المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 74 - بتاريخ: 03 - 12 - 1934 - مجلة الرسالة - جـ ٧٤

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 74

- بتاريخ: 03 - 12 - 1934

ص: -1

‌دارٌ تَبلى!.

. .

دار تَبلى! وكانت إلى الأمس القريب دار الأمة! عليها نزل وحي الوطنية، ومنها انبعث صوت الحرية، وفيها انبثق فجر النهضة، وبها وُلد معنى الاستقلال.

كانت ملجأ الخلافة في الآستانة، ومفزع الخديوية في القاهرة، ومخالفة الاستعمار في لندن، ومثابة الإسلام في العالم كله! تجمعت فيها للأمة رغائب، ونشأت بها للشباب آمال، وخفقت عليها للجهاد (ألوية)، وسمعت مصر في أفنيتها للمرة الأولى أصوات بَنيها الخُلَّص يهتفون باسمها، ويهزجون بمجدها، ويزفرون من الحفيظة لاستعبادها، ويستنجزون الغاصب المحتل وعدوه الممطول وعهده الفاجر! ثم كانت (عكاظ) للبلاغة الخطابية، و (فورم) للمساجلة السياسية، و (كعبة) يتجه أليها أبرياء الصدر من مخامرة الوطن، وأنقياء الصحيفة من ممالأة العدو تلك هي دار اللواء، ونادى مصطفى كامل!

تمر اليوم بمكانها من شارع (الدواوين) فتجد هذا الأثر الضخم والتاريخ الحافل تُعفيه الأحداث والنوازل! كأنها لم تكن في عهدها الداني قلب مصر النابض، وعزم نشئها الناهض، ومنارة أمرها الهادية! أتى البلى عليها أتُّى البلى فنكر أعلامها وأخفقت صداها! كأنها لم تنفض عن الوادي غبار الحمول، ولم تمسح عن الأجفان فتور الوسن! وكأن مصطفى لم يسجل على أركانها أول صيحة بالجلاء، وأول رغبة في الدستور، وأول غضبة للحرية!!.

ولكن الزمن الدوار القهار يحطم كل ما برأ الله وصور الناس من شخص وشيء، فلا يظهر على بأسه إلا الفكرة، ولا يخلد على رغمه إلا العقيدة.

ألا فاسلمى على رغم هذا البلى يا دار! فأن لك في كل قلب آية مسطورة، وفي كل تاريخ صفحة منشورة، وفي كل جيل نشيداً يعطف القلوب إلى الحق، ويلفت العيون إلى النور، ويهدي النفوس الشاردة إلى الغرض الأسمى والسبيل القصد.

ومن الذي ينسى ومضة الروح الإلهي في ذلك الجسد الضارع، فيفور فورة الجبارين، ويصمد صمود الرُسل، ويقوم في وحدة النبي وإيمان الشهيد يجاهد الإشراك بمصر، والكفران بالأمة، ويقارع بالحجج الثائرة الملزمة طغيان إنجلترا وهي يومئذ علة العلل ودولة الدول؟

أم من الذي ينسى خفقة التضحية القدسية في ذلك الشباب العليل، فيحرك ساكن شعبه

ص: 1

بوجيب قلبه، ويضئ ظلام يومه بوميض روحه، ويذكى خمود عزمه بحرارة دمه، ثم يزهد في المال والجاه والحكم زهادة الحكيم، فيحيا للمبدأ والفكرة، ويموت للقدوة والعبرة؟

على إخلاص مصطفى وإيثار فريد وصدق سعد تسير اليوم هذه القافلة! حتى إذا كذب الرائد، ومكر الدليل، وخامر الحادي، انبلج في جوانب الطريق شعاع من هذه الأرواح البرَّة، فيجلو العمى، ويكشف الضلال، ويفضح المكيدة! وقد ماتوا رضوان الله عليهم ميتة الأنبياء، لا (عمائر) تحجب سماء المدن، ولا (دوائر) تشغل أرض القرى! لقد ملكوا وما تركوا! إنما ورثونا حفظ الكرامة وإن أرهقنا الظلم، وطلب الحرية وإن أجهدنا الطغيان، ورعاية الحق وإن خدعنا الباطل! كانت قافلتنا تسير باسم الله يا دار! تسير على ضوء من مبادئ الزعماء لا يخبو ولا ينكسر، فأصبحنا ذات يوم وإذا سيرها يثقل ونظامها يضطرب! فالتفتنا فإذا عصبة منا تسربلوا بالنار وتدرعوا بالحديد، ثم ولوا وجوههم إلى الخلف، وأخذوا بمؤخر القافلة جذباً وجراً، حتى لتكاد عواتقهم تهى، ومفاصلهم تنسرق، وانبث في الركب دعاة الرجعية وسماسرة الطغيان، يلبسون عليه الأمر، ويوهمونه أن هؤلاء هم القادة، وأن هذه الوجهة وعلى تلك الحال الأليمة لبثنا أربع سنين يتجاذبنا الوراء والأمام، ويتنازعنا النور والظلام، حتى ضعضع الصبر الأبى وثاقة الطاغية فخر صريعاً ليديه وفمه.

تقوض صرح الظلام والظلم أول أمس يا دار! فانتشر ما كان يحجبه من نور، وسرى ما كان يصده من نسيم، وعدنا إلى نهج الحياة شامتين بمن هوَوا من أعاليه وثوَوا تحت أنقاضه!

لقد أبلاه عدل الحوادث كما أبلاك ظلمها، وستبقى على الأبد آثارك المعنوية وآثاره! فأما آثارك فتبقى بركة على الناس، وحجة على البغي، وتفسيراً لمعنى البطولة؛ وأما آثاره فستبقى لعنةً في فم الدهر، ودمامة في وجه التاريخ، ووضاعة في كبر الإنسانية!

ألا فاسلمى على رغم هذا البلى يا الدار! فان لك في كل ذهن صورة، وفي كل نفس ذكرى، وفي كل غمرة من غمرات الجهاد روحاً تمسك القوى، وتلهم الصبر، وتعين على مخاوف الطريق!

احمد حسن الزيات

ص: 2

‌قلت لنفسي. . . وقالت لي.

. .

للأستاذ مصطفى الرافعي

قلت لنفسي: ويحك يا نفسُ! ما لي أتحاملُ عليك؛ فإذا وفيتِ بما في وسعك أردتُ منك ما فوقه وكلفتُك أن تسعى؛ فلا أزال أُعْنِتُكِ من بعد كمال فيما هو أكملُ منه، وبعد الحسن فيما هو الأحسن، وما أنفك أُجهدكِ كلما راجعك النشاط، وأُضنيك كلما ثابت القوة؛ فان تكن لك همومٌ فأناأكبرُها، وإذا ساورتك الأحزانُ فأكثرُها مما أجلبُ عليك. أنت يا نفس سائرة على النهج وأنا أعتسفُ بك، أريد الطيران لا السير، وأبتغى عمل الأعمار في عُمر، وأستحثُّك من كل هجعة راحةٍ بفجرٍ يمتد منه نهارٌ مضطرب؛ وكأنى لك زمن يُمادُّ بعضه بعضاً، فما يبرح ينبثق عليك من ظلامٍ بنورٍ ومن نورٍ بظلامٍ؛ ليهيأ لك القوة التي تمتد بك في التاريخ من بعد، فتذهبي حين تذهبين، ويعيش قلبك في العالم سارياً بكلمات أفراحه وأحزانه.

وقالت لي النفس: أما أنا فإني معك دأباً كالحبيبة الوفية لمن تحب؛ ترى خضوعها أحياناً هو أحسن المقاومة. وأما أنت فإذا لم تكن تتعب ولا تزال تتعب، فكيف تدلني أنك تتقدم ولا تزال تتقدم؟ ليست دنياك يا صاحبي ما تجده من غيرك، بل ما توجده بنفسك؛ فان لم تزد شيئاً على الدنيا كنت أنت زائداً على الدنيا، وأن لم تدعها أحسن مما وجدتها، فقد وجدتها وما وجدتك، وفي نفسك أول حدود دنياك وآخر حدودها. وقد تكون دنيا بعض الناس حانوتاً صغيراً، ودنيا الآخر كالقرية الململمة، ودنيا بعضهم كالمدينة الكبيرة؛ أما دنيا العظيم فقارة بأكملها، وإذا انفرد امتد في الدنيا فكان هو الدنيا. والقوة يا صاحبي تغتذي بالتعب والمعاناة؛ فما عانيته اليوم حركةً من جسمك، ألفيته غداً في جسمك قوة من قُوى اللحم والدم. وساعة الراحة بعد أيام من التعب، هي في لذتها أيام من الراحة بعد تعب ساعة. وما أشبه الحي في هذه الدنيا ووَشك انقطاعه منها - بمن خُلق ليعيش ثلاثة أيام معدودة عليه ساعاتها ودقائقها وثوانيها؛ أفتُراه يغفل فيقدرها ثلاثة أعوام، ويذهب يسرف فيها ضروباً من لهوه ولعبه ومجونه، إلا إذا كان أحمق أحمق إلى نهاية الحمق؟

أتعب تعبك يا صاحبي، ففي الناس تعب مخلوق من عمله، فهو لين هين مسوًّى تسوية؛ وفيهم تعب خالق عمله، فهو جبار متمرد له القهر والغلبة. وأنت إنما تكد لتسمو بروحك إلى هموم الحقيقة العالية، وتسمو بجسمك إلى مشقات الروح العظيمة؛ يا صاحبي ليس تعباً

ص: 4

في حفر الأرض ولكنه تعب في حفر الكنز. إتعب يا صاحبي تعبك؛ فان عناء الروح هو عُمرها، فأعمالك عمرك الروحاني، كعمر الجسم للجسم؛ وأحدهما عمر ما يعيش، والآخر عمر ما سيعيش.

قلت لنفسي: فقد مللت أشياء وتبرمت بأشياء. وأن عمل التغيير في الدنيا لهو هدم لها كلما بُنيت، ثم بناؤها كلما هدمت: فما من شيء إلا هو قائم في الساعة الواحدة بصورتين معاً؛ وكم من صديق خلطته بالنفس يذهب فيها ذهاب الماء في الماء، حتى إذا مر يوم، أو عهد كاليوم، رأيت في مكانه إنساناً خيالياً كمسألة من مسائل النجاة فيها قولان. . .! فهو يحتمل تأويل ما أظن به من خير، وما أتوقع به من شر! وكم من اسم جميل إذا هَجَس في خاطري قلت: آه، هذا الذي كان. . .!

أما والله إن ثياب الناس لتجعلهم أكثر تشابهاً في رأى النفس، مما تجعلهم وجوههم التي لا تختلف في رأي العين. وإني لأرى العالم أحيانا كالقطار السريع منطلقاً يركبه وليس فيه من يقوده. ورأى الغفلة المفرطة قد بلغت من هذا الناس مبلغ من يظن أنه حي في الحياة (كالموظف تحت التجربة). فإذا قضى المدة قيل له: ابدأ من ألان؛ كأنه إذا عاش يتعلم الخير والشر، ويدرك ما يصلح وما لا يصلح، وانتهى من عمره إلى النهاية المحدودة - رجع من بعدها يعيش منتظماً على استواءٍ واستقامة، وفي إدراك وتمييز. مع أن الخرافة نفسها لم تقبل قط أن يعد منها في أوهام الحياة أن رجلاً بلغ الثمانين أو التسعين وحان أجله فأصبحوا لم يجدوه ميتاً في فراشه، بل وجوده مولوداً في فراشه. . .! وقالت لي النفس: وأنت ما شأنك بالناس والعالم؟ يا هذا، ليس لمصباح الطريق أن يقول:(إن الطريق مظلم) إنما قوله إذا أراد كلاماً أن يقول: (هأنذا مضيء.) والحكيم لا يضجر ولا يضيق ولا يتململ، كما أنه لا يسخف ولا يطيش ولا يسترسل في كذب الوهم؛ فان هذا كله أثر الحياة البهيمية في هذه البهيمة الإنسانية، لا أثر الروح القوية في إنسانها. والحيوان هو الذي يجوع ويشبع لا النفس. وبين كل شيئين مما يعتورُ الحيوانية كالخلو والامتلاء، واللذة والألم - تعمل قوى الحيوان أشياءها الكثيرة التي تتسلط بها على النفس لتحطها من مرتبةٍ مرتبةٍ إلى أن تجعلها كنفوس الحيوان؛ ولهذا كان أول الحكمة ضبط الأدوات الحيوانية في الجسم، كما توضع اليد على مفاتيح القطار المنطلق يتسعر مرجله ويغلي.

ص: 5

إعمل يا صاحبي عملك؛ فإذا رأيت في العاملين من يضجر فلا تضجر مثله، بل خذ اطمئنانه إلى اطمئنانك، ودعه يخلو وتضاعف أنت.

أنه ليوشك أن يكون في الناس ناسٌ (كالبنوك): هذه مستودعات للمال تحفظه وتخرج منه وتثمِّره، وتلك مستودعات للفضائل تحفظها وتخرج منها وتزيدها. وإفلاس رجل من أهل المال هو إطلاق النكبة مسدسها على رجل تقتله؛ ولكن إفلاس (بنك) هو إطلاق النكبة يدفعها الكبير على مدينة تدمرها.

قلت لنفسي: فما أشد الألم في تحويل هذا الجسد إلى شبه روح مع الروح! تلك هي المعجزة التي لا توجد في غير الأنبياء، ولكن العمل لها يجعلها كأنها موجودة. والأسد المحبوس محبوسة فيه قوته وطباعه؛ فان زال الوجود الحديدي من حوله، أو وهنت ناحية منه انطلق الوحش. والرجل الفاضل فاضل مادام في قفصه الفكري، وهو مادام في هذا القفص فعليه أن يكون دائماً نموذجاً معرضاً للتنقيح الممكن في النفس الإنسانية، تصيبه السيئة من الناس لتختبر فيه الحسنة، وتبلوه الخيانة لتجد الوفاء، ويكسر به البغض ليقابله بالحب، وتأتيه اللغة لتجد المغفرة؛ وله قلب لا يتعب فيبلغ منزلةً إلا ابتدأ التعب ليبلغ منزلةً أعلى منها، وله فكر كلما جهد فأدرك حقيقة كانت الحقيقة أن يجهد فيدرك غيرها. وقات لي النفس: إن من فاق الناس بنفسه الكبيرة كانت عظمته في أن يفوق نفسه الكبيرة؛ إن الشيء النهائي لا يوجد إلا في الصغائر والشر، أما الخير والكمال وعظائم النفس والجمال الأسنى فهذه حقائق أزلية وجدت لنفسها؛ كالهواء يتنفسه كل الأحياء على هذه الأرض ولا ينتهي، ولا يعرف أين ينتهي؛ وكما ينبعث النور من الشمس والكواكب إلى هذه الأرض، يشبه أن تكون تلك الصفات منبعثة إلى النفوس من أنوار الملائكة، وبهذا كان أكبر الناس حظاً منها هم الأنبياء المتصلين بتلك الأنوار.

ومن رحمة الله أن جعل في كل النفوس الإنسانية أصلاً صغيراً، يجمع فكرة الخير والكمال وعظائم النفس والجمال الأسنى، وقد تعظمُ فيه هذه الصفات كلها أو بعضها، وقد تصغر فيه بعضها أو كلها. ألا وهو الحب.

لابد أن تمر كل حياةٍ إنسانية في نوع من أنواع الحب؛ من رقة النفس ورحمتها، إلى هوى النفس وعشقها. وإذا بلغ الحب أن يكون عشقاً، وضع يده على المفاتيح العصبية للنفس،

ص: 6

وفتح للعظائم والمعجزات أبوابها؛ حتى إنه ليجعل الخرافة الفارغة معجزة دقيقة، ويملأ الحياة بمعان لم تكن فيها من قبل، ويصبح سر هذا الحب لا ينتهي؟ إذ هو سر لا يدرك ولا يعرف.

أجهد جهدك يا صاحبي، فما هو قفصك الفكري ذلك الشعاع الذي يحسبك، ولكنه صقل النفس لتتلقى الأنوار، ولا بد للمرآة من ظاهر غير ظاهر الحجر.

قلت لنفسي: فما أشده مضضاً أعانيه! إن أمري ليذهب فرطاً. أكلما ابتغيت من الحياة مرحاً أطرب له وأهتز، جاءتني بفكرة أستكدُ فيها وأدأب. أهذا السرور الذي لا يزال يقع بين الناس هو الذي لا يكاد يقع لي. وهل أنا شجرة في مغرسها؛ تنمو صاعدةً بفروعها، ونازلةً بجذورها غير أنها لا تبرح مكانها. أو أنا تمثال على قاعدته؛ لا يتزحزح عنها إلا ساعة لا يكون تمثالاً، ولا يدعها حتى تدعه معاني العظمة التي نصب لها؟ وقالت لي النفس: ويحك! لا تطلب في كونك الصغير ما لي فيه؛ إن الناس لو ارتفعوا إلى السماء وتقلبوا فيها كما يسيح أهلُ قارةٍمن الأرض في قارةٍ غيرها، وابتغوا أن يحملوا معهم مما هناك تذكاراً صغيراً إلى الأرض - لوجدوا أصغر ما هنالك أكبر من الأرض كلها. فأنت سائح في سموات.

أنت كالنائم؛ له أن يرى وليس له أن يأخذ شيئاً مما يرى، إلا وصفه، وحكمته، والسرور بما التذَّ منه، والألم بما توجع له.

لن تكون في الأرض شجرةٌ برجلين تذهب هنا وههنا، ولكن الشجرة ترسل أثمارها يتناقلها الناس، وهي تُبدع الثمار إبداع المؤلف العبقري ما يؤلفه بأشد الكد وأعظم الجهد، مطلقة ضميرها في الفكرة الصغيرة، تعقدها شيئاًثم يعود عليها بالزيادة، ولا تزال كل وقت تعود عليها، حتى تستفرغ أقصى القوة، ثم يكون سرورها في أن تهب فائدتها، لأنها لذلك وُجِدت.

إن في الشجرة طبيعة صادقة لا شهوة مكذوبة، فالحياة فيها على حقيقتها؛ وأكثر ما تكون الحياة في الإنسان على مجازِها، وشرط المجاز الخيال والمبالغة والتلوين. ولكن متى اختار الله رجلاً فأقر فيه سراً من أسرار الطبيعة الصادقة، ووهب له العاطفة القادرة التي تصنع ثمارها - فقد غرسه شجرة في منبتها لا مفر ولا مندوحة. وقد يخيل له ضعف طبيعته

ص: 7

البشرية أحياناً أن نضرة المجد التي تعلوه وتتألق حوله كشعاع الكوكب - هي تعبه وضجره، أو أثر إنخذالهِ وألمهِ ومسكنته. وهذا من شقاء العقل، فانه دائما يضيف شيئاً إلى شيء، ويخلط معنى، ولا يترك حقيقة على ما هي؛ كأن فيه ما في الطفل من غريزة التقليد، والعقل لا يرى أمامه إلا الإلهية، فهو يقلدها في مداخلة الأشياء بعضها في بعض، لإيجاد الأسرار بعضها من بعض.

ومن ثم كانت الحقيقةُ الصريحةُ الثابتةُ مدعاة للملل العقلي في الإنسان، لا يكاد يقيم عليها أو يتقيد بها، فما نال شيئاً إلا ليطمع في غيره، وما فاز بلذة إلا ليزهد فيها، وأجل ما أحبه الإنسان مع كل صواب من جزء من الخطأ، فان هو لم يجد خطأ في شيء اِئْتفكَ لنفسه الخطأ المضحك في شبه رواية خيالية.

إنه لشعر سخيف بالغ السخافة أن يتخيل الغريق مفكراً في صيد سمكةٍ رآها. . . ولكن هذا من أبلغ البلاغة عند العقل الذي يبحث عن وهم يضيفه إلى هذه الحقيقة ليضحك منها، كما يبحث لنفسه أحياناً في أجمل حقائق اللذة عن ألم يتألم به ليَعبَسَ فيه!

قلت لنفسي: فهل ينبغي لي أن أحرق دمي لأني أفكر، وهل أضل دائماً بهذا التفكير كالذي ينظر في وجه حسناء بمنظار مكبر لا يريه ذلك الوجه المعشوق إلا ثقوباً وتخريماً كأنه خشبةٌ نزعت منها مسامير غليظة. . .! فلا يجد المسكين هذه الحقيقة إلا ليفقد ذلك الجمال. وهل بُدٌ من الشبه بين بعض الناس وبين ما ارْتصد له من عمل؛ فلا يكون الحوذيُّ حوذياً إلا لشبه بين نفسه وبين الخيل والبغال والحمير. . .؟

وقالت لي النفس: إن فأس الحطاب لا تكون من أداة الطبيب، فخذ لكل شيء أداته، وكن جاهلاً أحياناً، ولكن مثل الجهل الذي يصنع لوجه الطفل بشاشته الدائمة فهذا الجهل هو أكبر علم الشعور الدقيق المرهف، ولولاه لهلك الأنبياء والحكماء والشعراء غماً وكمداً، ولكانوا في هذا الوجود، على هذه الأرض، بين هذه الحقائق - كالذي قيد وحبس في رهجٍ تثيره القدم والخف والحافر؛ لا يتنفس إلا الغبار يثار من حوله إلى أن يقضى عليه

اجهل جهلك يا صاحبي في هذه الشهوات الخسيسة؛ فأنها العلم الخبيث الذي يفسد الروح، واعرف كيف تقول لروحك الطفلة في ملائكيتها حين تساورك الشهوات:(هذا ليس لي؛ هذا لا ينبغي لي).

ص: 8

إن الروح الكبيرة هي في حقيقتها الطفل الملائكي.

وعِلمُ خسائس الحياة يجعل للإنسان في كل خسيسةٍ نفساً تتعلق بها، فيكون المسكين بين نفسين وثلاث وأربع، إلى ثلاثين وأربعين، كلهن يتنازعنه فيضيع بهذه الكثرة، ويصبح بعضه بلاءً على بعض، وتشغله الفضول، فيعود لها كالمزبلة لما أُلقى فيها، ويمحق في نفسه الطبيعية حس الفرح بجمال الطبيعة، كما يُمحق في المزبلة معنى النظافة ومعنى الحس بها.

هذه الأنفس الخيالية في هذا الإنسان المنكود، هي الأرواح التي ينفخُها في مصائبه، فتجعلها مصائب حية تعيش في وجوده وتعمل فيه أعمالها، ولولاها لماتت في نفسه مطامع كثيرة، فماتت له مصائب كثيرة.

انظر بالروح الشاعرة، تَرَ الكون كله في سمائه وأرضه انسجاماً واحداً ليس فيه إلا الجمال والسحر وفتنة الطرب، وانظر بالعقل العالم، فلن ترى في الكون كله إلا مواد علم الطبيعة والكيمياء.

ومدى الروح جمال الكون كله؛ ومدى العقل قطعة من حجر أو عظمة من حيوان، أو نسيجةٌ من نبات، أو فلذةٌ من معدن، وما أشبهها.

أجهل جهلك يا صاحبي؛ ففي كل حسنٍ غزلٌ، بشرط ألا تكون العاشق الطامع، وإلا أصبت في كل حسنٍ هماً ومشغلة. . .!

قلت لنفسي: إلى الآن لم أقل لك ذلك المعنى الذي كتمته عنك.

وقالت لي النفس: وإلى الآن لم أقل لك إلا جواب ذلك الذي كتمته عنى. . .؟

طنطا

مصطفى صادق الرافعي

ص: 9

‌3 - محمد بك المويلحي

الأستاذ عبد العزيز البشري

تتمة في نشأته ودراسته

لقد عرفت مما قصصنا عليك أن هذا الرجل وإن نشأ عظامياً بما لبيته

من الغني والحسب، فقد نشأ عصامياً بما حصل من العلم والأدب. اتكأ

على نفسه فأكب على الكتب دائرها ومجفوِّها. ولعل أكثر نظره إنما

كان في كتب التاريخ والسير، ولو قد وقع لك صدر من آثار أبيه

وآثاره لرأيت لهما في مواطن الاستشهاد فطنه عجيبة، إلى دقائق

دقيقة، مما يعلق بزوايا التاريخ أو بحواشيه، قل أن يفطن لها أكثر

القارئين، وقل أن يحفل بها أو يعلقها من يفطن إليها من الدارسين.

على أنها قد يكون لها في دواعي الكلام مقام عظيم، وكثيراً ما ترفعه

درجاتٍ على درجات.

كذلك اعتمد محمد في تحصيل العلم والآداب على الاتصال بصدور أهل الفضل يصاحبهم

ويلابسهم، ويلازم مجالسهم، ويشهد محاضراتهم ومقاولاتهم. كذلك داخل رجال الحكم وأصحاب السياسة في مصر وفي الآستانة فعرف أساليبهم، وأدرك مذاهبهم. ولم ينكسر على هذا وهذا؛ بل لقد صاحب كذلك أهل الظرف وأصحاب البدائه وشاركهم في أسمارهم، ودخل معهم في مناقلاتهم ومنادراتهم.

وعالج البيان من صدر شبابه، يصقل له أبوه القول، وبقرب له مصطفى اللفظ، ويأخذه بتجويد النسج، ويهديه إلى مضارب العلم. وسرعان ما نضج وأدرك، وجرى قلمه بالبيان حلواً متيناً نيراً، ووقع من فنون المعاني على أجلها وأكرمها. ونهج لنفسه أسلوباً خاصاً به إن تأثر فيه بأحد، فبالأسبقين من أعلام الكتاب فكان منه بذلك كله الأديب التام.

واحترف صنعة القلم، واشترك في تحرير جريدة المقطم بضع سنين على ما أضن. ولا

ص: 10

أحسبه قد شارك أباه في تحرير الصحف التي أخرجها في عهد المرحوم الخديوي إسماعيل، فتاريخها إن لم يكن أبعد من مولده، فهو أبعد في أرجح الظن، من حمله القلم والله أعلم!

وكان أبوه، رحمة الله عليهما، كثير الاختلاف إلى الآستانة مثوى الخلافة يومئذ، فكان يصحبه في بعض هذه الرحلات، وقلد إبراهيم بك في زمن السلطان عبد الحميد منصب المستشار لوزارة المعارف العثمانية، وأقام فيه بضع سنين، لعلها تسع إن صدقتني ذاكرتي؛ فقضى محمد في الآستانة هذه السنين.

ولما اعتزل المرحوم إسماعيل باشا إمارة مصر، وآثر المقام في إيطاليا دعا بإبراهيم بك ليؤنسه ويسامره، ويخدمه في بعض مساعيه عند السلطان. فحمل معه ولده وأقاما في نابولي في قصر إسماعيل بضع سنين. ومن هنا تدرك كيف حذق محمد لغة التليان.

ولقد طاف كثيراً ببلاد أوربا، إما موفداً من أبيه في بعض مساعيه، وإما متفرجاً متنزهاً. وله في وصف مؤتمر باريس سنة 1900 مقال بارع بديع، كان ينشر منجماً في مصباح الشرق وطاف كذلك بالبلاد السورية، وزار المدينة المنورة ووصف القبر الشريف أحسن وصف وأبدعه، ونشره في جريدة المؤيد.

واستقر المويلحيان أخيراً في مصر ما يبرحانها إلا للنزهة والرياضة. وأصدر صحيفة

(مصباح الشرق). وقد مرت بك صفتها في أول مقال. ثم طواها كما ذكرت لك، واعتكف في داره لا يلى عملاً عاماً: حتى عين في سنة 1910 رئيساً لقسم الإدارة والسكرتارية في ديوان (عموم) الأوقاف، وأزيل عن هذا المنصب بعد إذ قامت الحرب العظمى، وتبدلت الحال، لأسباب لا يحتمل ذكرها هذا المقال. فعاد إلى اعتكافه لا يتدلى إلى البلد إلا في قضاء حاجة، أو مساهرة من يستطيب مجالستهم من الصحاب، وظل كذلك إلى الشكاة التي مات فيها، عليه رحمة الله. وكانت وفاته في يوم 10 مارس سنة 1930.

أخلاق المويلحي وعاداته:

قبل أن أطرق هذا الباب من مسيرة الرجل يحسن بي أن أقرر أنه لم يكن على حظ من نطاقة اللسان؛ بل لقد كان يعتريه في بعض الحديث ما يشبه الحبسة؛ بل لقد تتعثر الكلمة في حلقه فلا يستطيع أن يلفظها إلا بمط عنقه، كأنما يمرئ لها مجرى الصوت.

ومن أهم ما يلفت النظر في خلاله أنه كان أقل خلق الله تأثراً بما يغمر المرء من متعارف

ص: 11

الناس ومصطلحهم في عاداتهم وتقاليدهم وسائر أسبابهم؛ بل لقد كان له نظره الخاص في الأشياء، وكان له حكمه الخاص عليها، وهو إنما يأخذ نفسه بما يصح عنده من هذه الأحكام، لا يبالي أحداً، ولا يتأثر، كما قلت، بأثر خارجي، ولو كان مما انعقد عليه إجماع الناس، وإذا كنت قد نعته (بالفيلسوف) فإنما أعنى هذه الصفة فيه. فإنني لم أكد أرى رجلاً لاءم كل الملاءمة بين رأيه في أسباب الحياة، وشدة تحريه أخذ النفس بأحكام هذا الرأي، كما بان لي من خلة هذا الرجل بحكم ملابستي له السنين الطوال.

ولقد كانت له آراء في كثير من الأشياء لقد تبدو غربيةً حتى يظن أن في طريقة تفكيره شيئاً من الشذوذ والانحراف. وما أُحيلُ هذا إلا على أنه لا يخف لمطاوعة الناس في كل ما يستوي من الإدراك للناس!

ثم لقد كان رجلاً يرجح عقله ذكاءه. وإنه ليحتاج في تفهُّم دقائق المعاني إلى شيء من المطاولة والتدبير. على أنها بعد هذا تتسق لذهنه مدركة ناضجة، لا كما تخطر لحداد الذكاء (خطرة البرق بدا ثم اضمحل)!

كذلك كان مما يلفت النظر في شأن المويلحي أنه شديد الإستيحاش من الناس، فلا تراه يستريح بالحديث إلى من لا يعرف منهم ولم يألف، ولقد يكون في مجلس يجمع الصفوة من خلانه، ومعهم رجل لا يعرفه، فإذا هو يفتر وينقبض حتى يكاد (وحش في المجلس). وعلى هذا لقد كان يكره، بالطبع، الدخول في زحمة الناس، والترائي للجماهير، وما إلى هذا من مقتضيات الظهور. ومن أجل صفات هذا الرجل حدة العزم، وقوة الصبر، وشدة الحمل على النفس. فما إن رأيته يوماً شاكياً ولا مظهراً للبرم بالحياة مهما كرثه تصرف الحياة. ولقد يكثر المال في يده فيبسطها، إلى ما يقرب من السرف في النفقة في حاجاته، وإصابة ما يحلو له من المتسع واللذائذ. ولقد يرق المال في يده، فيلزم داره الشهرين والثلاثة لا يبرحها أبداً، متجملاً في عامة شأنه بما عنده مهما يبلغ من القلة، لا يسأل أحداً عوناً ولا يطالع الصديق بحاجة.

كذلك كان من أجل صفاته الصدق في القول، ولقد عاشرته ما عاشرته، فما أذكر والذي نفسي بيده، أنني أحصيت عليه كذبة واحدة قط، ولا من ذلك النوع الذي يتورط فيه المرء في مصانعة الناس ومجاملتهم، فان ألحت التقاليد عليه في شيء من هذا سكت أو ورّى.

ص: 12

ولقد أذكر أنه قابل ولي الأمر الأسبق في يوم من أيام رمضان، فسأله أصائم أنت يا محمد بك؟ فأجاب من فوره (والله ما أكذبش عليك يا أفندينا)! فضحك ملء شدقيه من هذا الجواب.

ثم لقد كان، رحمه الله، شديد العناية بالنظافة في جميع ملابساته، متأنقاً عظيم التأنق في كل شيء، يحب الزهر ويكلف به، ويحسن تأليفه وتصنيفه، ولا يمس إلا أزكى العطر وأغلاه وكان شديد الاحتفال للطعام، مبالغاً في التأنق فيه. ولربما طالع طاهيه المرات العديدة في مطبخه، يتقدم إليه بأن يفعل بهذا اللون كذا وكذا، ويصنع بتلك الصفحة كيت وكيت، وهو بهذا حق خبير. فإذا قُرِّب إليه طعامه اجتمع له اجتماع شهوانٍ يلتذ به أيَّما التذاذ. على أنه مع هذا كان حسن الأكل، يلتزم في تناوله ومضغه وإزلاقه أعلى الآداب.

وكان رجلاً طباً، كأن طول تمرينه في النقد الكتابي قد طبعه على النقد في كل شيء، وأنضج ملكته فيه، فلا تراه يتخذ شيئاً في أي سبب من أسبابه إلا إذا فحص ونقد تخيّر، فما يكاد يخدع على أمر أبداً!

وهو، بعد، يحب النكتة البارعة ويحتفل لها. على أنه إذا وصل المجلس بينه وبين أصحابه ممن حذقوا هذا الفن ويرعوا فيه من أمثال المرحومين السيد محمد البابلي، ومحمد بك رشاد، ومحمد بك رأفت، لم يكن في الغالب هو المنشئ للنكتة والمبتكر لها. ولكنها ما تكاد تسقط من فم غيره حتى يتولاّها بالتخريج والمط والتوليد والتلوين؛ فما ينتهي أحد في ذاك منتهاه.

ومهما يكن من شيء فان هذا الرجل كان من أوسع الناس علماً بطباع المصريين وأخلاقهم وعاداتهم ومداخل أمورهم، على اختلاف طبقاتهم وتفاوت مراتبهم. فإذا تحدث في هذا الباب فحديث المتمكن الخبير. ومما ينبغي أن يذكر له، ويختّم به هذا الحديث، أنه رجل لم يجد الإلحاد ولا الزيغ إلى قلبه السبيل؛ بل لقد كان مؤمناً شديد الإيمان بالله وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر، والحمد لله رب العالمين. فان رأيت منه شيئاً من الانحراف في تخريج مسألة جزئية من مسائل الدين، فأحِل الأمر على مجرد الخطأ في الاجتهاد والتأويل. رحمه الله واسعة، وغفر لنا وله، وأحسن جزائه في دار الجزاء.

عبد العزيز البشري

ص: 13

‌صفحة من التاريخ

مأساة وقعة انبابة

للأستاذ محمد فريد أبو حديد

علة الشرق هاهي: حاكم يسطو ويعبث بالقطيع الذي هو حارسه، ويبطش به بطش الذئب إذا عدا في غيبة الحارس الأمين، فتجفل الشياه ذات اليمين وذات الشمال. ويتقدم من هنا أو من هناك كلب جريء يحاول أن يدفع الغائلة عن شياهه. فإذا هو يرى سيده الحارس هو الذي يبطش ويفتك. فيضع ذيله بين رجليه، ويكتم عواءه في حنجرته، ويجري إلى ناحية يكشر عن أنيابه منفرداً وهو متخاذل مهدود العزيمة. لو كان ذلك العادي ذئباً حقيقياً لما وضع الكلب المسكين ذيله بين رجليه، بل لرفع ذيله وعدا عامداً إلى رقبة ذلك الذئب وأنجى منه القطيع. فأما والذي يفتك بالقطيع هو حارسه، وأما والذي يبطش به هو الرجل الذي اعتاد أن يحمل هراوة ويسطو بها على رأسه يكاد يحطمه، فأمر آخر. وللكلب كل العذر إذا هو التمس العافية في مهرب من مهارب المرعى، أو في مكمن من مكامن الوادي. ولا لوم عليه إذا هو فعل. كان (خوارزم شاه) حاكم خوارزم (أو بلاد ما بين سيحون وجيحون) في أوائل القرن الثالث عشر المسيحي، حاكماً جباراً عاتياً. وكان لا يتردد عن مظلمة، ولا يحجم عن إيقاع. فكم مثلَّ بتجار من بلاده، وسجن وعذب ونهب. وكم مثل بتجار من بلاد جيرانه التتار، وسجن وعذب ونهب. ولم يقف أذاه عند هذا الحد، بل تعدى إلى الدولة التي هو حاكمها، ففت في عضدها وخضد شوكتها، وحطم عودها حتى صارت بلاده شعباً مشدوهاً وحكومة منحلة مضيعة.

ثم كانت الكائنة التي لابد منها في بلاد مثل بلاده، فأغارت جيوش جنكيز خان على أطرافها فعجمتها، فإذا هي رخوة جوفاء، فتقدمت فيها وأوغلت، فلم تجد من الطاغية إلا جباناً، ولم تر منه إلا حرصاً على نفسه وماله وأهله. فما هو إلا أن رأى الجد من أعدائه، وأحس بما كان لابد منه من ضعف ومن عجز، حتى ترك البلاد وهرب إلى مأمن ليلتجئ أليه، وبقى الناس حيارى بعد هربه يحاولون الدفاع وما لهم به من قوة، ويرجون النجاة وأنى لهم ذلك وقد اقتلع الطاغية جذور القوة من الشعب لتلين له قناته، فلانت قناة الشعب له حقيقة، ولم يستطع أن يقاوم طغيانه ما بقى للطغيان، حتى إذا ما أتاه العدو وألفى نفسه

ص: 15

عاجزاً، ترك ذلك الشعب المسكين وهو أعزل ذليل عاجز عن حماية نفسه. فكانت الكارثة، وذهب الطاغية وشعبه كلاهما ضحية لعواقب الطغيان.

هذه سُنة الطغاة أبداً، وهذه سنة الكون منذ نشأَ. وما كان للقرن الثامن عشر أن يحيد عن سنة الكون التي نكبت خوارزم في القرن الثالث عشر. فقد كانت مصر في القرن الثامن عشر تحت طاغيتين من طغاة البشر: مراد وإبراهيم، وكانا كسائر الطغاة قصيرة النظر مفلولي العزيمة، لا همة لهما إلا في صغائر الأمور والأنانية. ولسنا بسبيل وصف ما كان عليه حكمهما من الميل والاعوجاج، ولا ما كان عليه خلقهما من الشناعة والفظاعة، فقد يكون لهذا حديث آخر، وإنما نقصد من كلمتنا هذه وصف حال البلاد عندما أزمت الأزمة التي كان لا محيد عنها، ووقعت النكبة التي كان لابد منها من وراء حكمها.

جاء الفرنسيون إلى ثغر الإسكندرية، وأصبح الصباح وإذا أهل ذلك الثغر يرون الجنود يخالطونهم، ويترددون فيما بينهم. وكان الفرنسيون يحملون سلاحاً عجيباً غريباً، لا عهد لأهل الثغر به، فما كان عهدهم بالجنود إلا هؤلاء (الانكشارية) الذين يقيمون في القلاع بين ظهرانيهم يدخنون الشبقات الطوال، ويطولون شواربهم، ويعلون أصواتهم بالسباب، ويمدون أيديهم بالأذى، ولا يحملون من السلاح إلا تلك البنادق العتيقة الرثة التي أكلها الصدأ وعفي عليها القدم.

وتقدم الانكشارية نحو الجنود الفرنج ليدفعوهم عن الإسكندرية، فما هي إلا جولة قصيرة حتى رموا بما في أيديهم من الأسلحة العتيقة، وهرب من استطاع منهم الهرب إلى حيث يجد لنفسه مأمناً.

ورأى أهل الإسكندرية إن هؤلاء الجنود ليسوا سوى شوكة في جوانبهم في السلم، فإذا حل الحرب فهم لا يدفعون أذى ولا يرجى منهم غير الأذى. فوقفوا بعضهم يشجع البعض، وأحدهم يساعد الآخر، يحاولون أن يلتمسوا لأنفسهم الحماية بسواعدهم. فتحصنوا في المنازل وجعلوا في كل ركن متراساً، وفي كل حائط مرصداً. غير أنهم واحسرتاه أرادوا الدفاع ولم يستطيعوه، فإذا بالعدو يحصدهم حصداً، ويدك بيوتهم دكاً، ويجتاح متاريسهم اجتياحاً. فسلموا للعدو ونزلوا على حكمه، وصار الفرنسيون في ساعة أصحاب الإسكندرية.

ص: 16

ثم تقدم الجيش الفرنسي المنصور إلى طريق القاهرة، وسمع طاغيتا الدولة بسيره، فأجمعا أمرهما على أن يسير مراد ليلقاه، فيشتت شمله بصدمة من صدمات فرسانه الشجعان. وخرج من القاهرة منتفخ الأوداج كبراً، ممتلئ النفس إدلالاً وغروراً. وجعل الناس يُسائلون أنفسهم ماذا عساه يفعل، ويأبى هو إلا أن يرد بالازدراء على ذلك التساؤل قائلاً:(سنحطم ذلك الجيش المغير تحت سنابك خيولنا) وسار حتى بلغ شبراخيت أو قريباً منها، وهنالك لاحت له طلائع الجيش الفرنسي. ثم كان الاصطدام، ولطم لطمة خفيفة فلم يصبر عليها، بل هرب فزعاً، واضمحلت كبرياؤه، وذاب إدلاله كما يذوب الثلج في الحر، وأسرع راجعاً إلى العاصمة لعله يأتنس بمن هنالك من جنود زميله إبراهيم، أو ينتصر بمن هنالك من الشعب المصري الذي طالما أوقع به في طغيانه وجبروته. فلما بلغ مصر وقف ببقايا جيشه عند

(انبابه)، وأرسل إلى القاهرة يستنجد ويستمد، فنودي على أهل القاهرة بالنفير والتجهيز للدفاع. وهكذا لم يجد الطاغيتان أخيراً أن لهما غنى عن الشعب، وعلما بعد أن وقعت الواقعة أن الملجأ الأخير إنما يكون إلى هؤلاء العامة، وقد كانا في أيام السلم لا يقيمان لهم وزناً ولا

يفكران فيهم إلا من أجل أموال يبتزانها، أو من أجل كبريائهما يغذيانها، أو من أجل نفسيهما الطاغيتين يشبعان شهوة طغيانهما.

ولكن كان الشعب واحسرتاه قد قتله الطغيان: فأجاب دعوة النفير وجعل يستعد للدفاع، ولكنها إجابة المضني الذي أجهده الضنى، واستعداد النزيف قد خارت قواه من طول ما أريق من دمائه، فما يكاد يعتمد على رجليه حتى يخر إلى الأرض مهدوداً متهالكاً.

أغلق الناس (دكاكينهم) وهجروا أسواقهم، وخرجوا جميعاً إلى بولاق يجمع بعضهم من بعض ما عندهم من المال الضئيل، فأما من عنده فضلة من ماله فقد تطوع بالإنفاق على غيره، وبذل السلاح والطعام لمن يحتاج إليه. وهم في كل ذلك يتلفتون لعلهم يرون هؤلاء الألي كانوا بالأمس يشمخون بأنوفهم عتوا وكبراً، فلا يجدون إلا باحثاً منهم عن أمر نفسه، أو منهمكا في نقل متاعه وأمواله إلى حيث يكون آمناً عليها من النهب أو المصادرة.

وأبصر الناس ذلك فلم يثنهم عن التقدم نحو واجبهم وهم في غير عدة. لا بل ما هو أكثر

ص: 17

من ذلك، قد تقدموا وهم غير أكفاء ولا مدربين في أمور الحرب، إذ طالما قد وقف الطغاة بينهم وبين أداء حق الدفاع عن الوطن، خوفاً منهم أن يجعلوا لهم في أمر بلادهم رأياً، أو في حكم وطنهم شأناً. وتقدم شعب مصر نحو الجهاد الوطني، وأكثرهم أعزل لا علم له بالحرب، ولا بما تستلزمه من جهد أو من دربة. حتى لقد خرج بعضهم بالنبابيت، لا يحسبون ذلك إلا مغنياً عنهم في معمعان ذلك الجهاد.

ووقف الطغاة ينظرون ما صنعت أيديهم، ومع ذلك لم تنفطر قلوبهم أسى مما يشهدون، ولم يبخعوا نفوسهم على آثار ما اجترمت حكومتهم في البلاد. بل ظلوا وهم (حريصون على حياتهم وتنعمهم ورفاهيتهم، مختالون في ريشهم، مغترون بجمعهم. محترقون لشأن عدوهم، مرتبكون في رؤيتهم، مغمورون في غفلتهم).

وقدم جيش فرنسا بعد قليل إلى انبابة، فتقدمت إليه جماعة من العسكر ليصدم الجيش المغير مرة أخرى بهجمتها العنيفة. فدفعوا الخيل في صدر الجيش المقبل، ولكن لشد ما عجبوا إذ رأواذلك الجيش، لا يتمزق لصدمتهم، ولا ينصدع من هجمتهم، فعادوا مذعورين، وستة آلاف من الجيش الفرنسي تضرب في اقفائهم، حتى بلغوا متاريس مراد بك، فانضموا إليه وقد دب الرعب في قلوبهم.

سار الجيش الفرنسي المتقدم وراء المنهزمين، وانقسم على أسلوبه وطريقته، ثم دار على نظامه وخطته، فإذا متاريس مراد بك محصورة وسط نيران الجيش الفرنسي، وإذا النار تنصب على المصريين من خلف ومن قدام. وكان فزع، وكانت مذبحة، وما هي إلا ساعة أو أقل من ساعة، حتى انجلى الغبار وارتفع القتام عن حطام الجيش المصري، بعضها ملقى فوق اليابس، وبعضها يتخبط في ماء النهر، وفلول أسارى في أيدي العدو، والنقع الثائر من جهة الجنوب يخفي وراءه الطاغية (مراد)، وهو هارب نحو الجيزة حرصاً على حياته.

وسمع من في الجانب الشرق من النيل بضجة الحرب، ورأوا ما اندلع فيها من لهب، وما تردد فيها من قصف يشبه قصف الرعد، فلم تثبت نفوسهم بما لا عهد لهم به، وإن كانوا حريصين على أن يجاهدوا ويجالدوا، وخانهم الجلد وإن كانت نفوسهم تواقة إلى أن يثبتوا ويصبروا. والذعر متى استولى على النفس، لم يبق فيها محل لثبات ولا لصبر، ولم يترك

ص: 18

في القلب موضعاً لحفاظ ولا لحمية. فركبوا رءوسهم وهاموا على وجوههم، بعضهم ناج بنفسه لا يلوي على شيء، وبعضهم استطاع أن يثبت نفسه ليخرج بأهله وحرمه، وأقبل عليهم الليل، وهم فوضى مشردون مشدوهون، يحسبون كل ضجة صوت مطارد، ويخشون أن يكون كل متردد في الظلام عدواً مقبلا بسفك الدماء وهتك الأعراض. وهكذا شهدت أهرام مصر كيف تتم للطاغية جريمته بنكبة شاملة، لا يبقى فيها بر ولا فاجر، ولا يسلم منها الظالم ولا الضحية

محمد فريد أبو حديد

ص: 19

‌صحف مطوية من التاريخ الإسلامي

3 -

العرب في غاليس وسويسرا

للأستاذ محمد عبد الله عنان

تتمة البحث

أتينا فيما تقدم على أخبار الغزوات والمستعمرات المسلمة في غاليس ولومبارديا وسويسرا منذ أواخر القرن الثامن الميلادي حتى جلاء المسلمين نهائياً عن تلك الوهاد والسهول في أواخر القرن العاشر، ونحاول الآن أن نعرض طرفاً من العوامل والظروف التي أحاطت بتلك الغزوات، وطرفاً من الآثار التي خلفتها في البلاد والأمم التي كانت ميداناً لها.

ينكر بعض مؤرخي الغرب على تلك الفتوحات والغزوات العربية والإسلامية بوجه عام خاصة الاستقرار والإنشاء، ويقولون إنها كانت في الغالب حملات ناهبة تقوم على رغبة الكسب وتحصيل الغنائم، ولا ريب أن ظمأ المغنم، وشغفالمغامرة، وما إليها من لذة الاستكشاف والسيادة كانت من أهم العوامل التي قامت عليها هذه الغزوات؛ وتلك هي العوامل الخالدة التي تقوم عليها فتوحات الأمم منذ أقدم العصور؛ ولكن من الحق أيضاً أن نقول إن نزعة الجهاد لم تكن بعيدة عن تلك الغزوات، وإن كثيراً من أولئك المغامرين البواسل كانت تحفزهم الحماسة الدينية وفكرة الجهاد في سبيل الله؛ وقد كانت هذه العصابات الغازية المستعمرة تعمل في الغالب لحساب نفسها، ولكنها كانت تعمل ملحوظة بعطف الحكومات والأمم الإسلامية التي تنتمي إليها، وكانت تؤدي إلى تلك الحكومات خدمات جليلة بما كانت تقوم به من إزعاج الحكومات والأمم النصرانية وإضعاف جيوشها ومواردها، ومن المحقق أيضاً أن نزعة الاستقرار والإنشاء لم تكن بعيدة عن أذهان الغزاة، بل كان يحفزهم مثل ذلك الروح الاستعماري القوي الذي دفع الأمم الغربية في العصر الحديث إلى افتتاح الأمم المتأخرة واستعمارها؛ وقد استقروا بالفعلواستعمرواحيث مهدت لهم الكثرة والقوة سبل البقاء، كما فعلوا في أقريطش، حيث استقروا بها بعد افتتاحها، زهاء قرن وثلث القرن (827 - 961م) ونشروا بها الإسلام والحضارة الإسلامية؛ وكذلك استقروا مدى حين في بارى وفي تارانت من ثغور إيطاليا الجنوبية، وفي راجوازا

ص: 20

(رغوس) من ثغور الأدرياتيك الشرقية، وكان لهم على شواطئ قلورية (جنوب إيطاليا) مستعمرات زاهرة لبثت حلية هذه المياه عصراً. هذا ولسنا نتحدث عن دولة الإسلام في إسبانيا، ولا دولة الإسلام في صقلية، لأننا نخص بهذا الحديث غزوات الجماعات والعصبات المسلمة التي كانت تعمل لحساب نفسها مستقلة عن الحكومات.

ويبالغ المؤرخون الغربيون أيضاً في تصوير الآثار المخربة لتلك الغزوات الإسلامية، وما كانت تقترن به من ضروب العنف والسفك، ولكن العنف والقسوة والسفك والتخريب لم تكن خاصة بالغزوات الإسلامية، وإنما كانت من خواص العصر ذاته؛ ولم تكن الغزوات النصرانية للأراضي الإسلامية أقل عنفاً وسفكاً؛ ويكفي أن نشير هنا إلى الحملات الصليبية التي لبثت مدى عصور تحمل إلى الأمم الإسلامية أروع صنوف الدمار والسفك؛ بل يكفي أن نشير إلى ما كانت ترتكبه البعوث الاستعمارية الحديثة، والإنكليزية والفرنسية، في الدنيا الجديدة من صنوف القسوة والسفك، وما ترتكبه اليوم بعض الأمم الأوربية (المتمدنة) من الجرائم المروعة في أفريقية وآسياباسم المدينة والاستعمار.

والآن لنر ماذا خلفته الغزوات الإسلامية في هذه الأنحاء من الآثار المادية والاجتماعية. ومن المحقق أن هذه الآثار لا تكاد ترى اليوم، ولا يشعر بها إلا الباحث المنقب، ويلاحظ أولا أن الفتوحات العربية الأولى في غاليس وأكوتين لم يطل أمدها أكثر من نصف قرن، ولم تكن الحضارة الإسلامية في أسبانيا قد تكونت وتفتحت بعد. ثم كانت الغزوات اللاحقة التي فصلنا أخبارها، والتي كانت أقرب إلى المغامرات المؤقتة منها إلى الفتوح المستقرة، فلم تتح للغزاة فرص الاستقرار والعمل السلمي، لأنهم كانوا في مراكزهم النائية متفرقين يشغلون قبل كل شيء بالدفاع عن مراكزهم وأنفسهم. بيد أن هذه الغزوات المحلية المتقطعة، وهذه المستعمرات العربية النائية خلفت وراءها في الأراضي المفتوحة بعض الآثار الهامة المادية والمعنوية. ومن ذلك ما كشفته المباحث الأثرية منذ القرن الماضي على شواطئ خليج سان تروبيه من أطلال الحصون العربية القديمة التي كانت قائمة في تلك الأرض، والتي لا تزال قائمة في بعض آكام الألب الفرنسية والسويسرية، وهي تدل على ما كان للغزاة من الحذق والبراعة في

فن التحصينات والمنشآت الحربية؛ وهنالك في جنوب فرنسا، وفي بعض أنحاء إيطاليا

ص: 21

الشمالية والجنوبية، عدد كبير من الأبراج القائمة فوق الآكام والربى، يدل ظاهرها على أنها كانت تستعمل لأغراض حربية؛ ويرى البعض أن هذه الأبراج إنما هي آثار عربية من مخلفات الغزاة، كانت تبني لعقد حلقات الاتصال وتسهيل حركات الدفاع فيما بينهم؛ ومن المعروف أن العرب منذ فتوحاتهم الأولى في سبتمانيا (لا نجدوك) أعنى منذ أوائل القرن الثامن، كانوا ينشئون في الأراضي المفتوحة حصوناً وأبراجاً تسمى (بالرباط). بيد أن فريقاً آخر من الباحثين يرى بالعكس أن هذه الأبراج إنما كانت من إنشاء أبناء الأرض المفتوحة، أقاموها أيام اشتداد خطر الغزوات العربية ليستعينوا بها على رد الغزاة.

وقد ظفرت المباحث الأثرية أيضاً بالعثور على كثير من القطع الذهبية والفضية (المداليات) في أنحاء كثيرة من لا نجدوك وبروفانس، وثبت أنها من مخلفات العرب، وأنها كانت تستعمل للتعامل مكان النقود، ولكنها لا تحمل اسماً ولا تاريخاً، ولا يمكن تعيين عهد سكها، وإن كانت بذلك تدل على أنها ترجع إلى عصر الغزوات الأولى. ووجدت أيضاً في الأعوام الأخيرة في منطقة تور سيوفٌ ودروع قبل إنها عربية من مخلفات الواقعة الشهيرة التي نشبت في تلك السهول بين العرب والفرنج (بلاط الشهداء)

ومن الحقائق التي لاشك فيها أثر العرب في الزراعة؛ فقد رأينا أن كثيراً من الغزاة تخلفوا عن إخوانهم واستقروا في تلك الأرض وزرعوها. ومن المعروف أن العرب حولوا وديان إسبانيا المجدبة إلى حدائق وغياض زاهرة، ونقلوا إليها مختلف الغراس من الشرق، وأنشئوا بها القناطر العظيمة؛ وقد حمل هؤلاء الغزاة المغامرون إلى جنوب فرنسا كثيراً من خبرتهم الزراعية، ونقلوا لسكان تلك الأنحاء؛ ويقال إن (القمح الأسمر) الذي هو الآن من أهم محاصيل فرنسا إنما هو من مخلفات العرب، وهم الذين حملوا بذوره وكانوا أول من زرعوه بفرنسا؛ والمرجح أيضاً أنهم هم الذين حملوا فسائل النخيل من إسبانيا وأفريقية إلى شواطئ الريفييرا. ومن آثارهم الصناعية، استخراج (القطران) الذي تطلى به قاع السفن ويحميها من العطب، فهم الذين علموه لأهل بروفانس، وما زال عندهم من الصناعات الذائعة، ومازال اسمه الفرنسي ينم عن أصله العربي.

ومن الحقائق الثابتة أيضاً فضل العرب في تحسين نسل الخيل في تلك الأنحاء، ومازال في جنوب فرنسا جهات تشتهر بجمال خيولها ونبل أرومتها، ولا سيما في (كاماراج)، وفي

ص: 22

مقاطعة (لاند) من أعمال غسقونية؛ ومن المحقق أن هذه الخيول الأصيلة الجميلة إنما هي من سلالة الخيول العربية التي أحضرها الفرسان المسلمون معهم إلى تلك الأنحاء. ولا ننسى ما للدم العربي من أثر في بعض أنحاء جنوب فرنسا، فقد رأينا العرب أنشئوا بعض المستعمرات الزراعية وتزوجوا من نساء تلك الأرض وتناسلوا فيها؛ ولما تغلب عليهم النصارى، وأخرجوا نهائياً من تلك الأرض، تنصر كثير منهم ممن أسروا، وأرغموا على افتداء حياتهم وأسرهم بالتنصر؛ وقد لبث أبناء هؤلاء العرب المنتصرين عصوراً في تلك البلاد، يشتغلون بالزراعة والتجارة، حتى جرفهم تيار التطور واندمجوا أخيراً في المجتمع النصراني، واختفت كل آثارهم وخواصهم العربية.، وما زالت ثمة في بروفانس في وادي الرون على مقربة من ليون، كذلك في بيجور على مقربة من جبال البرنيه، جماعات فرنسية تتكلم لهجات غريبة، ولها أخلاق وتقاليد خاصة، ويظن البعض أنها ترجع إلى أصل عربي؛ ولكن البحث يرجح أنها ترجع إلى بعض قبائل النور الذين استقروا في تلك الأنحاء منذ عصور.

هذا، وأما عن الآثار الاجتماعية، فانه يلاحظ في بعض جهات بروفانس التي استقر فيها العرب مدى حين، أن لسكانها بعض التقاليد الخاصة، ومن ذلك أنواع معينة من الرقص، يظن أنها ترجع إلى أصل عربي. أن أعظم آثار العرب الاجتماعية في جنوب فرنسا، يبدو في تطور الحركة الفكرية في العصور الوسطى، فقد كان للعرب أثر عظيم في تكوين النزعة الشعرية في الجنوب، وظهر أثر هذه النزعة واضحاً في الحركة الأدبية التي تعرف بحركة التروبادور والتي ظهرت في جنوب فرنسا وفي شمال أسبانيا وشمال إيطاليا منذ القرن الحادي عشر، وقوامها القريض الحربي والغنائي، وزعماؤها فرسان شعراء وفنانون. أضف إلى ذلك أن تأثير الحضارة الإسلامية في سير حضارة أوربا الجنوبية لم يقف عند هذا العصر ولا عند هذه الحدود، فقد استمرت العلائق بعد ذلك طويلاً بين مسلمي الأندلس، والأمم النصرانية المجاورة، وكان للحضارة الأندلسية في تطورها الاجتماعي أعظم الآثار.

ولقد لبثت ذكرى العرب وذكرى الغزوات العربية في فرنسا تثير مدى القرن الثامن في نفوس النصارى أعظم ضروب السخط والروع، وتقدمها إلينا الرواية الكنسية المعاصرة في

ص: 23

أشنع الصور؛ فلما ظهرت عصابات النورمان والمجر، وغزت فرنسا من الشرق والغرب، رأى النصارى من عيثهم وسفكهم أهوالاً لا تذكر بجانبها أهوال الغزوات الإسلامية، وارتفعت ذكرى العرب، وأضحت تقترن بكل ما هو عظيم ضخم، يقول رينو: (إن ذكرى الغزوات النورمانية والمجرية لا توجد إلا في الكتب. ولكن ما السر في أن ذكرى العرب مازالت ماثلة في جميع الأذهان؟ لقد ظهر العرب في فرنسا قبل النورمان والمجر، واستطاعت إقامتهم بها بعد الغزوات النورمانية والمجرية. وإن غزوات العرب الأولى ليطبعها طابع من العظمة، حتى أننا لا نستطيع أن نتلو أخبارها دون تأثر. ذلك أن العرب، دونالنورمان والمجر، ساروا مدى آماد في طليعة الحضارة؛ ثم انهم لبثوا بعد أن غادروا أرضنا، موضع الروع في شواطئنا، وأخيراً لأن المعارك التي اضطلعوا بها أيام الصلبين في إسبانيا وأفريقية وآسيا، أسبغت على أسمهم بهاء جديداً. بيد أن هذه العوامل كلها قد لا تكفي لتعليل المكانة العظيمة التييتبوأها الاسم العربي في أوربا وفي أذهان المجتمع الأوربي. إما السبب الحقيقي لهذه الظاهرة المدهشة، فهو الأثر الذي بثه قصص الفروسية في العصور الوسطى، وهو أثر لا يزال ملموساً إلى يومنا.

محمد عبد الله عنان المحامي

ص: 24

‌في يوم ماطر

للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

كانت السماء مطبقة على الأرض، والمطر يسح حثيثاً متداركاً يكاد من شدته يقشر القطران، والماء يسيل على جانبيالطريق ويتدافع ويرتفع له مثل الموج، وكان أمام نافذتي بوابة عريضة وقفت على عتبتها فتاة تتقي المطر في ظُلتها. وكانتترتدي ثوباً مشرقاً بين الحمرة والبياض كأنما استعارت صبغته المزدوجة من الشمس الغاربة والقمر الطالع. وكانت فيه كأنها مِقطَعٌ أو مثال فصل الثوب على قده لعرضه على العيون، فمحاسنها كلها مجلوّة، وخطوط قوامها اللين مرسومة، وقد أجتمع طرفان منه على سرتها وانعقد على صفة وردة كبيرة، وتدلتعلى مدار خصرها الهضيم ذلاذل تكاد تمس قدميها الدقيقتين؛ أما صدرها فأطاف به شيء لا أدري ما صفته كان ثديها الناهدان يبدوان من تحته كأنهما في كأسين، أو كأنهما موجتان متناوحتان حجزتا وحيل بينهما وبين التسرب والانسياب. ولم يكن أفتن من منظرها وهي واقفة ترقب انقطاع المطر، وكان معي في البيت صاحب يحمل مظلة جميلة غالية، لا تفارق يده في صيف شتاء، ولا ليل ولا نهار، فكأنها قطعة منه، أو امتداد لذراعها، فغافلته وحملتها، ومضيت بها إلى هذه الفتاةووضعتها في يمينها، وارتددت عنها بلا كلام. فلما أفاقت من دهشتها كنت قد غبت عن عينها. وآن لصاحبي أن يخرج، فنظر فلم يجد المظلة، فتلفت هنا وهنا ثم سأل فقلت:(أترى هذه البوابة؟ كانت هنا فتاة جميلة تخشى على نفسها وعلى ثيابها من المطر فلم يسعني إلا أنجدها. . .). فسأل: (أعطيتها المـ. . . .

قلت: (ألم أقل لك إنك ذكي؟ بل أنت أيضاً ذو مروءة ونجدة وشهامة).

قال: (ولكن مظلتي؟ كيف أخرج الآن. . . . وفي هذا المطر أيضاً؟).

قلت: (إنها بلا شك تشكر لك هذا الصنيع الجميل، فأنت سعيد بذلك، فليتني كنت صاحبها - أعني المظلة!).

قال: (ولكن ماذا أصنع؟ كيف أخرج؟ إن هذا شيء. .). قلت: (يا صاحبي. إن الإيثار حميد، ولأثرة ذميمة).

فقال: (تعطي مظلتي لفتاة؟ أما إن هذا لغريب!).

ص: 25

قلت: (يا صاحبي. لو رأيتها لما قلت (فتاة) بهذه اللهجة التي أنكرها ولا أرضى عنها. إنها فتاة رائعة. وإني لرجل متزن الأعصاب في العادة، ولكني أرجو أن تثق أنها فتنتني. وإني لآسف على حرمانك هذه المظلة الثمينة - أو التي كانت ثمينة منذ أربع سنوات - ولتكن عليك أن تتعزى بأن التي تحملها الآن أجمل فتاة على ظهر هذه الأرض، وأنك أنت سبب سعادتها في هذه اللحظة، وأن اسمك سيخلد في التاريخ، وأنى لو كنت شاعراً لقلت أبياتاً أخلد فيها صنيعك الحسن هذا، وإن أبنائي سيحفون بي كل ليلة ويطلبون أن أقص عليهم كيف فقد صاحبي العظيم مظلته الغالية. . .).

ولم أتم خطبتي لأنه خرج مغضباً، فأمسكت وحمدت الله!

وحمل إلى البريد رسالة غريبة هذا نصها بعد الديباجة المألوفة: (إن ما أقرأه لك يحملني على الثقة بأنك لن تخيب رجائي فيك. فهل لك أن تقابلني أمام باب (جروبي) الساعة السابعة من مساء اليوم؟ ولا أجرؤ أن أبدو لك حتى تبدو لي، فإذا صدق ظني فيك فلعلك تتفضل بأن تضع في عروتك زهرة من زهور (الأرواله) البيضاء، لأعرفك بها، وزيادة في الحيطة أرجو أن تقول لي (لا مطر غداً) فأقول لك (لم ولماذا وكيف يكون ذلك) فلا تنس).

ولم يكن على الرسالة توقيع، فلم أشك في أنها فتاة مصرية لم تألف أن تدخل (جروبي) وتجلس في حديقته، ولكنها تسمع باسمه فهي تقف عند بابه، فما يعقل أن يكون كل هذا الحرص والحذر من رجل، واطمأنت نفسي بعد أن خلصت إلى هذه النتيجة، وشكرت الحظ الذي أبعد عني صاحبي قبل أن تردني هذه الرسالة، بدقائق، ولو أنه كان معي لأطلعته عليها بلا أدنى ريب، ولكان المحقق أن يسبقني إلى باب (جروبي) فيطردني بوجوده، عنه. واشتريت الزهرة المطلوبة، ووضعتها في العروة، وأخرجت منديلاً وظلت أرفع يدي به وهو منشور إلى أنفي لأحجب هذه الزهرة عن العيون، فقد كانت كبيرة وأنا أخجل أن أضع على صدري زهراً ولو كان في حجم الحمصة، ووقفت بباب جروبي أتأمل الداخلين والداخلات، والخارجين والخارجات، وأشاور نفسي وأسألها كيف أقدم على خطاب من لا أعرف؟

ولم يكن ثم بد من الإقدام، فما اشتريت الزهرة البيضاء الكبيرة وغرستها فوق حبة قلبي

ص: 26

لأعرض نفسي على الأنظار، فتوكلت على الله، على أنى - كما لا أحتاج أن أقول - أهملت العجائز وتركتهن يرحن ويجئن كما يشأن دون أن أكلف نفسي حتى النظر إليهن، وأقبلت فتاة رشيقة تتلفت كالمترددة فتمنيت أن تكون هي ودنوت منها وقلت:

(معذرة. واغتفري لي تطفلي، لا مطر غداً!).

فنظرت إلى باسمة وقالت:

(باردون؟).

فقلت لنفسي: (ليست بها. وقد غلطت والله يا ولد، فاخرج من هذا المأزق بسرعة) فتبالهت وسألتها بغير العربية:

(إنما كنت أسأل هل هذا جروبي؟).

فقالت وهي تبتسم: (طبعاً. . . الاسم مكتوب. . .)

فبلعت ريقي وشكرتها وارتددت عنها.

وأقبلت أُخرى أعذب منها - بلا شك - وأظرف على التحقيق، وأولى بأن ترؤف بي إذا غلطت فيها، وكانت تتأمل إعلانات وصوراً لشركة بواخر هناك، فدعوت الله أن يجعلها من نصيبي، وأقبلت بلا تمهيد:

(مطر غداً)

فقالت بعربية محطمة، استحى أن أثبتها بنصها:(شيء غريب! متأكد؟)

قلت: (ثقي بي. أني نشرة جوية متنقلة. . . مرصد إنساني متجول. . .)

قالت: (ظاهر. . أشكرك. . .)

قلت: (هذا واجبي. . . فلا أستحق شكراً)

قالت: (إنك تؤديه بذمة. . لقد رأيتك الآن تخاطب سيدة هناك. . . وهذه أخرى آتية، فاسمح لي ألا أحول بينك وبين عملك)

قلت: (لم يكذب ظني)

قالت: (كيف؟)

قلت: (كنت موقناً أنك أظرف من تلك التي هزئت وأخجلتني)

فسألتني: (هل أنت على موعد مع مجهولة؟)

ص: 27

قلت: (أصبت. . .)

قالت: (مسكين!. . لعلها هذه) وأشارت فالتفت فإذا فتاتي - أعني الفتاة التي تفضلت عليها بمظلة صاحبي، فقلت:

(اخفيني عنها لحظة حتى تمر. . . تظاهري بأنك صديقتي دقيقة واحدة. . أرجو)

فضحكت وقالت: (لماذا تخشاها؟ هل خنت لها عهداً؟ لا بأس. تعال)

ووضعت ذراعها في ذراعي وهممنا بأن نسير، وإذا بفتاتي تصيح ورائي:

(من فضلك. . . من فضلك. . . ألا تذكرني. . إني مدينة لك بالشكر، لقد تركتني فجأة كما ظهرت لي فجأة، فلم أدر أين اختفيت، فهل تسمح لي باسمك وعنوانك لأعيد إليك المظلة؟)

فقلت: (هذا شيء تافه. . . لا تفكري فيه)

قالت (ولكني لا أستطيع أن أبقيها عندي وأحرمك)

قلت: (ثقي أنك لا تحرميني شيئاً فأنها ليست لي، بل لصاحب)

قالت: (ما أرقه!)

قلت: (إنه على نقيض ذلك. . أبعد ما يكون عن الرقة)

قالت: (هذا أدعى لردها إليه)

قلت: (لقد انتهى الأمر. سرقت مظلته وأعطيتك إياها، وعرف ما كان، وغضب وشال نفسه وحطها، ولم يبق هناك شيء آخر يمكنه أن يصنعه، فلا تكترثي له ولا تفكري فيه)

قالت بعطف: (مسكين!)

قلت: (لقد كنت أنا المسكين، وكانت هذه المظلة تفقأ عيني كلما رأيتها، فالآن أمنت، وفي وسمي أن ألقاه وأنا مطمئن، من غير أن يؤذي بصري منظر المظلة)

قالت وهي تضحك: (على كل حال لابد من ردها إليه ولك وله الشكر)

فكتبت لها الاسم والعنوان، ولم يفتني أن أحذرها من مقابلته، ولم يبق بعد ذلك ما يقال، فهممت بتوديعها وإذا برجل همٍ هرم يدنو مني وينظر إلى الزهرة التي على صدري ثم يقول وهو يفرك كفيه:

(هل سمعتك تقول لا مطر غداً!)

فحدقت فيه متردداً، ثم رفعت يدي إلى الزهرة فأخرجتها من العروة ورميتها على الأرض،

ص: 28

فلم ينهزم وقال:

(لم ولماذا وكيف يكون ذلك؟). فكاد عقلي يطير، فتناولت ذراعي الفتاتين وأوليت الرجل ظهري ومضيت بهما عنه، وهما ذاهلتان تنظران إلي ولا تفهمان، غير أن هذا لم يمنع الرجل أن يمشي ورائي وهو يصيح:

(لم ولماذا وكيف يكون ذلك؟)

فقلت لفتاتي: (لم يبق إلا أن نجري، فهل تقدران على ذلك؟)

وجرينا مسافة ونحن نضحك، فلما أمنا أن يدركنا وقفنا وقصصت عليهما الخبر، فسألتني فتاة المظلة:

(ولكن ماذا يريد منك؟)

قلت: (لا أعرف، ولا أحب أن أعرف. .)

قالت: (ألا يحسن أن تتبين؟)

قلت: (أتبين؟ أليس حسبي ما منيت به من خيبة الأمل. ومع ذلك قد عوضني الله خيراً. . . هيا بنا لنستريح. . .)

إبراهيم عبد القادر المازني

ص: 29

‌بين فن التاريخ وفن الحرب

10 -

خالد بن الوليد في حروب الردة

للفريق طه باشا الهاشمي

رئيس أركان الجيش العراقي

(لقد شهدت مائة زحف أو زهاءها وما في بدني شبر إلا وفيه ضربة أو طعنة، وهاأنا أموت على فراشي كما يموت البعير! فلا نامت أعين الجبناء)

خالد بن الوليد

خطة خالد

لاشك في أن خالداً كان يقدر حرج الموقف في قتاله أهل اليمامة. وكان يعلم أنه مقدم على أمر يتوقف عليه نجاح الإسلام أو خيبته. فالبلاد وعرة، والقرى فيها منيعة، والناس ملتفتون حول داعيهم، معتصمون بحيهم، وعددهم كثير، وسلاحهم يضرب به المثل

لذلك لم يقدم على الحركة قبل أن تصله النجدة الموفدة من المدينة. وأراد أن يمهد سبيل الظفر بالتدابير السياسية وذلك:

أولاً - باستمالة التميميين في اليمامة إلى جانبه

ثانياً - بتفريق رؤساء سجاح عن مسيلمة

وثالثاً - باستخدام المسلمين من بني حنيفة للمشاغبة على مسيلمة

والأخبار تدل على أنه أرسل الكتب إلى التميميين ليتركوا جانب مسيلمة فوفق إلى ذلك، كما أنه ساق قوة خيالة لمقاتلة رؤساء سجاح الثلاثة وهم عقة وهذيل وزياد، ففرق رجالهم واضطرهم إلى العودة إلى حي بني تغلب في الشمال. وأن المسلمين من بني حنيفة ثاروا على مسيلمة وشاغبوا عليه، ولعل عكرمة بن أبي جهل أراد أن يستفيد من المشاغبين فقاتل رجال مسيلمة فلم ينتصر، وكانت الأخبار تأتي خالداً وتنبئه بما في اليمامة

أما خطته العسكرية فكانت ترمي إلى الزحف إلى اليمامة على أقصر طريق، والهجوم على جيش مسيلمة أينما لقيه

عاد خالد من المدينة إلى البطاح في أوائل السنة الثانية عشرة الهجرية، وكان الجيش

ص: 30

مجتمعاً فيها ينتظر أمر الحركة. وقضى خالد مدة قصيرة في البطاح يترقب ورود المدد من المدينة، فكانت القبائل تمد جيشه برجاله، فالتحق به رجال من بني أسد وتميم وبني عامر، وكانت الأخبار ترد إليه من اليمامة منبئة بأحوالها. وآخر من وصل إليه ابن عمير اليشكري فأطلع خالداً على جلية الأمر في اليمامة.

ساحة القتال

اختار مسليمة موقع عقرباء لجيشه، وهذا الموقع على الحدود الفاصلة بين اليمامة وبلاد بني تميم، وهو مفتاح لموضع من أخطر المواضع السوقية بين مقاطعة العارض ومرتفعات المحمل وجبل طويق

وبالقرب من هذا الموقع تقوم قرية جبيلة الحديثة، وقد بحث فيه (فلبي) في كتابه الآنف الذكر قال:(وإذا تأملت الوادي (أي وادي حنيفة) عند جبيلة - وجبيلة هذه أحد منازل بني حنيفة من قديم الزمان، وإليهم نسب الوادي وفي سمائه أرتفع لواء صيتهم فسمي بوادي حنيفة - لألفيته وهدة من الأرض قريبة القرار، واسعة الجوانب، تكتنفها المهابط المطمئنة الجرداء من كل حدب وصوب، وللوادي عقيق يضيق شيئاً فشيئاً حتى تراه قد غاض في بطن مجرى نشزت على ضفافه الطنوف الشواخص على النحو المتقدم وصفه. فالقرية أذن مفتاح لموضع من أخطر المواضع السوقية وأعظمها شأناً، واقعة بين مساكن العارض ومرتفعات المحمل وطويق. وقيل في هذا المكان وقعت معركة فاصلة من معارك التاريخ الإسلامي، دارت فيها رحى القتال بين أصحاب النبي وبعض المؤمنين من رجاله، وبين مسيلمة نبي حريملة الكذاب وقواته، وكان النصر فيها حليف المسلمين بعد أن خسروا آنئذ في سبيل دينهم القويم نحو سبعين من نخبة الصحابة، وهم الرجال الخلص الذين اصطفاهم النبي فأودع في صدورهم تعاليمه الشفوية. .) إلى أن قال: (لا تزال قبور الصحابة الذين استشهدوا في تلك المعركة ظاهرة إلى يومنا هذا، مهجورة في منبطح من غرين نهر عميق صفا ماؤه واقع على مقربة من القرية. وقد رأيت القبور أيام زيارتي لها ومروري بها وقد بليت وتحاتت بتأثير الزوابع وفعل الأعاصير، وقد نجم عن ذلك أن تفتحت جوانب الكثير منها، فظهرت فيها ثُغر فاغرة أفواهها نحو الوادي. ولم يزد ارتفاع الرسوب الغريني على ثلاث أو أربع أقدام فوق القبور. فلنا إذن من ذلك أحد الأمرين: إما أن الغرين قد رسب من

ص: 31

قبل في المكان الموجود الآن فيه وبات مستواه على ما هو عليه بطبيعة الحال قبل معركة جبيلة. ولا غرو في أن الأمر الثاني هو الافتراض المحتمل وقوعه).

وصف الموضع:

يظهر من مطالعة الخريطة أن المحل الذي اختاره مسيلمة لقبول المعركة واقع في جنوبي العقدة التي تتشعب منها الجبال وتمتد في جهات مختلفة وتشرف على رؤوس الوديان المتدفقة من أرجائها والتي منها ما يجري نحو الشمال ويغذي وادي الخفس، ومنها ما يجري نحو الشرق ويتغذى وادي حنيفة، ومنها ما يجري نحو الغرب ويغذى بطين الحور. وقد اجتمعت قريتا عينة وسدوس وجبيلة حول هذه العقدة. وتعلو في وسطها رابيتا الأبكين: الرابية الغربية الشرقية، والغربية أعلى من الشرقية إذ يبلغ ارتفاعها عن السطح البحر (3200) قدم، وعن وادي حنيفة الذي يجري في جنوبها (200) قدم. وفي شرقي الأبكين جبل رامة يمتد من الغرب

إلى الشرق، وهذا الجبل مع جبل الأبكين يفصلان بين شعيب سدوس ووادي حنيفة. فالشعيب في الشمال ينبع من غربي سدوس ويجري نحو الشرق فيترك على ضفافه سدوس وحزوة، ويلتقي بشعاب كثيرة أخرى تصب جميعاً في وادي الخفس. والوادي الثاني يجري في الجنوب. وإلى الشرق جبيلة يرتفع جبل صلبوخ. فكأن الجبال الثلاثة - الأبكين ورامة وصلبوخا - متصل بعضها ببعض ومحيطة بموضع جبيلة كالقوس

ويصف المستر فلبي المنظر قرب الأبكين فيقول: (وقفنا نتأمل بطحاء طويق الفسيحة الأرجاء، فألفينا مشهدها رائعاً مهيباً، وتتخللها الهضاب المتموجة والأودية السحيقة. وإنا لكذلك إذ لاحت مني التفاتة إلى الشمال فشاهدت على مسافة ميلين من بسطة أرضاً انطوي تحتها واد فسيح تحدرت جوانبه وانقطعت مجامعه عند حوض الخفس الواقعة فيه واحة سدوس - تلك الواحة الغضة الرائعة المشهورة بجمالها الفتان - كنا نراها ونرى فيها كل صغيرة وكبيرة، ونحن واقفون في مكاننا كأنها أمامنا وعلى مقربة منا، ولكنها ويا للأسف لم تكن على استقامتنا، فشق عليَّ زيارتها لبعد طريقنا عنها. وقد شاهدت بساتين النخيل ممتدة على طوار الينبوع الدافق مسافة ميل تقريباً في عرض قدرت معدله بين 200 و300 ياردة) إلى أن نقول: (ورأيت على مدى البصر إلى الجهة الشمالية الشرقية نجد مرتفعات

ص: 32

العرمة، وقد بدت بلون أدكن، ونظرت إلى الشمال الغربي وادي حريملة، وهو فرع آخر من فروع حوض الخفس، وقد انفصل عن فرع سدوس بجرف متسع المتون مرتفعها، ورأيت في الجهة الجنوبية الغربية صدع جرف طويق فبدت من موضعه عقبة الحيسية. وإلى الجنوب وراء خط وادي الحيسية، وجرف الملاقي تمتد ظهور طويق العريضة في الفضاء الأغبس الفسيح)

وعندما يبحث في ثنية اليمامة يقول: (وبعد مسير سبعة أميال (على موازاة الأبكين) وصلنا إلى عقبة الحيسية المعتبرة منبع وادي حنيفة، فوجدنا أشجار السنط منتشرة حولها، وكان ارتفاعنا عن مستوى سطح البحر في هذه البقعة نحو3200 قدم، وكانت المسافة بيننا وبين البطين (بطين الحور) نحو46 ميلاً. وقد استطعت أن أشاهد من هذا المكان وادي حنيفة بأسره آخذاً إلى الجنوب حتى اليمامة، وهذا بون شاسع يربو طوله على 100 ميل، وتأخذ فيه الأرض في الانخفاض تدريجاً إلى أن يبلغ 1900 قدم. ولم أجد عند الصبب من المناظر الطبيعة ما يحملني منها على الإطناب في الوصف، وشاهدنا هناك الأرض أمامنا وقد انحدرت بهيئة مثلث فسيح الأرجاء، ضلعاه لهبان منفرجان من جرف طويق ومنته طرفاهما بأنفين بارزين أحدهما خشم خرشة في الجنوب، والآخر خشم الحيسية في الشمال، وتمتد بين هذين الأنفين قاعدة المثلث بشكل جناح ناشز من الحجارة الرملية الجرداء المغراء يسمونه المرقى في جانبه الأبعد يهبط شديد الاندحار ينتهي إلى وادي البطن. أما صدر شعيب هشة فهو في منبعه يتغلغل صبباً بين جدران منهره متمعجاً في عقيق ضيق، ثم يأخذ بعد حين في الاتساع على متون المنحدرات حتى إذا بلغ الحاشية الغربية من جناح المرقى ينفرج في بطن المحلة الخصبة ثم ينثني فيجد له مثيلاً في خلال الحواجز الصخرية فيتسرب منها إلى وادي البطين. وعلى نحو أربعة أميال من منبع وادي حنيفة نجد ما بقى من آثار ديار الهشة، وهي لا تتعدى بعض بساتين النخيل المتفرقة وثلاث آبار دائمة المياه، اثنتان منها مطويتان بالحجارة غزيرتا الماء دائمة الورد، يبلغ عمق كل بئر منها نحو قامتين، ويظهر لون الماء عند استقائه من البئر أطحل بتأثير الطبقة المتحجرة المستبطنة قرار البئر، وإذا ترك الماء وشأنه قليلاً ركد فيه الغرين فصفا وراق. وطعمه لذيذ عذب جداً. وينفرد آل قحطان بالاستفادة من هذه البئر) إلى أن يقول: (وليس في عقبة

ص: 33

الحيسية صخور حرشاء تقف عثرة في سبيل الإبل. وربما كانت أسهل عقبات طويق مسلكاً، لذا فضلت على غيرها باتخاذها طريقاً للحج، وهو الطريق الذي سلكناه لما غادرنا الرياض من حيث ينحدر هذا الطريق إلى الضرمة).

الحركة من البطاح إلى اليمامة:

وبعد أن اجتمعت قوات المسلمين في البطاح واطلع خالد على موقف الحنفيين قرر التقدم تحو مسيلمة. وكان قبل ذلك قد رتب جيشه، فكانت نواته على ما نعلم الأنصار والمهاجرين والقبائل الضاربة بين المدينة ومكة. فقسم الجيش إلى فرق: فرقة من الأنصار، وفرقة من المهاجرين، وألفت كل قبيلة فرقة. وناط بأبي حذيفة وزيد ابن الخطاب قيادة المهاجرين، وبثابت بن قيس وبر بن مالك قيادة الأنصار. أما القبائل فكانت بقيادة رؤسائها.

ويروي أبو بشر الدولابي في كتاب التاريخ أن معركة عقرباء وقعت في شهر ربيع الأول للسنة الثانية عشر للهجرية، وأول هذا الشهر يقابل أوائل شهر أيار 633 ميلادية. وتبلغ المسافة بين البطاح وعقرباء زهاء 350 كيلومتراً، أي مسيرة عشرة أيام بجيش كبير على أقل تقدير. فيظهر من ذلك أن خالداً ترك البطاح في نهاية شهر نيسان أو في أوائل شهر أيار. فكانت خطة خالد ترمي إلى الزحف تواً إلى اليمامة، على أن يهجم على جيش مسيلمة أينما لقيه. وكان يعلم أن مسيلمة متأهب للمقابلة على حدود بلاده. لذلك قدّم أمامه مقدمة من بني طئ بقيادة عدي بن حاتم، وعين لها فرات بن حيان دليلاً، وسلك طريق الوشم نحو الشقرة. وأرسل إلى الأمام مكنف بن زيد الخيل وأخاه ليتجسسا الأخبار

ولم يشأ أن يترك خط الانسحاب معرضاً للخطر، لذلك أقام سليطاً مع قوة في البطاح ليكون ردءاً له من القبائل. وتزعم الرواية أن أبا بكر أمد خالداً بسليط ليكون ردءاً له لئلا يأتيه أحد من ظهره. أما مسيلمة فلما علم بمسير خالد نحوه تقدم بجيشه من اليمامة نحو الشمال وعسكر في عقرباء بجميع قواته منتظراً ورود جيش المسلمين متأهباً للمقاومة الشديدة. وكانت أخبار انتصار المسلمين على أهل الردة قد سبقت جيش المسلمين فألقت الرعب في قلوب الحنفيين. وتقدم جيش المسلمين على الطريق المذكور وكانت المقدمة تسبقه وتستطلع الأحوال.

يتبع

ص: 34

طه الهاشمي

ص: 35

‌2 - محاولات أفلاطون

معذرة سقراط

ترجمة الأستاذ زكي نجيب محمود

أخذت ألتمس الناس رجلاً فرجلاً وأنا عالم بما أثيره في الناس من غضب كنت آسف له وأخشاه، ولكنها ضرورة لم يكن عن المضي فيها محيص. إنها كلمة الله، ويجب أن أُحلها من اعتباري المكان الأسمى، فقلت لنفسي: لابد أن أحاور أدعياء العلم جميعاً لعلي أفهم ما قصدت إليه الراعية. وأقسم لكم أيها الأثينيون أغلظ القسم - فواجبي أن أقول الحق - إنني قد انتهيت من البحث إلى ما رويت، وقد صادفت فيمن هم دون هؤلاء مقاماً رجالاً بلغوا من الحكمة ما لم يبلغه هؤلاء. وسأقص عليكم حديث تجوالي وما عانيت خلاله لتحقيق ما قالته الراعية. تركت رجال السياسة وقصدت إلى الشعراء، سواء في ذلك شعراء المأساة أو الأغاني الحماسية أو ما شئتم من صنوف الشعر، وقلت في نفسي: إن الأمر لا ريب مكشوف لدى الشعراء فسأجدني بازائهم أشد جهلاً. ثم جمعت طائفة مختارة من أروع ما سطرت أقلامهم، وحملتها إليهم أستفسرهم إياها لعلي أفيد عندهم شيئاً. أفأنتم مصدقون ما أقول؟ واخجلتاه! أكاد أستحيمن القول لولا أني مضطر إليه، فليس بينكم من لا يستطيع أن يقول في شعرهم أكثر مما قالوا هم وهم ناظموه. عندئذ أدركت على الفور أن الشعراء لا يصدرون في الشعر عن حكمة، ولكنه ضرب من النبوغ والوحي. إنهم كالقديسين أو الأنبياء الذين ينطقون بالآيات الرائعات وهم لا يفقهون معناها. هكذا رأيت الشعراء، ورأيت فوق ذلك أنهم يعتقدون في أنفسهم الحكمة فيما لا يملكون فيه من الحكمة شيئاً استناداً إلى شاعريتهم القوية. فخلفت الشعراء وقد علمت أني أرفع منهم مقاماً، فقد فضلني عليهم ما فضلني على رجال السياسة. وأخيراً قصدت إلى الصناع، وكنت أظنني جاهلاً بما يتصل بالصناعة من علم، وكنت أحسب أن لدي هؤلاء الصناع مجموعة طريفة من المعارف، وقد ألفيتني مصيباً فيما ظننت، إذ كانوا يعلمون كثيراً مما كنت أجهله، فكانوا في ذلك أحكم مني بلا ريب.

ولكني رأيت حتى مهرة الصناع قد تردوا فيما تردى فيه الشعراء من خطأ، فتوهموا أنهم ما داموا أكفاء في صناعتهم فلابد أن يكونوا ملمين بكل ضروب المعرفة السامية، فذهبت سيئة

ص: 36

الغرور بحسنة الحكمة. لهذا ساءلت نفسي بالنيابة عن الراعية: أكنت أحب أن أظل كما أنا، لا أملك ما يملكون من علم، ولا أكبو فيما كبوا فيه من الخطأ، أم كنت أحب أن أكون شبههم في العلم والجهل على السواء؟ فأجبت نفسي، وأجبت الراعية: إنني خير منهم حالاً

وهذا الذي انتهيت إليه قد حرك العداوة في قلوب نفر من أشد الناس سوءاً وخطراً، كما نسج حولي طائفة من الدعاوى الباطلة. ولقد جرى الناس على تسميتي بالحكيم إذ خيل إليهم أنني ما فتئت أحمل الحكمة التي كانت تعوزهم. ولكن الله - أيها الأثينيون - هو الحكيم الأوحد، ولعل الله حين أجرى على لسان راعيته ما نطقت به، أراد أن الحكمة في البشر ضئيلة أو معدومة. إنه لم يتحدث قصداً عن سقراط، إنما ضرب باسمي مثلاً، كأنما أراد أن يقول إن من يدرك كما أدرك سقراط أن حكمته في حقيقة الأمر لا تساوي شيئاً، يكون أحكم الناس. فأنا كما تروني أسير وفقاً لما يرسمه لي الله، أفتش عن الحكمة في كل من يدعيها، لا أبالي أكان من أبناء الوطن أم غريباً، فان لم أجده كما أدعى، صارحته بجهله كما أمرتني الراعية. ولقد انصرفت إلى هذا الواجب انصرافاً لم يبق لي معه من الوقت ما أبذله فيما يشغل باب العامة، أو أنفقته في شئوني الخاصة؛ وهكذا كرست حياتي لله فعشت فقيراً معدماً

أما أن الشبان الأثرياء الذين لا تضنيهم شواغل الحياة كثيراً، قد التفوا حولي، فهم قد جاءوا يسعون من تلقاء أنفسهم، ليشهدوا امتحان الأدعياء؛ وكثيراً ما انطلقوا بدورهم يلتمسون أدعياء الحكمة ليجروا عليهم التجربة نفسها. وما أكثر ما صادفوا رجالاً ظنوا في أنفسهم العلم، فإذا بهم لا يعلمون إلا قليلاً، أو هم لا يعلمون شيئاً؛ فلا يلبث هؤلاء الذين امتحنهم الشبان أن يصبوا عليّ جام غضبهم، وأنفسهم أحق بهذا الغضب، ويستنزلون اللعنة على سقراط لأنه أفسد الشبان. فان سألهم سائل فيم هذه اللعنة، وأي جريرة أتى، وأي رذيلة علم، لما حاروا جواباً، لأنهم لا يعرفون لغضبهم سبباً. ولكي يستروا علائم الحيرة تراهم يعيدون التهم المعروفة التي قذف بها الفلاسفة جميعاً، من أنهم يعلّمون ما يتصل بالسحاب، وما هو دفين تحت الثرى، وأنهم كافرون بالآلهة، وأنهم يُلبسون الباطل صورة الحق؛ والحقيقة أنهم جاهلون ويأبون الاعتراف بجهلهم المكشوف. ولما كانت تلك الفئة كثيرة طامعة نشيطة، وقد تصدوا جميعاً للنزال بما لهم من ألسنة حداد تلعب بالنفوس، فقد ملأوا أسماعكم بهذا

ص: 37

الاتهام الباطل. وكان أن ناصبني العداء هؤلاء المدعون الثلاثة: مليتس، وأنيتس، وليقون. فقد ناهضني مليتس ليمثل جماعة الشعراء، وأنتيس ليمثل طبقة الصناع، وليقون ليمثل الخطباء. وأنني كما قدمت لا آمل في أن أمحو في لحظة كل ما علق بي من تهم باطلة. أيها الأثينيون! لقد رويت لكم الحق كل الحق، لم أُخف شيئاً، ولم أشوه شيئاً، ومع هذا فأنا أعلم أن صراحتي في الحديث ستصدكم عني، وما هذا الصد إلا برهان على أني أقول الحق. تلك هي دعواهم وذاك منشؤها، ولن تسفر هذه المحاكمة ولا أية محاكمة مقبلة عن غير هذا

حسبي هذا دفاعاً للفريق الأول من المدعين. وهأنذا أتوجه الآن بالحديث نحو الطائفة الأخرى وعلى رأسيهم مليتس، ذلك الرجل الطيب، الوطني، كما يقول عن نفسه. وسأحاول أن أدفع عن نفسي ما أتهمني به هذا الفريق الجديد. وجدير بنا أن نبدأ بتلخيص دعواهم، فماذا يزعمون؟ إنهم يقولون: أن سقراط فاعل للرذيلة، مفسد للشباب، كافر بآلهة الدولة، وله معبودات اصطنعها لنفسه خاصة. تلك هي دعواهم، وسبيلنا الآن أن نناقشها تفصيلاً.

أما الزعم بأني فاعل للرذيلة مفسد للشباب، فأنا أقرر أيها الأثينيون عن هذا الرجل مليتس، أنه هو صاحب رذيلة. ورذيلته أنه يتفكه حيث يجب الجد، وهو لا يرى غضاضة في أن يسوق الناس إلى ساحة القضاء متستراً وراء الحماسة المصطنعة والاهتمام المتكلف بأمور لا تعنيه بشيء؛ وسأقيم لكم الدليل على صدق هذا

- اقترب مني يا مليتس لألقي عليك سؤالاً. هل تفكر طويلاً في إصلاح الشباب؟

- نعم، إني أفعل

- أذن فقل للقضاة من هو مصلح الشبان، فأنت لابد عالم به ما دمت قد عانيت آلاماً في اكتشاف مفسدهم، فها أنت ذا قد سقتني إلى القضاء متهماً. تكلم إذن وقل للقضاة من هو مصلح الشبان. وما لي أراك يا مليتس لا تحير جواباً؟! أفليس هذا دليلاً قاطعاً، مزرياً بك، يؤيد ما ذكرته من أن أمر الشبان لا يعنيك في شيء؟ تكلم يا صديقي وحدثنا عن مقوم الشباب!

- هي القوانين

- ولكن ليست القوانين هي ما عنيت يا سيدي، إنما أردت أن أعرف ذلك الشخص الذي

ص: 38

يحفظ القوانين قبل كل شيء

- هم من ترى في المحكمة من قضاة يا سقراط

- ماذا تريد أن تقول يا مليتس؟ أتعني أن القضاة قادرون على تعليم الشبان وإصلاحهم؟

- لست أشك في أنهم كذلك

- أكلهم كذلك، أم بعضهم دون بعض

- القضاة جميعاً

- قسماً بالآلهة إن هذا الخبر سار. إذن فهناك طائفة من المصلحين، وماذا تقول في النظارة؟ أهم يصلحون الشباب؟

- نعم هم يفعلون

- وأعضاء الشورى كذلك؟

- نعم أنهم كذلك يصلحون

- ولكن قد يكون رجال الدين لهم مفسدين؟ أم هم كذلك يقومون الشباب؟

- إنهم كذلك من المصلحين

- إذن فكل الأثينيين يصلحون الشبان ويرفعون من قدرهم، ما عداي. فأنا وحدي الذي أفسدت الشباب. أهذا ما أردت أن تقول؟

- وذلك ما أؤيده بكل قوتي

- يالبؤسي إذن إن صح ما تقول!. ولكني أُريد أن أسألك سؤالاً: أيصح هذا القول كذلك على الجياد؟ أيمكن أن يقدم لهم الأذى فرد واحد، بينما يقدم الخير العالم أجمع؟ ألست ترى العكس هو الصحيح؟ فرجل واحد يستطيع أن يعمل لها الخير، أو قل هي فئة قليلة، وأعني أن مروض الجياد هو الذي يقدم لها الخير، أما بقية الناس الذين يستخدمونها في أعمالهم فهم لها مسيئون. أليس هذا صحيحاً يا مليتس بالنسبة إلى الجياد وكل أنواع الحيوان؟ نعم ولا ريب، سواء رضيت أنت وأنيتس أم لم ترضيا، فذلك لا يعنينا. اللهم أنعم بحياة الشبان لو كان عليهم مفسد واحد فحسب. وكانت بقية العالم مصلحين. وأنت يا مليتس، لقد أقمت لنا الدليل ناصعاً على إنك لم تكن تفكر في الشبان؛ فإهمالك إياهم واضح حتى فيما ذكرت في صحيفة الدعوى. والآن يا مليتس، لابد أن أسألك سؤالاً آخر: أيهما خير، أن يكون أبناء

ص: 39

وطنك الذين تعيش بينهم فاسدين أم صالحين؟ أجب يا صاح فذاك سؤال ميسور الجواب! ألا يقدم الصالحون الخير لجيرانهم بينما يسئ إليهم الفاسدون؟

- نعم ولا ريب

- وهل هناك إنسان يفضل أن يساء إليه على أن يُحسن إليه ممن يعيش بينهم؟ أجب يا صديقي، فالقانون يتطلب منك الجواب. أيحب أحد أن يصيبه الضر؟

- كلا ولا ريب

- وأنت حين تتهمني بإفساد الشبان والحط من شأنهم، أتزعم أني أتعمد ذلك الإفساد يجئ عني عفواً؟

- أنا أزعم أنه إفساد مقصود

- ولكنك اعترفت الآن أن الرجل الصالح يقدم الخير لجيرانه، وأن الفاسد يقدم لهم الشر، أفتظن أن هذه الحقيقة قد أدركتها حكمتك البالغة وأنت لا تزال من الحياة في هذه السن الباكرة، وأنا، وقد بلغت من الكبر عتياً، مازلت أخبط في ظلام الجهل فلا أعلم أني أفسدت أولئك الذين أعيش بينهم فيغلب أن يصيبني منهم الضرر؟ أفاكون عالماً بهذا ومع ذلك أفسدهم، وأفسدهم متعمداً؟ هذا ما تقوله أنت، فلا أحسبك مقنعني به ولا مقنعاً به كائناً من كان. إحدى إثنتين: إما إنني لا أفسد الشبان، أو أنني أفسدهم من غير عمد؛ وسواء أصحت هذه أم تلك فأنت كاذب في كلتا الحالتين

فان كانت جريمتي بغير عمد فلا يحاسب عليها القانون، وكان خليقاً بك أن تسدي لي النصح خالصاً، محذراً ومؤنباً في رفق ولين، فان انتصحت بك، أقلعت ولا ريب عما كنت آتيه بغير قصد؛ ولكنك أبيت لي نصحاً وتعليماً، وآثرت أن تجئ به متهماً في ساحة القضاء، وهي محل العقاب لا مكان التعليم

لقد تبين لكم أيها الأثينيون أنه لا يعنيه أمر الشبان في كثير ولا قليل، ولكني مازلت أود يا مليتس أن أعرف منك فيم كان إصراري على إفساد الشباب؟ لعلك تعني كما يبدو من اتهامك أني حملتهم على إنكار الآلهة التي اعترفت بها الدولة، ليقدسوا في مكانها معبودات جديدة أو قوى روحانية. أليست هذه هي الدروس التي زعمت أني أفسدت بها الشباب؟

- نعم، هذا ما أقوله وأؤكده

ص: 40

- إذن فقل لي يا مليتس، وقل للمحكمة في عبارة واضحة، أي آلهة أردت في دعواك، لأنني حتى الساعة لا أفهم ما تأخذه عليَ. أكنت أعلم الناس الأيمان بآلهة معينة؟ وإن كان هذا فهم مؤمنون بآلهة ما، ولم أكن إذن كافراً تمام الكفران. إنك لم تشر إلى ذلك في الدعوى واكتفيت بالقول أنها ليست نفس الآلهة التي تعترف بها المدينة. ما تهمتي؟ أهي الدعوة إلى آلهة مخالفة أم تزعم أني ملحد ومعلم للإلحاد؟

- أردت الأخيرة، فأنت ملحد غاية الإلحاد

- هذا قول عجيب لم نعهده يا مليتس، ماذا تعني به؟ ألست أومن بإلهي الشمس والقمر، وهي عقيدة سائدة بين الناس جميعاً!

- إني أؤكد لكم أيها القضاة أنه لا يؤمن بهما، فهو يقول إن الشمس كتلة من الحجر، وأن القمر مصنوع من تراب!

يتبع

زكي نجيب محمود

ص: 41

‌ذكرى ميلاد

عند الثلاثين

للأستاذ محمد سعيد العريان

لشد ما أعياني السُرى!

منذ تسع وعشرين أصعد في الجبل وما بلغت. أتراني إلى القمة أدب دبيبي، أم قد جاوزتها وما أدري، فأنا منحدر أتدلف من جانبها إلى بطن الوادي. .؟

يكتفني الغيب فما أعرف أين يومي من أمسه ومن غده. أما أمس فقد خلعته عني، وطوته الأيام طي مرقعةٍ بالية فما تراه إلا خُلقاناً مركومة كالميت لفَّته أكفانُه. وهل الماضي إلا الجزءُ الذي مات منا؟

وأما الغد. . . فمن لي بما هناك؟ إن الأحلام لتكذب، فما أحسبها كانت تتراءى لي إلا دنيا غير دنياي ليس من أيامها يومي ولا غدي

هذه الأيام صرعى على مدرجة الزمن، وما تزال المنى تصطرع في رأسي!

يا لي من الأيام! لشد ما كانت تسخر مني إذ تمد لي أسباب المنى، حتى إذا هممتُ لم تكن عثراتي إلا أيامي!

اِنقشعي أيتها الغيوم واكشفي لي عما وراءك؛ إن لي أمنيةً هناك!

إني لأراني كأنما لَبِسَني النوم، فأنا من الرؤيا في دنيا غير التي أعرف، وناسٍ غير هذه الناس، وثَمَّت طفلٌ يعدو خلف فراشة، أتراه مُدرِكُها؟

لقد آب فارغ اليد، ولكن على شفتيه ابتسامة!

وأقبل يتعرفني وما كانت به إلى من حاجة

قال: (من أنت؟)

قلت: (أما تعرفني؟)

قال: (نعم، فمن تكون؟)

قلت: (فأنظر في مرآتك لعلك واجدٌ فيها الجواب.)

ونَظَر ونظرتُ من خلفه، فما كان في المرآة إلا وجه الطفل الضاحك

ولوى رأسه وعاد ينظر إلي ويقول:

ص: 42

- (لستَ هناك، وما أُراني أعرفك ولا تعرفك مرآتي)

ورفت الفراشة فانطلق يعدو وراءها والابتسامة على شفتيه!

يا طفولتي التي فرت بأسعد أيام الحياة، ليتكِ كنت تعرفين!

وعاد الطفل فتى يخطر ريان الوجه مشرق الجبين، فأزْوَرَّ إذ رآني على الطريق

قلت: (أتنكرني يا فتى؟ فإنني صاحبك!)

قال: (متى؟ فما أضنني عرفتك!)

قلت: (ذاك يوم التقينا على السفح والشمس ضاحية، وتصاوير الزهر ترف من أجنحة الفراشة)

وابتسم الفتى ومر بيمناه على جبينه وهو يقول:

- (لعلي أذكر من بَعدُ!)

وانطلق يغني جذلان

يا نضارة الصبي وبكرة الشباب، ليتك إذ توليت عابثة ناعمة بالحرية - كنت تدرين من هناك!

وأقبل من بعدُ شاب يبتسم. ما أشبه بصاحبه!

قلت: (هاأنت ذاك، أما تعرفني؟)

قال: (كأني رأيتك من قبل، بربك من تكون؟)

قلت: (فانك ما تزال تنكرني على ما صحبتُك زماناً ولمّا يَنقض عهد طويل!)

ولم أجد جوابي؛ فقد لوى الشاب رأسه يتابع بعينيه فتاةً تخطر، ثم انطلق مُهطعاً وراءها ونفسي تتبعه

يا الله! لكأنها هي. . .!

وتلاشى الوجود من أمامي فلم أعد أرى غير وجه ضاحك، وطلعةٍ مشرقة، وعينين تُشعان النور من وجه الفتاة

ورأيتها تدنو مني وفي وجهها كلام. . .

قلت: (أما تزالين تذكرين يا فتاة؟ يا للنفس العطوف!)

قالت: (أئنهُ لأنت؟ لله صبْرُك!)

ص: 43

وانقضت كلماتها على صدري بالهم والوحشة والعذاب، وكأنما أجتمع منها تاريخ سبع سنين طوال، ما يزال في القلب منهن جراحٌ تنزف!

وانثالت الذكريات على نفسي تتمثل من مشاهدها قصة غرام ثائر، أغْفَلَها مُنشِئها قبل أن يبلغ بها إلى نهاية

ورحت أنكت الأرض بالعصا، كأني أفتش تحت التراب عن الجزء الذي مات من قلبي! ورأيت ظلها على الأرض، فاستحيت أن أرفع رأسي وفي عيني دموع!

يا للشباب من حب بلا رجاء! أؤضيع أنضر أيام الحياة مصبوباً على نفسي، أبحث عن أهون ما في الحياة؟

وأين الرجولة إن بذلت شبابي ونفسي لأعدو في ظل فتاة؟

أُتُراها تَجدُ فَقْدِي؟

إن المرأة للرجل إن هي إلا وحيُ المجد ومطلعُ الأمل، فإذا عادت لهفةً ودموعا فما هي امرأة، ولكنها اليأس والحرمان والخيبة!

وتذكَّرْتُ صاحبي الذي أنفلت مني مُهطعاً إلى فتاته، فإذا هي أمامي والفتاة إلى جانبه ذراعاً إلى ذراع

قال: (ما تقول لنفسك؟)

قلت: (أوَ تسمع هَمْس النفس ونجوى الضمير؟)

قال: (قد علمت بعض هذه النجوى. . . أفكنت تتحدث بما تتحدث إلى نفسك، لو لم تكن هذه الشعراتُ البيض تخفي وتلوح في فوْدَيكَ؟)

قلت: (أوَ تراها؟. . . فاسأل صاحبتَك عن خبرها؛ فهل جاءك أن هذا الشيب الباكر يدلّ إلا على شباب القلب؟ ما أحسبك تَعْلمُ حتى تُنْبِئَكَ الشعرةُ البيضاء!)

واستضحك الفتى والفتاة. . .!

وتلاشى الوجود ثانية من أمامي! وإذا أنا في دنيا غير دنياي، وناسٍ غير هذه الناس؛ وإذا المرآة أمامي تجلو لي ما تجلو (الخيالة)، وكأنما اجتمع بها في زمان ومكان تاريخي كله على الأرض منذ تسع وعشرين بماضيه وحاضره، وران ضبابُ أنفاسي على ثلث المرآة

وإذا فيما ظهر لي من المرآة طفل يعدو خلف فراشة، ما ينفك يقفز ويثب

ص: 44

وغلام يخطر مغنياً جذلان، ما يعنيه إلا الكرة يرتق فتوقها، واللّدات من الصبيان يتجاذب وإياهم أسباب المسرة في الحارة وعلى ناصية الطريق

وشاب باسم الثغر منبسط الأسارير دنياه هذه الفتاة، له منها في النهار مشغلة وفي الليل مشغلة. ثم. . . ثم هذا الوجه الذي يعرفه صحابتي، على شفتيه ابتسامة عابسة، وفي عينيه سر يبالغ في الاستخفاء، ومن وراء جبينه أماني تصطرع، ودنيا يموج بعضها في بعض

ليت شعري أهذه هي الحياة، أليس فيها أحسن مما رأيت، أهذا كل ما هناك؟

يا ضيعة المنى إن كان الغد يوماً مكرراً مما فات!

أين المثل الأعلى الذي جهدت في تخيله، وأعياني الكد في البلوغ إليه؟ أترى البشرية الضالة قد حطمت تمثاله، وخربت هيكله، أم لا يزال قائماً هناك مختبئاً خلف الغد؟

محمد سعيد العريان

ص: 45

‌ذكريات

دمه العربي. . .

للأديب حسين شوقي

حينما كنت في باريس أتلقى دراسة القانون تعرفت بالفندق الذي كنت أقيم فيه بالحي اللاتيني (حي الطلبة) بطالب أسباني، وقد دفعتني إلى حب التعرف به معرفتي اللغة الأسبانية، (فقد قضيت خمس سنوات بأسبانيا)، والميل إلى التمرن عليها. . كذلك جذبتني إليه سيماه العربية كسمرة بشرته، وعيونه السوداء، وهي في حدتها كعيون البدو في الصحراء، وجذبتني إليه اسمه العذب الذي ينتهي بحرف (الثاء) إذ كان يدعى مونيوث، وهذا الحرف لا يوجد على ما أعلم - إلا في اللغة العربية، فورثته الأسبانية عنها. . كنا نقضي الليل أنا وهو في كثير من الأحيان، في مقهى ليلي جميل يديره بعض الصينيين بالحي اللاتيني، ذلك الحي الذي لم يكن تخلى بعد لحى مونبرناس (حي الشعراء والفنانين) عن إمارة الليل. .

وكان مجلسنا يضم أيضاً طالبين أسبانيين، وطالباً أخر من جزر الفلبين. .

وا آسفاه على تلك الليالي الغابرة التي قضيناها في المتاع واللهو! بينما كنا ذات ليلة جالسين كالعادة في المقهى ننعم بالرقص والموسيقى، إذا بأحد الشبان يصفع صديقته وقد رآها تتبادل النظرات غير المشروعة مع شاب آخر. . فغضب مونيوث لهذا المنظر، وهم بالتدخل في الأمر لولا أننا أمسكنا بسترته لأننا كنا نخالفه الرأي اشفاقاً على العاشق المخدوع الذي لم يقدم على عمله في اعتقادنا، إلا تحت سلطان الغيرة. . وقد دفعنا هذا الحادث إلى الخوض في موضوع الغيرة فأطبق رأينا على أنها شعور طبيعي يلازم الحب، وعلى أنه مقياس حرارته الصادق، بخلاف مونيوث الذي كان يرى في الغيرة شعوراً أولياً همجياً يمكن القضاء عليه بالتربية والتهذيب كما قضت المدينة من قبل على بعض عيوب البشر الأولى. .

فقال عندئذ فرناندو - الطالب الفلبيني - موجهاً الكلام لمونيوث:

إذا كنت يا صديقي لا تغار فما بالك تحجب عنا حبيبتك نانيت؟

فبُهت مونيوث لهذا السؤال المفاجئ وتلعثم قائلاً:

ص: 46

أنا لا أحجب نانيت بل هي التي تعرض عن الحضور لأنها لا تحب الرقص. .

فصاح ريكاردوا، أحد الطالبين الآخرين:

يا للعذراء! هل هناك فتاة تبغض الرقص؟ إن رجلي البائستين لم تعودا تحملانني من كثرة ما رقصت مع صديقتي سيمون!

فقلت بدوري لمونيوث:

ولكني لم أشاهد صديقتك نانت هذه!

فتدخل فرناندو قائلاً: إنه يخاف عليها يا عزيزي كما تخاف القطة على صغارها

ثم استمررت موجهاً كلامي لمونيوث:

لا يمكن إلا أن تكون غيوراً يا صديقي، ففي عروقك الدم. الشرقي العربي الفائر. .

ولكن مونيوث أصر على إنكاره الغيرة كما أنكر الدم العربي، واعداً إحضار نانيت معه في أقرب فرصة. . .

ولكن مونيوث طبعاً لم يف بوعده. .

تعرفت بعد ذلك بأيام بنانيت هذه بالفندق، إذ أتت لتزور مونيوث وكان إذ ذاك معتل الصحة، فعذرت عندئذ صديقي لحرصه على نانيت، لأنها كانت جميلة إلى حد بعيد، بشعرها الذهبي المنفوش، وعينيها الخضراوين اللتين كأنهما عينا قطة أنقرية. . ولما كنا في ذلك الوقت في أواخر شهر ديسمبر، وضعنا ذات ليلة برنامج سهرة في ليلة رأس السنة، ووعدنا مونيوث باصطحابه نانيت في تجوالنا تلك الليلة بمقاهي باريس الليلية. . على أننا شككنا في هذا الوعد أيضاً. . ولكن حينما جاءت الليلة الموعودة، أقبلت نانيت متأبطة ذراع صديقها! بدأنا طوافنا بالذهاب إلى ملهى (الطاحونة الحمراء) حيث كانت الممثلة الأسبانية الرشيقة (راكل ملر) تخلب الباريسيين بصوتها الشجي ورقصها السماوي. . ثم انتقلنا بعد ذلك إلى مقهى قريب من (الطاحونة الحمراء) يديرها بعض أشراف الروس الذين هاجروا من بلادهم على أثر قيام النظام الشيوعي في روسيا؛ وكان المحل غاصاً بالأجانب والفرنسيين على سواء الذين أتوا ليستقبلوا السنة القادمة بين المرح والسرور عساها تأتي لهم بالسعادة. . .؟!

جلسنا في البار الذي كان مرتفعاً حتى نستطيع أن نشرف على المرقص بأجمعه. . ثم

ص: 47

شهدت بعض أصدقائي من المصريين جالسين بالقرب من حلبة الرقص، فانتقلت إلى مائدتهم لتحيتهم. . . ولكن لم يمضي زمن طويل على وجودي معهم حتى سمعنا جلبة قوية آتية من جهة البار، فذهبت لفوري إلى هناك فإذا بأصدقائي الأسبان يتشاجرون مع بعض الفتية الفرنسيين، وقد تمكن الحاضرون من تفريقهم بعد جهد كبير دون الالتجاء إلى البوليس. . أما سبب المعركة فكان نانيت! والمحرك الأول هو مونيوث!

غازل شاب فرنسي جميل نانيت، ولكن مونيوث لم يفعل شيئاً وقتئذ برغم ملاحظته الأمر، وذلك عملاً بمبادئه السلمية وتغلباً على الغيرة المرذولة! ولكن مونيوث المسكين لم يطق صبراً حينما شاهد نانيت تبتسم بدورها لمغازلها، فأفلت منه جواد الغيرة الجامح. . فأمسك مونيوث بكرسي وقذف به الشاب الفرنسي عندئذ هب بعض الفرنسيين الحاضرين للدفاع عن مواطنهم، وكان بغض الفرنسيين للأجانب شديداً في ذلك العهد، فهب الأسبان بطبيعة الحال للدفاع عن مونيوث.

انتقلنا بعد ذلك إلى صيدلية ضمدت فيها الجراح وأهمها جرح بليغ في شفة مونيوث السفلى، إذ كنا عازمين على السهر إلى آخر الليل حتى لا نستقبل السنة الجديدة بمثل هذا الحادث المكدر. . ثم قصفنا طويلاً في أحياء باريس المختلفة.

سألت مونيوث ونحن في طريق العودة إلى الفندق ألا يزال ينكر الغيرة ولا يؤمن بدمه الشرقي العربي؟ فأومأ برأسه اعترافاً بهزيمته أمام الغيرة، وبما يخالط دمه الأسباني من دم عربي حر. . واكتفيت بهذا الإيماء، فان الكلام كان يؤلمه، لأن فمه لا يزال دامياً، ولعل قلب مونيوث المسكين كان أدمى من فمه!. .

كرمة ابن هانئ

حسين شوقي

ص: 48

‌من شعر الشباب

الطائر السجين

للأستاذ محمود الخفيف

راسف في القيد موصول الأنين

مطرق الهامة في يأس حزين

تلمح الحيرة في نظرته

نظرة اللوعة والغيظ الدفين

وترى الثورة في إذعانه

وهو بالأذعان من قبل ضنين

ناسل الريش نحيلشاحب

ذابل المقلة محزون الجبين

ساهم طوراً وطوراً راقص

رقصة المُوثَق بين الموثقين

سائل عن ذنبه في حسرة

وسكوت هو كالنطق مبين

نائح في يأسه ملتمس

رحمة الغادين بعد الرائحين

يحسب الراني إليه مشفقاً

يعرف الرأفة بالمستضعفين

فيرجى الغوث في إقباله

ولقد يرجى مع اليأس اليقين

فإذا مر به في غلظة

وجمود عاد مكروب الحنين

يتمنى الموت في محنته

ضجعةُ الموت خلاص اليائسين

وإذا أبصر سرباً عابراً

وهو في السجن رهين مستكين

هز للطير جناحيه كما

جرّر الأغلال في الأسر سجين

نسى القضبان في لهفته

ومضى يسبح بين السابحين

رده السقف سريعاً فهوى

طارف العينين مكتوم الأنين

وكسا ريش جناحيه دم

من جراح الصدر أو نضح الوتين

وإذا غنى لديه طائر

لم يذق قبلُ عذاب الراسفين

بلغت لوعته غايتها

وتوالى النوح والدمع السخين

يعرف المحزون أقصى حزنه

حين يمسي في قبيل ضاحكين

أيها العاني برغمي أن أرى

ما تلاقي من عذابٍ وشجون

أيها الطائر ما لي حيلة

ليت من صادوك يوماً يشفقون

حسبوا أنك فيهم ناعم

أولا تأكل مما يأكلون

ص: 49

أولا تمسي لديهم آمناً

وترى الإحسان فيما يصنعون

قفص تصدح فيه سالماً

أين من زينته سود الوُكون

وصحاف وشراب طاهر

وهدوء لم ينله المترفون

قسماً لو حاسبوا أنفسهم

لمضوا عن ذنبهم يستغفرون

أين هذا القيد من حرية

هي أحلى لك مما يصفون

تجد القسوة فيما أحكموا

ومعاني الظلم فيما يدعون

وتعاف الضيم في نعمتهم

ولو اسْطَعت تخيرت المنون

وترى الشهد لديهم علقماً

وهمو عن غيهم لا يرجعون

رب يوم عضك الجوع به

كان أشهى لك مما يبذلون

أين ما تلقاه في أغلالهم

من ظلال كنت فيها وعيون؟

وفضاء كنت فيه مطلقاً

ومقيل لك في وكر مصون

وطعام لم يكن ذا غصة

لم يكدره لديك الطاعمون

أترى القضبان في قسوتها

كوثير العشب أو خضر الغصون؟

يا عدو الأسر في فطرته

يا طليقاً بات في القيد رهين

أن تأملت لما تلقى به

لن تراهم بك يوماً حافلين

كنت في جوك حراً آمناً

فتلقتك شباك الصائدين

قتل الإنسان ما أظلمه!

دأبه العدوان والغدر المهين

يكره الظلم إذا ما مسه

وهو أن يأمنه شر الظالمين

يتحدى الطير في أجوائها

ويصيد الوحش في الغار الكنين

أو لم يكف ضحايا بغيه

من بنيه الوادعين الآمنين؟

يا أسيراً يذرف الدمع دما

لست في بلواك معدوم القرين

كم سجين بات يبكي حظه

مثلما تبكي، ويبكي الناظرين

هذه الدنيا لعمري قفص

لبنيها العُزل المستضعفين

قد قرأنا الظلم في غابرها

في فتوح الغاصبين الناهبين

فكرهناه ونددنا به

وبرئنا من ظلال الغابرين

ص: 50

أولا نمرح في أصفاده

ونراه اليوم في المستعمرين؟

وإذا الناس على فطرتهم

ولئن راق خيال الواهمين

وإذا العدل سراب لامع

طالما بتنا به منخدعين

قف بهذا الشرق وانظر كم ترى

فيه من بغى ومن حكم لعين

اسأل الوادي عن محتله

وفلسطين عن المغتصبين

وأذكر الهند ففي محنتها

حجة تنسخ قول المبطلين

دخل السجن بريئاً شيخها

ساخراً من باطل المستكبرين

حمل العبء على أسقامه

وكفاه لو دروا عبء السنين

ويميناً لو نسوا أطماعهم

لجثوا بين يديه نادمين

وكأيِّن في الورى من آية

ويمرون عليها معرضين!

يعرف الأغلال من كلبدها

وعرفناها كراماً صابرين

جرب المحتل فينا وكرهُ

ورمانا ببنينا الغادرين

وأتى الثورة من مقتلها

فوقفنا دونها مستبسلين

فرمانا بلظى من ناره

وسقطنا عشرات ومئين

وافتدينا الحق في هودجه

واحتشدنا حوله مستشهدين

ورفعنا فوقه رايته

وتزاحمنا عليها مقسمين

ورأى الغاصب أنا لم نكن

بالخياليين أو باللاعبين

ضاقت الأنفس حيناً وبدت

نذر الرجفة للمستهزئين

والتقى الأشبال في غضبتهم

ومشوا نحو المنايا طائعين

أيقظوا الثورة لولا حكمة

من بنيها السابقين الأولين

أفسدوا كيد المحيطين بهم

فأتوا غِيرانَهم منكفئين

قسماً ما أجلَّوها خشية

ولئن طال حديث المرجفين

ليس من يبذل طوعا دمه

بالذي يرهب بأس المعتدين

كمنت فيهم، فان لم ينتهوا

بعثوها في غد مستأنفين

محمود الخفيف

ص: 51

‌حنين إلى الوطن

للشاعر الحجازي أبى يعرب المدني

أحن إلى ذكريات الحجاز

حنين الفطيم إلى ظِئره

أحن إليه حنين الحما

م إذا ما تغرب عن وكره

إذا هب من جانبيه النسيم

تروَّحت دنياي في نشره

يرفرف روحي على ساحليه

فيغترف الشعر من بحره

وما ذبل الوجد حتى يجف

لسان القصائد عن ذكره

ألا ما سقى الله أرض الحج

از بوطفاء تغدق في قُطره

ويا حبذا أن يفيق الحجاز

فيا طال ما نام في سكره

إذا ثاب ثابت جميع البلاد

وسارت إلى المجد في إثره

يقال تباشيره أقبلت

طلائها الغر في فجره

وأنَّى له أمل أن يفيق

وقد يأس الناس من أمره؟

وما ارتبتُ حتى رأيت الزمـ

ان يسوّل لي اليأس من مكره

وغيري إذا ازورَّ عنه المنى

تشَفَّع بالدمع في عذره

أناتي تبَسَّم تحت القطوب

إذا ما تذمرتُ من شره

وأطلب حقي بحد الحسام

إذا نام ذو الثأر عن وتره

إلى أن تلين قناة الزمان

ويعدل إذ ذاك عن جوره

ص: 53

‌لويدجي

صاحب جائزة نوبل لعام 1934

منح الكاتب الإيطالي بيراندللو جائزة نوبل للآداب، فجاء ذلك القرار برهاناً جديداً قوياً على خطر الدور التجديدي الذي أداه بيراندللو في تطور المسرح الإيطالي المعاصر. فقد كان المسرح الإيطالي منذ عام 1870 حتى الحرب العالمية يعاني تدهوراً شديداً حتى دفع ذلك الناقد بنجمان كريمو إلى أن يعتبر المسرح الإيطالي أثناء هذه الفترة الطويلة خارجاً عن دائرة الأدب الصحيح. والواقع أن من العسير أن يشعر الإنسان بوجود فن مسرحي في إيطاليا خلال نصف القرن الذي سبق الحرب العظمى إلا بأعمال الكاتب الكبير جبرييل دانونزيو، وبعض أعمال عدد من الكتاب مثل وبراكو وسمبنللي

لم يكن التأليف المسرحي ضعيفاً فحسب، بل إن محاولات الكتاب

الخائرة كانت تعيش كَلاً على الآداب الأجنبية، وتمعن في تقليد الكتاب

الفرنسيين، وأخصهم دوماس الصغير وأوجييه. ثم الكتاب الروس

والكاتب النرويجي ابسن فيما بعد

وكان المسرح الإيطالي في هذه الفترة من العبودية، بحيث كانيتغير بتغير العوامل المؤثرة فيه. فعندما قوى المسرح في فرنسا، لقى ذلك التغير صداه السريع في المسرح الإيطالي فسادت روح المؤلفين، وكانت هذه الروح من القوة بحيث تشبه الثورة على فن دوماس وأوجييه اللذين كانا يطبعان المسرح الإيطالي بطابعهما حتى ذلك الوقت

على أن التحرر من سيادة فن دوماس وأوجييه لم يكن إلا بنقل السيادة من يد إلى أخرى، وكانت هذه اليد هي فن ابسن الذي يغذي المسرح الواقعي الإيطالي بمشاكله التي يعالجها، وبمواقف أبطاله حتى أوائل الحرب الماضية. كان للمسرح الواقعي بعض القوة، إلا أن تكرار معالجة المشاكل التي عالجها ابسن في قصصه خلق نوعاً من الملل الشديد فقامت محاولات جديدة لبناء مسرح كان من زعمائه قبل الحرب سمبنللي، وبعد الحرب أركول (1882 - 1921). على أن هذا المسرح أيضاً لم يؤد إلى الغرض المنشود، لأنه بالغ في رومانتيكيته حتى كانت قصصه أشبه بالأساطير القديمة، وكان أظهر عوامل الضعف فيه

ص: 54

انطفاء الأسلوب وخطأ التحليل. لذا ظل الرجاء معقوداً على طبقة أخرى من الكتاب حتى لاحت شمس النهضة الجديدة على يد (المسرح الساخر)

الذي كانت فكرته نواة أدب بيراندللو، فاليه يرجع الفضل الأول في تحرير القصة المسرحية لإيطالية مما يسمى الفكرة التي خلقتها النظرة الواقعية والرجوع بالقصة إلى معالجة الموضوعات وتحليل العواطف والنزعات الإنسانية بطريقة أكثر حرية وانطلاقاً

طريقة تقوم على أساس من الدعابة والسخرية

وجاء بعد ذلك بيراندللو فاستطاع بعبقريته أن يبني على تراث (المسرح الساخر) فلسفة خاصة هي وليدة تجاربه في الحياة، وآلامه النفسية، وقراءاته الواسعة. وأن يركز هذه الفلسفة في مذهب فني عرف باسم (مذهب الدعابة) باسم (مذهب بيراندللو) الذي رفع به مسرح بلاده بعد انحطاط نيف على نصف قرن كامل

لقد بلغ بيراندللو الآن سن الشيخوخة، ففي شهر يونيو الماضي أتم السابعة والستين. وقد ابتدأ الكتابة وهو في العشرين من عمره. وكان إنتاجه من الغزارة بحيث أنه كتب إلى الآن أربعة مائة أقصوصة، وعشر قصص، وثلاثين رواية مسرحية ومع كل ذلك كان اسمه منذ عشرة أعوام يكاد يكون مجهولاً في عالم الآداب، على أن بيراندللو قد استطاع في الأعوام الأخيرة - بفنه المسرحي على الخصوص - أن يشق طريقه إلى المجد، ويكون له أتباعاً في أوربا بأسرها. وأن ينال أخيراً أعظم الجوائز الأدبية في العالم أجمع.

ولد بيراندللو في بلدة بجزيرة صقلية في اليوم الثامن والعشرين من شهر يونيو عام 1867. وعند ما شب درس الأدب في روما. ثم سافر إلى ألمانيا حيث حصل على شهادة الدكتوراه في الآداب من جامعة بن ولما عاد إلى بلاده عين أستاذاً في (المدرسة العليا للبنات) بروما، وبقى فيها أربعة وعشرين عاماً من عام 1897 إلى 1921. ابتدأ بيراندللو حياته الأدبية قصصياً يكتب القصص الطويلة والقصيرة، ولكنه تحول فيما بعد إلى الكتابة المسرحية فلقي عن طريقها سبيله إلى الشهرة العالمية. وقد كتب بيراندللو من القصص الطويلة (1904)(1911) و (1924) و ، ، (1926) وغيرها. أما قصصه القصيرة فأنها تظهر تدريجياً مجموعة تحت عنوان رئيسي ثابت هو (حكايات لعام) وأشهر هذه المجموعات

ص: 55

أما الروايات المسرحية فقد ابتدأ بيراندللو الكتابة فيها عام 1912، فكتب رواياته

و' (1913) ثم (1914). على أن هذه الروايات كانت في الواقع بمثابة الخطوات الأولى لفنه الذي لم يزدهر إلا ابتداء من عام1917 حين كتب رواية وتوالت بعد هذه الرواية رواياته المسرحية الرائعة التي أشهرها ' (1918) و ' ، و (1919) ، ' (1920) و ' و (1921)(1922) ' (1923)(1925)(1926) ' (1927) الخ. . . .

كان أظهر ما يميز فن بيراندللو منذ قصصه الأولى ميله إلى الدعابة، إليها بغريزته كلما استطاع إلى ذلك سبيلاً. على أن فكرة بيراندللو عن الدعابة قد تطورت وتحددت بتحوله إلى المسرح واهتمامه على الأخص بكتابة الروايات المسرحية ونبوغه فيها. فقد كان بيراندللو

في البداية يلجأ إلى الدعابة إجابة لنداء طبيعته الساخرة. لكنه أقتصر فيما بعد - وخصوصاً في مسرحه - إلى اختيار الموضوعات التي تثير حقاً سخرية المرء ودعابته. ثم جعل بعد ذلك من هذه الموضوعات مجالاً واسعاً لإطفاء ظمئه الطبيعي في حب الدعابة. وقد اتفق النقاد على أن عبقرية بيراندللو هي من مهارته الفائقة في حسن اختيار هذه الموضوعات وتوخي الصدق فيها

ويجب أن نلاحظ أن رواية بيراندللو لا تصلها بالرواية الهزلية صلة؛ ذلك أن الناحية النقدية هي الغرض الأسمى من الرواية، فهي لم توضع لتبعث الضحك والمرح إلى نفوس المشاهدين كما هو الحال في الرواية الهزلية، بل لتكشف لهم بطريقة تحليلية لاذعة عن حقيقة الطبيعة البشرية ونواحي الصراع بينها وبين تقاليد المجتمع وموجباته. وقد كتب بيراندللو عام 1920 يشرح ذلك قال:

(إنني أعتقد أن الحياة مهزلة محزنة. لأننا نرى في داخلها دافعاً خفياً لا ندري سببه يدفعنا إلى أن نخدع أنفسنا على الدوام، فنخلق لنا شخصيات وأفكاراً تختلف باختلاف كل فرد. ثم لا نلبث أن يبدو لنا أن ما فعلنا ليس إلا وهما وخديعة. إن فني ممتلئ بالشفقة الحارة على أولئك الذين يخدعون أنفسهم. على أنني لا أستطيع أن أمنع نفسي من أن ألحق بهذه الشفقة سخريةً قاسيةً من الأقدار التي تفرض على الإنسان فرضاً هذا الغش والخديعة)

ص: 56

وفن بيراندللو يعالج مشكلة من أكبر مشاكل الطبيعة البشرية. تلك هي مشكلة (الشخصية)؛ فكم ينتاب شخصياتنا كل يوم من التغير والتقلب! وكم يعاني الإنسان في علاقاته بسائر الناس الذين يختلف بعضهم عن بعض في العادات والطباع، فيرى المرء نفسه مرغماً أن يلبس مع كل فرد ولكل حادث ولكل زمن شخصية جديدة حتى يستطيع الحياة في هذا العالم. فبيراندللو حين معالجته لمشكلة الشخصية تراه يقارن بين طبيعة الإنسان وما تميله عليه مقتضيات البيئة ومظاهر الحياة وبين ما يتبع ذلك من صراع، وما يتخلل ذلك الصراع من رياء الحياة الإنسانية وصغائرها

يريد بيراندللو أن لكل إنسان شخصيتين كامنتين فيه، هما أبداً في تناقض مستمر وحرب دائمة

أولاهما: (حيوانيته) أي شخصيته الطبيعية بغرائزها وشهواتها

وثانيتهما: (إنسانيته) أي شخصيته الاجتماعية التي تحتم عليه أن يخضع للتقاليد والأوضاع والمبادئ الجامدة، وكل ما اصطلح المجتمع على تمجيده وتقديسه

ويرى بيراندللو أيضاً أن الفرد يعتبر في حالته الطبيعية حين يتبع غرائزه وشهواته و (حيوانيته)، فان خالف ذلك وحاول أن يكون (إنساناً) يتقيد بنظم مخصوصة، ويخضع تصرفاته لقواعد مرعية، فهو في نظره قد خرج على طبيعته، وأوقف سير (حياته الحقيقة) ليدخل (حياته الوهمية) التي يتصور أنها الحياة الحقيقية وهنا يجب أن نتساءل: ما الذي يرغم الإنسان أن ينتقل من (حياته الحقيقية) إلى (حياته الوهمية) أو من (حيوانيته) إلى (إنسانيته)؟

إنه الضمير. الضمير في نظر بيراندللو هو الذي يفرق بين الإنسان والحيوان، وبين والإنسان والنبات. الضمير الذي يولد معنا يوم ميلادنا، ويصاحبنا حتى الموت هو الذي يفسر حياتنا. هو الذي يقيدنا بالأوضاع، ويخضعها لناموس الخطأ والصواب. ولكن هل استطاع الضمير أن يكبح غرائز الإنسان وشهواته ويمنعها عن الظهور والانفجار بين حين وآخر؟ لا. لم يستطع الضمير ذلك. فحيوانية الإنسان لا تزال كامنة فيه تتلمس الخروج كلما وجدت الفرصة المناسبة. وكثيراً ما تستبد بصاحبها وتعميه وتسيره في الطريق الذي تشاء. والذي يرى بيراندللو أن كل شقاء الإنسان النفسي إنما هو وليد وجود

ص: 57

الضمير. فقد أراد الضمير أن يكبل الطبيعة الإنسانية بسلاسل التقاليد والأوضاع الاجتماعية، بينما الضمير لا يعرف التقاليد، ولا يخضع للأوضاع. فلا الضمير إذاً استطاع أن يميت (حيوانية) الفرد فتسود (إنسانيته) على الدوام، ولا هو سمح لهذه الحيوانية أن تتحقق وفق هواها ليحيا الإنسان (حياته الحقيقية). وكانت نتيجة ذلك نشوء هذا الكفاح الدائم بين شخصية الإنسان الطبيعية وشخصيته الاجتماعية، أي بين حيوانيته وإنسانيته

هذا الكفاح القاسي بين الشخصيتين الكائنتين في كل منا هو الذي يخلق الهم الممتزج بالابتسام، والتشاؤم الممتزج بالسخرية، وذلك هو أظهر ما يميز فن بيراندللو ويطبعه بطابع خاص، على أن هذا الطابع الخاص لم يمنعه من أن يكون ملتقى عدة تيارات فكرية كان لها تأثير كبير في تفكيره. فغرابة شخصيات القصص تذكرنا بقصص الكاتب الروسي دستويفسكي والكاتب النرويجي إبسن. وطريقة تحليل نفسيات الأبطال والبطلات المضطرين الحائرين بين الحقيقة والخيال تبين لنا بأجلى بيان الأثر العظيم لنظريات العالم النفسي فرويد عن (اللاشعور) أو ما يسمونه (العقل الباطن)، والعالم انشتين عن (النسبية)، والفيلسوف برجون عن (الحركة)؛ كذلك فيها كثير من (ذاتية) الكاتب القصصي مارسل بروست

على أن هذا الكفاح يختلف نوعه في نظر بيراندللو عند الرجل والمرأة. فالرجل تتغلب عليه (شخصيته الاجتماعية) وهو لذلك يحاول جهده أن ينظم حياته ويخضعها قدر الطاقة لأوضاع المجتمع. أما المرأة فتغلب عليها (شخصيتها الطبيعية) وهي لذلك أقل من الرجل قدرة على سيادة نفسها وتقييد غرائزها وميولها. على أن هذا الاستعداد لدى كل من الرجل والمرأة هو عند بيراندللو أمر نسبي ومؤقت. فالرجل لا يستطيع أن يمنع (شخصيته الحقيقية) من أن تحطم أحياناً القالب الاجتماعي الذي وضع نفسه فيه كما في قصتي (شهوة الشرف)

' (هنري الرابع). وكذلك المرأة التي تسيرها طبيعتها تود من وقت إلى آخر أن تكبح جماح عواطفها وشهواتها كما في قصة:

فأزمة بيراندللو المسرحية تحدث عن اصطدام شخصيتي كل فرد، وهي تختلف - على ضوء ما ذكرنا - عند أبطال قصصه (أي الرجال) عنها عن بطلاته (أي النساء). فالأزمة

ص: 58

تحدث عند الأبطال - وهم كما سبق يخلصون للوضع الاجتماعي - إما حين يظهر لهم فجأة أنهم يحيون (حياة وهمية) على خلاف ما كانوا يتصورون، حياة تخالف كل ما جبلت عليه (شخصيتهم الحقيقية)، إما حين تنفجر هذه الشخصية الحقيقة مرة واحدة وتخرجهم عن الوضع التقليدي الذي كانوا يحيون فيه. . . أما الأزمة عند البطلات فبالعكس تحدث حين يرين أنفسهم مرغمات على الخضوع لوضع مخصوص أو فكرة مخصصة كما في قصة: ، ' حيث نرى بطلة القصة مضطرة إلى مجاراة أبنتها - التي تظن أن أمها ماتت - في اعتقادها أنها زوجة أبيها.

وفي الفصول الأولى من روايات بيراندللو المسرحية، نرى حوادث القصة غامضة أشبه ما تكون بالقصص البوليسية. وكل حوادث القصة تحدث في هذه الفصول الأولى. فإذا ما جاء الفصل الثاني - وهو أعظم فصول القصة شأناً - ابتدأ دور (التنبه) وفي الفصل الثالث - وهو عادة أقصر كثيراً من الفصلين الأولين - يكمل دور (التنبه) ويكون ذلك مصحوباً غالباً بحركة مسرحية عنيفة تحل بها العقدة المسرحية فنواحي التجديد في مسرح بيراندللو:

أولاً: أن القصة لا تبلغ حدتها في الفصل الذي يقوى فيه (الحادث) في الفصل الذي تقوى فيه (المعرفة)

ثانياً: أن القصة ترمي إلى إثارة المشاهدين عن طريق (اكتشاف) حقيقة كانت مجهولة عن طريق (الحركة).

ومن الحق أن نذكر ما يوجهه النقاد إلى فن بيراندللو. فقد أتهمه ناقدوه بأن رواياته لا ترتفع عن مستوى الدرام، بل عن مستوى الميلودرام. وأنه أختار لقصصه موضوعات هي من التعقيد بحيث كان من العسير التصديق بإمكانيتها في الحياة الإنسانية الواقعة، وأخيراً أن روايته لا تخلو من بعض الملل لأن بيراندللو كان فيها (مفكراً) أكثر من اللازم

على أنه مهما قيل في فن بيراندللو فانه لا يمكن إنكار أهمية مسرحياته وأثرها التجديدي في المسرح العالمي مما جعل بعض قصصه الشهيرة يترجم إلى خمسة عشرة لغة أجنبية. كما أن بيراندللو هو الكاتب الإيطالي الوحيد الذي استطاع أن يحل المعضلة التي اعترضت كل الكتاب الإيطاليين منذ عام 1870 ألا وهي كتابة عمل أدبي يعالج موضوعات ويرسم شخصيات قومية بحتة وينال في الوقت نفسه إعجاباً عالمياً. فكأن

ص: 59

بيراندللو بنيله جائزة نوبل قد نال فخراً مضاعفاً. إذ بلغ مجده الأسمى وحقق أملاً عزيزاً من آمال وطنه.

علي كامل

ص: 60

‌البريد الأدبي

ذكرى الموسيقي بوتشيني

مضت عشرة أعوام كاملة على وفاة الموسيقي الإيطالي الأشهر جاكومو بوتشيني، فقد توفي في 29 نوفمبر سنة 1924، ولكن اسمه وفنه وموسيقاه ما زالت تملأ الأذهان والأسماع. واليوم تذكر دوائر الفن والموسيقي بوتشيني، وتكتب عنه وعن فنه الفصول والبحوث الفياضة.

وكان مولد الموسيقي الكبير في سنة 1858؛ ودرس على أكابر أستاذة عصره مثل بازيني وبانكيلي، ولبث مدى عصر أعظم شخصية في الموسيقى الإيطالية والموسيقى الغربية بصفة عامة، وكان يشغل في إيطاليا نفس المركز الذي كان يشغله معاصره فاجنر في ألمانيا، ويوهان شتراوس في النمسا. ويعتبره النقاد الفنيون ثالث أقطاب التأليف الموسيقي في العالم كله، فأولهم فاجنر، وثانيهم فردي، وهو الثالث. وقد نالت أوبراته الموسيقية شهرة عظيمة، ولا سيما (مانون لسكو) و (البوهيمية) و (لاتوسكا) و (مدام بترفلاي) وهي تجمع إلى نزعة روزيني وفردي الغنائية، نزعة حديثة إلى التعبير؛ وكان بوتشيني موسيقي الحب المعذب، وأروع قطعه ما كان يمثل القلوب الكليمة البائسة؛ ذلك لأنه كان في حياته الغرامية منكوداً معذباً، وكان دائماً طائر القلب والعواطف، لا يكاد ينضج في قلبه غرام، حتى يسارع إلى غرام جديد. وكان صعب الرضى فيما يتعلق بالنصوص، لا يكاد يعجبه نص مهما كان من الروعة، ولهذا كان يجوب القارة باحثاً عن النصوص المختارة لتلحينها، وقد غضب يوماً إذ أفلت منه قطعة لبيير لوئيس انتزعها منه الفرد برينو، وأفلتت منه أيضاً (بلياس ومليزند) لماترلنك، ولكنه ظفر (بتوسكا) وهي من تأليف فكتوريان ساردو، بيد أنه لم يكن راضياً عنها كل الرضى، وقد ألف لها بعض أناشيد من عنده، ويروى أنه اضطر (اليكا) مؤلف (البوهيمية) إلى حذف مناظر برمتها، وتغيير كثير من النصوص. وقد تزوج بوتشيني من مدام (الفيرا بونتوري) بعد فضيحة غرامية طويلة، وكانت الفيرا زوجة للسنيور بونتوري، ولكنه هام بها رغم زواجها، وبادلته الحب، وحملت منه، ثم فرت إليه، ولم يستطع أن يتزوجها إلا بعد وفاة زوجها. وكان بوتشيني مع ذلك يبحث عن مخاطرات غرامية جديدة كلما أصابه السأم، ثم يعود يائساً فيرتمي بين أحضان الفيرا

ص: 61

وقد توفي بوتشيني في بروسل، في 29 نوفمبر سنة 1924، بعد مرض طويل، ودفن حسب وصيته في قصره في توري دللاجو (شمالي إيطاليا)، ولما توفيت زوجته الفيرا في سنة 1930 دفنت معه في نفس قبره.

مكتبة نابوليون وآثاره الخطية

عرضت أخيراً في دار التحف المعروفة (باوتيل دروو) بباريس مجموعة فريدة حافلة لآثار الإمبراطور نابليون بونابرت ومخطوطاته الشخصية؛ وهذه المجموعة التي يملكها المسيو (برويه) والتي لا تضارعها أية مجموعة أخرى من آثار الإمبراطور، تعرض الآن للبيع، وفيها عشرات من الذخائر والتحف البونابارتية في عصر الإمبراطورية، ومعظمها مما احتوته مكتبة الإمبراطور الشهيرة في قصر مالزون من الكتب النادرة الممهورة بتوقيع الإمبراطور،

والوثائق الحربية والسياسية النادرة؛ وهي تعرض تاريخ نابليون كله منذ كان ضابطاً صغيراً في حصن فالانس حتى وفاته في جزيرة سنت هيلانة سنة 1821، ومنها رسائل شخصية تصور ما كان عليه الإمبراطور من وفرة في السلطان والعزم؛ ومنها رسائل غرامية كتبها نابليون إلى (جوزفين بوهارنيه) التي غدت زوجته الإمبراطورة فيما بعد؛ وفيها يبدو القائد العظيم محباً ذلولاً يخضع لسلطان الهوى خضوع الطفل، وكان أهم ما لفت النظر منها رسالة كتبت على ورق أخضر بتاريخ يوليو سنة 1796 وفيها يخاطب نابليون جوزفين بما يأتي: (ألست روح حياتي، وعاطفته قلبي؟ إني أؤمل أن أظفر منك برسالة هذا المساء؛ وأنت تعلمين يا عزيزتي جوزفين أي سعادة أنها لرسائلك، وإني لعلى يقين أنك تغتبطين بكتابتها. . . سأسافر هذا المساء إلى جبال التيرول، في فيرونا، ومن هناك إلى مانتوا ثم إلى ميلان، لأظفر ثمة بقبلة، فأنت تؤكدين لي أن القبلات ثمة ليست باردة ولكنها محرقة. . . ماذا تصنعين في هذه الساعة؟ إنك تنامين أليس كذلك. وأنا لست بجانبك لكي أستنشق تنفسك، أتأمل ظرف محاسنك، أغمرك بالقبلات. إن الليالي بعيدة عندك طويلة، ذابلة محزنة؛ إلى جانبك يأسف المرء أن ليس الليل بخالد، فوداعاً أيتها الحسناء الرقيقة، التي لا مثيل لها، والتي تسمو إلى السماء؛ وألف قبلة ناعمة، في كل مكان، في كل مكان. . .

ص: 62

وقد أثار عرض هذه المجموعة في الدوائر الفنية والأرستقراطية اهتماماً عظيماً، وهرعت الجموع إلى (أوتيل دروو)، تتنافس في اقتناء هذه الذخائر، ومنها كتب وسمت بشعار الإمبراطور، ومنها كتب كانت لقادته واخوته، وآله

فمتى نعنى في المشرق بآثار عظمائنا، ومتى نعتبرها ذخائر مقدسة يتنافس المتنافسون في اقتنائها؟ ومتى تخرج إلى الضياء قبل كل شيء؟

جائزة نوبل للكيمياء

سبق أن أشرنا إلى أن جائزة نوبل الطبية منحت هذا العام لثلاثة من علماء الطب في أمريكا، وأن جائزة نوبل الأدبية منحت إلى الكاتب المسرحي الإيطالي بيراندللو. ونذكر الآن أن جائزة نوبل للكيمياء عن سنة 1934 قد منحت أيضاً إلى أمريكي هو الأستاذ هارولد كليتون يور أحد أساتذة جامعة كولومبيا الشهيرة بنيويورك، وذلك لأجل مباحثه واكتشافاته الخاصة بالهيدروجين الثقيل؛ وبذلك تكون أمريكا قد ظفرت هذا العام بجائزتين من جوائز نوبل

هذا وأما جائزة نوبل عن العلوم الطبيعية فقد تقرر أن يوقف منحها هذا العام، وأن ترجأ إلى العام القادم، لأنه لم يتقدم لنيلها من العلماء من هو جدير بنيلها.

ص: 63

‌القصص

من الأدب التركي

الزواج المبارك

ترجمة الآنسة (فتاة الفرات)

كنت سائراً يوماً وأحد رفاقي في شارع (بك اوغلي) أحد شوارع الآستانة الجميلة. وكان رفيقي على عادته يحدثني أحاديث مختلفة، يحدثني عن نفسه وعن غيره أحاديث منها ما يقبل ومنها ما يمج ويرد. وبينا هو يهدر في حديثه وقف فجأة وصاح:

- إلى أين؟

التفت فإذا هو يكلم رجلاً طويل القامة محدودب الظهر، وكأنه قد تعب من الحياة؛ أسمر اللون، قد طال شعر رأسه ولحيته حتى خرجا عن الحد المألوف، عليه بذلة لا يعلم إلا الله ما لونها، قد أثر فيها الغسل الكثير حتى اختلطت ألوانها وتهلهل نسجها.

فقال له رفيقي:

- ألا يزال الحال على ما نعهد؟

فهز الرجل رأسه علامة الإيجاب وارتسمت على ثغره ابتسامة الترح لا ابتسامة الفرح.

فقال له رفيقي:

- بارك الله فيهم. وانصرف عنه

ثم ألتفت إلي وقال هل أقص عليك قصة هذا الرجل؟

فقلت له على مضض:

- هات ما عندك

فأخذ يقص علي قصة الرجل، يقصها بصورة مونقة، لها من إشاراته اللطيفة ومن بيانه البديع خير حلية وأبدعها. قال: هذا الرجل من لداتي في السن، ومن رفاقي في العمل، كنا مأموري حساب في مصنع حديدي ونحن في نهاية العقد الثاني من عمرنا، وكان مرتبه الشهري أربعة دنانير، ولكنه كان بالرغم من قلة المرتب ذا زي حسن وهندام جميل، فإذا ظهر زي كان أسبق الناس إليه. كان زيه أحسن أزيائنا جميعاً، وكان يفوقونا طراً في

ص: 64

العناية بثيابه وجسمه، فكان يحلق ذقنه في كل يومين مرة، وكان مغرماً باللهو كثيراً، فإذا كان يوم الاثنين جاءنا بكل طريف من أحاديث لهوه ومرحه في بياض يوم الأحد وسواد ليله، ولم نكن نجد عند أحد ما نجد عنده من أخبار معارض الصور ومسارح التمثيل والمتنزهات. جاء في يوم جمعة صباحاً إلى الدائرة وهو تحفة في هندامه وآية في زيه؛ كان في رجله حذاء لماع قد جعل حوله قطعة جوخ من قماش بنطلونه، وحول رقبته عقدة من قماش أزرق اللون قد ربطها ربطة جميلة، وجعل في وسطها دبوساً ماسياً على شكل نحلة جناحاها من ياقوت، لعله قد ورثه عن أمه، ومن جيببه الخارجي تدلى منديل حريري ذو ألوان جميلة، وفي صدره سلسلة ساعة ذهبية رأسها في عروة صدارته وطرفها الآخر في جيبها، وفي إصبعه خاتم زمردي، وفي رأسه طربوش صغير قاتم الحمرة يختال بلذة لارتفاعه فوق ذلك الهندام الجميل. فاجتمعنا حوله ضاحكين نسأله عن سر هندامه الجميل وتأنقه الشديد في هذا اليوم، فقال:

- سأذهب اليوم إلى منتزه (كاغدخانه)، وكل ما أرجوه منكم أن تكونوا عوناً لي على الرئيس ليسمح لي بالذهاب، فان التأخر يضرني كل الضرر. ثم مد يده إلى جيب معطفه وأخرج محفظة أوراقه وسحب من بينها ورقة (حمراء) اللون لوح لنا بها وهو يبتسم ويقارب ما بين جفنيه وينظر إلينا نظرة ذات مغزى، ولكنه ظن علينا بسر تلك الورقة، وأهمنا ما أهمه، وأحببنا أن ينعم ذلك اليوم بنزهة، فذهب أصدقاء أحد الرئيس إليه، وما زال به يكلمه في شأنه حتى سمح له بالذهاب في ذلك اليوم، وكاد صاحبنا يجن حين علم ذلك. فكان يصفق بيديه ويخالف بين رجليه، وقفز إلى الشارع وهو يقول:

- سأقص عليكم غداً ما يكون في هذا اليوم

كنا ننظر إليه نظر حسد ممض، وننظر إليه نظر المحبوس في غرفة مظلمة يؤدي عملاً شاقاً، إلى رجل حر، طليق، يسرح ويمرح كما يحب ويختار

أما هو فطار كما يطير العصفور أفلت من القفص. . . عاد في اليوم الثاني إلى عمله بهندامه المألوف، فاجتمعنا حوله نسأله بإصرار عن سر الورقة (الحمراء) وعن أخبار النزهة في (كاغدخانه)، فلزم السكوت مع أنه هو الذي وعدنا بأن يقص علينا ما يجري معه هناك! كان لا يجيبنا إلا بقوله:

ص: 65

- لا شيء، لا شيء. . .

ويبتسم ابتساماً يدل على أن لديه أشياء كثيرة، لكنه يود إخفاءها عنا. فلما قطعنا الأمل من إفشائه سر الورقة وأخبار النزهة عاد كل منا إلى مكانه وأقبل على عمله. أخذت ألاحظه ملاحظة خفيفة فرأيته بين آونة وأخرى يستتر خلف دفتره الذي أمامه ويفتح محفظته ويلقي على ما فيها نظرة تنم عن غبطة وسرور. ثم رأيت ورقة (زرقاء) بجانب (الحمراء)، فقلت له وهو يلقي خلسة نظرته المعتادة على ما في محفظته:

- أراك تهئ نزهة أخرى في (كاغدخانه)؟

فأجابني ضاحكاً:

- ربما. . .

بعد هذا الأسبوع أصبح رفيقي ينتحل أسباباً يسمح له معها الرئيس بالتغيب أيام الجمع، فكان يذهب إلى منتزه (كاغدخانه) يقضي أيام الأحد والجمع هناك، ولكنه خلافاً لعاداته لا يقص علينا أخبار نزهاته ورياضته. كنت ألاحظه دائماً من حيث لا يشعر بي، فرأيت محفظته قد امتلأت بالأوراق (البنفسجية والخضراء، والصفراء) بجانب (الزرقاء والحمراء). فقلت في نفسي، كأن رفيقي يستعرض الألوان متخيراً، وسنرى أي لون يختاره في النهاية ويستقر عليه رأيه. وبعد مدة علمنا اللون الذي وقع عليه اختياره. . . .

جاءنا في صباح يوم بادي القلق ظاهر الاضطراب، فأخذ يذرع الغرفة جيئة وذهاباً يحاول أن يتكلم ويفضي إلينا بشيء ولكنه لا يقدر، ثم نظر إلى وجه كل واحد على حدة وقال:

- سأقول لكم شيئاً

حولنا جميعاً أنظارنا إليه، وكنت واثقاً أن ما سيقوله يتعلق بالأوراق الملونة التي في محفظته وقال:

- سأتزوج. . .

فصعقنا لهذه الكلمة كأنها قنبلة سقطت علينا من السقف، واستتلى فقال بكل جد:

- سئمت هذه الحياة، حياة الوحدة، وعزمت على أن أستريح، إن ملازمة غرفة البيت والاشتغال بالعيال والأطفال خير من قضاء الليالي الطوال في أماكن اللهو ومحال الفجور. فقلت له:

ص: 66

- أن مسألة الأطفال مسألة ثانية، والمهم الآن أن نعرف من هم العيال؟

فأجابني بكل جد:

- إنها موافقة لي تمام الموافقة، إنها ليست غنية، وأنا لست من طلاب الغنى في الزواج، ستأتيني بثيابها فقط، إن والدي مازال يشكو من الوحدة بعد وفاة والدتي، ويقول إن كل بيت يحتاج إلى امرأة، فسأسبقه وأتزوج قبله، هذا كل ما هنالك.

فقلت له:

- لابد من صلة متينة بين هذا الزواج وبين الأوراق الملونة؟

فلم بصدق ما قلت ولا أنكر ما ادعيت، أنه سكت، وكيف ينكر ما لا يقبل الإنكار؟ سمعنا هذا منه وسكتنا، ولم يظهر بيننا من يخالفه في رأيه الذي أعتزم عليه، ولا يقول له: إن الإقدام على الزواج مع مرتب ضئيل لا يتجاوز الأربعة دنانير كل شهر، لا يدل على رأي حسن وفكر مستقيم، وأن الزواج لو كان يترتب على كل رؤية يعقبها ميل لكان الزواج عبارة عن سلسلة لها أول وليس لها آخر

كان العقد وكان الزفاف، وكانت الحفلات الشائقة التي نعمنا فيها بنعيم صديقنا. وبعد غياب أسبوع عاد إلى عمله وأول كلمة قالها هي:

- إني سعيد. . .

نعم كان سعيداً. . . كنا نعرف ذلك من الطيش الذي أظهره باستدانته من هنا وهناك نقوداً أنفقها في حفلات العرس. كنا نتحقق سعادته حينما نرى الصيارفة عند باب الدائرة في أكثر الأحيان. . . وحينما نراه يوم أخذ المرتب غارقاً يفكر وقلمه بيده يكتب أعداد ويمحو أخرى. . . لم نره مسروراً إلا أسبوعاً واحداً فقط. ثم جعلت ألاحظ أن خطوط الهم والتفكير أخذت تظهر على جبينه، ولكنه مع ذلك كان بين آونة وأخرى يقول لنا:

- إنني سعيد. . . كأنه يحاول بذلك أن يخدع نفسه، أو كأنه يريد أن يخدعنا

سمعته في أحد الأيام وقد أخذ الموظفون يستعدون للذهاب إلى منازلهم للغداء يقول:

- إني اليوم أشعر بفتور في جسمي لا أقدر معه على الذهاب إلى البيت للطعام، لذلك سأبقى هنا وسأتناول شيئاً من الخبز والجبن. وفي اليوم الثاني أتى بعلبة صغيرة ووضعها في درج مكتبه ثم أخرجها عند الظهر وقال:

ص: 67

- لقد رأيت أهل البيت يقددون لحماً فاشتهيت أن أجعل منه غدائي هذا اليوم. كأنه يريد أن يعتذر عن عدم ذهابه إلى البيت ليتناول فيه طعام الغداء على حسب العادة، عند ذلك قوى عندي الشعور بسعادته وقلت:

- حقاً أنه سعيد. . .

أصبح بعد ذلك اليوم لا يخرج ظهراً إلى البيت لتناول طعام الغداء، ولا حاجة إلى الاعتذار عن ذلك إلى رفقائه، وأصبح في أكثر الأحيان يأكل الخبز والجبن لا يزيد عليهما، وربما أتى معه من البيت بسمك محمر، أو لحم مقدد، قد صر ذلك في جريدة، وربما عدل عن اللحم إلى البيض المسلوق. رأيته يوماً يفتح قماشاً فوق منضدته ويقلبه بين يديه ويتأمله مفكراً، فلما وقع نظره على نظري رفع قطعة القماش بيده وقال لي:

- ألا تعجبك هذه القطعة لمعطف نسائي! إنها حقيرة في نظرها لأن ثمنها ثلاثة دنانير!

لقد أقدم على شراء معطف بثلاثة دنانير مع أن مرتبه الشهري أربعة فقط! ومع هذا فهي ساخطة وتعدها حقيرة. . . يا للغرابة!. . لم أر من اللياقة أن أجيبه بما يجب، فأرسلت زفرة من أعماق قلبي وقلت:

- انه سعيد وسعيد. . .!

في اليوم الثاني أخذنا مرتباتنا، وبينما كنا خارجين من الدائرة كان أحد الصيارفة في انتظاره عند الباب فتعلق به وطالبه بنقوده صائحاً معربداً، فدفعه عنه، ولكن الصيرفي أخذ بتلابيبه، ولم يرض أن يتركه حتى يدفع له كل ما عليه، فتخلص منه بعد جهد، وعاد إلينا قائلاً كأنه بكلامه يريد أن يخفف وقع المنظر في نفوسنا:

- يا له من وقح! كأني قد أنكرت ماله علي من دين، فهو يطالبني بهذه الشدة!

فقلت في نفسي: ستدفع إليه بلا شك، وما الذي يقوله هذا النذل فيك إذا أنت لم تأخذ من المرتب إلا ثمن المعطف الذي قدمته للفتاة التي عبثت بلبك بوريقاتها الزاهية، وإلا نفقاتك البيتية والخصوصية، ثم قدمت إليه الباقي جملة واحدة؟! كان يفقد نشاطه بالتدريج، لقد حل مكان النشاط سكون وفتور، أما اعتناؤه بزيه وهندامه فكان يقل شيئاً فشيئاً، ولكنا مع ذلك كنا أحياناً نرى دبوسه الماسي فوق عقدة رقبته، وخاتمه الزمردي في إصبعه، وسلسلة الساعة على صدره. أما الثياب فكان يقضي داخل الحلة الواحدة فصلاً كاملاً، وكان لا يبدل

ص: 68

قميصه إلا نادراً، وظهر عليه انقباض، فربما مرت عليه أيام لا يحرك شفته إلا بكلمة. كنا نشعر نحن أن وراء هذا التبدل ما وراءه من حياة بيتية مضطربة. . . . إلا أنه جاءنا يوماً على غير عادته فرحاً مستبشراً فقال لنا عند دخوله:

- هنئوني، لقد رزقت اليوم فتاة. ثم نظر إلى تقويم الأوقات وكتب في دفتره: 15 آذار 1300. هنأه كلنا بالمولود الجديد وأنا من جملتهم وقلت:

- ها قد جاء دور الأطفال بعد العيال. جاءني بعد أسبوع وقال والحمرة تعلو وجهه:

- هل عندك دينار تقرضني إياه؟ ثم أردف قائلاً من غير أن يترك مجالاً لرد طلبه:

- يجب علي أن أدفعه إلى القابلة. لقد سمعت الدينار في جيبي يزفر زفرة حرى. ولكن لم يكن في استطاعتي أن أرد طلبه، فأعطيته الدينار. ومن الغريب أنه منذ ذاك الحين أخذ يعاملني معاملة باردة، ويقابلني بوجه جاف، مع أنه لم يكن ثمة حاجة إلى ذلك، لأني منذ ناولته (الدينار) نفضت يدي منه. لقد تغير حال رفيقنا وازداد اضطراباً بعد أن صار أباً. دخل يوماً إلى الدائرة وهو يقول:

- ألا تسألون ما حل بي؟ فأخذنا ننظر إليه بقلق وننتظر أن يذكر لنا ما حل به، ففتح حينذاك ملفاً صغيراً بيده وأخرج منه علبة صغيرة سوداء فرفع غطائها وأرانا إياها فإذا فيها: ثدي صناعي. وقال:

- إن زوجتي لن ترضع أبنتها بعد الآن، سنرضعها بالثدي الصناعي، فهل تدرون لماذا؟ حينذاك توقف عن إتمام كلامه كأنه كان يتردد بين أن يقول وبين أن يسكت ثم قال وهو خجل:

- لأنها حامل!

كان ينظر ألينا باضطراب، وكان منظره مؤلماً ومضحكاً معاً رأيته يوماً عند طعام الظهر أخرج قطعة (كعك) وقطعة من جبن (القشقاوان) وأخذ يأكلهما وهو يتمتم قائلاً:

- أنت تجوع وابنتك في البيت تأكل مرق اللحم الدسم أخذت علائم الحزن ترتسم على محياه وتظهر بأجلى مظاهرها، وبدت على وجهه معاني مؤلمة حزينة لبعد عهده بالموسى، وكان كثيراً ما يكلم نفسه كالمجانين، وكثيراً ما يشتغل بحسابه الخاص - حساب الدين - عن حساب الدائرة، ويسافر بفكره إلى أقصى حدود الخيال.

ص: 69

عدنا يوماً من الغداء إلى الدائرة فرأيناه يخيط بطانة معطفه، ذلك المعطف الذي صاحبه زمناً طويلاً، فخجل منا وقال:

- أن زوجتي مريضة لذلك أنا أخيط ثيابي بيدي.

إنه لم يقل الحقيقة لأنه ما كان يخيط بطانة معطفه المفتوقة، بل كان يرفو بطانته التي تهلهل نسجها لطول الأيام. حينما ذكر لنا خبر ولادة المولود الثاني لم يكن فرحاً مستبشراً كما كان في أول مرة بل قال:

- لقد رزقت اليوم غلاماً. ثم نظر إلى تقويم الأوقات وأخرج دفتره من جيبه وكتب فيه: 12 نيسان 1301

لم نره بعد ذلك شكاً أو تبرم، ولكنه كظم كل ذلك في قلبه صابراً مستسلماً لقضاء الله وقدره. سعينا مع الرفاق عند رئيس الشركة ليزيد راتبه فلم نفلح، وكان جواب الشركة:

- أن أولاد الموظفين ليسوا من صنع معاملها حتى تتكفل بهم. أربعة الدنانير للزوجين وللولدين. . . . صار طعامه عند الظهر الخبز والجبن بصورة منتظمة، ولم نعد نراه في منتزه ولا متفرج، وأنزل نوع تبغه الذي يدخنه درجة ثم درجات، وأصبح كثير النظر في أوراق الحساب، وفي آخر أحد الشهور زاره الصيرفي الملح يطالبه بالدين فصاح به:

- لن أعطيك، لن أعطيك شيئاً، افعل ما تشاء.

لقد كان قبل اليوم يكلمه سراً، أما اليوم فهو يكلمه علناً، لأنه لم يعد يخجل منا. جاءنا في صباح أحد الأيام وبيده علبة فيها ثدي صناعي. فقلت له:

- ما هذا؟

فقال:

- لا شيء

كأنه خجل أن يقول ما قاله أولاً، وفي ذاك النهار لم يزاول عملاً، ولكنه جعل رأسه بين يديه واسترسل في أفكاره حتى المساء، لا ينظر إلى شيء ولا إلى أحد. ولاحت مني التفاته إليه أحد الأيام فإذا هو ينظر إلى تقويم الأوقات ثم يخرج دفتره من جيبه؛ فقلت له:

- هل من قيد جديد لزائر جديد؟

فأرسل نفساً قصيراً وكتب في الدفتر: 10 مايس 1302

ص: 70

ثم قال وهو ينظر إلي مبتسماً ابتسامة مؤلمة:

- لقد رزقت اليوم فتاة أخرى كنت أنا أشعر من أعماق نفسي بألم من كثرة أولاد هذا الرفيق، أما هو فكان يبكي من فرط تألمه، فحول عينيه عني وأقبل على عمله. أخرج يوماً ساعته من جيبه وفصل عنها سلسلتها الذهبية ولفها بورقة، فقلت في نفسي:

- لن نرى السلسلة الذهبية بعد الآن. إن رفيقي لم يدفع ثمن القهوة في هذا الشهر، وأصبح منذ ذاك اليوم يشربها مرة واحدة في النهار بدلاً من ثلاث مرات. ساءت حال الرجل وأشتد به الضيق، وظهرت ملابسه ملوثة ببقع الحبر، واستحال لونها، وتهلهل نسجها ووهى، فكنت إذا رأيته على هذا الحال رثيت له وبكيت عليه. ولقد دخل علي يوماً وعليه حلة جديدة لم أرها عليه قبلاً، ففرحت لذلك، إلا أن فرحي لم يطل، فقد قال لي غير خجل مني:

- إنها قديمة، ولكني صبغتها فصارت جديدة. وبعد هذا الاعتراف أصبحنا صفيين، وزال ما بيننا من الفتور الذي سببه (الدينار) واتخذني كاتماً لأسراره، يبثني آلامه وأحزانه. لقد سرد علي تدريجاً كل آلامه في الحياة. فذكر لي أولاً مبدأ صلته بزوجته وأساس هيامه بها، وأن ذلك كان في منتزه (كاغدخانه)، وبسبب تلك الأوراق الملونة. . . وأنه كان يأمل أن ينعم بالاقتران بها، إلا أنه لم ينعم بذلك إلا أسبوعاً واحداً وأتى بعد ذلك الشقاء. . .، ثم تجلت بعد ذلك حياة البؤس من اجتماع فقره وفقرها، فكان بينهما نزاع سببه عدم تمكنه من تأدية نفقاتها وطلباتها. . . ثم الأولاد. . .

وعاد إلى زوجته فقال:

- أنها لما رأت نفسها محرومة مما تشتهي من ملبس ومأكل ومشرب أخذت تعامله معاملة قاسية لا تطاق، ولكن ماذا يعمل هو إزاء ذلك، وهاهو لم يلبس بذلة جديدة منذ تزوج حتى الآن، وأن ياقته قد تمزقت فقلبها على قفاها لأنه لا يجد غيرها ولا يستطيع الوصول إليه، على أنه قد عزم على أن يتخذها من مشمع كيلا يتمزق سريعاً، وها أن ولديه الاثنين قد كبرا، وهما في حاجة إلى ثياب وإلى أحذية لا يجدها.

وكان بعد ذلك اليوم الذي نفض فيه جعبته أمامي، يسمعني كل يوم فصلاً من فصول حياته المؤلمة. نظر إلي يوماً وهو يريني قماشاً لأبنته الكبرى وقال:

- سأقول لك شيئاً. ثم عاد وقال:

ص: 71

- لن أقول لأنك لا تصدق

إلا إني عرفت ما يقصده حينما رأيت دفتره في يده ونظره في تقويم الأوقات، لقد كتب في دفتره: 8 حزيران 1303

فقلت له: - أطفل أيضاً؟

قال: نعم غلام، وقد أصبحوا أربعة.

ثم قال وهو يبتسم: - أنهم لا يخطئون نوبتهم: فتاة ثم غلام، ثم فتاة ثم غلام، وهكذا. .

كان يضحك ولكن كان قلبه يبكي. فقال لي في نفس ذلك اليوم: إن الدخان يؤثر في صدره ويؤذيه، وهو يرغب ي تركه لو يستطيع. أدركت ما يقصده المسكين من ترك الدخان، فتأملت له كثيراً حتى كدت أبكي.

رزق ولداً آخر، فصار الأولاد خمسة، وفي ذلك اليوم خرجت نفسه من يده، فانه ما كان يدخل الدائرة ويجلس إلى منضدته حتى أخرج دفتره وكتب فيه وهو ينشج نشيجاً وهو يفتت الكبد ويصدع القلب: 5 تموز 1304

فقال بعض رفقائنا الجفاة ساخراً منه:

- ضع أرقاماً متسلسلة بجانب أولادك كيلا تنسى عددهم. . .

كانت الخامسة فتاة على الترتيب المعتاد. بعد ذلك بقيت معه ثلاث سنين في الوظيفة رأيته فيها ثلاث مرات يكتب في دفتره، كتب فيه بجانب اسم فتاة وغلامين: 14 آب 1305، 8 أيلول 1306، 14 تشرين الأول 1307

كأن الدهر كان يريد مداعبة هذا الرجل الفقير المسكين فهو يقذفه مصراً في كل سنتين بفتاة وغلام. . . لقد خلت محفظته من الأوراق (الملونة) بعد أن كانت تغص بها، ولم يبقى فيها غير دفتر صغير فيه صحيفة كاملة لتواريخ أولاده. بعد أن قيد تاريخ ولادة الولد الثامن. . . ألقى نظرة فاحصة إلى آخرها ثم جاء إلينا وقال:

- تعالوا لأريكم اتفاقاً غريباً. فاجتمعنا حوله فقال:

- اقرأوا من أعلى الصحيفة حتى أسفلها

فقرأنا فإذا فيها: آذار، نيسان، مايس، حزيران، تموز، آب، أيلول، تشرين الأول

ثم أخذ يشرح لنا مكان الغرابة في ذلك فقال:

ص: 72

- انظروا إن بين كل ولد من أولادي ورفيقه ثلاثة عشر شهراً لا تزيد، لذلك كانت شهور ولادتهم متعاقبة لا فاصل بينها فقال أحدنا مستهزئاً أيضاً:

- الآن جاء صاحب تشرين الأول! وسيأتيك أربع آخرون حتى شباط. وفيه تنتهي المجموعة ويكمل عددهم (اثني عشر) لقد مضى على خروجي من خدمة الشركة أربع سنوات لم أر خلالها هذا الرفيق القديم، فلما رأيته اليوم سألته عن حاله فإذا (سيل) الأولاد لا يزال كما كان. وعلى ذلك فان (شباط) قد وضع (هديته) وتمت المجموعة التي بشر بها، مع أن المسكين لا يزال يلبس الثياب التي كانت منذ أربع سنين، وربما كان مرتبه لا يزال (أربعة دنانير).

هنا انتهت القصة التي رواها رفيقي فودعته وركبت الترام إلى بيتي، وأنا أفكر في ذلك الرجل المسكين وسوء طالعه، وأستنزل الرحمة والرضوان على جدث دفين معرة النعمان.

حلب

فتاة الفرات

ص: 73

‌الكتب

(الخطابة): تأليف محمد أبو زهر

(الأدب العربي في آثار أعلامه): وضع لجنة من أدباء لبنان

(نسمات الأصيل): تأليف عبد العزيز رمضان وعبد الفتاح

العشري

(الثعابين): تأليف الدكتور حسين فرج زين الدين

(ابنة استريا): تعريب محمد عبد الفتاح إبراهيم

(ظلال القمر): نظم أحمد مخيمر

تدل هذه المجموعة من الكتب، فضلاً عما تظهر من نشاط التأليف في العالم العربي، على بعض مظاهر الحركة الفكرية عندنا، من حيث تشعبها واتجاهها ومقدار ما دخل عليها من تطور في طريقة عرض الآراء وبسطها وتوجيهها، وما دخل على المشاعر من آثار التجديد. أما أولها فبحث قيم في الخطابة وأصولها وتاريخها في أزهر عصورها عند العرب، اضطلع بوضعه الأستاذ محمد أبو زهرة أستاذ تاريخ الخطابة بكلية أصول الدين بالجامعة الأزهرية، وهو كتاب كبير يقع في نحو أربعمائة صفحة من القطع الكبير جعله مؤلفه قسمين، فتناول في القسم الأول أصول الخطابة، فعرف هذا العلم وبين علاقته بالمنطق وعلم النفس وعلم الاجتماع، ثم تكلم عن فائدة الخطابة وطرق تحصيلها وقواعدها كالإيجاد والأدلة وموضعها الذاتية والعرضية، وآداب الخطيب وصفاته وما يتخللها من إثارة الأهواء والميول واستغلال العواطف، وغير ذلك من أصول هذا العلم كالتنسيق وما يدخل فيه من مقدمة وإثبات، ثم التعبير وحسن الأداء وما يصحبهما من موقف الخطيب وإشاراته وصوته، ولم يفته أن يبين في وضوح أنواع الخطب من سياسة ومن قضائية حتى الوعظ الديني والمحاضرات العلمية والخطب العسكرية. . الخ وفي القسم الثاني تكلم عن تاريخ الخطابة في العصر الجاهلي وصدر الإسلام، وفي العصر الأموي وصدر

ص: 74

العصر العباسي مع إيراد نماذج لكل من هاتيك العصور. فأنت ترى أنه بحث قيم جدير بالثناء، كما ترى أنه موضوع طريف في مسألة لها أهميتها وخصوصاً في عصرنا هذا. عصر الرقي الاجتماعي والاتصال الفكري، عصر المجادلات السياسية والمناقشات البرلمانية والمحاضرات العلمية والوعظية في المجتمعات والنوادي وفي الراديو وغيره. وأني وأن كنت أشايع المؤلف الفاضل في رأيه أن الخطابة ملكة وهبة وطبيعية، فأني أرى معه أيضاً أن الأصول والقواعد الفنية لابد منها حتى للموهوبين، فما أبدع الجمع بين الاستعداد الفطري والأوضاع الفنية، هذا ولو لم يقتصر الأستاذ الفاضل على الخطابة عند العرب فتناول الخطابة عند أمم الغرب لكان موضوعه أتم، وكانت فائدته أعم، إذ

تتسنى بذلك المقارنة. ولا شك أن ما طرأ على الأمم من تغيير في نظم الاجتماع وطرق التفكير قد أدخل على الخطابة في العصر الحاضر عناصر أخرى جديرة بالبحث، والمؤلف كما يظهر في كتابه جدير بأن يفرد لها رسالة أخرى لا يتقيد فيها ببرنامج الدراسة وحدوده.

وأما الكتاب الثاني فعبارة عن نصوص منتخبة من النظم والنثر وفقاً لمنهاج البكالوريا اللبنانية قام بوضعه الأساتذة واصف بارودي، وفؤاد افرام البستاني، وخليل تقي الدين، وفي يدي الآن الجزء الأول منه، ويشمل الجاهلية وعصر صدر الإسلام، ويقع في نيف ومائتي صفحة من القطع الكبير، وقد طبع طبعاً أنيقاً في بيروت، أختار مؤلفوه الأفاضل من عصر الجاهلية شيئاً من أشعار امرئ القيس وطرفة بن العبد وزهير وعنترة والنابغة الذبياني مع إيراد ترجمة قصيرة لكل منهم، وبيان ظروف معلقته، واختاروا من عصر صدر الإسلام للأخطل وفرزدق وجرير وعمر بن أبي ربيعة والحجاج بن يوسف وعبد الحميد الكاتب، على نحو ما فعلوه في العصر الجاهلي مع الإشارة هنا إلى الدواوين أو المؤلفات. وقد يظن القارئ أن مثل هذا العمل قليل الخطر، ولكن الواقع أنه من أدق الأعمال الأدبية، فالاختيار يحتاج إلى توخي الفائدة وإلى التقيد بالذوق العام، ومراعاة سن القارئ ودرجة استعداده، ثم ملاحظة القطع المختارة ومقدار دلالتها على تفكير صاحبها ونوازعه في الشعر والكتابة وما ينعكس فيها من أخلاقه وصفاته، وهذا بلا شك يزيد في قيمة النصوص، فالنصوص كما لا يخفى أمر لابد منه لدراسة الأدب وتذوقه، وهي الخطوة السابقة للنقد بل الأساسية له. هذا وكثير من النصوص ما تزيد قيمته في نفس الجمهور بحسب من أختارها لا من حيث هي

ص: 75

في ذاتها. فإذا كان من يختار سليم الذوق طليعاً في فنه، جاءت مختاراته على قدر منزلته، وهذه النصوص التي أحدثك عنها تدل على ذوق وفن عظيمين.

وتجد ثالث تلك الكتب من نوع سابقه فهو عبارة عن مختارات من النظم والنثر، غير أنه يختلف عنه في طريقته، فلم يراع فيه ترتيب ولا تبويب، كما لم ينظر فيه إلى درس أو غاية فنية اللهم إلا الاستمتاع والغداء العقلي الذي يستمد من الآثار الأدبية عامة أياً كان شكلها أو موضوعها، وإنك لتجد فيه المقالة المعربة إلى جانب القطعة المختارة، إلى جانب الترجمة لشاعر أو كاتب، إلى قطع شعرية قديمة وحديثة متناثرة هنا وهناك دون أن تستطيع أن تعرف السر في اختيارها، اللهم إلا أنها قد أعجبت مختاريها، وبينما تجد بعض القطع منسوبة إلى أصحابها من أعلام الشعراء والكتاب تجد غيرها غفلا من كل إشارة، وتكاد لا تساوي شيئاً في معناها أو في أسلوبها. لذلك يحق لي أن أعتب في رفق على الأديبين المختارين عدم تنظيم

كتابهما، فان فيه الكثير من التحف الأدبية لو أنها عرضت بطريقة منظمة لكان ذلك أجمل وأدعى إلى الاستمتاع والانتفاع.

أما كتاب الثعابين فهو بحث يتناول الثعابين عامة والأنواع المصرية منها خاصة، قام بتأليفه أستاذ متخصص في علم الحيوان هو الدكتور حسين فرج زين الدين، وإن اختيار المؤلف الفاضل لهذا الموضوع الذي لم يسبقه إليه غيره في اللغة العربية، لدليل واضح يضاف إلى كثير غيره من الأدلة على مجاراة المصرين غيرهم من أمم الغرب في التخصص العلمي، وتناول المسائل العلمية على أمثل الطرق، والكتاب مملوء بالصور الدقيقة لأنواع الثعابين، والمصري منها خاصة، ولن أجد في وصفه أحسن مما قاله في مقدمته الفريق الدكتور أمين باشا المعلوف (قرأت الكتاب من أوله إلى أخره فوجدته مكتوباً بلغة علمية فصيحة، وأسلوب علمي سهل المنال، مما يثبت أن اللغة العربية غير قاصرة عن التعبير العلمي لمن أراده. هذا من جهة اللغة، أما العلم فقد بحث المؤلف الثعابين بحثاً وافياً ولا سيما ما كان منها في مصر وما جاورها وذكر أسمائها العربية الفصيحة والعامية، وإذا لم يجد لها اسماً فصيحاً ذكر الاسم العامي. وبحث في الحيات والإنسان وأنواع الحيات وأشكالها بوجه عام ثم بحث في تشريحها. . . الخ ثم بحث في السم وأنواعه وأعراض

ص: 76

التسمم والمصل في علاج الملدوغين). ونحن نتقدم بجزيل الثناء للدكتور المؤلف على مجهوده المحمود.

وأقدم للقارئ بعد ذلك تلك القصة المعربة وهي (ابنة استريا) وتقع في جزأين، ولقد نشرت تباعاً في جريدة الأهرام ومعربها هو الأستاذ محمد عبد الفتاح إبراهيم، أما مؤلفها فهو الروائي الإنكليزي الذائع الصيت فيلبس اوبنهايم، صاحب الروايات المحبوبة عند جمهور القراء في الإمبراطورية البريطانية، وليس لدى الأصل الإنكليزي حتى أستطيع أن أحكم على ما إذا كان التعريب جيداً، غير أني أجد في جودة العبارة وسلامتها من الركاكة ما يرجح عندي هذا، أما موضوع القصة فموضوع غرامي ساحر ملئ بكثير من المواقف المدهشة والأوصاف الساحرة. (كتبه اوبنهايم بعد أن زار جزيرة (استريا) وسط المحيط الجنوبي وسمع القصة بأذنيه).

يبقى الكتاب الأخير (ظلال القمر) وهو ديوان صغير الحجم يقع في نحو تسعين صفحة للأديب أحمد مخيمر، مطبوع طبعاً أنيقاً على ورق جيد، ومحلى بعدة صور ريفية بديعة.

وتدور معظم قصائده على وصف المناظر الريفية، وهي نزعة أحمدها للشاعر الفاضل فقد تناول البيئة المصرية المحبوبة، ولم يجر كغيره وراء أخيلة وصور لا تمت إلينا بصلة، ولذلك تلمس في شعره الروح القروية الرقيقة. وكثير من قصائده في القمر والحقول يقنعك بأن الشاعر لا يعرف التكلف، وحبذا لو اتجه شعراؤنا إلى الريف المصري فوصفوا جماله واستلهموا سحره، واستوحوا صفاءه وبهجته. ولكني إذ أغتبط بنزعة الشاعر من حيث الموضوع أقرر مع الأسف أنه كثيراً ما يسف في شعره إسفافاً قد يقربه به من الابتذال، ولكنه يسمو أحياناً سمواً يبشر بأنه مع الصبر والتجويد قد يأتي في المستقبل بما يجعل منه شاعراً مصري الروح والعاطفة.

الخفيف

1

ص: 77