها ويرفلون في واسع رزقها! وقالوا انتفعت بالإذاعة تسير معها حيث تسير، وتمضي معها أنى تمضي!
وأنا أفترض أن كل ذلك قد وقع، بل قد وقع في صورة كريمة مسرفة، وأتساءل بعد ذلك: هل أدت الدولة ما للأدب عليها من حق؟ وهل قامت الدولة بما ينبغي أن تقوم به له من نصر ومعونة وتأييد! والجواب الذي لا جواب سواه عندي هو (لا). . . ذلك أن للأدب على الدولة حقاً أخطر من هذا كله، وأجل من ذلك كله. . . إن على الدولة أن تعين الأدباء بالمال تعفيهم به من تكاليف العيش وضرورات الحياة ليفرغوا للأدب وللفن. . . وإن على الدولة أن تريح الأدباء (الموظفين) من أعباء وظائفهم الثقيلة التي تقتطع أعمارهم وتقتل مواهبهم وتميت أرواحهم، أو على الأقل أن تجعلهم فيما ينبغي لهم من أعمال تتفق وميولهم وتمكنهم من الإنتاج الأدبي النافع، فلا يعيش الأستاذ مصطفى صادق الرافعي حياته في زاوية من زوايا محكمة طنطا! ولا يقضي الأستاذ محمود عماد عمره في ركن منزو من أركان وزارة الأوقاف!
وإن على الدولة أن تبتاع ما ينتج الأدباء من مؤلفات بأثمان طيبة كريمة وتنشرها على الناس غذاء لأرواحهم وعقولهم فترفع بذلك الذوق العام، وتربي ملكة تذوق الفن الرفيع بين أفراد الشعب، وتباعد بينهم وبين الأدب الرخيص المائع الذي يسري في نفوسهم سماً وميوعة وانحلالاً. .
وإن على الدولة أن تيسر للأدباء سبل الانتقال لا في أرجاء بلادهم فقط بل غي البلاد الأخرى وبخاصة البلاد العربية الشقيقة ليستزيدوا من أدبها ويتعرفوا إلى إخوانهم الأدباء
فيها ليكونوا سفراء الفن والحق والجمال إلى أبنائها. . .
إن على الدولة للأدب أن تفعل له هذا وأكثر من هذا، وإن الأدباء لحرّيون منها بالعناية والرعاية والالتفات، فإذا نهض وزير أديب يعرف حقوق الأدب ببعض هذا الذي يجب على الدولة أن تنهض به، صاح به الصائحون من كل جانب، ورفعوا عقائرهم يضجون بالشكوى من المال المضيع، والاستغلال القبيح، والظلم الفادح!
إن هذا الوزير الأديب نهض كريماً مشكوراً يؤلف جماعة منهاجها (أن تعمل على نهضة الأدب بإيقاظ الذهن العربي وحسن توجيهه لأبعد آفاق المجد والسؤدد وتشجيع نوابغ المفكرين النابهين من رجال القلم، وتجد في توثيق الأواصر بين الأدباء في مصر ثم توثيقها بينهم وبين أدباء العالم العربي والجامعة لا تحتكر الأدب العربي بل هي تغتبط وتبتهج بكل من يدعون للنهوض به أفراداً كانوا أو جماعات وتمد يدها مخلصة لكل جمعية تنحو نحوها وتسير على نهجها بعيدة عن السياسة والحربية بعدها عن الأغراض الذاتية، وجمع حوله طائفة من كرام الأدباء والشعراء لهم نشاط ملحوظ وآثار عديدة ومشاركة خصبة في الأدب والفن؛ وأقاموا عدة مهرجانات أدبية لمناسبات قومية ووطنية وأدبية صرخ فيها شعراؤهم، وخطب فيها خطباؤهم. فاستوى ذلك كله كتاباً سموه (أدب العروبة) كان مجموع نتاجهم في عام!
هذا الكتاب هو ما نقدم للحديث عنه بهذا الكلام، ونحن - في كلمات متعاقبة - عارضون هذا الكتاب عرضاً عادلاً منزهاً عن الهوى، ناقدون ما احتواه نقداً مبرأً من الغرض ودخائل النفوس، لنجلو للناس بذلك آثار أول جماعة أدبية في مصر يرأسها وزير قائم، وأديب حاكم، لم تشغله حكومته الالتفات الكريم إلى الأدب والأدباء.
علي متولي صلاح
أشواق على السين:
في الربيع
للأستاذ محيي الدين صابر
(رف فجر، وتندت أرض، وتحركت حبة، وهبط عصفور. . . وعبرت نسمة. . .
وأنصت شاعر!!)
رفَّ فجرٌ تعثر النور والعط
…
ر عليهِ كأنه مخمور!
شرقت صفحتاه بالشمس والظل
…
يغني نور ويرقص نور
والأماني في أفقه يتواث
…
بنَ كما خفَّ في الربُّى عصفور
والأغاني في معبر النسم السا
…
رب، همس مصبغ مسحور
إنه البعث راجفاً، ينفض القي
…
د حياة، يمتد فيها الربيع!
وتندت أرض وأرعشها الِخص
…
ب ابتعاثاً كأنه محموم!
زخرت بالحياة، وامتلأت دف
…
ئاً كما تحمل السلاف الكروم
واستفاقت، تناغم الفجر فاندا
…
ح حنين في صدرها مكتوم
وسرى من فؤادها العاشق البك
…
ر، حديث معطر منغوم!
إنه البعث راجفاً، ينفض القي
…
د حياة، يمتد فيها الربيع!
وصحت حبة، ودغدَغ جفني
…
ها ظلام من حولها مرطوب!
فاستجاشت تستلفت النور فارفض
…
خيال في ذاتها، مشبوب!!
واستطالت في الأفق، فهي حياة
…
وظلال مصبوغة وطبوب!
بين أفنانها أهازيج. . . منهن
…
شفاه مخمورة وقلوب!!
إنه البعث راجفاً، ينفض القي
…
دَ حياة، يمتد فيها الربيع!
واستوى. بلبل على غصن رخ
…
و. . فهزته خشعة وسجود
نشوة كله. . . وفي العش دنيا
…
زحمت أفقها الرؤى ووجود!
منشد كله لهاة إذا غنى
…
وحلم فوق الربى ممدود!!
وهو كالنور كله في جناح
…
ين: انطلاق ومتبحة وشرود!
إنه البعث راجفاً، ينفض القي
…
دَ حياة، يمتد فيها الربيع!
شهد الغصن أنه راقص الحس
…
فيصغي في نشوة أو يميل
ملأت نفسه على العش نجوى
…
قصة بها غرام. . . جميل. . .
قصة العش كل حين، وفي كل
…
مكان. . . على الحياة دليل!!
في جناح الفراش، أو وجنة الزهر، ومن حيث للرعاة سبيلُ!
إنه البعث راجفاً، ينفض القي
…
د حياة، يمتد فيها الربيع!
وسرت نسمة تسرب فيها
…
جدول فضَّ ذاته. . . أو غدير!
جرجرت نفسها على الزهر في كل
…
رباة. . . فوقفة أو عبور.!
لملمت كل خاطر وخيال هو في المرْ
…
ج. دافق مفجور. .!
ومشت تنقل الحياة على كلّ
…
طريق فكله معمورُ. . .!
إنه البعث راجفاً، ينفض القي
…
د حياة، يمتد فيها الربيع!
وتلاقت. . . مواكِب: فحبيب
…
ينثر الشوق في يديه حبيب!!
وغريب مشى الحنين. . بعطفي
…
هـ خشوعاً يأسو هواء غريب!
إنها صحوة الحياة. . . ففيها
…
كل معنى من روحها مسكوب
هكذا عاد في الروابي حديثٌ
…
كلما آبت الروابي يؤوب.!
إنه البعث راجفاً، ينفض القي
…
د حياة، يمتد فيها الربيع!
وعلى صخرة تجللها العش
…
ب على الدرب شاعر مسكين!
عبرته الرعاة. . فهي تغني
…
من بعيد كما استدارت ظنون
وهو، والناي في يديه، وفي عي
…
نيه جوع وفي الضلوع حنين
ظامئ الحس للحياة وللنو
…
ر وللغيب وهو فيه دفين.!
إنه البعث راجفاً، ينفض القي - د حياة، يمتد فيها الربيع!
أيها الضاربون في وحشة اللي
…
ل. . . أماناً، فللصباح رجوع!
أيها الراكبون في وَقدة البي
…
د. . . احتمالاً. قد أمكم ينبوع!
أيها الراجفون في غضبة البح
…
ر. . . سلاماً، فللرياح هجوع
أيها الصاعدون قد دنت للقم
…
ة بشرى، غداً يجيء الجميع!
إنه البعث راجفاً، ينفض القي
…
د حياة، يمتد فيها الربيع!
هكذا يطلق الربيعُ المعاني
…
وهي في قبضة الشتاء تنوح. . .
رُبَّ معنى يستنبت النور منه
…
وهو معنى بين الظلامِ جريح!
كلُّ شيء يهتز من رعشة الحس
…
وينساب بين جنبيه روح.!
ومشت يقظة تلفت فيها
…
ملء روحيها الربى والسفوح!
إنه البعث راجفاً، ينفضُ القي
…
د حياة، يمتد فيها الربيع!
هكذا تجمع الحياة. . . معانيها. . .
…
وينمو من القديم. . . جديد. .!
أبداً تصعد الحياة فما تنف
…
عك صيرورة لها وصعود. . .
إنها رغبة تضج بجنبيها. . . وَش
…
وق يلح فيه الخلود. . .،
وامتداد. . . وليس فيه حدود. . .
…
وانطلاق وما عليه قيود. . .!
إنه البعث راجفاً، ينفض القي - دَ حياة، يمتدُّ فيها الربيع!
(باريس)
محيي الدين صابر
السوربون
الأدب والفن في أسبوع
اتهام الأدباء:
كان الاتهام في هذا الشهر بمجلة الهلال من نصيب الأدباء، فقد كتب الأستاذ طه خطاب طه بعنوان (أتهم الأدباء) فوجه إليهم أربع تهم:
1 -
تمرغهم في أحضان السياسة الحزبية وتقلبهم مع الوزارات مما انحدر بأدبهم إلى درك التنابذ والتراشق بألفاظ الشتم والسباب.
2 -
الأنانية والاحتكار والقضاء على روح الطموح عند الأدباء الناشئين خشية المنافسة في الصيت والكسب.
3 -
استغلال الشهرة في نشر المقالات الهزيلة وإذاعة الأدب الهش الذي خلا من العمق وإعمال الفكر.
4 -
الانحدار بأخلاق الجمهور إلى المنحدر المائل، بنشر الصور المثيرة والقصص المغرية.
وأنا أخاف الأستاذ طه في بعض هذه التهم، وأوافقه في بعض، فاشتغال الأدباء بالسياسة الحزبية لا يعيب أدبهم، ولو نالهم رشاش من إسفاف الأحزاب عندنا، وهو لون من جهاد الأقلام على أي حال، على أن الأدباء ليسوا جميعاً مشتغلين بالسياسة بل أكثرهم منصرفون عنها، أما المتلونون مع الوزارات فما هم بالعدد ولا بالنوع الذي يؤبه له، فلا ينبغي أن يوصم بفعلهم مجموع الأدباء؛ وأما التراشق بالشتائم فقد كان في أوائل هذا الجيل مستشرياً في الأدب البحت أكثر مما هو في السياسة اليوم وقبل اليوم، بل هو يكاد ينعدم الآن بين خواص الأدباء.
وأؤخر التهمة الثانية لطول الكلام عليها، كما كان يفعل أسلافنا من الأزهريين في الشروح والحواشي، فأقول إن التهمة الثالثة صحيحة لاصقة. . . فإن كبار الكتاب قد استغلوا حقاً رواج أسمائهم فأجازوا بها الهدر وجعلوه مقالات تنشر ويؤجر عليها.
ولكن التهمة يا سيد طه، هشة. . . فالذين ينشرون الصور المثيرة والقصص المغرية قوم تميزهم من الأدباء ثرواتهم التي أصابوها من هذا الذي تعيبه!
ثم أعود إلى التهمة الثانية، وهي المسألة العويصة في هذه لقضية، إذ تختلط فيها الحقائق
بالتهم الباطلة، يقول الشبان إن الأدباء الكبار يحتكرون سوق الأدب حتى إنهم لا يمكنونا من عرض بضاعتنا، ويقول الكبار أنا لا نحتكر وإنما يقبل علينا الناس، وقد تعبنا حتى وصلنا إلى هذه المنزلة. وتسأل الشبان إيضاحاً فيقولون إن الأدباء الكبار يشرفون على النشر ونقدم لهم فلا ينشرون لنا ويؤثرون علينا الأسماء المشهورة. وهذا حق يقارنه حق آخر: إن كثيراً من الناشئين يريدون أن يزاولوا الأدب بالإنتاج فحسب. . . أي من غير درس ولا تحصيل ولا تخرج!
أما إيثار الأسماء المشهورة فهو ضعف بشري عام مصدره الرغبة في الرواج، وهو في الأدب وفي غيره، وهو عند غيرنا كما هو عندنا، والسبيل إلى التغلب عليه هو جهاد الناشئين الشاق الدائب. على إنه مما ييسر عليهم هذا السبيل إن هؤلاء الذين اغتروا بشهرتهم قد بدأت عروشهم تهتز لعكوفهم على لذة الكتابة الهينة اللينة وثملهم بما يصيبون منها. ولكن المعضلة يا سيدي اللبيب الفطن هي: من يحل محلهم؟ أو بعبارة أخرى هل هناك ثوار يقدرون على البناء إن قدروا على التقوبض؟
إخواني الشبان، لقد غضب بعضكم مني لأقل من هذا، وستتم بهذا غضبتكم، ولكني أقول لكم مخلصاً صريحاً: إنكم عزل فتسلحوا بالجد لتكسبوا المعركة، كما تسلح وكسبها شيوخنا في شبابهم إذ أجلوا شيوخهم عن الميدان.
وقد ترى أن ندع لغة السلاح والقتال ونتكلم بروح المودة نحو الأساتذة والآباء فنقول: تزودوا أيها الشباب لتأخذوا أماكنكم بجوار آبائكم، لتحسنوا خلافتهم وقيادة جيلكم.
دفاع عن الكسل:
ظهر في هذا الأسبوع مقالان في الدفاع عن الكسل لكاتبين كبيرين هما الأستاذ عباس محمود العقاد والفيلسوف الصيني (لن يوتانج) الأول في مجلة (الهلال) والثاني في (المختار من ريدرز دايجست).
ولعل ذلك الدفاع من فعل هذا الحر الذي يغري بالكسل، وإن كان لم يمنع من النشاط في الدفاع عنه!
دافع الأستاذ العقاد عن الكسل، فكان من أحسن ما جاء في دفاعه قوله: (وإذا كان الأخيار في هذه الدنيا هم القلة النادرة وكان الأشرار فيها هم الكثرة الغالبة، فهل يكون ترك الأعمال
في جملته إلا تركاً للخير القليل والشر الكثير؟ وهل يكون الكسل إلا (عملاً) يرجح فيه الكسب على الخسارة، ويربى فيه الاطمئنان والآمان على الخوف والبلاء؟
(قال الأستاذ يدعي النشاط: إن العصفور المبكر يلتقط الدودة قبل إخوانه. . . فأجابه التلميذ قليل الإدعاء: ولكن الدودة المبكرة هي التي تموت في منقار ذلك العصفور).
وقد ذكرني قول الأستاذ الكبير (فحسبي الآن أن أرضى بالدفاع عن الكسل كلما أفرطت الحركة من غير بركة، كما تفرط في هذا الزمان) بما كتبته في الأسبوع الماضي عن نشاط كثير من الناس في تأليف الكتب، وذكرت ما سمعته مرة من أحد (الناشطين) في التأليف، وقد قلت له: إني أراك تنفق أكثر وقتك في زيارة دور النشر للحث على إنجاز طبع كتاب أو لعرض كتاب آخر، فمتى تؤلف هذه الكتب؟ قال في استهانة يطل من ثناياها الزهو: إنني أفرغ من الكتاب في ليلة واحدة!
ألا ليت هؤلاء المؤلفين، وأمثالهم في غير التأليف، يسكنون فما من حركاتهم من بركة. . .
أما الكاتب الصيني فقد جاء في المقال الذي أقتطفه (المختار) من كتاب له، فصل عنوانه (فن الكسل) بدأه بقوله (الثقافة بنت الفراغ والراحة. وأهل الصين يرون إن أحسن الناس ممارسة للكسل هو أحسنهم ثقافة، ويبدو لهم إن هناك تناقضاً بين كثرة العمل والحكمة) وأحسبه يقصد بممارسة الكسل إراحة الذهن ليهضم على مهل وليسلمن الكد فيقوى على التفكير السليم وهو يرى إن من الفن الجميل أن تعرف كيف تدع الأعمال فلا تنجزها، وأن تعرف كيف تصرف وجهك عن كل شيء لا ضرورة له.
ويقول (لن يوتانج) إن رذائل أهل أمريكا هي عند أهل الصين: قدرتهم على العمل، ودقتهم في أدائهم، وشدة حرصهم على النجاح، ثم يوازن كسل الصينيين بنشاط الأمريكيين موازنة غريبة ظريفة، لأنه يخالف فيها المقررات الاجتماعية المتفق عليها، فالأمريكي يرى أن (مقاربة الإتقان ليست بكافية، أما الصيني فهي عنده كافية كل الكفاية. لأنه يعتقد إن القدرة على العمل لا تدع لأحد فراغاً يروح فيه عن نفسه؛ وإنها ترهقه بحرصه على إتقان الشيء الذي يعمله وضرب مثلاً محرر مجلة أمريكية يقتل نفسه حرصاً على أن لا تظهر فيه أخطاء مطبعية، أما الصيني الحكيم فيسره أن يتيح لقرأه أن يستمتعوا بالرضى عن أنفسهم حين يعثرون على بضعة أخطاء يهتدون إليها بأنفسهم، وأعظم من ذلك إن المجلة الصينية
تستطيع أن تبدأ في نشر قصة مسلسلة، ثم لا تكاد تبلغ منتصف القصة حتى تسقطها من حسابها. ولو حدث مثل ذلك في أمريكا لكان بلاء ماحقاً على المحرر).
فهل لأستاذنا رئيس تحرير الرسالة أن يخفف من (أمريكيته) في الحرص على خلو الرسالة من الأخطاء المطبعية. . . ويأخذ بالحكمة الصينية في ذلك. على أن لا يكون هذا في باب (الأدب والفن في أسبوع)!!
فوسوس الشيطان في صدري، لأصطنع (فن الكسل) فلا أكتب هذا الأسبوع ولا أعني نفسي بجمع الرحيق من هنا وهناك، وأقضي الوقت فيما يوحيه إلي ذلك (الفن الجميل) ولكني لم أستطب ذلك لأسباب أهمها شعوري باللذة من انتظام العمل الذي تستريح إليه نفسي. ومن هنا أدركت إن المسألة ليست مسألة حكمة أو قانون يوضع للجميع، وإنما ذلك يتبع الأمزجة والطبائع، فالكسل الذي يتمتع به الصيني لا يحب الأمريكي الخلود إليه لأنه يتمتع بالحركة الدائبة. بل يختلف أفراد الأمة بل الأسرة الواحدة في الميول والنزعات، وكما تعمل عوامل البيئات في اختلاط الأجناس والأمم، تعمل مفرزات الغدد في اختلاف الأفراد.
النهوض بالمسرح:
أثيرت مسألة المسرح المصري في الأيام الأخيرة، إذ أبدى بعض رجاله والمهتمين به ألمهم وجزعهم مما وصل إليه، وعملت بعض الهيئات الفنية على الدعوة إلى النهوض به؛ فقد كتب الأستاذ يوسف وهبي بك نقيب الممثلين في مجلة (دنيا الفن) مقالاً بعنوان (المسرح المصري يحتضر) قال فيه إن حالة المسرح المصري اليوم هي بلا شك حالة النزع، وألقى تبعة تدهوره على الحكومة لأنها أهملت إعانة الفرق المسرحية، وقصرت عنايتها على الفرقة المصرية التي وصفها بأنها (أشبه بمؤامرة على الفن المسرحي المصري).
وأعلن اتحاد الفنيين المصريين دعوته إلى مؤتمر للمسرح المصري يعقد في القاهرة في منتصف سبتمبر القادم، تشترك فيه الهيئات الحكومية وكبار المشجعين للفنون الجميلة والمشتغلين بها في مصر والعالم العربي.
والواقع إن المسرح في مصر يكاد يلفظ أنفاسه الأخيرة، فقد انفضت فرقه ولم يبق إلا الفرقة المصرية التي ترعاها وزارة الشؤون الاجتماعية، وهذه الفرقة تضم صفوة الممثلين
والممثلات في مصر، والحكومة تسخو عليها، وهي مع ذلك تتعثر في خطواتها، ويظهر إنها قد استمرأت التواني والتثاقل في ظلال الحكومة فجعلت تعيش الزمن الطويل على بضعة روايات قد حفظ الممثلون أدوارهم فيها ومل الجمهور مشاهدتها، وهي هي في الشتاء وفي الصيف، فقد لاحقته بها في مصيف رأس البر ثم في الإسكندرية، فكان من الطبيعي ما منيت به من الإخفاق وفي يوم الأحد تضمن برنامج الإذاعة تمثيل الفرقة المصرية رواية لويس الحادي عشر بمسرح الهمبرا بالإسكندرية، فإذا بنا نسمع بالموعد المحدد لهذه السهرة تمثيلية (الموت يأخذ إجازة) وهي من (مسجلات) الفرقة أيضاً، وإذا بنا نسمع صوتاً في أثناء الفصل الثاني يرتفع قائلاً:(عاوزين نسحر!) وهذا يدل على ضيق النظارة بالتمثيل وقد يضاف إليه حر المكان الذي لا يطيقه الوافدون من شاطئ البحر. . . وقد انقطع التمثيل فترة، ثم استؤنف!
والذي نراه من أسباب هذه الأزمة المسرحية:
1 -
ضعف حركة التأليف المسرحي، فأكثر الروايات التي تعرض إما مترجمة أو مقتبسة، والجمهور متعطش إلى المسرحيات القوية العديدة التي يرى فيها صورة نفسه.
2 -
إهمال الفرق الأهلية الذي أدى إلى قعودها عن العمل فأنعدمت المنافسة بين المسارح.
3 -
عدم وجود المسارح الملائمة وخاصة في الصيف، وهذه القاهرة العظيمة ليست فيها مسرح صيفي واحد وحبذا لو أنشئ هذا المسرح الصيفي وبجانبه آخر شتوي على أرض ثكنات قصر النيل التي اختلفت الآراء فيما يشغلها.
4 -
ارتفاع أسعار دخول المسارح الذي صرف الناس عنها إلى (السينما).
وإقالة المسرح من عثرته إنما تكون بتلافي أسبابها، وترى من الأسباب المتقدمة إن أكبر جهد في إزالتها إنما يرجى من الحكومة، وما دامت الدولة تعترف بأن المسرح الراقي من وسائل التثقيف والتنوير فلا بد أن تبذل ما في وسعها لأحيائه وتمكينه من تأدية رسالته. وهي تنفق الكثير في استقدام الفرق الإيطالية والفرنسية والإنجليزية للتمثيل بالأوبرا لفائدة الطبقات العالية، فحق سائر الشعب عليها أن تيسر له موارد هذا الفن، فتحقق (تكافؤ الفرص) في التثقيف العام كما تعمل على تحقيقه في التعليم المدرسي.
(العباس)
الكتب
في أعقاب الثورة المصرية
(تأليف الأستاذ عبد الرحمن الرافعي بك)
وقف بنا صاحب العزة الأستاذ الجليل عبد الرحمن الرافعي بك منذ عام عند الرحلة الثامنة من مراحل تاريخنا القومي الحديث، بعد أن وضع بين أيدينا المجلدين العاشر والحادي عشر من معلمته التاريخية، وهما اللذان صور فيهما ثورة سنة 1919 أصدق تصوير، وما كان له أن يدعنا عند هذه الرحلة الخطيرة من تاريخنا حتى يظهرنا على ما وقع في أعقاب هذه الثورة من أحداث، وما تقلبت فيه من أطوار.
انفجرت براكين الثورة المصرية في عام سنة 1919 فانبعث فيها غضب أربعين سنة ذاقت فيها البلاد من ظلم الإنجليز ألواناً وأنواعاً، وقد وقفت الأمة في هذه الثورة صفاً واحداً كأنها بنيان مرصوص إذ كان الغرض الذي تجاهد من أجله واحداً وهو إسعاد مصر وتحريرها. وبحسبك أن تعرف أن هذه الثورة قد هزت أركان الأرض، والتفت إليها الدهر، وعلى زمجرة وعودها استيقظ الشرق كله ليأخذ في الحياة حقه ويسترد منها ملكه.
ظلت هذه الثورة بروعتها وجلالها عامين كاملين ثم دب إليها داء الشرق المستعصي على الدواء - داء التفرق - فانتقل الجهاد من الميدان القومي إلى الميدان الشخصي، وبعد أن كانت البلاد في ثورتها تسير على نهج مستقيم لا عوج فيه فإنها قد انقلبت في أعقاب الثورة تعتسف في سيرها ولا تتهدى إلى طريق يجمعها وظلت أكثر من خمس سنين على اعوجاجها ثم فاءت إلى رشدها فجمعت شملها ولكنها لم تلبث غير عامين حتى عاودها داؤها فافترقت - ولا تزال وا أسفا!!
وهذا الذي أصاب البلاد بعد ثورتها من فرقة واختلاف قد تولى بيانه ودراسته مؤرخ هذا العصر الأستاذ الجليل عبد الرحمن الرافعي بك في مؤلفه الجديد (في أعقاب الثورة المصرية).
ظهر الجزء الأول من هذا الكتاب وقد بدأه حضرة المؤلف بتفصيل القول في الانقسام الداخلي الذي أصاب البلاد في سنة 1921 وما جرى على أثره وانتهى إليه ومضى يتحدث عن الوفد الرسمي وما ثار حوله من خلاف كبير أدى إلى خذلان الأمة وضعفها، وتكلم بعد
ذلك عن تصريح 28 فبراير الذي استخلصه ثروت باشا من الإنجليز وتأليف حزب الأحرار الدستوريين؛ ثم أشار إلى العقاب التي أقيمت في سبيل ثروت باشا فأودت بوزارته وذلك بعد أن قامت لجنة الثلاثين بوضع مشروع الدستور المصري، وواصل الحديث عن وزارة نسيم باشا وما كانت تحاوله من مسخ مشروع الدستور وإلى كفاح جميع الأحزاب في هذا السبيل حتى ظفرت البلاد بدستورها بعد أن حذف منه كل ما يتصل بالسودان، وأخذ يتقصى ما توالى من الحوادث بعد ذلك من تأليف حزب الاتحاد في سنة 1925 والانتخابات التي أجرتها حكومته، وما انتهى إليه الأمر من ائتلاف الأحزاب في سنة 1926 والانتخابات التي دعا إليها الاتحاد وتأليف الوزارات الائتلافية، وزارة عدلي باشا في يونية سنة 1926 ووزارة ثروت باشا في إبريل سنة 1927، وظل يساير الحوادث ويعللها إلى أن مات سعد في 23 أغسطس سنة 1927.
هذه لمحة دالة على بعض ما جاء في هذا الكتاب الذي تتحدث عنه اليوم. وليس الشأن في عرض الحوادث وإيراد الوقائع لأن ذلك أمر يسير على من يتتبعها أو يتطلبها وإنما الشأن كل الشأن في تعليل هذه الحوادث والحكم عليها بالحق والعدل من غير مجاملة ولا خوف رضى الناس عن هذا الحكم أو غضبوا.
لقد كانت الحقبة التي بين سنة 1921و1926 من أصعب الحقب التي مرت على البلاد، فيها اجتازت القضية المصرية أشق مراحلها وأوعرها وذلك بما تجلى فيها من الصراع الداخلي بين زعماء البلاد وقادتها، وكان منشأ الخلاف التنازع على رئاسة المفاوضات واستعر لهيب هذا الخلاف حتى شمل البلاد جميعاً فانقسمت الأمة شيعاً وتفرق جمعها بدداً، والتنازع ولا ريب يؤدي إلى فشل الأمة وذهاب ريحها، ثم امتد هذا الخلاف إلى الدستور وكيف تحكم البلاد، وقد كان كل حزب يعمل في هذه الحقبة لنفسه، ولا يريد إلا أن تكون البلاد تحت حكمه.
من أجل ذلك كله وغيره كان تاريخ هذه الحقبة ثقيلاً لا تنهض به إلا النفوس الكبيرة التي لا تؤثر على الحق شيئاً ولا تهاب في سبيل الجهر به أحداً، وهذه الصفات لا تتوافر إلا في مثل المؤرخ الجليل عبد الرحمن الرافعي بك الذي قضى ما قضى من عمره المبارك في سبيل خدمة بلاده بإخلاص وأمانة.
ولا ريب في أن مؤرخنا الجليل قد أدى في هذا الجزء ما يؤدي المؤرخ الصادق الأمين فأخرجه في أصدق رواية وأوفى بيان وأحسن معرض وهي شنشنته التي عرفناها منه في سائر المجلدات التي تتألف منها موسوعته التاريخية العظيمة وقد بلغت اثنتا عشرة مجلدة.
وغن مثل هذا العمل العظيم ليوجب على كل مصري أن يسدي له من أجله أطيب الثناء وأجل الحمد.
ابن وضاح
عثمان بن عفان
(تأليف الأستاذ صادق إبراهيم عرجون)
هذا كتاب لم يزل موضعه خالياً في المكتبة العربية حتى جاء الكاتب النابغة الشيخ صادق إبراهيم عرجون الأستاذ بكلية اللغة العربية فملأ هذا الفراغ. ومنذ قرون طويلة والراغبون في المعرفة يتلفتون ذات اليمين وذات الشمال ليجدوا مخرجاً يطمئنون إليه فيما أحاط بالخليفة الراشد عثمان بن عفان من فتن وأحداث، وقد كانوا يجدون الكلمة والكلمتين في الفينة بعد الفينة ولكن ذلك لم يكن يروي غلة التعطش إلى وجه الحق في هذه الأحداث فيبقى حائراً مبلبل الفكر، مضطرب الرأي، يضرب على غير هدى، ويخبط في ظلمات مضلة، مما حدا بالعلماء من قديم إلى أن يغلقوا باب الخوض فيما كان بين الصحابة من خصومات ومقاتلات (رحمة بالناس أن تزل بهم قدم الشبهات، أو ينفلت من يدهم معيار التقدير للحوادث وبواعثها، والأشخاص ومفاسدها، فلقنوا تلاميذهم، وأخذوا عليهم أن يلقنوا تلاميذهم جيلاً بعد جيل هذا المبدأ. وأول التشاجر الذي ورد تمكينا لحسن الظن بأولئك الأسلاف الذين بنوا أضخم بناء فأحسنوا تشييده، ووطدوا تأسيسه، فعجز الخلائف عن حراسة هذا البناء العظيم بأعمالهم، ولم تبق لهم إلا ألسنة لو أطلقت من عقلها بغير رقابة لقالت في السابقين الأولين) بيد أن هذا الحجر على العقول والأفكار لم يمنع أن يقول الناس وأن يتقولوا وأن يخوضوا في هذه المعتركات بما شاء لهم العقل والهوى، والإيمان والكفر، فكان من الحتم أن يتناول الباحثون هذه المسائل بشيء كثير من البسط والإيضاح حتى تطمئن العقول إلى الرأي السديد، وتبصر الحق واضحاً جلياً، وكان الأستاذ عرجون أبلغ
من تصدى لموضوع عثمان بن عفان فأخذ المسألة من جميع أطرافها، وتناولها من ألفها إلى يائها كما يقولون، فدرس درساً مستفيضاً ووازن بين الروايات وأحسن وزنها وأخرج للإسلام وللعربية هذا الكتاب. وقد حاول المؤلف القضاء على كثير مما وقر في أذهان الخاصة والعامة مما يقدح في سلامة تصرفات ذي النورين، وقد وفق في كثير وأنه ليحسن الحجاج، ويوفق في الجدل، ويرمي برأيه غير هياب ولا متردد، اقرأ إن شئت قوله ص 86 (لقد وقع في أوهام كثير من الناس، وتحدر إلى منازل التاريخ، ولقن شباب المسلمين في المدارس، ومعاهد التعليم، أن عثمان بن عفان رضي الله عنه كان ضعيفاً في موقفه إزاء هذه الأحداث العاصفة، أو كان مستضعفاً يساق إلى ما يراد. وهذه غلطة تاريخية خطيرة في حق ثالث عظماء الإسلام، يجب على كل مسلم سليم العقيدة صحيح الفهم لتاريخ الإسلام أن على تصحيحها ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، فما كان أيسر على عثمان - لو أراد - أن يصنع صنيع يزيد بن معاوية فيتخذ له ولاة من نظائر زياد (كذا) وابنه عبيد الله، أو مثل صنيع عبد الملك بن مروان وابنه الوليد فيحكم في رقاب المسلمين أشباه إخيفش ثقيف ممن استباحوا البلاد وأذلوا العباد حتى تدين له الدنيا ويصفو له الملك) ثم يردد هذا المعنى في موضع آخر فيقول (وهل كان عثمان رضي الله عته عاجزاً أن يتخذ لنفسه (حجاباً) يجعله جلدة ما بين عينيه ويسلطه على أبشار الأمة بسياط القهر والجبروت، ويطلق يده في دمائها يعب منها ما يشاء حتى تخضع وتذل، وحوله من ذؤبان العرب، وفتيان أمية، من يستطيع أن يصطنع منهم العدد الكثير ممن غلظت أكبادهم، وقست قلوبهم؟). وهكذا يمضي المؤلف قوياً متحمساً يدفع عن عثمان ما (وقع في أذهان كثير من الناس).
ولا يمكن من يكتب عن هذا الكتاب أب يتجاهل أسلوب المؤلف فيه، هذا الأسلوب الناصع الديباجة، القوي الأسر، العربي الرصين، وإن ذلك تجده في كل صفحة من صفحات الكتاب.
هذا وإننا لنقف قصيراً مع المؤلف في هذا النهج الذي انتهجه، فقد جعل اللبنة التي أقام عليها بناء كتابه دراسته لأخلاق عثمان الشخصية، وذلك حين يقول: (وقد تأكد عندي أن أعدل ميزان لوزن الرجال وتقدير أعمالهم، ومعرفة الصحيح من الزائف فيما ينسب إليهم، وكتابة سيرهم كتابة تقربها من الحق والإنصاف إنما هو دراسة أخلاقهم الشخصية، وتعرف
أحوالهم في حياتهم حتى يمكن الباحث أن يصنع من هذه الدراسة (صنجة) يزن بها كل ما يصادفه في طريق البحث من رأي أو مذهب أو رواية ثم أن هذه (الصنجة) قد حررت الميزان في كثير إلا أنها لم تنفع في بعض الأحايين؛ فإن المؤلف درس أخلاق عثمان الشخصية، واتخذ منها أساساً يبني عليه حياته العامة، فكان متجهه دائماً تبرير أعمال عثمان، والتماس الصواب ولو كان بعيداً. وهذا وإن أرضانا كمسلمين فإنه لا يرضينا كباحثين متطلبين لوجه الحق في أحداث التاريخ. وإنه ليسر كل مسلم أن لا يجد مطعناً في أعمال صهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن كيف وليس أحد معصوماً إلا الأنبياء، على إن الباحث حين يصل به البحث إلى أن يأخذ على عثمان شيئاً لا يكون بذلك قد أغضب العقيدة الصحيحة، ولا يكون إسلامه مدخولاً) وإن له في ابن عمر رضي الله عنه لأسرة حين سئل عن فرار عثمان يوم أحد فأجاب (أما فراره يوم أحد فأشهد أن الله عفا عنه وغفر له) وهذا المذهب الذي ذهبه الأستاذ في التأليف جعله يبرر أعمالاً لا يطمئن النصف إلى تبريرها، فأي وجه للصواب في موقف عثمان من جهجاه الغفاري الذي يقول الأستاذ في تبريره) ولين عثمان وحلمه أطمعا جهجاها الغفاري في أن يأخذ من يد عثمان وهو على المنبر عصا رسول الله صلى الله عليه وسلم التي كان يخطب بها فيكسرها)؟ وهل تساس الجماهير بمثل هذا الحلم؟ أن قائلاً لو قال: كان هذا منتهى الضعف فن عثمان رضي الله عنه، وكان بعيداً كل البعد عن سداد السياسة الرشيدة الحازمة، لو قال ذلك لم يبعد عن وجه الحق. كما أن المؤلف أطال الدفاع عن عثمان في إيثاره أقاربه، واختصاصهم بعطفه وبره دون أهل السابقة من الإسلام، ولكنه مع ذلك لم يقرطس الهدف، ولم يبلغ الغاية. ولا يزال هذا الأمر يحيك في النفس وقد أعجبني من المؤلف أنه قدم بين يدي القول فيما كان بين علي وعثمان اعتذاراً عن معالجة هذا الموضوع، والأخذ فيه (هذا الفصل لم يكن القلم فيه بليل الريق، طيع المقادة، ولكنه كان وقافاً، كثير التلفت، كثير الحذر، وأنا أشهد الحق أني عذرت قلبي، وعذرت نفسي، فإن عذرني الناس فنعما هي، وإن أبوا فما أحب أن أرضيهم بسخط الله تعالى وسخط البحث، وإن من حق البحث على الباحث أن يترفق به في المضايق، وأن ينشد معه في الخطو عند المزالق، وأن يتثبت عند اشتجار الآراء، واختلاف المذاهب، وتضارب الروايات)
ومهما يكن من شيء فلا يسعنا إلا أن نشهد للمؤلف الفاضل بالبراعة، وقوة الحجة، وسداد المنطق، وهي فضائل شاعت في أكثر فصول الكتاب، وحسب مؤلف في هذه الفتن العمياء من تاريخ الإسلام أن يكون هذا نصيبه، وأنه لنصيب قل من الرجال من يظفر به.
علي العماري
البريد الأدبي
خير الأمور الوسط:
حكمة تناقلتها الأجيال جيلاً بعد جيل، وهي محتفظة بصدقها، سعيدة بذيوعها على كل لسان وفي كل مجال، ولكن الدكتور أمير بقطر جاء أخيراً وتنكر لها ونقضها من أساسها؛ فزعم أن (شر الأمور الوسط) وأن الناس جروا في حكمتهم على غير الرأي الرشيد، وأنها حكمة وليدة الضعف والاستخذاء وفتور الهمة، وراح يحكم حكمه القاسي على هذا (الوسط) الذي وصفه الحكيم بأنه (خير الأمور) في مقاله الذي نشر في عدد سابق من مجلة الهلال الشهرية فيقول:
(إن أسهل الأشياء وأقلها خطراً وأسلمها عاقبة، الوسط، ولكنه أقلها إنتاجاً وأبخسها ثمناً، وأسرعها زوالاً، وأخفها أثراً في النفوس. وما الزجل الوسط المسالم إلا ذلك الخامل الجبان الذي يخشى النقد ويتفادى الهجوم والدفاع ويسعى إلى السهل).
من ذلك الطرف الذي نقلناه من صلب كلام الأستاذ في تجريح (الوسط) يفهم القارئ أنه حمل الكلمة على غير معناها اللغوي المقصود، وسار بها في غير وجهها، وحملها وزر المعنى العامي الذي تداولته الألسن في معنى الوسط، فظنوه القناعة من السعي والعمل والجد والدأب بما دون الكمال. ولعمري! إن طالباً ينال في درجات علومه 6 من 10 وهي الدرجة المتوسطة ليس هو بخير التلاميذ. . بل إن خيرهم لهو صاحب العشر الكاملة.
وهل يجترئ مجترئ على تسمية الرضا بما دون الكمال (خير الأمور)؟!. . هذا ما لم يقل به أحد.
فللوسط إذن معنى لغوي حقيقي غير المعنى الذي تبادر إلى ذهن الدكتور.
الوسط محركة من كل شيء خيره وأعدله، قال تعالى:(وكذلك جعلناكم أمة وسطاً) والمقام هنا مقام التمدح بالكمال ويؤيده قوله تعالى في آية أخرى (كنتم خير أمة أخرجت للناس) فهذه الأمة التي حكم الله بأنها خير الأمم هي التي جعلها أمة وسطاً.
ومما يدل أيضاً على أن الوسط غير ما فهمه الأستاذ قوله تعالى في سورة القلم (قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبحون) وأوسطهم الذي وقف منهم موقف النصح والإرشاد هو خيرهم وأعدلهم من غير شك ،
وهكذا ابن الرومي يقول في رثاء أحد أولاده:
توخى حمام الموت أوسط صبيتي
…
فلله كيف أختار واسطة العقد
ولم يرد ابن الرومي أن يخبرنا أن ولده المتوفى هو الثاني أو الثالث. . . وإلا كان مضحكاً!. ولكنه يريد أن يقول إن الموت أختار خير صبيته، ولذلك شبهه بواسطة العقد، والموت نقاد فلعل الأستاذ الدكتور بعد الذي أوضحناه يعيد للحكمة اعتبارها بعد أن جرحها وتنكر لها، والرجوع إلى الحق فضيلة والسلام.
مصطفى محمد إبراهيم
المدرس بالمدرسة السعيدية الثانوية
الأدب بين مصر ولبنان:
علق (العباس) بالعدد 734 من هذه المجلة على كلمة لي نشرت في الجزء الرابع من مجلة (العالم العربي) تحدثت فيها عن عدم احتفال الأدباء المصريين بالأدب اللبناني. ولست أود هنا أن أثير الموضوع إثارة جديدة على الرغم من إنه ينبغي أن يثار دائماً لمصلحة الأدبيين جميعاً - وإنما يهمني أن أتناول عبارة وردت في تعليق (العباس) هي قوله: (إن المؤلفين اللبنانيين لا يرضيهم أن ينقد أدباء مصر مؤلفاتهم نقداً حراً. . . ويرون فيه غضاً من شأنهم، والمصريون أهل حساسية و (ذوق) وهم حريصون على مودة إخوانهم في العروبة).
وهذا - في الحق - كلام عجيب في مخالفته للواقع وفي منطقه. فأين الدليل على أن المؤلفين اللبنانيين لا يرضيهم أن ينقد أدباء مصر مؤلفاتهم نقداً حراً؟ وأي أديب لبناني يحترم نفسه وأدبه غضب وثار حين نقد أحد المصريين كتابه؟ أيكفي (العباس) أن يلقي القول إلقاء دون ما حجة أو برهان حتى يصدقه الناس؟ وأية تهمة يلصقها (العباس) بالأدباء اللبنانيين، أهم سذج إلى هذا الحد حتى لا يقدروا النقد النزيه؟ وهل بلغ بهم ضيق الصدر والفكر أن ينكروا النقد الخالي من شوائب الإغراض؟ ثم إن (العباس) يطلق الكلام إطلاقاً دون ما تمييز ودون ما تفهم لنتائجه، فإن القارئ يدرك من عبارته إن المصريين حين يودون نقد كتاب لبناني، فينبغي أن يهاجموه ويجرحوه سواء أكان أهلاً للجرح
والمهاجمة أم كان أهلاً للإطراء والثناء. . .
وانظر ما أعجب هذا المنطق في قول (العباس): إن المصريين أهل حساسية و (ذوق) وهم حريصون على مودة إخوانهم في العروبة) فأي شأن للعروبة هنا؟ أترى اللبنانيين يتنكرون للعروبة إذا نقد المصريون أدبهم، بل حتى إذا هاجموه مهاجمة؟ ومن ذا الذي يقول إن العروبة تقتضي المصريين أن يراعوا اللبنانيين في أدبهم أو أن يداجوهم أو أن يسكتوا عنهم إذا كان في الأدب ما يستحق النقد؟
القضية ليست قضية (حساسية) و (ذوق) و (مودة في العروبة)! بالأمس كان إخواننا المصريون يعللون عدم اكتراثهم للأدب اللبناني بضعف الدعاية لهذا الأدب، ثم بارتفاع أسعار مؤلفاتهم ثم بكثير من التعليلات الأخرى. . . وها أن (العباس) اليوم يطلع بتعليل جديد: هو إن اللبنانيين لا يرضيهم أن ينقد المصريون مؤلفاتهم نقداً حراً. . . وغداً يأتي من يقول غير ذاك وهذا. . .
الواقع إنه يجب أن نتكاشف ونتصارح: إن إخواننا الأدباء المصريين مقصرون في حق آداب البلاد العربية الأخرى، في لبنان وسوريا والعراق وفلسطين، خلافاً لموقف هذه البلاد من أدبهم. . . ويجب أن يعترفوا بهذا التقصير فهذا وحده يدعوهم إلى تلافيه وإلى سد نقصه. . .
(بيروت)
سهيل إدريس
الاستعمار الثلاثي:
لعل قراء الرسالة جميعاً قرءوا أو سمعوا بخبر تلك البدعة الفرنسية الجديدة التي ابتدعوها لنا في السنوات الأخيرة، وهي انتخاب ملكة للجمال في مصر، في حفل عام. . .
وكان آخرها ما أقيم بأحد (المراقص المشهورة) في آخر ليلة من الشهر الإفرنجي المنصرم، وفي منتصف شهر رمضان!
ولا نود أن نخوض هنا في حديث ديني، فلم يكن شهر رمضان لمثل هذه الحفلات، ولكنه كان لشيء أكرم من هذا. ولقد قام بتنظيم هذه الحفلة، كما لعلك قد علمت، معهد كليتيا
للتجميل من باريس، ومعامل عطور لانسيل من باريس أيضاً!
ولماذا كان من باريس؟
ولماذا لم يكن من لندن أو نيويورك؟
لعل هذه القوى الثلاث - باريس ولندن ونيويورك - اتفقت فيما بينها على أن تضطلع كل واحدة منها بناحية من النواحي الاستعمارية التي تجيدها.
أما نصيب باريس فكان في هذه الحفلات.
وهذا هو نفس ما حذر المارشال بيتان - مارشال فرنسا الجريح - أبناء بلده منه، وهو ما أدعى إنه كان السبب في تدهور الفرنسيين وانحلالهم وهزيمتهم الشنيعة، ودعاهم إلى التمسك ببعض الأخلاق!
والذي يعنيني من كل هذا، ويؤلمني هو إننا نحن الشرقيين دائماً ميداناً هؤلاء الغربيين وحقلهم الذي يجرون فيه تجاربهم، بل مطاياهم وحميرهم!
فيا أيها الشرقيين عامة، أحذروا الاستعمار الأوربي الثلاثي:
السياسة الإنجليزية، والقرض الأمريكي، والجمال الفرنسي!
وبهذا وحده تفلحون. . .
حسين الغنام
تطبيع واضح:
ظهر المقال الثاني من عشاق الطعام بالعدد الأخير من مجلة الرسالة الغراء مبتدءاً بهذه الفقرات (النهار طويل ممل، والقيظ لافح محرق، وقد هجم رمضان) وهذا كلام ليس في موضعه، وإنما هو تطبيع، أفسد التركيب، وربك السياق.
محمد رجب البيومي
القصص
قصة إسلامية:
شيخ الأندلس
منقولة عن الإنجليزية
بلقم الأديب وهبي إسماعيل حقي
(مهداة إلى صديقي وأخي السيد محمود علي عمرو مع
تقديري وإعجابي. . . . . .)
كان الشيخ إدريس بن أحمد يقيم في إحدى المدن الإسبانية الجميلة التي يزدان بها شاطئ البحر الأبيض المتوسط، ذلك البحر الذي كان يحق أن يطلق عليه في ذلك العهد (بحر المسلمين) فقد كانت مياهه تتدفق في أراضي إسلامية، وكانت أعلام المسلمين تخفق على شاطئيه بالعدل والحرية والإخاء والمساواة، وتملأ القلوب هيبة وتوفيراً للمؤمنين الذين عمرت أفئدتهم بالثقة بالله فملكوا الدنيا ودان لهم العالم.
وكان منزل الشيخ في الجانب الساحلي من تلك المدينة كعبة القاصد وملاذ المحتاج، وقد كان الشيخ واسع الغنى وافر الثروة، وقد اصطلح الناس على تسميته شيخ الأندلس لغناه الفاحش وثرائه العريض ولم يكن قد ورث الغنى عن آبائه ولا عن أجداده ولا كان من الذين ولدوا وفي أفواههم ملعقة من ذهب كما يقول المثل، ولكنه جمع هذه الثروة بجده وكده حتى أضحى الذهب يسيل من بين أصابعه.
ولد إدريس من أبوين فقيرين في جزيرة العرب، ونشأ في ظلال الحاجة وتربى في ربوع الفاقة، لكنه نشأ قوي الإيمان، صادق العزيمة، متين الخلق، وخاض معترك الحياة، لا يعرف الملل ولا يتطرق إليه اليأس حتى وصل إلى قمة المجد في الغنى والجاه ولكن في غير وطنه؛ فقد أبى الحظ أن يبتسم له في جزيرة العرب، وضن عليه حتى بلقمة الخبز يتبلع بها، فكان ينتقل بين المدن والقرى يبحث عن عمل يستدر منه قوت يومه، ولكن نحس الطالع كان يلازمه أينما حل، وسوء المصير كان يتعقبه حيثما سار، ومع ذلك لم يدع
اليأس يتسرب إلى قلبه وكان دائماً يردد في ثقة المؤمن، وإيمان الواثق قول الله تعالى (ولا تيئسوا من روح الله فإنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون) وكان يحس في ترديدها برد الراحة واطمئنان القلب، وهدوء البال، وينسى ما يلاحقه من فشل ثم يبدأ جهاداً جديداً، وهو أتم ما يكون يقيناً أن الله سيجعل بعد عسر يسراً.
ولما طرق كل المناطق في جزيرة العرب، وانسدت في وجهه كل أبواب الرزق، شخص إلى الشام ليجرب حظه هناك، ولينتظر قضاء الله فيه. . . ولكن الدنيا وانته في (سوريا) وتحول فيها مجرى حياته، فقد كان يؤدي صلاة الظهر في أحد مساجد دمشق فلما قضيت الصلاة، وانتشر الناس في الأرض، ولم يبق في المسجد إلا أفراد معدودون، انزوى في ركن من أركانه بجوار أحد الأعمدة، وغرق في بحر من التأمل والتفكير، فاسترعى نظره إلى رجل إلى جواره، مهيب الطلعة، طلق المحيا، جسيم وسيم، فانتقل إلى جواره، وبعد أن حياه قال له:
- من أي بلاد الله أنت أيها الشيخ؟ فليس على وجهك طابع هذه البلاد؟. فقال له إدريس:
- إني من بلاد الحجاز يا سيدي، وقد صدقت فراستك.
- ولماذا نزحت إلى هنا؟
- لأبحث لي عن عمل أرتزق به
- أتجيد القراءة والكتابة؟
- ما أنا بقارئ ولا كاتب.
- وماذا تمتهن إذن؟
- إني ماهر في تربية الخيول وركوبها، وحاذق في الرماية وإصابة الهدف.
- عجيب جداً! كيف تكون كما تقول ولا تجد لك عملاً؟
- هي إرادة الله يا سيدي، وليس هذا عملاً مربحاً عندنا، وعلى المسلم أن يرضى بما قسم الله له، وأن يكد ويسعى في طلب العيش من وجه حلال، وما وراء ذلك فالأمر موكول فيه لله عز وجل.
- اسمع يا أخي!. . إنني غريب عن هذه الأوطان، وقد جئت هنا للتجارة، وسأرجع إلى (الأندلس) وطني ومسقط رأسي بعد أيام قلائل، وسأكون سعيداً إذا رافقتني إلى بلادي
وقبلتأن تعمل معي.
- إني أقبل شاكراً، ولكن أي عمل تكل إلي أداءه؟
- قد سمعتك تقول آنفاً إنك فارس مبدع، وراشق ماهر. سيكون هذا عملك، لأني سأنيط بك حراستي في حلي وترحالي.
- ستجدني أن شاء الله صابراً، ولا أعصي لك أمرا.
- ذلك ما كنا نبغي.
ولم تمض إلا أيام تعد على أصابع اليد حتى كان إدريس يرافق القافلة الصغيرة إلى بلاد الأندلس، ويقضي النهار في حث الإبل على مواصلة السير. . . فإذا ما جن الليل. . . وادلهمت جوانب الكون، حطوا رحالهم، ونصبوا خيامهم، وامتشق إدريس ورفاقه سيوفهم، وقضوا الوقت في حراسة المتاع، والحفاظ على التاجر.
وبعد رحلة شاقة، وسفر، بلغت القافلة مرفأ على الشاطئ الإفريقي المواجه لبلاد الأندلس، اعتاد التاجر أن ينتقل منه إلى الشاطئ الآخر، وكان إدريس - طوال هذه الرحلة - مثالاً للرفيق المخلص، والحارس الأمين، دائب السهر على خدمة سيده، مجسدا في تهيئة الراحة له، حتى انتزع إعجابه ومحبته، ونال رضاه وتقديره، ولقد كان للبيئة الإسلامية التي تربى إدريس فيها كبير الفضل في غرس الصفات الحميدة والأخلاق الكريمة في نفسه، فنشأ مخلصاً أميناً، وفياً كريماً، فانطوت القلوب على محبته، وامتلأت النفوس له احتراماً.
ولقد تهيأت الفرصة التي تجلى فيها إدريس على حقيقته، وطبعت في قلب سيده حبه في أعنف مظاهره؛ فقد حطت القافلة الرحال على نصف ميل من المرفأ في ليلة اعتكر ظلامها، وخبا نجمها، وجعلت خيمة التاجر في الوسط، وأحاطتها بسائر الخيام وكان عليها أن تعسكر في هذا المكان أسبوعاً كاملاً إلى أن تعود السفينة التي تتنقل بالمسافرين من شاطئ إلى آخر، وكان التاجر قد طال غيابه عن أهله ووطنه، فحمل في عودته كثيراً من التحف النادرة، والهدايا الثمينة، والأواني الذهبية، ليتحف بها ذويه وعشيرته الذين برح به الشوق إليهم، وكانوا جميعاً يقضون النهار في الراحة ورعي الدواب، ويقضون الليل في السهر والحراسة.
وإنهم لفي أصيل يوم من الأيام يتأهبون لعملهم الليلي إذ لاح لهم عن بعد نقطة سوداء، فوق
صفحة الماء، وكانت تزداد كبراً، كلما ازدادت منهم قرباًن ولقد تبين فيها حراس المرفأ سفينة صغيرة، (للقراصنة) فبذلوا جهدهم لأبعادها عن الشاطئ، ووزع الضباط رجالهم على الساحل، ليتبادلوا الحراسة طول الليل، وكذلك فعل رجال القوافل الذين كانوا في انتظار السفينة لتقلهم إلى الشاطئ الإسباني عندما علموا أن المركب (للقراصنة) وأنهم سينالون منهم لا محالة. . .
وقد أمر التاجر رجاله أن ينظموا خطط الدفاع والمقاومة، وان يتبادلوا مع إدريس المشورة والحراسة، وكان الظلام قد أسدل ستراً كثيفاً على الخيام، ولف الكون هدوء شامل، عندما فوجئ القوم بضجة وجلبة على الشاطئ، وعلموا أن القراصنة أقرب إليهم من حبل الوريد، فقد أرسوا سفينتهم، ونزلوا إلى الأرض في مكان لم يقدر الحراس أنهم يستطيعون النزول فيه فأهملوا حراسته.
كان إدريس قد غادر موضعه إلى ظاهر الخيام ليقضي حاجته، وترك رفاقه يحرسون المتاع، وقد أخذوا الأهبة وأتموا الاستعداد، ولكن القراصنة كانوا حريصين على أن يصلوا إلى أغراضهم عن طريق الحيلة من غير أن يستعملوا سلاحاً، أو يريقوا دماء؛ فهم يعلمون أن المسافرين يكثرون من الأتباع لحراستهم ومرافقتهم، وأن هؤلاء الأتباع يستهويهم المال، فنادى رئيس القراصنة وقائدهم قائلاً:
- أيها الحراس! يا من ترافقون القوافل من أجل المال! إني أعدكم أننا سنشاطركم متاع هؤلاء التجار إن أنتم ألقيتم السلاح وعاونتمونا في حزم وحمل الأمتعة إلى الشاطئ وسنتحملكم على سفينتنا إلى حيث تريدون.
(يتبع)
وهبي إسماعيل حقي
عضو البعثة الألبانية بالأزهر الشريف