المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 738 - بتاريخ: 25 - 08 - 1947 - مجلة الرسالة - جـ ٧٣٨

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 738

- بتاريخ: 25 - 08 - 1947

ص: -1

‌عبر لمن يعتبر

للأستاذ محمود محمد شاكر

في اليوم الخامس من أغسطس 1947 ارتفعت مصر والسودان بقضيتها إلى مجلس الأمن تطلب النصفة من بريطانيا التي اعتدت على استقلالها واحتلت أرضها من منبع النيل إلى مصبه، ووقف رئيس وفد مصر والسودان محمود فهمي النقراشي باشا يميط اللثام عن السياسة البريطانية منذ سنة 1882، وكان لابد له من كشف طرفاً من سوءات هذه الدولة التي قام كيانها على استعباد الشعوب وإذلالها وأهتضام حقوقها. وكان الذي كشفه شيئاً ضئيلاً إذا قيس بما كان يمكن أن يقال أو يكشف من الأساليب الخبيثة التي دأبت بريطانيا على التذرع بها إلى عدوانها الوحشي على الأمم في القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر الميلادي. وكان رئيس وفد مصر والسودان يذكر الماضي ويروي عن التاريخ أصدق رواية في أعف لفظ، فأبى له أدبه أن يصف أفعال بريطانيا باللفظ الذي ينبغي أن توصف به، والذي سوف يصفها به التاريخ بعد أن تسقط هذه الدولة من عداد الدول التي يكون لها في هذه الأرض سلطان يقوم على القوة الغاشمة، والدعاية الكاذبة، وعلى التضليل والافتراء والعبث بعقول الناس.

ولم يكد النقراشي يفرغ من عرض قضية بلاده على أعضاء مجلس الأمن، حتى هب مندوب بريطانيا السير ألكسندر كادوجان يروي لمندوبي مجلس الأمن تاريخ هذا العدوان البريطاني رواية ملفقة مبتورة حشوها العبث بالتاريخ، والاستهانة بالجنس البشري، والاستخفاف بعقول الذين يسمعون روايته المدلسة عن تاريخ حقبة من الدهر يستطيع كل مندوب ممن يسمعونه أن يفتح بعدها أي كتاب من كتب التاريخ الصحيحة، فيعرف مقدار السخرية التي سخر بها هذا الرجل من سامعيه. وكان يسوق هذه الرواية المزيفة بأسلوب الواثق المطمئن بأسلوب الصادق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. ولا ريب في أن السير ألكسندر كادوجان هو أول من يعلم أن الذي يقوله باطل كله، ولكنه رجل من ساسة بريطانيا - أي رجل من أعظم الممثلين الذين يجعلونك تحس أن المسرح قد انقلب تحت عينيك حقيقة واقعة.

ونحن لن نعلق على ما قاله النقراشي باشا ولا على ما قاله السير كادوجان، فالحق أبين من

ص: 1

أن يحتاج إلى إيضاح لمن أراد الحق والتمسه وحرص على التثبت منه، ولست أظن أن أحداً من مندوبي أمم مجلس الأمن يخفي عليه وجه الحق الذي سمع من الرجلين. فإن كان بناء مجلس الأمن قائماً على العدل والإنصاف وإيتاء كل ذي حق حقه، فقد نالت مصر إذن حقها من غاصبها كاملاً غير منقوص ولا مشروط بشرط. وإن كان مجلس الأمن هو سوق الرقيق الحديثة التي أنشأتها الأمم الغالبة لكي تبيع خلق الله وتشتريهم على الهوى فإن مصر والسودان سوف تعلّم هذا المجلس علماً جديداً لم يكن يتوقعه من أمة ضعيفة أضعفها الاستبداد البريطاني على مدِّ خمس وستين سنة - لأنها أمة قوية قد علمها هذا الاستبداد أن الحقوق تنال بالجهاد المر، وبالدم المهراق، وبالإيمان الذي لا يتضعضع.

ولقد كان فيما قاله النقراشي وفيما قاله كادوجان عبر لمن أراد أن يعتبر، ونحن العرب أحوج الناس اليوم إلى الاستفادة من العبر المواضي، فإن جهاد مصر والسودان حلقة من حلقات الجهاد الذي كتب علينا منذ احتلت بلادنا بريطانيا وفرنسا وسواهما من الأمم التي استعانت على ضعفنا وغفلتنا بقوتها ويقظتها وجشعها الذي لا يشبع ولا ينطفئ.

فأول هذه العبر أنه ينبغي للمجاهدين في سبيل بلادهم أن يحذروا كل الحذر من الخوف، فإن الخوف آفة الجهاد، وما ساور الخوف قلباً إلا انتزع منه البصيرة التي هي رائد كل مجاهد. وما نفى الخوف امرؤ من قلبه إلا زلزل بجرأته قلب خصمه وجعله يضطرب بين يديه وإن كان أقوى منه بأساً وأشد صولة. وقد نفى النقراشي الخوف من قلبه، فوقف كادوجان بين يديه مضطرب الحجة حتى لم يجد لنفسه مناصاً من أن يلجأ إلى الأكاذيب القديمة التي ألفتها بريطانيا وبرعت في تزويقها وتزويرها تريد بذلك أن تسحر عقول الناس. ولو كان الساسة العرب قد حرصوا على أن يكون هذا موقفهم في كل أمر وفي كل عهد وفي كل ساعة، لما أتيح للاستعمار البريطاني والفرنسي أن يبقى ضارباً بجذوره في بلادنا إلى هذا اليوم من أيام الناس. فهذه جرأة اللسان، فعلى ساستنا منذ اليوم أن يتبعوا ذلك بجرأة أخرى هي جرأة العمل، ولو فعل الساسة أفعالهم بجرأة وشمم وإباء على الضيم، لما رأينا اليوم بلداً كمصر والسودان يعج بالمستهترين من الأجانب والمشردين وصعاليك الأمم، يستولون على أمواله وأراضيه وأخلاق بنيه باسم حرية المهاجرة وحرية التجارة وحرية العمل. لقد أظلهم الاستعمار البريطاني بظله وحماهم بحمايته حتى بات المصري والسوداني

ص: 2

غريباً في بلاده، يأكله كل طارئ، ويدعه جوعان عريان منبوذاً في بلاده وتحت سمائه.

وعبرة أخرى هي أن التساهل مخالفة العواقب شر كله. فقد رأى بعض ساستنا أنهم إنما يفعلون خيراً كثيراً لبلادهم إذا تساهلوا لبريطانيا في بعض الحقوق، ظناً منهم أن ينالوا من وراء ذلك حقوقاً أخرى هي أولى بالتقديم والنظر والاهتمام، فكانت العاقبة أن دخلنا مع بريطانيا في الدائرة المغلقة التي يسمونها (المفاوضة). فإذا نحن نضيع حقوقنا كلها جملة واحدة، وإذا بريطانيا تريد أن تحتج علينا اليوم بما تساهل به أولئك الساسة في حقوق بلادهم، فتأكل علينا حقنا كله حين تريد أن تمنعنا من أعظم الحقوق البشرية وهي الحرية. وتريد أن يقطع قلب مصر بقطع السودان عنها، لأن قوماً من الساسة غفلوا زمناً طويلاً عن رفض كل اتفاق لا يشمل السودان كما شمل الجزء الشمالي من وادي النيل وهو مصر، فارتضوا أن يعلقوا مسألة السودان ويأخذوا من عبث بريطانيا ما زورته لهم وخدعتهم به ثم هي اليوم تمن علينا أنها أعطتنا تلك الفضلات التي لا يعبأ بها إلا الذليل الخانع المقيم على الضيم.

وعبرة ثالثة هي أن زعماء الثورة على العدو ينبغي أن يظلوا أبداً زعماء الثورة، لا رؤساء حكومات تحت ظل حماية مقنعة تسمى استقلالاً كذباً وتضليلاً في العرف الدولي. فكان ينبغي لهؤلاء الزعماء أن يظلوا بمنجاة من إثم الحكم تحت ظل الاستعباد البغيض وأن يكونوا دائماً أيقاظاً لا تنيمهم شهوة الحكم، وبذلك يضمنون لبلادهم أن تظل يداً واحدة على العدو، وأن تظل يقظة متنبهة لا يخدعها لفظ (الاستقلال) عن الخبث الذي انطوى عليه وأن يصارحوا الشعب دائماً بالحقيقة التي لا تستر، وهي أنه صار (مستقلاً) في العرف الدولي، وأن يكشفوا له ما استطاعوا عن خدع الاستعمار الذي يعبث بهم. وإلا فأي خديعة كانت أكبر على هذا الشعب من خديعة الناشئة في المدارس والبيوت، وهم يقرئون ويسمعون أن مصر دولة مستقلة وهي اليوم تقف لتقول للناس على رؤساء الأشهاد في مجلس الأمن أن الاستقلال الذي ضمنته بريطانيا!! كان استقلالاً مزيفاً، لأن الجنود البريطانية كانت لا تزال تحتل بلادنا ولأن السفير البريطاني كان ينصب الحكومات المصرية ويقيلها كما يشاء وتشاء دولته المستعمرة لبلادنا. لقد ظن أولئك الرجال أن هذه سياسة وكياسة وحسن تدبير، فإذا هي غفلة وحماقة وسوء تقدير. ولولا يقظة هذا الشعب

ص: 3

الأبي الكريم، لما استيقظ هؤلاء الزعماء البتة، ولمضوا إلى الغاية في التنازع على الحكم وشهوات الحكم وفتن الحكم، فالشعب هو الذي انتهى بنا إلى مجلس الأمن لا الزعماء ولا أولئك الساسة.

وعبرة رابعة هي أنه ينبغي لزعماء الثورة أن لا يقبلوا البتة مفاوضة الغاصب على حق من حقوق البلاد، فإن حقوق الحرية مترابطة لا ينفك بعضها من بعض، ففيم يفاوض الإنسان إنساناً قد سلبه حقوقه؟ إنها كلمة واحدة:(هات حقي)، ولا تدع المطالبة بالحق كاملاً حتى يتركه لك أو تموت دونه. وما دام الغاصب لا يستطيع أن يفني شعباً بأسره، فالشعب هو الظافر المنصور في النهاية، مهما لقي من عذاب وتنكيل واضطهاد وبؤس. ولو كان هذا من فعل مصر والسودان منذ سنة 1882 لما انقضت سنوات بعد سنة 1919 سنة الثورة، حتى كان الغاصب قد أسلم إلينا حقوقنا كاملاً بلا معاهدة ولا مفاوضة. ولكن زعماء الثورة رموا بأنفسهم في المفاوضات، فكانت العاقبة أننا بقينا نفاوض بريطانيا سبعة عشر عاماً، فإذا هي تعطينا معاهدة سنة 1936 تحت الضغط والقهر والتهديد، وإذا هذه المعاهدة احتلال تام، ولكنه سمي بالعرف الدولي (استقلالاً).

وعبرة خامسة هي أن الذين يدخلون المفاوضات ويعقدون المعاهدات تحت ظلال السيوف، وبضرورة التهديد والقهر، كان ينبغي عليهم أن يكونوا ناساً غير زعماء الثورة، أما زعماء الثورة حين يفعلون ذلك، فهم بين رجلين: إما مدلس كذاب يخدع الناس ويقول للناس هذه معاهدة الشرف والاستقلال، وهي ليست سوى معاهدة للاحتلال الدائم، وإما رجل ضعيف الرأي منخوب الفؤاد يوقع على المعاهدة ثم لا يجرؤ أن يقول لشعبه إن هذا الذي وقعت عليه احتلال لبلادكم فأحذروه وارفضوه وثوروا في وجهي ووجه من رضيه معي. وهذا الثاني لن يستطيع أن يقول ذلك، فهو مضطر إذن إلى التلفف والتلفيق والسكوت وادعاء الشجاعة حين يقول. (هذه معاهدة لولا القهر والتهديد لما وقعتها)، ويقولها في غمرة تلك الأمواج الهائلة من الخداع والأكاذيب التي اصطلح على نشرها بين الشعب الغافل المنكوب زعماء من أنفسنا، وساسة من أخبث ساسة بريطانيا في هذا القرن. يا له من عبث أيها الساسة المخادعون! وتبتم أيديكم يوم وقعتم وثيقة أراد بها الغاصب إذلالكم وإذلال بلادكم فقبلتموها، وهو اليوم مصر على أخذ بلادكم بما جنت أيديكم من شرور تلك المعاهدة

ص: 4

الخبيثة التي زعمتم أنها فرضت عليكم فرضاً. ولقد كانت لكم مندوحة عن قبولها لولا الضعف والخور والجبن وشهوة الحكم التي استولت على قلوبكم.

وعبرة سادسة هي أن بريطانيا وكل دولة مستعمرة من هذه الدول الأوربية لا تتورع عن اتخاذ وسيلة تبلغ بها غايتها، فمن أجل ذلك ينبغي للشعب أن يعرف منذ الساعة الأولى رجاله ورجال عدوه، وأن يسم الخونة بسمة لا تزول، وأن يتناقل هذا التاريخ عاماً بعد عام وجيلاً بعد جيل في البيت والمسجد والمدرسة والمجالس، فهذا وحده هو الكفيل بأن يعرف الشعب حقيقة كل زعيم تسول له نفسه أن يستغل غفلة الناس أو ذعرهم أو لهفتهم فيغرر بهم في مزالق السياسة الاستعمارية، فإن مصر والسودان ظلت أعواماً تأبى أن تعترف باتفاقية سنة 1899 التي فرضتها بريطانيا على مصر والسودان على يد رئيس وزراء كان خليقاً أن يخون بلاده، ثم جاء الموقعون على معاهدة سنة 1936 فقبلوا أن يكون لهذه الاتفاقية الباطلة التي لم تعترف بها مصر قط - ذكر في معاهدتهم الوبيلة الخبيثة. فلو كان الشعب يومئذ على ما ذكر لما كان من شئون الخونة السابقين وما فعلوه، لما جازت عليه الكلمة الملعونة في معاهدة سنة 1936، ولثار يومئذ على هؤلاء الزعماء لأنهم أهدوا كل جهاده الماضي، وكل ما أراق من دماء وأضاع من جهود، وأنفق من سنين بنص موبوء في ماعاهدة موبوءة.

ولن نفرغ من ذكر العبر الكثيرة التي توحي بها هذه الساعات في المعركة الفاصلة بيننا وبين بريطانيا في مجلس الأمن وفي كل عبرة من هذه العبر خير كثير يرجى أن لا يفوت العرب إذا حذروا وانتبهوا وآثروا السلامة مما وقعنا نحن فيه. ومن حسن الحظ أن أكثر زعماء العرب اليوم من مراكش وتونس والجزائر وليبية وفلسطين والعراق هم اليوم أشد إحساساً من أسلافهم بالتبعة الملقاة على كواهلهم، وأقوى إيماناً بالحقوق الإنسانية من بعض زعمائنا في الماضي، ولكن ينبغي لهم أن يجتنبوا كل الاجتناب أن يقبلوا مفاوضة الغاصبين أو معاهدتهم أو الدخول معهم في حديث السياسة والكياسة واللباقة، فإن هذا وإن أفاد قليلاً، فإنه شر مستطير على مستقبل الشعب في الشئون السياسية، وفي النواحي الأخلاقية وحسب هؤلاء الزعماء العرب ما جربته مصر من مطاولتها والمد لها أكثر من تسع وعشرين سنة باسم المفاوضات والمعاهدات، حتى فقد الشعب كثيراً من إيمانه بحقوقه،

ص: 5

ولولا أن الله أتاح لنا هذه الحرب الأخيرة لتنفض عن عيوننا النوم والتخدير الذي أصابها باسم المفاوضة لظللنا إلى اليوم نياماً تجرنا بريطانيا وراءها طمعاً منا في أن ننال شيئاً من حقوقنا بمفاوضتها ومعاهدتها

أيها الزعماء العرب لا تخونوا بلادكم: أي لا تفاوضوا بريطانيا أو سواها من الدول المستعمرة ولا تعاهدوها ولها في بلادكم ظل من سلطان، ولا تخافوها ولا تخشوا لها بأساً ولا قوة واحرصوا على أن تبقى شعوبكم عالمة بحقيقة ما يحيط بها بكل أسلوب تستطيعونه، وإياكم والحكم فإنه الفتنة المبيدة والآلة الحالقة والبلاء المبين. لقد كان لكم فينا عبرة فاعتبروا، وقفوا منذ اليوم أيقاظاً لا تغفلون، فربّ ساعة سوف تأتي علينا وعليكم فنناديكم للجهاد، فهبوا معنا واحذروا أن يكون بينكم زعيم يسول لكم أن الخير في الرضى والتراضي والتساهل، فإن ذلك هو الوبال، وهو آخرة العرب إن فعلتم. إن مصر والسودان قد بدأت أول الجهاد؛ فاستعدوا أيها العرب!

محمود محمد شاكر

ص: 6

‌القسم التاسع:

فرنسا ومستعمراتها

للأستاذ أحمد رمزي بك

قال ضابط البحرية الياباني:

(إنك لم تفهم بعد الدرس الذي تلقيناه من أجدادنا بهزيمتهم وموتهم: إنه درس صبر وعناد ويقظة واحتراس ومكر وخديعة. لكي ننتصر على أعدائنا ذهبنا لمدارسهم وكانت عقولنا لا تهضم تعاليم الغرب وأساليبه. فشعرنا بحاجتنا إلى عقلية أوروبية فأقدمنا بكل صعوبة وألم وحسرة على التحرر من أشياء عزيزة علينا للحصول عليها. ولكن هذا التغيير كان لازماً نعم لأجل الخلاص لأجل إنقاذ الوطن لكي ننتصر على الأعداء في الميدان).

(من كتاب المعركة)

كفاح الجزائر أمام جحافل فرنسا

إننا لا نحاول سرد حوادث هذا الكفاح، لأن من السهل تتبع معاركه وأدواره وحلقاته من كتب التاريخ في مختلف اللغات ولذلك سنكتفي بإعطاء فكرة إجمالية، أو رسم صورة عامة من التي يراها واقف على مرقب أو مركز للرصد من على رابية عالية تشرف على الحوادث والتطورات وعلى مواقع القتال. ونرجو أن نوفق في إخراج التاريخ صورة حية وذكرى لمن شاء أن يتذكر من دروسه وتجاربه وعبره حتى لا تتكرر الأخطاء مرة أخرى في تاريخنا وكفاحنا.

كانت حكومة الجزائر الإسلامية من الحكومات التي ليس لها سبيه أو مماثل في التاريخ إذ كانت تابعة للدولة العثمانية ولكنها تتمتع بسيادة وحرية، وكانت خارجة على القانون الدولي والعرف السائد بين الأمم الأوروبية ومع ذلك فهي تفرض الإتاوات على دول الغرب وتتقاضى رسوم المرور في عرض البحر، وإلا هاجمت أساطيلها المراكب البخارية، وأحياناً ثفور هذه الدول ومرافئها، ولهذا سالمتها الحكومات المختلفة وأذعنت لقبول ما تفرضه هذه الحكومة عليها، فكانت فرنسا ترسل إليها هدايا معلومة مالية أحياناً وأخرى معدات وآلات حربية، وكان هذا شأن بريطانيا معها والدانمارك ومملكة صقلية والبرتغال

ص: 7

والسويد والنرويج حتى ولايات ألمانيا والولايات المتحدة خضعت لهذا النظام العجيب الذي فرضته حكومة قليلة العدد ولكنها كثيرة البطش. وكانت قواتها المسلحة تتراوح بين 15 و20 ألف مقاتل من الجنود الأتراك أو أبناء هؤلاء من أمهات وطنيات وكان ينضم إليها رجال من قبيلة زواوه وهي التي حرفها الفرنسيون فأصبحت فرق الزواف المشهورة التي قامت على متطوعي هذه القبيلة وبقايا جند حكومة الجزائر النظامية.

وعلى هؤلاء الجنود اعتمد الدفاع عن المدن السياحية عند مهاجمة الفرنسيين ولما تثبتت قواعد حكمهم جندوا من الأسرى أول فرقة وطنية للاستعانة بها.

أما في الداخل فقد قامت قوة الدفاع على جماعات المقاتلة من رجال القبائل وهم مشاة وفرسان على طريقة حروب البادية، ولما اشتدت المعارك فكر الأمير عبد القادر في إدخال النظام العسكري الحديث مقلداً المحاولات التي حاولها كل من محمد علي والسلطان محمود العثماني، ولاشك في أن هذه المحاولات قد بهرت أنظاره وتطلع إليها وحاول تقليدها.

وفي سيرة الأمير ذكر ابتداء هذه الحركة وانتشار الدعوة إلى تجنيد الأجناد وتنظيم العساكر تحت اللواء المحمدي وإيجاد دفاتر لقيد الجنود الذين بدءوا تدريبهم وأتموا تعليمهم ورسم الذين حملوا السلاح منهم، كما فيها وصف كامل لأصناف الفرق من مشاة وفرسان ومدفعية وطريقة التعبئة والسير والنزول في المعسكرات ويظهر أن هذه القوة مع اهتمام الأمير عبد القادر بها لم تكن هي التي يقع عليها القتال وحدها وإنما كان الكفاح موكولاً إلى رجال القبائل وكانت هي بمثابة قوات ثانوية مساعدة ومكملة.

أما الفرنسيون فكانوا على علم تام بطبيعة الأرض الجزائرية من ناحيتها الجغرافية والطبوغرافية ولديهم الخرائط المفصلة عنها، فقد أثبتت المراجع الرسمية أن نابليون الأول أرسل ضابطاً فرنسياً إلى الجزائر عام 1808 وكلفه أن يدرس بالتفصيل مشروع الحملة الفرنسية ووضع الخطط العسكرية الشاملة، وقد قام هذا الضابط بمهمته وصحح المواقع على الخرائط ورفع تقريراً وافياً عن الشاطئ الإفريقي والأماكن التي تصلح لإنزال الجنود وأشار إلى الطرق والآبار والوسائل التي تؤدي إلى حشد القوات وربطها والسير في حلقات الحملة، ولم يكن لدى الفرنسيين عند عدوانهم سوى إخراج هذا التقرير من ملفات وزارة الحربية وتقييد ما فيه وهذا ما حدث في عدوان سنة 1830. إذ أنزلت الفرق في الأماكن

ص: 8

المختارة في هذا التقرير وتحت تجارب حملة مصر عند احتلالها مدينة الإسكندرية واختيارها منطقة العجمي التي تشبه سيدي فرج.

ولم يكن الفرنسيون على جهل بأساليب القتال لدى المسلمين، فهم قد حاربوا المماليك في معركة أمبابة ورأوا ما يمكن أن تقوم به أساليب القرون الوسطى أمام جنود معبأة على الطرق الحديثة، ثم هم لم يهملوا تتبع التطور الذي أدخل على أنظمة جيوش المسلمين، فقد كان من ضباطهم وقوادهم من رافق حملات مصر ضد الوهابيين وكانوا في الصفوف الأولى يقيدون حركات المصريين ودفاع الوهابيين ويكشفون عورات الجانبين ثم يستفيدون من كل ذلك في حروبهم بالجزائر.

واختير للقيادة البرية الماريشال بودمون وهو من رجال سنة 1815 أي من الضباط الذين قاتلوا في معركة واترلو وحضروا معارك نابليون فأسندت إليه آمرية حملة بنيت على تقرير ضابط من ضباط نابليون، وكان على الأسطول الأميرال دوبريه ولكل منهما طابعه الخاص ورغبته في الانفراد والتسلط فما لبث أن دبَّ الخلاف بينهما ولولا تعليمات الحكومة الصريحة أنه إذا اختلف الرأيان، فضل رأي المارشال وأسندت إليه القيادتان البرية والبحرية لاستفحل بينهما النزاع ولفشلت الحملة.

ولعل أعظم ما ساعد الفرنسيين على التغلب هو أعمال المدفعية التي تجرها الخيول فقد امتازت منذ الساعة الأولى كما ذكرنا بقوة نيرانها وتوفيقها في إصابة الأهداف وسرعة حركتها، فكانت أول عامل من عوامل النصر لديهم، كانت كمدرعات هتلر وفرقة البانزو الألمانية في الحرب الأخيرة، وهي الميزة التي كانت لدى الفرنسيين على جند حكومة الجزائر وعلى العرب المجاهدين ولولا هذا القطع من المدفعية لكانت الحرب بين الفريقين على مستوى واحد من تكافؤ فرص وتكافؤ معدات القتال.

فلننظر إلى ساحل ممتد مئات الأميال عليه مدن ومرافق متعددة ويتكون الداخل من سلاسل جبال ووديان ورمال تصلح للحروب ويسمح للقبائل والعشائر التي تسكنها أن تتولى عملياتها بكل سهولة ضد الجيش المهاجم سيما وهي من جماعات ألفت الحروب.

على هذا الميدان نزلت قوات فرنسا بمعداتها الثقيلة ومهماتها الأوربية لتواجه أهل البلاد ولديهم ثلاثة أصناف من المقاتلة. جند حكومة الجزائر وحكام المقاطعات الجند النظامي

ص: 9

الذي أنشأه الأمير عبد القادر ثم العمود الفقري للقتال وهم رجال القبائل الذين لبوا دعوة الجهاد.

هذه هي حرب الجزائر التي اشتدت وطأتها على أربعين ألفاً من الجنود الأوروبيين اصطلوا بمعاركها ومشوا إليها تحت وهج الشمس، فتغيرت سحنتهم وتبدلت لديهم ملابس الميدان وأصبحوا مع الزمن كقطيع منفصل عن العالم لا يعرف سوى الحرب والدمار وإسالة الدماء على الأرض الإفريقية. هذا جيش أفريقيا الفرنسي الذي ولد ونشأ وترعرع في معارك الجزائر وحروبها القاسية.

ودارت رحى الحرب سنوات والهزائم تتوالى والمصاعب تتضاعف وليس لدى الفرنسيين الخبرة الواسعة بالإدارة والحكم فهم تارة يجنحون إلى الشدة ويقنعون أنفسهم أنها هي الحزم وأخرى يتقربون زلفى إلى الأهالي، وفي أوقات يقدم قواتهم على عمليات حربية فيها المجازفة والتسرع فترتد عواقبها وخيمة عليهم.

من وسط هذه النكبات ظهرت فكرتان: الأولى إنشاء فرق من الجنود الوطنيين لخدمة فرنسا والثانية إنشاء المكاتب العربية التي أطلق عليها في النهاية اسم المكاتب الوطنية.

وقد ظهرت بوادر النجاح في الناحيتين إذ بالاعتماد على الفرق الوطنية المقاتلة وبعد احتلال مدينتي بون ووهران واتباع خطة الدفاع أمكن إنقاص القوات الفرنسية من 37 إلى 11 ألفاً فعد هذا نجاحاً للقيادة.

أما المكاتب العربية فهي التي وضعت سياسة التخريب والتشريد وهي إحراق المناطق المزروعة ومصادرة قطعان الماشية التي تملكها القبائل العاصية والاستحواذ على الأطفال والنساء كرهائن والفتك بهم إذا استمرت الحرب وأخيراً تطور هذا النشاط إلى القمة واتجه إلى بذر الشقاق بين عناصر وطوائف الأمة الجزائرية، وخلق قضية العرب والبربر فكسبت هذه المكاتب في هذا النشاط من المعارك أضعاف ما كسبته فرنسا بقوة السلاح.

وكان الأمير عبد القادر أول ضحايا عمل هذه المكاتب، فإن قواد فرنسا حاولوا كثيراً أن يعقدوا اتفاقاً معه ولما توصلوا لذلك واعترفوا باستقلاله وإمارته، سلطوا مكاتبهم عليه ووجهوا المطاعن بواسطة وكلائهم وخدامهم فقالوا إنه حالف الكفار وأعداء الدين فأصبحت بيعته باطلة ووكالته على الناس غير قائمة، وعرفت هذه المكاتب السياسية أن تجعل بين

ص: 10

أبطالها من هم من رجال الدين والطرق والزعامة، وجندت من يتظاهر بالجهاد والوطنية، وأصبحت مع الزمن من أخطر المنظمات الاستعمارية وأشدها وطأة بما تملك من الوسائل والقوى الخفية مما يعجز الناس عن تصديقه

ولقد عشنا في كثير من بلدان الشرق ورأينا أمثال هذه المنظمات تعمل في هدم الكيان الإسلامي والاستقلالي، ورأينا أناساً يقودون المظاهرات الوطنية ويخطبون في الجماعات ويجاهرون بمبادئ متطرفة، ويكتبون عن أنظمة للحكم يسارية أو نازية ثم يكتشف بعد ومن طويل وبعد فوات الفرص، أنهم مقيدون كخدم لهذه المنظمات الخطرة يتلقون وحيها ويعملون بأوامرها، وقد وصل بعضهم إلى المال والمركز والجاه تحت ستار الضحية والعمل والإخلاص فطوبى لهم.

ولهذا يجدر بالأحزاب والمتصدرين للجهاد في سبيل المثل العليا أن يرقبوا الأنصار والأتباع قبل الخصوم والأعداء وأن يقوموا من بين وقت لآخر بغربلة صفوفهم وإجراء حركة تطهير لأن الدول الاستعمارية وطدت سلطانها بهذه المنظمات وبمن يتبعها من الرجال المنبئين في كل جهة والذين يشايعون الاستعمار وتلعنه ألسنتهم ويتظاهرون بالتطرف لإخفاء حقيقة أمرهم.

ولقد تمكن الأمير عبد القادر من إيجاد دولة عربية مستقلة عاهدت الفرنسيين على السلام واحتفظت بقواها كاملة بعد أن حققت ما ترمي إليه بانتصارها في ميدان القتال ولكن الدولة التي عاهدها كانت تفكر قبل أن توقع على المعاهدة في نقضها فما أن وقعت عليها حتى بدأت ترسل النجدات تتري وأخذت تثير القبائل عليه

ويقول الفرنسيون في ذلك (إننا لم نعقد مع أمراء المسلمين معاهدة وإنما عقدنا هدنة لكسب الوقت حتى يتم تحطيم الجبهة الشرقية ثم نعود إليهم في وهران).

هذا ما حدث فإن ضعفهم تحول فجأة من جبهة الأمير عبد القادر إلى جبهة قستنطينة على حدود تونس حين عبأت فرنسا قواتها بكاملها وزحفت على المدينة في هجمتين فشلت في الأولى فبراير 1837 وكان ذلك قبل التوقيع على معاهدة تفنا مع الأمير ونجحت في الثانية بعد نقل حاميات الغرب فاقتحمت المدينة المحصنة في أكتوبر سنة 1837.

ومن ذلك يتضح أن قواد فرنسا بعد أن أدركوا فداحة حرب الجزائر أخذوا ينسقون بين

ص: 11

خططهم الحربية فوضعوها على مراحل إذا أتموا مرحلة انتقلوا لغيرها، ووضعوا المبدأ الثابت وهو شراء النصر والغلبة بأي ثمن حتى لا تفقد فرنسا هيبتها العسكرية، ولذلك وصلت جيوشهم إلى 56 ألف مقاتل في سنة 1840، واستدعت فرنسا بعض الكتائب الممتازة من أصناف القناصة التي كانت تعد من قبيل فرق الكوماندو في العصر الحاضر مع اختلاف التدريب أي زهرة الجيوش الفرنسية.

أما الأمير فقد آمن بعد مفاجئة الفرنسيين لعاصمته، بالفرق الكبير (بين الجنود المنتظمة والجنود المتطوعة) ولذلك انتهز فرصة المعاهدة وعزم على إنشاء جيش نظامي حديث:(فعقد مجلساً عاماً من رجال الدولة وأعيان الرعية وخطب فيهم خطبة أوضح فيها فوائد العسكر النظامي ومنافعه وأخبرهم أن اعتزم على تنظيم عدد منه، فأجلبه الجميع. . . ونودي أنه (صدر أمر مولانا ناصر الدين بتجنيد الأجناد وتنظيم العساكر. . . فمن أراد الدخول تحت اللواء المحمدي ويشمله عز النظام فليسارع إلى إدارة الإمارة والمعسكر ليقيد اسمه في الدفاتر الأميرية).

ومع انتصارات فرنسا في جبهة قستنطينة أخذت تظهر بين جنودها آثار الحروب الإفريقية ومتاعبها، فقد برهنت سنوات السلم، ازدياد حوادث العصيان بين الجنود الأوروبيين ومخالفة الأوامر وعدم الإذعان للقواعد المعمول بها في الفرق الفرنسية بأوروبا نتيجة لاختلاف البيئة والجو، بل أن مضي السنوات أظهر اختلاف الأنظمة الصحية، وأساليب التغذية وتموين الفرق مما أدى كما قلنا إلى الاستهانة بتطبيق القواعد العسكرية وظهور حوادث العصيان، وأعقب ذلك نكبة مليانة التي ظهر للعيان ضعف قوة القتال لدى الفرق الفرنسية الصميمة وفقدان الروح العسكرية ودرجة الضبط والربط التي عرفت عن الجيش الفرنسي إزاء هذه النكبة اضطرت فرنسا إلى تغيير قيادتها العامة في الجزائر برمتها وأجبرت على إدخال أنظمة جديدة للجيش وإلى العمل على رفع مستوى الحياة في الثكنات والمعسكرات والتشديد في المحافظة على روح المقاتلة والكفاح في المستوى المعتاد بعد أن هبطت هبوطاً ملموساً في المعارك الأخيرة.

ولم يستفد الأمير عبد القادر من هذه الفوضى الضاربة أطنابها لما ينقصه من خبرة وإلمام بأساليب الأوروبيين وأنظمتهم وإلا لضربهم ضربة مميتة.

ص: 12

ومن كل ذلك نخرج بنتائج مؤلمة:

إن جهاد أهل الجزائر كان مجيداً ومشرفاً لهم ولكنه لم يكن موحداً تتولاه هيئة قيادة عامة كان جهاداً مرتجلاً ولم يكن هناك ارتباط أو تفاهم أو تآزر بين مختلف الجهات.

إن الأمير عبد القادر بقي وحده يجاهد فلم تصله أية مساعدة من تركيا أو مصر.

إن عبقريته ظهرت في المعارك التي انتصر فيها ولكن لم يكن يدعمه أحد من القواد أو الفنيين أو الأوروبيين.

إن متاعب العدو ومشاكله بقيت مكتومة عن علم الأمير وقواده.

إن المكاتب العربية التي أنشأتها فرنسا كانت على علم تام بمشاكل الأمير ومتاعبه، وكانت تزيدها وتحركها وتشعل نيرانها إذا همدت.

إن السلم الذي حصلت عليه فرنسا كان هدنة لكي تتمكن من توجيه ضرباتها من جهات أخرى ثم تعود إلى الجهة التي سالمتها لتقضي عليها.

في وسط هذه الحروب تبدو حكمة الضابط الياباني أنه أخذ العقلية الأوروبية لأجل الخلاص لأجل إنقاذ الوطن لكي ينتصر على الأعداء.

أحمد رمزي

ص: 13

‌على ثلوج (حِزْرين)

للأستاذ علي الطنطاوي

- 5 -

أقامت ليلى في دار أسعد شهرين محمولة على الأكفّ، مفدّاة بالأرواح، قد هيئت لها كل أسباب الرفاهية، وأحيطت بكل مظاهر الترف، وسيق لإسعادها كل ما وصلت إليه الحضارة، وأبدعه العقل، فلا ترى إلا جميلاً، ولا تشم إلا طيباً، ولا تسمع إلا ساراً، ولا تأكل إلا لذيذاً، ولكنها لم تكن سعيدة. . . ولم تر حسن ما هي فيه، لأنها افتقدت النور الذي ترى به جمال الدنيا حين افتقدت الحبيب.

ولم يكن لها ما تشكو منه، فقد أعطاها أسعد كل شئ، ولم يطلب منها شيئاً. وكان يسرّها محضره، ويهزّها كرمه، ويعجبها أدبه، ولكنها لا تحسّ الفراغ في نفسها لغيبته، ولا تجد الخفقان في قلبها لحضوره، ولا يحملها حديثه على أجنحة الخيال، إلى العالم المسحور الذي كانت تحملها إليه أحاديث هاني، على جفوتها وفراغها. . .

ولقد أحب أن يتم عليها سعادتها بالبحث عن هاني، فبعث الرسل ينفضون الأرض، ويفلّون المدن، ويبحثون في الهضاب والشعاب، فلم يقعوا له على أثر، وطفقت ليلى تفكر فيه حتى خدر فكرها وكلّ، وانطوى على هذه (الفكرة) الواحدة، فلا يعنى بغيرها، ولا يفرغ لسواها، وأدركت أن هذا العالم الذي بدا لها أول مرة بهياً فاتناً: عالم الذهب والحرير والزهر والعطر، جميل، ولكنه كجمال الدمية الفنية، لها المقلة الساحرة، والقامة الفتانة، ولكنها باردة ليس فيها روح، وهل روح الحياة إلا الحب؟

جز يا جمل البقاع، واسمع أحلى الأغاني، وشمّ أطيب العطور، وافتقد الحبيب لا تحس لذلك لذة، ولا تجد طيباً. . .

. . . ولكن الأيام تبدل كل شيء، وقد بدل ليلى كرّ الأيام، فلم يجف الجرح في قلها، ولكن مسّ الحنان قد راضه على السكون، ولم يذهب الحب من نفسها، ولكن عرفان الجميل، قد ألقى عليه غطاء فأخفاه، ولم تنس حياة القصر وساعات الصخرة، ولكن غياب هاني قد حملها على الأنس بهذه الحياة الناعمة المرفهة التي نشأت عليها وتعودتها، هذه هي معيشتها لا معيشة هاني، الذي ألقته المقادير أمامها، وقد ولد في غير بيئتها، وجبل من غير طينتها.

ص: 14

ويا ليتها لم تكن عرفت هاني، ويا ليت أسعد كان السابق إليها، إذن لوجدت السعادة كاملة، لا ينقصها شيء، ويا ليت الحب، هذا الطفل الأعمى، لم يكن رماها بهاني، بالغلام القذر الذي جيء به من أزقة بيروت، فتعلقت به، كما يتعلق المرء بكأس الخمر، تهري أمعاءه، وتشتاقها نفسه، بل هو القدر، القدر الذي جعل جسدها منعماً في هذه الجنة، وقلبها معذباً في ذلك (الإسطبل)، وكتب عليها أن تعيش مع أسعد، ويكون حبها لهاني.

ولم يكن أسعد وأخته، يدعانها لحظة كيلا ينبثق جرح قلبها، وكانا يطرفانها أبداً بأجمل الطرف، وأرق الأحاديث، ويجددان لها كل ساعة مسرة، ولكنها كانت كلما خلت بنفسها، أو لمحت الصخرة من بعيد، ذكرت ليالي الحب عند الصخرة، وعادت تفكر في هاني: أي أرض تحمله، وأي سماء تظلله، وهل هو حي لا يزال، أم قد طواه الثرى؟ ويا ليتها تستيقن موته، فتستريح إلى اليأس، وتتعزى بالعجز. . .

وكان أسعد يوماً من أيام النقاهة إلى جانبها، وقد أضجعها على أريكة في الحديقة، تضحى بشمس الصباح تظللها بواسق الصنوبر، وتحف بها فواتن الأزهار، وقعد على كرسي صغير، ينظر إليها كما ينظر الوثني إلى صنمه، يطل قلبه من عينيه حباً، ويقف لسانه هيبة، وتنقبض يده إكباراً فلا يمسّه إن مسّه إلا بأطراف الأنامل، وكان يتأمل شفتيها، حتى إذا تحركت طالبته شيئاً جاءها به قبل أن يتم اللفظ، ويلحظ عينيها حتى إذا مالت إلى شيء حملها إليه قبل أن يرتد الطرف، وطغت عليها عاطفة الشكر وعرفان الجميل، فأمّرت أصابعها على شعره فأحسّ رجفة الكهرباء العلوية، التي لا تمشي في سلك ولكن تسير في الأعصاب، ولا تضيء البيوت ولكن تنير القلوب، ولا تحرك الآلات ولكن تحرك الكون، الكهرباء التي اسمه الحبّ، وتجرأ فقال الكلمة التي كان يرددها في نفسه على عدد الدقائق والثواني ولا يجرؤ أن يقولها، قال لها:

- هل تقبلين بي يا ليلَ زوجاً؟

وسكت يرقب الكلمة التي تعرّفه مصيره في هذه الدنيا، إما إلى جنة الحب، أو إلى نار الهجران، وسكتت ليلى لحظة ولكنها لم تذكر ماضياً ولم تفكر في مقبل، وإنما نظرت إلى الحاضر وحده، واستجابت لندائه، كما تفعل كل امرأة في الدنيا وقالت:

- نعم.

ص: 15

وتم الزواج!

ومرت سنوات طويلة، ناعمة هادئة، كأنها مياه البحر في خليج جونيه، واستقر الجرح في قلب ليلى، حتى ظنته قد التأم، ومنعته عناية أسعد ومحبته أن ينفجر أو يتسع، واتصلت المودة بينها وبين أسعد، والمودة إن اتصلت بين الرجل والمرأة لا تلبث أن تصير حباً، وكاد يجيء الحب، لولا أن عصف البحر في الخليج فجأة، وماج واضطرب، حين دخل الخادم يعلن قدوم هاني.

انفجر الجرح، وعاش الماضي، ونظرت ليلى إلى حاضرها الذي كانت تأنس به وتطمئن إليه، فوجدته يتهدم ويكاد يضمحل حين داهمه الماضي بسيله الدفاع، فتمسكت بأسعد الذي هو رمز هذا الحاضر، كما يتمسك الغريق ببقايا الزورق وهتفت به أن يمنعه من الدخول. فأبى أسعد، وحسب لغروره وجهله بطباع المرأة، إن الحب قد مات ودفن، لا يدري أنه دفن في القلب، ودفين القلب يحيا إذا ناداه الماضي، وأذن له بالدخول، وقام لاستقباله، وبقيت ليلى جالسة، ساكنة الجوارح وقلبها في زلزال، معرضة عنه وكل شعرة في جسمها تنظر إليه وتحس به، قد شحب لونها، واصفر وجهها حتى لم يبق فيه قطرة واحدة من الدم، ورفعت إليه عينيها أخيراً، فوجدته قد عاد بأبهى حلة، وأكمل زينة، تبدو عليه مظاهر الغنى، وعلائم الثروة، وتخاطبت العينان في لحظة، فألقتا ألف سؤال وسمعتا ألف جواب، وروتا قصصاً وساقتا أخباراً، ولم يدر حديثهما أحد، ثم أغضت، وأخذها مثل الدوار.

وسمعت وهي غيبتها أطرافاً من الحديث، فعلمت أن هاني قد عاد من أمريكا غنياً، وإنه اشترى قصر أبيها، وصار مالكه.

وكان لكل كلمة يقولها، وحرف ينطق به، معنى في نفسها، لا يدركه الزوج ولا ينتبه له، لقد كان يفهم معاني الكلمات في المعجم وهي تفهم معانيها في القلب المحب، وفي الماضي المبعوث، وتحس أن الحديث بينه وبينها؛ وإن كان الذي يرد عليه زوجها، ثم غشي عليها فلم تعد تشعر بشيء.

وذهب هاني إلى القصر، وقعد على كرسي سيدي الشيخ رحمه الله وراح ينظر حوله: لقد خرج من القصر أجيراً ذليلاً، وعاد إليه سيداً مالكاً، وصار علام تحت يده، يجرّعه إن شاء المرّ من كأس الانتقام ويجزيه بالسيئة قدمها له عشراً، وحافه الحظ، وسعى إليه المال،

ص: 16

ولكن ما فائدة هذا كله، وفي نفسه هذا الفراغ الذي لا يملؤه مال ولا قصر، ولا تسدّه لذة الانتقام، لقد ذهبت نشوة الظفر وعلم الآن أنه لن يسعده شيء مما على ظهر الأرض إلا هذه المرأة التي اسمها ليلى. وقد صارت ليلى لغيره. . . فلن يسعده شيء!

وعرض ماضيه كله، فتمنى أن تعود أيام الفاقة والعوز، وأن يعود خادماً ذليلاً يحيا بقربها، لقد كان في الحنان الذي ينبثق من عينيها، والفتون الذي يبدو في صورتها وحديثها، والعطر الذي يشمه من جسدها الغالي، ما يغنيه عن المال والجاه فهل يغنيه الجاه والمال اليوم عن حنانها وفتونها؟ لقد كان يفرّ إلى الصخرة الجامدة، فينسى القصر وعذابه، فهل ينسيه القصر ونعيمه اليوم تلك العشايا الحبيبة عند الصخرة؟

لقد ضرب في الأرض، وخاض البحار، وذهب إلى أمريكا ليعود بالمال الذي يشتري به قلبها الذي صبا إلى المال، فماذا ينفعه الآن إن اشترى القصر وخسر القلب؟ ألهذا كدّ ونصب؛ وحمل الجوع والتعب، وسامر طيف الحب في ليالي الغربة، وتجرع مرارة الهجر في دار النوى؟

إن كانت هذه هي الغاية، فيا ضيعة المسعى، ويا ضلّة المطاف

(الخاتمة في العدد القادم)

علي الطنطاوي

ص: 17

‌3 - حجة تاريخية

للدكتور جواد علي

وبعد سقوط القدس على أيدي البابليين عام 586 قبل الميلاد سبى (نبوخذ نصر) العبرانيين وأخذهم معه إلى العراق إلى أرض بابل وتعرف هذه الحادثة في التأريخ العبراني باسم (السبي) وقد استولى (نبوخذ نصر) أربع مرات على القدس، المرة الأولى في أيام الملك (يهوياقيم) سنة 602 قبل الميلاد وكان هذا الملك ملك (يهوذا) وهو ابن (بوشيا) وأخو (يهوآحاز) الذي خلفه في الملك وكان اسمه (الياقيم) فغيره فرعون (نخو) إلى يهوياقيم عندما أجلسه على الكرسي وكان تحت الجزية لفرعون أربع سنين.

ثم سارت عليه جيوش ملك بابل نبوخذ نصر فاستعبده ثلاث سنين (ثم عاد فتمرد عليه فأرسل الرب عليه غزاة الكلدانيين وغزاة الآراميين وغزاة الموآبيين وغزاة بني عمون وأرسلهم على يهوذا ليبيدها حسب كلام الرب الذي تكلم به عن يد عبيده الأنبياء.

ثم ما لبث أن أخذه نبوخذ نصر وقيده بسلاسل من نحاس ليرسله إلى بابل ثم تولى ابنه (يهويا كين) مكانه وفي أيامه تقدمت جيوش (نبوخذ نصر) للمرة الثالثة ودخلت القدس وأخذ الملك وأمه وعبيده وخصيانه وأكثر اليهود أسرى إلى بابل ومعه ما كان عنده من خزائن وما كان في الهيكل من أموال وقد فسرت التوراة ذلك لأنه عمل الشر وعصى أوامر ربه وسار على خطة أبيه وعين نبوخذ نصر (منيا) عم (يهويا كين) بدلاً منه وسماه (صدقيا).

وفي أيام هذا الملك كذلك تقدم نبوخذ نصر هو وجيشه وحاصروا القدس ثم قبضوا على الملك وأخذوه أسيراً إلى بابل وقيدوه بسلسلتين ثم أحرقت القدس والهيكل في السنة التاسعة عشر من حكم (نبوخذ نصر) وأخذ ما كان قد تبقى أسرى إلى بابل.

وعين البابليون (جدليا بن أخيقام بن شافان) على من تبقى من اليهود وقد جاء هذا الملك نداءاً إلى البقية الباقية من اليهود وناشدهم فيه بوجوب الإخلاص لملك الكلدانيين وامتثال أمره، ولما قتل خافه كل من في المملكة فهرب كل اليهود إلى مصر حيث فضلوا البقاء هناك.

ولما قضى الفرس على مملكة البابليين دخل اليهود في حكمهم وأصبحوا لهم أتباعاً. وغدت

ص: 18

فلسطين جزءاً من مملكتهم والواقع وكما تحدثنا التوراة أن العبرانيين كانوا ضد أي نوع من أنواع الحكم وأنهم لم يرتضوا أن يكونوا لهم مملكة لأن صفة البداوة كانت هي الصفة الغالبة عليهم، وأنهم حتى في أيام مملكة شاوؤل وداود وسليمان وهي المملكة التي يتغنى بها الصهيونيون لم يكونوا ينظرون إليها نظرة ارتياح وأن عهدهم لم يكن يخلو من اضطراب وثورات ولذلك كانوا عرضة للخضوع إلى الحكم الأجنبي.

ولذلك لم يكن ملوك إسرائيل أو يهوذا في الحقيقة سوى رؤساء قبائل أو أمراء مقاطعتين صغيرتين تابعتين لحكم الأجانب فحكمهم المصريون وأصبح ملوك المملكتين الصغيرتين (مملكة إسرائيل) و (مملكة يهوذا) يعينون تعييناً حتى أنهم كانوا يتركون أسمائهم ويتناولون أسماءاً جديدة يغدقها عليهم فراعنة مصر. ثم ملوك الكلدانيين فيما بعد وبعد انقراض دولتهم بسقوط (القدس) أصبحوا تحت حكم الدول الأجنبية تماماً. ولم يجد المفكرون من ذلك غضاضة كما نقرأ في الكتب العبرانية.

ومما يجدر ذكره هو أن العبرانيين لم يكونوا في يوم من الأيام راضين عن ملوكهم وإذا قرأنا التوراة نرى أن الملوك كانوا عرضة لنقمة رؤساء الشعب والكتاب البارزين وأن الأنبياء كانوا يتنبئون دائماً بحلول غضب الله على هؤلاء الملوك، ولم يظهروا كراهية للملوك الفاتحين وهذا ما يفند رأي الصهيونية في الدولة اليهودية القديمة.

ويلاحظ أيضاً أن العبرانيين القدامى قد استعانوا بالعرب وبغيرهم في الدفاع عن أرض فلسطين فلما حاصر الملك (سنحريب) مدينة القدس في أيام (حزقيا) لم يتمكن اليهود من حماية أنفسهم تجاه الآشوريين فاستعانوا بالعرب وطلبوا منهم المساعدة لخلاص القدس وقد سجل سنحريب في أخبار حملته لسنة 701 قبل الميلاد. وكان اسم الأمير العربي الذي لبى نداء الوطن فدافع عن اليهود وقاوم الآشوريين مقاومة عنيفة أزعجت الملك (سنحريب) هو الملك العربي (مصتري) وملك آخر عربي كذلك هو ملك مقاطعة (ملوخا) وبفضل هذه المساعدة الثمينة تمكن العبرانيين من الوقوف أمام الآشوريين.

وقد دافع العرب مراراً كثيرة عن أرض فلسطين في أيام الآشوريين والبابليين واليونان والرومان وقد تكبدوا من جراء ذلك خسائر فادحة ومما يذكر هو أن اليهود كانوا بالنظر إلى عدم استطاعتهم الوقوف أمام الأجانب قد اضطروا إلى الاتفاق مع الإمارات العربية

ص: 19

لاستئجار جيوش عربية لتتولى الدفاع عما تبقى من الأراضي في أيدي العبرانيين. ولم يبق بالطبع بعد السبي في فلسطين جاليات كبيرة من اليهود، بل أصبح اليهود أقلية خاضعة لحكم الأكثرية تسكن في أماكن معينة تحت حماية الفرس فاليونان فالرومان ثم البيزنطيين.

ولما احتل البابليون في عهد ملكهم نبوخذ نصر القدس كان العرب في ذلك العهد يمتلكون أكثر أراضي فلسطين مثل أرض موآب وأدوم وفلسطين الجنوبية وكانت عزيمة العبرانيين خائرة والنبي (أرميا) يحذر الناس من المقاومة ويطلب منهم الاستسلام وكانت نتيجة ذلك تخريب بيت المقدس والهيكل وأخذ اليهود أسرى إلى بابل، ومنذ ذلك العهد فقد اليهود عملياً كل كيان لهم في فلسطين.

أما العرب فقد دافعوا دفاعاً مجيداً أزعج نبوخذ نصر وجعله يقرر الزحف على البادية والحجاز بإشارة من أرميا وكانت المعارك شديدة بين الطرفين.

وقد تولى العرب منذ هذا العهد حتى الآن أمر الدفاع عن أرض فلسطين فكافحوا الحكم الروماني وحاربوا البيزنطيين ولما قامت جموع العرب في الحجاز تحت راية الإسلام تحرر البلاد العربية اشتركت القبائل العربية وأكثرها من كلب ولخم وجذام ومن استعرب من سكان فلسطين مع المسلمين في مقاتلة البيزنطيين إخوانهم في الدين، لأنهم كانوا يشعرون بشعور قومي وبشعور الرابطة التي كانت تربطهم بشبه جزيرة العرب وتقدمت الجيوش الإسلامية في أراضي سورية وتمكنت من طرد الروم. وفي ذلك دليل كاف في دحض حجج الصهيونيين.

وقد كان المسلمون والنصارى سكنة فلسطين يحاربون سوية جيوش الصليبيين الذين حاولوا باسم الدين احتلال فلسطين ولم يشترك أي يهودي في مقاومة هؤلاء الغزاة وقد اشترك العرب مسلمون ونصارى في مكافحة العثمانيين وتحرير فلسطين من حكمهم وفي النهضة العربية فأي حجة تاريخية يتذرع بها الصهيونيون إذا في حقهم التاريخي القديم في فلسطين وهم لم يقاتلوا في سبيل الأرض المقدسة ولم يحاولوا الوقوف أمام الآشوريين والبابليين والرومان عندما كانوا يدخلون القدس ويخربون الهيكل وبيت داود.

وقد ادعى الصهيونيون بأن العبرانيين كانوا يحنون دائماً إلى العودة إلى (أرض إسرائيل) وأنهم ما فتئوا يتذكرون أرض الأجداد والآباء وأنهم يريدون إحياء ثقافتهم في تلك الأرض

ص: 20

الموعودة ولكن التوراة والتواريخ تكذب أقوالهم هذه أيضاً، فإن العبرانيين الذين كانوا البابليون قد أخذوهم أسرى إلى بابل ثم سمح الفرس لهم بالعودة إلى أرض فلسطين بعد انقراض حكومة بابل، في أيام (كورش) فضلوا الإقامة في أرض العراق على الذهاب إلى (أرز إسرائيل) ولم يلبّ نداء زعماء اليهود وأنبيائهم غير القليل، لأنهم وجدوا أنفسهم في أرض طيبة وفي موطن ملائم وقد بقوا في العراق حتى الآن وقد تولى بعضهم مناصب عالية في الحكومة، كما أن اليهود الذين هاجروا إلى مصر فراراً من حكم نبوخذ نصر فضلوا البقاء في مصر على الذهاب إلى فلسطين وفي ذلك دليل على عدم صحة أقوال الصهاينة في وجود الحس السياسي والوطن القومي عند العبرانيين.

وأما النداء الذي وجهه الملك (كورش) إلى رؤساء إسرائيل والنداء الذي وجهه الأنبياء فإنه لم يكن ذا طابع سياسي بل كان يحمل الطابع الديني المعهود فاليهود الذين ذهبوا لبناء (الهيكل) والذين ساعدهم (كورش) بتقديم كل المساعدات اللازمة والذي أمر بإعادة ما كان قد أخذه (نبوخذ نصر) من ذهب وفضة من خزائن الهيكل لم يحاولوا تكوين مملكة سياسية بل ذهبوا لبناء (بيت الرب إله إسرائيل) ولذلك كانت الحكومة التي كونها العبرانيون في القدس حكومة دينية تحت حكم الفرس ومما يذكر أن (عزرا) الذي فوضه الملك (ارتحشتا) أمر قيادة رجال السبي وإعادة بناء الهيكل اتخذ كل وسائل القوة لإجبار اليهود على العمل بشرائع الرب وعلى العبادة والتوبة وقد كان من نتيجة ذلك اعتناق جماعة من الفلسطينيين ديانة العبرانيين.

ومع ذلك فإن الأرض التي نزل بها اليهود بعد السبي كانت صغيرة جداً أصغر من أرض (مملكة يهوذا) الصغيرة ذاتها مركزها القدس وتمتد في الشمال إلى حدود (الرملة) وإلى (حبرون) في الجنوب. وإلى حدود الأردن في الشرق والسهول في الغرب.

وكانت منطقة (السامرة) التي لا تبعد إلا قليلاً عن مدينة (نابلس) مأهولة بسكان من العراق كان الآشوريون قد نقلوهم إلى هذا المكان ومن السامريين الذين لم يعترفوا بزعامة رجال الكهنوت في القدس واختلفوا عنهم. ثم أصبحوا من أشد الناس خصومة لهم، فقاوموهم وحاربوهم مع أنهم من أصل عبراني وهذا ما يدل على أن اليهود لم يكونوا على رأي واحد حتى في إحياء الهيكل وإعادة الدولة اليهودية بشكل جديد سماه (المستر لويد جورج)

ص: 21

والتقرير الذي وضعته اللجنة الملكية التي أرسلت في عام 1936 للتحقيق في حوادث فلسطين (بأول وطن قوص لليهود)

ومما يذكر أن اليهود الذين عادوا من السبي ما كادوا يشرعون ببناء السور والهيكل وتحصين القدس حتى ثار سكان فلسطين عليهم وهم الأكثرية فأعلنوا الحرب واشترك في ذلك (سنبلط وطوبيا والعرب والعمونيون والأشدوديون) وجشم العربي وبقية شعوب فلسطين.

بني السور وتحصن العبرانيون في القدس وتكون مجتمع يهودي صغير في هذه البقعة بجهود (عزرا ونحميا) وقد أمر (هذان الزعيمان بأن تكون القدس مستعمرة يهودية بكل معنى الكلمة تتكلم اللغة العبرية وتحترم (الشباث)(السبت) وتحتفظ بقوانين العنصرية فأمر العبرانيين الذين تزوجوا بزوجات أجنبيات من الوطنيات بطلاقهن على الطريقة التي اتبعت فيما بعد وبعد ألفي سنة في قوانين (نورنبرك).

لم يستطع هذا (الوطن القومي) الذي خلقه (عزرا) و (نحميا) ولك تتمكن القوانين الصارمة التي فرضاها على العبرانيين من خلق ذلك الوطن فظل صوت اليهود خافتاً لم يرتفع في فلسطين على الرغم من المساعدات القيمة التي قدمها لهم (ملوك الفرس) الذين تجاهلوا رغبات الأكثرية من الوطنيين ولم يبذل العبرانيون أنفسهم لخلق ذلك الوطن لأنهم لم يفكروا تفكيراً سياسياً بل كانت كل جهودهم متوجهة نحو الاحتفاظ بديانة إله إسرائيل، ما خلا فترات قام بها بعض الزعماء بالدعاية إلى العنصرية لم تلاق غير رواج مؤقت.

جواد علي

ص: 22

‌مكتبة الأطفال العربية

بعض الاختبارات الشخصية والملاحظات التوجيهية

للأستاذ كامل كيلاني

زعموا أن ثلاثة أمراء اخوة أشقاء، خرجوا يتنافسون في مهر بنت عمهم السلطان، بعد أن تواعدوا على الاجتماع آخر العام في مكان بعينه ليروا: أيهم ظفر بأنفس هدية للأميرة. فلما التقوا رأوا أحدهم قد ظفر بمنظار سحري يرى فيه الناظر كل ما يدور بخلده، ولو كان في أقاصي الدنيا. وظفر ثانيهم ببساط سحري يحمل راكبه محلقاً به في كل جو من الأجواء فيبلغه غايته في لحظات يسيرة وظفر ثالثهم بتفاحة شافية تبرئ من السم وتعيد الحياة إلى من أشرف على التلف. ونظروا في المنظار فإذا الأميرة على فراش الموت تحتضر. فأسرعوا إلى البساط، فإذا بهم عندها في الحال. وأدنوا التفاحة منها، فشفيت على الفور. وحاولوا أن يعرفوا: أيهم صاحب الفضل في شفائها فلم يهتدوا إليه. فلولا المنظار لما عرفوا مرضها الخطير، ولولا البساط لهلكت قبل أن يصلوا إليها، ولولا التفاحة الشافية لما كان لوصولهم فائدة. فإذا نقصت واحدة من هدايا الأسطورة ضاع كل أمل في شفاء الأميرة. ولعل في هذه القصة مثلاً دقيقاً يوضح ما يجب على من يتصدى للكتابة للأطفال أن يهدف إليه ويجعله نصب عينيه وحفل أذنيه.

إن تحبيب الكتاب إلى نفس الطفل هو أول الوسائل لتمكينه من القراءة. ومتى ظفر بهذه الغاية ظفر بالمنظار السحري الذي يرى صاحبه كل ما يريد أن يراه. أما الأسلوب القصصي الساحر فهو بساط الريح الذي يتناقل بالقارئ إلى أبعد الآفاق الفكرية في لحظات يسيرة، ويطير به على أجنحة الخيال البديع محلقاً به في سماء الحقائق، دون أن يلحق به كلالاً ولا جهداً. أما التفاحة الشافية فتتمثل فيما تتركه القراءة النافعة من آثار نفسية رائعة، تشفي سموم الجهالة وتبرئ من النزعات العارمة التي نعجل بصاحبها إلى الهلاك وتقذف به إلى الهاوية. ولنقف عند لأول هذه الأهداف الجليلة لحظة قصيرة، فما تتسع هذه الوجازة الخاطفة لغيرها لنقف عند الخطوة الأولى، وهي تحبيب القراءة إلى الطفل، وتمكين الفصحى من نفسه، وحمايته مما كان يغمرنا من البيان المشوه المضطرب، وتجنيبه ذلك الشر المستطير من سيل العامية الجارف الذي كان يفرقنا في مستهل نشأتها الثقافية، ولا

ص: 23

يزال يغمر الكثيرين من ناشئة اليوم ورجال الغد، فيقضي على مواهبهم البيانية - أو يكاد - في زمن حداثتهم. ولنعد لهم بياناً عربياً خالصاً يطبع الطفل على الفصحى منذ طفولته الباكرة، حتى إذا كبرت سنه صارت له الفصحى - كما كانت لغيره من أسلافه العرب في عصور الفتوة الأولى - سليقة وطبعاً، وأصبح البيان العربي متأصلاً في نفسه عادة وملكة. وبرئ من العجمة المتفشية بين شباب العصر وفتيانه.

أما السبيل إلى هذا الحلم الجميل، فتحقيقها ميسور غير مستحيل.

إننا إذا رقابنا كلام الطفل وهو في مستهل طفولته، رأيناه يلجأ - كما قلت في بعض المناسبات منذ عشرين عاماً - إلى تكرار الجمل إذا قص علينا خبراً، كأنما يتثبت من معانيها في ألفاظها المكررة. فلماذا لا نكتب له وهو في هذه السن محاكين أسلوبه الطبيعي في تكرار الجمل والألفاظ لتثبت المعاني في ذهنه تثبيتاً؟ ولماذا لا نكرر له الجمل برشاقة ليسهل عليه قراءتها! ذلك أجدر بنا وأليق فإن لكل مقام مقالاً.

ومن الحقائق المعروفة أن الطفل - في هذه المرحلة - ملول يتهيب الكتاب، فلننزع من نفسه هذا الملل، ولنحبب إليه الكتاب بكل وسيلة، ولنبسط له الأسلوب تبسيطاً مكثرين من الصور الجذابة الشائقة التي تسترعي انتباهه، لنشعره أن الكتاب تحفة تهدي إليه إهداء، وليس واجباً يكلفه تكليفاً. فإن الطفل - إذا ساء ظنه بالكتاب - صعب اجتذابه إليه بعد هذا.

وقد وفق أكثر من تصدوا لتأليف كتب الأطفال توفيقاً عجيباً في تبغيض القراءة إلى نفوسهم وتنفيرهم من المطالعة، فأصبحوا يمقتون الكتاب أشد المقت، ويهربون من قراءته، لأن المؤلفين لم يراعوا سن الطفل وميوله ورغباته. ولم ينزلوا أو هم - على الحقيقة - عجزوا عن النزول إلى مستواه، ومخاطبته باللغة التي يفهمها وترتاح إليها نفسه. ومن الإنصاف أن نقرر - بصراحة - أنهم لم يضعوا كتبهم على نسق خاص أو منهج بعينه، وأنهم في تأليفهم لم يتشبعوا بفكرة فنية تنتظم الكتاب وتؤلف بين أجزائه. لأنهم يقنعون بتصيد موضوعات الكتاب - كيفما اتفق لهم أن يتصيدوها - فيخرج الكتاب خليطاً مضطرباً لا تؤلف بين أجزائه فكرة بعينها ولا يتناسب أسلوبه مع مدارك الأطفال.

إن الطفل ميال بطبعه - إلى الحكايات والقصص، وهو - بغريزته - مفتون برؤية الصور الجذابة فلنختر له منها ما يناسب سنه، ويتفق وميوله ورغباته وتفكيره. أما الفكرة التي

ص: 24

انتظمت مكتبة الأطفال فهي (التكرار) يكثر في أولها ثم يقل شيئاً فشيئاً - كلما تقدم الطفل في القراءة حتى يصل إلى قراءة الأسلوب الموجز الذي لا تكرار فيه بلا مشقة ولا إعنات.

وقد تدرجت بالطفل في هذه المكتبة حتى يكون آخر جزء من كل مجموعة ممهداً لقراءة أول جزء من أجزاء المجموعة الأخرى. فإذا أتم هذه المكتبة أسلمته إلى مكتبة الشباب، وكانت له جسراً يسهل العبور إلى ما تحويه من كتب الأدب ودواوين العرب في سهولة ويسر.

وإنما عمدت في الأجزاء الأولى من مكتبة الأطفال إلى التكرار عمداً بعد أن أقنعتني التجارب العملية والاختبارات الشخصية أنه أصلح أسلوب يلائم الطفل الناشئ ويشجعه على القراءة. ولا غرو في ذلك فإن الطفل الناشئ لا يقرأ الكلمة إلا بجهد كبير. ولا يتم السطر إلا بشق النفس. فلنقتصد جهدنا في استعمال الألفاظ الجديدة. ولنؤلف من الألفاظ القليلة التي يقرؤها الكبير في بضعة أسطر - عدة صفحات كاملة لندخل في روعه أن القراءة ليست صعبة كما يتوهم، وليست شاقة مضنية، كما ألفها في الكتب الأخرى، بل هي سهلة ميسورة، وهي - إلى سهولتها ويسرها - ممتعة شائقة، تملأ نفسه بهجة وانشراحاً، وثمة يشعر الطفل بثقة في نفسه إذ يرى أنه يقرأ صفحة كاملة بجهد يسير، فهو لن يتم قراءة السطر الأول حتى يسهل عليه قراءة السطر الثاني والثالث والرابع وهكذا، لأن الألفاظ لا تكاد تتغير في الجمل إلا بمقدار يسير.

وقد جعلت نصب عيني قصة الرجل الذي كان يحمل الثور صاعداً به درج سلم وهابطاً به دركه، دون أن يبدو عليه شيء من آثار التعب والجهد. فلما سئل في هذا قال: لقد تعودت حمل الثور منذ ولادته كل صباح وما زلت أكبر ويكبر الثور معي ويزداد نمواً كل يوم زيادة قليلة مضطردة، حتى اكتمل نماؤنا. ولم أسعر أن وزن الثور قد زاد يوماً عما كان في سابقه ولم أحس له ثقلاً إلى اليوم.

كانت هذه القصة نواة صالحة لمكتبة الأطفال. فبدأتها بتسلية الطفل متدرجاً به تدرجاً بطيئاً لا يكاد يشعر به ولا يحس له أثراً، مستعيناً على هذا الغرض بالصور الملونة الجذابة والشكل الكامل والألفاظ السهلة. حتى إذا اطمأن الطفل إلى الأسلوب السهل، وامتلأت نفسه ثقة بقدرته على القراءة، انتقلت به إلى المرحلة التالية، فمزجت له التسلية بالفائدة ثم لا

ص: 25

أزال أنتقل به خطوة بعد خطوة حتى يرى في فنون المعرفة وحدها ممتعة وتسلية، لا يعدلها شيء من فنون المتع وضروب التسلية. ولم أقصر في تحبيب الفصحى إليه وتعويده النطق بالصحيح من الألفاظ، وتدريبه على الأخذ بالصحيح من الآراء، فإن الخطأ اللفظي كالخطأ المعنوي إذا انطبع أحدهما أو كلاهما في ذهن الطفل منذ القراءة الأولى صعب اقتلاعه، في قابل أيامه. ولا معدي لنا عن ترغيبه - بكل ما نملك من الوسائل - في الأسلوب الرائع والمثل الصالح جميعاً. فلا نتسمح قط في عبارة واحدة تقلل من شأن لغته، أو تصغر من جلال القيم الأخلاقية.

إن تحبيب الكتاب وتخير الأسلوب الصالح والفضائل في نفس الطفل، هي الأهداف الثلاثة التي ترمي إليها مكتبة الأطفال ولابد من اجتماعها لبلوغ الغاية المرجوة، كما اجتمعت هدايا الأمراء الثلاثة لشفاء الأميرة. فإذا نقص واحد منها تهدم البنيان كله، وذهبت جهودنا على غير طائل. وهذه هي الحوافز التي دفعتني إلى تأليفها.

وقد سألتني بعض المجلات كيف أؤلف مكتبة الأطفال، وكيف أتدرج فيها من السهل إلى الصعب فقلت لسائلي: إن إحساس الطفولة عندي كامن مذخور، فأنا أستحضره في كل لحظة، ولدي من وسائل الاختبار والتطبيق لكل ما أكتبه في هذه الناحية أولادي وهم ذوو أسنان مختلفة وقد استطعت بفضلهم على توالي السنين أن أندرج في هذه القصص من السنة الأولى الابتدائية إلى السنة الرابعة الثانوية.

وقد كنت أروي القصة للصغير منهم - حين أؤلف لصغار الأطفال - فإذا انتهيت من روايتها سألته أن يقصها عليّ، ثم دونت ما علق بذهنه منها واسترعى انتباهه من حوادثها. فأثبته وأغفلت منها ما أغفله. ثم سألته أن يقرأها أمامي بعد كتابتها، لأتبين مدى ما ظفرت به من نجاح أو إخفاق. فإذا سألني عن معنى كلمة مما يدق عليه فهمه فسرتها له. فإذا صعب عليه التفسير، استبدلت به كلمة أخرى أسهل وأيسر، ثم أثبت التفسير الأخير الذي استقر فهمه عليه.

هذا هو المنهج الذي أخذت به نفسي في تأليف مكتبة الأطفال فإن وفقت في هذه الخطوة - وأرجو أن أكون - فقد أديت بعض ما يجب أداؤه لهذا الجيل الناشئ الذي نعلق عليه أكبر الآمال.

ص: 26

ولا أكتم أنني طالما عجبت في مستهل نشأتي كيف تنكبت كتب المطالعة العربية سبيل الكتب الأجنبية التي وفق الكثيرون من مؤلفيها إلى تحبيب لغتهم إلى نفوس الأطفال بقدر ما وفق مؤلفونا إلى تبغيض القراءة العربية إلى نفوس الناشئة.

وطالما شكوت بعض أترابي من الطلبة ونحن بالسنة الأولى الابتدائية متبرماً بما في أيدينا من كتب المطالعة العربية مقابلاً بينها وبين الكتب الأجنبية الجذابة الفاتنة. وطالما أجابني صاحبي مستهزئا ساخراً: (وما بالك لا تؤلف خيراً من هذه الكتب؟) وطالما أجبته واثقاً: ذلك عهد عليّ أوفي به إن شاء الله متى كبرت سني، وبلغت مبلغ الرجال)

ولعلي بما ألفت من أجزاء مكتبة الأطفال - خلال هذه السنين العشرين، وقد وفيت بهذا النذر، وحققت منه بعض ما أريد.

كامل الكيلاني

ص: 27

‌من وراء المنظار

شرف. . .!

مشى العمدة في جلبابه النظيف المهندم وعلى رأسه طربوشه الطويل الأقتم، وفي يده عصاه الغليظة المحلاة بالذهب، ومن خلفه بعض وجوه القرية وبعض خفرائها، وإنه يحرص أبداً أن يسير ومن ورائه عدد من الناس ليوقع الرهبة في نفوس من يمر بهم من أهل قريته، وما يلمح أحد من أهل القرية هذه (الزفة) إلا نهض محيياً يتكلف أكثر ما يستطيع من التأدب والخشوع، فإن كان من ذوي المكانة جرؤ على أن يضيف إلى عبارات تحيته:(تفضل يا حضرة العمدة. . . شرفنا يا سعادة البك) وقنع من حضرة العمدة رداً على تحيته وعلى دعوته بإشارة خفيفة من يده علامة على الرضاء لا تكاد ترى، أو بتمتمة خافتة على شفتيه لا تكاد تسمع؛ وإن كان من عامة الناس فما يستطيع إلا أن ينهض خاشعاً إذا أبصر العمدة من بعد، ثم يظل في خشوعه لا يلتفت يمنة ولا يسرة ولا يرفع رأسه حتى يمر به العمدة فيرفع يده إلى رأسه في ضراعة، ويرد في اهتمام تلحظه في نغمته تحية الإسلام التي قد يلقيها إليه أحد من ساقة هذا الركب، ثم يجلس بعد أن يمر به الركب كله، وفي خياله شارب العمدة وعبوس وجهه وطربوشه الأقتم الطويل وعصاه المذهبة الغليظة، وحسبه جرأة أنه استطاع أن ينظر إلى ذلك الشارب المهيب، وإن كان ذلك بعد أن يمر به العمدة أو يكاد فيلمح طرفي شاربيه وهو ينظر إليه من وراء ظهره. . .

لم يبق على أذان المغرب إلا ساعة أو بعضها، ويرى الناس وكأنهم

سكارى مما فعل بأبدانهم وأرواحهم الحر والصيام وامتداد النهار وشدة

الغلاء، وطول انقطاع ماء الري حتى هلكت الذرة الوليدة أو كادت،

وتفتحت بعض لوزات القطن المحترق قبل أوانها ووقفت سوقه فلا

تنمو.

ووقف العمدة وركبه عند أول السكة الزراعية في مفرق الطرق بين قريته وقريتنا وبعض القرى المجاورة، وهو مكان به عدد من الدكاكين وكثير من الناس، وما أن وقع بصره على رجل من أهل قريته حتى ناداه في عنف، فخف المسكين إليه وهو يتمتم في صوت سمعه

ص: 28

بعض الناس: (يا نهار اسود. . . يا خرابي) ويحاول أن يبلع ما أبقى الصيام والقيظ في فمه من ريق فلا يجد شيئاً، ووقف المسكين بين يدي حضرة العمدة، فهل رأيت العصفور الهزيل بين يدي صقر جارح؟ وراح العمدة ينهره في صوت كالرعد أكبر ظني أن المسكين لم يسمعه من فرط رعبه. . يا كيت وكيت ويابن كيت وكيت. . من هاتيك الألفاظ التي تجري بها ألسنة العمد وأصحاب السلطان في القرى، وأمسك العمدة هذا المسكين بإحدى يديه وصفعه بالأخرى مرتين على وجهه المصفار في عنف وغلظة، فما تركه حتى سقط المسكين على الأرض يعفره التراب، فركله العمدة كما يفعل بكلب حقير!

ولم أدر سبباً لهذا الضرب، غير أني أحسست بالدم يصعد حاراً قوياً إلى وجهي، وطاف برأسي في مثل لمحة الطرف طائف مما نلوكه نحن المتعلمين من ألفاظ الحرية والديمقراطية والدستور ومجلس الأمن وأضرابها مما نخادع به أنفسنا، وهممت أن أنقض على هذا الصقر، وأبعثها حرباً بين الأسرتين والقريتين حتى ولو كان المضروب من أكبر المجرمين؛ وما كدت أسمع ممن حولي أنه من المساكين المسالمين، حتى انتفضت انتفاضة المحموم، وخطوت أوقد نار الحرب عليّ أطفئ بها نار غضبي!

ونهض المكين يبكي ويئن ويضع يديه على وجهه مكرراً قوله: (أمري إلى الله. . . أمري إلى الله) وكأنما عز هذا على أحد حاشية العمدة فنهره قائلاً: (اخرس يا حمار. . بوس يد العمدة وقل له ضربك شرف يا سعادة البك، وبذلك يصفح عنك)

وسبقني إلى حيث يقف العمدة وحاشيته شاب يلبس جلباباً أبيض، ويضع طربوشاً فوق رأسه، علمت أنه أخو المضروب، فالتفت إلى ذلك المتكلم الأخير قائلاً:(بل اخرس أنت يا سافل) ومرق مروق السهم إلى العمدة، فوقف يعترض طريقه في جرأة قائلاً:(لماذا تضرب أخي يا حضرة العمدة؟). . . وأخذت العمدة أول الأمر ربكة من هذه الجرأة التي لم ير مثلها قط في سنوات حكمه الثلاثين، ولكنه نظر إلى هذا المطربش في استهزاء كما ينظر المرء إلى مجنون لا يحاسب على قوله أو فعله؛ ولكن هذا المطربش أخذ يقول في عبارة فصيحة:(ما هذا الجبروت؟ إلام الظلم؟ الناس سواسية كأسنان المشط. . . نحن في عهد الدستور. . . قضية الحرية تعرض على مجلس الأمن. . . يا ناس كفى ظلماً واستعباداً لخلق الله. . . ففيم هذا الضرب وهذا الجبروت)!!

ص: 29

وتقدم المضروب بدوره، فازداد الناس عجباً إذ سمعوه يتوثب أمام العمدة قائلاً:(إيه الجبرؤوت ده. . . دا ظلم. . . دا جبرؤوت!) ودفعهما أعوان العمدة من طريقه، ومضى العمدة وهو يلعن الدستور والحرية، ويسخر في صوت مسموع من هذه البدع التي أفسدت الناس، ويكظم غيظه من هذا المعلم الإلزامي الثائر الذي غضب لضرب أخيه، والذي يفسد هو ونظراؤه القرى!

واستمر المعلم الجريء النبيل يرفع صوته متحدياً معلناً أنه سيرفع إلى النيابة شكواه واستشهد بي وبغيري، فقبلت أن أشهد مغتبطاً، وأنا أقول لنفسي: هؤلاء هم الذين يصلحون القرى لا الذين يفسدونها، وما يفسدها إلا أمثال هذا المتجبر الطاغية الذي يعيش بجهله وجاهه في القرن الماضي. . ومضيت إلى داري قرير النفس - وقد ذهب عني الغضب - وأنا أقول: لن يكون لمصر دستور بالمعنى الصحيح، حتى يتعلم أبناؤها، ولن تقوم الديمقراطية الحق إلا على أساس من العلم!

أما الذين رفضوا أن يؤدوا الشهادة، فقد انقلبوا إلى دورهم وهم يفكرون فيما سوف يحل بهذا المعلم الإلزامي من نكال أقله تقليع زرعه أو حرقه، وإهلاك ماشيته بالسم، ومطاردة أهله وذوي قرباه، إلا أن تعصمهم من عذاب هذا الطاغية رحمة من الله!!

(الشهداء)

الحفيف

11 -

تفسير الأحلام

للعلامة سجموند فرويد

سلسلة محاضرات ألقاها في فينا

للأستاذ محمد جمال الدين حسن

الرموز في الأحلام:

والقيام برحلة بعيدة يعبر في الأحلام عن الموت. وبالمثل جرت العادة أن تقول المربية

ص: 30

للطفل عندما يسأل عن مقر شخص مات من زمن وأحس الطفل بفقده أن هذا الشخص قد (سافر). وهنا أقرر كذلك أنني أعني إن هذا الرمز يرجع مصدره إلى هذا الرد الملتوي على سؤال الطفل. فالشاعر يستخدم نفس الرمز عندما يتحدث عن الآخرة فيقول: (هذا العالم المجهول الذي لا يؤوب منه المسافر أبداً)؛ وكذلك من المألوف في حياتنا اليومية أن نتحدث عن (الرحلة الأخيرة) كما أن الشخص الذي له إلمام بالطقوس الدينية القديمة يعرف بلا شك كيف كان الناس يحملون على محمل الجد هذه الفكرة عن رحلة في أرض الأموات، كما هو الحال في المعتقدات المصرية القديمة. ولما كانت القبور تشيد الآن بعيداً عن منازل الأحياء، فقد صارت (الرحلة الأخيرة) للميت حقيقة واقعة.

والرموز الجنسية ليست قاصرة على الأحلام فقط؛ فكلكم يعرف أننا نطلق على المرأة كلمة (شنطة) عندما نريد أن نحتقرها، ولكن ربما لا يعلم الناس أنهم بذلك يستخدمون في حديثهم رمزاً جنسياً. ونحن نقرأ في كتاب (العهد الجديد) أن:(المرأة هي الوعاء الأضعف) وفي الكتب المقدسة لبني إسرائيل، وهي تمتاز بأسلوبها الذي يقرب جداً من الأسلوب الشعري، نعثر على كثير من التعبيرات التي تحتوي على رموز جنسية، والتي لم يفسرها الناس دائماً على الوجه الصحيح. أما في الآداب العبرانية التي جاءت بعد ذلك، فالمرأة تشبه غالباً بمنزل، بينما الباب يمثل الفتحة التناسلية؛ وعلى هذا نرى الرجل يتشكى عندما يكتشف أن المرأة لم تكن عذراء فيقول أنه (قد وجد الباب مفتوحاً) وفي هذه الآداب نرى أن (المائدة) يكثر استعمالها كرمز للدلالة على المرأة، فتقول المرأة عن زوجها:(لقد مددت له المائدة ولكنها قلبها.) ويقال عن الأطفال العرج أن عاهتهم ترجع إلى أن الرجل قد (قلب المائدة.)

وعلماء الكلام يعضدون الاعتقاد بأن السفن في الأحلام تمثل النساء. فهم يؤكدون أن كلمة (سفينة) كانت في الأصل اسماً لوعاء من الخزف، وتؤدي نفس المعنى الذي تؤديه كلمة (دن أو وعاء من الخشب). وأما كون (الفرن) ينثل المرأة أو رحم الأم، فتفسير تعززه الرواية الإغريقية (بيرياندر) وزوجته (ميليشيا)، وذلك أن الطاغية، كما يروي (هيرودتس)، بعد أن قتل امرأته بدافع الغيرة، وكان قد أحبها حباً جارفاً، ناشد خيالها أن يخبره بشيء عن نفسه، وعند ذلك أثبتت المرأة الميتة شخصيتها بأن ذكرته بأنه أي (برياندر) قد (وضع خبزه في فرن بارد) وقد عبرت بهذه الصيغة المستترة عن حادث لم

ص: 31

يكن أحد على علم به. وفي كتاب للكاتب (رأفْ. رأسْ. كروسْ) يدعى وهو موسوعة لا غنى عنها لمن يريد أن يلم بكل ما يخص الحياة الجنسية عند الشعوب المختلفة، نقرأ أن الناس في حي خاص من ألمانيا يقولون عن المرأة عندما تضع طفلاً أن (فرنها قد تفتتت أجزاؤه). وإشعال النار وكل ما يتعلق بذلك تتخلله كثير من الرموز الجنسية، فاللهب دائماً يمثل القضيب، بينما الموقد أو المدفأة تمثل رحم المرأة.

وإذا كان قد اتفق أن أخذكم العجب لكثرة وقوع (الأصقاع) في الأحلام كرمز للدلالة على الأعضاء التناسلية للأنثى، فإن في استطاعتكم أن تعلموا من أساطير الأقدمين كيف كانت (أمنا الأرض) تلعب دوراً كبيراً في أفكار الناس ومعتقداتهم، وكيف كان فهمهم للزراعة كله محدداً بهذا الرمز. وإذا كانت الحجرة في الأحلام تمثل المرأة، فإنكم قد تميلون إلى إرجاع هذه الحقيقة إلى الكلمة الألمانية (ومعناها الحرق في حجرة المرأة) التي تستخدم في اللغة العامية للدلالة على المرأة أي أن المرأة تمثل بالمكان المخصص لها لتشغله: ونحن كذلك نتحدث عن (الباب العالي) ونقصد بذلك السلطان وحكومته، كما أن كلمة (فرعون) التي كان يطلقها قدماء المصريين على الحاكم معناها (الفناء الأعظم)(الفناء الذي يقع بين بوابتي المدينة كان يستعمل في الشرق قديماً كمكان للاجتماع مثل الأسواق في العصور الكلاسيكية) ولكني أحسب أن هذا الاشتقاق سطحي جداً، وإنما يتهيأ لي أن الأكثر احتمالاً هو أن الحجرة قد صار استعمالها كرمز للدلالة على المرأة لما لها من خاصية الاحتواء بداخلها على بني الإنسان. وقد سبق لنا أن رأينا المنزل يستخدم في نفس المعنى؛ وإذا رجعنا إلى الأساطير والشعر فإن في استطاعتنا أن نعتبر المدن، والقلاع، والقصور، والحصون رموزاً أخرى كذلك تمثل المرأة. وهذه النقطة من الممكن البت فيها إلى رجعنا إلى أحلام الأشخاص الذين لا يتكلمون الألمانية أو يفهمونها. وقد حدث في السنوات الأخيرة أن أغلب مرضاي كانوا من الأجانب، وإني لأحسبني أتذكر أن الحجرة كانت تبدو في أحلامهم أيضاً للدلالة على المرأة ولو أنه لا توجد في لغتهم العامية كلمة تقابل كلمة عندنا. وهناك دلائل أخرى على أن الرمزية تتجاوز حدود اللغات وهي حقيقة سبق إثباتها قبل الآن على يد الباحث القديم (شوبرت) عام 1882. ومع هذا فإنه لا يوجد بين مرضاي من يجهل اللغة الألمانية جهلاً تاماً، وعلى هذا فإنني أترك هذه النقطة ليبت فيها

ص: 32

أولئك المحللون الذي في استطاعتهم أن يجمعوا شواهد من بلاد أخرى لا يتكلم أهلها إلا لغة واحدة فقط

والرموز المستعملة للدلالة على العضو الجنسي المذكر لا يوجد بينها رمز لم يجر استعماله في معرض المداعبة أو الحديث المبتذل، أو في الأسلوب الشعري خصوصاً عند القدامى من الشعراء الكلاسيكيين ونحن لا نعثر هنا على الرموز التي تقع في الأحلام فقط، بل على رموز أخرى كذلك مثل (الأدوات) المستعملة في أنواع العمل المختلفة وأهمها (المحراث). وفضلاً عن ذلك فميدان الرموز المذكرة ميدان متسع إذا نزلنا إليه تعرضنا لكثير من المناقشات والجدل، وعلى هذا فسنتجنب ذلك خوفاً من ضياع الوقت. ولكني أريد فقط أن أوجه بعض الملاحظات إلى الرمز الذي يظهر كثيراً قائماً بذاته؛ أعني العدد (ثلاثة). فهذا العدد تحيط به هالة من القداسة لا نستطيع أن نقرر بعد إن كانت ترجع إلى دلالته الرمزية، ولكن يبدو أنه مما لاشك فيه أن الأشياء الطبيعية المثلثة الشكل مثل عود البرسيم تستخدم كشعار لدلالتها الرمزية. وزهرة الزنبق الفرنسية بأجزائها الثلاثة يقال أنها ليست إلا صورة تنكرية للعضو الجنسي المذكر، وكان الناس في العصور القديمة يعتقدون أن (الأيقونة) منها هي أقوى الوسائل التي تدفع عنهم الشر والأذى، والدليل على ذلك أننا نجد في هذا العصر أن الطلاسم التي تجلب الحظ السعيد ما هي إلا رموز تناسلية أو جنسية. دعونا ننظر في بعض هذه الطلاسم التي تصنع على شكل (دلاّيات) من الفضة وهي: عود البرسيم ذو الأربع ورقات، والخنزير، وعش الغراب، وحدوة الحصان والرجل الذي يكنس المدفأة ومعه سلمه، أما عود البرسيم ذو الأربع ورقات فقد حل محل العود ذي الثلاث ورقات الذي كان في الواقع أنسب للغرض المطلوب وهو الرمزية، وأما الخنزير فرمز قديم للإخصاب، وعش الغراب يمثل القضيب من غير شك، بينما حدوة الحصان ترسم المنحني الذي تتخذه الفتحة التناسلية للأنثى. وأما (الرجل الذي يكنس المدفأة) بسلمه فينتمي إلى هذه المجموعة لأن وظيفته تقارن دائماً بعملية الجماع في الأحاديث المبتذلة. وقد تعلمنا من الأحلام كيف يظهر هذا السلم كرمز جنسي، وهناك تعبيرات في اللغة تدل على الكلمة (يصعد) من الدلالة الجنسية المطبقة مثل قولهم (يجري وراء المرأة). وهكذا الحال أيضاً في اللغة الفرنسية حيث نجد أن كلمة معناها (درجة) وأن الرجل

ص: 33

العجوز المتهتك يطلق عليه: وربما كان هذا الترابط بين الأفكار يرجع إلى أن عملية الجماع عند الحيوانات الكبيرة تستلزم أن يمتطي الذكر أو يركب على الأنثى.

أما تمثيل العادة السرية رمزياً بوساطة جذب فرع من الشجرة فليس مما يتفق مع الأوصاف العامية المبتذلة لهذه العملية فحسب، بل إن له كذلك أشباهاً في الأساطير. ولكن الغريب الذي يلفت النظر حقاً هو تمثيل العادة السرية أو على الأصح الخصاء كعقاب للإدمان عليها، بسقوط أو اقتلاع الأسنان؛ لأننا نجد في القصص الشعبية مقابلاً لذلك لا يمكن أن يلم به إلا قليل من الحالمين. فإني أظن أنه ما من شك في أن (الختانة) وهي عادة عند كثير من الشعوب، تعتبر معادلة أو بديلة من الخصاء. وقد وصل إلينا منذ عهد قريب أن بعض القبائل الشاذة في أستراليا تمارس الختانة كطقس للدلالة على البلوغ بينما بعض القبائل الأخرى التي تجاورها قد استبدلت هذه العادة بعادة أخرى وهي اقتلاع إحدى الأسنان.

(يتبع)

محمد جمال الدين حسن

حيفا تحت أضواء القمر

للأستاذ حسن البحيري

إذا نظرت عيناك من بسط الغمض

مصابيح (حيفا) وهي باهرة الومض

رأيت السنى لف الدجى ورأيتها

نجوم سماء قد نثرن على الأرض

وإن جلت بالطرف اللموح وأنت من

ذرى (الكرمل) الشم الشعاف على نهض

وشارفت أرجاء (الخليج) بظلها

وأمواجه بين التبسط والقبض

وقطر السنى ينهل من قمر الدجى

فيغسل وجه الماء بالذهب المحض

تصورته صبحاً. . . (وحيفا) وسحرها

بقية ليلى عند شاطئه الفضى

بقية ليل قد تجمع نجمها

مضى الليل عنها. . وهي بالنجم لم تمض!

(حيفا) حسن البحيري

مناقشة هادئة:

ص: 34

إلي أبي العلاء. . .

للشيخ محمد رجب البيومي

أألف دقيقة أم ألف عام

كأنك لم تزل تبدو أمامي

أراك تسير بين الناس مثلي

فأسأل هل فررت من الحمام

وأقسم قد لمحتك ذات يوم

فسرت إلى لقائك في اهتمام

وجئتك والسرور يقيم نفسي

ويقعدها على غير انتظام

فأوقعني جلالك في ذهول

فلم أفطن لإلقاء السلام

ولو أني ملكت زمام نفسي

لأديت التحية باحترام

لدي إليك أسئلة فأسرع

بأجوبة تبل بها أوامي

علام لزمت بيتك وهو سجن

حمدت بظله طيب المقام

سخطت على الورى فمكثت فيه

ورحت تصب نقدك كالسهام

رأيت الذئب يقرب من أخيه

فما لك قد بعدت عن الأنام

عذرتك حين ضقت بأم دفر

وصرت تحن للموت الزؤام

فلو سلمت لك العينان حيناً

لهمت بحبها كل الهيام

فمن ذا يكره الدنيا وفيها

تطالعه الطبيعة بابتسام

لئن تك قد فقدت ضياء عين

فضوء حجاك كالبدر التمام

أنار لك الطريق فسرت فيه

وذو العينين يخبط في الظلام

أراك مخالفي في كل رأي

فهل لك من سبيل للوئام

تعاف المال وهو أعز شيء

حرمت لأجله طيب المنام

ويؤلمني خصامك للغواني

فما الداعي إلى هذا الخصام

لعلك رمت منهن اتصالاً

فمثلك ليس يخلو من غرام

فلما أن صددن وضقت ذرعاً

بهن سلكت خطة الانتقام

رأيت الغيد منية كل فرد

وإن أبدى السلو على الدوام

تبعت الوهم فاستحدث رأياً

خلطت به الحلال مع الحرام

ص: 35

فهالك أن ترى القصاب يجري

دم الشاة الضعيفة في الرغام

فهبها لم تكن ذبحت عياناً

أما سيغولها ليث الحمام

رويدك لست أرحم من إله

تخيرها غذاء للأنام

نقمت على الزواج وأنت أدرى

بحكمته فما هذا التعامي

وقلت لئن رزقت فتى سأجني

عليه بتركه بين الطغام

حنانك، عله يغدو مليكاً

يتيه على الجبابرة العظام

فتاك دعامة لك كيف تبني

خلودك في الحياة بلا دعام

جنيت عليه حين سرى لهيفاً

بظهرك يشتكي حجب الظلام

قضيت العمر في شك ممض

تفتش عن مصيرك في الرجام

تعز عليك روحك حين تمضي

فتسأل هل تؤول إلى انعدام

شكوك حيرتك فكنت تصلي

بها ناراً مؤججة الضرام

فليتك قد أرحت النفس منها

ولم تنظر إليها باهتمام

ذممت الخمر ثم غرست كرماً

مددت ظلاله من ألف عام

فها هو شعرك الجذاب يتلى

فيفعل بالنهى فعل المدام

علام قد ألزمت به قيوداً

ألم تك في غنى عن الالتزام

تحاول أن تفوق الناس طراً

وتلك طبيعة الرجل الهمام

بيان يرتقي بالروح حتى

يطير جناحها فوق الغمام

تكاد إذا رقيت به مريضاً

تسري عنه آلام السقام

رهين المحبسين وددت أنى

بلغت بمدحتي حد التمام

ولكني ختمت القول عجزاً

فما أدنى ابتدائي من ختامي

محمد رجب البيومي

ص: 36

‌تعقيبات

لصوصية أدبية:

كان صاحب مكتبة. . . في بيروت قد انتهب ديوان (الجداول) للشاعر المعروف الأستاذ إيليا أبو ماضي فطبعه وباعه وربح منه دون أن يرجع إلى صاحبه أو يستأذنه أو يرد عليه شيئاً من الربح، فعمد الشاعر إلى مقاضاته وعهد إلى أحد المحامين في بيروت يرفع دعوى عليه أمام المحاكم ولكن المحكمة ردت الدعوى لأن القانون لا يتضمن نصاً بشأنها ولكن الأستاذ الشاعر كلف محاميه باستئناف النظر في مقاضاة هذا السارق الجريء.

وكان أن عمد ناشر عراقي إلى هذا الصنيع عينه، فأخذ ديوان (الجداول) نفسه وطبعه طبعة ثانية وباع وربح منه دون أن يرجع إلى صاحبه أو يستأذنه أو يرد عليه شيئاً من الربح فعهد الشاعر إلى أحد المحامين في بغداد لمقاضاة هذا السارق الجديد. . .

ثم كان أن غنى الموسيقار المصري الأستاذ محمد عبد الوهاب مقطوعة في إحدى رواياته من شعر إيليا أبو ماضي دون أن يستأذنه أو يرجع إليه فغضب الشاعر أبو ماضي لهذا الغبن وأعلنها حملة شعواء في جريدته (السمير) التي يصدرها بنيويورك على لصوص الأدب والمنتهبين للآثار الفنية في غير تورع ولا رعاية للعرف والقانون والذوق، وقال إنه سيحاسب الموسيقار المصري ويقاضيه قانونياً على استثماره لشعره كما يحاسب صاحب مكتبة العرفان، إذ قد حان الوقت لوضع حد للصوص الأدب في كل مكان كما يقول.

وقد تناولت مجلة (كل شيء) البيروتية هذه القصة وأوردت طرفاً من فصولها نقلاً عن (السمير) ثم علقت عليها قائلة: (إن صاحب الجداول واحد من كثيرين يُغزون في عقر كتبهم كل وقت في العالم العربي، وليس من المعقول أن يكون للأشياء المادية حرمة وحصانة لا تتمتع بهما القضايا المعنوية ومسائل الفكر وليس من المعقول في شيء أن يحكم القاضي على سارق سطل الحليب بستة أشهر يقضيها في السجن ولا يجد في القانون ما يحكم به على سارق نتاج الفكر ومستثمره دون إذن صاحبه ورضاه. بل ليس من المنطق في شيء أن يحكم على سارق الكتاب كقطعة مادية من الورق بالسجن ولا يحكم على سارق الكتاب كقطعة معنوية من الفكر والرأي والبحث). . .

والواقع أن هذه السرقات التي نحن بصددها ليست بسرقات أدبية، فالسرقة الأدبية على ما

ص: 37

هو مألوف أن يأخذ الشخص أثر غيره وينسبه لنفسه، وهؤلاء الثلاثة قد نسبوا إلى الأستاذ أبو ماضي شعره وأثره ولكنهم انتفعوا بما أخذوا وربحوا منه مادياً ولم يشركوه في هذا الربح، بل إنهم ربما فوتوا عليه بهذا العمل ربحاً أكبر وأجزل حتى لو أشركوه معهم، وإذن فالسرقة سرقة مادية كسرقة المتاع.

وليس من قصدي أن أكيّف هذه السرقة من الناحية القانونية، ولكني أقول إنها على أي حال لصوصية جريئة يجب أن يعاقب مقترفوها كما يعاقب سارقو المال والمتاع، وإذا كانت قوانين الدول العربية كلها قد أغضت عن اعتبار هذه المسألة وتقديرها فإن من الواجب على الأدباء ورجال الفكر في العالم العربي أن يفزعوا لحماية أنفسهم وصيانة آثارهم بأن يتداعوا لوضع مشروع يدفع عنهم هذا الاستهتار، ويقرر عقاباً رادعاً لأولئك المستهترين أو فليتوجهوا إلى الجامعة العربية لإنجاز ما هي بسبيله من وضع قانون عام في الشرق العربي لحماية الملكية الأدبية.

لا تنتظروا حتى ينتصف لكم رجال القانون أيها الأدباء، بل بادروا أنتم بالانتصاف لأنفسكم، فنحن في زمن يدفع فيه كل إنسان عن نفسه.

أليس من العجيب أن ترجع الجامعة العربية إلى رجال القانون وإلى موظفي الحكومات العربية في وضع القانون الذي تريده لحماية الملكية الأدبية ولا ترجع إلى الأدباء وهو الذين يعرفون الأبواب المفتوحة للسطو على هذه الملكية؟!

يا قوم حسبكم:

في أواخر القرن الماضي كتب الشيخ أحمد فارس الشدياق وصفاً للبيئة المصرية وطبيعتها قال فيه: (وإن من خصائص البيئة المصرية البارزة أن الطربوش فيها يضيق، وأن البرنيطة فيها تتسع وتتسع ثم تتسع).

والمعنى في هذا التعبير الطريف أن المصريين مغفلون بلهاء، فهم يعيشون في بلادهم غرباء، على حين ينعم الأجانب الوافدون بكل ما فيها من خيرات ومبرات. . .

ولقد مضى أكثر من نصف قرن على هذا الكلام ولقد تطورت الدنيا وتنورت الأذهان وأصبحت كل أمة تبحث عن نفسها وكل فرد يعمل على تقويم شخصيته، ولكن يظهر أن المصريين لم يتحرروا من تلك الطبيعة القديمة، فهم لا يزالون يؤثرون أن يعيشوا في

ص: 38

بلادهم غرباء، ولضيوفهم كرماء، أو قل أرقاء، ومصداق ذلك ما بدا من بلدية الإسكندرية الكريمة الموقرة إذ قررت إقامة تمثال في حديقة مكتبة الإسكندرية الجديدة للشاعر اليوناني قسطنطين كفافي. . .

وقد يعنيك أن تسأل: ومن يكون ذلك الشاعر اليوناني وماذا أسدى للثقافة وأجدى على مصر أو بذله في خدمتها حتى تؤثره بلدية الإسكندرية بذلك التخليد على أبناء مصر من العظماء والأفذاذ ولكنك لا تلمس أي مبرر من تلك المبررات، ولعل الأمر لا يخرج عن اقتراح تقدم به عضو يوناني في القومسيون إكراماً لواحد من بني جنسه فسارعت البلدية بالموافقة على ذلك نزولاً على قاعدة: كرماء لضيوفنا!

لقد أذيع أن رابطة أدباء الإسكندرية غضبت لهذا التصرف العجيب واحتجت لدى وزارة الداخلية على قرار البلدية (بإقامة تمثال لشاعر يوناني لا أثر له في خدمة القضية المصرية ولا الثقافة المصرية ولم يكتب كلمة واحدة لمصلحة مصر قديماً أو حديثاً) وقالت في احتجاجها (لقد كان الأولى بالبلدية أن تقيم في ساحة مكتبتها تمثالاً لشوقي أو حافظ أو البارودي أو المنفلوطي أو مصطفى صادق الرافعي أو غيرهم، فإن لديها الكثير الثمين من تراث عظماء المصريين قديماً وحديثاً الذين جملوا لواء الاستشهاد في سبيل مصر وإذاعة فضل بلادهم وهم أولى بالتخليد وأجدر بالتكريم. .)

ونحن على يقين من أن وزارة الداخلية ستتلافى هذا القرار، ولكنا نرجو أن لا يقف الأمر عند هذا الحد، بل الواجب أن نؤدب تلك البلدية الغريبة عنا، والتي لا تحترم كرامتنا، ولا تعتز بقوميتنا، فكأنها بلدية أثينا لا بلدية الإسكندرية. .

فيا قوم حسبكم، اتقوا الله في وطنكم إن كنتم مواطنين، واتقوا الله في مصر التي آوتكم إن كنتم وافدين. .

(الجاحظ)

ص: 39

‌الأدب والفن في أسبوع

اجتراء:

من نحو أسبوعين كنت قريباً من المذياع، فاسترعى انتباهي أحد المذيعين يقدم الأستاذ علي الجارم بك ليلقي قصيدة (السودان) فتوقعت أن يكون الأستاذ الجارم قد حفزت شاعريته قضية الوادي الماثلة في مجلس الأمن، فاستجابت بقصيدة جديدة لدواعي الظروف القومية الحاضرة. وأصغيت إليه وهو يقول بإلقائه المرنم الجميل:

يا نسمة رنحت أعطاف وادينا

قفي نحييك أو عودي فحيينا

واستمر في إنشاد القصيدة، ينتقل من التغني بالنسمة التي هبت من جنوب الوادي فأثارت شوقه إلى السودان، إلى الحديث عن الرحيل في القطار إلى أسوان، ومنه إلى الباخرة النيلية، ثم إلى القطار في صحراء العتمور، حتى يصل إلى الخرطوم، فيشيد بأهلها الذين تجمعنا بهم شتى الروابط.

قصيدة جميلة ولاشك، ولكن هل توصف بالبلاغة التي قال البلاغيون أنها مطابقة الكلام لمقتضى الحال؟ والسؤال بعبارة أخرى: هل هذه القصيدة تطابق مقتضى الحال الحاضرة بمعنى أنها تعبر عن قضية السودان كما هي مثارة الآن من حيث وحدة الوادي، وإنكار الإنجليز لها، وحجتنا، وأباطيلهم، ومن حيث شعور الشاعر إزاء ذلك وتصويره له؟

إنها ليست كذلك، ولكن الجارم شاعر بليغ، فما السر إذن؟

السر أن القصيدة قديمة، قالها الجارم منذ سنين في أثناء زيارته للسودان، وألقاها في نادي الخريجين بالخرطوم، وذهب كاتب هذا إلى السودان على أثر ذلك، فسمع حديث هذه القصيدة هناك، وحسن وقعها من نفوس إخواننا السودانيين وترديدهم لأبياتها.

وقد يمكن أن يمر الإنسان بأمر إذاعتها في الوقت الحاضر مر الكرام، ملتمساً له أدنى الملابسات، وملتمساً للشاعر عذراً من الرغبة في التمتع بالكسل. . .

ولكن حدث في يوم الأحد الماضي أن سمعت بالمذياع نفس القصيدة مرة أخرى بنفس الصوت والإلقاء، صوت الجارم وإلقائه الجميل، وقد تكون أذيعت في وقت آخر ولم أسمعها، وقد تكون سجلت، وستتكرر إذاعة المسجل.

وقد نستسيغ تكرار المسجلات الغنائية، ولكن لم تكرر إذاعة هذه القصيدة، وهي على ما

ص: 40

ذكرنا من القدم وعدم ملائمة الحال الحاضرة، ولم تغنّ، ولم (يغردها) فتحي بك. .؟

أراك تهم أن تقول غردها الجارم!

الشعر وقضية الوادي:

وقد كان لقضية الوادي في بعض شعراء الشباب بعض العزاء، فقد أذاع الأستاذ محمود حسن إسماعيل قصيدة ذات ببض وحياة، عنوانها (النيل، على ضوء قضية الوادي) ويشتغل الآن عبد الوهاب بتلحينها لغنائها وتسجيلها للإذاعة

وإذا كان العيد، كما قالت الكاتبة البليغة السيدة منيبة الكيلاني في مقالها بالرسالة، يأتي (فيكون بين المعيد ووسادته ليلة العيد حديث ونجوى؛ فبين معيد ووسادته من ثورات النفس ودوار الرأس وجهد الخاطر الكليل ما بين معيد ووسادته من بسمة الأمل رهشة الرجاء وتطلق الوجه) فيختلف الشعور به باختلاف الأفراد، وإذا كانت الأمم في ذلك كالأفراد، فإن شعور الأمة بالعيد الفائت كان مشوباً بالتطلع إلى ما عساه أن يتم في قضيتها الحاضرة، ولم يعدم هذا الشعور من يعبر عنه، فقد قال الأستاذ فريد عين شوكة في قصيدة له بالأهرام:

بلية من بلايا الاحتلال وما

لديه إلا جنايات وإرهاق

وحسبه ما دهانا من معاهدة

بها قيود ثقيلات وأطواق

رمت بنا في لظى حرب مروعة

ما كان لنا فيها عبر ولا ناق

حتى إذا وضعت أوزارها جحدت

جهودنا في سبيل النصر أرفاق

وأنكروا ما احتملنا في تحالفهم

وكم بلينا وذقنا مثل ما ذاقوا

بل يدعي القوم أن كانوا لنا وزراً

من الغزاة! فيا للحق يهراق

يا مصر، ما العيد إلا أن يطالعنا

يوم الجلاء له حسن وإشراق

وأن يوحد وادي النيل مملكة

يضمها علم النيل خفاق

زيتون في قرطاس من الشعر:

كتب الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني في أخبار اليوم مقالاً طريفاً بعنوان (زيتون في قرطاس من الشِّعر) قال فيه: إنه ضاقت به الحال في بعض سنوات الحرب العالمية الأولى، فاضطر إلى بيع بعض ما لديه من الكتب بالأقة، وكان في جملة ما باع النسخ

ص: 41

الباقية عنده من مؤلفاته. واتفق يوماً أن اشترى من بقال زيتوناً، فلما أفرغه في البيت وجد قرطاس الزيتون منزوعاً من ديوانه الذي كان فيما بيع بالأقة!

ثم قال: (من ذلك اليوم بدأ رأيي يتغير في الأدب وقيمته وما قيمة أدب مصيره إلى دكاكين البقالين ومن إليهم؟ وما زلت أكتب وأنشر، وإن لي لنصيبي من الغرور الذي لا تطاق الحياة بغير قدر كاف منه، ولكني حلت شيئاً فشيئاً حتى صرت أشبه بنجار لا يأسف على حجرة جلوس أو مائدة باعها، وقد خلت نفسي من ذلك الشعور (بالأبوة) لما أكتب، فليس يعنيني مصيره) إلى أن قال بعدما أبان أنه غير راض عما كتبه:(وأتعجب كيف كتبت هذا التخريف؟ وأتساءل: لماذا عجلت؟ لم لم أنتظر حتى أنضج؟)

ورجل كالمازني له ماضيه فيالأدب، ومن حقنا أن نتعقبه، فلا ندعه يقول ما يقول عن نفسه دون أن نتبين وجه الحق فيه وإن ما كتبه وألفه أصبح جزءاً هاماً من أدب العصر، فإذا تخلى عن (أبوته) فإن له أقارب آخرين من حقهم أن يروا فيه وفي أبيه المتخلي ما يرون. . .

ولكن. . . أراني أنزلق إلى فخ. . وهاهو ذا (المكار) يبتسم، فقد أوشكت على الوقوع!

لقد ذكرت ما كان قد قاله له الأستاذ العقاد، بصدد براءته من شعره، وكنت قد تحدثت عن ذلك في عدد ماضي من الرسالة قال العقاد إن المازني مكر بإنكار الشاعرية على نفسه ليتسابق إليه الناس ويضعوه في مكانه من الطليعة، ولكنه انتظر عاقبة مكره دون جدوى حتى الآن. . .

فهل هي (مكرة) أخرى. .؟ على أن الأستاذ المازني ليس بحاجة إلى هذا المكر بالإضافة إلى ما سلف من أدبه، ولعله يشعر بالحاجة إليه الآن. . فقد نضج قبل اليوم بزمان، ولم يعجل كما يقول، وليته يعود إلى ما يدعيه من (العجلة وعدم النضج) وإن كنت أود ألا يعود إليه الزيتون الأسود في قرطاس من شعره.

تظرف بعض الأدباء:

اعتاد لفيف من الأدباء أن يتلهوا بالتفكير في أشياء يتوقعون أن تستملح وتستطاب وتعد من طرائف الأدب وفكاهاته. وتلقفها منهم بعض المجلات الفكاهية فتنشرها ليضحك منها من تضحكه أمثالها.

ص: 42

رأينا مرة أنهم ألفوا (رابطة الفضوليين) ومرة أخرى كونوا (جماعة الثقلاء) واشترطوا للدخول في هذه وتلك كذا وكذا من الشروط التي تقطر، بل تنهمر، ظرفاً. . وهي تنطبق طبعاً على حضرات المؤسسين.

والناس يقرؤون هذا كله على أنه من نتاج أفكارالأدباء الظرفاء، وأنهم أبطاله، أي أنهم ظرفاء، وفضوليون وثقلاء. .

وآخر ما أسفر عنه ذلك الظرف (عيد ميلاد فقير الحرب) ومن يكون فقير الحرب عند فقراء الأدب غير (الأديب) المحلى بأل التي هي هنا لجنس الأدباء؟! ومن قول أحدهم في تكريمه (عيد ميلاد فقير الحرب هو عيد ميلاد الأدباء جميعاً) وعلى هذا المعنى دار المحتفلون حول أنفسهم. . . ثم نهض الفقير صاحب العيد - ممثلاً في أحد الأدباء الظرفاء - يعبر عن فقره ويتحسر على سوء حاله! وكان هذا سمر الأدباء في رمضان في (أحد مقاهي الحي اللاتيني القاهري) الذي استحق أن ينشر بإحدى المجلات في عدد خاص بالعيد. .

لا أنكر على أحد أن يمرح ويتفكه بما يريد، ولكن ما كل شيء ينشر، وهذا الذي رآه الناس منشوراً يلصق بالأدباء سمة التسكع ويومئ إليهم بشيء من الازدراء. ومن عجيب المفارقات أن أكثر هؤلاء الأدباء ليسوا من الفقراء، فمنهم الموظفون ذوو الدرجات العلى، ومنهم صاحب العمل الناجح، وفيهم ذو الفن المربح؛ وليس كل من فاته الثراء الطائل بفقير، وإذن فما (الأدب والفقر شقيقان) كما قال أحدهم. والفقراء المتسكعون حقيقة هم الأدعياء المتلصقون بالأدب.

على أن ذاك الذي يشغل به أولئك الأدباء أنفسهم ليس فيه قطرة من ماء الظرف، وإن كان به ماء آخر ينفع في هذا الصيف القائظ.

أول صندوق للبريد:

كتب الأستاذ حبيب جاماتي بمجلة المصور في (تاريخ ما أهمله التاريخ) يقول إن أول صندوق للبريد أنشأه المهدي الخليفة العباسي، وذلك أنه رغب في استماع شكايات رعاياه دون أن يكون بينه وبينهم وسيط، فكان يفتح أبواب قصره في أيام معينة من الأسبوع ليدخلها من يريد بلا استئذان، ليمثل بين يديه ويخاطبه في الأمر الذي يشكو منه. ولكنه

ص: 43

رأى أنه قد يكون هناك من وقع عليهم ظلم أو من يعانون فقراً ولا يجرءون على الدخول عليه خشية أن تعقد ألسنتهم الرهبة فلا يستطيعون الإفضاء بشكواهم، فعول على تسهيل الأمر عليهم بتيسير أسباب الاتصال به بطريق الكتابة، فأمر أن يوضع على كل باب من أبواب القصر صندوق كبير مثقوب من أعلاه مثبت إلى الحائط بمسامير، لكل يضع فيه كل صاحب شكاية شكايته مدونة في رق أو قرطاس، واحتفظ هو بمفاتيح تلك الصناديق، فكان يفتحها كل يوم بنفسه ثلاث مرات، ويطلع على الشكايات، ويفحصها واحدة واحدة، وينصف أصحابها بقدر ما يستحقون الإنصاف

فكان هذا أول صندوق للبريد في التاريخ، وكان المهدي أول من أنشأه

والأستاذ حبيب جاماتي يكتب كثيراً من المعلومات التاريخية الطلية، ويجلوها ويشوق إليها بأسلوب سهل نير، تحت عنوان (تاريخ ما أهمله التاريخ) ولكن هل هذه المعلومات أهملها التاريخ؟ ومم استقاها إذن؟! ألا يوافقني على ضرورة تغيير هذا العنوان؟

السينما بمناسبة (المنتقم):

كان إنتاج السينما قد كثر بمصر في أثناء الحرب الماضية، وعلى كثرته قلت فيه القيم الفنية، وكان ذلك انحداراً بالفن المصري الذي نشأ من قبل، وكان في نشأته خيراً مما صار إليه أخيراً.

وأبرز عيوب الفلم المصري، من حيث التأليف والإخراج، خلوه من الفكرة، وقصوره في تصوير النواحي المختلفة للحياة المصرية، وعدم طواعية الأبطال للطبيعة البشرية، فالبطل مثلاً هو أبو زيد الهلالي الذي لا يهزم ولا يخطئ، وتكييف الحوادث بحسب ما يريد البطل الأول من المظاهر الاجتماعية، والاعتماد في التأثير على مؤثرات تهريجية لا على الإبداع الفني.

وقد كان الناس في خلال الحرب، وخاصة العمال الذين نالهم رخاء، يبتغون التسلية والترفيه، ولكن حال الجمهور تغيرت بعد الحرب، لتنبه الوعي القومي، وارتفاع نسبة المستنيرين حتى بين العامة، فهز كتفه إزاء البضاعة المعروضة وأعرض عنها إعراضاً أيقظ أولئك المنتجين من أحلام مكاسبهم، فقبضوا أيديهم، وكفوا عن الإنتاج.

وكان ذلك بشيراً بتطور جديد في هذا الفن، يلتمس فيما يجد من الأفلام. وعلى ذلك اهتممت

ص: 44

بمشاهدة رواية (المنتقم) فوجدتها محاولة ليست بذات نصيب كبير من التوفيق، إذ لم تتغلب على أكثر ما ذكرت من العيوب العامة الحاضرة، ففكرتها تافهة وهي تقوم على شخص اعتدي عليه فتشبع بفكرة الانتقام ولكنه يقتنع أخيراً بأن المسامح كريم.

ومعمل الأدوية الذي بدأت به ودارت عليه حوادث الرواية ليس من الصور المصرية، والأشخاص بها ليسوا من البشر فالخيرون هم الخير كله والشريرون هم ذات الشر، وأراد البطل أن يكون أرستقراطياً حتى بعد أن عمى وخرج من العمل فكان له ما أراد. ولكن الرواية مع ذلك اعتمدت على الفن المعبر في هدوء وانسجام وخلت من المؤثرات التهريجية، وهذا هو ف رأيي ما يحسب لها في التطور الجديد المتوقع لفن السينما.

ولاشك أن هناك نواحي أخرى لرواية (المنتقم) ليس هنا مكان التعرض لها، وإنما قصدت إلى بيان عيوب في بناء قصة السينما على العموم بمناسبة عرض (المنتقم) وبيان موقف هذا الفلم من تلك العيوب، لتبين الطريق نحو ما يرجى من التطور الجديد.

(العباس)

ص: 45

‌البريد الأدبي

في التصوف الإسلامي وتأريخه:

أطالع مؤلفاً اسمه (في التصوف الإسلامي وتأريخه) للعلامة (نيكولسون) عربه وعلق عليه العالم (أبو العلا عفيفي) استاذ الفلسفة بكلية الآداب بجامعة فاروق الأول فأجد هذا القول:

(. . . ولكن صاحب الفهرست يخبرنا أن أستاذه (أي استاذ معروف الكرخي) كان يدعى فرقداً السَّنجي وأن فرقداً هذا قد أخذ عن الحسن البصري الذي أخذ عن مالك بن أنس).

ويعلق الأستاذ المعرب على (السنجي) كما ورد في المتن بهذه التعليقة:

(لا يعرف ضبط هذه الكلمة على وجه التحديد فقد تكون نسبة إلى سنج بالفتح أو سنج بالكسر).

وقد رأيت أن أتقرب إلى فضل هذين العالمين برواية هذه الأسطر عن (اللباب في تهذيب الأنساب) و (تاج العروس في شرح القاموس)، جاء في (اللباب):

(السبخي: بفتح السين والباء الموحدة وفي آخرها خاء معجمة، هذه النسبة إلى السبخة وهي معروفة، والمشهور بهذه النسبة أبو يعقوب فرقد بن يعقوب السبخي العابد من أهل إرمينية وانتقل إلى البصرة وكان يأوي إلى السبخة بها فنسب إليها، روي عن الحسن وغيره، روى عنه العراقيون، توفي قبل سنة (131) ولم يكن بالحافظ للحديث).

وقال صاحب التاج:

(السبخة محركة ومسكنة أرض ذات نز وملح ج سباخ، والسبحة ع (أي موضع) بالبصرة منه فرقد ابن يعقوب العابد توفي سنة (131) وفي الحديث أنه قال لأنس وذكره بالبصرة: إن مررت بها ودخلتها فإياك وسباخها، وهي الأرض التي تعلوها الملوحة ولا تكاد تنبت إلا بعض الشجر).

وكان اليبخي الصوفي هذا يحرم طيبات ما أحل الله لعباده فلا يأكل الفالوذج ولا يلبس الخز، قال ابن الجوزي في (صيد الخاطر):

(دخل فرقد السبخي على الحسن وهو يأكل الفالوذج، فقال: يا فرقد، ما تقول في هذا؟ فقال لا آكله، ولا أحب من أكله، فقال الحسن: لعاب النحل بلباب البسر مع سمن البقر هل يعيبه مسلم).

ص: 46

وقال ابن أبي الحديد في (شرح النهج): جاء فرقد السبخي إلى الحسن، وعلى الحسن مطرف خز، فجعل ينظر إليه، وعلى فرقد ثياب صوف، فقال الحسن: ما بالك تنظر إليَّ وعليَّ ثياب أهل الجنة، وعليك ثياب أهل النار، إن أحدكم ليجعل الزهد في ثيابه والكبر في صدره فلهو أشد عجباً بصوفه من صاحب المطرف بمطرفه).

(ورهبانيةً ابتدعوها ما كتبناها عليهم).

السهمي

سؤال وجوابه:

كتب إليّ من بغداد أخي الأستاذ علي حيدر الركابي يقول: (ما هدفك من سلسلة (مرتفعات وذرنج) تقدمها للعربية باسم (ثلوج حِزْرين)؟ هل هي قصة وقعت بالفعل فأردت تدوينها؟ لقد أغنتك عن ذلك الكاتبة الإنجليزية برونتي التي أصبح لكتابها شهرة عالمية، ومركز ثابت في الأدب وترجم إلى العربية - أم أنت اطلعت على الأصل مترجماً فأجبت بأسلوبك الـ. . . أن تشوق قراء العربية إلى قراءته؟).

وأنا أقول إن شيئاً من ذلك لم يكن، وإنما رأيت القصة في السينما فهزتني وأثرت فيّ فجمعت ما بقي في ذهني من حوادثها وشرعت أكتبها على هذا الشكل الذي شعرت أنا (والحق يقال) أني لم أوفق فيه لأني أضعت جوهر القصة في هذا الاختصار الذي لابد منه، وأنه كان خيراً لي وللأدب لو أفضت هذه الصور والأفكار على قصة أخرى.

هذه هي الحكاية. أما القصة وترجمتها فأحسبك تصدقني إذا أكدت لك القول بأني لم أسمع بها إلا منك، وأنك جعلتني أخجل من تقديم صورة مشوهة لقصة تقول إنها عظيمة وإنها معروفة، وعلى كل حال فما أخذت من القصة إلا بعض حوادثها أما الصور والخواطر، فهي لي وحدي، لي جمالها وعليّ قبحها، ما أخذتها من أحد.

ولك من أخيك أوفى شكره وأجمل تحياته. . .

علي الطنطاوي

هل هي: فلا شيب الله قرنه؟!

نقل الأساتذة. أحمد أمين بك، وجاد المولى بك، وعلي الجارم بك، والسباعي بيومي، وأحمد

ص: 47

زكي صفوت في كتاب (المطالعة التوجيهية) الذي قررته وزارة المعارف لطلبة السنة النهائية بالمدارس الثانوية كلمة الخوارزمي المشهورة على هذه الصورة.

(من روى حوليات زهير، واعتذارات النابغة، وأهاجي الحطيئة، وهاشميات الكميت، وقلائص جرير، وحمزيات أبي نواس، وتشبيهات ابن المعتز، وزهديات أبي العتاهية، ومراثي أبي تمام، ومدائح البحتري، وروضيات الصنوبري، ولطائف كشاجم، ولم يخرج إلى الشعر، فلا شيب الله قرنه).

وفسروها بقولهم (أي فلا عاش حتى لا يشيب، يدعو عليه أن يموت شاباً!!) فقلت له إن هذه الجكلة قد وردت محرفة ثم خرج الشرح وقد وردت هذه الجملة في (ثمار القلوب للثعالبي)(فلا أشب الله قرنه) وجاء في لسان العرب بعد أن بين معنى الشياب (وأشبه الله وأشب الله قرنه بمعنى) وفي محيط المحيط للبستاني (وأشب الله الغلام جعله يشب، وأشب قرنه أطال عمره، وهو من باب الكناية لأنه إذا شب قرنه وهو مساو له في العمر شب هو أيضاً، ويقال للغلام في الدعاء عليه؛ لا أشب الله قرنك أي لا جعلك تشب، ومنه قول الحريري في مقاماته للغلام الذي استشاره - قبح الله ظنك ولا أشب قرنك. وفي الأساس لجار الله الزمخشري (وأشب الله تعالى قرنك وأشب فلان تبين إذا شب بنوه).

هذا وإني بعد - أن أوردت ما أوردت من بيان لأرجو إلى حجة العرب وإمام الأدب السيد النشاشيبي أن يتفضل فيدل الأدباء على الصورة الصحيحة لكلمة الخوارزمي هذه لأن في رواياتها اختلافاً كثيراً، ففي كتاب (المطالعة التوجيهية)(وقلائص جرير) وفي ثمار القلوب (ونقائض جرير والفرزدق) وفي هذا الكتاب كذلك زيادة (وقلائد المتنبي) وله منا ومن أهل الأدب جميعاً خالص الشكر وأطيب التحية.

(المنصورة)

محمود أبو رية

الزنزانة وأسماؤها:

كانت لهذه الكلمة المسكينة اسم واحد متواضع معروف فأطلق عليها النابغة الأستاذ الطنطاوي في مقاله الرائع عن (الرب) المرشد الحجيرة. ثم اقترح أديب فلسطيني أن

ص: 48

تسمى الحاشرة فاستعملت هذا الاسم في مقالي خاتمة دجال، وقد بين الأستاذ الرشدان في العدد الأخير من الرسالة خطأ استعمال هذا الاسم وقال بلزوم الاستعاضة عنه بالحاصرة لصحة مدلوله على المعنى المقصود. وأنا أخشى غداً أن ينبري أديب آخر ويرى لزوم إطلاق الهاصرة، أو الصاهرة، على هذه الكلمة، ولهذا أرى تثبتاً من الأصح أن نحيلها على المجمع اللغوي في القاهرة، فيكون مصيرها مصير كلمة (السندوتش) التي كان الناس يشكون من ثقلها على المسامع، فلطفها المجمع وهذبها، فأصبح يطلق عليها (شاطر ومشطور وبينهما الكامخ) وبذلك نكون قد انتقمنا من هذه الكلمة شر انتقام جزاءاً وفاقاً على ما شغلت من بال الأدباء والنحاة وأكلت من أوقاتهم. . .

حسني كنعان

تصحيح:

وردت في المقال المنشور بالعدد الماضي من الرسالة عن الروحانية والمادية للأستاذ العقاد كلمة الخليقة الحية، وصوابها الخلية الحية وكلمة

ص: 49

‌القصص

قصة إسلامية:

شيخ الأندلس

منقولة عن الإنجليزية

بقلم الأديب وهبي إسماعيل حقي

ولما تم تقديم الجميع للخليفة، وقف اللاعبون في صفوف منتظمة، ودقت الطبول تعلن بدء المباراة.

وكان عدد المتبارين قد بلغ نيفاً وسبعين فارساً، فكانت المباراة في الدفعتين الأوليين شاقة ومرهقة ولم يفز فيها سوى عشرة منهم لهم الحق في التسابق الأخير وهو أعنف أدوار المسابقة وأصعبها؛ فقد ركّز عمود في وسط الساحة بالغ في الارتفاع، وثبت في طرفه الأعلى بأسلاك قوية تمثال طائر كسي جميعه بالحرير الذي جعل النسيم يداعبه فيتحرك ذات اليمين وذات الشمال.

وعلى كل من الفائزين في الأشواط الأولى أن يسدد سهامه إلى ذلك الطائر من مسافة معينة، ويحوز قصب السبق من يوقعه على الأرض في إحدى ضربات ثلاث، وقد تقدموا جميعاً ما عدا إسحاق فإنه قد بقي للنهاية بحكم قانون اللعب لإحرازه البطولة في عامين سابقين. وكان كل من يتقدم منهم يتبادل التحية مع الجماهير الحاشدة في الملعب وهو عظيم الأمل في الفوز ولكن التوفيق خالفهم جميعهم، ورجعوا منكسي الرءوس يتصببون عرقاً.

ولما تقدم إسحاق وحيا الجماهير وحيته، شمل الساحة سكون مطبق، ورنت إليه الأبصار واشرأبت الأعناق في تلهف ورغبة فلما أخذ مكانه وأرسل أولى سهامه إلى الطائر تابعته الأنظار وشايعته القلوب حتى استقر في صدر الطائر وأماله إلى الخلف كثيراً فترنح الطائر للسقوط ثم أخذ مكانه الأول ولكن من غير جناحين فقط على الأرض، فارتفعت الأصوات في الفضاء بالتهليل والتكبير، وتعالت بالدعوات لإسحاق. فاهتزت جوانب الملعب، ثم عاد إليه الهدوء بعد قليل، ولما صوب إسحاق سهمه الثاني اهتز العمود في عنف وتقطعت أسلاك كثيرة وتمايل الطائر إلا أنه لم يسقط. فهتفت الجماهير في صوت واحد:

ص: 50

- مرحى! مرحى! يا إسحاق، احرص هذه المرة فأنت البطل.

استعد إسحاق، وسدد سهمه الأخير إلى الهدف في عناية وإحكام فطار في الهواء ثم نفذ إلى رأس العمود فأتى على بقية الأسلاك وهوى الطائر إلى الأرض وافترش مساحة صغيرة في الساحة، فدوى الهتاف في جميع الجوانب:(الله أكبر الله أكبر ولله الحمد) فرد إسحاق تحية الجماهير بكلتا يديه ثم تقدم إلى مقصورة الخليفة وانحنى أمامه، فهنأه الخليفة وقدم له القدح الذهبي جائزة الفوز في ذلك العام، فانحنى الشاب ثانية، ثم استأذن الخليفة وانصرف شاكراً، ثم التف حول جمع غفير من أصحابه والمعجبين به وخرجوا إلى المدينة وهم ينشدون الأناشيد الوطنية الجميلة ابتهاجاً بهذا النصر العظيم.

أصبح الشيخ إدريس طاعناً في السن، وقد وهت قوته ونالت منه السنون، فضعفت حركته، وتحللت أوصاله وصارت العزلة محببة إليه، فابتنى لنفسه منزلاً صغيراً أنيقاً في ظاهر المدينة حيث الهدوء التام وأحاطه بحديقة جميلة زاهرة، وعاش فيه عيشة وادعة هانئة.

ولقد كان حريصاً على أن يشهد المهرجان في هذا العام ليقوي روح ابنه المعنوية. ولكن قعد به عن ذلك ضعف الشيخوخة ولقد سرى إليه نبأ انتصار إسحاق بأسرع من البرق. ووفد عليه كثير من الناس يهنئونه قبل أن يعود ابنه. وقد تحامل على نفسه ومشى إلى باب الحديقة ليستقبل ويودع المهنئين ولينتظر ابنه فجاء في رهط من إخوانه تتقدمهم هتافات وجلبة. فلما بلغوا سور الحديقة ترجلوا عن جيادهم وتقدم إسحاق إلى أبيه فقبل يديه كلتيهما. ثم عانقه عناقاً حاراً وطبع الوالد على جبهة ابنه قبلة تفيض عطفاً وحناناً. وتقدم رفقاء إسحاق فقبلوا يد الشيخ وقدموا له التهنئة، ثم تبعوه إلى موائد الشاي والمرطبات فنالوا منها ما طاب لهم. وقبل أن ينصرفوا قام إدريس وشكر للحاضرين صادق تهنئتهم، ودعاهم لحفلة عشاء ساهرة، اعتاد أن يقيمها كلما فاز ابنه في مساء يوم المهرجان. فقبل الحضور الدعوة شاكرين وخرج إسحاق يودعهم إلى الباب، ثم رجع والمؤذن ينادي لصلاة الظهر فأسرع مع والده إلى المسجد، ولما رجعا إلى البيت انفرد الرجل بابنه وجلس إلى جانبه وقال له:

- إنك تعلم يا بني أني قد بلغت من الكبر عتياً، وأنني هامة اليوم أو الغد، فقد انطفأت شعلة القوة في نفسي، وسرى الضعف في أعضائي، وخطوت إلى النهاية خطوات فسيحة

ص: 51

وأصبح لا أمل لي في الحياة إلا أن أراك رب أسرة ورأس عائلة وإن ابنة الشيخ عبد الكريم ذات نسب ودين، وليس لها من يدانيها جمالاً وأدباً؛ وقد حزمت الأمر أن نعقد لكما في نهاية هذا الأسبوع والله أسأل أن يكتب لكما التوفيق. . .

عقد الحياء لسان إسحاق فلم ينبس ببنت شفة. ولكن بسمة لطيفة ارتسمت على شفتيه تعبر عن سروره وفرحه. ثم دخلت أمه العجوز فضمته إلى صدرها ضمة قوية وطبعت على وجنتيه قبلة حنان وعطف ثم جعلت يده بين يديها وأخذت تمر بهما عليها مراً لطيفاً وقالت:

- بني العزيز! نهنئ أنفسنا بفوزك. ونسأل الله أن يحرسك. . . إن عمك الشيخ عبد الكريم كان هنا قبل أن تعود وقبلنا دعوته لك لتتناول الشاي عنده بعد عصر هذا اليوم وقد دعا كثيراً من أصدقائك لتأنس بهم. وكثيراً من أصدقائه وأصدقاء والدك لتتعرف عليهم. وإنه أقام هذا الحفل ابتهاجاً بنصرك فاستبدل ملابسك وتهيأ لتلبية الدعوة. ولا تنس أن ترجع قبل غروب الشمس لتستقبل المدعوين للعشاء عندنا.

- أشكرك يا أماه! وسألبي دعوة عمي. ولكني لا أملك العودة في الوقت الذي تحددينه. فذلك موكول للظروف، فقد لا ينتهي الحفل قبل أن تغرب الشمس!

قد يكون ذلك يا بني ولكن عمك الشيخ عبد الكريم سيكون في منزلنا في نفس الوقت أو بعده بقليل لأنه مدعو للعشاء هو الآخر. . .

استبدل إسحاق ملابسه. وأعد جواده، ثم أخذ طريقه إلى منزل الشيخ عبد الكريم في قلب المدينة. . وكان الشيخ عبد الكريم من سراة القوم والمقدمين فيهم، ومن ذوي المكانة في الدولة ولم يبق له من ذريته إلا فتاة جميلة الطلعة لطيفة التكوين ناهزت سن البلوغ، ولقد كانت الصلة بين الرجل وبين الشيخ إدريس من أوثق الصلات وأقواها وازدادت قوة وتوثيقاً بخطوبة الفتاة لإسحاق بن إدريس، فأصبحت الأسرتان شريكتين في السراء والضراء، وكان الشيخ عبد الكريم يولم كل عام فاز فيه إسحاق بالبطولة وليمة يدعو لها كبار القوم وأشرافهم.

وصل إسحاق منزل الشيخ عبد الكريم فوجدهم في انتظاره فتقدم إلى المدعوين وحياهم وتقبل تهانيهم شاكراً. ثم التفوا حول الموائد يأكلون ويشربون مما لذّ وطاب من الحلوى والشراب وبعد أن فرغوا قام بعض المدوين من شباب العرب بألعاب رياضية في الفروسية

ص: 52

ولعب السيف وركوب الخيل. . . ثم تفرق الجمع شاكرين للداعي دعوته مكررين لإسحاق التهنئة، واستأذن إسحاق بدوره وأكد على الشيخ عبد الكريم ألا يتأخر عن اللحاق به. ثم ركب جواده ولوى عنانه إلى بيته.

كانت أشعة الشمس على قمم الجبال قد اصطبغت بلون الذهب وكانت الطيور تروح جماعات إلى أوكارها على رءوس الأشجار عندما كان إسحاق في طريقه إلى منزله عائداً من حفل الشيخ عبد الكريم، فما إن بلغ مقابر الخلفاء في سفح الجبل حتى ركض جواده في منعطف الطريق. ثم وثب وثبة عالية في خوف وفزع وكاد إسحاق يسقط لولا أنه فارس ماهر. . .

ولما هدأت ثائرة الجواد، وخفت حدة جموحه تلفت إسحاق حوله فرأى رجلاً منبطحاً على الأرض وبيده مقود حمار، فأيقن أن كلاً من الحمار والجواد قد ارتاع لرؤية الآخر فجأة، فشرد الحمار وجمح الفرس. ووقع الرجل على الأرض.

تقدم إسحاق إلى الرجل وهو يهم بالنهوض وقال له معتذراً:

- لا بأس عليك أيها السيد الفاضل. أرجو ألا يكون قد أصابك مكروه.

فرد عليه الرجل في كثير من العنف والجفوة فقال:

- هل كنت أعمى أيها الغبي الأحمق ولم تر أي شيء أمامك!؟. فقال له إسحاق في استعطاف ولين:

- يلوح لي أنك غريب عن هذه الديار، فهل أنت آت من بعيد؟

- وما شأنك بي أيها المغرور؟ إنه يهمني أن أقول لك: إن هذه السكرة التي غمرتكم سينمحي أثرها عما قريب، وسيعلم أولئك الحاكمون من المسلمين أن وراء الأكمة ما وراءها، وحينئذ ستفيقون من غفلتكم، ويثوب إليكم رشدكم. وتخف وطأة غروركم.

- هون عليك يا صاحبي، ولا تغضب إلى هذا الحد، وإني أكرر لك المعذرة، وأرجو أن تعتقد أن ذلك وقع رغم إرادتي فاغفر لي هذا الخطأ. . . ثم مد يده إلى جيبه وأخرج كيساً به شيء من النقود وقال له: هاك هذه النقود، لتجبر بها ما أصابك ولتتبلغ بها في سفرك.

- إنك مجنون يا هذا! فقد ظننتني من مواطنيك الأندلسيين تستهويهم فضلات المسلمين، ألا فاعلم أنني من بلاد يبصق أهلها على الذهب إذا مسته أيد مسلمة.

ص: 53

فاستثار قول الرجل غضب إسحاق فقال له:

- أمسك عليك لسانك أيها الرجل واجعل لهذا الهذيان حداً

- أينا يهذي يا هذا؟ بحق (فجوف) - إله روماني - لم يصادفني من هو أكثر قحة منك.

سر في طريقك يا صاح ولا تستثرني بأكثر مما فعلت، فلولا أن ديني قد أوصى بابن السبيل خيراً لكان لي معك شأن آخر ولقطعت لسانك الذي تلفظ بهذا الهراء.

- يا لك من نذل جبان، أتتجاسر إلى هذا الحد أيها الصعلوك العربي؟ إن كان يجري في دمك نخوة الرجال فترجل عن فرسك لأريك أينا يقطع لسان الآخر!!

- لا تفه بأكثر من هذا، وانتظرني ليصفي كل منا حسابه مع صاحبه. . . ثم شرع في النزول عن ظهر الجواد، لكن الخائن لم يمهله حتى تستقر رجلاه على الأرض، فقد سدد إليه سهماً طائشاً نفذ إلى صدره، وأصاب منه مقتلاً فخر صريعاً تنزف منه الدماء غزيرة، وهكذا مات إسحاق في ميعة الصبا، وريعان الشباب.

بهت القاتل وتسمرت رجلاه في الأرض، فلم يكن في حسابه أن يموت غريمه هذه الميتة الوحيّة، ولم يعد للأمر عدته. فتملكته الحيرة واستبد به الارتباك ولم يدر ماذا يفعل لينجو بنفسه. وبينما هو في حاله تلك يتلفت ذات اليمين وذات اليسار إذ أقبل من بعيد خادم إسحاق، وكان قد تأخر عنه قليلاً، فلما رآه القاتل يجري نحوه، أيقن أنه إن أدركه فسيقضي عليه لا محالة فأطلق ساقيه للريح وأسرع إلى المدينة. . .

كانت الشمس قد توارت بالحجاب. وكان الظلام يتكاثف رويداً رويداً، حين كان الشيخ إدريس قد بدأ يساوره القلق لتأخر إسحاق في العودة بما لم يسبق له من قبل وهو يعلم أن هذه الليلة بالذات يجب أن يبكر فيها ليشترك مع أبيه في استقبال الضيوف. ولما استبد به الانتظار وقارب وقت المغرب أن ينتهي طلب إلى خادمه أن يعد له الماء في الحديقة ليتوضأ. ثم خرج إلى باب الحديقة ونظر هنا وهناك لعله قادم من بعيد ولكنه رجع كئيباً كاسف البال. ومع ذلك لم يدر بخلده أن ابنه في هذه اللحظة يسبح في بحر من الدماء عند مقابر الخلفاء في سفح الجبل فلما أخذ مكانه ليتوضأ قال له خادمه:

- ستؤدي الصلاة هنا أم في المسجد يا سيدي؟

فأجابه الشيخ الكبير:

ص: 54

- سأصلي في المسجد يا بني إن شاء الله - مع الإمام. ألم تسمع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة) وقوله عليه صلوات الله وسلامه (لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد) ولم يكد الرجل يتم حديثه حتى لاح لهم شبح يجري خلف سور الحديقة مسرعاً إليهم. فسأل الرجل خادمه قائلاً:

- يمكنك أن تتبين هذا الذي يسرع الخطأ إلينا؟

- لا يا سيدي. ولكن حركاته وملامحه ترشد إلى أنه ليس من أهل هذه البلاد.

- إنه يجري في ارتياع واضطراب كأن خطراً داهماً يتعقبه

(البقية في العدد القادم)

وهبي إسماعيل حقي

ص: 55