الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 739
- بتاريخ: 01 - 09 - 1947
عود إلى الردود والنقود
للأستاذ عباس محمود العقاد
يرى الأستاذ إسماعيل مظهر مرة أخرى في المقتطف أن ترجمة (أنيميزم) بالاستحياء خطأ لأنها ترجمت في بعض المعجمات العامة بالفكرة الروحانية.
والأستاذ مظهر يعلم ولاشك أننا لم نكن نعجز عن مراجعة المعجمات كما راجعها. ولكننا فضلنا كلمة الاستحياء لأن المعجمات لا تفسر المعاني الفلسفية، ولأن كلمة الاستحياء أدل على المعنى المقصود من الفكرة الروحانية في هذا المقام.
فالفكرة الروحانية تلتمس بالمذهب المعارض للفكرة المادية في تفسير الطبيعة أو تفسير التاريخ، وكلتاهما لم تكن تخطر للهمجي على بال، وإنما كان يؤله الظواهر الطبيعية لأنه كان ينظر إليها كما ينظر إلى الأحياء.
وليست ترجمة (أنيميزم) بالحياة خطأ من الوجهة اللفظية فضلاً عن الوجهة المعنوية أو الفلسفية. لأن كلمة أنيما هي أصل كلمة أنيمال ونحن لا نترجم هذه الكلمة بذوات الأرواح بل الأحياء أو الحيوانات. ولو ترجمناها بذوات الأرواح لأخطأنا في رأي الدينيين ورأي الماديين على السواء، لأن الدينيين لا يقولون بالروح في الحيوان، والماديين لا يقولون بالروح على الإطلاق.
وليس بصحيح ما قاله الأستاذ مظهر من أن كلمة (أنيما) تعني الروح في أصل وضعها مستشهداً على ذلك باستخدامها بهذا المعنى في كتب أرسطو وغيره.
وإنما الصحيح أن أصل معنى (أنيما) هو الهواء. ثم استعيرت لمعنى الحياة أو الروح لأن الأقدمين كانوا يربطون بين التنفس والحياة، وهكذا نشأت كلمات الروح والنفس والنسمة في اللغة العربية.
ويرى الأستاذ مظهر مرة أخرى أن كلمة بوليثيزم لا تترجم إلا بكلمة الشرك ولا تصح ترجمتها بتعديد الآلهة.
والصحيح أن ترجمتها بالشرك هي الخطأ وأن ترجمتها بتعديد الآلهة هي الصواب.
لأن الشرك يقتضي الإيمان بإله واحد يعتبر الإيمان بإله غيره مشاركة له ملكه.
والذين عددوا الآلهة قبل التوحيد لم يجعلوا بعضها شريكاً لبعض في الملك، بل ربما اتخذوا
إلهاً للبحر وإلهاً للشمس وإلهاً للغاب ولا مشاركة بينها في عمل من الأعمال!
ومن الخلط المعيب أن نقول أن الشرك يفيد معنى البوليثيزم لأن الذي يعتقد بإلهين اثنين مشرك ولا يقال فيه إنه وإنما يقال فيه أنه ديالست كما يعلم الأستاذ.
وخذلت المعجمات الأستاذ مظهر أكثر من مرة في هذه المناقشة لأنه راح يعتمد عليها في تفسير كلمة الديالكتيك التي ترجمناها بالثنائية ويأبى الأستاذ مظهر إلا أن تترجم بالجدلية. . . ولا جدل هناك حيث استخدمت الكلمة في مذهب هيجل أو مذهب كارل ماكس أو ما شاء الأستاذ مظهر من المذاهب الفلسفية.
فهيجل يقول بالفكرة ونقيضها في الثنائية المثالية وكارل ماركس يقول كذلك بالشيء ونقيضه في الثنائية المادية.
ومعنى (الاثنينية) ظاهر في المذهبين بل في كل اصطلاح يرجع إلى (الديالكت) حتى الديالوج الذي يجري الآن على كل لسان. . .
وكل أولئك يوحي إلى الذهن أن أصل كلمة اللهجة والحوار ملحوظ فيه الكلام بين اثنين.
ومهما يكن من هذا أو ذاك فالثابت قطعاً بغير جدال أن الأثنينية مقصودة في ديالكتيك هيجل وماركس، وأن الجدل غير مقصود فيهما إلا في المعجمات العزيزة عند الأستاذ إسماعيل مظهر. . . والتي يوجد عندنا منها بحمد الله عدد لا يقل عن الموجود منها في مكتبة الأستاذ العامرة أو مكتبة المقتطف الفيحاء.
وقال الأستاذ مظهر: (إن الذهاب إلى أن مذهب كارل ماركس هو الديالكتيك أمر لم يقل به غير الأستاذ العقاد على ما أذكر وبقدر ما يتسع له علمي. . . على أني أكاد أجزم به، ذلك بأن مذهب كارل ماركس هو المادية الجدلية. . . وشتان بين المذهبين. . .).
والذي قلناه نحن هو (أن مذهب كارل ماركس وهو الديالكتيك يقوم على أن المادة ثنائية الخصائص تشتمل على الخاصة ونقيضها).
فأين هو الخطأ في هذا الكلام؟
الخطأ على ما يظهر في طريقة الكشف عن الكلمات في المعجمات، وهي تقتضي الكشف عن الديالكتيك في حرف الدال، والكشف عن المادية في حرف الميم. . . وشتان بين الحرفين!!
وقد عاد الأستاذ مظهر إلى مسألة الوجود والموجودات فأعاد ما قاله الأديب المستفسر (صابر. م) في عدد مضى من الرسالة فقال - أي الأستاذ مظهر - (إن ذلك قد يقبل في غير لغة العلم غير لغة الفلسفة. لأن هذه اللغة لا تتجوز في تحديد المعاني الدقيقة لكل لفظ. . .).
فلا نزيد على أن نعيد له ما بدأناه في الجواب على الأديب المستفسر من كلام الإمام الرازي حيث قال في المناظرات: (إن كان غرضك إظهار الفرق بين التكوين والمكون بحسب اللفظ والعبارة فإنه يقال يكوَّن يكوّن تكويناً فهو مكون وذاك مكون فالتكوين مصدر والمكون مفعول. والفرق بين المصدر والمفعول معلوم في اللغات. إلا أن الفرق الحاصل بحسب اللغات لا يوجب الفرق في الحقائق والمعاني. ألا ترى أنه يقال عدم يعدم عدماً فهو معدوم، فالعدم مصدر والمعدوم مفعول. ذلك لا يوجب الفرق بينهما في الحقيقة).
ونظن أن الإمام الرازي مفسر القرآن ومفسر مذاهب الفلاسفة يعرف في اللغة والفلسفة ما يجوز وما لا يجوز.
وقال الأستاذ مظهر يعنينا: (أما كلامه في مذهب التطور فظاهر من عباراته التي ساقها أنه لم يفرق بين البحث في التطور والبحث في نشوء الحياة، إن الأمرين مختلفين جد الاختلاف).
وهذا كلام لا يجاب عليه بالإيجاز. . . ولكن بلغة التحدي التي تبتدئ من الخط الثلث إلى (بنط 8) في المطابع العصرية.
فنقول للأستاذ مظهر: اذكر لنا عالماً واحداً من علماء التطور، أو كتاباً واحداً من كتب التطور، أو سطراً واحداً من سطورها - يفصل بين التطور وبين نشوء الحياة في مذهب الماديين.
ونحن في الانتظار ولا نزيد.
ثم قال: (أما قول الأستاذ أن أجهل همجي لهو أصدق شعوراً بالعالم من الفيلسوف العصري الذي يحصر الحياة هذا الحصر العجيب. . . فهل نصدق حقيقة أن أجهل همجي هو أصدق شعوراً بالعالم من بلاس وكونت وكانت وداروين وبرجسون).
وعندنا نحن أن الأستاذ مظهر بحاجة إلى مراجعة برجسون وداروين وكانت ولابلاس ليعلم
أنهم لا يحصرون العالم، ولا يختمونه في علبة صغيرة، كالعلبة التي يملكها الأستاذ مظهر على ما يظهر، ونفضل له أن يملأها بالوهم - من أي صنف من الأصناف - ولا يملأها (بعلم) لم يستند إلى علم ولا إلى فلسفة ولا إلى عقيدة. . . اللهم إلا المعجمات وأشباه المعجمات!
عباس محمود العقاد
رجل في ملابس النساء!
للأستاذ علي الطنطاوي
قرأت في (أخبار اليوم) أن الشرطة عثرت على (فلان) قتيلاً في داره. . . وقالت عن هذا القتيل أنه كان يلبس ملابس النساء، ويفضلها على ملابس الرجال، لأن أمه لما ولدته كانت ترجو أن يكون بنتاً لذلك دعته (فلانة) وألبسته ملابس البنات ونشأته على ذلك، وقالت الجريدة أنه كان غنياً واسع الثروة فأراد يوماً أن يؤلف لجنة في (حزب سياسي) للسيدات يكون هو رئيسها فأوفدت إليه الشرطة من يهدده بالاعتقال والنفي إلى الطور إن هو فعل.
قرأت هذا فوقفت عنده وفكرت فيه، فوجدت الجريدة قد ساقت هذا الخبر لتعجّب الناس من أمرين هما: لبس الرجل لباس المرأة، ودخوله في لجنة السيدات - وما في واحد منهما عجب، ولا أدري ماذا وجدت فيه الجريدة حتى عجّبت منه الناس ومادمنا لا ننكر على المرأة أن تلبس لباس الرجل، وتستعير سراويلاته (بنطلونه)، وتجزّ شعرها تشبهاً به، وتتخذ مثل قميصه وردائه؛ فلماذا ننكر على الرجل أن يلبس ثيابها مرة واحدة؟
ولماذا ننكر عليه دخوله مرة واحدة في لجنة السيدات، ولا ننكر على السيدات دخولهن في لجان الرجال ومشاركتهم في أعمالهم، من سوق السيارة إلى تدريس الجامعة وأيهما أعجب وأغرب، وأبعد عن سنن الله ومألوف الناس، أأن يرأس رجل لجنة السيدات في حزب من الأحزاب، أم أن تقعد آنسة جميلة على منبر التدريس مثلاً. . . تعلم شباباً كباراً. . . علماً لم تختص هي به، ولم تنفرد بحمله، ولم ينقرض الرجال حتى لم يبق لتدريسه إلا هي، وليست أصلح له ولا أقدر عليه من رجال هم مستعدون للقيام به، راغبون في أدائه؟
فلماذا نستضعف الرجل فنحمل عليه، ونظلمه هذا الظلم البيّن، ونهاب الجنس (المخيف) أن نقول لأهله كلمة، أو نشير إشارة؟
وأين المساواة بين الجنسين التي ندعو إليها دائماً، ونتجمل بترديدها، ونتباهى بها، ونحن لا نفهم معناها، ولا ندري علام تدل وإلام توصل؟
وهل انفرد هذا الرجل وحده بلبسه غير لباسه، وتزيّيه بغير زيّه؟ ألسنا نرى كل يوم أناساً يتزيّون بزيّ الصالحين، ويحملون سبحات المسبحين، ويقومون في المساجد مع المصلّين، ثم لا تعاملهم إلا غشوك، ولا تخبرهم إلا وجدتهم طلاب مراتب ورواتب، أو باغي منافع،
ولا تراهم إلا متزلّفين لكل صاحب سلطان، خاضعين له، يؤثرون رضاه على رضا الله، ويخافون غضبه أكثر من غضب الله. إذا رأوا الحرام منه خرسوا عنه، وإن رأوا المكروه من غيره أقاموا الدنيا عليه. . .
ومشايخ طرق ظاهرهم مع مريديهم ظاهر الفقراء الزاهدين، وحقائقهم مع أهليهم وإخوانهم، حقائق الفساق الذين ينتهكون كل حرمة، ويبتغون كل لذة، ويعيشون حياة ليس فيها شئ لله ولا للشرف.
أولسنا نرى كل يوم عملاء للأجانب، كالذين ذكرهم الأستاذ رمزي بك، يدرسون على حساب الأجنبي في مدارسه، ويتربون على يديه، ويسبّحون بحمده، يتوجهون أنّى وجههم، ويعملون له فيما استعملهم، ويعرفهم الناس هم وآباؤهم من قبلهم صنائعه وعبيده، يلبسون فجأة ثياب الوطنيين المخلصين، أو دعاة الدين الصالحين، ثم يدخلون (بأمر الأجنبي) الحزب أو الجمعية، فلا يلبثون أن يكونوا هم أربابها، وأن يقصوا عنها أصحابها، ثم يصرِّفونها لمصلحة الأجنبي، يخدمونه وهم يسبّونه، قلوبهم وأيديهم معه وألسنتهم عليه، وعملهم لمصلحته وإن كانت ظواهرهم لمحاربته؟
أولسنا نرى أغبياء جهلاء يلبسون ثياب العلماء الأذكياء، وأدنياء يزهون بحلل الأعلياء، وأعداء يرتدون أردية الأصدقاء؟
فلماذا نفرد هذا القتيل المسكين بالملامة، ونخصه بالنقد؟
وهل كل من حمل شارب الرجل، ولبس لباسه، كان رجلاً؟ لو كان هؤلاء. . . كلهم رجالاً فهل كان يمكن أن تبقى بلاد العرب إلى اليوم مجزأة مقطعة، تفصل بينها حدود وأعلام، يطؤها الأجنبي ويتحكم فيها، ويستغلها ويستعبد أبناءها؟ إن الرجال حقاً هم الأربعون الذين كانوا مستخفين في دار الأرقم في أصل الصفا، فلم تمر عليهم ثلاثون سنة حتى فتحوا نصف الدنيا، لا هؤلاء الأربعمائة مليون الذين ناموا منذ ثلاثمائة سنة حتى تجرأت عليهم نصف شعوب الدنيا؟ لو كان هؤلاء رجالاً حقاً واجتمعوا على الأسطول الإنكليزي لحملوه حملاً على أكتافهم، ولو نفخوا كلهم نفخة واحدة لطيّروا الجيش الإنكليزي المرابط عند القناة ولو بصقوا كلهم بصقة واحدة لأغرقوا يهود العالم. . .
ولكنهم أشباه الرجال، ولبسهم لباس الرجال لا يقل عجباً وغرابة، عن لبس هذا القتيل لباس
النساء. . .
ولماذا ننكر عليه أن يكون رئيس لجنة السيدات الـ (حزبيات) ولا ننكر على السيدات أن يؤلفن هذه اللجنة؟ وما للسيدات وأعمال الأحزاب؟ إنه إن دخل فيها فهذا عمله، وهذا مكانه، ليس هو الطارئ الواغل فيه، ولكن السيدات المحترمات. . . فهن أولى بالإنكار، وأحق بالمنع، لا احتقاراً لهن وزراية عليهن بل إكراماً لهن، وترفعاً بهن أن ينزلن إلى هذه المنزلة، وينحططن إلى هذه الدركة، وهل جنى الرجال من الحزبيات في بلادنا خيراً حتى يجنيه منها النساء؟ هل رأينا فيها إلا الفرقة والانقسام، واستغلال نفر منا إخلاص المخلصين، واندفاع المندفعين، وطمع الطامعين، للوصول إلى كراسي الحكم، التمتع بأموال الدولة؟ وماذا يرى المراقب البعيد، من تبدل الحكومات في هذا الشرق العربي، وتعاقب الأحزاب عليها، إلا تبدل الوجوه، وتغيّر الأشخاص، أما الأسلوب فهو واحد، والسياسة واحدة، يتبدل الوزّان ويبقى الميزان؟ والميزان مختل، والقب مائل، والصنجات ضائعات!
أولسنا جميعاً مثل هذا القتيل نلبس لباساً لم يفصّل لنا، ولم يقس علينا، ولكنه خيط لغيرنا، فأخذناه كما هو بلا إصلاح، ومشينا فيه كما يمشي الطفل بحلة أبيه يتعثر بها فيسقط، فيضحك أهله عليه، ويسلّيهم بفعله
لقد أخذنا هذه المدنية كما هي، لم نحكم فيها عقولنا وشرائعنا وطبائع بلادنا، ولوازم معيشتنا، كما تفعل كل أمة في الدنيا، فتستوي الأمم في أصول الحضارات، وأسس المدنيات، ولكنها تختلف في التفاصيل، فلا تبنى البيوت وتخاط الثياب في البلاد الباردة كما تبنى وتخاط في البلاد الحارة، ولا تخطط المدن في شعاف الجبال كما تخطط في السهول أو على سواحل البحار، ولا تكون الأطعمة في حدود القطب كما تكون في خط الاستواء، وما يسوغ ويقبل في بلد قد ينكر ويردّ في بلد، وما يحسن في لسان من أساليب البيان يقبح في لسان، وما يجمل في ألحان الغناء يبشع في أذن، ليس في الدنيا بلدان متحضران تستوي فيهما هذه الدقائق كلها، وإلا لما كان معنى لاختلاف الحضارات، وتعدد الثقافات، وتكلف مشاق الرحلات، ولكان السائح الذي يرى فرنسا كأنه رأى ألمانيا، والذي يبصر أمريكا كأنه أبصر روسيا، وليس في الدنيا حضارة أصيلة إلا ولها طابع خاص بها، فما هو طابعنا نحن في حضارتنا الجديدة؟ ما هو الثوب الذي نلبسه؟
ادخل أي دار من الدور، وسر في أي شارع من الشوارع، في مصر أو الشام أو العراق، تجد الجواب، تجد في الدار الواحدة غرفة مفروشة بالبساط والوسادة فيها فراش على الأرض، وغرفة فيها أحدث ما صنع من الأرائك والكراسي والمناضد، ودقق في هذه الغرفة تجد فيها خليطاً من الذوق الفرنسي والإنكليزي، وفي صدرها مرآة من أسلوب عهد لويس الرابع عشر، وأمامها نضد على الطرقة الأمريكية، وتجد بين الأم وبنتها في اللباس والعادات والأفكار قرناً كاملاً، وتجد بين الدار وأختها فرقاً هائلاً، في العمارة والفرش والذوق والترتيب، مع إنك تدخل بيوت عمارة يسكنها إنكليز أو فرنسيون، فتحسّ على اختلاف الغنى والذوق، أن لها طابعاً عاماً يبدو على كل منها، وإن تفاوتت درجات ظهوره وخفائه؛ وتجد في الشارع ألواناً من الألبسة والأزياء، يحسبها الغريب أزياء عيد المساخر (الكرنفال)، وادخل المدارس تجد في المناهج، وفي المبادئ العلمية والسياسية والاجتماعية التي تعرض على التلميذ، وفي آراء المدرسين ومذاهبهم (كرنفالاً) آخر، ولكنه أغرب وأشد اختلافاً، وأكبر ضرراً، وفي المبادئ الحقوقية في التشريع، وفي المذاهب البيانية في الأدب، وفي الصحافة وفي السينما وفي كل شئ (كرنفال) ضخم، ليس له يوم واحد ينقضي بانقضائه، ولكنه دائم باق لا انقضاء له
وأنا لا أدعو لنبذ الحضارة الغربية، بل أدعو لأخذ ما ينفعنا منها، وأن لا نأخذها أخذ العامي للرادّ (الراديو)، لا يفهم منه إلا أنه يأتيه بالأصوات، فيفتحه على مصراعيه، ويزعج به الجيران، ويكرّه إليهم الحياة بجواره، بل أخذ العالم الذي يعرف وجوه استعماله، ويدرك تركيبه، فيصلحه إذا فسد، ويكمله إذا وجده ناقصاً، ويصنع مثله أو يخترع أحسن منه، أي أن نتعلم علومهم، ونتقن فنونهم، وندرس أخلاقهم، ثم نرى ما يزيدنا منها قوة، وسعادة للفرد منا والجماعة، وسهولة في العمل، ولذة في المعيشة، فنأخذه كما هو، أو نعدله حتى يصلح لنا، وأن ننقله إلينا، ونجعله ملكاً لنا، لا أن ننتقل به إلى أمة غير أمتنا، وطبيعة غير طبيعتنا، وأن ننظر ما فعله أجدادنا في أول العهد العباسي، مع الحضارة الفارسية أولاً فنصنع مثله، إنهم أخذوا كل نافع في الطعام والشراب وللباس والمسكن وفنون القول وطرائق الفكر، ولكنهم لم يصيروا به فرساً، بل جعلوا به الفرس عرباً، أما أن نأخذ النافع والضار، والجليل والحقير، بلا فهم ولا علم، فهذا تقليد كتقليد القردة. . .
وبعد، فلماذا ننكر على هذا الرجل أنه فقد عزة الرجولة، واتخذ لباس المرأة، ولا ننكر على الكثرة الكاثرة من هذه الأمة أنها فقدت عزتها، واعتدادها بنفسها، وكبرياءها القومية، وشعورها أنها أمة هي أعظم الأمم في الجاهلية والإسلام، وأنها إن قدر عليها أن تذل حيناً، فما من أمة إلا وقد ذلت ذات مرة، ولكنها لن تذل مرة أخرى، ولن تعود إلى الغفلة والمنام. . .
إن رأس أدوائنا هو هذا اللطف، والحرص على أن نكون مؤدبين، لا نؤذي محدثنا أو جليسنا. هذا للطف وهذا الإكرام للضيف هو الذي جرأ علينا الأجانب، جنوداً وتجاراً، حتى ملكونا بجيوشهم ومعاملهم وشركاتهم ومتاجرهم، ولا خلاص لنا، أعنى لا خلاص لمصر من هذا كله ألا بأربع خلائق يجب على كتابها وصحفييها ومدرسيها وصانعي أفلامها أن يعلموها الناس وأن يخلقوهم بها، هي حب المال أولاً، وحب المال إن زاد كان مذمة للفرد ونقيصة، ولكنه لا يكون للشعب إلا خيراً، وما أفلح شعب لا يحب في مجموعه المال. وحب الأسفار ثانياً. . . كونوا كإخوانكم الشاميين، هل طلع كوكب إلا على نفر منهم؟ اقتحموا البحر والصحراء، إلى أمريكا شماليها وجنوبيها، وأفريقية أدناها وأقصاها، والهند واليابان وأوربة، وما نزلوا بلداً إلا كانوا من كبار تجاره، ومن وجوه سراته، عاشوا تحت كل نجم، وجابوا كل أرض، وخالطوا كل أمة. . .
وترك هذا اللطف ثالثاً، وتعود الشدة في الحق، والثقل على العدو، والمزاحمة على العيش، وأن يحس مصري بعد هذا كله، بل قبل هذا كله، أن البلد بلده وأنه أحق به من كل خواجة وكل دخيل، وأن له هو طيباته وخيراته، وأنه أكرم من هذا الدخيل (كائناً من كان هذا الدخيل) أصلاً، وأعز نسباً، وأبين لساناً، وأقوم ديناً، وأجل أثراً في الدنيا، فلا يطأطئ رأسه لأحد، ولا يحني هامته لإنسان، ولا يرضى بالدنية من مخلوق في الدنيا.
بهذه الأخلاق ننقلب مرة أخرى، ويرى هؤلاء الأجانب ماذا يصنع الأسد الجريح، إذا برئ، بالثعالب التي كانت تلعق دمه.
والويل يومئذ للثعالب!!
(القاهرة)
علي الطنطاوي
القسم العاشر:
الاستعمار الفرنسي في الجزائر العربية
يولية 1830 - يولية 1947
(نحن نقص عليك نبأهم بالحق) قرآن كريم
للأستاذ أحمد رمزي بك
إنه نبأ هذه الأمة الجزائرية العربية التي تسكن أرض الجزائر ولها على هذا الوطن الحق الطبيعي التاريخي الثابت الذي لا تضعفه أقاويل فرنسا وادعاآتها لأنه منبعث من ثنايا القرون العديدة التي أمضتها هذه الأمة على أرضها وهي تتمتع بكامل شخصيتها وميزاتها لا يشاركها فيها أي مشارك ولا ينازعها في أمجادها أي منازع.
إنها قضية تسعة ملايين نسمة من المسلمين تحاول فرنسا أن تجعل منهم قطيعاً في بلادهم وعلى الأرض التي حملت تاريخ آبائهم وأجدادهم: أتدري أنهم محرومون من كل حق سياسي أو اجتماعي أو ثقافي؟ وأنهم لا يستطيعون أن يجهروا بأقوالهم ومشاعرهم؟ لأن حرية القول وحرية الاجتماع وحرية الصحافة بل حرياتهم الدينية محرمة عليهم.
ولكي تحتفظ فرنسا بإدارتها الاستعمارية وجبروتها تلجأ إلى فرض نوع من الرقابة البوليسية لا يقل عن أشد أنواع الجستابو الذي فرضته ألمانيا النازية والجيبيو الذي فرضته روسيا السوفيتية على أراضيها: إنها تجعل من إدارة الأمن العام والمكاتب الوطنية أداة للإرهاب والتشريد والتجسس وكبت الحريات لدرجة أنها تصرف خمس الميزانية على هذه الأداة البوليسية الجبارة.
تصور حكومة تشتري كيانها وحكمها وإدارتها بأن توزع خمس أموالها على هيئة بوليسية للقمع والإرهاب. ماذا يبقى لها أن تفعله في ميادين الحياة العامة ونشر التعليم والصحة؟ وهي مضطرة أن تحتفظ بجانب هذا بمبالغ للصرف على الجيش والقوات المسلحة الأخرى؟
لقد عرفنا شاتينيو سكرتيراً عاماً لمفوضية فرنسا بسوريا ولبنان ولمحنا في أحاديثه وأقوله الرجل الفرنسي المتمسك بمبادئ الثورة الفرنسية وتقاليدها المنبعثة مما أعلنته عن حقوق
الإنسان. كان يصرح بهذا وبلاده تحت الحكم النازي وسيطرة جيش الاحتلال ودارت الأيام فإذا به يشغل مركز الحاكم الفرنسي العام: إنه ممثل الجمهورية في بلاد الجزائر وهاهو ذا قد لبس لباس الاشتراكية وجاهر بحقوق الأمم المظلومة ولكنها في نظره وفي عقيدة أمثاله من اليساريين من اشتراكيين وشيوعيين قاصرة على الأمم الأوروبية وحدها. أما شعوب الشرق وأمم الإسلام فهي في الجزائر أو شمال أفريقية وفي بخارى وأواسط آسيا سواء في تحمل الضغط والخضوع لسيطرة الاستعمار الفرنسي أو السوفيتي.
ماذا يقول حاكم الجزائر الاشتراكي! إنه يقرر في خطابه الذي ألقاه يوم 19 ديسمبر سنة 1945 في المجلس المالي الجزائري (إن تضخم أرقام الميزانية راجع إلى زيادة عدد الموظفين في إدارة الأمن العام.)
أي أن حكومة الجزائر الاستعمارية الرجعية التعسفية والتي يوجد على رأسها حاكم اشتراكي، تشتري وجودها بثمن باهظ من حياة الشعب الجزائري، إذ تفرض عليه الجهل الدائم لتعيش مع جيش موظفيها، إنها تترك الأمراض تسري وسط جماعاته والمنون تأكل من أطفاله لكي تعيش هي مع جيش من الموظفين الفرنسيين يخدمون مآربها ويؤكدون سلطانها وجبروتها عليه.
وفي الوقت الذي تصرف فيه فرنسا على بوليسها وعيونها هذه الثروة الطائلة من أموال الشعب الجزائري، نجد أن ما خصصته من هذه الميزانية للصحة العامة لا يتجاوز أربعمائة وثلاثين مليوناً من الفرنكات وما أرصدته منها للتعليم أقل من ذلك بكثير.
لذلك انتشرت الأمراض بين طبقات الأمة وضج المستعمرون حينما تبين لهم أن نسبة القادرين على حمل السلاح من الجنود الوطنيين قد هبطت لأن الأحوال الصحية لم تعد تسعف الأتون الفرنسي بالآلاف المؤلفة من أبناء العرب الجزائريين لدفعها إلى جوفه في حملاته الاستعمارية وليحولها إلى أشلاء وهياكل عظمية إنه يطلب المزيد من ضحاياه.
فهذه القوة الجبارة التي تسمى الأمن العام، أداة استبدادية نجدها في تحفز دائم واستعداد قائم للانقضاض على الشعب الجزائري، إذا تحرك أو أظهر امتعاضاً إنها تمكن المستعمرين من إبعاد أمة بأسرها عن دفة الحكم وعن تولي المصالح العامة في بلادها، أي تجعل من شعب يزيد تعداده على تسعة ملايين نسمة غريباً في بلاده، طريداً في وطنه منبوذاً على الثرى
الذي حمل سطوة آبائه وأجداده، بل تفعل أكثر من هذا إنها تقيم بينه وبين العالم سداً لا يجعله يبصر شيئاً مما وراءه لأنه تعزله عن الدنيا كما يعزل الموبوء والمجذوم كيلا يرى نور العالم. ألا فليعلم العالم أجمع أن أهل الجزائر محرومون في بلادهم من قراءة الجرائد العربية التي تأتي إليهم، وأن لدى المكاتب العامة قواعد لا تسمح لها أن تعير الوطنيين حتى الكتب الفرنسية التي تتحدث عن الحرية وآمال الشعوب.
فهل رأيتم سداً كهذا السد؟.
أما في الميدان الاقتصادي فما من شعب من شعوب الدنيا تحمل ما تحمله الشعب الجزائري منذ وضعت فرنسا قدمها في شمال أفريقيا. إنها أخذت تنهب الثروة الوطنية وتصادر أملاك الأهالي وتجعل أراضي الحكومة والدولة وخيرات الأمة وقفاً على المستعمرين الفرنسيين ومن لاذ بهم من طريدي الجنسيات الأخرى. . .
ولقد نقل صاحب كتاب تحفة الزائر في مآثر الأمير عبد القادر وأخبار الجزائر. أن قائد الجنود الفرنسية رتب مجلساً من رؤساء الجند لضبط الخزائن من الأموال والمهمات الحربية والذخائر فتحصل من ضبطها على ما قيل من الذهب والفضة وقيمة الجواهر 527 و680 و48 فرنكاً من الذهب، ومن الحنطة والشعير 3 ملايين ومن المدافع والبنادق والبارود والقنابل وغيرها مع ثمن الأملاك الأميرية 50 مليوناً.
فهذه الثروة الطائلة التي وقعت غنيمة بأيديهم عند الفتح، علمتهم طريق الاستحواذ على غيرها فإذا هم من يولية 1830 إلى 1947 يسيرون على هذا المنوال من المصادرة والاغتصاب حتى انتهوا بأن فرضوا الفقر والفاقة والإملاق على شعب بأسره.
وهذه الثروة الطائلة قد غطت ما تكلفته الحملة الفرنسية الأولى من أعباء مالية علاوة على ضياع الديون التي كانت فرنسا مدينة بها لحكومة الجزائر الإسلامية.
أما مصادرة أملاك الوطنيين فسياسة وضعتها فرنسا وقلدتها فيها إيطاليا وإسبانيا وهي تتلخص في تحديد منطقة خصبة من الأراضي ونزع ملكيتها اغتصاباً ونقل سكانها بالقوة منها.
وقد عمدت فرنسا لأول مرة إلى هذه السياسة في أقاليم القبائل وفي جهة قستنطينة كعقاب أنزلته بالسكان الجزائريين عقب ثورة عام 1871، إذ نزعت ملكية ما مقداره خمسة ملايين
من الأفدنة المصرية، منها مليون فدان من أجود الأراضي الخصبة وشردت أصحابها وجعلت هذه الأراضي لإسكان المهاجرين الفرنسيين خصوصاً أهالي الألزاس واللورين، وهم الذين طلب باسمهم الكردينال لا فيجري تسليمهم هذه الأراضي وإخراج الأهالي الوطنيين منها بدون أن يعوض أصحابها بشيء.
وقد سارت حكومة الاستعمار على طريقة فرض الغرامات الباهظة وتحصيلها بالشدة المتناهية فأخذت ملايين الفرنكات من أهالي المقاطعات التي قامت بثورة القبائل وعرف الوطنيون الذلة والمسكنة وبيع الأراضي والدور في سبيل عتق رقابهم.
ولا يزال بعض الإخوان المغاربة الذين لقوا الويل على أيدي فرنسا يحدثون أهل الشام بهذه الكوارث ويقولون لهم أنتم بخير مادمتم بعيدين عن حكم فرنسا المباشر وهو الذي يمثله قاضي الصلح الفرنسي وحارس الأحراش فالثاني يكتب المخالفات والأول يصدق غيابياً عليها فما يشعر صاحب الملك الوطني إلا والتنبيه بنزع الملكية يلاحقه فلا يقدر أن يفلت من يدي القضاء إلا وهو مجرد من كل ما يملك.
وبهذه الأساليب والقواعد التعسفية خرجت أحسن وأخصب الأراضي الزراعية وأجودها من أيدي الوطنيين وأصبحت تحت يد المستعمرين الفرنسيين ونزلت نسبة أملاك الجزائريين إلى 36 % من الأراضي الزراعية التي كان يملكها الجزائريون إرثاً عن آبائهم وأجدادهم.
وأدخل الفرنسيون فلاحة الكروم التي شغلت أكثر من ستة ملايين فداناً وهي كروم مخصصة لأنواع الأنبذة فهبطت مساحات الأراضي المخصصة للحنطة والمحاصيل الحيوية لمعيشة السكان الوطنيين وتعرضت مناطق الجزائر لأخطر المجاعات التي انتابت أفريقيا في العصور الحديثة نتيجة لتلك السياسة الاستعمارية التي انتزعت من الأهالي أخصب أراضيهم وجعلت منهم عمالاً أجراء يعملون لدى الكولون الفرنسي لقاء دراهم معدودة في أراضي كانوا يملكونها في الأمس القريب.
فالبلاد الجزائرية التي كانت قبل 1830 تكفي سكانها من محاصيلها الزراعية وتصدر من خيراتها الشيء الكثير، قد أصبحت في موقف اقتصادي يجعلها عالة على غيرها في إطعام سكانها وإعاشتهم، لأن الاقتصاد الزراعي والإنتاجي الذي فرضته فرنسا عليها لا يتفق مع حياة السكان الوطنيين ومصالحهم وموارد رزقهم وتنظيم أمور معاشهم فهم في فقر مدقع
واحتياج دائم ويموت من هؤلاء الآلاف كل سنة بسبب الإملاق والمرض وسوء التغذية.
وقد مات في سنة واحدة حسب التقارير الفرنسية ما يقرب من نصف مليون جزائري إبان المجاعات التي انتابت بلاد الجزائر في إحدى سنوات القرن الماضي ولم تحرك هذه النكبة أحداً من الأجانب الذين لم يشعروا بها وكانوا في رغد من العيش الدائم.
إن قيام سلطة حكومية فرنسية بالجزائر أمضت أكثر من مائة عام، لا يهمها شئ من أمور المواطنين أمر لا يقبله نظام العالم الجديد ولا يمكن أن يسلّم به دعاة الحرية ومن يتبجحون بمبادئ رفع الظلم عن الشعوب المغلوبة على أمرها. فهذه حكومة تفرض الامتيازات وحقوق الإنسان لفريق من السكان تمنحه كل الخيرات والباقي منهم أي تسعة أعشار السكان وهم أهل البلاد مجردون من كل حق لهم بل تطاردهم سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وتسير بهم نحو التشريد والإفناء.
وفي سبيل إبقاء هذه الحالة تحرم الحكومة الجزائرية الفرنسية؛ أهل الجزائر من حق التعليم وما يتبعه من حق النفوذ الاجتماعي.
فهي منذ سنة 1830 أبطلت كافة المؤسسات الثقافية والتعليمية التي كانت قائمة بمدينة الجزائر وفرضت سياسة الجهل المطبق ومحاربة اللغة العربية، لغة البلاد الرسمية واعتبرتها لغة أجنبية، بل ذهبت لأكثر من ذلك إذ حرمت تعليم القرآن الكريم في الكتاتيب إلا إذا علمت معه الفرنسية فكم عدد هذه التي بوسعها أن تعلم لغة أجنبية فيها؟ كان هذا القانون بمثابة حرمان الأهالي من تعلم القرآن الكريم ولا يوجد ما يشبه هذا القانون سوى الإجراءات التعسفية التي فرضتها حكومة فرديناندو ايزابلا على أهالي غرناطة المسلمين عندما أوقعهم سوء الحظ تحت بطش قوم نزعت كل عواطف الإنسانية من قلوبهم.
ولعل أعظم ما تمتاز به الإدارة الفرنسية بالجزائر هو محاولة نشر الجهل وتعميم الأمية بين طبقات الشعب الجزائري حتى لا تقوم له قائمة أو يشعر بشخصيته ووجوده.
فقد صرح عميد الجامعة الجزائرية أمام لجنة الإصلاحات الإسلامية في يناير سنة 1942 بمدينة الجزائر (أن بين 000ر250ر1 طفل وطني في سن الدراسة 000ر100 فقط خصصت لهم 699 مدرسة، وأن عدد الأوربيين حسب الإحصاء 900000 وعدد أبنائهم الذين يتمتعون بالتثقيف والتعليم الابتدائي 000ر200 طفل خصصت لهم 1400 مدرسة)
هذه أرقام تتحدث بنفسها عن سياسة فرنسا إزاء رعاياها المسلمين بالجزائر ولو شئنا أن نقيس حالتهم في درجات التعليم العالي والثانوي لرأينا العجب العجاب، فإن النسبة فيها لا تتعدى فيها العشرة في المائة بأي حال من الأحوال، ولم نكن نصدق شيئاً من ذلك حتى عاينا هذا بأنفسنا في بعض المعاهد الفرنسية التي تفرض لأبناء المسلمين نسبة معينة لا تتعداها مهما كانت ظروف أهليهم
وذلك لكي يقترن الإسلام بالجهل وتلصق المسلمون ظلماً وصمات التعصب والتأخر وعدم الرقي والخروج عن ركب الحضارة في القرن العشرين.
هذه سياسة أمة تقول أنها أعلنت حقوق الإنسان وبشرت العالم بدين جديد بمبادئه وبالحرية والعدالة والمساواة، وأنها هدمت بثورتها صروحاً للاستبداد ويزيد الفرنسيون على ذلك قولهم أنهم حملوا أعلام الحرية والرقي والسعادة إلى بلاد الجزائر، ولقد رأيت فيما تقدم البراهين القوية على سيطرتهم وجبروتهم وإفلاسهم في حكم الجزائر.
ليس لدينا للآن دليل قاطع على توجه العالم نحو المثل العليا بل إن موقف مجلس الأمن إزاء قضايا مصر وفلسطين وأندونيسيا ليس مشجعاً ولعل انقسام الكرة الأرضية إلى معسكرين من أسباب هذه الرجعية القائمة في أنحاء الدنيا.
ولكن الشعوب مهما كانت الظروف القائمة عليها أن تشق طريقها إلى حياة النور وأن تعمل لتتغلب على المصاعب القائمة حتى تفرض شخصيتها وآمالها وأهدافها على العصر الذي تعيش فيه.
سيكون الطريق وعراً أمامنا والعقبات صعبة في صعودنا نحو الحرية والعدالة ولكننا لن نرجع عن طلب معاملة الند للند وأن يعتبرنا العالم مجموعاً حياً راقياً؛ نملك من حق الرعاية والمعاملة ما يملكه أي مجموع أوربي راق يسير نحو التطور إننا نفضل أن نفنى جميعاً من أن يحاول العالم إرضاءنا بالعرض دون الجوهر أو يلهينا بالأقوال دون الحقائق. إننا نأخذ عقلية أوروبا لنتغلب على جبروت أوروبا.
أحمد رمزي
الخمرة النصرانية ومجالسها في العصر العباسي
للأستاذ شكري محمود أحمد
اشتهرت الخمرة النصرانية بالجودة والقدم، كما عرفت برائحتها الذكية وطعمها اللاذع، فتغنى الشعراء بذكرها، وفتنوا بنعتها، فوصفوا الكأس والنديم والنقل والزهر والتحايا والصبوح والغبوق وكل ما يتعلق بمجلسها من عزف ونزف وغناء وقيان وسقاة وتهتك ومجون، وما يتبع ذلك من حوادث مشهورة، وأخبار مذكورة وقصائد طريفة ونعوت جميلة حفلت به كتب الأدب والسير والشعر.
وقد نعتت الخمرة بالقدم، فهي تذكر نوحاً حين شاد الفلك، بل هي ترب الدهر في قدمها، عاشت معه، ودرجت في حجره، حتى لو أنها احتبت بين الندامى لقصت عليهم قصة الأمم، وروت لهم حوادث التاريخ. . . وهي عجوز قد علت على الحقب حتى عكفت عليها بنات الدهر، وعجمت الغير حتى اختمرت بخمار الشيب وهي في رحم الكرم. . . ثم هي شقية النفس تنفي الهم وتذهب الحزن فتجعل السقيم صحيحاً، والقبيح جميلاً، والصغير كبيراً. . .
وربما عبدها بعضهم، فأثنى عليها بآلائها، وسماها أحسن أسمائها، ونزهها عن الغر الفدم الذي لا يعرف لها قدره، وخص بها السادة الكرام من كل مطير الكف يطرب للندى. . .
وكانت الخمرة عندهم لذة العمر وغاية الغايات، لا تطيب لهم الحياة إلا بها، ولا يصفو الكأس إلا بين كأس وعود وقينة. . . وقد رضي أبو نواس من الدنيا بكأس وشادن. . وكان الغنم عنده أن يتعتعه السكر، والغرم أن يلفي صاحياً. . بل تمنى بعضهم سكرة شيطانية قبل موته تترك الصبيان خلفه يتصايحون: يا سكران. ثم يغسل بالخمر، ويكفن بأوراق الكرم، ويدفن بعد ذلك إلى جنب كرمة لتروي عروقها عظامه، وتجعل أقداح الخمر حول قبره. .
عرف النصارى بتعتيق الخمر، كما عرفوا بنظافة الآلة وجودة الشراب، وجمال الحانات، وتزيين مجالسها بأصناف الزهر والنقل، ووصفوا بحسن الخلق ولين الجانب، ولطف المساومة وصباحة الوجوه وجمال القسمات، لذلك كان الشعراء والهجان وأهل التهتك والتطرح يقصدون الأديار في الليل والنهار، ويختلطون بالرهبان والراهبات وفتيان
الأديار، ينادمونهم ويشربون على وجوههم، فيطربون ويلذون. . .
وكان الخلفاء أنفسهم يستقدمون من اشتهر من بينهم وعرف منهم لذلك لما أراد الواثق بالله الخليفة العباسي أن يعقد حانتين له ولأصحابه، إحداهما على شاطئ دجلة والأخرى في دار الحرم (أمر أن يختار له خمار نظيف، جميل المنظر، حاذق بأمر الشراب، ولا يكون إلا نصرانياً من أهل قطربل، فأتي له بنصرانيله ابنان مليحان، وبنتان بهذه الصفة، فجعلهم الواثق في الحانتين، وضم إليهما خدماً وغلماناً وجواري رومية. وأخدم النساء في حانة الحرم، والرجال في حانة الشط).
أما بيوت الشراب التي كانت تخزن فيها الخمور فلم أجد من وصفها لنا غير أحمد بن جعفر بن شاذان في كتابة (أدب الوزير) قال:
(وينبغي لبيت الشراب أن يكون له بابان واسعان وكوتان، فأما الباب الواسع ففي يسار القبلة من قبل ريح الجنوب، وأما الباب الضيق فمن قبل الشرق عن يمين القبلة من قبل ريح الشمال).
(وينزه بيت الشراب عن كل ريح كريه وكل قذر، وليكن بين كل وعاءين من أوعية الشراب ذراع ولتكن مواضع الأوعية جافة، فإن كانت ندية فلتفرش بالآجر أو الحجارة، وتقدير المعصرة أن يكون طولها ضعف عرضها).
وقد كان الرهبان أنفسهم يعصرون الخمرة، ويحفظونها في مخازنها التي كانت في الغالب تحت الأرض، وقد وصف الشعراء الهينمة حول الدنان وتلاوة المزامير والإنجيل، ومن ذلك قول أبي نواس:
وخمر كعين الديك أبحت سحرة
…
وقد همّ نجم الليل بالخفقان
ندبت لها الخمار فانصاع مسرعاً
…
إلى عدد من أكؤس ودنان
دراسته الإنجيل حول دنانه
…
بصير ببزل الدن والكيلان
وفي مثل هذا المعنى قال عبد الصمد بن بابك:
هينم القس حولها وتغنى
…
بمزامير دنها المزمار
ثم لما انتمت إلى دين عيسى
…
شد في حقو دنها زنار
ومن طريف ما جاء في وصف الجودة بالقدم قول شهاب الدين التلعفري، فقد جعلها تروي
حديث آدم وإبليس، وما كان بين سليمان وبلقيس، وأن الرهبان يتلون الأناجيل لها إذا حضرت، ويسبحون ويقدسون بأعظم ما يكون التسبيح والتقديس، قال:
عج حيث تسمع أصوات النواقيس
…
من جانب الدير تحت الليل بالعيس
مستخبراً عن كميت اللون صافية
…
قد عتقتها أناس في النواويس
مرّ الزمان عليها فهي تخبر عن
…
ما كان من آدم قدماً وإبليس
ترى الرهابين صرعى من مهابتها
…
إذا بدت بين شماس وقسيس
تتلى الأناجيل تعظيماً إذا حضرت
…
لها بأشرف تسبيح وتقديس
لها أحاديث ترويها إذا مزجت
…
في كأسها عن سليمان وبلقيس
يسعى بها من نصارى الدير بدر دجى
…
يميس في فتية مثل الطواويس
وامتاز سقاة الخمر من النصارى بحسن صفتهم، ونظافة آلتهم، وطهارة دنانهم ومبازلهم، لأنهم انفردوا - في الغالب - بعصرها وتعتيقها، لذلك أقبل عليهم المجان والخلفاء، حتى صارت الأديرة مطارح أهل اللهو، ومواطن ذوي الخلاعة، كما أصبحت ملتقى العشاق ومأوى الفساق، لأن مجالس الشرب واللهو كانت تعقد في الرياض والبساتين في جوار الأديرة وخلف البيع والمعابد، لأن الحانات كانت ملاصقة لها.
حدثنا العمري في مسالكه قال: (كان بالكوفة رجل أديب ضعيف الحال، مهما وقع في يده شئ من المال أتى به دير حنة فيشرب حتى يسكر ثم ينصرف، وهو القائل:
ما لذة العيش عندي غير واحدة
…
هي البكور إلى بعض المواخير
لخامل الذكر مأمول بوائقه،=سهل القياد، من العزه المدابير
حتى أحل على دير ابن كافرة
…
من النصارى ببيع الخمر مشهور
كأنما عُقد الزنار فوق نقا،
…
واعتم فوق دجى الظلماء بالنور
وربما أثرت هذه المجالس المرحة والحياة الناعمة برهبان الدير ومن فيه، فتركوا ما هم عليه من نسك وعبادة وزهد، وانغمسوا في ملاذهم، وتبعوا أهواءهم، فخلعوا العذار، ونهزوا مع الغواة بدلائهم، وأساموا سرح اللهو كيفما شاءوا.
وقد اشتهر من هؤلاء قس كان بالحيرة، ذمر خبره الخفاجي وياقوت ووصفه بعضهم قائلاً:
إن بالحيرة قساً قد مجن
…
فتن المجان فيه وافتتن
هجر الإنجيل من حب الصبا
…
ورأى الدنيا متاعاً فركن
وكان لهذا القس غلاية في ظاهر الكوفة ذكرها محمد بن عبد الرحمن الثرواني، وطلب أن يكون ريحانه من قلاية هذا القس قال:
خليلي من قيس وتيم هديتما
…
أضيفا بحث الكأس يومي إلى أمسي
وإن أنتما حييتماني تحية
…
فلا تعدوا ريحان قلاية القس
وكانت هذه الأديار تقصد في الليل والنهار، ويقدم إليها أهل الطرب والمتعة من الأماكن البعيدة في السفن والسميريات أو على الخيول. وهناك يختلطون بالرهبان والراهبات، يشربون معهم ويتغزلون بهم، وربما صرعوا الراهبات بالخمر، فيبدلن الخفر التهتك، والحياء بكشف النحور والسيقان. ومثل هذا يقول جحظة البرمكي الذي لا يريد أن يبقى في حانة واحدة يقضي فيها لذته بل يريد أن ينتقل من البردان إلى أموانا ثم إلى دير العلث. وهو لا يكفيه دن من الخمور بل دنان. . ودنان. . قال:
أيها الحاذقان بالله جداً
…
وأصلحا لي الشراع والسكانا
بلغاني - هديتما - البردانا
…
وأنزلا لي من الدنان دنانا
وإذا ما أقمت شهراً تماماً
…
فاقصدا بي إلى كروم أوانا
واحططا لي الشراع بالدير بالعلث
…
لعلي أعاشر الرهبانا
وظباء يتلون سفراً من الإنـ
…
جيل باكرن سحرة قربانا
لابسات من المسوح ثياباً
…
جعل الله تحتها أغصانا
خفرات، حتى إذا دارت الكأ
…
س كشفن والنحور والسيقانا
وقريب من هذا قول أبي نواس وقد خرج إلى دير نهرازان في بعض أعياده مع جماعة من عصابته، لكنه لم يصرع راهبة بل كان (يلهو) بظبي من ظباء الدير كان يدير عليهم الخمر - قال:
بدير نهرازان لي مجلس
…
وملعب وسط بساتينه
رحت إليه ومعي فتية
…
نزوره يوم شعانينه
بكل طلاب الهوى فاتك
…
قد آثر الدنيا على دينه
وجيء بالدن على مرفع
…
وخاتم العلج على طينه
وطاف بالكأس لنا شادن
…
يدميه مس الكف من لينه
فلم يزل يسقي ونلهو به
…
ونأخذ القصف بآيينه
وربما هاجت بهؤلاء المجان طربات، وثارت بهم نزوات، وهم ينزفون الدنان، على غناء القيان، وعزف الأوتار، ونقر الدفوف، وحث الكؤوس. . . وربما ذكروا الصلاة وهم في حالهم هذه، وقد فاتهم أوانها، فيسرعون إليها متعثرين كأنهم يقلعون أرجلهم من طين. . وفي مثل هذه الصفة يقول ابن عمار الأسدي يذكر سكرة له بدير اللج مع صحب من عصابته ومعهم سعدة والزرقاء (سلامة) وربيحة، وهن جوار مغنيات كن لابن رامين مولى عبد الملك بن بشير بن مروان وهي أبيات ظريفة منها:
ما انس سعدة والزرقاء يومهما
…
باللج، شرقيه فوق الدكاكين
تغنيانا، كنفث السحر تودعه
…
منا قلوباً غدت طوع ابن رامين
نسقي شراباً كلون النار عتقه
…
يمس الأصحاء منه كالمجانين
إذا ذكرنا صلاة بعدما فرطت
…
قمنا إليها، بلا عقل ولا دين
نمشي إليها بطاء، لا حراك بنا
…
كأن أرجلنا يقلعن من طين
أو مشي عميان دير لا دليل لهم
…
سوى العصى إلى عيد الشعانين
أهوى ربيحة إن الله فضلها
…
بحسنها، وغناء ذي أفانين
وربما سكن هؤلاء المجان مع قسيس الدير، وقد شمطت يداه وأرعشه الإدمان، فيبكي ويغني، ويشرب دمعه وخمره، تمده أريحية مخمورة، وعاطفة مسجورة، وفي مثل هذه الحال يقول جحظة في دير العذارى الذي في سامراء، وفيها أبيات وجيعة تنتفض ألماً ورقة، قال:
ألا هل إلى دير العذارى ونظرة
…
إلى من قبل الممات سبيل
وهل لي بحانات المطيرة سكرة
…
تعلل نفسي، والنسيم عليل
إلى فتية ما شتت العذل شملهم
…
شعارهم عند الصباح شمول
وقد نطق الناقوس بعد سكوته
…
وشمعل قسيس، ولاح فتيل
يريد انتصاباً للقيام برغمه،
…
ويرعشه الإدمان فهو يميل
يغني وأسباب الصواب تمده
…
وليس له فيما يقول مثيل:
(الأهل شم الخزامى ونظرة
…
إلى الخير من قبل الممات سبيل)
وثنى يغني، وهو يلمس كأسه،
…
وأدمعه من وجنتيه تسيل:
(سيعرض عن ذكري وتنسى مودتي
…
ويحدث بعدي للخليل خليل)
سقى الله عمراً لم تكن فيه عُلقةٌ
…
لهمّ، ولم ينكر عليّ عذول
وقد كان هؤلاء النصارى يتوسلون بكل ذريعة لاجتذاب المجان، وأهل اللهو وعشاق الخمور، وفي طليعة ما يتذرعون به تجويد الشراب واختيار السقاة والمغنين والمغنيات وتهيئة ما يلذ به الشارب والماجن من وسائل التلذذ والطرب، وربما كانت ابنة القس تدير الكأس على أحلاسها، أو راهبة الدير تبيع لهم الخمور، وما أطيب الكأس من كف خود رعبوب. . . قال شهاب الدين العمري في الدير الأبيض من أديرة مصر:
وكأس المدام علينا تطوف
…
بحمراء صافية كاللهب
يطوف بها من بنات القسو
…
س باخلة الكف ليست تهب
مبتلة بين رهبانها
…
لألحاظها في حشانا لهب
مسيحية طلعت في المسو
…
ح، كصبح أطل وليل ذهب
وربما جرت في مجالس الخمرة أمور مما (يحسن) الظن عندها كما يقول ابن المعتز (فظن خيراً ولا تسأل عن الخبر) وقد يبلغ الفسق منتهاه في غالب الأحيان، فلا رادع للقوم من دين، ولا وازع لهم من أخلاق، يحتسون الخمور على أصوات العود والناي، وتبلغ الفوضى بهم غايتها، فلا تجد إلا قبلاً وعناقاً، وإنسان سوء (خلف) إنسان. . . قال جحظة في دير الزندورد
سقياً ورعياً لدير الزندورد وما
…
يحوي ويجمع من راح وغزلان
دير تدور به الأقداح مترعة،
…
بكف ساق مريض الجفن وسنان
والعود يتبعه ناي يوافقه،
…
والشدو يحكمه غض من البان
والقوم فوضى ترى هذا يقبل ذا
…
وذاك إنسان سوء خلف إنسان
وحدث أن مر الشاعر الكندي المنبجي بدير مار ماعوث فاستحسنه ورأى غلاماً في رهبانه جميلاً يلثغ بالسين يجعله ثاء قال: (فشددت سميريتي إلى جانب الدير، واشتريت شراباً من الرهبان، وبت هناك منادماً لذلك الغلام. فلما أردت الرحيل أنشدته:
ومورد الوجنات من رهبانه
…
هو بينهم كالظبي بين ليوث
ذي لثغة فتانة فيسمي الطا
…
ووس حين يقول بالطاووث
حاولت منه قبلة فأجابني:
…
لا والمثيح وحرمة الناقوث
حتى إذا ما الراح سهل حثها
…
منه العسيرَ بكأسه المحثوث
نلت الرضى وبلغت قاصية المنى
…
منه برغم رقيبه الديوث
وإذا أردنا استقصاء ما كان يدور في الديارات من تهتك وتطرح ومجون لعز الطلب واحتاج ذلك إلى كتاب في أجلاد
(بغداد)
شكري محمود أحمد
مدرس العربية بدار المعلمين الابتدائية
الخلان والزمان
بين أبي فراس والبارودي
للأستاذ محمد محمد الحوفي
- 2 -
وبعد فلو أننا قدمنا ذلك الشعر باسم البارودي، لم نتجن على الحقائق، ولم نسيء إلى أحد الشاعرين: فإن هذه المعاني التي عرضناها لأبي فراس في موضوع الصداقة - هي بعينها المعاني التي قالها البارودي، والتي سنعرض شيئاً منها كذلك.
كيف اتفق البارودي مع أبي فراس في الحكم على الناس؟
وليس الجواب عن هذا السؤال عسيراً، إذا عرفنا أن البارودي كان كأبي فراس - عبقرياً في الحرب وفي السياسة وفي الشعر. حارب غير مرة فظفر، ولجئ إليه عند الأزمات السياسية فصفى الماء العكر، وتعهد الشعر العربي فأجدَّه بعد أن نخر.
والناس كما أسلفنا - في كل زمان يكيدون للنابغين كيداً، ويتربصون بهم الدوائر حقداً؛ والحق أن أبصر الناس بالناس هم العباقرة؛ لأنهم هم الذين يتلقون حقدهم، وتنكشف أمامهم خبايا نفوسهم.
فالبارودي إذ يتحدث عن الصحاب، إنما يصدر عن تجربة.
ثم كان عصر البارودي مشجعاً بمنحه وفتنه على تمييز المخلص في صداقته من المخادع؛ إذ كانت الفتن الداخلية السياسية على أشدها، وكان المقربون من الخديو غرضاً يرميه الوشاة بخزعبلاتهم، وكان بعض هؤلاء المقربين يشي ببعض، فيتهم أحدهم الآخر بممالأة الشعب، وتحريضه على الثورة، أو حثه على إحراج الخديو، وكان الإنجليز يتسقطون الأخبار ليعرفوا حركات الزعماء ونواياهم، فكثرت الدسائس والوشايات واستطاع شانئو البارودي أن يدسوا عليه، وأن يلقوا عليه مع سائر الزعماء تبعة الثورة العرابية.
ثم كان نفيه - كأسر أبي فراس - آخر محك للصداقة، وأصدق معيار لمن يدعون الوفاء، حيث تراجع عن صداقتهم المدعون، وكشفت المحن ضمائر المستورين.
وليس يفوتنا هنا كذلك من أسباب كثرة الحساد للبارودي، غلوه هو أيضاً في الفخر، وشدة
غروره بنفسه وبنسبه، وقد كان في عصره كثيرون غيره، يرون أنهم أعرق منه أصلاً، وأشرف محتداً، فلابد أن يوغر صدورهم فخره.
وكما خبر أبو فراس الناس خبرهم البارودي حتى مله الاختبار، فرأى مودتهم كذاباً، وقلوبهم ليست مثل ألسنتهم، فيئس من العثور على صديق صدوق!
ولقد بلوت الناس في أطوارهم
…
ومللت حتى ملّني الإبلاء
فإذا المودة خلة مكذوبة
…
بين البرية والوفاء رياء
كيف الوثوق بذمة من صاحب
…
وبكل قلب نقطة سوداء
لو كان في الدنيا وداد صادق
…
ما حال بين الخلتين جفاء
فانفض يديك من الزمان وأهله
…
فالسعي في طلب الصديق هباء
والناس أعداء في الغيب، ولكنهم عند الحضور صحب:
أنا في زمان غادر ومعاشر
…
يتلونون تلون الحرباء
أعداء غيب ليس يسلم صاحب
…
منهم وإخوة محضر ورخاء
أقبح منهم قوماً بلوت إخاءهم
…
فبلوت أقبح ذمة وإخاء
وأشد ما يلقى الفتى في دهره
…
فقد الكرام وصحبة اللؤماء
وهذه نصيحة يوجهها إليهم عن تجربة:
بلوت سرائر الإخوان حتى
…
رأيت عدو نفسي من حبيبي
فلا تأمن على سر صحاباً
…
فإنهم جواسيس العيوب
ويحرص البارودي على أن يعرفك أنه خبر الصحاب وجربهم، فقلما يذكرهم إلا يذكر أنه ابتلاهم:
بلوت إخاء الناس دهراً فلم أجد
…
أخا ثقة يرعى مغيبي كمحضري
ويقول:
بلوت بني الدنيا فلم أر صاحباً
…
يدوم على ود بغير تكلف
ويقول:
بلوت بني الدنيا فلم أر صادقاً=فأين لعمري الأكرمون الأصادق
ويعتبر البارودي كذلك شرفاً له أن يحسد.
ليضن بي الحساد غيظاً فإنني
…
لآنافهم رغم وفي أكبادهم وقد
أنا القائل المحمود من غير سبة
…
ومن شيمة الفضل العداوة والضد
فقد يحسد المرء ابنه وهو نفسه
…
ورب سوار ضاق عن حمله العضد
فلا زلت محسوداً على المجد والعلا
…
فليس بمحسود فتى وله ند
ونفسه تواقة إلى خل وفي يشكو له فيسمع، ويحسن إليه فينمو إحساسه ويترعرع.
فمن لي وروعات المنى طيف حالم
…
بذي خلة تزكو لديه الصنائع
أشاطره ودي وأفضي لسمعه
…
بسري وأمليه المنى وهو رابع
وما أشد حاجة الإنسان إلى خلٍّ رضي، يعاشره على سجية:
متى يجد الإنسان خلاً موافقاً
…
يخفف عنه كلفة المتحفظ
فإني رأيت الناس بين مخادع
…
لإخوانه أو حاسد متغيظ
الدهر
قلنا إن والد أبي فراس خلفه في الثالثة، فشب يتيماً يرى كلاً يفخر بأبيه وينال حنانه إلا نفسه. أين أبي؟ ولماذا قتل وحده في الحرب دون آباء هؤلاء اللدات، ولم أعجلته المنية قبل أن أملي به عيني، وألمس عطفه علي؟ يا لك من دهر!!
وقلنا إن نفس أبي فراس كانت طموحاً عالية، وإنه شمخ على أسرته وسائر الناس، فكرهوا منه ذلك، ولاسيما أنه ليس لديه من الأموال ما لدى غيره من الأمراء، فانصرف عنه الناس إلى أقرانهمن أسرته فأحس أن أخلاق الصحابة نفعية، لا تصمد عند الشدائد، وقوي هذا الإحساس حينما أسر فتفرق من حواليه مدعو صداقته، وأمعن الحساد في شماتتهم به.
ومادام الدهر خلواً من الإخلاء والأوفياء، مليئاً بكيد الحساد والشامتين، فهو دهر ثقيل، يلعنه صاحبه في كل مقال
ونقول هنا كذلك: إن أبا فراس نشأ فوجد ابن عمه سيف الدولة أمير حلب وهو فيها صاحب العز والغلب، مهيب جانبه من الروم والعباسيين وسائر دويلات العرب. . . وأبناء العروبة في مرتبة واحدة يرى كل منهم نفسه نداً للآخرين، له محامدهم، وفيه أمجادهم.
ونظر أبو فراس إلى ابن عمه، فرأى نفسه وإياه في مرتبة واحدة، وقارن بين حاله وحال سيف الدولة فلمس فروقاً شاسعة: أمير مملك يحتفي به ويخشى منه، وأمير يتيم فقير، لا
سلطان له على الناس حتى يرهبوه ولعل أبا فراس فكر في فضائل سيف الدولة، وأسباب سيادته على قبيلته، فوجد الفضائل عنده هو أتم، وأن سيف الدولة فيه من المعايب ما ليس في نفسه.
ولعله كذلك ذكر أن أباه - وقد كان عم سيف الدولة - كان هو الأحق بالإمارة من ابن أخيه، فتقاليد الحكم أن يلي الملك أكبر رجال الأسرة وأقربها إلى أصولها.
ومادام والد أبي فراس كان أحق من سيف الدولة، ومادام أبو فراس يرى في نفسه المثل العليا للشجاعة والكرامة والمجد - فلابد أن يكون قد حدث نفسه بأن تئول إليه المملكة، بعد وفاة سيف الدولة.
أقرر هذا معتمداً على شعر أبي فراس نفسه، ومستعيناً بسياق الحوادث التاريخية وإن لم تُصرحْ.
وما كان لإنسان عادي، لا يتقرب الملك أن يقول:
عليَّ طلاب العز من مستقره
…
ولا ذنب لي إن حاربتني المطالب
أيكون للعز مستقر - عند الأمراء - غير الملك، وإذا لم يكن الملك فلمَ يقول:(ولا ذنب لي إن حاربتني المطالب)، إنه يريد بمحاربة المطالب، مقاومة الظروف وعجزه عن التربع على الإمارة في حلب، ووقوف الحساد في سبيل غايته.
وما كان لغير طامع في الإمارة أن يقول:
يصان مهري لأمر لا أبوح به
…
والدرع والرمح والصمصامة الخدم
إني أبيت قليل النوم أرقني
…
قلب تكاثف فيه الهم والهمم
وأن يقول:
ولو نيلت الدنيا بفضل منحتها
…
فضائل تحويها وتبقى فضائل
ولكن دهراً دافعتني صروفه
…
كما دافع الدين الغريم المماطل
وأن يقول:
تطالبني بيض الصوارم والقنا
…
بما وعدت جدّي فيّ المخايل
على أن ما وقع من أبي فراس عقب موت سيف الدولة يؤيد ما ذهبنا إليه من أن أبا فراس كان يحدث نفسه بالإمارة: فقد خرج الشاعر بحمص على أبي المعالي بن سيف الدولة،
وحاول أن يحل محله؛ ولكن أبا المعالي وقر عويه هزماه، ويقال إنه قتل في هذه المعركة وبعد:
فليس بدعاً من أبي فراس أن يردد الشكوى من الدهر، ويحقد عليه في كل قول، بعد أن حاربه في أبيه، وفي أصدقائه، وفي أمانيه
وليس الذي لفتنا في شعر أبي فراس مجرد الحديث عن الدهر، ولكنه تكرار هذا الحديث حتى ليصح أن نسمي شعره بالشعر الدهري ثم اتفاق كل هذه الأحاديث الدهرية على لعنة الدهر، والثورة على صروفه وظروفه.
فترى أبا فراس يصور الدهر المدافع لطموحه مماطلاً يدافع غريمه:
تطالبني بيض الصوارم والقنا
…
بما وعدت جدّي فيّ المخايل
ولكن دهراً دافعتني صروفه
…
كما دافع الدين الغريم المماطل
ويقول لسيف الدولة أول أسره:
وما أنا إلا بين أمر وضده
…
يجدد لي في كل يوم مجدد
فمن حسن صبر بالسلامة واعد
…
ومن ريب دهر بالردى متوعد
ويذكر أن أصحابه يوم أسره، كانوا قد أشاروا عليه بأن يحجم فرفض وأن الدهر هو المسئول عن إخفاقه في هذا اليوم:
يقولون جاهد عادة ما عرفتها
…
شديد على الإنسان ما لم يعود
فقلت: أما والله ما قال قائل
…
شهدت له في الخيل ألأم مشهد
ولكن سألقاها فإما منية
…
هي الطعن أو بنيان عزّ مشيد
ولم أن الدهر من عدد العدا
…
وأن المنايا السود يرمين عن يد
ثم يحاول أن يثبت أمام طعنات الزمان، وأن تصدق فراسته فيه، فيقول:
وقور وأهوال الزمان تنوشني
…
وللموت حولي جيئة وذهاب
وألحظ أهوال الزمان بمقلة
…
بها الصدق صدق والكذاب كذاب
ويقول:
ومن ورد المهالك لم ترعه
…
رزايا الدهر في أهل ومال
وقد حالفته صروف الدهر حتى توهمت نفسه أنه لا يعتد لها، لأنه ألِفها:
لا أقتني لصروف دهري عدة
…
حتى كأن صروفه أحلافي
ويقول في هذا المعنى أيضاً:
وخبرت هذا الدهر خبرة ناقد
…
حتى أنست بخيره وبشره
ثم يشرك معه بني حمدان في عدم المبالاة بالدهر:
نظرنا إلى هذا الزمان بعينه
…
فهان علينا ما يشت وينظم
ولكنه بعد هذا التجلد للدهر والاستهانة به يكرر التظلم منه. فالشيب عنده أهون رزايا الدهر:
وقلت الشيب أيسر ما ألاقي
…
من الدنيا وأيسر ما أداري
وهو في استعطاف سيف الدولة يعده جنة من ريب الدهر:
فقولا له يا صادق الود إنني
…
جعلتك ما رابني الدهر مفزعا
ويعجب أن ينكر عليه سيف الدولة شكوى الزمان:
أتنكر أني شكوت الزمان
…
وأني عتبتك فيمن عتب
ويستعطف سيف الدولة بأن حوادث الأيام جرحت قلبه:
زماني كله غضب وعتب
…
وأنت عليّ والأيام إلب
فلا تحمل على قلب جريح
…
به لحوادث الأيام ندب
ثم يشكو تعاون سيف الدولة مع الدهر على اضطهاده:
فيا حكمي المأمول جرت مع الهوى
…
ويا ثقتي المأمول جرت مع الدهر
ثم يستضعف أبو فراس نفسه - على غير عادته - ما لم يعاونه أصدقاؤه على صد هجمات الدهر، ولذا يتغاضى عن ذنوبهم، لكيلا يذروه وحده أمام الدهر:
واعلم إن فارقت خلاً عرفته
…
وحاولت خلاً أنني غير واجد
وهل نافعي إن عضني الدهر مفرداً
…
إذا كان لي منهم قلوب الأباعد
(البقية في العدد القادم)
محمد محمد الحوفي
أدب العروبة في الميزان
للأستاذ علي متولي صلاح
- 3 -
ليست علاقة الأستاذ إبراهيم دسوقي أباظة باشا بالأدب قريبة ولا واهية وإنما هي علاقة قديمة وثيقة انحدرت إليه من آبائه وأجداده الذين كانوا يحتفون بالأدب ويحتشدون لأهله ويبذلون لهم المكرمات والمروءات بذل السماح. ولعل من أطرف ما يروى في هذا الصدد خبر الغرفة التي أقامها الأستاذ إبراهيم دسوقي أباظة باشا في بيته بقرية (غزالة) لحافظ إبراهيم يلم بها بين الحين والحين فيجد العيش اللين، والرزق الوفير، والحياة الرتيبة، والتي أطلق عليها اسم (غرفة حافظ) وجعلها حراماً على سواه، وما زالت مغلقة إلى الآن لا يغشاها إنسان؟
ولعل بعض القراء ما زال يذكر المقالات الطويلة والفصول الضافية التي كان يدبجها معال الأستاذ في جريدة (السياسة الأسبوعية) في صدر حياتها وفي (السياسة اليومية) في أول نشأتها بقلم يشهد له البلاغة والبيان، وأنا أعلم أن شوقي كان يسعى إليه جاهداً بكل رواية من رواياته الأخيرة ويأبى إلا أن يهدي إليه أول نسخة تخرجها المطبعة! ولعل الكثير من القراء لا يعرف أنه شاعر تلين له القوافي لأنه لم يجتمع له ديوان منشور، ولأن أغلب شعره إما أن يكون معارضة لطيفة، أو نكتة طريفة أو جواباً عن سؤال، أو تزجية بشرى، أو إرسال تهنئة، وما إلى ذلك من مختصر القول ومقتضب الكلام، وأنا أسوق إلى القراء نموذجاً واحداً منه يدلهم على مبلغ أصالته في الشعر وعراقته فيه قاله في تهنئة صديقنا الشاعر طاهر أبو فاشا على زواجه منذ أعوام قريبة في قصيدة طويلة منها:
بنيت بالأمس سراً
…
شحاً وبخلاً وغدراً
هلا دعوت ضيوفاً
…
لا يسألونك كثراً
غر ميامين جاءوا
…
دمياط براً وبحراً
إن شئت قدمت فولاً
…
جرى بدمياط ذكراً
(التابعيّ) طهاه
…
فكان في الصحن تبراً!
إلى أن قال في خاتمها:
دفعت بالله مهراً
…
أم كان شعرك مهراً
أعطاك ربك ألفاً
…
من البنين وعشراً
وصاغ منك ومنها
…
صنوين: شمساً وبدراً
فكان أمراً طبيعياً أن ينعقد له لواء رياسة جماعة أدبية كل وكْدها خدمة الأدب والأدباء (وبعث مجد الضاد وآدابها) كما يقول، (وإحياء التراث الإسلامي والمفاخر العربية) كما يقول سكرتير الجماعة.
والمتأمل في منهاج هذه الجماعة وهو منهاج حافل حاشد كما صوره رئيسها وبعض رجالها يجدد أن الجامعة لم تحقق أو لم تكد تحقق منه شيئاً! فمن منهاجها (أن تحيي التراث الإسلامي) وهي لم تصنع في ذلك شيئاً.
ومن منهاجها (تزويد المكتبة العربية بزاد متصل من الآراء الحرة الكريمة) وهي لم تزود المكتبة العربية بعد إلا بكتابها هذا الذي نحن بصدد الحديث عنه.
ومن منهاجها (النهوض بالفكر الإسلامي والبيان العربي) وهي لم تنهض بشيء من ذلك إلا طيفاً لا يكاد يرى!
ومن منهاجها (تقوية الصلات الفكرية والروحية والثقافية بين مصر والبلاد العربية) وهي لم تصنع في هذا الصدد شيئاً أصلاً. .
ومن منهاجها (أن تشعل في الشعب روح النضال والانتصار وأن توحد له الأهداف والأغراض وأن تفسح له آفاق الحياة وأحلام المجد) ونحن نعرف أن ذلك لا يكون إلا بالأناشيد التي تبعث في الشعب الحياة والطموح والعزة، وبالروايات التي تعيد إليه سابق مجده، وماضي تاريخه، وتستنفره للجهاد في سبيل استرجاعه وإعادته، وبقصص البطولة والتضحية - والتاريخ المصري مليء بحوادثهما - تذكي فيه العزائم الواهية، وتحيي منه موات الهمم. وما نرى جامعة أدباء العروبة فعلت من ذلك شيئاً
ولكن عذيرها في ذلك أنها لم يكد ينقضي على إنشائها إلا عام وهو - عندنا - عذر يشفع لها بذلك، ولكننا ننبهها إلى ما أخذت به نفسها، وما عاهدت الله والناس عليه وإنا لمنتظرون
على أننا نريد أن تضيف إلى منهاجها هذا أموراً هي عسية أن تحلها الصدر من منهاجها
إن هي كانت جادّة في السعي لرفع شأن الأدب والأدباء، فعليها أن تعين رقيقي الحال من الأدباء وتمدهم بما يمكنهم من طبع نتاجهم ونشره بين الناس، وعليها أن تحيي الكنوز الدارسة من كتب الأدب العربي القديم وتعنى بتصحيحها وتنقيحها وإخراجها في ثوب قشيب فذلك أجدى عليها وعلى الأدب من ألف مهرجان ومهرجان. وعليها أن تعمد إلى أمهات الكتب الأجنبية - وبخاصة القصص الرفيعة - فتترجمها إلى اللغة العربية فتزيدها ثروة وذخيرة. وعليها أن تسعى جاهدة لدى الحكومة لتقرِّر ما ينتجه كرام الأدباء في مكتباتها وفي مدارسها فينتفع الأدباء وينفعون، أما أن يكون كل عملها الطواف هنا وهناك وإلقاء كلمات مبتسرة ينشئها بعض أصحابها وهم في القطار ثم تجمع ذلك في كتاب تذيعه على الناس دليلاً على وجودها وسجلاً لمجهودها فذلك عمل ضحْل قليل الغناء. . . وكتاب (أدب العروبة) الذي نحن بصدد الحديث عنه كله - إلا القليل - من عمل أعضاء جامعة (أدباء العروبة) والمتأمل فيهم لا يجد بينهم واحداً من شيوخ الأدب وسندته القدامى، وكلهم لم يجاوز بعد مرحلة الشباب إلا الصديق الدكتور إبراهيم ناجي والصديق الأستاذ محمد مصطفى حمام فقد أوشكا أن يجاوزاها!
ويتألف الكتاب من الكلمات والقصائد التي ألقيت في سبعة مهرجانات أقامتها الجماعة في القاهرة وبعض المدن لمناسبات متفرقة أو للتنويه بشأنها والتذكير بوجودها، ويفتتح الأستاذ الرئيس كل مهرجان بكلمة منه مختصرة تشرح أغراض الجامعة وتنبه إلى رسالتها وأهدافها، وتمهد القول لمن يلونه من الخطباء والشعراء. . . ويجد القارئ في الكتاب للأستاذ الدكتور محمد وصفي نائب الرئيس سبع كلمات لكل مهرجان كلمة، وفي كلام الرجل لازمة خاصة يتميز بها، فهو يجنح جنوحاً قوياً شديداً تدفعه إليه طبيعته الخاصة حتى لا يملك عنه منصرفاً إلى الاستشهاد الدائم بالقرآن الكريم وبالحديث الشريف، وهذا حسن في ذاته ولكنه هو كل ما يصنع! فهو يعمد إلى الآيات الكريمة التي تتصل بسبب قوي أو ضعيف إلى المناسبة القائمة، ويجدّ في البحث والتنقيب عنها، ثم يشرح معانيها التي احتوت عليها جميعاً ويسوقها معنىً معنىً حتى إذا استوفاها جميعاً ذكر نص الآية حتى ليخيل للقارئ أنه أتى بالآية استشهاداً لما قدمً من المعاني ومطابقة له والحقيقة أنه اهتدى إلى الآيات أولاً وأعدها للقول وأخذ في تفسيرها مقدماً حتى إذا أنمَّه جاء بالنص!
ولو أننا أخرجنا من كلامه الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة ما بقي بعد ذلك شئ؟ فليس له وراء ذلك إنشاء أو ابتداع أو كتابة فهو إلى المفسرين أقرب من إلى الأدباء. .
وعجيب أن يقول الأستاذ طه عبد الباق سرور سكرتير الجماعة في الكتاب ثماني كلمات ليست بالقصيرة ثم إنك لا تكاد تجد بينها فرقاً يحس أو اختلافاً يشعر به، فالكلمات متشابهة متماثلة حتى لو أنك وضعت أي واحدة منها تحت أي عنوان منها ما أحسست نبواً ولا قلقاً ولا انحرافاً! وكلامه - في عمومه - كلام عام لا خاصة له وأكاد أقول لا معنى له، فهو يسوق الكلام يجر بعضه بعضاً دون حساب ولا تمهل ولا أناة فيقول فيما أسماه (فلسفة الربيع)(والربيع عصر المودة والسلام والإخاء إذا انطبعت روح الإنسان بتلك المعاني. وعهد حروب ودمار وخصومة وبغضاء إذا ثار في الإنسان جانب من جوانب الالتواء) فأي كلام هذا؟ وأي شئ فيه يجده القارئ؟ وما علاقته بفلسفة الربيع هذه؟؟ وهو يقول كذلك إن الإنسان (إن شاء أحال الوجود نعيماً وهناء وسلاماً وإن أراد كان الوجود جحيماً ورعداً وحرباً) وذلك كلام معاد قريب أين هو من الربيع وفلسفته؟ وهو يقول مخاطباً القمر معدداً محاسنه (قد تمنى اسمك بنات حواء) وذلك إلى كلام العامة أقرب، ويقول عنه إنه (يمين أقسم به الديّان) ونسي أن الديان أقسم أيضاً بالتين والزيتون؟ ولكنه السجع الذي يريد التزامه فتنبهر أنفاسه وتخرج سجعاته قلقة نابية غير مستقرة.
وكلمات الأستاذ ملأى بالأخطاء اللغوية التي كنا نود لو تنزّه عنها سكرتير جماعة أدبية نريد لها النهوض والسير الحثيث والتقدم المطرد، فهو يقول مقدماً الكتاب (هذا بعض تراثنا في عام) والتراث ليس نتاج الأحياء إنما هو ما خلف الأموات. ويقول عن الإنسان أن فيه معجزة كبرى (أودعها الله في روحه) والصواب أن يقول (أودعها الله روحه). ويقول عن مهرجان القمر إنه (مهرجان النور والضياء) والله يقول (وجعلنا الشمس ضياء والقمر نوراً). ويقول مخاطباً الغنسان (فانعمْ ولا تشقى) والصواب أن يقول (فانعم ولا تشق) بحذف الياء وليس هذا تطبيعاً لأن السجعة التي يليها (وسبّح بحمد ربك الأعلى) فيوقعه السجع في هذا الخطأ غير المقبول. ويقول في وحي الهجرة (غننا في مطلع عهد جديد وسعيد يهاجر فيه العالم الإسلامي للمرة الثانية إلى حياة الحرية والعزة والقوة ومن نذره وبوادره هذا المهرجان) والنذر - وهي لغة الإنذار والإبلاغ - لا تكون إلا في التخويف
ومنه قوله تعالى (فكي كان عذابي ونذر؟) ويقول (ولقد كانت القبائل العربية قديماً تتناظر وتتبارز بالبيان واللسان) والمبارزة لا تكون إلا في الحرب. ويقول متمماً هذا الكلام (فإذا غلب شاعر قبيلة شاعر القبيلة الثانية) والأولى أن يقول (فإذا غلب شاعر قبيلة شاعر قبيلة أخرى) حيث لا ثالثة لهما. ويقول في عيد الفاروق (في مثل هذا الشهر من العام الماضي احتفل أدباء العروبة بعيد الربيع) والصواب أن يقول في مثل هذا الشهر من السنة الماضية، فالفرق بين العام والسنة لا يخفى على أديب.
كثيراً جداً أن تحتوي كلمات سكرتير جماعة أدبية على أمثال هذا الخطأ، وأنا أرجو جاهداً من معالي الأستاذ الرئيس أن يراجع هذه الكلمات قبل نشرها وإذاعتها على الناس - وهو الأديب العالم المدقّق الذي لا يجوز عليه هذا الخطأ - حفائاً على قدر هذه الجماعة وسمعتها بين الناس؛ وصيانةً لعرضها أن يثلمه إنسان فشعر الفتى عرضه الثاني كما يقول إسماعيل صبري
(المنصورة)
علي متولي صلاح
نشوة الخيام
للأستاذ حسن البحيري
أدنِ مني ثغرك العذب وقبلني ودعني
أشرب النشوة من كأسي: رجاء. . . وتمن
فعسى بعد جراحات صباباتي وحزني
أن يعيد الوصل أفراح ربيعي فأغني
ضمني وارو غليلي يا حبيبي من لماكا
اسني لم يبق لي في كرَب العيش سواكا
شفني وجدي. . . ودائي. . . ودوائي في هواكا
آه من نار بجنبيّ ورتها مقلتاها
هات من جام الصبا بين عمار ورفيف
خمرة تذهل روحينا عن العيش الزفيف
قبلما تعصف بالعمر أعاصير الخريف
فنروي زمن الأحلام بالدمع الذريف
عمرنا طيف تهادى من زوال لزوال
وليالينا ظلال تتراءى في ظلال
وأمانينا خيال حاكه وهم خيال
ومجالي عيشنا في الدهر حال بعد حال
فارتشف راح الهوى من كأس حبي واسعد
لا تقل: لذة يومي اجتليها في غدي
كم هفت في العمر لذات وضاعت من يدي
هي بانت وأساها ظل في قلبي الصدي
يا حبيبي أنا ضيعت ليالي الخوالي
في دجى شكي وأطياف ظنوني وخيالي
حلم في سانح الأوهام بالصفو بدا لي
ذبلت زهرة أيامي وحالي فيه حالي
لمحات من سني ثغر أماني الكذاب
ضيعت عمري في الوهم وأودت بشبابي
فأنا في بحرها اللجي موصول العذاب
لم أنل إلا الصدى منها وبراق السراب
ما كفاني أنها ضاعت ليالي سدى
بين أسداف وأوهام ضلال وهدى
ما الذي نلت - على الأيام - من دهر عدا؟
غير برق في أضاليل أماني بدا؟
فأدر كأس شمول الصفو فالصفو يدال
والليالي لم يدم فيها لذي وصل وصال
كم أتاها قبلنا أنضاء أوهام وزالوا
لا همو داموا. . . ولا بعض رجاء العمر نالوا!
صب من خمر ثناياك سلافاً وحبابا
وأذب لذة روحينا بكأسينا شرابا
واسقني واشرب على شدو المنى تبراً مذابا
حسبنا ما ضاع من ماضي ليالينا تبابا
كم حبيبين أضاءا الروض في حضن التصابي
بشباب حرك الطير إلى نجوى الشباب
فانتشى الزهر. . . وهام النهر رقاص العباب
وهفا الغصن على مضجع أحلام عذاب
ثم غابا كنجوم الصبح من أفق الوجود
ما درينا أين قرا من دنى النأي البعيد
ذهبا في غمرة الأيام كاللحن الشرود
أو كما تذهب في الإعصار أنفاس الورود
شعلة النبراس في حلكة آلام الحياة
تلتظي بين أعاصير الشجون العاصفات
يتلألأ نورها لمحاً بدنيا النائبات
ثم تلقيه يد العُدم بوادي الذكريات!
يا حزيناً عاش من دنياه في بحر الدموع
تائهاً بين أواذي هلوع وولوع
حائراً في غلس اليأس بخفاق وجيع
ضل عن شاطئه في زورق الوجد المروع
كفكف الدمع على ما فات من بيض الأماني
وادفن الأنة في النشوة واصدح بالأغاني
واغتنم ما غفلت عن صفوه عين الزمان
لا تصوح في بوادي الوجد أزهار التداني
حسبنا أن صبانا والهوى ملك يدينا
ما علينا لو نهبنا العمر سكراً؟ ما علينا؟
هاتها حتى يوافينا الردى في سكرتينا
قبلما تذوي أزاهير الصبا من جنتينا
من رأى ماذا وراء الغد في لوح الغيوب؟
أو درى ما خطت الأقدار في سفر الخطوب؟
كلنا نخبط في تيه من الشك المريب
خبط غشواء ضلول. . . في دجى قفر جديب!
لا يرد الشجو من أعمارنا ما ذهبا
لا! ولا يمحو الأسى من غيبنا ما كتبا
فانس ما ولى. . . ودع للغيب ما قد حجبا
وأحسها صرفاً. . . وأمغرق في طلاها النصبا!
(حيفا)
حسن البحيري
تعقيبات
فارس الخوري الشاعر:
استفاض الحديث في مصر وفي الشرق العربي، بل في العالم أجمع عن فارس الخوري ممثل سورية في مجلس الأمن ورئيس المجلس في دورته الحالية، واستفاض الثناء عاطراً في جميع الدوائر على ما أبدى في هذه الرياسة من أصالة وكياسة، وشهدت البرقيات التي أذيعت في العالم بأنه (خير من رأس المجلس إلى الآن، وأنه يدير دفة الاجتماعات بدقة فائقة تتلخص في التقليل من الكلام والإكثار من العمل وحسم الأمور حتى استطاع أن يعمل في ثلاثة أسابيع ما لم يستطعه أحد من رؤساء المجلس السابقين. .).
وفارس الخوري - بارك الله في حياته - في الثامنة والستين من عمره الآن، وهو من الرعيل الأول من رجال الوطنية في سورية. وكان محامياً في دمشق، وكان أستاذاً في كلية الحقوق، وكان وزيراً مراراً، ورئيس وزارة =، ورئيس المجلس النيابي، ولكن قلَّ من أبناء هذا الجيل من يدري أن هذا السياسي المحنك كان في مطلع حياته من الشعراء النابغين والكتاب المبرزين، وأنه في مطلع هذا القرن، أي منذ أربعين عاماً، كان يملأ صحف مصر وسورية بمنظوماته وكتاباته، وإني لأذكر له من ذلك تخميساً لنونية ابن زيدون المشهورة نظمه في سنة 1906 وفيه يقول:
الطيف في النوم يرضينا إذا عبرا
…
إن عزت العين صرنا نطلب الأثرا
لا تعجبوا إن صبرنا نحمل القدرا
…
إنا قرأنا الأسى يوم النوى سورا
مكتوبة وأخذنا الصبر تلقينا
نرضي الهوان بديل العز أكمله
…
والجسم ينحل سقماً من تحمله
ونرتضي وشلاً عن فيض جدوله
…
أما هواك فلم نعدل بمنهله
شرباً وإن كان يروينا فيظمينا
أعرضت عنا وأعرضنا على وصب
…
نكتم الناس ما في القلب من لهب
فما اتخذنا تجافينا بلا سبب
…
ولا اختياراً تجنبناك عن كثب
لكن عدتنا على كره عوادينا
ضاقت على رحبها الدنيا فلا سعة
…
تحوي فؤاداً وأحشاءاً مقطعة
نأسى إذا الشمس جازتنا مودعة
…
نأسى عليك إذا حثت مشعشعة
فينا الشمول وغنانا فغنينا
لا شئ يسكن شيئاً من بلابلنا
…
ولا نرجى عزاء من وسائلنا
ظمائن الأنس شالت عن منازلنا
…
لا أكؤس الراح تبدي من شمائلنا
سيما ارتياح ولا الأوتار تسلينا
وفي سنة 1905 قامت الحرب بين روسيا واليابان، وحدث فيها ما حدث من الوقائع والفظائع، ومنيت فيها روسيا بهزيمة منكرة لم تكن في الحسبان، فاتخذ فارس الخوري من مشاهد تلك الحرب الضروس موضوعاً لملحمة شعرية تتألف من أربع قصائد ألم فيها بالأسباب التي دعت إلى إشهار تلك الحرب وذكر المعارك والمواقع البحرية والبرية التي جرت بين الصفر والبيض، وفتح للانفعالات النفسانية والتخيلات الشعرية مجالاً رحباً في الوصف حتى جاءت تلك الملحمة مزيجاً من التقرير التاريخي والخيال الشعري، ولما كان ولي عهد روسيا يومذاك قد ولد أثناء تلك الحرب فقد ختم ملحمته متوجهاً إليه بهذه الأبيات:
ها أنت تنمو في رعاية والد
…
حان يذود السوء عنك ويطرد
والبعض من أبناء جيلك لا أب
…
يحنو عليهم إن بكوا وتنهدوا
آباؤهم سقطوا بساحات الوغى
…
ليوسعوا لك دولة ويمهدوا
فإذا نموا وملكت فارفق ذاكراً
…
حق الذين على ولاك استشهدوا
وعساك تنشأ عادلاً لا تدعي
…
أن الجميع لأجل عرشك أوجدوا
فالملك جسم والعدالة درعه
…
درع بمحبوك الحديد مسرد
والملك بستان أعز سياجه
…
عدل به ريح المخاوف تركد
يتوقع الإصلاح منك وليتنا
…
نحيا لنعرف ما يجيء به الغد
ولقد تمت الأمنية للشاعر، فعاش - بارك الله في حياته - حتى رأى ما جاء به الغد، وعلم ما كان من مصير وولي العهد، فغيرت الدنيا وتبدلت الأوضاع، فقامت دولة مكان دولة وظهرت شريعة على أنقاض شريعة، ولكن غريزة الوحش في الإنسان لم تتغير، فما زال يستعمل نابه وظفره في قتل أخيه الإنسان، وماذا كانت تلك الحرب (الروسية اليابانية) أيها الشاعر إلى جانب ما شاهدت ورأيت بعد ذلك من أهوال حربين عالميتين لا تزال آثارهما
ماثلة للعيان، أنت اليوم أيها الشاعر رئيس لمجلس الأمن، فقل لأندادك في ذلك المجلس من ممثلي الدول: أحقاً أنتم أيها الإخوان حراس الأمن، أم مبررون للظلم وأن الحقيقة المرة هي كما يقول شوقي:
وعصر بنوه في السلاح وحرصه
…
على السلم يجري ذكرها ويدير
ومن عجب في ظلها وهو وارف
…
يصادف شعباً آمناً فيغير
ويأخذ من قوت الفقير وكسبه
…
ويودي جيشاً كالحصى ويمير
شيوخ وشبان. . .
قال لي الأستاذ العقاد: (إنني لا أفهم معنى لهذا الكلام الذي يقال عن الأدباء الشيوخ والأدباء الشبان، وإني لأعجب لفئة من الشبان يتهمون الأدباء الشيوخ بأنهم يظلمونهم ويسدون أمامهم باب الشهرة والظهور، ويصورون المسألة على أنها حزازة بين الفريقين، وعداوة بين الطائفتين، إلى آخر ذلك الكلام الذي يثار ويقال، والواقع أنه ليس هناك أدب شيوخ وأدب شبان، وإنما هناك أدب قوة وأدب ضعف، فالقوة هي عامل الظهور والشهرة، وضمان البقاء والخلود، ولن يتأتى هذا إلا بالدراسة والاطلاع وبذل الجهد في ذلك إلى آخر ما تحتمله الطاقة، لكن إخواننا الشبان يحسبون أن من الكفاية في إدراك هذا قراءة كتاب أو كتابة مقالة في صحيفة، هذا هراء في التفكير، وهراء في التقدير. .).
(لقد كنا شباناً، فما وجدنا من أخذ بأيدينا، أو أفسح لنا الطريق، ولكننا صعدنا وشققنا طريقنا بدافع القوة والجهد، ولا زلنا إلى اليوم على هذا، فأدباء الشيوخ أشد شغفاً بالقراءة والدراسة وبذل الجهد، وهم يسيطرون على الحياة الأدبية لأنهم يواجهون الحياة الأدبية بما تستحق من حشد القوة وطول الصبر وخير للأدباء الشبان أن يدركوا هذا، وأن ينصرفوا إلى تقويم شخصياتهم، وأن يدخروا لأنفسهم قوة من المحصول الثقافي يمكنهم أن ينالوا بها الشهرة التي يريدون. .).
وإني - وأنا من فريق الشبان - لأوافق الأستاذ الكبير على ما قال، فالقوة هي ضمان الشهرة والبقاء، فإذا ملكها الشبان فلن يكون الشيوخ عائقاً أمامهم، ولكن يظهر أن إخواننا الشبان لا يدركون المسألة على حقيقتها، ولا يحبون أن يدركوها على حقيقتها، ويحسبون أن في استطاعتهم الصعود إلى القمة بخطوة قدم، ويحسبون أن هؤلاء الشيوخ قد بلغوا ما
بلغوا من المجد والشهرة بمثل هذه الخطوة!!
كلا أيها الإخوان. . .
لقد حدثني الأستاذ المازني قال: لقد قرأت كتاب الأغاني في مطلع حياتي، وقد عمدت إلى فك أجزائه إلى ملازم ليسهل عليّ حملها أينما سرت، وقد عنيت أثناء القراءة بتصحيحه وإكمال القصائد التي فيه، ونسبة الأبيات المجهولة إلى قائليها والاستدراك على تراجم الشعراء، وكنت أكتب هذا كله في ورق أبيض وألحقه بالمطبوع، ثم جلدت الكتاب فكان في ضعف حجمه، وكانت هذه النسخة عزيزة على نفسي، ولكني فقدتها في محنة من محن الدهر، فأورثتني حسرة لا تزال عالقة بقلبي إلى اليوم.
حدثني الأستاذ المازني بهذا الذي صنعه في مطلع شبابه، وكنت منذ أيام أتحدث إلى أحد الشبان الأدباء عن كتاب الأغاني هذا فشمخ عليّ قائلاً إن من العبث ضياع الوقت في كتاب الأغاني وغيره من تلك الكتب القديمة البالية التي أصبحت لا تجدي. . .
مرة أخرى أقول لكم: كلا أيها الإخوان، إن الأمر أشق مما تقدرون، فاصرفوا هذا التمرد إلى ما يجدي من الجهد النافع.
سؤال:
في العدد السابق من الرسالة قرأت في مطلع المقال الخامس من تلك السلسلة التي يدبج حلقاتها الأستاذ علي الطنطاوي بعنوان (على ثلوج حزرين) ما يلي:
(أقامت ليلى في دار أسعد شهرين محمولة على الأكف، مفداة بالأرواح، قد هيئت لها كل أسباب الرفاهية، وأحيطت بكل مظاهر الترف، وسيق لإسعادها كل ما وصلت إليه الحضارة وأبدعه العقل، فلا ترى إلا جميلاً، ولا تشم إلا طيباً، ولا تسمع إلا ساراً ولا تأكل إلا لذيذاً، ولكنها لم تكن سعيدة، ولم تر حسن ما هي فيه، لأنها افتقدت النور الذي ترى به جمال الدنيا حين افتقدت الحبيب).
وأنا أحب أن أسأل الصديق الفاضل: مادامت ليلى في هذه الحالة النفسية (لم تر حسن ما هي فيه) إذن كيف كانت (لا ترى إلا جميلاً، ولا تشم إلا طيباً، ولا تسمع إلا ساراً، ولا تأكل إلا لذيذاً؟).
هذا السؤال الذي بدا لي، وإني لفي انتظار الرد من الصديق الكريم.
(الجاحظ)
الأدب والفن في أسبوع
أدب الأعداء:
لقد بلغت قضيتنا الوطنية مرحلة دقيقة خطيرة، وأنا أكتب هذا يوم
الثلاثاء الذي حدد لاستئناف النظر والمناقشة فيها، وقد ظهر من
اتجاهات مندوبي بعض الدول في الجلسات الماضية أن الأمر لا يجري
على مقتضى الحق والعدل، وأن مدَّ الدعاية وأمواج الحجج تتناثر عند
صخور مجلس الأمن التي تمثل الأغراض الاستعمارية وما يتصل بها
من المصالح المشتبكة.
وقد أدركنا أن أكبر جهادنا هو العمل داخل بلادنا، فدعا بعض الزعماء وقادة الرأي إلى عدم التعاون مع أعدائنا ومن يعاونهم، وتوثيق العلاقات مع الذين يناصروننا، وقد شعر الجميع بالارتياح لما فعلته الحكومة إذ منحت بولندا مهلة ستة أشهر بعد الميعاد المحدد لدفع ثمن الأقطان المبيعة لها من مصر. وجاء في بيان لحافظ رمضان باشا بالأهرام إلى أبناء وادي النيل بـ (أريد أيها المواطنون الأعزاء أن نجابه الحقيقة وننظر إلى مصلحتنا دون أي اعتبار آخر وألا نمد أيدينا ولا نتعاون إلا مع الدول التي تناصرنا في قضيتنا أمام مجلس الأمن) وجاء في حديث له بأخبار اليوم:(ونحطم (قوقعة) الخوف التي وضعتنا فيها سياسة بريطانيا فننشئ علاقات وثيقة ثقافية وسياسية بكل الدول التي أعانتنا في مجلس الأمن، فنوفد إليها كتابنا، ونشجع شبابنا الذين يطلبون العلم فيها)
ومن التصرفات الموفقة في هذا الصدد ما صنعه الأستاذ علي الغاياتي إذ رد الوسام البلجيكي الذي كان يحمله إلى وزير بلجيكا المفوض في مصر، على أثر موقف التحيز الذي وقفه الممثل البلجيكي مع أمثاله في مجلس الأمن ضد القضية المصرية.
أريد أن أخلص من هذا كله إلى أمر يدخل في هذا الباب الأدبي، أريد في هذا الظرف الحرج أن نقطع علاقاتنا الأدبية والثقافية بالإنجليز ومن يساعدهم ضدنا في مجلس الأمن وفي غيره وننشئ هذه العلاقات أو ننميها مع الدول التي تناصرنا.
حذار أن نقول ما شأن الثقافة والأدب بالخصومات السياسية والمنازعات الوطنية، فنحن
الآن في انفعال شديد وثورة عنيفة لحريتنا وكرامتنا ولا نستطيع أن نسمع هذا الكلام، وقد ورد في الأنباء الأخيرة أن صحفاً في لندن وباريس توجه حملة من السباب والشتائم إلى المستشرقين البريطانيين والفرنسيين لمقالات نشرتها لبعضهم بعض الصحف العلمية والأدبية يشيرون فيها بوجوب اتباع سياسة أميل إلى التسامح مع الأمم العربية، ونحن في موقف المدافع عن حريته وكرامته، فأحرى بنا أن نضحي حتى بالفائدة الفكرية التي تتوقع من استمرار اهتمامنا بآداب أعدائنا
أحدد ما أرمي إليه بالا تنشر الصحف والمجلات في هذه الآونة، آونة جهادنا الحاضر، مترجمات ولا دراسات ولا أي شئ آخر من آداب تلك الأمم. وأنا لا أنكر فائدتها وروعة كثير منها. ولكن يجب أن ننظر إلى الحقائق الآتية:
1 -
الأدب الحر لا يتفق مع إهدار الحرية والكرامة ولا يجوز أن نرضع أدبنا من أثداء الذين يتعاونون على محاولة قتل حريتنا وكرامتنا، ويجب أن نشعرهم بتقلص قيمتهم الأدبية عندنا نتيجة سوء سياستهم معنا.
2 -
البلاد في حاجة إلى أقلام الذين يبذلون أكبر جهودهم في تلك الآداب، ليكتبوا في مسائلها ومشاكلها بعد أن يعودوا إليها بأفكارهم وعواطفهم، وتكون هذه فرصة حسنة للشعور بذاتيتنا، والتأمل في أنفسنا، والعيش في محيطنا وتركيز أدبنا الذاتي وتنميته وتوفيره.
3 -
يجب أن يكون العمل الوطني السلبي شاملاً لجميع النواحي، فلا يتخلف فيه الأدب. وفي ذلك تقوية للروح الوطنية وإشراع لشعور العزة والكرامة.
مناهج اللغة العربية:
كانت وزارة المعارف قد ألفت لجنة لدراسة وسائل النهوض باللغة العربية والعمل على توحيدها في مصر والأقطار الشقيقة. وقد انتهت هذه اللجنة من مهمتها ووضعت تقريراً سيكون موضع نظر المؤتمر الثقافي الذي سيعقد بلبنان في اليوم التالي لصدور هذا العدد من الرسالة
وقد بين ذلك التقرير أهداف تعليم اللغة العربية فيما يلي:
(1)
أن نجعل الطلاب قادرين على القراءة الصحيحة في سهولة ويسر وأن يفهموا ما
اشتملت عليه الكتب من أفكار ومعان
(2)
تمكينهم من التعبير عما يجول في نفوسهم ويقع تحت حواسهم بعبارة عربية صحيحة
(3)
أن تكون دراسة العربية وسيلة صحيحة للثقافة وتوسيع المدارك وتنمية الذوق السليم وتزويد الطالب من المعلومات القيمة لا أن تكون محض دراسة لألفاظ وتراكيب ومفردات عمادها الزينة والزخرف الشكلي
(4)
أن يتصل الطلاب اتصالاً وثيقاً بالحياة الأدبية والعلمية المحيطة بهم وأن يسايروا النهوض الأدبي الحديث
(5)
أن تكون الدراسة مثيرة لروح الشوق إلى القراءة والاستزادة من الثقافة والوقوف على ما جاء به الكتاب والمفكرون في العصور المختلفة
ويقول التقرير (إن مناهج قواعد النحو والصرف والبلاغة أكثر مما يحتاج إليه الطلبة ولا تلائم استعدادهم ولا تنهض بلغتهم وإنه لو اكتفى من القواعد بما هم في أشد الحاجة إليه مع كثرة المران عليه كان أولى)
والواقع أن أصل الداء في المناهج، فمنهج الأدب الحالي - مثلاً - غير صالح، فالطالب في السنة الأولى الثانوية يبدأ دراسة الأدب ببحث طويل في معنى الأدب والأسلوب الرديء وغير الرديء، وهو يحفظ من ذلك ما يلقنه المعلمون من العبارات التي لا يفهم معناها مهما بذل المعلم من الشرح والإيضاح، وفي السنة الثانية يدرس العصر العباسي الثاني، فيقال له إن النهضة العلمية التي كانت في صدر الدولة نضجت في العصر الثاني وأثرت في الأدب، وهو لا يعلم شيئاً عن هذه النهضة لأنه سيدرسها في السنة الثالثة! ويقال له إن الكتاب استعملوا الجناس والطباق وغيرهما من المحسنات البديعية التي سيدرسها في السنة الرابعة! ويشغلون الطالب بالمعلومات التاريخية الكثيرة عن الأدب نفسه، فيحفظ النصوص كما يحفظ شرحها دون فهم حتى للشرح، ليدون ما حفظ في ورقة الامتحان. . وترى أسئلة الامتحان فيهولك منها سؤال في النقد أو الموازنة تراه أعلى من مستوى الطالب العقلي. . مع أن الأمر أهون مما تظن، فالطالب يحفظ الإجابة عن ظهر قلب!
وهذه أمثلة يسيرة نسوقها إلى المؤتمر الثقافي وهو يتهيأ للانعقاد، لننبه إلى أن (القدر المشترك) في التعليم بجميع المدارس العربية، ليس وحده الجدير بالبحث، بل يجب
الاهتمام أيضاً بنوع القدر ومقدار نفعه وصلاحيته. ويجب أن توضع المناهج المصرية خاصة موضع التفنيد، لأن أكثر الشقيقات تتجه إليها وتأخذ بها، ونخشى أن يتكون (القدر المشترك) من معظمها.
المساهر:
قرأت في كتاب (أبو الهول يطير) الذي أخرجه أخيراً الأستاذ محمود بك تيمور ما يلي:
(تضم مدينة نيويورك وحدها سبعمائة مبنى بين مسرح للتمثيل ودار للسينما إلى جانبها ثلاثمائة وألف من أندية الليل تلك التي يسمونها بالفرنسية (الكباريهات) ولعلنا لا نخطئ إذا سميناها المساهر)
وكلمة (المساهر) هذه عذبة خفيفة وتنطبق حقاً على هذه الأندية الليلية (الكباريهات) التي يسهر فيها الناس ليستمتعوا بمختلف ألوان اللهو والمرح من رقص وغناء وموسيقى وغيرها وسيجري المسهر على اللسان كما جرى المسرح والمرقص
وقد ذكرني ذلك بما كان قد كتبه الزميل (الجاحظ) في تعقيباته بصدد وضع الألفاظ للأشياء والمعاني المستحدثة، إذ قال على ما أذكر إن الأمر في وضع الألفاظ ليس مجرد العثور عليها بل هو الاهتداء إلى الكلمات التي تصلح للاستعمال وتشق طريقها في الحياة بأقلام الكتاب والشعراء. والحق ما قال.
حول السجل الثقافي:
كتب إلى أديب ظريف بتوقيع (البسام) يقول:
(قرأت ما كتبته عن السجل الثقافي فأكبرت هذا العمل الجليل الذي شرعت وزارة المعارف تقوم به، وهو إصدار سجل سنوي يصف مظاهر النشاط الثقافي خلال عام ويبين اتجاهات هذا النشاط ومراميه. ولاشك أن هذا السجل سيكون له من الأثر والشأن ما ذكرت، ولكني وقفت عند نقطتين في هذا الموضوع: الأولى في قولك (وعمل هذه الإدارة تسجيل مظاهر النشاط الثقافي في البلاد من كافة نواحيه عدا الجانب الذي تضطلع به معاهد التعليم وفق برامجها الرسمية) وبما أن السجل السنوي أول ما تهتم به الإدارة المنشأة كما ذكرت، فمعنى ذلك أنه سيهمل فيه الجانب الذي تضطلع به معاهد التعليم وفق برامجها الرسمية،
فلم هذا؟ ولم لا يكون السجل شاملاً للنشاط الثقافي بمعاهد التعليم؟ وقد قلت إن الغرض الأول منه تعريف ضيوف مصر والمهتمين بشئونها من الأجانب المكانة التي بلغتها مصر من الثقافة العامة. أفليست المعاهد الرسمية مما يهمنا التعريف بما بلغته من المكانة الثقافية؟
(النقطة الثانية هي ما يفهم من سياق الكلام وعلى الأخص العبارة السابقة التي بينت فيها أول غرض من السجل: (تعريف ضيوف مصر. . . الخ) من أنه سيكون مقصوراً على وصف النشاط الثقافي وبيان اتجاهاته ومراميه في مصر فحسب، فلا يشمل سائر البلاد العربية، مع أن الوحدة الثقافية العربية هدف يرمي إليه الجميع، بل هي واقعة فعلاً من قديم العصور، وهي أقوى لبنة في بناء الجامعة العربية، وإني لأستبعد أن تفعل ذلك وزارة المعارف وهي التي تعمل على تنمية التعاون الثقافي بينها وبين الشقيقات العربيات، بل أقول بصراحة أكثر إني أشك في صحة ما ذكرت في هذا الصدد. . . فهل أنت واثق منه؟ وإذا كنت كذلك فما رأيك؟)
وأقول لك أيها (البسام) إنني لم أكن إلا مقرراً للواقع الذي وقفت عليه وموضحاً للفكرة التي قصدت إليها وزارة المعارف من السجل الثقافي الذي تعمل في إعداده، وأنا واثق من كل ما ذكرته. وقد ارتحت إلى وجاهة اعتراضك رغم ما تعمدته من المعاكسة بين (العباس) و (البسام)
ولا أخل وزارة المعارف غافلة عما أثار ذلك الاعتراض، ولعلها تنظر إلى الموضوع من وجهة غير الذي ننظر منه إليه، فلست أملك مع هذا إلا أن أدع الأمر لأهل الاختصاص في الوزارة ليجيبوا بما عندهم
تصويب:
في العدد الماضي جاء عنوان الموضوع الأول في هذا الباب (اجتراء) وصحته (اجترار).
(العباس)
البريد الأدبي
المنشئ والحاسب، أبو حيان والحريري
قرأت في الرسالة الغراء (737) كلمة الأستاذ (الجاحظ): (الكاتب المنشئ والكاتب الحاسب) وما رواه فيها من قول للدكتور زكي مبارك. ولقد أنصف الأستاذ الجاحظ، وجار الدكتور مبارك - وإن لم يكن الظلم من شيمته - بما أراد أن يعطي (ابن الحريري) أكثر من نصيبه، وحسبه نصيبه. وفي (الإمتاع والمؤانسة) حديث عن تينك الصناعتين ورد فيه كلام لرجل اسمه (ابن عبيد) نبح في البلاغة والمنشئين والمعلمين والنحويين، وعظم وكبر صنعة الحساب. وقد فرفر أديبنا العبقري أبو حيان قائله فرفرة، وفند باطله، وأعلن من فضائل البلاغة والإنشاء ما أعلن وأغلب الظن أن صاحب (المقامات) اطلع على ذلك الحديث فنتش أشياء من معانيه ومن ألفاظه قال ابن الخشاب البغدادي في رسالته في نقد (المقامات):
(وقد كان ابن الحريري (عفا الله عنه) مكباً عليها، صارفاً مدة مهله فيها، ينقح فيها اللفظة بعد اللفظة، ويستشفها في كل لحظة، فهي بنت عمره، وبكر دهره. ولقد خطف أكثرها من مواضع، يدل تهديه إليها على فضل بارع. ولم يكن رحمه الله مدفوعاً عن فطنة ثاقبة، وغريزة في التلفيق مطاوعة مجاوبة)
ولن يقلل ذلك النتش من فضل (أبي محمد) ولن يصغر هذا الخطف من مقداره. يقول أبو حيان في كتابه:
(ولما عدت إليه (إلى الوزير) في مجلس آخر، قال: سمعت صياحك اليوم في الدار مع ابن عبيد، ففيم كنتما؟ قلت كان يذكر أن كتابة الحساب أنفع وأفضل وأعلق بالملك، والسلطان إليه أحوج، وهو بها أغنى من كتابة البلاغة والإنشاء والتحرير، فإذا الكتابة الأولى جد، والأخرى هزل).
(قال:. . . فما كان الجواب؟ قلت: ما قام من مجلسه إلا الذل والقماءة، وهكذا يكون حال من عاب القمر بالكلف، والشمس بالكسوف، وانتحل الباطل ونصر المبطل، وأبطل الحق وزري على المحق. . .).
ومما قاله أبو حيان لابن عبيد: وكفى بالبلاغة شرفاً أنك لم تستطع تهجينها إلا بالبلاغة،
ولم تهتد إلى الكلام عليها إلا بقوتها، فالنظر كيف وجدت باستقلالها بنفسها ما يقلها ويقل غيرها، وهذا أمر بديع وشأن عجيب. . .).
والحديث التوحيدي العذب هو في الجزء الأول من (الإمتاع والمؤانسة) في الصفحة السادسة والتسعين وما بعدها.
السهمي
تصويب:
جاءت همزة هذا المصدر (الائتمام) في الكلمة (فعلاء) في (الرسالة الغراء) 737 - همزة قطع، وهي همزة وصل.
إلى الأستاذ (الجاحظ):
أنا أذكر أن في الكتاب الجليل (الفرج بعد الشدة) للقاضي التنوخي قصة وقعت لبعض وزراء العهد العباسي الأول مع كاتب متعطل ركب معه حراقته في دجلة. . . فيها تصنيف الكتاب وصفاتهم وما ينبغي لكل منهم، ولم يقتصر فيها على الكاتب المنشئ والكاتب الحاسب، بل عدد أنواعاً كثيرة وساق أوصافاً جمة، وليس تحت يدي الكتاب حتى أدل على موضعها، فليرجع الأستاذ (الجاحظ) إن شاء إليه. يجد فيها ما يضيفه إلى (تعقيباته) ويضمّه إلى حسناته.
(علي)
الخلان والزمان:
في العدد (736) من الرسالة الغراء مقال بعنوان (الخلان والزمان) للأستاذ الحوفي لفت نظري فيه أخطاء وقع فيها الكاتب في روايته لأبيات الشاعر الأمير أبي فراس. . . فرأيت إتماماً للفائدة المرجوة من هذا الموضوع الجليل أن أنبه إلى مواضع تلك الأخطاء وأن أرجع الرواية إلى أصلها.
1 -
روى الكاتب أن أبا فراس قال:
منعت حمى قومي وسدت عيشتي
…
وقلدت أهلي من هدى القلائد
وصحة رواية الشكر الثاني هي:
وقلدت أهلي غر هذي القلائد
وهو أوضح وأفصح فقد جاء مفسراً لبيت قبله هو:
فإن عدت يوماً عاد للحرب والندى
…
وبذل العلى والمجد أكرم عائد
ثم عطف فقال:
منعت حمى قومي وسدت عشيرتي
…
وقلدت أهلي غر هذي القلائد
2 -
روى قوله:
(ومنها) نرى أن المتارك محسن
…
وأن خليلاً لا يضر خليل
وصحة هذا البيت هكذا:
(وصرنا) نرى أن المتارك محسن
…
وأن خليلاً لا يضر (وَصول)
يقول: أصبحنا فبي ومن نرى فيه أن الصديق الذي لا يضر ويؤذي محسن وفيّ وصول للعهد أمين في الصداقة. . ومما يؤيد هذه الرواية أن الشاعر قال بعد ذلك:
تصفحت أحوال الزمان فلم يكن
…
إلى غير شاك في الزمان وصول
فجاء بالجناس بين القافيتين (وَصول ووُصول) وأبو فراس كثير التجنيس في شعره كمثل قوله:
ولا برقت لي في اللقاء قواطع
…
ولا لمعت لي في الحراب حراب
3 -
روي قوله:
وإذا وجدت مع الصديق شكوته
…
سراً إليه وفي المحافل أشكر
وصحة هذا البيت:
وإذا وجدت على الصديق شكوته
…
سراً إليه وفي المحافل أشكر
4 -
روي:
أشد عدويك الذي لا تحارب
…
وخير خليلك الذي لا تناسب
وصحة الشطر الثاني: وخير خليليك بالتثنية.
5 -
روي قوله:
تردى رداء (الظل) لما لقيته
…
كما يتردى بالغبار العناكب
والصحيح كلمة (الذل) مكان الظل، وهو أوضح وأبلغ وأنفذ للمعنى. يقول: إن حاسده اللئيم الجبان يوغل في شتمه وانتقاصه ويغرق في ذمه واغتيابه، حتى إذا لاح له انخلع قلبه وامتقع لونه واعتقل لسانه فتردى رداء الذل، ولبس ثوب التملق، فتوسل وتمدح. فلا وجه لكلمة (الظل) إلا إذا أراد الكاتب الفاضل أن يتمحل أوجه البلاغة ويتعسف طرائق البيان. فالمعنى الواضح البين خير وأبلغ من المعنى الغامض المبهم.
6 -
وقد افتتح الكاتب الفاضل مقاله ببيت رواه لأبي فراس جاء على هذه الصورة:
تركت أبي طفلاً وكان أبي
…
من الرجال كريم العود فاخره
وقد نبهت (الرسالة) أن الشطر الأول غير مستقيم لا معنى ولا وزناً، ولم أعثر على صحته، ولكن لعل الشطر الأول أن يكون هكذا (وقد فقدت أبي طفلاً وكان أبي)، فيصح النظم ويتسق المعنى
(طرابلس الشام)
محمد علي عكاوي
القصص
قصة إسلامية:
شيخ الأندلس
منقولة عن الإنجليزية
بقلم الأديب وهبي إسماعيل حقي
(تتمة)
ثم إن الرجل الغريب دلف إلى الحديقة بعد أن طرق الباب بيد مرتعشة طرقاً مضطرباً، ولم يتمهل حتى يؤذن له، وأسرع إلى حيث الشيخ يتوضأ لصلاة المغرب - وقد ارتسمت على صفحة وجهه دلائل الخوف وعلامات الفزع - فركع بين يديه، وظل الكلام يتعثر في حلقه لحظة، ثم استطاع أخيراً أن يتمتم بهذه الكلمات المتقطعة المضطربة:
- أيها الشيخ الرحيم. . . إني غـ. . . غريب عن هذه الأوطان. . . وأنا الآن. . . بعيد عن أهلي وعشيرتي. . . و. . و. . . فقال له الشيخ:
- اعتدل في جلستك يا بني! وتريث قليلاً حتى تهدأ أعصابك ويعود إليك اطمئنانك، فأنت الآن في بيتي، وسنحول بينك وبين كل مكروه، فلا تخف، وقل ما تريد. . .
- ارحمني بربك! أسبل عليّ ستراً من حمايتك بمكانة محمد عندك، إني برئ فمد يدك لمعونتي. . . لجأت إليك، فكن بي رحيماً. . .
هزت كلمات الرجل أوتار قلب الشيخ إدريس، وتأثر بالغ الأثر لهذا الغريب الذي يذوب قلبه فرقاً وقال له:
- إنك آمن الآن يا بني! فاطمئن ولا تخف، فإن المسلم، لا يغلق بابه في وجه من به استجار، وهذا ملجأ حصين، ستقر به عينك، وسيهدأ فيه بالك، ولكن هل لديك ما يمنع أن تطلعني على ما حدث لك، ولم ينتظر إجابته بل التفت إلى خادمه الذي لم يزل واقفاً وبيده إبريق الماء وقال له:
- هات له شراباً رطيباً، فهو في حاجة إلى ما يهدئ أعصابه، فذهب الخادم، وعاد وناول
الغريب الشراب فروى ظمأه واستطاع بعدئذ أن يهمس هذه الكلمات:
- أعرني سمعك أيها الشيخ الكريم. . . وارحم غربتي وضعفي، فليس لي في هذا البلد مساعد ولا معين. . . فكن مساعدي ومعيني. . . منذ قليل كنت في طريق المدينة فقابلني جماعة من شباب المسلمين، وكنت وحيداً، فأخذوا يسخرون مني ويستهزئون بي، فلما لم أرد عليهم قذفوني بسيل من الشتائم مقذع، فقطع الشيخ حديثه بقوله:
- ترى من كان هؤلاء الأشقياء؟ فإن الإسلام يعلمنا كيف نحافظ على شعور الناس، ويحثنا أن نعاملهم بالحسنى، ولا نعرض لهم بأذى. فقال الرجل:
- هذا ما حدث يا سيدي، ولا أدري له تعليلاً. . . فلما استنكرت فعلهم، ورجوتهم أن يكفوا عن هذا السباب استشاطوا غضباً، وازدادوا في إيلامي، وبلغ ببعضهم أنه أخرج مدية وهم أن يطعنني بها، فدفعني حب البقاء أن أدفع الأذى عن نفسي، فقذفت بسهمي في ثورة غضبي وشدة هياجي فطاش وأصاب من أحدهم مقتلاً، وها أنتذا قد علمت أنني لم أبيت لأحد منهم سوءاً، ولم أقصد أحداً بضرر، ولم يكن في حسابي أن الشهم سيصيب منهم مقتلاً. . . وقد لذت بالفرار لأنجو بنفسي، ولأنقذ حياتي من خطأ لم أتعمده، فرمت بي المقادير إليك، ولعل من سعد طالعي أني وفقت لمن ينصر المظلوم ويأخذ بيد الضعيف
ظن الشيخ أن الذي سمعه من الرجل هو الواقع، فتحركت في نفسه عوامل الشفقة، وثارت في قلبه نوازع الرحمة، ولم يخطر له ببال أن الدم الذي سفكه ذلك الخائن إنما هو دم ابنه البرئ، فأخذ يلاطف الرجل ويتبسط معه في الحديث، ليذهب ما ألم بقلبه من فزع ورعب، وما تملكه من اضطراب وخوف، وكان مما قاله له:
- إنك وإن لم تكن مسلماً؛ فقد أوصانا نبينا بأن نعامل مخالفينا في الدين بالحسنى، وأن نرعى الأخوة في الإنسانية حق رعايتها، فكن على يقين أنك بلغت مأمناً، وأنه بعون الله لا تستطيع يد أن تمتد إليك بسوء واعلم أنك الآن في حماية قوية، فقد عاهدتك عهداً غير منكوث، أني لن أسلمك أبداً ولو حملت في سبيل ذلك السلاح. . . ولكنه رأى في وجه الرجل أمارات الشك، وأن به ميلاً إلى عدم التصديق فقال له في رنة التأكيد:
- كن واثقاً بي فالمسلم إذا عاهد وفّى، وإذا أؤتمن أدى، وإذا قال صدق، فانحنى العغريب حتى بلغ رِجْل الشيخ فقبل أطراف أصابعها، فجذبها الشيخ بقوة وقال له:
- إنني يا بني لم أفعل شيئاً أستحق عليه هذا منك، ولم أزد على أني أجرت من استجار بي، وأي مسلم يقعد عن ذلك؟ ثم التفت إلى خادمه وقال له:
- اصحبه إلى حجرة النوم التي أعدت للأضياف، ووفر له وسائل الراحة، فإنه شديد الحاجة إليها، ثم ابتسم للرجل وقال له:
- في رعاية الله وحفظه، رافقتك السلامة، وصحبك الهدوء والاطمئنان.
أخذ المدعوون يفدون إلى بيت إدريس زرافات ووحداناً تعلو وجوههم نضرة السرور، وترتسم على شفاههم بسمة الفرح، وكانت الأنوار تتلآلآ ساطعة في أبهاء البيت وطرقات الحديقة وامتلأ البيت، واكتظت الحديقة بالحاضرين، وجلسوا جماعات جماعات، يتناول حديثهم شتى الأمور في الأدب والتطورات السياسية، والمعارك التي يخوض جيش المسلمين غمارها لإخضاع الثائرين المتمردين، والملح الضاحكة، والطرف المستملحة، والكل ينتظر عودة إسحاق بفارغ الصبر. وكان الشيخ إدريس أشد الحاضرين قلقاً، وأكثرهم لهفة؛ فقد بدأ يتوجس خيفة من تأخر ابنه الذي لم يسبق له مثيل؛ فإنه لم يتأخر في المدينة إلى مثل هذا الوقت من الليل، وخشي أن يكون قد أصابه مكروه فإنه يعلم أن عليه في هذه الليلة أن يستقبل المدعوين في منزله من علية الناس وأشرافهم. فلم يستطع الرجل الثبات في مجلسه، فكان يكثر من الخروج والقيام والقعود، والذهاب إلى الباب والعودة منه ينتظر عودة وحيده.
وحانت صلاة العشاء، فقام أحد المدعوين وأذن لها، وبعد أن فرغوا من صلاتها عادوا إلى أماكنهم، وقبل أن يتشعب بهم الحديث فاجأهم صراخ وصياح خارج المنزل لم يلبث أن صار بينهم مصدره، وكان خادم إسحاق الذي رافقه إلى منزل الشيخ عبد الكريم هو مبعث البكاء والصياح فدخل عليهم وقال لسيده إدريس في تأثر بالغ وهو يبكي، ولا يكاد يتبين السامع شيئاً من كلامه لاختناق صوته، وإلحافه في البكاء والنشيج:
- ألهمك الله الصبر ياي سيدي. . .؛ فقد مات وحيدك. . . وسندك إسحاق. . .
لم يكد الخادم يتم عبارته حتى ارتسم الهلع على وجوه الحاضرين، واستبد بهم الحزن، وفارقهم الوقار، وتخلت عنهم الشجاعة، فعلا نشيجهم وتصعدت زفراتهم واستسلموا لحزن عميق
أما الشيخ إدريس فقد كاد يصعق في مكانه؛ لأن الخبر قد نال منه أشد منال، ووقع على قلبه وقوع الصاعقة، وأخيراً بعد جهد جهيد استطاع أن يستند على خادمين وخرج إلى الحديقة، يتبعه الأضياف ليروا جثة إسحاق التي وصلت منذ لحظات.
تقدم إدريس إلى ابنه المسجى، وبيد مرتعشة رفع الغطاء الأبيض، فرأى وجه ابنه، ذلك الوجه الذي كان منذ قليل يزخر بماء الشباب، رآه أصفر شاحباً، قد ذوى جماله، وغاضت ملامحه وغارت عيناه. وقد كانتا تشعان بالفرح والتحفز والسرور، فانطفأ بريقهما، وخبا ضياؤهما، وانطبقت جفونهما.
رد الوالد الغطاء على وجه ابنه، والحزن يفتت كبده، ويذيب فؤاده، ولكنه تحامل على نفسه وتمالك أعصابه وردد في ثقة واطمئنان قول الله عز وجل (إنا لله وإنا إليه راجعون). (كل نفس ذائقة الموت). (فصبر جميل والله المستهان). ثم التفت إلى القوم الذين جعلوا يتقدمون لتعزيته وقال لهم: ماذا يملك الإنسان غير أن يستسلم للقدر المحتوم، والقضاء النافذ. إن قلبي يعتلج بالأسى والحزن لفراق ولدي الوحيد، ولكنها إرادة الله، الذي لا راد لما قضاه.
تراءى العالم للشيخ إدريس شديد الظلام، وأخذ الألم يحز في نفسه، ولكنه صبر للبلاء، وصمد للقضاء. وانفرد بالخادم الذي كان يرافق إسحاق وقال له:
- قصّ عليّ يا بني ما جرى لكما كما وقع، ولا تستر عني شيئاً من الحقيقة، وقل من ذا الذي فعل هذا بسيدك إسحاق؟ فقال الخادم:
- أنني قد تأخرت عن سيدي إسحاق قليلاً، لأنه أسرع بجواده، ورأيته من بعيد يتحدث إلى رجل غريب، لكني لم أسمع ما دار بينهما، إلا أنني رأيت سيدي بعد قليل يحاول النزول عن جواده، وقبل أن يتمكن من ذلك، قذفه الغريب بسهم قاتل، فسقط على الأرض مضرجاً بدمائه، واختفى القاتل بعد أن أدركه، فانتفض الشيخ انتفاضة شديدة كأنما لدغه عقرب، وقال والدمع ينهمر من عينيه: هذا ابتلاء من الله وعلينا أن لا نسخط على قضاء قضاه.
وأخذ الحاضرون يعزون الشيخ إدريس، ويسألون له الصبر ثم ينصرفون إلى بيوتهم والهم يعتلج في قلوبهم والأسى يحز في نفوسهم. ثم اجتمع الأقارب والأصدقاء من الرجال والنساء حول القتيل يبكون شبابه الغض، وفتوته الناضجة، وخرج كثير من أصدقائه بفتشون في طرقات المدينة وأحراشها عن القاتل الأثيم!
في الحجرة الأولى عن يمين الداخل إلى المنزل كان اللاجئ المسيحي يرتجف خوفاً وهلعاً، كلما تعالت أصوات البكاء والعويل، وتنثال عليه الأفكار السوداء والخواطر المثيرة، ويقول في نفسه: ماذا أعمل إذا كانت تلك مناحة القتيل وقد زجت بي المقادير إلى بيته؟ ثم يعاوده شئ من الهدوء ويقول: لو أن الأمر كذلك لدخل عليّ أهله ولمزقوني شر ممزق منذ أن وصل القتيل للبيت. ظلت الأفكار المضطربة تنتاب ذلك اللاجئ شطراً كبيراً من لليل ثم تأكدت مخاوفه وأسرع خفقات قلبه، عندما عالج الشيخ باب حجرته ثم فتح مصراعيه، ودخل عليه وبيده مصباح مضيء. ثم ابتدر الغريب وقال له:
قل لي بربك يا صاح! أكان الرجل الذي قتلته منفرداً أم كان في جماعة من أصحابه؟
- لا لا! إنه لم يكن وحيداً يا سيدي، بل كانوا أربعة، وقد استثاروني فاستعملت السلاح دفاعاً عن نفسي،. . . وإني أستحلفك بالله أن لا تسلمني إليهم فإني برئ، برئ.
- لا تخش شيئاً فلن أسلمك لأحد، ولكن هيا اتبعني قليلاً.
قام الرجل متثاقلاً. وتبعه متعثراً في مشيته وكأن رجليه تعجزان عن حمله وكان كلما تقدم وراء الشيخ خطوة، اعتقد أنه يقترب من الموت خطوات، وظل كذلك حتى وصل إلى الحجرة التي نقل القتيل إليها، فدخلها وراء السيخ فوجد بجانبه أربعة يرتلون آي الذكر الحكيم، فتقدم إليهم الشيخ وفتح لهم باباً داخلياً وطلب إليهم أن يلجوه، وأن ينتظروا ريثما يسترجعهم، ثم طلب إلى الغريب أن يتقدم إلى سرير القتيل ثم رفع الغطاء عن وجهه وقال له:
- هل هذا الرجل هو الذي أصابه سهمك؟
عرف الرجل في المسجى على السرير ضحيته، فاصفر وجهه، وتصبب عرقه، وجف ريقه، وتلاشت الكلمات في حلقه، والتاث عليه مسلك القول، فقال له الشيخ في هوادة ورفق:
- قل الحقيقة ولا تخف يا بني. فليس عليك من بأس، فقال الغريب بصوت متقطع كأنه خارج من جوف بئر:
- نـ. . . نـ. . . نعم هو يا سيدي، ولكن بحق نبيكم محمد ارحمني وأشفق علي؛ فإني لم أقتله متعمداً، أنا برئ، إن هذا الشاب قد ابتدأني بالشتائم وقد دافعت عن نفسي. . .
- لا بأس. لا بأس فلنرجع إلى حجرتك ثانية؛ فقد بقي من الليل وقت ليس بالقصير؛ وأنت في حاجة إلى قسط من الراحة كبير وفي الصباح الباكر إن شاء الله ندبر وسيلة لإنقاذك.
ثم ودع القاتل عند باب حجرته وتمنى له ليلة هانئة. ثم انثنى إلى حجرة القتيل وجلس إلى جواره مع القراء يسترحمون له بتلاوة القرآن. بينما أغلق القاتل عليه بابه واستسلم للتفكير في مصيره وما سيأتي به الغد من أحداث.
نادى المؤذن لصلاة الفجر، فقام الشيخ إدريس وجدد وضوءه، واستقبل القبلة ورفع يديه إلى السماء وقال:
(اللهم لا رادَّ لقضائك، ولا سخط على بلائك، ابتليت فرضينا، وأمرت فأطعنا، فألهمنا جميل صبرك، وثبت قلوبنا على طاعتك، فلا عون إلا بك، ولا ملجأ إلا إليك، وإنك أرحم الراحمين، وأعدل الحاكمين). ثم صلى لربه في خشوع واستسلام ولما انتهت صلاته، أمر أحد رجاله أن يعد أسرع جياده، وينتظر به على باب الحديقة؛ ومعه إبريق ملئ بالماء. ثم أخذ كيساً ووضع به مبلغاً من المال، وأحضر سلة وشيئاً من طعام وفاكهة ووضعهما في السلة، وذهب إلى حيث الخادم ينتظر بالجواد؛ وأمره أن يأتيه بالضيف من حجرته.
قضى القاتل ليلة ليلاء لم يغمض له جفن، ولم يهدأ له بال، ولم يسكن له خاطر، فما أن طرق الخادم بابه حتى أيقن أن ساعته قد دنت، وأن حَيْنه قد حان، وتلك آخر لحظاته، فجثا على ركبتيه، وصلى على طريقته المسيحية صلاة الوداع لحياته؛ ثم قام وتابع الخادم وهو يترنح كالسكران من هول ما يلاقيه. فلما وصل وجد مضيفه وحاميه ممسكاً بعنان الفرس، متكئاً على جدار الحديقة فما أن أبصرهما حتى صرف الخادم ثم وجه الكلام إلى القاتل فقال:
- أيها الشقي التعس! ألا فاعلم أن الذي استقر سهمك في صدره هو ابني ووحيدي وأنه لم يكن متجنياً عليك، ولم يبتدرك بإساءة!! إنك لا تستطيع أن تتخيل أي دور لعبت في تدميري، وتحطيم قلبي أنا ذلك الشيخ الفاني، لقد هدمت بنياني، وقوضت أركاني، وقتلت كبدي. إن الصراع الناشب في نفسي، لا يقدر قدره ولا يبلغ مداه. . . هذا وحيدي وسندي في الحياة جثة هامدة بين عينيّ، تناديني روحه من عليائها أن أنتقم له، وهذا قاتله بين يدي، وفي حوزتي، ولكن يمنعني من الثأر منه ذلك العهد الذي قطعته على نفسي أن
أحميه. . . كان إسحاق رطيب الغصن، ناضج الشباب وكنا نبني عليه صروح الآمال ونعلق عليه كل رجاء لنا في الحياة، ولكنك هدمت صروحنا وقطعت رجاءنا. . . إن الدم يغلي في عروقي غضباً عليك، وإن نوازع الشر تصرخ بي أن أثأر منك، لكن صوت الضمير يملأ نفسي، ويغمر قلبي، إني عاهدتك باسم الله ومكانة محمد نبيه، أن أحميك من كل شر، وأن أدفع عنك كل سوء، وقد استجبت أخيراً لنداء ضميري، فإني لا أحب أن يقال: إن مسلماً استهان باسم الله وبكرامة محمد نبيه، فأخلف وعده، وغدر في عهده ولوث سمعة المسلمين. . . هاك خير جهادي، وهذه سلة فيها طعام وفاكهة، وذي نقود قد تحتاجها في سفرك. وإن إسحاق كان أحب إليَّ من حياتي، ولكني عفوت عنك (فمن عفا وأصلح فأجره على الله) وتعاليم الإسلام أحب إلى قلبي، حتى من نفسي. . .
وهبي إسماعيل حقي