المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 741 - بتاريخ: 15 - 09 - 1947 - مجلة الرسالة - جـ ٧٤١

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 741

- بتاريخ: 15 - 09 - 1947

ص: -1

‌الأستاذ فارس الخوري أو عبقرية البيان

للأستاذ عباس محمود العقاد

نكتب عن عبقرية البيان عندما نكتب عن الأستاذ الجليل فارس الخوري مندوب شقيقتنا سورية في مجلس الأمن، لأن الرجل ولا شك من أصحاب هذه العبقرية في طرازها الرفيع، ومن فرسان ميدان الخطابة في عالم السياسة وفي عالم الثقافة على الإجمال.

وعبقرية البيان معادن وألوان يعلو بعضها فوق بعض درجات.

فهي على صورتها الشائعة لا تعدو أن تكون ذرابة في اللسان وانطلاقاً في القدرة على مجرد الكلام.

ولكنها إذا بلغت ذروتها العليا لم يغنها هذا الزاد وحده من ازوادها الكثيرة، ومنها ملكة التعبير الصحيح، ونصاعة الحجة، وحضور البديهة في مواقف الارتجال، والإتيان بجوامع الكلم في مواضعها، لقوة التوفيق بين المعاني الراجحة والألفاظ الواضحة، أو قوة التوفيق بين الفكر واللسان.

وكل ما قرأناه من كلام الأستاذ الجليل، أو قرأناه من الكلام عنه، يدل على هذه العبقرية في أرفع طراز عُرف به خطيب من خطباء هذا الزمان.

فاقتياد أعنة الكلام - ولو في لسان غير لسانه العربي - سليقة فيه منذ صباه إلى أيام كهولته - أو شيخوخته - التي نسأل الله أن يبارك فيها.

كتب عنه زميله الكبير الأستاذ خليل ثابت بك فقال إنه لم يكن يعرف التركية فتعلمها بعد إتمام دراسته وملك ناصيتها حتى استطاع أن يخطب بها في المحاكم وفي المجالس النيابية، ولم يكن يعرف الفرنسية فتعلمها بعد أن جاوز الخمسين وأصبح من خطبائها المعدودين. وهذا عدا الإنجليزية التي تعلمها في أيام دراسته بالجامعة الأمريكية في بيروت.

والبديهة الحاضرة في الأجوبة المسكتة ملكة لازمة من ملكات هذه العبقرية، وهي عنده على قسط واف في مقام الجد ومقام الفكاهة.

روى عنه تلميذه الأستاذ على الطنطاوي في مقال كتبه بالرسالة أن تلميذاً من تلاميذه في كلية الحقوق سأله يوماً: ما فائدة هذه الحروف اللثوية، ولماذا نقول ثاء، وظاء، فنخرج ألسنتنا ونضطر إلى هذه الغلاظة؟

ص: 1

فما هو إلا أن سمع سؤال حتى أجاب متهكما: لا فائدة لها أبداً. . . وسنتركها فنقول: كسر الله من أمسالك!!

ومن أصغى إلى هذا الخطيب المطبوع وهو يتكلم علم أن أداة البيان قد تمت له حساً ولفظاً كما تمت له بداهة ومعنى.

فصوته من تلك الأصوات (الغنية) كما يقولون في اللغات الأوربية، لا تحس فيه جهداً ولا حاجة إلى الجهد، لأنه يملأ عليك جوانب السمع كأن له عشرة أصداء تتكرر معه كما قال الأستاذ الطنطاوي في وصفه وهو يلقى قصيدته الرائية التي استقبل بها حافظ إبراهيم رحمه الله.

ومن تمام ملكات التعبير فيه أنه يقتدر على المنظوم اقتداره على المنثور، ولا شك أن الشعر يدخل أحياناً في عداد ملكات الخطابة من حيث هو إبانة وتعبير، وقد أسلس له قيادة بهذا الزمام فجاءت له في تلك القصيدة أبيات من عيون الكلام كقوله:

أحافظ حييت الشام تحية

يفوق عبير الروض منها عبيرها

وألبستها ثوباً من الحمد دونه

حدائقها في زهوها وزهورها

وطوقتها بالحب والعطف ربقة

قلادة أسر لا يفادى أسيرها

وهو نفس في الشعر يقصر عنه كثير من الخطباء، وكثير من الشعراء.

على أنه يرتفع بك إلى الذروة من ملكات هذه العبقرية حين يفرغ الحجة الدامغة في جوامع الكلم التي تملك السمع والعقل دفعة واحدة، بغير إعنات ولا مشقة على سامعيه.

فليس أسهل ولا أقوى من تفنيده لدعوى المندوب البريطاني حين زعم أن معاهدة سنة 1936 معاهدة صحيحة لأنها أبرمت باختيار الطرفين. فلا حاجة - كما قال - إلى دليل على بطلان هذه الدعوى. لأن أمة من الأمم لا تقبل احتلال الأجنبي لبلادها وهي مختارة راضية.

وليس أجمع ولا أمنع من قوله في هذا الصدد: أن تلك المعاهدة لا تنطوي على التزام تتقيد به بريطانيا العظمى. وإنما هي تفويض من ملك مصر إذا شاءت بريطانيا العظمى أن تنزل عنه فليس في عملها هذا مناقضة لحرمة المعاهدات.

نعم فهي إذا لم تشأ فإنما تفعل ذلك لأنها ذات غرض ترمي إليه، ولا تفعله لحرمة في تلك

ص: 2

المعاهدة تحرص عليها.

ويندر أن تتم أداة العبقرية البيانية هذا التمام لغير الأفذاذ النابهين. ففي عصرنا هذا لا نعرف مثلا لهذا الأداة التامة بين فرسان المنابر السياسية غير رجلين اثنين: أحدهما باقعة الغال لويد جورج الوزير الإنجليزي المشهور، والآخر زعيمنا العظيم سعد زغلول رحمه الله

هما أيضاً كانا يملكان الحجة المسكتة في مقام الجد والفكاهة.

كان لويد جورج يخطب عن أعماله التي ينوي القيام بها إذا ظفر بكرسي النيابة، فتصدى له فحام سليط اقتحم الجمع بلوثة الفحم والشحم في ثيابه، فسأل الخطيب ليحرجه: دعنا من كل هذا وقل لنا ماذا تنوي أن (ترخص) لنا من ضرورات المعيشة؟

فما هو إلا أن سمعه حتى أجاب بكلمة واحدة: الصابون!

فكان الحرج والسخرية من نصيب السائل دون المسؤول

وكان بعض (المتطرفين) يتعمدون إحراج سعد في سياق الكلام عن خزان جبل أوليا، بالسودان: فسألوه: هل هو ضار أو مفيد؟

فما زاد على أن قال: هو مفيد مع اتحاد المالك. . .

فلم يجرؤ على الاعتراض أحد يطالب بوحدة مصر والسودان.

ويتشابه هؤلاء العباقرة الثلاثة في خاصة معهودة بين كثير من أصحاب العبقرية البيانية، وهي اتصال عقولهم بعقول سامعيهم في عالم العيان.

فهم لا يعنون بالتأليف عنايتهم بالخطاب والحديث. لأن عبقريتهم تتصل بالنفوس في عالم العيان كما قلنا، أو حين تتلاقى الحياة بالحياة، ولم تخلق للاتصال بها في عالم الفكر المجرد أو من وراء الحجاب.

فعبقرياتهم جميعاً أكبر من آثارهم المكتوبة أو المطبوعة.

ولولا مذكرات للويد جورج لكان بيانه كله مما أُثر عنه في المجالس والمحافل، وفي المساجلات والمحاورات.

وليس لسعد زغلول ولا لفارس الخوري - فيما نعلم - مؤلفات تضارع ما طبع عليه كلاهما من الألمعية والفطنة، وما حصله كلاهما من المعرفة الواسعة والخبرة الصادقة. لأن

ص: 3

طبيعة البيان الناطق أن يمتلئ بالحياة حين يتصل بالأحياء.

أطال الله في حياة العبقري العربي الجليل، وكثر الله من أمثاله بالثاء اللثوية التي تخرج من جوانب اللثة جميعها لا كما أرادها تلميذه العجول!!. ونفع الضاد وأهلها بهذا البيان الساحر الذي يقل نظيره بين الخطباء المفوهين، من فرسان المنابر العالميين.

عباس محمود العقاد

ص: 4

‌7 - رحلة إلى الهند

للدكتور عبد الوهاب عزام بك

عميد كلية الآداب

وأما القلعة، فمساحة واسعة جداً وأسوار عالية مشرفة من بعض جهاتها على نهر جمنة وتشتمل على مساكن ودواوين ومقصورات وقنوات. لا يحيط بها الوصف إلا في كتاب كبير مصوّر يكتبه خبير بالعمارة فحسبي أن أعرض على القارئ ما يدركه الزائر غير الخبير في زيارة قصيرة عاجلة

يلج الداخل الباب الكبير إلى دهليز فيه حوانيت للتجار ثم يدخل إلى ساحة يرى فيها ثكنات بناها الإنجليز وهي باعترافهم دمامة بين هذا الجمال، وعرّة وسط هذه الغرر.

ثم يجتاز إلى أبنية كثيرة لا أستطيع أن أذكرها على الترتيب. فأذكر الديوان العام، وهو مجلس السلطان لعامة الرعية للنظر في المظالم أو غيرها من الأمور العامة. وهو دكة من الرخام عليها سقيفة تحملها عمد من الحجر الأحمر قد أبدع الصناع في أشكالها ونقوشها وسعته مائة قدم في ستين. وكان فيه عرش الطاووس (تخت طاووس) وهو عرش يظلله ذنبا طاووسين ألوانهما من الجواهر المختلفة وفيه من دقائق الصنعة والأحجار الكريمة ما يشهد للصناعة والفن في ذلك العصر. وقد قوّمه من رآه من الخبراء بستة ملايين جنيه وقد حمل هذا العرش فيما نهب من ذخائر دهلي ونفائسها نادرشاه القائد العظيم الذي ملك على إيران بعد زوال الدولة الصفوية واستيلاء الأفغان عليها، فأخرج منها الأفغان ومد فتحه صوب المشرق إلى الهند.

وفي القلعة ديوان أصغر من هذا وأجمل منحوت كله من المرمر يسمى الديوان الخاص وفيه من النقش والتطعيم بالأحجار الكريمة ما يفتن الناظر، بجمال الشكل، ودقة الصنع. وقد بلغ فن العصر المغولي ذروته في هذا الديوان. ولا أنسى هذا البيت الفارسي الذي يزين هذا الجمال بجودة خطه وتذهيبه، ويعرب عن هذا الجلال بمعناه. وهو منقوش في أكثر من موضع من الديوان:

أجر فردوس برروى زمين است همين است وهمين است وهمين است

(إن يكن الفردوس على الأرض فهكذا وهكذا وهكذا).

ص: 5

وهناك بناء فيه حجر جميلة يسمى رنك محل (المحل الملون) وهو مزين بالنقوش محلى بالأشكال. ولكن ذهب الزمان بأكثر طلاه ويمتد منه إلى بناء آخر مجرى للماء رخاميّ يمثل قاعه ترقرق الماء عليه.

وأبنية أخرى منها البرج المثمن وكان يجلس السلطان في شرفته كل صباح فيشرف على الجمهور وكانت هذه عادة سلاطين المغول

ومنها الحمام (غسل خانه) وهو حجرات ثلاث في إحداها حوض صغير يخرج منه بخار معطر وفي الأخريين أحواض للاغتسال من المرمر بينها مجار أنيقة للماء الحار والبارد وفي إحداهما قطعة من المرمر كبيرة كانت مصلى للسلطان بعد الفراغ من الاستحمام.

ورأينا حجرات هناك لجلوس السلطان ونومه وفي إحداهما وسائد وملابس كأن شاهجهان لا يزال بها. وليس بها إلا الأثر والذكر ويد الزمان الأعسر.

وهناك مسجد صغير يسمى موتى مسجد (مسجد اللؤلؤة) بناه أورنك زيب شاهجهان وهو كاسمه لؤلؤة كبيرة ولكنها من المرمر الأبيض. ويخيل لرائيه أنه قطعة واحدة كبيرة من المرمر فصلتها يد النحات الصنع قباباً وعمداً ومحراباً ومنبراً.

ويقال أن السلطان بناه حين شغلته شئونه عن الذهاب إلى المسجد الجامع لكل صلاة.

وفي ساحات القلعة أحواض فسيحة تقوم وسطها مقصورات للجلوس وقنوات من الحجر جميلة يجري فيها الماء رقراقاً. ومنها نهر بهشت (نهر الجنة) وهو مجرى على ضفافيه الأزهار والأشجار وفي قاعه صور من الأزهار جميلة تكاد تهتز وتنمو حين يجري الماء عليها. وهذا النهر يبتدئ عند منظرة جميلة مزينة مشرفة عليه وعلى هذا الجمال المفصل في أرجاء القلعة.

ولا أنسى رباعية فارسية رأيتها في إحدى الحجر وأعجبني موضعها بين هذا الجلال والجمال. فأردت إثباتها فلم أجد قلمي.

ولم يكن لي بدّ من نقلها فقلت لرفيقي الأستاذ اشتياق حسين عميد كلية الآداب بجامعة دلهي وقد تفضل باصطحابي في زيارة القلعة:

سأكلف نفسي، وأمتحن ذاكرتي بحفظ هذه الرباعية. . .

فوعيتها حتى رجعت إلى الفندق فكتبتها وهي:

ص: 6

أي باي ببندوقفل بردل هشدار

دوخته جشم وباي دركل هشدار

عزم سفر مغرب وروى درمشرق

أي رآه رويشت بمنزل هشدار

وترجمتها: يا من في رجليه قيد وعلى قلبه قفل انتبه، يا من أغمض عينه وقد وحلت رجله انتبه، تريد السفر إلى المغرب ووجهك إلى المشرق أيها السائر وظهره إلى الغاية انتبه.

هذه بقايا مما وعيت من هذه الآثار الجليلة الجميلة في زيارتي القصيرة، وقد بقيت في النفس كما تبقى أبيات وأشطار وقواف من قصيدة بليغة حفظت ثم نسيت، أو كما تبقى الصور مبعثرة بعد حلم جميل طويل، أو كما تضطرب في النفس ذكريات السعادة بعد انقضائها.

ومن شاء أن يعرف تفصيل هذه الأبنية وصورها ففي كتب الآثار وصفها وتاريخها وصورها. ومن شاء أن يستمتع بها رأي العين فليس عجيباً أن يذهب إلى الهند ليراها.

(للكلام صلة)

عبد الوهاب عزام

ص: 7

‌4 - حجة تاريخية

للدكتور جواد علي

وتتخذ الصهيونية من الصلات الثقافية التي كانت تربط اليهود على زعمها بفلسطين دليلا على وجوب إحياء تلك الثقافة. ونحن لا ننكر على الصهيونية قولها هذا ولكن الثقافة اليهودية لم تظهر بفلسطين وحدها ولم تقتصر على هذه البقعة فقط. والواقع أن أكثر فصول التوراة كانت قد كتبت في الأرض المقدسة.

غير أن قسماً من هذه الأسفار التي يتألف منها الكتاب المقدس كان قد كتب ووضع في العراق في إقليم بابل أثناء السبِّي مثل سفر حن قيال وربما (مراثي أرمياء) و (التثنية ويشوع كذلك وبعض أجزاء من المزامير).

ويقوم (التلمود) عند اليهود مقام (الحديث) عند المسلمين وبموجب هذا الكتاب يحكمون. (والتلمود البابلي) هو المعول عليه عند اليهود حتى اليوم. على حين أنهم لا يعملون (بالتلمود اليورشلجي) أي التلمود الذي وضع في فلسطين.

وضعه أحبار العبرانيين وعلماؤهم في منقطة (طبريا) على الأخص.

وقد وضع التلمود البابلي في العراق في وادي الفرات وقد اشترك في وضعه وإتمامه جماعة من أحبار بابل استمروا على ذلك حتى أوائل القرن السادس للميلاد. وعلى التلمود البابلي الطابع العراقي الخاص الذي يتجلى في نزعته العقلية الحرة وفي استعمال الرأي والقياس والاستنباط على عكس التلمود الفلسطيني الذي يمثل عقلية الفلسطينيين القدماء في محافظتهم وميلهم إلى الأخذ بالحديث والأخبار. وهذا مما يدل على أن الثقافة العبرانية القديمة التي تريد الصهيونية إحياءها لم تكن ثقافة (عبرانية) خالصة نقية من كل شائبة بل كانت متأثرة بالمحيط. فهي عراقية تمثل عقلية العراقيين في العراق وهي فلسطينية تمثل عقلية سكان فلسطين في فلسطين وهي مصرية تمثل طبع قدماء المصريين في مصر.

ثم إن الكتب الخمسة الأولى من التوراة وهي التي يقال لها (أسفار موسى) وهي التكوين والخروج واللاويين والعدد والتثنية) كانت قد نزلت على موسى وموسى لم يكن قد دخل فلسطين فتكون هذه الكتب قد نزلت خارج الأرض المقدسة.

وقد جاءت في الكتاب المقدس بعض الاصطلاحات والكلمات الآرامية التي تدل على تأثر

ص: 8

العبرانيين بهذه اللغة التي أصبحت اللغة اليومية لليهود منذ أيام السبي، والتي حلت محل (العبرانية) التي هجرها سواد الشعب وفضل الآرامية عليها، فاقتصر أمرها على رجال الدين وطبقة الكهنوت فقط وقد ترك الشعب اليهودي العبرانية مختاراً مفضلا (السريانية) لغة الثقافة التي شاعت في كل أنحاء الهلال الخصيب حتى أن أسفار العهد الجديد القديمة كانت قد دونت بهذه اللغة.

وقد استعمل علماء اليهود ومثقفوهم هذه اللغة في كتاباتهم كما استعملوا بعد ذلك اللغة اليونانية التي دخلت إلى فلسطين وسوريا مع اليونانيين فألف بهذه اللغة المؤرخ اليهودي (يوسفوس)(جوزيفوس) المعصب لقوميته وهو من مواليد القدس في القرن الأول للمسيح والذي خلد تاريخ قومه في كتبه المهمة التي ألفها في تاريخ (الآثار اليهودية) و (الحروب اليهودية) والذي يعود إليه الفضل في أكثر ما نعرفه عن تاريخ اليهود مما لم يرد في التوراة إلى القرن الأول للمسيح. لم يجد هذا المؤرخ اليهودي المتعصب لقوميته غضاضة من استعمال اللغة اليونانية في تدوين تاريخ قومه، مما يدل على أن العبرانيين لم يكونوا يستعملون تلك اللغة إلا بصورة محدودة ضيقة، وعلى أنهم لم يكونوا يعنون بها العناية اللازمة، وأنهم لم يكونوا يعتبرونها لغة ثقافة أو لغة أدب وكتابة وإنما هي لغة دين، على عكس ما يدعيه الصهيونيون في دعواهم الحديثة.

وقد استخدم اليهود بعد انتشارهم في الأقطار الخارجية اللغات المحلية، حتى في الشروح الدينية والتفاسير فكتبوا باليونانية واللاتينية والعربي في القرون الوسطى ولا سيما في الأندلس حيث كانوا يكتبون كتبهم باللغة العربية ولكن بأحرف عبرية كالذي فعله الفيلسوف اليهودي موسى بن ميمون، مما يدل على أن العبرانيين كانوا يفكرون في كل مكان نزلوا به بعقلية ذلك المكان ولو جمعنا ما أنتجه العقل اليهودي منذ أيام السبَّي لوجدنا أن اليهود كانوا قد ساهموا في الثقافة العالمية جمعاء فكونوا ثقافات مختلفة وكانت لهم ثقافة دينية هي الثقافة التي كونها الأنبياء وشرَّاح التوراة والتلمود ومعنى هذا أن الثقافة اليهودية كانت ثقافة عالمية ولم تكن ثقافة إقليمية اقتصرت على فلسطين، وأن من الممكن لليهود تكوين ثقافة يهودية في الأقطار التي يسكنون فيها على نحو ما هو جار في الوقت الحاضر.

وقد ذكر المؤرخ اليهودي (سيمون دبنوف) وهو أعظم المؤرخين المحدثين على الإطلاق

ص: 9

أن اليهود كانوا قد تأثروا إلى حد كبير بثقافة البابليين وأن في الكتاب المقدس فصولا كثيرة أخذت من الثقافة البابلية كما يظهر ذلك من المقارنة بين الكتابات المسمارية وما ورد في التوراة.

ظل اليهود يغادرون فلسطين للسكنى في الخارج في أيام الفرس وفي أيام اليونانيين والرومان وعلى الرغم من الحركات اللاسامية التي كانت تظهر في الإمبراطورية البيزنطية الرومانية فإن اليهود فضلوا البقاء في الخارج. ولم يظهروا أي رغبة في العودة إلى هذه الأرض. ولم يبقى في فلسطين في العصور المسيحية غير بعض الجاليات التي سكنت في منطقة الجليل و (طبرية) على الأخص. ومما يلاحظ أنهم ساعدوا الجيش الفارسي الذي جاء سنة 614 للميلاد لفتح سوريا وفلسطين ولطرد اليونانيين. فساعدوهم في فتح القدس وفي مقاتلة إخوانهم المسيحيين الذين كانوا من اليهود قبل نشر الدعوة المسيحية.

ولم يترك كتاب اليهود من بعد (يوسفوس) أي أثر يشير إلى وجود جاليات يهودية كبيرة في فلسطين، ولما فتح الفرس فلسطين وعذبوا المسيحيين وأخذوا معهم الصليب المقدس وساعدوا الجاليات اليهودية الصغيرة التي كانت هناك لم نسمع من أخبار اليهود في الأراضي المقدسة ما يدل على أنهم كانوا أصحاب كلمة مسموعة وأن عددهم كان محسوساً بينما كان عددهم كبيراً في روما وفي فرنسا وفي المدن اليونانية والمصرية وكانت حالتهم المالية حسنة جداً كذلك.

ولما استعاد القيصر هرقل (فلسطين) من أيدي الفرس لم تبق في أيدي الروم أمداً طويلا إذ ضجر سكانها من حكم اليونان وفاوض العرب النصارى المسلمين لتخليصهم من أيدي المستعمرين وقد كانت غالبية السكان في هذا العهد من القبائل العربية المتنصرة مثل جذام وكلب وقضاعة ولخم وغسان وكانت مخيمة ومستقرة في كل أنحاء سورية كذلك.

وقد فصلت كتب (المغازي والفتوحات) كيفية دخول الجيوش الإسلامية أرض فلسطين وكيف سلم (بطريرك) القدس مفتاح المدينة إلى الخليفة عمر صلحاً. ولم تشر إلى اليهود مما يدل على أن الأراضي المقدسة كانت خلواً منهم، وهناك إشارة مهمة وردت في كتاب (ثيوفانس) وهو من خيرة الكتاب اليونانيين المطلعين على شؤون فلسطين في هذا العهد

ص: 10

وهي ضد مزاعم الصهيونيين تماماً. إذ يقول هذا الكاتب الذي عاش في هذا العصر (لم تكن حكمة الخلفاء هي التي فتحت أبواب سوريا وفلسطين لجيوش المسلمين بل المسيحيين العرب الذين كونوا قوة عظيمة تقدمت في طليعة الجيوش الإسلامية تقاتل الجيوش اليونانية مع أنها كانت تدين مثلها بنفس الدين).

وليست لدينا معلومات حسنة عن علاقات الرسول بهذه القبائل، والظاهر أنها كانت سيئة فإن معركة (مؤتة) تشير إلى أنهم كانوا يحاربون إلى جانب البيزنطيين.

غير أن الأوضاع تبدلت فيما بعد منذ معركة (تبوك) فانحازوا إلى جانب إخوانهم في الجنس المسلمين وصاروا يقاتلون إخوانهم في الدين البيزنطيين.

وقد أظهر الآراميون وطنية عظيمة وحماسة كبيرة للجيوش الإسلامية، فإنهم ساعدوهم مساعدة كبيرة، وحاربوا في صفوفهم مع أنهم كانوا من المسيحيين.

وقد ذكر (البلاذري) أن المسلمين حينما حاصروا (قيصرية) وكان سكانها من السامريين وهم فرع من أصل يهودي ولكنهم يختلفون عن سائر اليهود ويكرهونهم خرج يهودي كان يقيم في المدينة واسمه (يوسف) إلى المسلمين وأرشدهم إلى موضع نفق سري يؤدي إلى المدينة فدخل منه المسلمون.

وقد أسلم من أسلم من أهل فلسطين وظل من أراد الاحتفاظ بدينة وقد عاملهم المسلمون معاملة حسنة وعاشوا مع المسلمين إخواناً وأعواناً حتى أنهم اشتركوا معهم في محاربة (الصليبيين) وقد لاحظ العالم المتخصص بفلسطين (جيمس فرازر) أن ملامح الفلسطينيين القدماء الذين كانوا يقطنون هذه البلاد قبل مجيء العبرانيين لازالت ظاهرة على الفلاحين المسلمين والمسيحيين على حد سواء وإن هؤلاء الفلاحين هم من أقدم السلالات البشرية التي كانت تقيم في الأرض المقدسة وهم أنفسهم الذين يحاربون الصهيونية في الوقت الحاضر دفاعاً عن أرضهم وأملاكهم.

وعندما استولى الأسبان على أرض الأندلس وأجبروا المسلمين واليهود على حد سواء على اعتناق النصرانية أو مغادرة البلاد فضل أكثرهم الهجرة إلى فرنسا وإيطاليا وشمال إفريقية ولم يذكر منهم أي أحد أرض فلسطين ولو كان اليهود يعطفون على الوطن القومي وعلى إعادة ملك سليمان لكانوا قد فضلوا الذهاب إلى أرض (الميعاد) حيث كانوا يعيشون عيشة

ص: 11

راضية. نعم لقد كانوا يعلمون أن أرض فلسطين هي أرض مقدسة كما هي أرض المسيحيين المقدسة وأرض المسلمين. ولكنهم لم يكونوا يشعرون بهذه القومية الاعتدائية المتطرفة التي دعا إليها الصهيونيون.

جواد علي

ص: 12

‌مستقبل الأدب

للأستاذ علي الطنطاوي

تزدحم المساجد قبيل الامتحان بجماعات الطلاب، يتحلقون فيها حلقاً، يطالعون ويقرءون، وقد مررت مرة بحلقة فيها نفر فهمت من كلامهم أنهم من طلبة العربية والأدب، في المدارس العالية، فقعدت قريباً منهم استمع إليهم، وكان واحد منهم يقرأ في كتاب، فما رأيته سلمت له خمسة أسطر متتابعات، وما مرّ على خمسة أسطر إلا رفع فيها منخفضاً، وخفض مرتفعاً، وحرف الكلم عن مواضعها، وأزالها عن منازلها، ولم يدع لغوياً ولا نحوياً ولا عالماً بالعربية من لَدُنْ أبي عمرو إلى الأشموني، إلا نبش قبره وبعثر عظمه، ولعن بجهله أباه وأمه، أما الطلاب الحاضرون فكان منهم من يتنبه للّحنة الظاهرة، ظهور البهتان في (القبس)، فيردّه عنها، ويغفل عن الخفية، وسائرهم في عمى عن ظاهرها وخفيها، ودقيقها وجليلها، فضاق صدري، حتى خفت أن يتفجر بغضبة للعربية، لا أدري ما عاقبتها فحملت نعلي وخرجت هارباً أسعى. . .

وذهبت فسألت المدرسين فعلمت أن هذا القارئ ليس بدعاً في الطلاب وليس المتفرد في هذه (العبقرية) في الجهل، وهذا (التبريز. . .) فيه، وإنما هو النموذج الصادق لأكثر طلاب المدارس في هذه الأيام، واجتمعت بعد ذلك بكثير من طلاب المدارس العالية، فما كدت أجد في أكثرهم من يشبه أو يداني أصحابنا يوم كنا في أوائل الدراسة الثانوية، لا أقول هذا فخراً بأصحابنا، ولكن تذكرة لهؤلاء، وحثاً على الجد في طلب العلم، وبياناً لما هبطوا إليه، وما رضوه لأنفسهم من ترك العلم اعتماداً على شهادات ينالونها، أو كراسيّ يركبونها، أو وظائف يقبضونها، حتى صارت الشكوى من الضعف في العربية عامة في مصر والشام والعراق، وحتى صار من أبواب التسلية للأدباء، أن يفكروا في (تيسير. . .) تعلم العربية، بقلب قواعدها، وتنكيس أوضاعها، وابتداع البدع في نحوها وصرفها، أو بهدم بنيانها، وصرم نظامها، بـ (تسكين أواخر كلماتها)، و (ترك إعرابها)، أو بنفسها في أساسها، وقلعها من جذورها، باستعمال الحروف اللاتينية أولا، والكلمات اللاتينية ثانياً، وما لا يعرفه إلا الله ثالثاً. . . وما إلى شيء من ذلك حاجة، ولا له فائدة، وما باللغة تعسير حتى نبتغي لها أوجه التيسير، ولكنْ في العزائم خور، وفي الهمم ضعف، وفي الشباب

ص: 13

انصراف عن العلم!

هذه الحقيقة، وإلا فهل صلحت اللغة برسمها وعلومها هذه القرون الأربعة عشر، وصبرت على حكم الأتراك أولا ثم الفرس، ثم المغول، ثم المماليك العبيد، ثم الأتراك أخيراً، ورأت عصور الانحطاط، وعهود التخلف، وكانت في كل ذلك ظاهرة ظافرة، حتى لم يخل عصر من مؤلفين في النحو والصرف والبلاغة والأدب، وحتى وضع القاموس أشهر معاجمنا في عهد العثمانيين، وألف شرحه الجليل بعد الألف للهجرة، وحتى كان طلبة العلم في الدهور كلها عاكفين على النحو والصرف والبلاغة، إن لم ينالوا ثمرتها فقد حفظوا قواعدها، وإن لم يبلغوا مرتبة الأدب، فقد أحاطوا بعلوم الأدب. . . هل صلحت اللغة هذه القرون وبدا الآن فسادها؟ وهل استسهلها الفرس والروم والأتراك والهنود حتى ظهر منهم علماء أجلاء فيها، ولم تصعب إلى على أبناء العرب الأقحاح، بعد ما طلع فجر النهضة، وبدا النور؟ وما لشبابنا وحدهم دون شباب العرب في كل العصور، هم الذين عجزوا عن تعلمها والتمكن منها؟ أهم أقلّ ذكاء، وأضعف عقلا، منهم جميعاً، ومنا لما كنا في مثل أسنانهم قبل عشرين سنة؟ لا، بل هم أذكى منا، ووسائل التعلم في هذه الأيام أكثر، وطريقته أسهل، وربَّ بحث كنا نتصيد مسائله من متفرقات الكتب يرى الآن مجموعاً في كتاب واحد، ينادي: من يقرأ فيَّ؟ فما لهم يستصعبون العربية؟

وهل العربية أصعب عليهم من الكيمياء، والجبر والهندسة وهذه الألسن التي يزحم بعضها في رأس الطالب بعضهاً من تعددها وما لأكثرها من فائدة تلمس، أو عائدة تحس: اللاتينية التي أخذناها تقليداً بلا علم، والسريانية والعبرية والفارسية والتركية دعك من الفرنسية والإنكليزية وما لست أدري ماذا أيضاً؟ أهذه العلوم وهذه الألسن كلها سهلة جميلة، كأنها قصة من قصص الغرام، يشربها الطالب مع الماء، ويأكلها مع الحلوى، والصعوبة كلها في العربية؟

وإذا كانت هذه العلوم وهذه الألسن صعبة كلها فما هو السهل الذي يذهب الطالب إلى المدرسة ليتعلمه؟ ولماذا نفتح المدارس ونرهق الأمة بنفقاتها، ونحمل خريجيها على أعناق الناس حملا، بما حصلوا من العلم، وما نالوا من الشهادة؟

لا، ليس في العربية صعوبة، ولا في كتابتها وعلومها تعسير، هذه ضلالة يجب أن ينتهي

ص: 14

حديثها، وأن لا نعود إلى إضاعة الوقت، وإفساد النشء، في الكلام فيها. . . ويجب أن نحببها إلى الطلاب، ونرغبهم في مطالعة كتبها، حتى يألفوها، ويسهل عليهم فهمها، ولقد كنا في المدارس الابتدائية نقرأ الكتب العلمية الكبيرة حتى إني قرأت (حياة الحيوان للدميري) - وقد وقع في يدي اتفاقاً - قبل أن آخذ شهادتها، وقرأت (الأغاني) كله - متخطياً إسناده، وما لا أفهم منه - في صيف السنة الثانوية الأولى، وكنا يومئذ نحسن المراجعة في الخضري وفي المغني، وكان فينا من ينظم ويكتب، وعندي مقالات كتبتها في تلك الأيام، قد لا ترضيني أفكارها ولكن أسلوبها يرضيني اليوم، ولرفيقي أنور العطار شعر (قاله في ذلك العهد) جيِّد، منه قصيدة (الشاعر) التي نشرتها كبرى المجلات الأدبية يومئذ (الزهراء)، وهي في نحو ستين بيتاً، أحفظ منها قوله، وما ذلك من خيارها فكلها خيار:

كتب البؤس فوق خديه سطراً

تتراءى الآلام في كلماته:

للهوى قلبه، وللشجو عينا

هـ وللعاملين كل هباته

وهو نهب لحادثات الليالي

وحلال للدهر قرع صَفاته

يتلقى بصبره نزوة الدهر

ويشكو لربِّه نزواته

وكنا نختلف إلى بعض العلماء، نسمع دروسهم العامة في المساجد، ودروسهم الخاصة في البيوت فما أكملنا الدراسة الثانوية حتى قرأنا مع علومها، النحو على المشايخ والبلاغة والفقه والأصول والحديث، وحضرنا كتباً في التفسير والكلام والتصوف، وعرفنا عشرات من أمّات كتب العلم، قرأنا فيها أو تصفحناها أو رجعنا إليها، وحفظنا أسماء مئات من أعلام الإسلام، من الصحابة والتابعين والفقهاء والمحدثين والمفسرين والفلاسفة والقواد والأدباء والشعراء، حتى صارت إسناد الحديث والأدب مألوفة لنا، لكثرة من عرفنا من رجالها، ومن لا نعرفه نرجع إلى ترجمته، وكنا في الثانوي نرجع إلى الإصابة وأسد الغابة والاستيعاب، وتهذيب التهذيب، وتهذيب الأسماء واللغات، وابن خلكان والفوات ومعجم الأدباء، وطبقات السبكي وتاريخ الخطيب وابن عساكر، والديباج المذهب، وطبقات الحنفية والبغية، وتاريخ الخلفاء، والقفطي وابن أبي أصيبعة، وهذه الكتب كلها - وأخرى نسيتها - في مكتبتي وكانت تحت يدي من تلك الأيام. . . وإن زادت الآن (بحمد الله) كتباً كثيرة. . .

ص: 15

وقد نبغ في صفنا (فصلنا) جماعة من الأعلام، هم في الشام اليوم واسطة عقد الثقافة، والحلقة التي كانت مفقودة فوجدت فيهم والطبقة التي ليس لها جمود الشيوخ وإن كان لها بحثهم وتحقيقهم وليس لها نزق الشباب وخفتهم، وإن كان لهم نشاطهم، كسعيد الأفغاني الأديب المحقق الضليع، وأنور العطار الشاعر العَلَم، ومحمد الجيرودي الأديب العالم الذي جعله أدبه وعلمه نابغة المحاماة في دمشق، وجمال الفرا ووجيه السمان، الأديبين الأصيلين اللذين غلبت عليهما الطبيعة وعلومها، وقد نبغ في الصف الذي أمامنا طائفة أخرى من الأعلام. كأسعد الكوارني نابغة المحاماة في حلب ووكيل وزارة العدل اليوم ووزيرها أمس، الذي ظهرت عبقريته طالباً ومحامياً وموظفاً، وزكي المحاسني الأديب الشاعر، الذي لم يمنعه سنه وقدمه أن يعود في الكبر طالباً، والذي نال بالأمس شهادة الدكتوراه وكان ثامن دكتور في الآداب خرج من الجامعة المصرية، وجميل سلطان الشاعر المصنّف، وعبد الكريم الكرمي (أبو سلمى) الشاعر الأديب. . .

وما كانت تمر سنة لا ينبغ فهيا نابغون في الأدبْ والعلم، وممن نبغ في صفنا في كلية الحقوق ضيف مصر الآن العالم البحاثة مصطفى الزرقا، وهو اليوم من أساتذة الكلية المبرزين.

ثم شح الينبوع، ثم جفَّ أو يكاد، حتى ما نجد في السنين الطوال كاتباً ينبغ في الشام، أو شاعراً يظهر، أو محققاً يرى، ومازال الأمر إلى تخلّف. ولقد اشتغلت بالتعليم دهراً في الشام والعراق ولبنان فما فارقت فوجاً من الطلاب إلا استقبلت أضعف منه، حتى انتهى بي الأمر، أن دعيت في سنتين إلى تدريس الآداب لطلاب السنة الأخيرة من مدرسة ثانوية، فدخلت فوجدت رجالا كباراً، لهم طول وعرض، وأناقة في الثياب، ولباقة في الخطاب، وسمت ووقار، فهبتهم وأعددت العدة لتعليمهم، وحشدت كل ما أعطيت من قوة وعلم، على ضعف قوتي وقلة علمي، ومضيت على سنني حتى جاء موعد سؤالهم، فإذا هم من أئمة الجاهلين، وإذا هم لا يحسنون قراءة بيت ولا فهمه ولا إعرابه، ففررت منهم، حين وجدت أني إن كلمت ثيابهم وهيئاتهم منعتني جهالتهم، وإن خاطبت جهالتهم منعتني هيئاتهم.

فالحكاية ليست حكاية كتابة تسهل، ولا قواعد تيسر، ولا أغراض خبيثة تحقق من وراء هذه الستر اللماعة، ولا سموم تقدم في هذه الكأس البراقة، ولكنها مشكلة المعلم أولا،

ص: 16

والتلميذ ثانياً.

وما دام المعلمون، أي أكثر من عرفت من معلمي العربية، أصحاب شهادات لا علم، خطفوا مسائل في المدارس خطفاً، وحفظوها حفظاً، ومنهم من تعلمها في ديار الغرب، وجاء منها بدكتورات حرب ومادامت دروس العربية تلقى بالعامية، وما دام مدرس الأدب يتكلم ساعة عن أبي تمام وأدبه وما قيل فيه، ولكنه لا يفهم بيتين من شعره، ولا يحسن شرحهما، ويعلم الأدب وهو ليس بأديب، وما دام يتصدر للإمامة في (فن القول) من لا يدري ما يقول - فمن أين يتلقى الطالب العربية؟

فهاتوا المعلم القوي في علوم اللغة، صاحب الاطلاع فيها، والذوق في فهمها، يصلح هو فساد المناهج، ويقوم اعوجاج الكتب، وييسر عسر اللغة، (إن كان فيها من عسر!) وهذا المعلم لا يوزن بميزان الشهادات وحدها، إلا إذا جاء وقت لا تعطى فيه الشهادات إلا لأربابها، وتكون شهادة حق لا شهادة زور، ففتشوا أنتم الآن عن ميزان آخر!.

أما التلميذ فيجب أن نحبب إليه المطالعة، ونعرفه قيمة العلم ونذيقه لذته، ولا يكون ذلك ما دامت المجلات والمطابع مفتحة أبوابها، لكل هذيان وعبث صبيان.

وبيان ذلك أن في نفس كل ناشئ في الأبد حباً للظهور، وهوى للنشر، فلا يجدّ إن جدّ إلا ليلقى اسمه على رأس مقالة في مجلة، أو على غلاف كتاب، ولقد كان الواحد من أصحابنا يتمنى أن ينشر ما يكتبه بعد طول الكد، ومتابعة السهر، في جريدة محلية، ثم يرتقى إلى المجلة الصغيرة، ثم يتدرج حتى يصل إلى مثل الرسالة أو الثقافة، هكذا كنا، وهكذا كانت لهذه المجلات هيبة في نفوسنا، فلا نقدم عليها إلا بعد الاستعداد، ولا نقدم لها إلا ما نعتقد أنه جيِّد، فتبدلت الحال، وعلا الشباب بالغرور، أو هبطت هذه المجلات، حتى صرنا نرى الغلام المبتديء، يكتب مقالته الأولى فلا يراها أقل من أن تنشر في الرسالة مثلا، مع مقالة العقاد والزيات، ولا يعدم بعد إدمان القرع للأبواب من يفتح له باب مجلة من هذه المجلات.

هذا الشاب الذي يرى أنه وصل إلى الغاية بلا تعب، ونال ما يطلب بلا مشقة، لا يجد بعد ذلك ما يدفعه إلى سهر الليالي، وتقريح الجفون، في مسامرة الكتب، والازدياد من العلم.

فليس الخطب خطب ضعف الطلاب في علم من العلوم، ولكنه خطب الأدب: إنها إن استمرت هذه الحال، ومات هؤلاء الكتاب البلغاء، وكل حي إلى ممات ولو طال به الأجل،

ص: 17

فإنكم ستتلفتون وتفتشون عن كاتب بليغ، أو شاعر مفلق، فلا تجدون. . . فأعدُّوا من الآن شباباً تدخرونهم لذلك اليوم العصيب، وإلا فعلى اللغة والأدب والبيان السلام!

(القاهرة)

علي الطنطاوي

ص: 18

‌الشُّطار والعيارون

للأستاذ شكري محمود أحمد

في المجتمع العباسي طبقات غريبة ظهرت في فترات مختلفة من الزمن، نشأت وتجمعت بسبب عوامل اقتصادية وسياسية واجتماعية، ولكل طبقة منها اسم خاص بها، ولها تنظيمات وعادات تنفرد كل طبقة بها دون غيرها. وربما كان لبعضها لغة خاصة. فمن هذه الطبقات الشطار والعيارون والطرارون والظرفاء والفتيان واللعابون والمخنثون والحرافيش والساسانيون والزواقيل، وغيرهم وقد ذكر الجاحظ منهم طبقات كثيرة.

وكانت هذه الجماعات أخلاطاً من مولدي العرب والفرس والترك والروم والبربر والديلم والنبط والجركس والأكراد والكرج وغيرهم من الأقوام الذين زخر بهم المجتمع العباسي.

وقد تغلبت على هؤلاء اللغة العربية، وكان للساسانيين لغة خاصة بهم ذكرها الثعالبي في اليتيمة والخفاجي في شفاء الغليل.

والذي يعنينا من هذه الطبقات هم الشطار والعيارون، وقد سجل كثير من مؤرخي الإسلام أخبارهم وأعمالهم وما قاموا به من قطع الطرق ونهب الأموال وقتل الناس وغير ذلك، ومن هؤلاء المؤرخين ابن الأثير والمسعودي والطبري وأبو الفداء وابن الفوطي وابن الجوزي في المنتظم وتليبس إبليس والتنوخي في الفرج بعد الشدة والأربلي في خلاصة الذهب المسبوك والبيروني في الجواهر والبيهقي في حكماء الإسلام وغير هؤلاء من المؤرخين.

وقد ظهر الشطار والعيارون في مختلف الأمصار الإسلامية، فهم يعرفون في العراق باسم (الشطار) وفي خراسان يسمونهم (سرابدران) وفي المغرب يطلق عليهم اسم (العقورة)، وسماهم ابن بطوطة (الفتاك).

كانت هذه الجماعات ترتزق باللصوصية والنهب وقطع الطرق والتحيل على الناس، وفي الغالب باغتصاب الأموال وفرضها على المدن والمحلات أو الأغنياء. فقد ذكر ابن الأثير (أنهم قسطوا على الكرخ خاصة مائة ألف دينار)، أو أنهم كانوا يهاجمون بيوت الأغنياء ويأخذون ما فيها من المال والجواهر، جاء في المنتظم (. . وكبست دار تاجر فأخذ منها ما قيمته عشرة آلاف دينار)

ص: 19

وفي كثير من الأحوال كان يستفحل أمرهم ويستشري بلاؤهم حتى تعجز الحكومة عنهم، وربما استعانت بهم في الحروب كما حدث في الفتنة بين الأمين والمأمون والمستعين والمعتز. قال ابن الجوزي (كان طلاب السلطة يستعينون في حروبهم ببعضهم على بعض ويعدون بالآلاف، فقد كان مع أبي دلف عشرون ألفاً منهم). يستخدمهم لأغراضه ويسخرهم في أعماله.

سبب ظهورهم:

إن الاضطرابات السياسية التي مرت على العراق تركت أثرها في الحياة الاقتصادية حيث كسدت الأعمال، وغلت الأسعار وقلت الأقوات، فاضطرب نظام الحياة، وانتشرت المجاعة بين الناس، وكان الحكام أنفسهم يخزنون الأٌقوات والحبوب، لذلك تعمد العامة والسوقة إلى الارتزاق بمختلف الطرق وشتى الوسائل حتى انتظموا جماعات كثيرة لمناوأة أصحاب المال من التجار وغيرهم، فهم طبقات ضاقت بهم سبل الحياة، وسدت عليهم أبواب العيش، فتوسلوا بطرق الفوضى والاغتصاب للانتقام من مجتمعهم.

وفي كتاب الفرج بعد الشدة قصص كثيرة تصف هؤلاء الشطار والعيارين وكيف انتظموا في هذه العصابات. ونقل لنا على لسان كردي من هؤلاء التقى به في الطريق بين واسط والبصرة (. . قلت له: يا هذا كيف بلغت هذه الحال؟ قال: نشأت فلم أتعلم غير معالجة السلاح، وجئت إلى بغداد أطلب السلطان فما قبلني أحد، فانتظمت إلى هؤلاء وطلبت الطريق، فلو كان أنصفني السلطان وأنزلني بحيث استحق من الشجاعة لانتفع بخدمتي وما فعلت هذا. .)

وقد كان هؤلاء الشطار والعيارون ينتقمون على الدولة والسلطان أشد النقمة، لأنهم أحرجوهم فأخرجوهم، وتركوهم يقطعون الطرق ويسلبون الناس أموالهم، ويصبون الفزع في قلوبهم، ففي قصة ابن حمدون اللص تظهر شدة نقمة هؤلاء على السلطان وقد ذكرها التنوخي، قال هذا اللص: (. . . يا هذا! لعن الله السلطان الذي أحوجنا إلى هذا، فإنه قد أسقط أرزاقنا فاحتجنا إلى هذا الفعل، ولسنا فيما نفعل ارتكاب أمر أعظم منا يرتكبه السلطان. أنت تعلم أن ابن شيراز في بغداد يصادر أموال الناس ويفقرهم حتى يأخذ الموسر المكثر فلا يخرج من حبسه وهو يهتدي إلى شيء غير الصدقة، وكذلك يفعل

ص: 20

البريدي في واسط والبصرة والديلم، ويتجاوز ذلك إلى الحرم والأولاد. . . فاحسبونا مثل هؤلاء).

وربما هاجم هؤلاء الشطار والعيارون المحلات والقرى فنهبوا النساء والصبيان علانية وجعلوهم رهائن عندهم، ففي أخبار سنة إحدى ومائتين يذكر أبو الفداء (. . . وفيها اشتد أذى فساق بغداد وشطارها حتى قطعوا الطريق وأخذوا النساء والصبيان علانية، ونهبوا القرى مكابرة، وبقى الناس معهم في بلاء عظيم، فتجمع أهل بعض المحال ببغداد مع رجل يقال له خالد بن الدريوس وشدوا على من يليهم من الفساق والشطار فمنعوهم وطردوهم)

ولقيت بغداد من هؤلاء الشطار والعيارين أشد أنواع العذاب والإرهاق، وقد كانت تدافعهم بمختلف الطرق فما أغنى ذلك عنها شيئاً، ففي سنة سبع عشرة وأربعمائة كان (العيارون يدخلون على الرجل فيطالبونه بذخائره كما يفعل السلطان بمن يصادره، وعلم الناس الأبواب على الدروب فلم تغن شيئاً).

وكان الشاطر إذا شاخ وعجز عن العمل ربما تاب فتستخدمه الحكومة في مساعدتها على كشف السرقات، وكان في خدمة الدولة العباسية جماعة من هؤلاء يطلق عليهم اسم (التوابون) ولكن هؤلاء كانوا في الغالب يقاسمون اللصوص ما يسرقونه ويكتمون أمرهم.

وكثيراً ما كان الوزراء والحكام وأصحاب السلطة والنفوذ يقاسمون الشطار والعيارين الأموال، ففي حوادث سنة ست وثلاثين وخمسمائة يذكر ابن الأثير:(. . وفي هذه السنة وصل السلطان إلى بغداد فرأى تبسط أمر العيارين وفسادهم ما ساءه فأعاد بهروز إلى الشحنكية فتاب كثير منهم، ولم ينتفع الناس بذلك لأن ولد الوزير وأخا امرأة السلطان كانا يقاسمان العيارين فلم يقدر بهروز على منعهم).

وقد ذكر ابن بطوطة استفحال أمر الشطار والعيارين على عهده (القرن الثامن) وأشار إلى اجتماعهم على الفساد وقطع الطرق وهجومهم على مدينة بيهق فملكوها وملكوا غيرها، فجندوا الجنود وركبوا الخيول، وجعلوا أحدهم سلطاناً عليهم، وانحاز إلى هذا السلطان العبيد، فمن رأى فيه شجاعة أمره وأعطاه مالا وفرساً.

وكان لهؤلاء الشطار والعيارين عيون على الناس من النساء والرجال يتبعونهم في الحانات والقصور والصيارف والجوهريين، فإذا رأوا من قد باع شيئاً تبعوه وأخذوا ما معه.

ص: 21

رأيهم في أعمالهم:

الذي يظهر لنا من دراسة حياة هذه الجماعات أن أعمالهم هذه كانت موجهة إلى أصحاب المال والأغنياء الذين يكدسون ثرواتهم ويخزنون أموالهم، ويتركون العامة في عوز وفاقة، لذلك لم يعترضوا لأصحاب البضائع القليلة ولم يعرضوا لامرأة ولا إلى من يستسلم إليهم، وكانت هذه صفة ابن حمدون الشاطر والبرجمي العيار.

ولم يكن هؤلاء الشطار والعيارون يعدون اللصوصية جريمة وإنما هي صناعة يحللونها لأن ما يستولون عليه من أموال التجار الأغنياء زكاة تلك الأموال، فقد ادعوا أنهم فقراء فإن أخذوا تلك الأموال كانت لهم مباحاً، وهذا التعليل يسرده لنا ابن سيّار الكردي ويذكر خبره التنوخي قال:(كنت مسافراً ببعض الجبال فخرج علينا ابن سيار الكردي، فقطع علينا وكان بزي الأمراء. . فقربت منه أنظر إليه وأسمع كلامه فوجدته يروي الشعر ويفهم النحو، فطمعت فيه وعملت أبياتاً مدحته بها، فقال: لست أعلم أن هذا من شعرك، ولكن اعمل لي على قافية هذا البيت ووزنه شعراً الساعة وأنشدني بيتاً، فعملت في الحال أجازة له ثلاثة أبيات. فقال لي: أي شيء أخذ منك لأرده عليك؟ فذكرت له ما أخذ مني فرده إليَّ. ثم أخذ من أكياس التجار التي نهبها كيساً فيه ألف درهم فوهبه لي. فجزيته خيراً ورددته إليه، فقال لي لِمَ لا تأخذه؟ فوريت في كلامي، قال: أحب أن تصدقني، فقتل: وأنا آمن؟ فقال: نعم، قلت: لأنك لا تملكه وهو من أموال الناس أخذته منهم الساعة ظلماً فكيف يحل لي أخذه، فقال لي أما قرأت ما ذكره الجاحظ في كتاب اللصوص عن بعضهم قال: (إن هؤلاء التجار لم تسقط عنهم زكاة الناس لأنهم منعوها فصارت أموالهم بذلك مستهلكة، واللصوص فقراء إليها، فإن أخذوا أموالهم كان ذلك لهم مباحاً لأن عين المال مستهلكة بالزكاة. ثم قال لي: خذ الآن الكيس فأخذته وساق القافلة)

بلاؤهم في الحروب:

كان للشطار والعيارين في الحروب والفتن المحل الأول والشأن الكبير، ففي الفتنة بين الأمين والمأمون لما عجزت جنود الأمين عن الدفاع استنجد بالعيارين والشطار في الدفاع عن بغداد، فنظمهم نظام الجند على كل عشرة منهم عريف، وعلى كل عشرة عرفاء نقيب،

ص: 22

وعلى كل عشرة نقباء قائد، وعلى كل عشرة قواد أمير.

وكانوا يقاتلون عراة في أوساطهم الميازر، وقد اتخذوا لرؤوسهم دواخل من الخوص سموها الخوذ، ودرقاً من الخوص والبواري قد قرنت وحشيت بالرمل والحصى، وساروا للحرب يضربون المأمونية بالمقلاع والحصى، وفي هؤلاء يقول الشاعر:

خرّجت هذه الحروب رجالا

لا لقحطان ولا لنزار

معشر في جواشن الحصر يعدو

ن إلى الحرب كالليوث الضواري

ليس يدرون ما الفرار إذا الأبطا

ل عاروا في القنا للفرار

واحد منهم يشد على ألف

ين عريان ما له من ازار

ويقول الفتى إذا طعن الطع

نة: خذها من الفتى العيار

ومن ظريف بلائهم في هذه الفتنة ما ذكره ابن الأثير قال: إن قائداً من أصحاب طاهر من أهل النجدة والبأس خرج يوماً إلى القتال، فنظر إلى قوم عراة فقال لأصحابه: ما يقاتلنا إلا من نرى؟ استخفافاً بأمرهم واحتقاراً لهم، فقيل له: نعم، هؤلاء هم الآفة، فقال لهم: أف لكم حين تنهزمون من هؤلاء وأنتم في السلاح والعدة والقوة وفيكم الشجاعة، وما عسى يبلغ كيد هؤلاء ولا سلاح معهم ولا جنة تقيهم. . . وتقدم إلى بعضهم وكانت في يده بارية مقيرة وتحت إبطه مخلاة فيها حجارة فكان الخراساني كلما رمى بسهم استتر منه العيار فيقع السهم في باريته أو قريباً منها فيأخذه العيار ويصيح دانق - أي ثمن السهم دانق قد أحرزه - فلم يزل كذلك حتى فنى سهام الخراساني. . . ثم حمل عليه العيار ورماه بحجر من مخلاته في مقلاع فما أخطأ عينه، ثم خر وكاد يصرعه، فانهزم وهو يقول: ما هؤلاء بناس.

وحدث مثل هذا من العيارين والشطار في حرب المستعين والمعتز سنة 251هـ إذ حوصر المستعين بالله ببغداد مثل حصار الأمين فاستعان بالعيارين وفرض لهم الأموال وجعل عليهم رئيساً اسمه بينونه.

ومن العيارين رجال خلدهم التاريخ وكتب حولهم القصص الشعبية مثل الزيبق وقصته مشهورة معروفة تقرأها العامة كما تقرأ قصة أبي زيد الهلالي وقصة عنترة وغيرهما من القصص الشعبية.

ص: 23

أزياؤهم:

ذكرنا زيهم وسلاحهم في الحروب وأما في السلم فقد وصفه لنا ابن منظور قال (خرج أبو نواس إلى مصر في زي الشطار وتقطيعهم بطرّة قد صففها، وكمين واسعين، وذيل مجرور، ونعل مطبق). وكان للشطار مئزر يأتزرون به على صدورهم يعرف بأزرة الشطارة. وكان لهم سراويل يلبسونها تشبه سراويل الفتوة. وكانوا يخرجون إلى الأسواق ومحلات الجوهريين بثياب التجار فلا يعرفهم الإنسان حتى يأخذوه.

هذا مجمل ما استطعنا أن نقف عليه من أخبارهم وأعمالهم معتمدين على أهم المصادر التي ذكرت تاريخهم متفرقاً هنا وهناك فإن فاتنا شيء من أمرهم فمعذرة.

(بغداد)

شكري محمود أحمد

مدرس العربية بدار المعلمين الابتدائية

ص: 24

‌الدولار

للأديب عمر حليق

الدولار ورقة خضراء اللون تطبع بطريقة سرية من مركب كيماوي غريب. ويبلغ طولها 6. 14 انشاً وعرضها 2. 61 انشا.

ويبلغ سعر الدولار (ذهب معدن) 35 بالمائة من سعر أوقية الذهب.

وتطبع الحكومة الأمريكية من الدولارات 2482000 دولار يومياً، وتجمع الحكومة كذلك من الأسواق دولارات بالية تعادل قيمتها مبلغ الدولارات المطبوعة يومياً.

وينفق الأمريكيون كل يوم 437 مليون دولار لتسيير أعمالهم وحياتهم اليومية. ويشكو الأمريكيون كل يوم أن الدولار أصبح لا يساوي قيمته الشرائية كما عهدوه في السنين الماضية. وتبلغ هذه القيمة 58 بالمائة من قيمة دولار سنة 1939.

ومع ذلك فإن الدولار هم اليوم أهم وثيقة مطبوعة عرفها تاريخ العلاقات السياسة. هو سلاح مارشال في محاربة التوسع الشيوعي وسلاح رجال الأعمال في (وال ستريت) للتسرب إلى معاقل الاشتراكية في أوروبا لحفظ النظام الاقتصادي المطلق الذي تؤمن به الرأسمالية الأمريكية.

والدولار الأمريكي هو أساس بلية بريطانيا وأزمتها الاقتصادية وهو الشبح المخيف الذي يقلع مضاجع القارة الأوروبية المحطمة.

وقد لعب الدولار في الأيام الأخيرة دوراً هاماً في سياسة العالم. فقد كانت قلته في بريطانيا داعياً لها لانتهاج سياسة مالية جديدة متباينة جوهريا مع سياستها التقليدية في الداخل والخارج.

فالدولار مثلا هو العقبة الكبرى في سبيل اتفاق أمريكا وبريطانيا وفرنسا حول مستقبل فحم الرور الألماني.

والدولار هو السوط الذي جمع أقطاب السابة والاقتصاد في أوروبا على طاولة واحدة لأول مرة في تاريخ أوروبا الحديث.

على هذه الطاولة التقى الجائع مع الاستعماري، والشيوعي مع المحافظ العتيد والاشتراكي مع أولئك الذين يميلون إلى أقصى اليمين.

ص: 25

ولم يحتج الدولار لأكثر من إشارة متواضعة في اليونان لأن يسقط الوزارة الملكية بعد أن ثبت لرؤساء بعثة ترومان التي تشرف على اتفاق مساعدة أمريكا لليونان بأن الحالة السياسة والاقتصادية هناك تتطلب حكومة اميل إلى الوسط منها إلى اليمين المتطرف.

وليست قيمة الدولار مردها إلى قيمة الذهب الأصفر الذي في استطاعته ابتياعها، فليس هناك من يبادل الدولار بالذهب سوق تجار المجوهرات وأطباء الأسنان الذين يستبدلون الأسنان العفنة بأخرى ذهبية ولكن قيمة الدولار تعود إلى كمية البضائع والسلع التي يستطيع ابتياعها في أسرع وقت ممكن - والعالم بأسره في حاجة إلى السلع والبضائع. فالدولار إذن سيد الموقف في العالم.

وللدولار قوة سحرية في توفير الفحم والوقود السائل والآلات ووسائل النقل ولقد جمعت الولايات المتحدة الأمريكية في يدها الدولار وقوة الدولار السحرية وما يعادله من سلع ومنتجات ذلك لأن الحرب المنصرمة تركت أمريكا في حالة عكس ما تركت به أوروبا - بلد يضيق به إنتاجه الصناعي بسبب التضخم في الإنتاج الذي جاء وليد توسع المجهود الحربي وما استلزمه من صناعة موسعة على نطاق لم يعهده التاريخ.

ولكن المصيبة أن موارد العالم - خارج أمريكا - من الدولارات شحيحة خفيفة. ومع أن أمريكا منحت العالم الخارجي 20 بليوناً من الدولارات في شكل هبات ومساعدات وقروض إلا أن ما بقى لدى العالم الخارجي من هذا المبلغ الضخم لا يتعدى خمسة - أربعة بلايين دولار لا غير! ولا يزال استنفاد الدولارات جاريا بسرعة فائقة.

وتبتاع أمريكا من العالم الخارجي كل شهر ما مقداره 80 مليون دولار ولكنها تبيعه ما تبلغ قيمته بليون و 800 مليون دولار!

وإزاء هذا الموقف الخطير وجدت أمريكا نفسها أمام أمرين

(1)

إما أن تستمر في هذه الحالة فتزداد غنى على حساب أوروبا المحطمة وهذا بالطبع يضعها في موقف الرأسمالي الجشع ويدفع أوروبا والعالم من دوراها إلى أحضان الاقتصاد المنظم والمساواة الاقتصادية - الشيوعية.

(2)

وإما أن تستنبط الولايات المتحدة طريقة عملية لإعادة قوة أوروبا الاقتصادية والتجارية لتستطيع أن تزيد من تصديرها إلى الولايات المتحدة فتحصل على دولارات

ص: 26

أكثر تستورد بها من الولايات المتحدة بضائع وسلع فيستفيد الإنتاج الأمريكي ويظل على مستواه الضخم ويساعد على استيعاب العمال وتقوية الصناعة وإبقاء الانتعاش التجاري على حالته السليمة.

واختارت الولايات المتحدة الطريقة الأخيرة ولوحت لأوروبا به بما دعته (مشروع مارشال).

وبقى سؤال واحد على ألسنة ساسة الدول: هل توافق السلطة التشريعية الأمريكية (الكونغرس) على مشروع مارشال هذا فتزداد قوة الدولار السحرية في السياسة الدولية أم ينتصر أنصار العزلة في أمريكا وتبقى للدولار سلطته الاقتصادية المجردة من بلاغة السياسيين وألاعيبهم الشيطانية وتظل الولايات المتحدة سيدة العالم في الحياة المادية البحتة أم أن يزداد العم سام خيلاء فيضم إلى الاقتصاد مزامير العظمة السياسية. .

وهل السياسة غير ضباب التمويه الذي ينشره الاقتصاد ليعمي الأبصار عن قساوة الاقتصاد المجرد.

وهل في (البرجماتزم) الأمريكي مجال أخصب لهذا الدور الذي يحلو للدولار الأخضر أن يلعبه وأوروبا والقسم الأكبر من العالم معها يعاني آلاماً حادة في المعدة ودواراً شديداً في التفكير السياسي.

عمر حليق

ص: 27

‌أدب العروبة في الميزان

للأستاذ علي متولي صلاح

(تتمة)

الشعراء الثلاثة الذين سنتكلم عنهم اليوم هم - دون شك - من شعراء الطليعة والصف الأول في جامعة أدباء العروبة، وهم الجوهر والنواة فيها، كانوا معها أول ما نشأت، واستمروا على عهدهم لها إلى يومنا هذا يصدحون في كل مهرجان، ويتبارون في كل ميدان. . .

هؤلاء هم الأساتذة: أحمد عبد المجيد الغزالي، والعوضي الوكيل، وطاهر محمد أبو فاشا.

وثلاثتهم نشأوا نشأة واحدة، ونهلوا وعلوا من معين واحد وتفيئوا ظل دوحة واحدة، فكان الصراع بينهم دائماً وكانت المنافسة بينهم أبداً.

والناظر المتأمل فيهم، الفاحص عن طبيعة قلب كل منهم وحركات نفسه وصور وجدانه يجد بينهم - إلى ذلك - اختلافاً كبيراً.

فأولهم (الأستاذ أحمد عبد المجيد الغزالي) شاعر نشهد بأنه شاعر مجيد فيه طلاوة ولعبارته إشراق. والخصلة التي تبدو فيه واضحة وضوحاً قوياً حتى تكاد تلازمه في كل ما يكتب هي أنه لا ينسى نفسه أبداً! لا تنسيه إياها المناسبة أيا كانت، ولا ينسيه إياها مقتضى الحال كيفما كان، فهو يفتأ يتحدث عنها ويتكلم فيها حتى تحسبه يوشك أن يقول للناس: هأنذا. . .

وليس مما يؤخذ على الشاعر أن يصور للناس نفسه، وأن يطلع الناس على عواطفه إذا كان يصور نفسه مندمجة في الشيء الذي يتناوله بالكلام، ويطلع الناس على عواطفه متأثرة بالموضوع الذي يتحدث عنه فيكون بين نفسه وبين موضوع الحديث كمال الاتصال إن جاز أن نستعمل هذا التعبير هنا!

أما أن يترك الشاعر الموضوع الأصلي إلى الحديث عن نفسه وعن عاطفته في أمر لا علاقة للموضوع بهما فذلك ما نأخذه على الشاعر.

والأستاذ يقف في مهرجان الفيوم فلا يتحدث عنها بشيء ولا يسوق من تاريخها الحافل أو ماضيها المجيد شيئاً، إنما يقف فيسرد على الناس قصة غرامه الشخصي في غزل يخاطب فيه حبيبة بعينها اعتقادي أنها المقصودة بكل ما قال، ويترك الناس حيارى لا يدرون ما

ص: 28

يقول أو فيم يقول، ويناديها وهي في ديارها إلى جانب النيل ويصيح لها قائلا: -

أنا أشدو لها جراحي شعراً

فعساها تضمد الأشعارا

وعساها في جانب النيل تصغي

لنشيد يشعّ نوراً ونارا

ثم يشكوها في صراحة إلى عذارى الفيوم فيقول:

يا عذارى الرياض من كل شاد

أنا أشكو إلى العذارى العذارى

وهو في مهرجان المنصورة يخلص عجلا مسرعاً من الحديث عنها ولا يكاد يبدأ الحديث عن سيرتها حتى يعبرها غير وان ليتكلم عن قلبه وعن وجده بما لا علاقة له بالموضوع القائم فيقول:

يا لقلبي لما اطمأن به الركـ

ب وألقى هنا عصا الترحال

شاركتني ضلالة الحب قلبي

فتبارى ضلاله وضلالي

وانتبذنا هنا مكاناً قصياً

وشكوت الهوى له وشكا لي

وأدع ما قاله في مهرجان الزقازيق فقد يكون حديثه عن نفسه هناك متلائماً مع طبيعة الموضوع لأن الزقازيق مهد أحلامه كما يقول ومعهد صباه الأول.

والأستاذ الغزالي يخاطب الطيور في قصيدة (الربيع) بقوله:

يا طيور الروض غنينا النشيدا

وانثري فوق الربى زهر الربيع

وأنا لا أعلم كيف تنثر الطيور الأزهار فوق الروابي؟

ويخاطب الأزهار - في نفس القصيدة - بقوله: -

إيه يا زهر الربيع الباكر

يا متاع القلب يا أنس الأماني

وكلمة (يا أنس الأماني) هذه عامية ولا معنى لها ومتى كان للأماني أنس؟

ويصف سهده وهو يتكلم في مهرجان القمر فيقول:

أقضي الليالي أنات مرددة

والشاهدان عليّ النجم والسهر

والنجم وحده هو الشاهد. أما السهر فهو العلة والداء ولكنه الاضطرار!

ويفاضل الأستاذ بين بلدة (غزالة) وبين (بغداد) مفاضلة فيها تعسف شديد وإسراف بعيد ليته مدها بغير ذلك.

ومفاضلته كذلك بين (الدسوقي) وبين (الرشيد) مفاضلة على غير وجهها، فهذا وزير له

ص: 29

صولة القلم وصلصلة البيان، وذاك خليفة له أبهة الخلافة وجلال السلطان! فإن كانت الجامعة بينهما عند الأستاذ هي الأدب فالدسوقي أدب من الرشيد وأوفر منه مشاركة فيه. ولم يعز إلى الرشيد إلا أبيات قليلة لا تبلغ عدد أصابع اليد على أنها لم تثبت له بل نحلها بعض الرواة شاعراً آخر من شعراء الأندلس.

والأستاذ الغزالي نفسه هو الذي ذكر الرشيد عند ذكر الفاروق في قصيدة عيد الجلوس فقال عن لواء الفاروق بعد كلام آخر: -

فيردّ الليالي الغر للشر

ق ويحيى أيامه والرشيدا

وقال قبل ذلك عن هذا اللواء: -

يا لواء الفاروق عشت ملياً

نحن نفدى لواءه المعقودا

والمليّ الزمان الطويل والله يقول: (واهجرني ملياً) وكان الأولى أن يقول (يا لواء الفاروق عشت دواماً). ويقول عن خمرة الربيع:

فاسقنيها في ربيع الزمن

خمرة من ريها العذب أوامي

والأوام حر العطش وكيف يتأتى هذا من الري العذب؟

ويقول عن قلبه وهو يخاطب القمر:

قلبي الذي بات يصلي منك جمرته

وقد حبته بلذع دونه سقر

والحباء العطاء وأحسبه لا يكون إلا في الخير لا في اللذع الذي هو شر من سقر!

وللأستاذ شعر كثير حسن وأبيات فيها جمال وصفاء، وليست الهنات التي قدمنا بما نعتنا أن نقول فيه ما قلناه أولا من أنه شاعر مجيد فيه طلاوة ولعبارته إشراق.

وثانيهم الأستاذ العوضي الوكيل وهو شاعر هادئ وديع حالم وإن كان قصير النفس غير مكثر في القول، والخصلة التي تغلب على جميع ما ينظم هي الأنين والبكاء بلا انقطاع! فهو يقف في مهرجان (الفيوم) فيقول بعد بيت واحد من القصيدة:

على شفتي من خمرة الحب نشوة

تلهب ترنيمي بها وغنائيا

وإن كانت النشوة التي هي السكر في اللغة لا تكون على الشفة وهو يناجي القمر في قصيدته عنه فينحرف مسرعاً ليندب صباه ويبكيه فيقول:

له حسرات ملأن الضمير

ووجد تلهب حتى استعر

ص: 30

ويصف شعره في مهرجان الزقازيق في صراحة ووضوح فيقول عنه: -

ليس شعري من الكلام ولكن

هو من لهفتي ومن إطراقي

ويبتدئ قصيدته بمهرجان المنصورة ببكاء ليس وراءه بكاء وإن كان المقام لا يقتضي بكاء بل إشادة وتغنياً بالمجد والنصر وأمجاد التاريخ، فيقول في مطلعها: -

هو الوجد ما تخفى بنفسك أو تبدي

هو الوجد فاذكر ما لقيت من الوجد

ونهنه ترانيما بقلبك أوشكت

تفيض كمنهل الدموع على الخد.

وهذه ظاهرة تستوجب التسجيل في شعر الأستاذ العوضي الوكيل فإن كان يود أن تكون بشعره هذه المسحة دائماً وإن كان يأبى إلا أن يكون شعره على هذا اللون غير مستمد ذلك من طبيعته الخاصة - وهو ما أكاد أقول به وألمحه بين ثنايا كلامه - فإني أشير عليه بأن يعالج الخلوص من ذلك والتحلل منه.

وللأستاذ في الكتاب ست قصائد الكثير منها جيد حسن الديباجة أضعه مع شعر الأستاذ الغزالي في ميزان، إلا أن قصيدته في (الربيع) ضعيفة مفككة مختلطة المعاني مهلهلة النسج كان الأولى به ألا ينشرها في الكتاب فيه دون شعره الآخر بمسافة بعيدة، يقول في مطلعها: -

أي صديقي الربيع. . . عدت وعدنا

فامض في الكون كيف شئت وأنى

وأنا أفهم أن الربيع يعود كل عام مرة ولكن من أين يعود الشاعر ومتى يعود؟

ويقول فيها يخاطب الربيع معدداً محاسنه: -

قد عمرت الحياة ركناً فركنا

وغمرت القصيد وزناً فوزنا

والوزن ليس هو الشعر وليس هو الكلام الذي يقول الأستاذ إن الربيع يغمره إنما هو الميزان الذي يوزن به الشعر ويقاس به. وفي قصيدة القمر يخاطبه فيقول له:

جلست معي أيهذا القمر

وأحليت من عيشتي ما استمر

يقصد ما مذاقه مر، وذلك الفعل (استمر) لا يؤدي هذا المعنى وإنما يؤديه الفعلان مرّ وأمرّ، تقول مرَّ الشيء وأمرَّ الشيء صار ذا مذاق مر، هذا إلى أن كلمة (عيشتي) خشنة جافة لا تجوز في شعر.

وفي قصيدة الفيوم يقول عنها: -

ص: 31

تخيلتها معنى فلما رأيتها

حسبت كأبي جئتها اليوم ثانيا

والبيت في ذاته حسن المعنى إلا أن كلمة (معنىً) بعد (تخيلتها) حشو اضطر إليه الشاعر فالخيال لا يكون إلا معنى أبداً، ويقول عن الفيوم أيضاً: -

هدانا إليها في السباسب طيبها

على أن برح الشوق قد كان هاديا

وألمح هنا شبح بيت شوقي: -

ألمّ على أبيات ليلى بي الهوى

وما غير أشواقي دليل ولا ركب

أو شبح البيت القديم:

أرادوا ليخفوا قبره عن عدوه

فطيب تراب القبر دل على القبر

ويخاطب معالي الأستاذ الرئيس في نهاية قصيدة المنصورة قائلاً:

جعلت لأيام العروبة رونقاً

يجمله الفاروق ذو العزم والأيدي

والأيدي بالياء صوابها الأيد بحذفها والأيد القوة ولعله تطبيع وجملة ما يقال في الأستاذ العوضي الوكيل - رغم ما قدمنا - أن به إحساساً وأن له قلباً، ولو استطاع التغلب على نزعته الحادة وجنوحه الشديد إلى البكاء والأنين لخطا خطوة فسيحة نحو مكان كرام الشعراء.

وثالثهم الأستاذ طاهر محمد أبو فاشا وهو شاعر اكتملت له أدوات الشاعر جميعاً، فبيانه جزل ضخم ممتاز، وخياله قوي رائع، والموسيقى تضطرب في شعره اضطراباً، أسمع إليه وهو ينفح عن الفن ويجعل منه عصب الحياة وروحها فيقول: -

ربما استغنت الحياة عن العـ

لم على رغم ما جنى العلماء

وعلى الفن وحده عاش أجدا

دك دهراً وهم به سعداء

إن من أطلقوا العقول علينا

لست تدري أأحسنوا أم أساءوا

والذي ظنها تراباً وماء

هو في نفسه تراب وماء!

ويقول في نفس القصيدة عن (الشاعر) هذا البيت الرائع:

ذو بيان لو عاقرته الندامى

لتناهت عن شربها الندماء

وأسمع إليه وقد وقف في الزقازيق يقص أخبار أيامه الأولى بها:

من ترى أيقظ الخواطر حولي

وأثار المطوي من صفحاتي؟

ص: 32

وأعاد الأيام والمعهد السا

مق مروج بالنجوم الهداة

الفحول الأعلام أمثلة الزهـ

د وشيخانه العدول الثقاة

ورفيق كأنه هامش الشر

ح إذا صات يمضغ القافات

حنبلي كأنه الجمل الأو

رق صخابة كثير اللتات

السراج العليل يشهق في محرا

به والبلى يروح وياتي

ونضيج مغلغل لاذع الطعـ

مة يشوي أصابعي ولهاتي

يتصبى المجاورين فتنصـ

ب عليه كالفاتحين الغزاة

اترك المتن واطو حاشية السـ

عد وأدرك شيخون قبل الفوات

أنا من مازن ومازن مني

والليالي القمراء من صدحاتي

وللأستاذ طاهر في الكتاب ثلاث قصائد فقط خيرها قصيدته في الزقازيق تلك التي قدمنا بعضاً منها وقد بلغ فيها الذروة، وتليها قصيدة الفيوم وقد كان فيها الشاعر المنافح عن الشعر المبين عن فضله وأصالته في الحياة. وهو يقول فيها عن قافلة الشعراء وهي تسير:

لو تحسنّ البيداء من سار فيها

لتغنت من شجوها البيداء

والشجو فيما تقول به اللغة الهم والحزن فكيف تتغنى البيداء من هذين، أو كيف يركبها الهم والحزن وقافلة الشعراء تسير بها؟ وثالثتها قصيدته في (هلال المحرم) وهي دون الأوليين ولم ترقني كثيراً.

والأستاذ طاهر أبو فاشا شاعرٌ يبشر بآمال كبار، ولو سألني سائل من تراه أشعر شعراء جامعة أدباء العروبة لقلت غير متردد إنه طاهر أبو فاشا، ولو لم يكن لجامعة أدباء العروبة إلا فضل إبراز مواهب هذا الشاعر وإظهاره لكفاها ذلك فضلا. .

فليعط الأستاذ طاهر باله إلى الشعر أكثر من هذا، وليخلع رداء الكسل والراحة، ولينفق للشعر جهداً أضخم مما ينفق اليوم، وليعتزل وليخل إلى نفسه يتأمل ويتصور ويقول، وأنا الزعيم له أن يتبوأ الصدر في شعراء هذا الزمان.

وبعد: فتلك كلمات جلونا فيها بعض الكتاب والشعراء من جامعة أدباء العروبة أملاها علينا الحق الذي لا يداخله هوى، والعدل الذي لا يخالطه غرض، وكشفنا فيها عن مجهود هذه الجماعة في عام وإنه لمجهود يسير ضئيل ترجو أن يتضاعف ويزيد.

ص: 33

وإن جاز لنا أن نقترح على معالي الأستاذ الرئيس أمراً فهو أن ينظر في تعديل تشكيل هذه الجماعة حتى يتمكن كبار الكتاب والشعراء من الانخراط في سلكها، وأن يعدل منهاجها حتى يكون أوفى بالغرض الذي أنشئت الجماعة من أجله وهو في كلمتين خدمة الأدب، وخدمة الأدباء.

ونحن إذ تنتظر منه ذلك نزجي إليه - مرة أخرى - الثناء مضاعفاً والمدح مكرراً، ثناء الأدب لمناصره، ومدح الفن لمؤازره. والسلام.

رأس البر

علي متولي صلاح

ص: 34

‌ليل وقلب.

. .

هو الليل يا قلب، فانشر شراعـ

ك، واعبر خضمَّ الظلام العميقْ

وجذِّفْ بأوهامك الراعشـ

ات في زورقٍ ما به من رفيق

وإنك كالليل، شيء كبيرٌ. . .

بعيد القرار، سحيقٌ سحيق

وفيك كألغازه المبهماتِ

أفانين من كل لغزٍ دقيق

هواجس مختلفاتٌ رؤاها

تهوم طوراً وطوراً تفيق

ولليلِ يا قبل أيُّ امتدادٍ

يحيط بهذا الوجود العظيمْ

سرى واحتوى الكونَ في عمقه

فلفَّ البحار ولفَّ الأديم

وكالليل أنت، حويت وجوداً

من العاطفات كبيراً جسيم

ففيك السماء وفيك الخضم

وفيك الجديد وفيك القديم!

وتنتظمُ الكونَ في خفقةٍ

وأنت بجنبي هنا لا تريم!

ودونك يا قلب هذا الفضاَء

تجوز به السحُبُ العابره

مراكب تمخر إثر مراكب تـ

دفعها قوةٌ قاهره

كأني أرى في شُكول السحاب

نواتيَّ أبصارهم حائره

أَضلوا المنارَ، فهم تائهون

يغذّون في اللجج الكافره

كذلك أنت ببحر الحيـ

اة توهان في ظلم سادره

ورجرجة النجم كم ساجلتك

بصدر السماء خفوقَ الحنينْ

أبالنجم ما بك من لهفة

أبالنجم مثلك شوق دفين؟

أتجهش في قلبه الذكرياتُ

وتأخذ منه بحبل الوتين؟

فما باله قلق خافق

يراعى الدُّجى في سهوم حزين

لعلَّ حبيباً له قد هَوى

وبات كخدنك في الآفلين

وأصغ معي في سكون الرياض

وقد لفَّها غسقُ الغيهبِ

طيور توشوش جنح الدجى

وتكشف عن همها المختبى

فهذا الخريف تدب خطاه

ليعصف بالزهر المعجب

ويخنق ألحانَ أشواقها

ويلوي بترجيعها المطرب

وكيف تغنى لزهر ذوى

بروض سليب الحلى مجدب

ص: 35

وأنت. . . وأنت تخاف الخريفَ

وتشفق من ريحه العاتيه

تخاف على زهرات الصبى

تبددها كفه القاسيه

فلا نوْرَ يشتاقُ طلَّ الصبـ

اح ويوحى بأنغامك الصاديه

تخاف تزايِلُكَ الملهباتُ

وتخمدُ أشواقُك الطاغيه

ويفرغ نايُك من لحنه

ويثوى حطاماً بأضلاعيه

وسعتَ عوالمَ يا قلب ماجت

بجم الطيوف وشتى الصُّور

أحاسيس حيرى تهيج وتطغى

هياج العباب إذا ما غمر

وأخرى تهب هبوبَ النسيم

تنَّفس في جانحيه الزَّهَر

وتظلمُ يا قلب حتى كانك ليـ

ل بصدري الكظيم اعتكر

وتشرقُ حتى إخال الضياَء

بأقطار نفسي منك انتشر

وتخصب طوراً فكلك حبٌّ

يعانق قلب الوجود الرحيب

تفيض سلاماً كأن يد الله

مرت عليك بنفح رطيب

تحب العدو وتحنو عليه

وخنجره منك دام خصيب!

وطوراً تغيض سوى من رواسـ

ب كره عصى وبغض رهيب

كأن أكف الشياطين غلغلن

فيك فأنت مجوف جديب. . .

فيا قلبُ، يا أحد الأصغرين،

كيف اتسعت لهذا الوجودِ

وكيف احتمالك هذا الزحام

من خلجات كثار العديد

تحب وتبغض حراً طليقاً

فلا من سدود ولا من قيود

تصد نداَء المحب القريب

وتهوى نداَء العدو البعيد!

فيا لك أعمى يقود زمامي

كما شاء، فعل اللجوج العنيد!

هو الليل يا قلب، فانشر شراعـ

ك، واعبر خضم الظلام العميق

وجذف بأوهامك الراعشـ

ات في زورق ما به من رفيق

(نابلس)

فدوى عبد الفتاح طوقان

ص: 36

‌الأدب والفنّ في أسبُوع

جدل في الجامعة:

كان الأستاذ محمد أحمد خلف الله المعيد بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول - قدم رسالة للحصول على (الدكتوراه) موضوعها (القصص في القرآن) وقد أعدها بإشراف الأستاذ أمين الخولي ومعاونته وألفت لجنة من الأستاذين الشايب وأحمد أمين بك للنظر في صلاحية الرسالة للمناقشة، وكتب كل من الأستاذين تقريره عنها، أما الأستاذ أحمد أمين فقال إنها لا تصلح لضعف منهجها العلمي، وأما الأستاذ الشايب فرأى أن بها ما يمس الناحية الدينية، لأن صاحبها يقول فيها إن القصص القرآني لم يراع الحقيقة التاريخية وإن المقصود منه غرض فني فلسنا ملزمين بتصديق حقائق هذا القصص، وإنما نقدر فيه الغاية الفنية.

ويقول إن القصص مستمد من مصادر أخرى غير عربية كالتوراة والأدب اليوناني والأدب الفارسي، وإن فيه أساطير لا أساس لها. لذلك رأى الأستاذ الشايب أنه لا يجوز أن تعرض رسالة تتضمن هذه الآراء للمناقشة في لجنة الدكتوراه.

وعلم الأستاذ الخولي بفحوى تقرير الأستاذ الشايب، فرد عليه بتقرير قال فيه إنه متضامن مع مقدم الرسالة في كل حرف منها وإنه لا ينبغي الوقوف أمام حرية الفكر. وهذه التقارير كلها لدى العميد تنتظر اجتماع مجلس الكلية.

وتتحدث البيئات الجامعية في هذه المسألة، وأقوم ما يقال فيها أن (الدكتوراه) إجازة من إجازات الدولة التي دينها الإسلام، فكيف تمنح لمن يرى هذه الآراء في القرآن؟

افتتاح المؤتمر الثقافي:

افتتح المؤتمر الثقافي العربي الأول في اليوم الثاني من سبتمبر الحالي بفندق بيت مري بلبنان، وقد افتتحه رئيس الجمهورية اللبنانية بخطاب ترحيبي أشاد فيه بفكرة المؤتمر وماضي العرب في خدمة الفكر والثقافة، وتلاه وزير المعارف اللبنانية ومندبو البلاد العربية بكلمات افتتاحية نوهوا فيها بجهود لبنان في ميدان الثقافة ونشر اللغة العربية وآدابها، كما نوهوا بأهمية هذا المؤتمر وما يرجى منه من إنهاض الآداب العربية ورفع مستوى الثقافة وتوحيد أهدافها ببلاد العروبة. وألقى بعده الأستاذ على الجارم بك قصيدة

ص: 38

خصصتها بكلمة تراها بعد هذا.

وقد ألفت لجنتان عامتان، الأولى للمواد الاجتماعية يتفرع عنها لجنة للتاريخ برياسة الدكتور جواد علي (العراق) ولجنة الجغرافيا برياسة الأستاذ وصفي العنبتاوي (فلسطين)، ولجنة التربية الوطنية برياسة الدكتور قسطنطين زريق (سوريا).

واللجنة العامة الثانية للغة العربية، ويتفرع عنها لجنة الأدب برياسة الأستاذ أحمد أمين بك (مصر)، ولجنة اللغة والقواعد برياسة الأستاذ محمد بهجت الأثري (العراق).

وتواصل اللجان اجتماعاتها بفندق بيت مري الذي تقول الأنباء إنه تحول باجتماع المؤتمر فيه إلى قصر للعروبة تخفق على أبراجه رايات الدول العربية التي تبدو بالليل بين الزينات والأنوار

ولم يشترك في المؤتمر من النساء سوى ثلاث لبنانيات، وقد ظهر أن ما أذيع قبل من أن أربعين سيدة عربية سيشتركن في المؤتمر مصدره أن هؤلاء السيدات هن زوجات الأعضاء آلائي جعل لهن ما لأزواجهن من تخفيض في نفقات السفر والإقامة مع دفع رسوم المؤتمر.

قصيدة الجارم:

سمعنا هذه القصيدة، قبل أن تنشرها الأهرام، من الإذاعة المصرية في مساء اليوم الذي ألقيت فيه بالمؤتمر، وكان المذيع في حديقة الأندلس يذيع من هناك حفلة ساهرة، فما انتهى المطرب أعلن الانتقال إلى (الاستديو) فسمعنا المتحدث يقول: ألقى الأستاذ على الجارم بك اليوم قصيدة (العروبة) في المؤتمر الثقافي بلبنان وقد استطعنا الحصول عليها، ويقرؤها عليكم الآن عبد الوهاب يوسف. . . وابتدأ إنشاد القصيدة، وإذا الصوت صوت المذيع الذي سمعناه من حديقة الأندلس وهو عبد الوهاب يوسف! فهل انتقل المذيع على الأثير من الحديقة إلى (الاستديو) ليلقي قصيدة الجارم!

المسألة يا سيدي بسيطة. . . الجارم باك قال هذه القصيدة في مصر ودفع نسخة منها إلى محطة الإذاعة فسجلتها بإلقاء عبد الوهاب يوسف قبل ظهر ذلك اليوم، ثم أذيع (المسجَّل) في المساء على النحو الذي وصفت. . .

وبعد فأعدِّي عن هذه (الطريقة التمثيلية) لأقول إن سياق القصيدة يدل على أن الشاعر

ص: 39

استوحاها في لبنان كما في قوله عن نفسه:

بدت له جارة الوادي الخصيب ضحا

كل الأحبة في لبنان جيران

ويمكن أن يقال إنه، وهو في مصر، تمثل لبنان وقد تعاهدها أي أنه جرى على (الطريقة التمثلية).

أما القصيدة ذاتها فهي سبعة وثمانون بيتاً، نحو نصفها في الهوى والغيد وذكريات الشاعر في لبنان وتحسره على أيام في عهد الشباب، وقد أجاد في ذلك إجادة شيخ يتلفت قلبه إلى ما بلغه وما لم يبلغه من لذات الشباب وأمانيه. يقول:

أين الصبا؟ أين أوتاري وبهجتها

طوت بساط لياليهن أزمان

أرنو لها اليوم والذكرى تؤرقني

كما تنبه بعد الحلم وسنان

لا الكأس كأسي إذا طاف الحباب بها

بعد الشباب، ولا الريحان ريحان

ثم انتقل الشاعر من هذا الغزل (السلفي) إلى العروبة فأشاد بمجد العرب وخص كلا من فلسطين ومصر وموضوع المؤتمر ببضعة أبيات ويظهر أنه كان قد استنفذ طاقته فجاء كلامه في الأغراض الأخيرة عابراً قليل الحرارة، وهذا كل ما قاله في قضية مصر:

ومصر والنيل ماذا اليوم خطبهما؟

فقد سرى بحديث النيل ركبان

كنانة الله حصن الشرق يحرسه

شيب خفاف إلى الجلى وشبان

أبوا علي القسر أن يرضوا معاهدة

بكل حرف بها قيد وسجان

وكم مشوا للقاء الموت في جزل

والموت منكمش الأظفار خزيان

لكل جسم شرايين يعيش بها

ومصر للشرق والإسلام شريان

والشاعر من (الشيب) ولكنه لم يخفف إلى الجلي، ولست أقصد أن يمشي للقاء الموت في الميدان، وإنما أعني جلى الشعر.

أفتكون هذه الأبيات هي كل بلائه في هذه الجلى؟ كان يجب عليه وقد تصدى لقضية مصر أن يشتم الإنجليز بسبعة أو ثمانية أبيات على الأقل، ولست أدري كيف يتهيأ لشاعر مصري أن يقول شعراً فيما نحن فيه الآن دون أن يمس هؤلاء الأعداء بحرف!

ذكرى شوقي في (الأوبرج):

منذ أسابيع أقرأ في بعض الصحف والمجلات أن حفلا سيقام في (الأوبرج) لتخليد ذكرى

ص: 40

شوقي، وأن هذا الحفل أجل إلى 12 أكتوبر القادم بعد أن عين له 14 سبتمبر الحالي، وأنه سيشترك في الحفل الأدباء والشعراء والمطربون والمطربات والموسيقيون والراقصات والملهُّون والملهيات.

وأخيراً قرأت في مجلة (الاستديو) ما يلي:

(يتساءل الوسط الفني عن معنى إقامة حفلة تخليد ذكرى شوقي بك في الأوبرج وتحديد أسعار لها. . . ويقولون: هل أصبحت ذكرى شوقي وسيلة للاتجار والكسب؟).

ولي في هذا الموضوع نظرتان: الأولى في هذه الطريقة الجديدة في إحياء الذكرى التي ستصبغ الحفل بصبغة اللهو والطرب، وإذا كان لابد من الطرب فمن المقبول أن يكون إلى جانب الكلمات والقصائد غناء بعض قطع من شعر شوقي وتمثيل فصل من إحدى رواياته، ولكن ماذا في هز الأرداف وتحريك البطون وما إلى ذلكم من تخليد ذكر شوقي؟!

النظرة الثانية في تسعير حضور هذا الحفل بأسعار (الأوبرج).

إن الذين يرتادون (الأوبرج) ويدفعون أسعاره أكثرهم لا يهتمون بالأدب والشعر، وعلى خلافهم أكثر الذين يعنون بشهود الحفلات الأدبية.

وعلى ذلك نسأل: هل ستكون حفلة ذكرى شوقي لتمجيده وتقدير شعره، أو ستكون حفلة طرب ولهو ذات غلة وإيراد. . . يخرج منها الجمهور وليس بنفسه من شعر عُشر مقدار ما بها من (اللباريق) و (البسطجية اشتكوا). . . أما تصور حركات الخصور والقدود فإنه يُعفّى على كل أثر للأدب. . .

مالك الحزين:

من أبرز الصفات الشخصية في الأستاذ أحمد أمين بك - الحزن، ترى سماته بادية عليه، وتلمس آثاره في تفكيره وكتابته، وتمتزج تلك السمات بالوقار والاتزان؛ ولكن الذي يجالس الأستاذ ويخالطه، أو يتأمل فيما يكتب من خواطره، يدرك أنه يضيق بما يغلب عليه من الحزن، ويعلم للتحرر منه باستجلاب المرح.

وقد كتب الأستاذ كثيراً في أسباب حزنه، فبين أنها ترجع إلى نشأته وأحوال أسرته، وقال في إحدى المرات إنه رضع اللبن الحزين فامتزج الحزن بدمه. وأخيراً كتب بالهلاب مقالا عنوانه (كيف تتغلب على الأحزان؟) ذكر به عدة وصفات للتغلب على الحزن، منها الفلسفة

ص: 41

القائلة بأن ما يحدث في العالم من كوارث أمور لابد منها، وظواهر طبيعية للعالم الذي نعيش فيه كشروق الشمس صباحاً وغروبها مساء، فيجب أن نوطن أنفسنا على استقبال الأحداث، وإذا مرنا على ذلك أنفسنا لم نحزن، ومنها نصيحة علماء النفس بألا يطيل الإنسان التفكير في أسباب الحزن كما نفعل في سياسة الطفل إذا بكى بتوجيه نظره إلى لعبة أو حلوى لينصرف عن بكائه ويلتفت إلى الشيء الجديد، ومنها حديث النفس بأن لا فائدة للحزن إلا أن يضعف الجسم ويفسد الصحة، وأن الزمن سيمسح الهموم أن يضعف شأنها، فلماذا لا نساعده ونخفف الأحزان عنا في الحاضر؟

وصف الأستاذ كل ذلك لمقاومة الحزن، وأبان (كيفية استعماله)، وكان ذلك من نتاج ما أسميه (مركب الحزن)، وإن كنت أود للأستاذ الجليل أن يكون هو قد انتفع بهذا العلاج، وألا يكون كمالك الحزين الذي رأى الرأي للحمامة ولم يره لنفسه. . . كما قال ليدبا الفيلسوف. . .

جوائز الآداب والاجتماع:

يذكر القراء أنه صدر مرسوم ملكي في العام الماضي بإنشاء جوائز فؤاد الأول وجوائز فاروق الأول، وخصصت الأولى للآداب والقانون، والعلوم الرياضية والطبيعية والفلكية، ونص المرسوم على أن تشمل الآداب التاريخ والجغرافيا والفلسفة والآثار، إلى جانب الآداب البحتة.

وخصصت جوائز فاروق الأول لعلوم الحياة، والعلوم الكيميائية، والعلوم الجيولوجية.

وقد رأت وزارة المعارف أخيراً أنه لم يرد في المرسوم ذكر علم الاجتماع وعلم النفس والتربية ضمن المواد التي تمنح الجوائز عن الإنتاج فيها، مع خطر قدر هذه العلوم وتقدم البحث فيها في العصر الحاضر عامة وحاجة مصر إلى التزويد منها بصفة خاصة في عهد التطور الاجتماعي والنهضة التعليمية الذي تجتازه البلاد الآن. . .

لذلك رأت الوزارة أن تخصص إحدى جوائز فاروق الأول للعلوم الاجتماعية على أن يضم إليها التاريخ والجغرافيا والفلسفة والآثار، لأن هذه المواد تجري طرائقها على أساليب البحث العلمي المنظم، فهي بذلك أقرب إلى العلوم.

وبذلك يصبح التاريخ والجغرافيا والفلسفة والآثار معدودة من العلوم الاجتماعية، وتخلص

ص: 42

جائزة الآداب للآداب البحتة مثل الأدب القصصي، والأدب التصويري، والأدب الاجتماعي، والشعر، والبحوث الأدبية (النقد، البحوث اللغوية، الدراسات الإسلامية الأدبية).

وقد رفع مشروع مرسوم بهذا التعديل إلى مجلس الوزراء فأقره

(العباس)

ص: 43

‌البَريدُ الأدَبي

تحقيقات:

جاء في مجلة أسبوعية تصدر بالقاهرة كلمة عن حادث دبلوماسي وقع بين الحكومة المصرية وفرنسا وذكرت المجلة أن أسباب هذا الحادث تتلخص في أنه عندما كان للحكومة الفرنسية مفوضية لم يكن من حقها تعيين ملحق عسكري بها، لأن المفوضيات ليس لها قانوناً هذا الحق. . . وعندما رفعت فرنسا تمثيلها السياسي من مفوضية إلى سفارة أصبح من حقلها أن تعين ملحقاً عسكرياً، وأنها اتصلت بالسفارة البريطانية قبل الحكومة المصرية فكان هذا الاتصال من أسباب وقوع الحادث المشار إليه.

ولا نعرف من المراجع التي بين أيدينا وجود هذا التمييز بين السفارة والمفوضية وليس فيها أي نص أو عرف أو قاعدة تحول بين أية بعثة دبلوماسية مهما كانت درجتها من أن تعين بين أفرادها ملحقاً عسكرياً بشرط أن يكون معتمداً لدى الدولة الموجودة البعثة بأراضيها وباستشارة وإذن هذه الدولة، ولا يوجد ما يمنع هذا الملحق العسكري من أن يكون معتمداً لدى عدة دول أخرى، ولم ترد في هذه المراجع أية تفرقة في صفة البعثة السياسية ودرجتها إذا كانت مفوضية أو سفارة، أو كانت يرأسها سفير أو وزير مفوض أو قائم بالأعمال.

ولا نعرف تفاصيل هذا الحادث وإنما يهمنا ألا تقع الصحافة المصرية في خطأ واضح، يؤخذ علينا.

أما موضوع الملحق العسكري في مفوضية فرنسا بالقاهرة أو وكالتها السياسية كما كانت تسمى قبل سنة 1922، فقديم وكان يطلق عليه اسم ضابط الاتصال أو ضابط ارتباط إذا استعملنا الاصطلاح العسكري التركي بلغة عربية، وكان هذا الضابط يمثل جيش الاحتلال الفرنسي بسوريا ولبنان لدى جيش الاحتلال البريطاني بالقاهرة، وكان هناك ضابط ارتباط فرنسي بمدينة القدس معتمداً لدى قوات بريطانيا بفلسطين وهذه المعلومات أعرفها من خدمتي بهذه البلاد.

كما أعرف أن أول من شغل هذا المنصب بمصر ضابط أسمه الليوتنان دي جاناي ثم ماجور مشاة ثم الكابيتان بيشو، وهو ممن اشتركوا في حملات الفرنسيين بسوريا وله مؤلف

ص: 44

لشرح هذه العمليات الحربية ثم الكابيتان دي كارد.

وفي عهده ألغى هذا المركز العسكري بناء على طلب السلطات العسكرية البريطانية في مصر وفلسطين، ولم تبد قيادة قوات الاحتلال الفرنسية اعتراضاً على هذه الإلغاء، ولما قامت الحرب الأخيرة كانت من أسباب إعادة هذا الاتصال العسكري على نمط أوسع بين الجانبين فجاء إلى بيروت كولونيل بريطاني على رأس بعثة، غادرت سوريا ولبنان عقب إعلان الهدنة مباشرة ويفهم من كل ما تقدم أن الدولتين كانتا تتبادلان هذا النوع من الضباط طبقاً لروابط التفاهم والتحالف وتغير الأحوال السياسية بينها.

وطبيعي أن هذا الوضع تغير تماماً بالنسبة لمصر بعد استقلالها وبعد إتمام الجلاء وعليه فليس من حق فرنسا أن تعين ملحقاً عسكرياً بالبعثة التي تمثلها بالقاهرة سواء كانت سفارة أو مفوضية قبل أن تستأذن الحكومة المصرية في إنشاء هذا المنصب ودون أن تستشيرها في التعيين، لأن الضابط الذي يشغل وظيفة الملحق العسكري سيكون معتمداً لدى وزارة الدفاع المصرية وأمام قيادة الجيش المصري صاحب الولاية على شئون الدفاع عن الأراضي المصرية بأكملها، ولا شأن للسفارة البريطانية أو السلطات العسكرية الأجنبية بهذا الشأن بعد اليوم.

أحمد رمزي

مخطوط غريب لابن خلدون:

أعلن الأديب المغربي عبد العزيز بن عبد الله بجريدة (العلم) الغراء الصادرة برباط الفتح أنه عثر في مكتبة النقيب مولاي عبد الرحمن بن زيدان بمكناس على مخطوط غريب في التصوف الإسلامي لأبي زيد عبد الرحمن بن خلدون ألفه على ما يظن بالديار المصرية، وحرر فيه فصولاً جامعة عن التصوف وتاريخه وتقسيماته وغايته ومذاهب المتصوفة ونظريات ابن عربي وابن سبعين وغيرهما في وحدة الوجود والنسبة وغير ذلك.

هذي طبيعة العرب:

قرأت في الرسالة الزاهرة قصة (شيخ الأندلس) التي نقلها عن الإنجليزية الأديب الفاضل وهبي اسمعيل حقي ولم أكد أنتهي من قراءتها حتى وثبت إلى ذهني قصة عربية واقعية

ص: 45

قريبة الشبه من هذه القصة، وهي أن إبراهيم بن سليمان بن عبد الملك حينما كان مختفياً من العباسيين أول قيام دولتهم، وضيق عليه العباسيون الخناق، خرج هارباً إلى الكوفة، ولكنه لم يكن يعرف بها أحداً، فوجد داراً رحبة منيفة فلجأ إليها، وطلب من صاحبها حمايته، فأجابه إلى طلبه، وهيأ له من داره مكاناً جميلا، وأغدق عليه من نعمه، وأحاطه بكل ألوان العطف، وضروب الكرم، ولم يسأله من هو، ولا ممن يخاف، ولكن إبراهيم لاحظ عليه أنه يركب كل يوم ثم يعود غضبان أسفاً كأنه يطلب شيئاً فاته ولم يجده، فسأله في ذلك فقال له مضيفه: إن إبراهيم ابن سليمان بن عبد الملك قتل أبي وقد بلغني أنه مختف من السفاح وأنا أطلبه لعلي أجده، حينئذ صعق إبراهيم وأيقن من الهلاك، ولكنه تشجع وعرف الرجل بنفسه فلم يصدقه بادئ ذي بدء ولكنه أكد له الخبر فقال له الرجل: أما أبي فسيلقاك غداً فيحاكمك عندما لا تخفى عليه خافية وأما أنا فلست مخفراً ذمتي ولا مضيعاً نزيلي ولكن اخرج عني فإني لا آمن نفسي عليك، وأراد أن يصله فأبى.

عصام الدين عبد الحميد الهنامي

حول المسرح الشعبي:

1 -

المسرح الشعبي بحالته الراهنة مستكمل من كل الوجوه فالممثلون مختارون من طبقة ممتازة. . . والمعدات والإضاءة لا بأس بهما بوجه عام. . . وقد حصرت عدد الممثلين والممثلات فإذا به يربو على العشرين وشاهدت ملابس منوعة الأشكال والهندام تناسب المقام الذي يمثل فيه الممثلون. . . وتكييف الأضواء وخشبات المسرح تعد بإتقان عظيم يلفت النظر، غير أني أظن أن الغرض الأهم من المسرح الشعبي قد ضاع بين كل ذلك. . . وإلا فأية فائدة تعود على المتفرجين من روايات مقتضبة وفواصل غنائية قصيرة تمر في وقت لا يساوي ربع الوقت الذي يمر في إعداد المسرح وتجريب الأضواء وارتداء الملابس وكثرة حركات الممثلين هنا وهناك. . . إننا كنا نتأفف من طول الانتظار في فترات الراحة. . . حتى ظننا أننا لن ننتهي من البرنامج الموضوع إلا في الصباح.

2 -

ابتدأت الحفلة في الساعة السابعة مساء وعُرض على الشاشة دوران غنائيان من روايتين معروفتين. . . ثم عرضت ثلاث روايات تمثيلية قصيرة هي (بلال وخضرة أو

ص: 46

مصر والسودان - عمدة ميت خلف - ملاك الخير وملاك الشر) وأخيراً وفي الساعة التاسعة والنصف أعلن المذيع أنه انتهى الليلة وأنه سيزورنا قريباً وكأنه أحسن بهول الخبر على آذان السامعين!

فخفف من وقعه بتأميلهم في زيارة قريبة. . . ولو جمعنا اللحظات التي تفرّج فيها أهل القرية على الممثلين وهم على خشبة المسرح لهالنا حساب الزمن. . . وأؤكد لكم أنه لم يستغرق في كل هذه الروايات الثلاث إلا خمسين دقيقة.

3 -

هذا المجهود العظيم الذي حُشِد له بعض كبار رجال الإدارة مع عدد من الخفر ورجال الشرطة. . . وهذا الإعداد الهائل من سيارات وممثلين وموظفين وهذه الأجور المرتفعة التي تدفع لكل لوازم المسرح. . . أيضيع كل ذلك نظير هذه الفائدة القليلة في هذا الزمن والوجيز؟ لقد كان أهل القرية فرحين. . . وتمنوا أن يجدوا في هذه المناسبة ترفيهاً يخفف عنهم آلامهم في سهرة طويلة. . . ولكن سرعان ما خاب ظنهم بانتهاء الحفلة بهذه السرعة.

4 -

لماذا لم تعد الوزارة أشرطة سينمية كما تحب. . . وتعرض منها ما تشاء في سيارات متنقلة كسيارات الدعايات الصحية وتوفر هذا المال الذي ينفق في إعداد المسرح وحمله وتنقلات الممثلين! والأشرطة تؤدي الغرض وتحقق غاية الوزارة؟

5 -

لا أكتم إعجابي بالموضوعات التي اختيرت للتثقيف ولا أكتم إعجابي كذلك بالأسلوب السهل الذي يؤدي به الممثلون أدوارهم وحبذا لو اختارت الوزارة روايات أوسع من نظير ما مُثّل عندنا أو عند غيرنا. . . وحبذا لو اختيرت بعض الأغاني الشعبية والحماسية وزيد من فتراتها فالأغاني تفعل في النفوس فعل السحر وهي في نفوس الريفيين أجدى في الإصلاح.

أحمد حامد سويدان

ص: 47

‌الكُتُب

أحمد عرابي

الزعيم المفتري عليه

(تأليف الأستاذ محمود الخفيف)

بقلم الأستاذ محمد فهمي عبد اللطيف

هذا كتاب كان من الواجب أن يكتب من يوم أن تيقظ فينا الوعي القومي، ونهضنا ننشد حريتنا المسلوبة وكرامتنا المثلومة ونطلب لنا مكانة لائقة بين أمم العالم، وكان من الواجب أن يُكتب ذلك الكتاب بتلك الروح الحارة الدافقة التي تجلت في أسلوب مؤلفه الفاضل الأستاذ محمود الخفيف، وفي قوة عرضه للمواقف التاريخية التي اقترنت بسيرة ذلك الزعيم الوطني العظيم، وصارت من شواهد التاريخ المصري في أظهر وأحرج مرحلة من مراحله الحاسمة، ثم ما تخلف وراء ذلك من نتائج وآثار لا تزال مظاهرها ماثلة للعيان. . .

ذلك لأن التاريخ - حتى في عصور الإنسانية المظلمة - لم يعرف زعيما مثل أحمد عرابي اصطلحت قوى الشر وتعاونت المآرب المتهمة على تشويه سيرته وتسوئ سمعته وتسفيه آرائه، فقد حاول الإنجليز جاهدين، وحاول صنائعهم وأحلافهم من الكتاب والصحفيين المأجورين أن يحطموا كيان هذا الزعيم تحطيما، وأن يشوهوا مقاصده تشويهاً، وأن يقلبوا الحق في أغراضه الوطنية الشريفة إلى ما يروق لهم من باطل مزور، ثم اتخذوا من الحكم عليه في ذلك دليلا في الحكم على سائر المصريين حتى استطاعوا في جرأة ووقاحة أن يلفقوا على التاريخ المصري تلك الفرية الشنيعة، وهي أن عرابياً كان خائناً لوطنه، وأنه كان السبب المباشر في ذلك الاستعمار الذي ضرب على مصر طوال تلك السنين، وأن المصريين ليسوا بأهل لأن ينالوا الحرية وأن يحكموا أنفسهم بأنفسهم، وهي القالة التي لا يزال الاستعمار يرددها على سمع العالم إلى اليوم!!

وإن من المؤلم حقاً أن هذه الفرية صارت هي (الحقيقة) التي تلقن لأبناء المصريين في مدارس المصريين، وما تزال سيرة عرابي ومقاصده ومواقف الثورة العرابية عامة تدرس

ص: 48

في مدارسنا مشوهة ملفقة ويلقنها أبناؤنا كما صنعها الإنجليز وأعوانهم.

فأحمد عرابي (زعيم مفترى عليه) من غير شك، كأخس وأشنع ما يكون الافتراء، ولقد استطاع الأستاذ محمود الخفيف أن يدفع هذا الافتراء بقوة الحجة وسلامة المنطق وسلاسة البيان ودلالة الروايات الثابتة والوثائق الصحيحة، فجاء كتابه هذا إنصافاً للحق والتاريخ، وجهداً للوطن ولمصر، وتصحيحاً لخطأ غرسته الدعاية المغرضة في الأذهان، ودرساً وطنياً قومياً لأبناء هذا الوادي وإنهم اليوم لأشد ما يكونون حاجة إليه، ولهفة عليه، ويقيني أن هذا الدرس سيظل (إنجيلا) يرتله المصريون جيلا بعد جيل مادام فيهم روح الاعتزاز بكرامتهم وبقوميتهم.

تناول المؤلف في كتابه سيرة عرابي، فدرج معه وهو طفل في القرية، وسايره حتى شب ودخل في غمار الحياة، ثم انتقل معه إلى ميدان الجندية، وأخذ يتتبع خطوات ذلك الجندي المتمرد على الظلم، الغاضب لكرامته وكرامة قومه ووطنه، حتى استطاع أن يحطم معقل الطغيان، وأن يأخذ الأمر بين يديه فأصبح (رجل الأمة) و (ملاذ البلاد)، ثم يوضح لك بعد ذلك ما اعترض (أماني المصلح) من (مراوغة وتربص) و (إعنات وإحراج) و (بغي وعدوان)، وبعد أن يمثل أمامك تلك المشاهد بجميع مجاليها وما اكتنفها من (دسائس ومخاوف) ينتقل بك إلى صميم المأساة، فيحدثك عن (مأساة الإسكندرية) وما وقع فيها من (العدوان الفاجر)، ثم يسير بك مع (عرابي بطل الجهاد) ومواقفه في (كفر الدوار) و (التل الكبير)، وأخيراً ينتهي بك إلى نهاية المأساة الأليمة، وما تم فيها من سجن العرابيين، ثم ما جرى من المهازل في محاكمتهم ونفيهم إلى سرنديب، وحياتهم في ذلك المنفى السحيق، وفي الخاتمة يقف مع الزعيم الوطني في أيامه الأخيرة بعد ان عاد من المنفى حتى قضى نحبه (وأصبح في ذمة الله ودخل في سجل التاريخ ولم يكن لدى أولاده من المال ما يكفي لتجهيزه ودفنه، فاضطروا إلى عدم إعلان نبأ وفاته إلى اليوم التالي حتى قبضوا معاشه)، ثم شيعوه إلى مقره الأخير، فلم يمش في جنازته رجل رسمي واحد أو يحضر مأتمه، وإنما شيعته أمة أبية، وشعب تنطوي جوانحه على الوفاء لرجاله العاملين.

وأنت تستطيع أن تسمي هذا الكتاب سيرة زعيم وتاريخ ثورة بما تضمنه من تحقيق تاريخي صحيح وعرض دقيق لجميع الوقائع والمشاهد ودراسة لجميع الوثائق والمقابلة بين

ص: 49

مختلف الروايات والآراء والوصول من وراء ذلك إلى الحقيقة التي تبدو لك ماثلة واضحة، وتستطيع أيضاً أن تسميه قصة من قصص البطولة المجيدة والوطنية الصادقة بما تحلى فيه من سلاسة العرض وروعة الأسلوب وحبكة الفصول والمشاهد وتصوير الوقائع والمواقف بجميع ظروفها وملابساتها، حتى إنك لتضع يدك في صفحات الكتاب على أجسام حية من الأشخاص، وما أدى كل منهم من دور في تلك القصة للحق أو للباطل. . .

وكنت أود أن أنقل لك شيئاً من فصول هذا الكتاب على سبيل التمثيل، ولكني رأيت أني سأنقله كله، وأحسب أن القراء قد وقفوا على نمط منه نشر في (الرسالة) من قبل، وكله نمط واحد، وسلسلة متصلة الحلقات، وغاية القول في هذا الكتاب الجليل أنه ليس من الكتب التي تقرأ ثم تنسى وتهمل، ولكنه وثيقة تاريخية ناصعة الصفحات في الدفاع عن القضية المصرية وكرامة المصريين، وإن المؤلف الفاضل ليضعها بين يدي أبناء وادي النيل في وقت هم أشد ما يكونون حاجة إليها بما يكتنف قضية بلادهم من أخذ ورد في مجال الاحتكام الدولي والجهاد الوطني، وسيرى المصريون في هذا الكتاب كيف سرقت بلادهم تحت عين الشمس، وكيف زور تاريخهم بين سمع الدنيا وبصرها، وكيف تعاونت قوى الشر والاستعمار على تلويث كرامتهم وكرامة زعمائهم الأبطال، وإن الكتاب بما تضمن من هذه الحقائق الوطنية سيظل سفراً فريداً خالداً، وسيصبح - كما قلنا - (إنجيلا) يرتله أبناء مصر جيلا بعد جيل.

محمد فهمي عبد اللطيف

ص: 50

‌القَصصُ

داخل أسوار الفقر

للأستاذ علي حيدر الركابي

كانت حياتها مثل نفسها، واضحة المعالم وخالية من العقد وكانت لهذه الحياة البسيطة حدود ضيقة عاشت في داخلها ولم تكد تحس بما وراءها.

ما عرفت لها أماً بل عرفت نفسها أماً لأخوتها الصغار ترعاهم وهي لا تكبرهم إلا قليلا وتقوم على خدمة أبيها. انصرفت إلى أداء واجبها نحوهم جميعاً بكل ما أوتيت من إخلاص وقوة ومعرفة. أما الإخلاص فلم يكن من النوع الذي تعرفه المعاجم أو يعرفه الناس في مجتمع أرقى بل كان شيئاً مبهماً موروثاً تحركت به غريزة هذه الفتاة الريفية وما كانت لتستطيع تفسيره بالألفاظ حتى لو أرادت ذلك، بل كان يدفعها دفعاً عفوياً نحو الحدب على أخوتها لأنهم أضعف منها ولأنها أكبرهم ونحو خدمة أبيها لأنه أبوها، وحسبها أنه أبوها تبذل له الطاعة من جهتها ويتولى من جهته حمايتها من أخطار مجهولة. أما القوة فبدأت ضئيلة ثم نمت بنموها وهي في الحالين قوة فتاة ريفية سليمة الجسم أما المعرفة فهي مزيج ابتدائي من عادات وتقاليد انتقلت إليها شيئاً فشيئاً من أبيها أو جاراتها أو عابري السبيل تلتقط من هذا كلمة ومن ذاك أخرى فتتشكل من مجموع ما التقطت فلسفة ابتدائية للحياة أساسها القناعة والتسليم. ولما عجزت تلك (المعرفة) العجيبة عن مقاومة المرض الذي نزل باخوتها ثم الموت الذي اختطفهم الواحد بعد الآخر عملت تلك الفلسفة في نفسها عملها فطأطأت رأسها للقدر المحتوم وإن دهشت إذ لم يصبها ما أصابهم وأرجعت ذلك إلى عوامل مختلفة، ولم يكن ليخطر في بالها أنها إن سلمت فلم يكن ذلك إلا بفضل من الله وحده.

كانت حياتها مع أبيها في عرف الناس حياة بؤس وشقاء ولكنها ما كانت لتفكر في ذلك لأنها لم تعرف غير البؤس والشقاء: في قلبهما ولدت وعليهما فتحت عينيها ثم في كنفهما نشأت وترعرعت. فكانت حالة البؤس والشقاء هي الحالة الطبيعية، وأما ما سواها فشاذ. ولم يكن بها تطلع لسواها أو قدرة على المفاضلة بينها وبين سواها. كان السواد هو اللون الطاغي على كل ما يتصل بها من مسكن وملبس ومأكل فإذا دخل على هذا السواد بياض

ص: 51

فهو ضئيل ولا يبدل ألوان حياتها القائمة بما هو أزهى بل جل ما يتوصل إليه هو أن يحولها أحياناً إلى لون الرماد!

وكما يعيش الموسرون في عزلة غافلين عن كل شيء خلا مالهم الموروث أو المكنوز ورفاههم المستقر، كذلك عاشت هي في عزلة تامة غافلة عن كل شيء خلا فقرها الموروث وضنكها المستقر

ثم دخلت حياتها حالة جديدة رافقها من الأوجاع والظواهر الجسدية ما أفزعها ولكنها ما لبثت أن اطمأنت إليها إثر ما تولتها به إحدى جاراتها من شرح وإرشاد ثم نسيتها تماماً حين انتقلت من دار أبيها إلى دار بعلها فغابت تلك الآلام الجسدية في نوع جديد من النشوة ما عتم أن احتل مكانه التقليدي بين معالم حياتها الرتيبة.

لم تكن دار أبيها داراً بالمعنى المعروف عند الناس بل كانت بقية من بناء متهدم في طرف القرية ليس له مالك على ما يظهر، أو إن كان له مالك، فلم يكن له به حاجة أو اهتمام. ولم يكن انتقالها إلى دار زوجها عرساً بالمعنى المألوف لأن أباها كان غريباً عن تلك القرية فلم يكن له فيها أهل أو عشير ولم تسمح لها حياة الكدح بأن يكون لها صواحب وأتراب، وكان زوجها كذلك غريب الدار. فلولا بعض الجيران وبعض رفقاء الزوج ولولا عدد من الناس لا يكاد يتجاوز أصابع اليد لما ارتدى ذلك الانتقال طابعه الخاص، ولولا محاولات قامت بها بعض جاراتها بدفع من قوة أجيال من التقاليد الموروثة لما أزهرت حياتها قليلا للمرة الأولى والأخيرة ولما اطرحت ألوانها الباهتة إطراحاً قصير الأمد

ولم تكن دار زوجها كذلك داراً بالمعنى المعروف بل كانت واحدة من تلك الأكواخ الضيقة الحقيرة يبتنيها العمال الزراعيون في أطراف المزارع ليكونوا على مقربة من الحقول التي يعملون فيها مأجورين، يبنونها بأيديهم من التراب المجبول بعرقهم فلا يكلفهم البناء مالا. وكما يعيش النمل في حفر يستقطعها من أرض الله كذلك يعيش هؤلاء العمال في تلك (الحفر) الطينية المسماة بقرى العمال يستقطعونها من أرض المالك، وكما يروح النمل ويغدو بصمت وإصرار حاملا إلى تلك الحفر المؤن التي تقيه عاديات الزمان كذلك يروح هؤلاء العمال ويغدون بين الحقل والكوخ صامتين صابرين ساعين إلى الحصول على قليل من الزاد يتبلغون به ولا يكاد بقى أجسامهم المكدودة عاديات الزمان، وكما يعمل النمل

ص: 52

بإخلاص منصرفاً بتمامه عن العالم الخارجي الذي لا يعرفه ولا يفهمه كذلك يغنى العمال في علمهم ولا يكادون يحسون بما هو خارج عن عالمهم، وكما ينظر العالم الخارجي إلى النمل فيراه مخلوقاً أسود ضعيفاً وحقيراً لا يستحق الاهتمام كذلك ينظر هذا العالم إلى سواد العمال وحقارتهم وضعفهم فيشيح عنهم بوجهه، وكما أن النمل لم يلق الاهتمام إلى عند طائفة العلماء وهو اهتمام نظري لا يجني منه النمل نفعاً بل يعود نفعه على العالم والتاريخ كذلك اهتم بعض العلماء بشئون العمال اهتماماً نظرياً لا ينفع العمال أنفسهم في قليل أو كثير بل يعود نفعه على العلم والتاريخ ودوائر الإحصاء. وأخيراً، كما يعبث طفل بحفرة للنمل فيهدمها بقدمه ويسلط عليها الماء أو يعمد رجل إلى هدم الحفرة ليتخلص من تلك الحشرات البغيضة كذلك تعبث قوى الطبيعة بالأكواخ فيجرفها سيل أو يغمرها فيضان وتهدمها ريح أو تدكها صاعقة، هذا إذا لم يتعمد هدمها السيد المالك نفسه فيجليهم عنها لسبب من الأسباب المتصلة بمصلحته هو التي ليس لها أدنى علاقة بمصلحتهم هم.

وما كانت هذه الأمور - كلها أو بعضها - لتشغل حيزاً من تفكيرها بل راحت تخدم زوجها بدفع من الغريزة ذاتها التي حملتها على خدمة أبيها قبله، فهو رجلها وهو المكلف بحراستها من الأقطار المجهولة وهي امرأته وعليها له واجبان: الخدمة والطاعة.

لم تكن حياتها عند زوجها إلا امتداداً لما اعتادته في حياتها عند أبيها من جهد متصل وحرمان متأصل وبؤس وشقاء مقيمين.

ومع ذلك فقد دخل على حياتها الثانية عنصران جديدان أولهما ذلك الحب الذي يولد في قلب كل فتاة ليلة زفافها ولاسيما حين تكون في سن مبكرة وحين يكون الزوج أول رجل عرفته، وثانيهما الأوجاع التي كانت تتحملها من جراء ضرب زوجها إياها ضرباً قاسياً في أكثر الأيام عقب عودته من الحقل في المساء.

ولكن بهجة ذلك الحب وأوجاع هذا الضرب ما لبثتا أن استقرتا في حياتها استقرار العادة المألوفة فتحول الحب بلذته وبما يخلفه من الآم في الحمل والوضع، إلى عمل رتيب آلي مثل طهي الطعام وغسيل الملابس وكذلك الضرب ولاسيما أنها باتت تتلقاه بشيء من القناعة لأنها أحست بأن الدافع إليه لم يكن رغبة من رجلها في الإساءة إليها بل كان ناشئاً عن عوامل مستقلة عنها فما كانت هي إلا أداة طارئة للتنفيذ، مما أكد لها ذلك أن الضرب

ص: 53

لم يبدل شيئاً من العلاقة الاعتيادية القائمة بينهما وأنه كان في الغالب حين يفرغ من ضربها يتركها برهة تكفكف دموعها ثم يعود إليها ليجرها، ثم ليطرحها إلى جانبه في فراشهما الحقير المشترك. ولو أوتيت ثقافة ووعياً لعلمت أن ما أحست به بغريزتها هو الواقع، وأن ضرب زوجها لها ما كان إلا انتقاماً لا شعورياً من مجتمع ظالم لم يعترف بوجوده كانسان فثار في نفسه وأراد أن يؤكد وجوده بشكل من الأشكال، وهو إلى جانب ذلك انتقام لا شعوري من نظام مقلوب لم يعترف له بالقوة والرجولة فثار كذلك وأراد أن يدلل على أنه قوي وأنه رجل.

قضت مع زوجها أعواماً لا تعرف لها عداً أو حصراً لأن الزمان وأقسامه لا يدخل في حساب من كانت حياتهم تسير على وتيرة واحدة لا فرق بين يومها وأمسها ولا يخبئ غدها غاية تحرك شوقاً أو تحيي أملا. كان يمكن أن تعرف تلك السنين من عدد أطفالها وأعمارهم ولكن هذا كان متعذراً لأنها ولدت له عدداً كبيراً من الذكور والإناث اختطف الموت أكثرهم وأبقى بعضهم كما اختطف قبلهم أخوتها وبقيت هي. ولم يترك موتهم أثراً عميقاً في نفسها وإن حزنت عليهم الحزن الشكلي التقليدي.

كذلك فعلت حين أدركت أباها الوفاة. ولم يكن هذا وليد نقص في حبها له أو لهم بل كان منشؤه ازدحام حياتها بأسباب الحزن والشقاء وهي عوامل لا تؤدي إلى كبير تعلق بالحياة أو عزوف عن الموت، وفي دنيا رتيبة قاتمة يحتل الموت مكانه التافه بين سائر عناصر تلك الحياة التافهة.

وانتقلت مع زوجها وأطفالها من مكان إلى آخر في الأرياف تبعاً لأهواء السادة مالكي الأرض والأرواح وسعياً وراء الرزق وهي إذ لم تختلف حياتها بين مكان ومكان، لم تحزن لفراق كوخ ولا فرحت لاستقبال كوخ فالكل عندها طارئ وغابر والكل عندها موقت مادام صلتها بالأرض وأهلها صلة عابرة ولا تربطها بها أو بهم تلك الروابط الضرورية الثابتة التي تجعل من الأرض وطناً وتخلق من نفوس سكانها عاطفة حب الوطن.

وفي مساء يوم مشئوم غادر رجلها الكوخ ولم يعد وآوت هي إلى فراشها وضمت إليها أطفالها تتولى في غيابه حراستهم من أخطار مجهولة. وتملكها الشك حين تقدم الليل دون أن يعود ثم استولى عليها الخوف حين سمعت في جوف الليل طلقات نارية وفي الصباح

ص: 54

جاءها وكيل مالك الأرض وأبلغها مقتل زوجها إثر شجار نشب بين بعض الفلاحين وأن القتلى دفنوا حيث وجدوا وأن لا حاجة لإبلاغ الشرطة مادام عدد القتلى من الطرفين متساوياً فلماذا تحشر الحكومة في الأمر فتزعج وتنزعج وإن عليها أن تخلي الكوخ فوراُ لمن سيحل فيه محلها. قال الوكيل كلمته هادئاً وانصرف مطمئناً وكأنه ما أتى ليخرب بيتاً بل ليوجه تعليماته اليومية حول سقاية أو زرع. لم يكن هناك قانون أو نظام أو عرف أو تقليد يرغم مالك الأرض والأرواح على أن يحول جزءاً يسيراً من ماله الوفير عن سبل صرفه - أو كنزه - الاعتيادية ليعوض به على أسرة بائسة فقد معيلها، ولم يكن هناك قانون أو نظام أو عرف تقليدي يرغم الفلاحين على أن يمدوا يد المساعدة إلى أسرة كهذه ولاسيما أن ما يملكونه لا يكاد يسد الحد الأدنى من حاجاتهم البسيطة. ولكن المسألة ليس مسألة عرف أو نظام بل هي مسألة شعور الإنسان نحو أخيه الإنسان وهو شعور تسمو به نفوس الفقراء غالباً ولا تستطيع أن تسمو به النفوس الفقيرة قط.

وهكذا غادرت الكوخ مع أطفالها مزودة بما جمعه لها الفلاحون زملاء زوجها الراحل من زاد حقير ومال قليل وتوجهت نحو المدينة البعيدة حيث قيل لها أنها قد تجد عملا تتعيش به وتنفق منه على أولادها. كانت الرحلة طويلة وشاقة أدمت على خشونتهما قدميها. ولكن عطف عليها مرة سائق يقود سيارة للشحن رق لحالها وأطفالها فأركبهم جميعاً وجنبهم تعب المرحلة الأخيرة. ودخلت المدينة على ظهر تلك السيارة فلم تحس بأنها دخلتها لأن الراحة النسبية خدرت أعصابها المرهقة فنامت ملء جفونها ولم تستيقظ إلى على صوت السائق يدعوها إلى النزول فنزلت وسحبت أطفالها لا تدري إلى أين.

مرت في رحلتها بمزارع غنية وحدائق غناء وقصور متكئة على تلك المزارع والحدائق ومرت بها على الطريق سيارات فخمة بحمولتها الثمينة من رجال أو نساء استدارت وجوههم وتكورت بطونهم، وهنا في المدينة سارت لأول مرة بين الأبنية الجميلة وفي الشوارع العريضة المستقيمة وعلى بعد خطوات من معالمها البارزة وعلى مسمع ومرأى من شبابها المتحمسين وقادتها المصلحين ولكنها لم تكد ترى شيئاً أو أحداً لأن انتقالها هذا إلى المدينة لم يكن ليختلف عن تنقلاتها السابقة مذ غادرت بيت أبيها فهي تسير منذ الأزل باحثة عن رزق ومأوى وهي عالمة بأن رزقها الكفاف أو أقل وأن مأواها خرابة أو كوخ -

ص: 55

أو ما هو دونها.

أما تلك الدور والأبنية التي مرت بها فليست منها في شيء ولم تخلق لها ولا صلة لها بأهلها فدنياها غير دنياهم وقومها غير قومهم. كانت هذه الحقائق مستقرة في أعماقها دون أن تتكلف عناء التفكير فيها ولذلك لم تكن لتشعر نحو هذه المجموعة الأجنبية من الناس بكره أو حسد فلو دعاها داع إلى الثورة عليها لما لبث الدعوة ولاتهمت الداعي في عقله.

وكما عاشت في غفلة عن القصور وسكانها وعن المدينة وأهلها كذلك أغفلها هؤلاء جميعاً وتابعوا حياتهم اليومية وهم قانعون بأنهم إنما يستوفون حقهم المشروع لأنهم الفئة التي اختارها الله وخصها من دون غيرها بالنعم والميزات. أما تلك الجموع الفقيرة التي تتدافع بالمناكب لتطعم من فتات موائدهم الزاخرة فهي في نظرهم سوائم لا تستحق غير الفتات. إن هؤلاء السادة الأكارم أشبه بالدول المعظمة في هيئة الأمم المتحدة. في أيديهم الحل والعقد وفي جيوبهم مفاتيح الثروة المغلقة أبوابها في وجه غيرهم، وكل ما يجري بدفع منهم ولتأمين مصالحهم هم، وحدهم لا شريك لهم ثم إن هؤلاء السادة الأكارم يتمتعون بما تتمتع به تلك الدول المعظمة من حق (الفيتو) وحق الاحتفاظ بسر القنبلة الذرية والدولار!

ولكن، أنى لمثلها أن يعي شيئاً من ذلك؟. . .

لاقت في المدينة إعراضاً لأن الناس لا يستخدمون أماً مثقلة بعدد من الأطفال ولاسيما إذا كانت ريفية جاهلة قذرة. كانت تطوف في النهار على البيوت طوافاً مضطرباً فتعرض خدماتها وتتلقى الرفض مصبوباً في قوالب مختلفة بعضها جميل وجلها بشع مخيف. وكانت تجود عليها بعض البيوت بشيء من الطعام أو اللباس أو بدراهم معدودات أما الليل فكانت تختار له جانباً من طريق تأوي إليه مع أطفالها فإذا ما ناموا ظلت هي ساهرة تحرسهم من المارة والهوام حتى إذا تقدم الليل ونقص عدد العابرين وغلبها التعب والنعاس استلقت على الأرض إلى جانبهم وأحاطتهم بذراعيها ثم استسلمت مرغمة للنوم. ولحظت بعد حين أن بعض المارة يتصدقون عليها بدراهم يلقونها بين يديها دون أن تسألهم ذلك لقد أدهشها الأمر في البداية، ولكنها ما لبثت أن قنعت بأن الاستجداء هو العمل الوحيد المفتوح بابه لها فامتهنته وراحت تطلب الصدقة نهاراً من سكان البيوت وليلا من المارين. وفزعت من الشتاء حين دهمها بمطره وبرده فراحت توزع نهارها بين السؤال وبين البحث عن مكان

ص: 56

تقضي فيه الليل بسلامة نسبية.

ولكن الرطوبة الشديدة والبرد القارس لا يرحمان الفقراء الذين لا يعرفون دفء المسكن والملبس والمأكل وليس في مقدورهم الاستعانة بطبيب أو اللجوء إلى مستشفى ففقدت بالبرد أحد أطفالها ووارته التراب في طرف المدينة دون أن تعلم بأن الدين فرض على الناس عند الوفاة طقوساً وصلوات.

الدين؟ وما الذي تعرفه هي عن الدين سوى أنه لفظ يفيدها في القسم أحياناً هو وعدد من الألفاظ الأخرى كاسم الله والنبي وبعض الأئمة والأولياء حفظتها بالسماع دون أن تعلم أن لهم في الكون وظيفة تنفع في غير الإيمان والدعوات. كان هذا كل ما تعرفه عن الدين، هذا وما سمعته من أبيها وزوجها عن زيارة يقوم بها الناس إلى بعض الأماكن المقدسة حيث يتعبدون ويدعون الله فيستجيب لدعواتهم. كانت تود أن تقوم بمثل هذه الزيارات لعل الله يمن عليها بما يساعدها على تربية أطفالها ولكن أنى لها ذلك وهي ما تزال تذكر رحلتها الأخيرة إلى المدينة بخوف ولا تحس بشجاعة كافية تدفعها إلى المخاطرة برحلة جديدة نحو المجهول.

وانقضى الشتاء فخفت آلامها بعد أن كاد البرد في شدته يقضي عليها وبعد أن كادت تعتقد أن الموت أدركها ذات ليلة فبكت وضمت إليها من تبقى من أولادها وأسلمت نفسها إلى غيبوبة طويلة أفاقت منها صحيحة قوية وأطفالها من حولها ينتظرون قيامها وقد أضناهم الجوع. ولم تدر مدى الزمن الذي انقضى وهي في حالة الإغماء ولكنها تعلم أنها بقيت لأولادها وتغلبت على الشتاء. وأتى الربيع فظنت أن قد زالت الأخطار ولكن يد الموت امتدت من جديد وتناولت من بين يديها ولداً آخر كان يهذي في ساعاته الأخيرة وكانت حرارة رأسه كحرارة الجمر. . .

وأقبل الصيف فانتعشت قليلا وراحت تغسل أولادها وملابسهم في النهر دون أن تخشى عواقب البرد واستمرت تعيش عيشتها البسيطة قانعة بالقليل من الذي تجود به أكف المحسنين فإذا ما هل شهر رمضان لم يكن له عندها سوى معنى واحد وهو أن عدد المتصدقين قد يزداد في الشهر المبارك ولعها تستطيع بهذه الزيادة أن تبتاع لأولادها مزيداً من طعام أو تحصل لهم على لباس يحل محل الأطمار أو الخرق التي لا تكاد تستر

ص: 57

أجسامهم.

وأقبل العيد فقضت ليلته في طواف الشارع على عادتها وقد انتصبت في جلستها على الأرض تحرس أطفالها النائمين حولها، ولماذا لا تقضي ليلة العيد على حافة الطريق وهي واحدة من لياليها لا تفضلها في قليل أو كثير؟ لأي سبب من الأسباب يسهر أطفالها ولم يكن ليؤرق جفونهم شوق إلى مفاجأته؟ إن أملاً ضعيفاً ليداعب خيال هذه الأم فتتمنى أن يأتي لها العيد بما لم يحققه رمضان لكي تبتاع لأولادها بعض ما يحتاجون. ولم تكد عيناها تذوقان لهم النوم في تلك الليلة: لم يؤرقها ذلك الأمل ولا أقض مضجعها هم فالهموم لا تقض مضجع من لا يعرف غير الهموم، والأمل لا يؤرق من لا تحقق له الحياة أملاً واحداً، بل هي لم تنم لأن الشارع لم ينقطع ضجيجه في تلك الليلة وظل زاخراً بجمهور من الناس يهرعون إلى الأسواق في آخر لحظة ليكملوا نواقص العيد الذي لن يكون عيداً إذا لم تزدحم مائدة الأسرة بكل ما يفرضه العرف، وإذا لم ينل جميع أفراد الأسرة نصيبهم المقرر من الهدايا. إنهم يتضاحكون ويتدافعون في تلك الساعات الأخيرة ليحفظوا لصغارهم وكبارهم بهجة العيد. وما يكاد ينقطع عن الطريق سيلهم الصاخب حتى تقذف البيوت بأفواج جديدة من الناس وهم الأتقياء المتعبدون الذين يتسابقون إلى بيوت الله في الساعات الأخيرة من تلك الليلة الفضيلة ليكونوا في طليعة المؤمنين الذين يستقبلون فجر العيد بالصلاة والدعاء.

لو شاء إنسان أن يزور الدائرة الرسمية المختصة متسلحاً بعزم العلماء وبصبرهم، ولو شاء أن يبحث بين أكداس الأوراق والملفات عن سجل هذه الأم وأطفالها - إذن لوجدهم في عرف الحكومة، في عداد الأحياء من بني الإنسان الذين يحملون أسماء ولهم جنسية ودين.

بغداد

علي حيدر الركابي

ص: 58