المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 742 - بتاريخ: 22 - 09 - 1947 - مجلة الرسالة - جـ ٧٤٢

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 742

- بتاريخ: 22 - 09 - 1947

ص: -1

‌قولوا استعدوا ولا تقولوا اتحدوا!

يسيء إلى كرامة مصر من يزعمون أن فيها اليوم جماعةً وفُرقة، ثم يحاولون أن يجمعوا المتفرق ويضموا الشتيت بدعاء داع أو سعى ساع أو إذاعة مذيع!

إن في هذا الزعم اتهاماً لبعض قومنا بالعقوق وقذفناً لهم بالخيانة.

ولا يجوز في الطبع ولا في الشرع أن نفترض الجريمة ثم نرتب على افتراضها ما نرتب على الأمر الواقع. قولوا استعدوا وانظروا يوم الاستعداد من يتلكأ. وقولوا انفروا وانظروا بعد النفير من يتخلف! أمَّا أَن تقولوا اتحدوا وائتلفوا وسووا الصفوف، ثم تنتظروا أن يقبّل زيد رأس عمرو، ويرد عمرو قُبلة زيد، فذلك هو الهزل في مقام الجد، والعبث في موقف الخطورة!

ليست الأحزاب السبعة أو الثمانية هم جميع الأمة؛ وليست الزعماء التسعة أو العشرة هم كل القادة؛ وليست الأمة بأضعف غريزة من النحل التي تدفع عن بيوتها الزنابيرَ؛ فكيف تنتظر أن يقول لها هذا الحزب أو ذاك الزعيم دافعي عن أرضك التي منها تأكلين، وعن مائك الذي منه تشربين؟!

هذا يوم الفصل بين الاحتلال والاستقلال أو بين العبودية والحرية؛ فمن تخلف فيه أو خَزَّل عنه قوتل مقاتلة العدو، أو عومل معاملة المريض!

هذا يوم جهاد البغي والجور والاستعمار؛ فمن لم يكن لنا فيه فهو علينا؛ ومن لم يقم للدفاع معنا فليس منا. والخارج علينا لغُلول في نفسه، والمتخلف عنا لنكول في طبعه، لا يردهما إلى الطريق قول معروف ولا عذل منكر

اقرعوا الطبول يا دعاة الجهاد تجدوا الأمة برجالها ونسائها أمامكم، تضمر في قلبوها الضغينة، وتظهر في أيديها القوة، لتجرد عدو الله وعدوكم من الباطل هنا، كما جرده النقراشي من الحق هناك!

إن الذين يظهرون الأمة في هذا المظهر الكاذب من الشقاق والافتراق والتخاذل فريق من الكتاب والساسة، يقولون فنسمع، ويكتبون فنقرأ، حتى إذا اقتربت الساعة وجدَّ الجد وحق الجهاد رأيت الأمة صحيحة الكيان قوية البنيان سليمة الوجدان، لا تطيع غير رجل واحد هو القائد، ولا تعرف غير عدو واحد هو الإنجليز!

قولوا استعدوا ولا تقولوا اتحدوا؛ فإن الأمر بالاتحاد يتضمن اعترافاً بالتفرق؛ وفي ذلك

ص: 1

تزييف للحقيقة، وإيهان للعزيمة، وإغراء للعدو!

إن من يزعم أن في الأمة المصرية تفرقاً لأن صاحب العزة رئيس التحرير، أو صاحب السعادة رئيس الحزب، يريد أن يعارض ليضمن نقوده، أو يخالف ليثبت وجوده، كمن يزعم أن في الجامعة العربية تصدعاً لأن صاحب الجلالة الهاشمية الملك عبد الله يريد أن يشرك سورية في صداقته لبريطانيا ليرتفع عرشه شبرين، ويتسع تاجه إصبعين! كِلا الزاعمين ينكر الأمتين المصرية والأردنية، ولا يزال يقول كما قال الأقدمون: إن أهواء السادة هي مصالح الأمة، وإن إرادة الملوك هي شرائع الممالك!

لا يا سادة، قولوا استعدوا ولا تقولوا اتحدوا، فإن الاتحاد قائم بإرادة الأمة؛ وإن النصر مكفول بمشيئة الله!

احمد حسن الزيات

ص: 2

‌مؤتمر المستضعفين

للأستاذ محمود محمد شاكر

كانت جلسة مجلس الأمن في يوم الأربعاء 10 سبتمبر 1947 هي الحكم الفاصل في قدر هذا المجلس وفي بيان قدرته على فض النزاع الذي ينشب بين الدول صغيرها وكبيرها. وكان ظن الذين دعوا إليه وأنشأوه - أو كانت دعواهم - أن هذا المجلس قد أنشئ ليكون فيصلا في الخصومات التي يخشى أن تفضي إلى حرب، وأنه هو المهيمن على السلام وحفظه في هذا العالم المائج المتدافع. فجاءته قضية مصر والسودان، وليس في قضايا الدنيا كلها ما هو أوضح منها وأبين، ووجه العدل فيها ظاهرة لكل ذي عينين عمشاوين فضلا عن عينين بصيرتين، ومع ذلك كانت كل جهود هذا المجلس العجيب أن يقول للمتخاصمين: اذهبا فاطلبا شيئاً تصطلحان عليه! وليس في الدنيا ما هو أعجب من هذا، متخاصمين أعجزهما أن يجدا للصلح مكاناً بينهما، فيقول لهما الحاكم الوازع: اذهبا فاطلبا صلحاً!!

ونحن لا نريد أن نطعن في هذا المجلس، ولا أن نقول أنه شيء لا قيمة له ولا غناء فيه، ولا أنه أوشك أن يصبح سبباً في فساد العالم ودافعاً جديداً لتقريب ساعة الحرب، ولا أنه كشف عن قدر من العجز يحل للناس معه أن يطلبوا حله ويسرِّحوا وفود الأمم المشتركة فيه إلى بلادهم، لا نريد شيئاً من هذا، بل نرى أنه مجلس لابد من بقائه على ما هو عليه، ولابد من ذهاب كل دولتين متخاصمتين إليه، فإنه يتيح للمظلوم أن يفضح ظالمه ويكشف عن آثامه التي يسترها عن العالم بالأكاذيب والتمويه.

ولكن كل ما نريده هو أن يتفضل هذا المجلس بأن ينفى عن نفسه نقيصة الغش والخداع، فإنه أنبل وأعظم من أن يرتضيهما لنفسه، فقد زوّر عليه الذين أنشأوه فوضعوا له اسماً لا يناسب جلالة قدره ولا حقيقة معناه، وألصقوا به شيئاً ليس من الإنصاف أن يلصق به، وهو المحافظة على الأمن العالمي الذي يقتضي أول ما يقتضي أن تتساوى الدول المشتركة فيه في السيادة على الأرض التي يشملها اسم الدولة، حتى لا يقع التنازع بين سيادة وسيادة، فيختل التوازن ويصير الأمن العالمي مهدداً بالزوال.

ونحن نقترح أن يسمى هذا المجلس (مجلس الأجاويد)، وقد اخترت هذه التسمية لقصة

ص: 3

سمعتها: ففي الشطر الجنوبي من وادي النيل المعروف عندنا باسم (السودان)، والمعروف عند بريطانيا وأشياعها باسم السودان المصري الإنجليزي، ألف الناس إذا تخاصموا أن يلجئوا إلى جماعة من أصحاب الرأي يسمونهم (مجلس الأجاويد)، فيأتي المتخاصمون فيذكرون أسباب خصامهم، وتنظر الجماعة في أمر هذا الخصام، ثم ترى رأيها فتقول لأحد المتخاصمين: أكرمنا وانزل عن كذا، وتقول للآخر: وأنت فأكرمنا أيضاً وانزل عن كذا. ولا تزال تأخذ من هذا ومن ذاك، فإن قبل المتخاصمان أن ينزل كل منهما عن شيء وينزل خصمه عن مثله، فذاك، وإلا رفعت الجماعة يدها عن الأمر كله وقالت للمتخاصمين: لقد نفضت يدي، فاذهبا فاصنعا ما تشاءان!

فمجلس (الأجاويد) هذا أشبه شيء بمجلس (الأمن)، لولا أن الأول طابق اسمه مسماه، وأن الآخر كذب اسمه على مسماه، فمن الحسن كل الحسن أن يغير هذا المجلس اسمه ويبقى هو، لأنه مكان يتاح للدول فيه أن يعرف بعضها بعضاً على حقيقته بغير تدليس ولا تجمل ولا مواربة. وهذا في نفسه غاية مطلوبة ومنفعة لا مراء في أنها خير ينبغي الحرص على إدراكه وتحصيله، بل نقول أكبر من ذلك: إن تسريح وفود الدول المشتركة في هذا المجلس شر ينبغي اتقاؤه، لأنه يحول بين الدول وبين إدراك هذه الغاية المطلوبة والمنفعة العظيمة.

وندع مجلس (الأجاويد) وما وحل فيه من عجز وضعف واحتيال على تفادي الحزم، ومن فراره عن وجه الحق فيما يعرض عليه من الخصومة، فإنه لم يخلق لمثل ما نطالبه به حين نذكر حقوق مصر والسودان أو سواهما من أمم الأرض. ندعه لننظر في خاصة أمرنا نحن دون أن نعبأ شيئاً بما فعل هذا المجلس، أو بما سوف يفعله.

وملخص تاريخ القضية المصرية السودانية، كما يعرفه كل أحد، هو أن مصر والسودان كانت فيما قبل سبتمبر سنة 1882 دولة واحدة لها حدود معروفة معترف بها في المحافل الدولية كلها لا ينازعها فيه منازع. وفي سبتمبر سنة 1882 اتخذت بريطانيا ما كان من أمر الثورة العرابية التي قام رجالها للمطالبة بحقوق الشعب الدستورية، ذريعة للتدخل في شئون مصر الداخلية، وكانت نيتها مبيتة على العدوان على استقلال مصر والسودان، وإخضاع هذه الدولة للسيطرة البريطانية الاستعمارية التي كان يومئذ في عنفوان شدتها. فتم لبريطانيا ما أرادت، وانتهكت حرمة الشرائع الدولية، وادعت أنها أرادت تثبيت عرش

ص: 4

خديوي مصر في ذلك الوقت محمد توفيق. ولما رأت أن الدول الأوربية المستعمرة قد بدأت تناوئها، زعمت أنها لن تلبث إلا قليلا حتى تجلو عن أرض مصر والسودان مرة في أقرب وقت مستطاع، حددته أحياناً وتجاهلت تحديده أحياناً أخرى. وظلت تماطل وتتعسف وتؤوّل، وتكذب وتفتري على مصر والسودان أخس افتراء، وهي في خلال ذلك تهدم كيان هذه الدولة المصرية هدماً تاماً بحجة الإصلاح حيناً، وبحجة المحافظة على (حقوق) الأجانب في مصر وعلى مصالحهم.

فلما جاءت الحرب العالمية الأولى، انتهزت بريطانيا هذه الفرصة وأعلنت الحماية على مصر والسودان دون أن تعبأ شيئاً بحقوق شعب مصر والسودان، وهي مطمئنة إلى سكوت الدول الحلفاء على فعلها في هذه الساعة الحاسمة من تاريخ العالم. ثم انتهت الحرب وهب الشعب المصري السوداني يطالب بريطانيا باستقلاله، ولكن بريطانيا لم تلبث أن وجدت منفذاً لتفريق كلمة هذا الشعب، فلوحت للزعماء بأنها تريد إنصاف مصر والسودان، وظلت تستدرجهم حتى قبلوا مبدأ مفاوضة بريطانيا في حقوق مصر الطبيعية، فأقبل هؤلاء الزعماء على مفاوضة بريطانيا منذ ذلك الوقت، فكانت زلة وخيمة العواقب في تاريخ مصر والسودان، ولو لم يكن لها من الشر إلا أنها أفضت إلى تعليق مسألة السودان في كل المفاوضات إلى سنة 1936، لكان ذلك حسبها من البلاء الذي ليس بعده بلاء.

ولما حدثت مفاوضات سنة 1936 الخبيثة، وانتهت بمعاهدة الاحتلال التي فرضت على مصر فرضاً تحت ظل الاستبداد والتهديد والتخويف، وقعت زلة أخرى أكبر من زلة المفاوضات نفسها، وهي ذكر الورقة الباطلة المعروفة باسم اتفاقية سنة 1899، فكان ذكرها كأنه اعتراف بشرعيتها، واجتماع كل هذه الأخطاء واحتشادها منذ سنة 1921 إلى هذا اليوم، هو الذي مكّن لبريطانيا أن تقف في مجلس الأمن لتتكلم بالكلام الذي لا معنى له إلا أنه تزوير للحقائق، ولكنه تزوير اعتمد على هذه الأخطاء نفسها. فلولاها لما كان لبريطانيا كلام يقبله عقل عاقل، ولشق عليها أن تدلس في الحقيقة البينة، وهي أنها دولة معتدية حكمها كحكم سائر الدول المعتدية في الدنيا. ومع ذلك، فإن شيئاً من هذا لم ينفع بريطانيا، فالدول قد علمت ولا ريب أن بريطانيا معتدية بعد أن كشف النقراشي القناع عن الفضائح التي كانت مكتومة عن الناس وعن الدول، وبعد أن أبان فارس الخوري عن

ص: 5

أساليب بريطانيا في قهر الدول الضعيفة وابتزاز حقوقها.

فلما أحجم مجلس الأجاويد عن أن يقطع برأي في مسألة مصر والسودان، وخاف أن يمس كرامة بريطانيا الدولة الشريفة النبيلة إذا هو حكم لمصر والسودان بالحق، وتنزه عن وصف بريطانيا العفيفة الطاهرة بأنها دولة معتدية على حقوق الدول المسالمة - رجعنا من حيث بدأنا في سنة 1882، أي أننا وقفنا وحدنا لنقول للعالم مرة أخرى، هذه دولة معتدية، لابد من رد اعتدائها ودفع عدوانها وبغيها بأي وسيلة تتاح لنا. فينبغي إذن أن ننذر بريطانيا إنذاراً لا رجعة فيها، بأن تسحب جنودها من كل بقعة كان يرفرف عليها علم مصر والسودان في سنة 1882 دون نظر إلى معاهدات سابقة أو عرف جار، أو اتفاقات باطلة. فإذا فعلنا فقد نبذنا إليه على سواء، وأعذرنا أنفسنا أمام هذا العالم الجشع من الدول المستعمرة.

ونحن شعب لا طاقة له بحرب بريطانيا بالسلاح، لأنها ظلت خمساً وستين سنة تنزع من أيدينا كل سلاح، وتضعف جيشنا بكل أسلوب، وتحيط بنا من كل مكان، حتى لا نجد لأنفسنا منفذاً نستطيع أن نستجلب منه السلاح الحديث الذي يعيننا على حربها. هذا حق، ولكنه على وضوحه ليس بشيء، فإن الأمة التي تريد استقلالها وتحرص عليه لن تمنعها قلة السلاح من أن تفعل شيئاً كثيراً تستطيع به أن تنال ما تريد. وبريطانيا لن تستطيع أن تفني هذا الشعب المصري السوداني إذا هب لقتالها مجرداً من كل سلاح إلا سلاح العزيمة والتضحية وبذلك المهج وإرخاص النفوس والدماء في سبيل الوطن.

وبريطانيا ترى أن من مصلحتها أن يستقر السلام في هذا الشرق الأدنى، وهي تتخذ هذا حجة لبقائها في مصر والسودان وفلسطين والعراق، فينبغي أن نبحث عن الأسلوب الذي يفسد عليها هذا السلام الكاذب الذي تنتهك هي حرمته باحتلال أرض هذه الشعوب، والعالم العربي كله يعلم أن مصر والسودان هي قلب بلاده فإذا ظل هذا القلب ضعيفاً مأسوراً في قيود الاستعمار فالعالم العربي عاجز عن أن يفعل شيئاً في سبيل النهضة التي تجيش بها صدور أبنائه، وهو أيضاً عرضة للبقاء الطويل تحت نير الاستعباد الأوربي الفاجر المتعصب، وهو أيضاً لحم على وضم ينال منه كل طارئ وأفاق ما يشائ، ويصب عليه من ازدرائه واحتقاره ما تسول له نفسه الخبيثة، لأنه يعلم أنه قوى في حماية هذه الدول

ص: 6

الطاغية المستعمرة جميعاً. فلزام إذن على هذا العالم العربي كله أن يهب هبة واحدة للجهاد - من أقصى مراكش إلى حدود العراق بغير استثناء - متخذاً كل وسيلة من المقاطعة إلى المحاربة الظاهرة والخفية جميعاً.

وهذا العرض السامي يتطلب منا أن نجمع شملنا، لا في مصر والسودان وحدهما، بل في كل مكان في هذا العالم العربي، وفي كل ناحية من نواحي العالم الإسلامي. وينبغي أن يتجرد منا جميعاً رجال يجوبون هذه الدنيا لتأليب الشعوب العربية والإسلامية على عدوان هؤلاء المعتدين، ولعقد المودة بيننا وبين الشعوب التي أظهرت مودتها لنا ودفاعها عنا. وينبغي ألا يفزعنا شيء فإننا مأكولون، والمأكول لا يبالي أن يأكله هذا أو ذاك، وجرأته هي وحدها الكفيلة بأن تضمن له ضرباً من الحرية في الاختيار.

ومع ذلك فعسى أن يحدث شيء لم يكن أحد يتوقعه، فننال حقنا كاملا دون أن نطوق أعناقنا بمنة يمتنها علينا شعب أو دولة.

وحسبنا أن بريطانيا تريد أن يستقر هذا الشرق وهذا العالم الإسلامي حتى توغل هي في عدوانها، فلنمنعها هي وأشياعها مما يريدون.

هذا العمل الجليل لا يغني غناءه إلا إذا تعاونت الحكومات العربية والإسلامية معاً وتعاونت شعوبها أيضاً مع هذه الحكومات تعاوناً شاملا كاملا لا ثغرة فيه. فأول ما ينبغي أن تقوم مصر والسودان فتدعو إلى عقد مؤتمر عام لكل الشعوب الصغيرة المجاهدة في سبيل الحرية والاستقلال، وأن يتولى هذا المؤتمر العام تحديد الخطط التي ينبغي أن نسير عليها حتى نبلغ هذه الغاية التي تقض مضجع بريطانيا ورأس أشياعها أمريكا لنسارع إلى دعوة هذا المؤتمر العام إلى عقد أول اجتماع في أقرب فرصة مستطاعة، فإن الإرجاء مفسدة للجهود وإضعاف للقوى وإضاعة للوقت، والإسراع لا يضر بل هو أنفع شيء مادام الهدف الأسمى هو أن نزعج بريطانيا وأمريكا أولا، وأن نتفق على الخطط العامة التي تكفل لنا نيل حقنا من هذه الشعوب المستعمرة العادية على استقلالنا وحريتنا.

وهذا المؤتمر لا يتعارض قط مع عمل الجامعة العربية، لأنه محدد الهدف، ولأنه يقوم على أساس واحد هو الاتفاق على أساليب الجهاد كلها، وعلى حشد القوى التي تعين عليه، وعلى اختيار الفئة الصالحة للتجول في أرجاء العالم لإثارة الشعوب العربية والإسلامية ودعوتها

ص: 7

إلى أخذ حقها دون مساومة أو مفاوضة، وعلى تحديد أعمال القائمين بالدعوة في كل مكان، وعلى التمهيد لعقد الصلات بيننا وبين الشعوب التي تناصرنا على نزع ربقة الاستعمار عن أعناق الأمم المستضعفة في كل مكان، مهما اختلفت ألوانها أو أجناسها أو أديانها.

إن هذا المؤتمر ضرورة لازمة ألجأتنا إليها بريطانيا وأمريكا وأشياعهما من الدول الشريفة النبيلة التي قامت لنصرة الحق والعدل والمساواة! وبريطانيا وأمريكا وأشياعهما لا يريدون أن يدركوا أن هذه ساعة حاسمة في تاريخ العالم العربي الإسلامي ومن يعيش معهما من الأمم التي وقعت تحت سيطرة الاستعمار، وهم يماطلون ويراوغون ويتملصون من الفروض التي كتبوها على أنفسهم في ميثاق الأمم المتحدة، وهم يأبون أن يعترفوا بأننا شعوب تريد أن تعيش حرة لأن هذا هو حقها في الحياة، فينبغي إذن أن نجيّش كل قوانا وأن نعد العدة لإقناع هاتين الدولتين ومن يلوذ بهما بأننا قوم نأبى أن نعيش عبيداً في دنيا لم يخلقها خالقها إلا لتكون أرضاً للأحرار، وأننا أمم لها من الحقوق مثل ما لبريطانيا وأمريكا وأشياعهما، وأن الله لم يخلق هؤلاء الناس ليسودوا العالم ويستعبدوا أهله بالظلم والعدوان والكذب والتغرير

إننا لا نريد عدوانا على أحد، ولكننا قد أبينا أن نقبل العدوان من أحد كائناً من كان، وبالغاً من القوة والبطش والجبروت ما بلغ. وقد أعذر من أنذر.

محمود محمد شاكر

ص: 8

‌مقالة الخوارزمي في الشعراء

للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي

إلى العالم الأديب الكبير الأستاذ الشيخ محمود أبو رية

يا سيدي، جواب سؤالكم هو في كتابكم، في الكتاب فصل الخطاب، فعم تسألون؟ وما المسئول بأعلم من شيء من السائل، وهو فضلكم أراد مراده، وفي القاهرة (أدام الله عمرانها بالمسلمين)! وفي مصر مصدر المدنية وموئل العربية في القاهرة وفي مصر ألف مالك.

هذا الضعيف لا يعرف للمقالة إلا تلك الرواية في (ثمار القلوب) وقد اطلعتم عليها، وأشرتم في الكتاب إليها. وهي خير رواية، والثعالبي أصدق رواتها، فهو يقيد هنا ما سمع ممن قال لا ما قرأ في الصحف ونقل إليه النقلة. وكل قد أخذ منه، ثم مشى إليها النقص والزيادة، وجاء تحريف الناسخ والطابع.

ولم تنج رواية (الثمار) من ذلك البلاء. وخدمة للعلم والأدب إذاعة المقالة في (الرسالة، رسالة العربية) وتحقيقها كيما يتلقاها صحيحة متلقيها.

قال الإمام أبو منصور الثعالبي في (ثمار القلوب في المضاف والمنسوب):

(. . . وعهدي بالخوارزمي يقول: من روى حوليات زهير، واعتذارات النابغة، وأهاجي الحطيئة، وهاشميات الكميت، ونقائض جرير والفرزدق، وخمريات أبي نؤاس، وزهريات أبي العتاهية، ومراثي أبي تمام، ومدائح البحتري، وتشبيهات ابن المعتز، وروضيات الصنوبري، ولطائف كشاجم، وقلائد المتنبي ولم يتخرج في الشعر فلا أشب الله (تعالى) قرنه).

هذه هي (المقالة) وهذا قولي فيها.

الفرزدق:

هذا عندي مزيد، زاده النساخ، ولم يذكره أبو بكر، ولم ينقله أبو منصور، واجتزأ الخوارزمي بنقائض جرير كما اجتزأ بقصائد لمن سماهم، ولو ذكر الفرزدق لذكر الأخطل، ولم يدع هماماً استهانة به فقد قال (والفرزدق في الفخريات) في معرض التفخيم في إحدى

ص: 9

رسائله. وقد تكون (نقائض جرير) كتاباً على حدة، فهناك نقائض الثلاثة وهي معروفة، وهناك (نقائض جرير والأخطل)(تأليف الإمام الشاعر الأديب الماهر أبي تمام) ذكرها البغدادي في خزانته ونسب المؤلَّف إلى حبيب، وطبعت سنة (1922).

زهريات أبي العتاهية:

هي زهديات أبي العتاهية، وهذا واضح.

لم يتخرج في الشعر:

هي لم يخرج في الشعر، وما قصد الخوارزمي إلا هذا المعنى، و (خرج فلان في العلم وفي الصناعة إذا نبغ) كما في الأساس وغيره، وخرّجه أدّبه وعلمه فتخرج أي تأدب وتعلم، وشتان ما متخرج وخارج، ويقال: خرج فلان في الشعر أو في غيره لا خرج إليه كما ورد في إحدى الروايات.

قلائد المتنبي:

لا ريب في أن با بكر سمي أبا الطيب في المقالة فقد كان من مكبريه، وكثرة تمثله في الرسائل بشعره وحله فيها أبياته واقتباسه من معانيه كل ذلك من أدلة الإكبار، فقد روى الثعالبي في كتابه (الإيجاز والإعجاز) هذا الخبر، وربما كان سمعه منه:

(كان أبو بكر الخوارزمي يقول: أمير الشعراء العصريين أبو الطيب، وأمير شعره قصيدته التي أولها (من الجآزر في زي الأعاريب) وأمير هذه القصيدة قوله:

أزورهم وسواد الليل يشفع لي

وأنثني وبياض الصبح يغري بي)

ومن ذكر شعراء درجت أشعارهم قبل أن يدرجوا (يموت رديء الشعر من قبل أهله) وترك المتنبي فقد ضل ضلالا مبيناً، بل قد كفر. والإشكال عندي هو في (القلائد) فهي في هذا المقام مبهمة، فقد ذكرها الخوارزمي وعنى بها قصائد المتنبي المشهورة (وما الدهر إلا من رواة قلائدي) أم ذكر السيفيات أو الكافوريات فبدل المبدل، وقد يفضل الكافوريات مفضلون وربما كان أبو بكر منهم، وهي وحي مصر، أوحتها إلى المتنبي وقد كبر (احمد) وتمرن واختبر، وشاهد ما لم يشاهده من قبل، وعلم ما لم يكن يعلم، وجاء إلى مملكة كبيرة يسوسها ملك عظيم شهم.

ص: 10

يدبر الملك من مصر إلى عدن

إلى العراق فارض الروم فالنوب

إذا أتتها الرياح النكب من بلد

فما تهب بها إلا بترتيب!

ويظاهره وزير كبير عالم، ذو خلق عال، عنده أدب الدرس وأدب النفس، روى ابن خلكان:(ذكر الوزير أبو القاسم المغربي في كتاب (أدب الخواص) كنت أحادث الوزير أبا الفضل جعفرا، وأجاريه شعر المتنبي فيظهر من تفضيله زيادة تنبه على ما في نفسه خوفاً أن يرى بصورة من ثناه الغضب الخاص عن قول الصدق في الحكم العام، وذلك لأجل الهجاء الذي عرض له به المتنبي).

وقال صاحب الوفيات بعد أن سطر تلك الأبيات: (وبالجملة فهذا القدر ما غض منه، فما زالت الأشراف تهجي وتمدح).

وأغلب ظني أن شاعرنا نوى هو وفاتك الملقب بالمجنون أمراً حال القضاء دونه، ثم هلك فاتك وهرب المتنبي، وراح يقول:(وماذا بمصر) فاهالفيه! فاهالفيه!

فالكافوريات هن بنات العقل والعلم الكثير، والسيفيات بنات الشبيبة والنشاط والنفس القوية. ولما أراد أبن أبي الحديد أن يؤلف كتاباً في حل قصائد للمتنبي اختار السيفيات لخطرها البارع في اعتقاده.

وعندي لك الشرَّد السائرات (م)

لا يختصصن من الأرض دارا

ولي فيك ما لم يقل قائل

وما لم يسر قمر حيث سارا

وما تسع الأزمان علمي بأمرها

ولا تحسن الأيام تكتب ما أملي

و (وعلى قدر أهل العزم) عند طائفة هي أعظم قصائد المتنبي، وهي سيفية.

أنا موقن أن الخوارزمي سمى المتنبي، وذكر عبقريات (سيفيات أو كافوريات) له ولا أستبعد (القلائد) وليس لديّ اليوم الحكم الجزم.

فلا أشب الله تعالى قرنه:

قد نجت في (الثمار) من كل تصحيف وتطبيع، روايتها في (الأساس) صحيحة، وفي (أساس البلاغة) أشياء، هذه فيه هي من السالمات، ومن أدب الزمخشري أن يؤيد ما يورده بأقوال مأثورة، أو أمثال مشهورة أو سجعات يتأنق فيها.

ولما كان الحريري قد أورد تلك الجملة في (البكرية) قال الشريشي شارحاً: (قوله أشب

ص: 11

قرنك يدعى بذلك للصبي أن يكبر وتطول قامته كما تقول للصبي في ضج ذلك: لا كبرك الله، ويقال شب الصبي يشب بكسر الشين شباباً بفتح الشين وكسرها إذا طال ونمى جسمه، وأشبه الله وأشب قرونه أي جعله أسود الذؤابة والقرون الضفيرة وهي الذؤابة، وقيل القرن جانب الرأس).

وإذا صح تفسير الشريشي أو صح ما نقله الأستاذ (المحمود) وهو الأصح، ومثله في الشرح المختصر للمقامات فالكلمة (أشب) لا (شيب) وروى الجملة (التاج) كما أوردها الذين سماهم الأستاذ في كتابه، وهذا ما جاء فيه:(الشباب الفتاء والحداثة كالشببة، وقد شب الغلام يشب شباباً وشبوباً وشيباً، وأشبه الله، وأشب قرنه بمعنى، والأخير مجاز، والقرن زيادة في الكلام) ومراد (التاج) بقوله: (والقرن زيادة في الكلام)

- وقد جاء هذا في اللسان أيضاً - أن العرب تزيد في كلامها في أشياء منه تقوية وتفنناً، فأشبه الله كاف في الدعاء له، وأشب قرنه كما فسروا - توسع في القول، ولكل لغة سنن وأساليب، وفي (الصاحبي) لابن فارس و (فقه اللغة وأسرار العربية) للثعالبي و (المزهر) للسيوطي أمثلة لذلك.

نقائض جرير:

هي (نقائض جرير) لا قلائص جرير، وقد اطلع الشيخ إبراهيم اليازجي - كما أوقن - على رواية للمقالة في غير (ثمار القلوب) وأخذ منها لكتابه (نجعة الرائد) ما رأى أخذه، وهو يذكر في النجعة نقائض جرير، وهذا ما سطره:

(وتقول شعر فلان أحسن من حوليات زهير، وأحسن من حوليات مروان بن أبي حفصة، وأحسن من اعتذارات النابغة، وحماسيات عنترة، وهاشميات الكميت، ونقائض جرير وخمريات أبي نؤاس، وتشبيهات ابن المعتز، وزهديات أبي العتاهية وروضيات الصنوبري، ولطائف كشاجم، وهذا أحسن من ابتداءات أبي نواس، ومن تخلصات المتنبئ، ومقاطع أبي تمام)

كان العلامة الشيخ إبراهيم اليازجي يجمع لمصنفه عدته (مادته) من كتب اللغة والأدب فرأى في كتاب ابتداءات أبي نؤاس، وفي كتاب تخلصات المتنبئ، (والظاهر أنه وجد الاسم مهموزاً أو همزه هو) وفي كتاب مقاطع أبي تمام فنقل أمثال ذلك وهو تعب مشغول

ص: 12

البال ورتب منقولة كما رتب، ولو روّأ في أمره لربأ بنفسه عن تسطير هذه الخريشات والتخاليط، فما ابتداءات أبي نؤاس؟ ما هي؟ وهل فضيلة المتنبي في تخلصاته؟ وهل مزية حبيب في مقاطعه؟ ولا حول ولا قوة إلا بالله! إنا لله وإنا إليه راجعون!

ومثل تخليط اليازجي فيما نقل تخليط الخوارزمي في قوله الذي رويته قبل: (إن أمير القصيدة البائية البيت: أزورهم).

آمنا بالقصيدة وعبقريتها، وبوصف لظباء الفلاة فيها، وبسائر معانيها ولكنا لا نرى (أزورهم) أفضل أبياتها بل لا نراه يضارع الأبيات البارعات في القصيدة ولو تضاعفت تلك المقابلة التي لم تسلم من كلام النقدة، وقد كان ابن نباتة السعدي أبرع من غيره وأحذق حين قرأ هذا البيت:

إذا ما سرت في آثار قوم

تخاذلت الجماجم والرقاب

فوقف عنده وأطال تأمله ثم قال:

(نحسن أن نقول ولكن مثل هذا لا نقول).

إن (السعدي لا يحفل بالخزعبيلات، بالترهات، بالبديعيات وابن نباتة هو صاحب البيت المشهور (ومن لم يمت بالسيف).

طولت في الجواب، ولم أجب، ولم أقدم ثمراً من غير (الثمار) وإذا لم أعلم - يا أخا العرب - فماذا أعمل. وأنا عائذ بالله وبالتي سماها السلف الصالح نصف العلم والسلام.

محمد إسعاف النشاشيبي

ص: 13

‌تعليق مختصر على خبر

للأستاذ علي الطنطاوي

هذا الخبر الذي جاء فيه أن معيداً في كلية الآداب، أعدّ أطروحة ينال بها لقب (دكتور) فلم يجد لها موضوعاً إلا (القصص في القرآن) ولم يجد ما يقوله عن القصص في القرآن، إلا أنه أساطير الأولين. . . وأنه كذب مفترى، وأنه مستمد من التوراة، ومن أدب فارس ويونان، وأن الأستاذين الأحمدين الفاضلين، حكما بردّ الأطروحة وإسقاطها، واختلفا في تعليل الحكم، فكانت العلة عند الأستاذ الأمين الجهل، وعند الأستاذ الشايب الكفر، وعندنا أنهما معاً، لأن هذا لا يجيء إلا من ذاك.

وفي الخبر أن الذي أشرف على إعداد الأطروحة، وأعان عليها، شيخ بعمامة بيضاء من أساتذة الكلية، وأن هذا الشيخ عزّ عليه إسقاط الأطروحة فغضب (والغضب لله وللحق من الفضائل) وقال:(إنه متضامن مع مقدم الرسالة في كل حرف منها، وأنه لا ينبغي الوقوف أمام حرية الفكر).

ولو انتهت القصة عند ردّ الأحمدين ولم يكن صاحب الأطروحة مدرساً، ولم يدخل نفسه فيها هذا الشيخ لينصر الكفر، ويدفع عن الإلحاد، ويؤيد الجهل، لقلنا شاب أراد أن يتعجل (الشهرة) قبل أوانها، ورأى طريق العلم والتحقيق طويلا، فسلك طريق جهنم وأراد اجتياز الصراط فسقط. . . وسكتنا، ومرّت الحادثة كما مرّت أحداث أمثالها وشرّ منها، ظنّ محدثوها أنهم هدموا الإسلام، ونسفوه نسفاً، وصرفوا الناس عنه صرفاً، والإسلام لم يشعر بها، ولم يحسّ بوقعها، ولم يزدد عليها إلا قوة وانتشاراً، ولكن دخول هذا الشيخ في المجادلة على صدق القرآن وكذبه وكون طالب الأطروحة موظفاً رسمياً، ومعيداً في الكلية، أمر لا يسكت عنه. . . وهذا الذي نقوله اليوم أول الغيث.

ومقالنا اليوم هو تذكير لهذا الشيخ بأنه ليس من أصحاب العقول الكبيرة، والبحث العلمي ليكفر إذا كفر عن بينة، وما به إلا أنه رأى أديباً زلّ من عشرين سنة، وأي أدي لا يزلّ؟ فقال كلاماً مثل هذا. . . فملأ اسمه الدنيا، وشغل الناس، فأحب أن يكون مثله، وشتان ما بين الرجلين. وإلا فهل ثبت له بعد البحث والتحقيق. . . أن قصص القرآن مأخوذ من التوراة ومن الأدب الفارسي واليوناني، وأن فيه أساطير لا أساس لها، وهل وقعت له

ص: 14

النسخة المخطوطة بخط مؤلف القرآن الذي هو الله - إذا كان فضيلة الشيخ لا يزال يعتقد أن القرآن من عند الله - فعضّ عليها بالنواجذ، ليفضح المؤلف، ويكشف عن سرقاته، ويشفي غيظه منه. أستغفر الله، وتعالى عما يقول الكافرون علواً كبيراً.

ولندع الدين مادامت يا مولانا الشيخ تحسب أن الخروج عليه مدنية وتقدم. . . وأن الأخذ به رجعية، وأنك أعلنت الكفر، وجهرت به، واخترته والعياذ بالله لنفسك، ولنأخذ العلم والمنطق والتاريخ، فهل في العلم والتاريخ شيء يؤيد ما جاء في الخبر أن الأطروحة اشتملت عليه، وما أعلنت أنك مع المؤلف في كل حرف منه؟ وبأي دليل من أدلة العلم، وفي أي كتاب من كتب التاريخ، ثبت لك ولصاحب الأطروحة أن الله قد اقتبس قرآنه من أدب فارس ويونان، ومن كاذب الأساطير؟

وإذا لم يكن القرآن كتاب الله، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، لا من جهة فارس ولا من جهة يونان، وكان من تصنيف محمد، وكان قد اقتبسه من التوراة، ومن آداب الأمم ومن أساطيرها، فكيف خفي ذلك على أسلافك من أنصار حرية الفكر، من اليهود والنصارى والمجوس والزنادقة وكل عدوّ للإسلام خصيم القرآن - فلم يؤلف فيه أحد ولم يثبته حتى جاء تلميذك هذا فكتبه لتكافئه الدولة على كفره بدينها الرسمي، وطعنه بقرآنها، بإعطائه شهادة الدكتوراه، وتسليمه أبناء المسلمين ليلقنهم هذه الآراء، على أنها علم وفضل، وأن الذي لا يحفظها، ويعيدها يوم الامتحان، يرسب في صفه إن طفا الطلاب؟

وحرية الفكر؟ ما حرية الفكر يا هذا؟ كيف تفهمها؟ أكلما طاف برأسك طائف من هوى، أثبته على الورق، وخرجت به مزهوّاً على الناس، وقلت، هذي حرية الفكر؟

أما إنه ليجيء في فكري أنا الآن كلام عنك، لولا أني لم أعرض هذه المقالة على الأستاذ الزيات، وأني أخاف أن يغضب إن حططت عليك بثقلي - لقلته، فما تركتك تستطيع أن تمشي في الجامعة، أو تتراءى للطلاب. . . فارتقبه فكل شيء له أوان. . . وما أنت بمعجز الله في الجامعة وقد أهلك فرعون وهامان وأبا جهل. . .

وما لك تكره أن أسبّك بعلم، وتسب أنت الله عدواً بغير علم؟ ولا تحب أن أقول في كتابك الذي لفقته كلمة الحق، وتقول أنت في كتاب الله كلمة الباطل؟ وما لك لا تجرؤ أن تقول لواحد من هؤلاء الكتاب، أخرج كتاباً تلقاه الناس بالقبول: إنك تكذب، وتنسب الكذب إلى

ص: 15

الله المنتقم الجبار؟

أغرك ويلك حلمه عنك، وأنه مدّ لك حتى صرت تعطي الدكتوراه وأنت لم تأخذها، وتمنح العلم وأنت لا تملكه، وتؤلف في البلاغة، وما أنت منها في شيء، ولا أثر عنك بيان غطى على بيان الجاحظ وأبي حيان والرافعي والزيات، ولا أنت صاحب شعر ولا نثر، وقصارى أمرك أنك أُدخلت على طلاب لا يفهمون من البلاغة إلا بمقدار ما يفهم من الصحافة صاحب (القبس)، فمخرقت عليهم، وزعمت لهم أنك إمامها وأنك مؤذنا وخطيبها، ورأيتهم صدقوا قولك فزدت فادعيت أنك باني مسجدها ورافع منارتها، ولو أنت ادعيت النبوة فيهم، ما وجدت منهم من يكذبك أو يكفر بك، ما داموا يأخذون منك الدرجات في الامتحان، ثم يخرجون كما دخلوا لا أنت علمتهم ولا هم تعلموا منك. . . وكيف يتعلمون وقد جعلت دروس البلاغة عياً، والفصاحة عامية وكانت دروسك ذلك الخزي. . . الذي نشره في الرسالة الأستاذ العماري فكان تسلية لقراء الرسالة وفكاهة ضحكوا عليك به شهراً؟

لقد كان كفراً مبتكراً منك حين زعمت في تلك الدروس. . . أن الله قال لمحمد يا أخي، فكيف قعدت بك القريحة اليوم، فلم تأت إلا بكفر عتيق قيل في مصر من عشرين سنة، وقيل في مكة قبل الهجرة، فكان سخرية الأولين والآخرين؟ ولقد بعثت يومئذ من يدافع عنك في الرسالة، فلم يبلغ به أدبه مع الله ودينه، ولا علمه وبلاغته ولا معرفته بتصريف الكلام، إلا أن يحتج على جواز زعمك أن الله قال لمحمد، يا اخي، يقول الحمّار لحماره، يا أخي. . . ولم أردّ عليه لأني لم أكن أعرف، قبل أن أسمع ردّه هذا، شيئاً من لغة الحمارين والحمير. . . ولا قواعد المناظرة في لسانهم.

وبعد، فما أريد اليوم الرد على هذين الرجلين ولا تأديبهما إنما أردت تنبيه رجال المعارف في المملكة التي دينها الرسمي الإسلام وعميد الكلية العربي المسلم الذي اسمه الدكتور عزام، إلى هذين المدرسين اللذين يعلنان الكفر بالله، والطعن في القرآن، والإهانة لكل مسلم يرى في مصر دار الأزهر، ومثابة العلم، ومنزل الملك الصالح الفاروق، وهما يأخذان أموال الأمة ليلقنا أبناء مصر وأبناء الشام والعراق والحجاز واليمن والمغرب، ولك بلد يبعث بأبنائه إلى هذه الجامعة مثل هذه الكفريات، التي يعتقدانها ويكتبانها ويصران عليها

ص: 16

ولا يخافان فيها والله ولا الحكومة ولا العلماء ولا العامة. . .

وأنا أرقب ما تصنع وزارة المعارف، وما يصنع الأزهر وعلماؤه، لأستخير الله فيما أصنع أنا بعد، وما يصنعه هذا القلم الضعيف في نفسه القويّ بالله وبدينه وبقرآنه.

وما بسيفي أضرب، ولكن بسيف محمد!

(القاهرة)

على الطنطاوي

ص: 17

‌8 - رحلة إلى الهند

للدكتور عبد الوهاب عزام بك

عميد كلية الآداب

قطب منارة (منارة قطب)

على عشرة أميال إلى الجنوب من دلهي بين أطلال دلهي الغابرة يقوم مسجد قوّة الإسلام. ومنارة قطب (قطب منارة).

بناهما قطب الدين أيبك. وكان قطب الدين هذا مملوكا للسلطان محمد الغوري الذي مدّ فتوح الغزنوبين في الهند حتى فتح شماليّ الهند كله. واتخذ مدينة دلهي داراً للولاية. وولّى قائده قطب الدين علي، فتح من الهند.

فلما توفى الغوري سنة 602هـ استقلّ هذا الوالي بما وليه من الهند، وتمّلك عليه. وهو أول ملك مسلم ينشأ ملكه داخل الهند ويقتصر على أرض هندية. فأول دولة فتحت الهند وهي الدولة الغزنوية نشأت في أفغانستان وكانت غزنة دار ملكها.

ثم غلبها عليها الغوريون فاتخذت لاهور داراً. والدولة الغورية نشأت في إقليم الغور من أفغانستان ثم غلبت الغزنويين على البلاد واقتفت آثارهم في فتح الهند.

فالدولة التي أقامها قطب الدين أيبك - دولة المماليك - أو دولة إسلامية نشأت في الهند.

وكانت دلهي دار سلاطينها وسلاطين أربع دول أخرى توالت بعدها حتى فتحها بابر مؤسس الدولة التيمورية سنة 932هـ وقد تسلطت دولة قطب الدين هذا زهاء ثمانين عاماً.

وكأن قطب الدين أراد أن يثبت سلطان الإسلام في الهند ويظهر عظمته بإقامة الأبنية الضخمة الرائعة. فأنشأ هذا المسجد وسماه (قوّة الإسلام). وأقام فيه هذا البرج العجيب المسمى منارة قطب. وهو في رأي الخبراء بالعمارة أعظم برج في العالم.

أدَع البرج إلى أن ألقى نظرة جامعة على هذا الجامع الفسيح.

لا تزال بقايا الأسوار والعَمَدِ والقباب تحدّد مساحة الجامع. وقد زاد فيه من بعد شمس الدين التتمش الذي تولى الملك بعد قطب الدين (607 - 633هـ) وعلاء الدين الخلجي (695

ص: 18

- 716هـ) حتى صار فيما أظن أوسع جامع في العالم.

واليك صورته الحاضرة كما يراها من يدخل من الباب الشرقي المقابل للقبلة تدخل من باب في بقايا سور إلى ساحة واسعة تمشي فيها قليلا ثم تصعد دَرَجاً إلى مستوى آخر فترى ذات اليسار المنارة وقبة جميلة على باب من أبواب المسجد، ويقال أنها سميت (قبة الإسلام) وبها سمى هذا المسجد (قبة الإسلام) لا قوة الإسلام.

ولكن لا يلتفت الداخل إلى هذه القبة فيسير إليها يهبط على الدرج الذي تحتها إلى المدخل فيستغرق في تأمل علوها وجمال هندستها ونقوشها لا يستطيع أن يفعل هذا قبل أن يطمح بصره معجباً مرتاعاً إلى هذه المنارة الشاهقة العجيبة. وسأحدث القارئ عنها بعد طواف سريع في هذا المسجد العظيم؛ بل هذا المجد الأبيّ والمآثر الخالدة التي تأبى أن تُقِرّ للخطوب على كثرة ما نالت منها.

وإذا نظر الداخل إلى اليمين رأى كومة من الحجر هرميّة هي أساس خرِبٌ لمنارة حاول أن يناظر بها منارة قطب علاءُ الدين الخَلْجي حينما زار فسحة الجامع. ولم يتهيأ له إكمال المنارة. وفي الساحة قبور لم أعرف عنها شيئاً.

ويمشي الزائر إلى المصلى فإذا ساحة فيها ثلاثة أروقة ذات طبقتين على عَمد صغيرة. وإذا تأمل النقوش على هذه العَمَد رأى صُوَر حيوان وناس. وقد نقلت العمد من معابد هندية قديمة. وفي جهة القبلة من المصلى عمود من الحديد قطعةٌ واحدة طوله ثلاثة وعشرون قدماً. ومحيطه قدمان وهو من أقدم الآثار الهندية في دلهي أو أقدمها عليه كتابة تشيد بمآثر أحد أمراء الهند القدماء. وتاريخه يرجع إلى سنة 400 ق. م.

وتمضي بعد هذا العمود جهة القبلة إلى عقد رفيع جداً يُفضي إلى القسم القبليّ من الجامع وقد هُدِمت جُدُره.

وينزل السائر جهة الشمال إلى الساحة التي زادها على المسجد شمس الدين التتمش وهي مساحة لا بناء فيها اليوم. وينظر شطر القبلة إلى حجرة عالية سقطت قبتها وفي وسطها ضريح رهيب هو ضريح ايلتتمش. وفي الحجرة ثلاثة محاريب أكبرها أوسطها وعلى المحاريب آيات من القرآن منحوتة بخط واضح. في وسط المحراب الكبير (إنه لقرآن كريم - الآية) وعلى حافته: (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل - الآية).

ص: 19

قد قرأتها ومن معي من وفود المؤتمر يتعجبون من مصري يقرأ خطاً أثرياً في دلهي، حتى عرفتهم أنه كتابي ولغتي.

وبعد ساحة التتمش ساحة زادها السلطان علاء الدين الخلجي. وليس بها إلا حطام البناء الشامخ أنحت عليه يد الزمان.

ثم منارة قطب إحدى عجائب الأبنية في الهند بل العالم كله منارة جليلة رفيعة تعلو في الجو 234 قدماً بعد أن سقطت ذروتها. وهي خمس طبقات تنتهي كل واحدة بشرفة دائرة حول المنارة. ولها درج واسع صعدت فيه إلى الشرفة الأولى مائة وخمسين درجة.

والمنارة في شكل مخروطي. والطبقة الأولى لها واحد وعشرون ضلعاً تختلف أشكالها بين مدور على هيئة نصف دائرة يليه محدد على شكل زاوية قائمة. وهكذا على التوالي. والطبقة الثانية كل أضلاعها مدورة. والثالثة أضلاعها على زاوية قائمة ثم طبقة ملساء والخامسة مضلعة تضليعاً خفيفاً يكاد لا يرى

شاد المنارة قطب الدين أيبك حوالي سنة 600 من الهجرة وكان لا يزال نائباً عن السلطان محمد الغوري وأتمها مملوكه وصهره وخليفته إلتتمش الذي ذكرناه آنفاً. وقد تصدعت طبقتها العليا بصاعقة في القرن الثامن في عهد فيروز شاه فرّمها ثم سقطت هذه الطبقة في زلزال سنة 1803م. وقد رأينا على مقربة من الجامع برجاً صغيراً مستطيلا له أربعة أركان بينها أبواب علوه نحو خمسة أمتار. وقيل لي أنها صنعت في عهد الإنكليز لتوضع على المنارة تكملة لها. فلما وضعت ألقيت غير ملائمة لها فأنزلت.

وحول المنارة كتابة عربية منها آيات من القرآن وقد جعلت نطاقات جميلة زادت في جمال المنارة وجلالها. وقيل لي إن الكتابة قد نحتت على أحجام مختلفة ونِسَب متعددة تجعل الرائي يراها في حجم واحد ما بعد منها وما قُرب. كلما بعدت الكتابة زاد حجمها على نسبة بعدِها.

وألوان المنارة تتوالى في طبقاتها من أحمر إلى ورد إلى أصفر قاتم يلائم زرقة السماء في فن الجمال.

والخلاصة أن في هذه المنارة من إبداع الهندسة، وإتقان الصنع، وجمال الشكل وفخامته، وحسن النقش والخط ما يسير رائيها طائفاً، أو يمكسه واقفاً، يصعد الطرف ويصوبه في

ص: 20

إعجاب بل دهش من هذا الأثر الخال الذي جعله المسلمون فاتحة آثارهم العظيمة في الهند. فكان جديراً أن يكون عنواناً لكتاب الحضارة الزاهرة الذي خطه تاريخهم فيها.

عبد الوهاب عزام

ص: 21

‌مدى الثقة في هيئة الأمم المتحدة

لا جدال في أن ديباجة ميثاق هيئة الأمم المتحدة لا تكون بذاتها جزءاً

منفصلا بل تندمج مع الميثاق نفسه في مقاصده ومبادئه.

وتقول الديباجة: (نحن شعوب الأمم المتحدة وقد آلينا على أنفسنا أن ننقذ الأجيال المقبلة من ويلات الحرب التي في خلال جيل واحد جلبت على الإنسانية مرتين أحزاناً يعجز عنها الوصف وأن نؤكد من جديد إيماننا بالحقوق الأساسية للإنسانية وبكرامة الفرد وقدره وبما للرجال وللنساء وللأمم كبيرها وصغيرها من حقوق متساوية وفي سبيل هذه الغايات اعتزمنا أن نأخذ أنفسنا بالتسامح وأن نعيش معاً في سلام وحسن جوار وأن نضم قوانا كي نحتفظ بالسلم والأمن الدولي وأن نكلف بقبولنا مبادئ معينة ورسم الخطط اللازمة لها ألا تستخدم القوة المسلحة في غير المصلحة المشتركة. . . الخ)

ولقد أخذت هذه الديباجة من صدر الدستور الأمريكي وكتبها المرشال سمطس رئيس حكومة جنوب أفريقيا وقصد بعبارة (نحن شعوب الأمم المتحدة) الإشارة إلى أساس الحكم الديمقراطي وهو رغبة الشعوب التي تنطق باسمها الحكومات المختلفة. . .

ومن أهم مقاصد هيئة الأمم المتحدة: حفظ السلم والأمن الدولي وإنماء العلاقات الودية بين الأمم وتحقيق التعاون الدولي على حل المسائل الدولية.

والقارئ لمبادئ الميثاق يحس بأنها في جملتها تطابق مبادئ عصبة الأمم القديمة، غير أن الميثاق كان صريحاً وقوياً في تقريره لمبدأ المساواة في السيادة بين الأمم كبيرها وصغيرها وهذا المبدأ من أهم الحجج التي استندت إليها مصر في دعواها لدى مجلس الأمن.

والمعروف أن الميثاق قد دخل في دور التنفيذ منذ يناير سنة 1946 ومعنى ذلك أن عمر الميثاق أقصر جداً من أن يحتمل حكما عليه بالنجاح أو بالفشل. . غير أننا لا نهتم في الحكم بالمقاييس الزمنية وسننظر من زاوية أخرى وهي كمية العمل: ولقد جاء في تقرير المسيو تريجف لي السكرتير العام لهيئة الأمم المتحدة في تقريره السنوي إلى الجمعية العامة للأم المتحدة ما يأتي:

(إنه على الرغم من أن 1611 اجتماعاً من التي عقدت حتى نهاية 30 يونيو من عام 1947 دلت على الاعتماد على الهيئة الدولية. فإن الحالة الدولية لم تتحسن في خلال العام)

ص: 22

ويبدو أن هذه الاجتماعات الكثيرة قد طويت في زمن قصير جداً، وكان يمكن توزيعها على سنوات معدودة لو أننا قارناها بعدد الاجتماعات في عصبة الأمم الماضية. ولعله يكون من المناسب ألا يفوتنا تعليل هذه الكثرة بالسياسة الملتوية التي تجري عليها هيئة الأمم المتحدة والتي لا تتسم بميزة الصراحة وحسن النية. . . ولقد اكتوت مصر - ومازالت - بسياسة المساومات والمصالح التي يجري عليها مجلس الأمن والتي تتطلب عادة وقتاً طويلا في أخذ ورد كما في البيع المعتاد ومهما كان الأمر فسنسجل على هيئة الأمم ما لاحظناه في عملها، ومقدار التطابق بين ما هو على الورق وما خرج إلى حيز التنفيذ، وسنرى التيارات المختلفة التي تسري الآن في أروقة هذه الهيئة، وهل هذه التيارات في جانب الميثاق أم أنها هادمة له؟

ولا يخفى أن الإيمان بميثاق هيئة الأمم قد خفت حدته وأصبح الكتَّاب يشبهونه بميثاق الأطلنطي الذي غرق في المحيط ومازال الغواصون يبحثون عنه في القاع حتى إن برناردشو الكاتب الأيرلندي الساخر قد لاحظ أن الرئيس روزفلت وهو المقترح للميثاق نسى أن يضع إمضاءه عليه!

ومن الواضح أن إيمان الشعوب بالميثاق هو القوة الحقيقية التي يرتكز عليها فإذا ما قبل هذا الإيمان ولو بمقدار ذرة نزلت حتما قيمة الميثاق مهما كانت عظمة ما فيه من مبادئ. . .

وستكون المسألة في نظر الشعوب عوداً لقصة عصبة الأمم التي دمغها المؤرخون بالفشل ونعتوها بالتهريج الدولي.

إن ميثاق الهيئة جميل جداً. . تقرأه فيحملك إلى عالم تتمتع فيه حقاً بحلاوة المعاني الإنسانية. . إنه يكرر دائماً في فقراته ما يؤكد في الذهن بأننا على وشك تحقيق أسرة عالمية حقة يسودها حكم القانون الدولي. . وهذا الميثاق كان حجة في يد أغلب الفقهاء الذين يعترفون بوجود قانون دولي وكان في الوقت نفسه ضربة قاصمة لمن أنكر ذلك منهم وعاش في تشاؤمه وشكه من وجود عالم دولي يكون أسرة واحدة لها قانون محتوم.

هذا الميثاق يعيبه أمر جوهري. فهو مازال على الورق لم ينتقل بروحه بعد إلى ميدان التطبيق. ولقد دل العمل على أن هناك بوناً شاسعاً بين المكتوب والمعمول به. وكل

ص: 23

الظواهر الدولية التي يلمسها القارئ حجة قوية في يده تؤيد ما نقول. . على أنه يهمنا كثيراً أن نبين علة وجود هذه الشقة أو الفارق الملموس الذي أشرنا إليه وقد تخلبنا بعض البوارق العارضة التي تبدو في المحيط الدولي. وهذه قصيرة العمر أشبه شيء بحبب الماء سرعان ما يتلاشى. . لذلك ستكون نظرتنا ممتدة إلى الماضي تصل به ما هو كائن في زماننا هذا. لأننا نعلم أن القصة الإنسانية بطيئة السرد تتشابه حوادثها. وقيلا ما تتغير. والتاريخ يعيد نفسه دائماً. . .

ولقد رأينا أن النقص ليس في الميثاق نفسه بل في تطبيقه والفشل في التطبيق نتيجة لوجود عاملين هامين يبرزان جلياً لكل من يتتبع أعمال هيئة الأمم المتحدة. وقد توجد عوامل ثانوية أخرى غير أنه لا شك أن تضارب المذاهب المختلفة في العالم وتفشي وباء عدم الاكتراث بين الدول هما أخطر الفواتك بالميثاق.

وإذا كان العامل الأول وهو تضارب المذاهب يبدو للقارئ جديداً في السياسة الدولية لم نألفه مثلا منذ ربع قرن! إلا أننا كما قلنا لا نقف أمام الأمور العارضة، ونرى بحق أن تضارب المذاهب من ديمقراطية وشيوعية وفاشية هو صورة جديدة لِما هو راسخ في التاريخ السياسي لسياسة توازن القوى منذ القرن السابع عشر. . . والمعروف أن سياسة توازن القوى برزت جلية في صورة شديدة الوضوح أثناء القرن التاسع عشر، وخاصة منذ هزيمة نابليون في واترلو. . إذ أن كل ما عقد بعد ذلك من مؤتمرات كان لتقسيم أوربا تقسيما روعي فيه إيجاد التوازن بين القوى المسيطرة على السياسة الأوربية حينذاك، ومما لا شك فيه أن إضعاف فرنسا كان نتيجة لهذه السياسة. . على أن هذا لا يهمنا تقريره بالقدر الكبير الذي نلاحظ به نتائج التمسك بهذه السياسة. والملاحظ أن سياسة التوازن أدت إلى حروب كثيرة في القرن التاسع عشر. كما أن هذه السياسة هي التي جرت إلى الحرب العالمية الأولى متخذة في أثناء ذلك كله صوراً مختلفة من سياسية إلى اقتصادية إلى اجتماعية. . وكانت صورتها الأخيرة في الحرب العالمية الثانية بارزة جلية في ناحيتها الاجتماعية من التضارب بين نظم الحكم المختلفة. . فترددت قوية كلمات الديمقراطية والنازية والشيوعية والفاشية والدكتاتورية.

ولقد قضى على أكثر هذه النظم كنتيجة محتومة لفوز غريماتها من النظم الأخرى ولم يبق

ص: 24

ظاهراً في محيطنا الدولي الآن سوى نظامين قويين هما الديمقراطية والشيوعية. وانقسمت تبعاً لذلك دول العالم إلى معسكرين متقابلين يتقاسمان النظر في المسائل الدولية. وخلاصة القول أن مصير العالم الآن تتنازعه كتلتان: الكتلة الشرقية ومقاليدها بيد روسيا والكتلة الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة. . ويقف الميثاق بينهما. . فإذا ما أراد أحد الطرفين أن يأخذ بتطبيق نص في الميثاق لم ينس أن هناك في الجانب الآخر غريمه يتربص به الدوائر الأمر الذي جعل نظرات كل من الطرفين في تفسير الميثاق مغرضة لا تتواءم مع التفسير الصحيح بقدر ما هي مشبعة بالحذر والشك من الطرف الآخر.

ففي مسألة إيران قامت الكتلة الغربية بتطبيق مبادئ الميثاق خير تطبيق. فقالت: إن وجود جنود دولة أجنبية في أراضي دولة عضو في الهيئة مما يخل بمبدأ المساواة في السيادة المنصوص عليه بين الدول. وقال مستر بيفن في أثناء نظر المسألة أمام مجلس الأمن:

(إن الحكومة البريطانية لتأسف لأي اتفاق يبدو كأنه قد انتزع من الحكومة الإيرانية كرهاً في وقت كانت فيه الحكومة السوفيتية لا زالت تحتل جزءاً من الأراضي الإيرانية فإنه لم يكن مستساغاً أن تجري مفاوضات بين دولة عظمى ودولة صغيرة أو أن يشرع فيها أو أن تسعى فيها دولة عظمى في الحصول على مزايا من دولة صغيرة متوسلة في ذلك باحتلال أراضي هذه الدولة احتلالا عسكرياً).

(البقية في العدد القادم)

عبد الحميد عثمان عبد المجيد

كلية الحقوق

ص: 25

‌ليلة الماشوش وليلة الكفشة

للأستاذ شكري محمود أحمد

اختلف المؤرخون في أصل لفظة الماشوش وضبطها كما اختلفوا في نسبتها إلى طائفة معينة ونحلة مخصوصة. وقد نسبت هذه الليلة إلى النصارى كما نسبت إلى بعض أصحاب البدع من المسلمين، فمن هذه الملل والنحل: النصارى والفرس والساسانية والقرامطة والبابكية والصفاة والمازرية والقلم حاجية والصابئة واليزيدية والشبك والنصيرية والكاكائية، وربما نسبت إلى غير هؤلاء. وسميت عند النصارى وبعض فرق المسلمين بليلة الماشوش، وعرفت عند غيرهم بليلة الكفشة. وربما كانت هذه الليلة في الأصل فارسية ثم انتقلت إلى غيرهم من الأقوام والمذاهب.

جاء ذكر هذه الليلة في شعر أبي نواس وشعر ابن مقرب وشعر الفقيه عمر الأندلسي صاحب الموشحات، وذكرها عدد كبير من المؤرخين كالبيروني في الآثار الباقية والشابشتي في الديارات وياقوت في معجم البلدان والعمري في مسالك الأبصار وصفي الدين بن عبد المؤمن في مراصد الإطلاع والمقري في نفح الطيب والكتبي في عيون التواريخ والبغدادي في مختصر الفرق بين الفرق وغير هؤلاء الأعلام.

وأقدم من استعمل هذه اللفظة فيما وصل إلينا من النصوص التاريخية والأدبية هو أبو نواس في القصيدة البهروزية، وهذه القصيدة مثقلة بالغريب والألفاظ الفارسية والسريانية. قال في بهروز المجوسي:

حماني وصل أبناء القسوس

نجيب الفرس بهروز المجوسي

نقي في الولادة عن مشوش

ترخصه النصارى للقسوس

قال أبو عبد الله حمزة بن الحسن الأصفهاني جامع شعر أبي نواس وشارحه في تفسير كلمة مشوش: الماشوس لفظة سريانية، ومعناها الاجتماع، ويزعمون أن للنصارى ليلة يجتمع فيها العزاب من القسان والرهبان لافتضاض الأبكار، والفرس يسمونها شب كلعذاران (أي ليلة العذارى) ثم قال (والنصارى لا تعترف بذلك). فقد نص الأصفهاني على أن هذه الليلة للنصارى والفرس دون غيرهم من الطوائف، وسماها أبو نواس والأصفهاني (مشوش) لكن الأب أنستاس الكرملي زعم أنها ليلة (الحاشوش) بالحاء المهملة، وهذا خطأ

ص: 26

منه، وزعم أنها من وضع نصارى العرب، ومعناها المتألم والمفعول والمنفعل، ويشير بها إلى الجمعة التي تألم فيها المسيح أو جمعة الصلبوت، وهذا خطأ أيضاً.

وعندي أن هذه اللفظة مشتقة من الكلمة الأرمية (مشوشا) وهي اسم فاعل من الفعل (مَشْ) بمعنى مس ولمس وجس، وهذا قريب من المعنى الذي ذكره حمزة الأصفهاني من اجتماع الرجال والنساء على الفجور.

وقد أخطأ الكرملي أيضاً في قوله: أن البيروني أقدم من ذكر هذه الليلة وذلك لأن وفاة البيروني كانت في شهر رجب من سنة 440 للهجرة، بينما كانت وفاة أبي نواس على الترجيح في سنة 200 للهجرة، ووفاة حمزة بن الحسن الأصفهاني شارح الديوان كانت على الترجيح في سنة 360 للهجرة لأنه ذكر في آخر ما كتبه من تأليفه وهو كتاب (سنى ملوك الأرض والأنبياء) تاريخ جمادي الآخرة من سنة 350هـ وقال (وهو وقت الفراغ من إتمام هذا الكتاب بحمد اله وحسن توفيقه).

ولكن النصارى ينكرون وجود هذه الليلة ويدعون أن كتاب المسلمين افتروها عليهم، ونسبوها إليهم، وألصقوها بهم وهم براء منها. قال الأصفهاني (والنصارى لا تعترف بذلك) لكن حبيب زيات شاء أن ينقل هذا النص بتحريف مقصود (قال والنصارى لا تعرف بذلك).

لكن الحوادث التاريخية والروايات الكثيرة تثبت على أن للنصارى ليلة عيد يجتمع الرجال فيها بالنساء ثم يطفئون الأضوية ويستبيح الرجال النساء، وهذه هي المظان التي ورد فيها ذكر هذه الليلة.

1 -

قال أبو نواس في القصيدة البهروزية:

نقي في الولادة عن مشوش

ترخصه النصارى للقسوس

وقد مضى شرح كلمة مشوش في أول هذا الموضوع.

2 -

قال الشابشتي في الكلام على دير الخوات (دير الخوات بعكبرا وهو دير كبير عامر تسكنه نساء مترهبات. . وعيده الأحد الأول يجتمع إليه كل من يقرب إليه من النصارى والمسلمين. وفي هذا العيد ليلة الماشوش، هي ليلة تختلط فيها النساء بالرجال فلا يرد أحد يده عن شيء، ولا يرد أحد أحداً عن شيء)

ص: 27

3 -

مثل هذا القول ما ذكره ياقوت في معجم البلدان

4 -

جاء في مراصد الاطلاع في الكلام على دير الخوات (وفي هذا الدير ليلة الماسوس - وهو تصحيف - ثم يذكر هذه الليلة).

5 -

جاء ذكر ليلة الماشوش في كتاب مسالك الأبصار في ممالك الأمصار في الكلام على دير الخوات

6 -

جاء في دستور المنجمين (أنها ليلة يجتمع فيها رجالهم ونساؤهم لطلب عيسى عليه السلام، ثم يتهارجون كيف اتفق في الظلام).

7 -

ذكر البيروني هذه الليلة في كتابه الآثار الباقية قال (وأما ليلة الماشوش وهي ليلة جمعة زعم الذاكرون لها أنهم يطلبون فيها المسيح، وقد اختلفوا فيها، فبعضهم قال إنها ليلة الجمعة التاسعة عشرة من صوم إيليلا، وبعضهم قال إنها الجمعة التي صلب فيها المسيح وهي جمعة الصلبوت، وبعضهم قال إنها جمعة الشهداء، وهي بعد الصلبوت بأسبوع، والترجيح للقول من بين الثلاثة الأقوال).

فلا مجال إذن لنكران هذه الليلة وقد مر ذكرها في هذه المصادر الكثيرة، وربما جاء خبرها في مصادر أخرى لم نقف عليها

ومن المؤسف أن هذه الليلة الأثيمة انتقلت إلى بعض أصحاب البدع من الفرق الإسلامية تحمل هذا الاسم نفسه فقد جاء في المقريزي (لما استقام الأمر لقرمط أمر الدعاة أن يجمعوا النساء ليلة معروفة، ويختلطن بالرجال ويتقاربن ولا يتنافرن فإن في ذلك صحة الود والألفة بينهم)

وجاء في ديوان ابن مقرب العيوني هذا البيت:

منا الذي أبطل الماشوش فانقطعت

آثاره وانمحى في الناس وانطمسا

وقال في تفسير هذا البيت: الذي أبطل أبو شكر المبارك ابن الحسن بن أبي مقرب العيوني.

والماشوش بدعة ابتدعتها القرامطة في البحرين وجعلوها ديناً لهم، وهو أن يجتمع الرجال والنساء في ليلة عندهم معلومة في السنة، ويشعلون الشمع ويقومون ويرقصون ويختلطون وفيهم أخوات الرجل وأمه وبناته وعماته وخالاته، فإذا استكفوا من الرقص أطفئوا الشمع

ص: 28

واختلطوا، وقبض كل رجل منهم يد امرأة وواقعها إن كانت من محارمه أو أجنبية، فحين ملك عبد الله بن علي العيوني البحرين وصارت تلك الليلة ركب أبو شكر المبارك وركب معه غلمانه وهجموا على النساء فضربوهم وسلبوهم ومضوا هاربين. فصار رجل فيهم ضرير يقول (يا مولانا! والله ما نحن في شيء مما يضر بدولتكم إنما هذا مذهب نراه في ديننا) فقال له الأمير: لئن اجتمع منكم اثنان على هذا الأمر لأعملن فيكم السيف لا العصا، فأمات هذه العادة في البحرين فما بقيت فيها تعرف.

وانتقلت هذه الليلة إلى المغرب وانتشرت بين جماعة الساسانية وذكرها الفقية عمر الأندلسي صاحب الأزجال في قصيدة مهد لها بنثر وجعل من الجميع مقامة ساسانية قال:

أتذكر في سفح العقاب مبيتكم

ثمانين شخصاً من أناث وذكران

وأطفأت قنديل المكان تعمداً

وأومأت، فانقضوا كأمثال عقبان

وناديت في القوم: الوثوب فأسرعوا

فريق لذكران وقوم لنسوان

وفي أول هذه القصيدة يقول:

تعال نجددها طريقة ساسان

نقص عليها ما توالي الجديدان

وأخذ بهذه الليلة الباكية وذكرهم الكتبي في الجزء الثاني من عيون التواريخ قال (بقى من البابكية جماعة يقال أنهم يجتمعون كل سنة هم ونساؤهم، ثم يطفئون المصابيح وينتهبون النساء، فمن وقعت في يده امرأة فهي له حلال، ويقولون هذا الاصطياد مباح لهم لعنهم الله).

وفي مختصر الفرق بين الفرق لعبد القادر البغدادي عن المازرية (لهم ليلة يجتمعون فيها على الخمر والزمر هم ونساؤهم، فإذا أطفئت السرج استباح الرجال النساء).

وظهرت هذه البدعة في بلاد الشام عند قوم من أهل جبل السمان سموا أنفسهم بالصفاة قال ابن العديم في أخبار سنة اثنين وسبعين وخمسمائة (أظهر أهل جبل السمان الفسق والفجور وتسموا بالصفاة واختلط النساء بالرجال في مجالس الشراب لا يمتنع أحدهم عن أخته أو ابنته، ولبس النساء ثياب الرجال).

وتسمى هذه الليلة بين عامة أهل العراق اليوم ليلة الكفشة، وهي ان يأخذ الرجل بناصية المرأة ليواقعها، وهذه الليلة معروفة بين الكاكائية واليزيدية والنصيرية والشبك والقلم

ص: 29

حاجيه، ومن المؤرخين من ينسبها إلى الصائبة - صابئة البطائح - المعروفين في العراق بالصبة، ولا أعرف نصيب كل هذا من الصحة لأننا نسمع ذلك شفاها من أفواه المعاصرين.

وفي بعض قرى العراق الشمالية في هذا العصر مذاهب كثيرة لهم أسماء مختلفة، وتفتن في الفسق والفجور فتتخذ من الليالي التي تصادف مقتل الخلفاء والأئمة أو وفاتهم فيجتمعون خارج القرى رجالهم ونساؤهم على الشرب والزمر والرقص ثم يطفئون الأنوار ويكون بينهم ما يكون. . . وهؤلاء يتخذون القرى النائية على سفوح الجبال مقراً لهم، ولا تزال حياتهم الاجتماعية غامضة لا يعرف من أمرهم إلا النزر اليسير.

وقد أخبرني بعضهم أن النصارى في عيد رأس السنة في هذا العصر يطفئون الأضواء في منتصف تلك الليلة مدة من الزمن، فلا يرد أحد يده عن شيء من قبلة أو غمزة أو غير ذلك مما يسمح به الوقت، فإذا كان هذا صحيحاً فهل يعتبر بقية من آثار ليلة الماشوش أو صورة منها.

شكري محمود أحمد

مدرس العربية بدار المعلمين الابتدائية

ص: 30

‌الخلان والزمان

بين أبي فراس والبارودي

للاستاذ محمد محمد الحوفي

(تتمة)

ويقرن أبو فراس الدهر بالخلان مكرراً ذلك في غير موضع: فهو يستنكر أن يعاتب أحداً، لأن العتاب إنما يكون للأوفياء والناس كدهرهم غادرون:

ما لي أعاتب ما لي أين يذهب بي

قد صرح الدهر لي بالمنع والياس

أبغي الوفاء بدهر لا أنيس به

كأنني جاهل بالدهر والناس

والدهر متحالف مع خلافنه على الخيانة:

يا دهر خنت مع الأصادق خلتي

وغدرت بي في جملة الإخوان

والأيام حية لبست ثوب ناصح:

تصاحبنا الأيام في ثوب ناصح

ويغتالنا منها على الأمن أرقم

ويكرر هذه الصورة فيقول:

تكاشرنا الأيام فيمن نحبه

ويختلنا منها على الأمن أرقم

وفي أرجوزته الطردية، يعرج على الدهر فيرميه بالجور والغدر:

ما أجور الدهر على بنيه

وأغدر الدهر بمن يصفيه

ولا يزال الدهر يتمثل لأبي فراس في كل شيء حتى في عيادة سيف الدولة فقد أخرَّه الدهر عنها:

لقد نافسني الدهر (م)

بتأخيري عن الحضرة

ويزهو بكثرة حساده، وحقد دهره عليه:

ولم أر مثلي أكثر الناس حاسدا

كأن قلوب الناس لي قلب واحد

ألم ير هذا الدهر قبلي فاضلا

ولم يظفر الحساد قبلي بماجد!

ولما كان هذا الدهر هو (صهيونية) أبي فراس الذي يبغضها وتبغضه، وينازعها وتنازعه - رأى أن السلامة والسعادة هي النجاة من غوائل الدهر، ولذا تراه يدعو لأصدقائه أن

ص: 31

يقيهم الله صروفه فهو يدعو لصديقه وقريبه أبي العشائر، ألا يمسه الدهر بسوء في أية حال:

لعاً يا أخي لامسك الدهر إنه

هو الدهر في حاليه بؤس وأنعم

ويدعو كذلك لقريبه أبي زهير بأن يوقى بلايا الدهر:

يا ابن نصروقيت صرف الليالي

وصروف الردى وكر الخطوب

دهر البارودي

وكما نعى أبو فراس على دهره، ينعى البارودي على دهره؛ لأن البواعث متشابهة، بل هي واحدة: فقد مات والد البارودي وهو في السابعة من عمره فلما شبَّ تلفت حواليه ليدفئ قلبه بحنان أبيه فلم يجده، فهاج على دهره الذي غال أباه وما كان قد تملاّه.

وكان البارودي سليل المماليك ومعتزاً بنسبه كأبي فراس، وتربى في المدرسة الحربية، وطابعها السيادة والعزة يومئذ، ولذا لم يكن يدخلها غير أبناء الطبقات الراقية، فقوت هذه التربية الحربية نزعة الكرامة والاعتزاز في نفس البارودي.

وشعر البارودي أنه فوق أقرانه بعبقريته الحربية: إذ هو أولى من أبلى في حرب إقريطش، وفي روسيا، وسطع نجمه في سماء القيادة الظافرة.

وأحس كذلك أنه عبقري في السياسة: فقد كان أثير الخديو وأمين سرِّه ورسوله في المفاوضات، وتقلب في مناصب عالية، فكان مدير الشرقية، ثم محافظ العاصمة.

وكذلك في عهد توفيق عين مدير الأوقاف، ثم ناظر الحربية مع الأوقاف عندما ثار الجند على ناظر الحربية عثمان رفقي.

ولأمر ما وشى رياض باشا رئيس الوزارة إلى الخديو توفيق بأن البارودي يحابي الشعب ويؤثر مصالحه على مصلحة الخديو، فاستقال.

ولما أسندت الوزارة إلى شريف - لم يقبل البارودي الاشتراك فيها حتى ألّحَّ عليه الخديو توفيق واستسمحه، ثم استقال شريف، فرأس البارودي الوزارة وفي هذا الحين قامت الثورة العرابية، فكان من أمرها أن نفى البارودي مع المنفيين.

وكذلك أحس البارودي أنه عبقري في الشعر: إذ كان شعراء عصره أمثال الساعاتي ومحمود صفوت يتكسبون بشعرهم، وكانوا يقلدون الشعراء المتأخرين في تكلف المحسنات

ص: 32

البديعية التي تنسيهم جمال المعنى، ولم يبتكر هؤلاء الشعراء المعاصرون للبارودي جديداً، أو يُحْيُوا من التراث الأصيل تليداً ولكن البارودي جاء فأحيا القديم، وولد منه الجميل الكريم، ولم يتكسب مثلهم بشعره، فعزت منزلته في نظر الناس وفي نظر نفسه

وبعد: فليس عجيباً أن أدرك البارودي سمو مكانته النسبية والحربية والسياسية والشعرية - أن تحدثه نفسه بأن يستولي على العرش حينما فكر الضباط في خلع الخديو، ولاسيما أنه سليل المماليك، ملوك مصر السابقين.

وإليك هذه الأبيات التي اقتبستها من قصيدة له، لترى فيها طمع البارودي في أن يستعيد ملك أجداده:

لكننا غرض للشر في زمن

أهل العقول به في طاعة الحمل

قامت به من رجال السوء طائفة

أدهى على النفس من بؤس على ثكل

من كل وغد يكاد الدست يدفعه

بغضاً، ويلفظه الديوان من ملل

ذلت بهم مصر بعد العز واضطربت

قواعد الملك حتى ظل في خلل

وأصبحت دولت الفسطاط خاضعة

بعد الإباء وكانت زهرة الدول

إلى أن يقول:

فما لكم لا تعاف الضيم أنفسكم

ولا تزول غواشيكم من الكسل

وتلك مصر التي أفنى الجلاد بها

لفيف أسلافكم في الأعصر الأول

قوم أقروا عماد الحق وامتلكوا

أزمة الخلق من حاف ومنتعل

فبادروا الأمر قبل الفوت وانتزعوا

شكالة الريث فالدنيا مع العجل

وقلدوا أمركم شهماً أخا ثقة

يكون ردءاً لكم في الحادث الجلل

تلمس في هذه الأبيات إشارة إلى ضعف الخديو واضطراب أمره، ودعوة مستورة إلى أن يحل محله شهم أخو ثقة، يريد البارودي نفسه، ومن لها غيره؟ وهو الحربي المظفر والسياسي المحنك والشاعر الأبي، وهو بعد ذلك سليل المماليك ووارث ملكهم.

قلنا ما تقدم لنخرج منه إلى أن البارودي نشأ يتيما، ولابد لليتيم أن يحقد على دنياه، وكان سليل أسرة مالكة اندثرت، فلابد أن يذم الدنيا التي أدالتها، وكان يتطلع إلى إعادة مجدها فلم يفلح، فنقم على حظه ومعاكسة زمانه. . وكان يثق بعبقريته الحربية والسياسية والشعرية،

ص: 33

ومع ذلك أهين كغيره في الثورة العرابية، ونفي نفياً قاسياً، فجرح هذا العقاب عزته وكبرياءه، فسب دهره الجائر.

وهل رأيت عند أبي فراس أسباباً للنقمة على دهره غير هذه الأسباب التي ذكرتها للبارودي أخيراً، وسيخيَّل إليك لقوة الشبه بين الأسباب أنني سأعيد عليك شعر أبي فراس تحت اسم البارودي:

فكما كان الدهر حية رقطاء في شعر أبي فراس، يكون في رأي البارودي ثعباناً لادغاً، أو ذئباً مراوغاً، وليس الدهر ملهاة أو ملعبة، ولكنه أزمات وفجائع، تبخل بالسعادة على المكدود، وتجود على الوادعين الرقود:

ألا إنما هذي الليالي عقارب

تدب وهذا الدهر ذئب مراوغ

فلا تحسبن الدهر لعبة هازل

فما هو إلا صرفه والفجائع

ألا إنما الأيام تجري بحكمها

فيحرم ذو كد ويرزق وادع

ولا عهد للدهر، يفتك بالآمن، ويخرس القوالة اللسن:

إن الحياة وإن طالت إلى أمد

والدهر قُرحانُ لا يبقى ولا يذر

لا يأمن الصامت المعصوم صولته

ولا يدوم عليه الناطق البَذِر

ولما كان الدهر في رأي البارودي مقياس القوة والتأثير شبَّه الشعر به في رفع الوضعاء وإسقاط الشرفاء، وتراه يكرر الدهر أربع مرات في كل هذه الأبيات الأربعة:

للشعر في الدهر حكم لا يغيره

ما بالحوادث من نقص وتغيير

يسمو بقوم ويهوي آخرون به

كالدهر يجري بميسور ومعسور

صحائف لم تزل تتلى بألسنة

للدهر في كل ناد منه مهجور

لولا أبو الطيب المأثور منطقه

ما سار في الدهر يوماً ذكر كافور

وكأنما يريد البارودي بذلك أن يعلي الشعر على الدهر، وأن يغيط الدهر بغيض بما ينسبه للشعر وحده من فضل وفخر

وكما يدعى أبو فراس ثباته أمام صدمات الدهر، وأن عزيمته لا يمسها وهن أو كسر، وكذلك لا يفوت البارودي هذا المعنى فيقول:

وإني أمرؤ تأبى لي الضيم صولة

مواقعها في كل معترك حمر

ص: 34

أبى على الحدثان لا يستفزني

عظيم ولا يأوى إلى ساحتي ذعر

إذا صلت صال الموت من وكراته

وإن قلت أرخى من أعنته الشعر

ويقول وهو أضعف حماسة من سابقه:

فإن تكن الأيام رنقن مشربي

وثلمن حدى بالخطوب الطوارق

فما غيرتني محنة عن خليقتي

ولا حولتني خدعة عن طرائقي

ولكنني باق على ما يسرني

ويغضب أعدائي ويرضى أصادقي

فحسرة بعدي عن حبيب مصادق

كفرحة بعدي عن عدو مماذق

فتلك بهذي والنجاة غنيمة

من الناس والدنيا مكيدة حاذق

وكما تجلد أبو فراس أمام ريب الدهر، ثم عاد فأبدى تخاذله وضعفه يعود البارودي كذلك بعد تشجعه وتأبيه، فيستسلم للدهر ويقرر أنه اضطر إلى الصبر، ولولا اللوم لهلج وجزع:

صبرت على ريب الدهر

ولولا المعاذر لم أصبر

ويعزو إخفاقه إلى عجزه وتخاذل طاقته لا إلى جهالته:

فلا تحسبني جهلت الصواب (م)

ولكن هممت فلم أقدر

ويعجب أن يرد الهرمان عوادي الدهر وفي هذا ما يشعر بتهيب البارودي له وحذره من نوازله:

سل الجيزة الفيحاء عن هرمي مصر

لعلك تدري غيب ما لم تكن تدري

بناءان ردَّا صولة الدهر عنهما

ومن عجب أن يغلبا صولة الدهر

وكما لم ينس أبو فراس الدهر وأحداثه وهو حظٍ بلقاء حبيبته مشغول بمحادثتها فيقول:

فقالت لقد أزرى بك الدهر بعدنا

فقلت معاذ الله بل أنت لا الدهر

وقبلت أمري لا أرى لي راحة

إذا البين أنساني ألح بي الهجر

فعدت إلى حكم الزمان وحكمها

لها الذنب لا تجزى به ولي العذر

فكما ترى في هذه الأبيات أن أبا فراس أسلم نفسه لكم زمانه وحبيبته، واستكان لسطوتها وسطوته - ترى أن البارودي أيضاً خفض جناحيه لعيني حبيبته وخضع لجمالها كما خضع للدهر وقوته، حيث يقول:

لها لفتة الخشف الأغن ونظرة

تقصر عن أمثالها الفتكة البكر

ص: 35

ترد النفوس السالمات سقيمة

وتفعل ما لا تفعل البيض والسمر

خفضت لها مني جناحي مودة

ودنت لعينيها كما حكم الدهر

وكما اعتذر أبو فراس عن إخفاقه بأن الدهر حاربه وغالبه فقال:

تطالبني بيض الصوارم والقنا

بما وعدت جدي في المخايل

ولكن دهراً دافعتني صروفه

كما دافع الدين الغريم المماطل

بعتذر البارودي كذلك بجبروت الزمان، ودوائر الحدثان:

فإن كنت قد أصبحت فل رزية

تقاسمها في الأهل باد وحاضر

فكم بطل فل الزمان شباته

وكم سيد دارت عليه الدوائر

وبعد فهذا الذي ذكرناه من دهريات البارودي قليل من كثير اتخذناه شاهداً على اتحاد الفكرة عند البارودي وأبي فراس اتحاداً عجيباً. وكأنما بعث الله في البارودي روح أبي فراس،. . فرجَّعت ما قاله شاعر حمدان فيما قاله شارع المقياس، أو كأنما عاد التاريخ فصار الزمان أبي فراس هو نفسه زمان البارودي وصار كذلك ناسه هم الناس.

محمد محمد الحوفي

معهد التربية العالي للمعلمين

ص: 36

‌رنين الذكرى

للأستاذ إبراهيم الوائلي

سلوها: اعند الليل سر لواجد

ولم يك إلا بعض وجدي وأسراري؟

وهل في ائتلاف الفجر معنى بذيعه

ولم يك إلا من خيالي وأفكاري؟

وهل عند هذي الطير ترجيع نغمة

ولم يك إلا من ترانيم قيثاري؟

وهل صخب الأمواج في كل ساحل

سوى رجع أنفاسي ورنة تهداري؟

وهل نسجت كف النسيم ملاءة

على الزهر إلا من روائع أشعاري؟

وهل رجعت دنيا الغرام لشاعر

صدى وتر إلا تواقيع أوتاري؟

أتراها لم تعد تذكر أيام اشتياقي؟

والأماسي على النهر، وأنغام السواقي

وانسياب الموج ما بين رنين واصطفاق

وهي، والشاعر، والحب، وأحلام التلاقي

سلوها: أفي الدنيا أديب مروع

سوى شاعر ما خان عهداً لليلاه؟

جفته وفي جنبيه لوعة هائم

أبى البعد إلا أن يضاعف بلواه

يئن وهل يجديه ترجيع أنة

وقد نسيت بنت الفراتين ذكراه

فيا نسمة الفجر الندية هدهدي

رؤاها بطيف المستهام ونجواه

ومرى عليها إن خطرت لعلها

ترق لما يشكو المحب ويلقاه

وقولي لها: ما خان عهدك شاعر

على النيل مشبوب الجوانح أواه

ذكريها حين كنا نبعث الأشواق لحنا

وبنجوانا على النهر إذا ما الليل جنا

نشرح الحب أقاصيص فيروي الموج عنا

وهزار الروض إن أطرق هجناه فغنى

سلوها عن الحب القديم وعهده

ففي كل واد من غراميَ ترديد

وعن ذكريات الشوق أيام نلتقي

وللنهر ترنيم وللنخل تأويد

وعن كأسنا الأولى وعن رشفاتها

بحيث الربى تزهى وللطير تغريد

ص: 37

وحيث الأماني كالنسيم طليقة

لها في ثنايا القلب خفق وتجديد

أبنت الفرات الحر جفني عالق

بطيفك لو يرتاح للنوم مكدود

وهل يستجيب الطيف إلا لنائم

فكيف وملء الجفن بعدك تسهيد

كم سهرت الليل لا أرقب في دنياه فجرا

وعلى صفحته الظلماء لا ألمح سطرا

هائماً كالطير قد ريع فلا يبصر وكرا

وعلى ثغري أنات وفي قلبي ذكرى

أبنت الفراتين الحبيبين إنني

موزع أفكار ومهدود أوصال

أبيت وليلى أربد اللون قاتم

كليل سجين كبلوه بأغلال

ذكرتك حيث النيل غضبان ثائر

يجيش بآداب ويطغى بآمال

وحيث الشباب الحر ينبض قوة

لتحطيم أصفاد وتقطيع أنكال

وما مصر والتأريخ إلا مواكب

من المجد وثاب الخطا منذ أجيال

يطوف عليها النيل عذباً فتلتقي

جوانحها منه بأبيض سلسال

كم تحدثت إلى النيل وحومت عليه

ولكم رحت مع الطير أناجي ضفتيه

أقرأ الحب سطوراً لألأت في شاطئيه

وأرى السحر كؤوساً عربدت في شفتيه

أبنت الفراتين اذكري عهد شاعر

تغنى ولولا سحر عينيك ما غنى

ولا تبخلي أن تستجيبي لطيفه

فطيفك حتى الآن مازايل الجفنا

وهبتك قلباً لم يعد بين أضلعي

سوى وتريشجي النفوس متى رنا

فما هذه الأنغام إلا بقية

من القلب في نجواك ذوبتها لحنا

مقاطيع ما راقت لمثلي شاعراً

بعيد المنى لو لم تكوني لها معنى

فيا ليت دنيا الشعر والسحر والهوى

ونجْوى ليالينا تعود كما كنا

أترى يرجع ما فات من العيش وراح؟

ويعود البلبل الصداح خفاق الجناح

ص: 38

حسب أنغامي شجو وأنين ونواح:

وكفى أن يذهب العمر صراعاً وكفاح

(نزيل القاهرة)

إبراهيم الوائلي

ص: 39

‌تعقيبات

واجبنا في الجهاد الثقافي:

قام الخبير الاقتصادي المصري في السودان برحلة إلى بعض أرجاء الشطر الثاني من الوادي فكان مما لاحظه أن وجد المكاتب غاصنة بالمؤلفات الإنجليزية وأن هناك عناية مقصودة بتغذية السودانيين بتلك المؤلفات وبجميع الألوان الثقافية التي تصدر من لندن. . على حين وجد المؤلفات العربية التي تصدر في مصر قليلة، بل نادرة، وأنه ليست هناك أية عناية في تقديم ألوان الثقافة العربية المصرية إلى أبناء السودان، مع أنها الثقافة التي تتصل بطبيعتهم وتلائم وضعهم وروحهم.

لم ينشر هذا الكلام في الصحف، وإنما حدثني به (عليم ببواطن

الأمور) كما يقولون في لغة الصحافة، ولست أدري هل كتب الخبير

الاقتصادي المصري بهذا إلى الحكومة المصرية أم لا، وعلى أي حال

فإني أرجو أن نتدبر الأمر، وأن نبذل له حكومة وشعباً وكثيراً من

العناية، لأنها ناحية ترتبط أشد الارتباط بما نجاهد له سياسياً في دعم

وحدة الوادي وجعل أبناء النيل كما خلقهم الله لحمة واحدة، ونحن

نعرف أن الإنجليز يتخذون من الثقافة أداة استعمارية يفككون بها

روابط الشعوب، فهم يحاولون أن يغذوا أبناء الجنوب بثقافتهم حتى

يكونوا بعد جبل واحد غرباء عن قومهم غرباء في أوطانهم.

فمن الواجب على وزارة المعارف في مصر أن تتولى تنظيم هذا الأمر، فتصدر إلى هناك الكتب والمؤلفات وتنشئ المكاتب لتوزيعها وتقديمها، ولا بأس أن تتحمل الوزارة جانباً من ثمن المؤلفات حتى يستطيع أبناء السودان الحصول عليها في يسر وسهولة.

هذا واجب على وزارة المعارف، هو واجب أيضاً على جميع الهيئات الثقافية في مصر، وعلى رجال الفكر والثقافة، بل إني أدعو إلى تأليف لجنة من رجال العلم والفكر تتولى العناية بهذا الأمر وتجمع التبرعات الوطنية لتنظيمه والاتفاق عليه.

ص: 40

وأقول الوطنية لأننا بازاء عمل وطني يجب علينا الجهاد له كما نجاهد في ناحية السياسة.

فهيا قبل فوات الأوان، وقبل أن يفرق الإنجليز بثقافتهم أبناء السودان. .

الاستشراق البريطاني:

قرأت في الأنباء الخارجية هذا الأسبوع نبأ وارداً من لندن يقول إن ثمة (تعديلات ستحدث في معاهد تدريس الآداب الشرقية بإنجلترا حيث تزداد الرغبة ويشتد الإقبال على هذا العلم الذي لم يكن فيما مضى سوى ميل خاص واتجاه شخص عند بعض الأفراد من العلماء المستشرقين فكانوا يتجهون إلى دراسة علوم الشرق وآدابه استجابة لميلهم الشخصي، أما اليوم فإن الحكومة البريطانية ترعى هذه الناحية وتشجعها وتبذل المال والمساعدات في تنظيمها وتوسيع نطاقها كما أن الجامعات والمجامع العلمية تقوم من جانبها بجهد وافر في هذا السبيل.).

(والفكرة في الاستشراق الآن عند الحكومة البريطانية هي الوقوف على روح الشرق وتفهم سياساته وعاداته واتجاهاته حتى يكون المستشرقون على صلة متينة مع الأقطار الشرقية التي يتخصصون في دراسة علومها وآدابها).

(ويتجه الرأي إلى ضم المجامع العلمية وتوحيد جهودها لخلق مركز عام ثابت في لندن للإشراف على دراسة الآداب والعلوم والفنون وسائر ألوان الثقافة في القارة الأسيوية، وقد وضعت فعلا التقادير بما سيكون عليه هذا النظام واعتمد لذلك المال المطلوب. .).

ويقول النبأ (إن هناك لجنة ستعمل على توسيع مدرسة الآثار في فلسطين وفي بغداد، وذلك لتهيئة المعلومات اللازمة لعلماء بريطانيا في العالم العربي، كما أن هناك اقتراحات لإنشاء مدرسة من هذا القبيل في القاهرة تكون على اتصال وثيق بالمجمع العلمي المصري، ومن المحتمل إنشاء مدرستين مماثلتين في إيران وتركيا. .).

تلك هي خلاصة ذلك النبأ الذي أذيع أخيراً من لندن فلم يلتفت أحد إليه، ولم يحرك جارحة عند أبناء الشرق مع أنه على جانب كبير من الخطورة، لأنه يتضمن السياسة الثقافية التي رسمها إنجلترا لنفسها نحو الشرق، ويعلم الله أن إنجلترا لا يعنيها في كثير ولا قليل الاهتمام بأرباب الشرق وعلومه إلا أن تجعل من ذلك وسيلة إلى غاية أخرى، وهي الغاية التي يشير إليها ذلك النبأ والمقصودة بتوجيه الاستشراق إلى (تفهم روح الشرق والوقوف

ص: 41

على سياساته واتجاهاته. .)

إنها لاشك خطة مدبرة لمعاونة السياسة البريطانية في اتجاهاتها وإنها لاشك خطة مدبرة للسيطرة على الشرق من الناحية الثقافية وإنها لاشك خطة يعرف كل منا ما وراءها، ولكن ماذا صنعت حكومات الشرق بازاء ذلك، وماذا صنعت جامعات الشرق وجماعاته لوضع سياسة ثقافية تقوم على التعاون والدراسة الشاملة النافعة حتى تقطع على الخطة الإنجليزية (الثعلبية) الطريق فيما تقصد إليه؟!.

لقد تيقظ كل شعب وكل فرد، فتيقظوا أيها القوم واتعظوا بما مضى من عبر، واخرجوا من دائرة (الروتين) الذي كاد يخنقكم.

الكاتب المنشئ والكاتب الحاسب:

. . وأعود إلى موضوع الكاتب المنشئ والكاتب الحاسب فأشكر لأستاذي الجليل السيد (السهمي) ما أفادنيه من زاخر علمه، وللصديق الكريم الأستاذ (علي) ما أمدني به من وافر محصوله، فوقفني السيد الجليل على ما تضمنه (الامتناع والمؤانسة) من حديث عن تينك الصناعتين، وأرشدني الصديق إلى ما ورد في (الفرج بعد الشدة) من قصة هي من هذا القبيل.

وقد كنت وقفت على هذا كله وعلى كثير من أشباهه وكنت أعرف أن (للتوحيدي) رسالة اسمها (رسالة العلوم) عرض فيها لهذه المسألة، وفي (مقابساته) شذرات من هذا القبيل، ولكني اكتفيت بالإشارة إلى هذا فيما كتبت به إلى الدكتور زكي مبارك إذ قلت:(إن الفكرة في الموازنة بين الكاتب المنشئ والكاتب الحاسب قديمة في الأدب العربي. وتسبق الحريري بأجيال وأزمان. والواقع أن الحريري وجد مادة متوفرة لتلك المناظرة التي عقدها حتى الأوصاف التي خلعها على الكاتب المنشئ والأخرى التي وصف بها الكاتب الحاسب قد أخذها كلها عن الكتاب السابقين، وليس له فيها من فضل إلا المقابلة والمزاوجة وإيثار السجع في التعبير. .) ولم أكن أقصد إلا تصويب ما قضى به الدكتور مبارك للحريري من السبق في ذلك، حتى زعم أن (فكرته في هذه الموازنة لم يسبقه إليها باحث من المسلمين)، ولم أقصد إلى إيراد كل ما وقفت عليه من النصوص في ذلك، لأن المقام لا يتسع له، ولأن الفكرة في تلك الموازنة قد أصبحت في هذا العصر (غير ذات موضوع) كما يقولون في

ص: 42

لغة السياسة، وليس لما قيل في هذا من قيمة إلا القيمة التاريخية، إذ لا يخفى أننا اليوم نقدر لكل علم مرتبته ومقامه وقد انتهينا في تقسيم العلوم وتقدير مراتبها إلى وضع جديد مغاير لما كان عليه السلفيون.

وبهذه المناسبة أذكر طريقة تاريخية ذكرها الشيخ الجبرتي في تاريخه، وهي أنه لما تولى على مصر أحمد باشا المعروف بكور قابله صدور العلماء في ذلك الوقت وهم الشيخ عبد الله الشبراوي شيخ الجامع الأزهر والشيخ سالم النفراوي والشيخ سليمان المنصوري، فتكلم معهم وناقشهم ثم باحثهم في الرياضيات فأحجموا وقالوا لا نعرف هذه العلوم، فنعجب، ثم قال: المسموع عندنا بالديار الرومية أن مصر منبع الفضائل والعلوم وكنت في غاية الشوق إلى المجيء إليها فلما جئتها وجدتها كما قيل: (تسمع بالمعيدي خير من أن تراه)، فقال له الشيخ الشبراوي: هي يا مولانا كما سمعتم معدن العلوم والمعارف؛ فقال: وأين هي وأنتم أعظم علمائها وقد سألتكم عن مطلوبي من العلوم فلم أجد عندكم شيئاً رغابة تحصيلكم الفقه والمعقول والوسائل، فقال الشيخ: إن غالب أهل الأزهر لا يشتغلون بشيء من العلوم الرياضية إلا بقدر الحاجة الموصلة إلى علم الفرائض والمواريث وعلم الحساب.

وبعد مناقشة طويلة بين الوالي والشيخ دله على والد الشيخ الجبرتي وكان متحققاً بالعلوم الرياضية فوجد الوالي عنده ضالته فقربه إليه وصار يأخذ عنه مسائل تلك العلوم؛ وكان يقول لم أغنم من مصر إلا اجتماعي بذلك الأستاذ؛ وكان الشيخ الشبراوي كلما تلاقى مع والد الجبرتي قال له (سترك الله كما سترتنا عند هذا الباشا فإنه لولا وجودك كنا جميعاً عنده حمير. فرحم الله الجميع)

إي والله هكذا ختم الجبرتي روايته بهذه العبارة. . .

(الجاحظ)

ص: 43

‌الأدب والفنّ في أسبُوع

أحزبية في الأدب:

من بلائي أني أقرأ أكثر ما يكتب في هذه الأيام، وخاصة ما يتعلق بالآداب والفنون، وقد وقعت أخيراً في مجلة (العالم العربي) على كلمة في كتاب (أبو الهول يطير) الذي ظهر أخيراً للأستاذ محمود تيمور بك، بتوقيع (أنور المعداوي - من الأمناء)

قال ذلك الذي هو من (الأمناء) بعد أن وصف ما كتبه تيمور في أول الكتاب عن فجيعته في ولده: (ولست أدري ما الذي دفع بيدي - وأنا في دنيا تيمور الحزينة - إلى كتاب (وحي الرسالة) لتقلب صفحاته حتى تقف بي عند صفحة تحمل عنواناً حزيناً هو (ولدي)، لقد رحت أقارن بين الكلمات هنا وهناك فماذا رأيت؟ رأيت البون شاسعاً بين آثار الفجيعة في الأديب المصنوع وأثرها في الفنان المطبوع).

ومجلة العالم العربي كانت قد أعلنت، بعد أن تنحى عنها الأستاذ سيد قطب، أن سيشترك في تحريرها الأستاذ محمود تيمور بك، ثم كتبت على غلافها (يشترك في التحرير: محمود تيمور بك) والمعروف عن تيمور أن مشاركاته في الصحف والمجلات لا تتعدى قصة أو مقالا يكتبه للصحيفة أو المجلة، وليس الأمر إلا كذلك في علاقته بمجلة العالم العربي، وقد فهم الناس بطبيعة الحال أنها ترمي إلى الاستعانة باسم تيمور، فهل البون الشاسع بين أثر الفجيعة. . الخ، تيحة لتيمور على حساب النيل من الأقدار!

أو أن البون الشاسع. . الخ، بدوة من بدوات (الأمناء) وزفرة من زفراتهم الحرار التي تحتبس بين ضلوعهم من يوم أن ساق إليهم صاحب (دفاع عن البلاغة) قاصمة الظهر في كلمته البالغة الخالدة عندما تعرضوا لكتابة في مجلة (الكتاب)؟

ونعرف كثيراً من دوافع النقد في مصر، ولمكنا لم نعهد بينها أن جماعة تنتمي إلى البلاغة والأدب وتتسمى باسم أستاذها، تضطغن على من يخاصمه هذا الأستاذ، فتحاول النيل منه بالدعاوى المطلقة والقول الجذاف، فأصبحنا بذلك أمام حزب كأحزاب السياسة، يستعمل أدواتها في التشهير بالخصوم. .

ثم ما هذا الذي يقوله ذلك (الأمين) المعداوي؟ إنه يردد ما هرف به بعض العجزة المتخلفين، إذا قالوا إن الأستاذ الزيات يصنّع في أدبه، وهم يقصدون ما يتوخاه في كتابته

ص: 44

من حسن الصياغة وجمال الديباجة وإجادة الرصف وإحكام النسج. ومن أعجب العجب أن يعاب الكاتب بهذه المزايا، كأن الركاكة وضعف الأسلوب من إمارات العبقرية والنبوغ! على أن الزيات يحلى أصالة الطبع ببراعة الصنعة، وهو في كتابته كالرجل الأنيق المعني بهندامه وزيه دون إسراف ولا تكلف؛ وقد أجمل العقاد نعته بقوله:(أنيق في غير بهرجة ولا فضول، بليغ في غير عسر ولا تكلف).

على أن تيمور أخذ هو أيضاً منذ سنوات يميل إلى التنميق اللفظي، وخاصة في هذا الكتاب (أبو الهول يطير) وهذا هو يقول في خطاب ولده في الفصل الذي وازنه الكاتب (الأمين) بمقال (ولدي):

(تهتاج بين جوانحي رغبة متقدة في الكتابة إليك، في مخاطبتك. . . في فك الإسار عن نفسي التي تتنزى في القيود والأصفاد! لقد أسكنت هذه النفس قمقما من قماقم (سليمان) وأحكمت سده بالرصاص، وقذفت به في قاع المحيط، هنالك تحت أعماق الماء، حيث يتكدس الظلام والصمت طبقات فوق طبقات) فترى الصنعة بادية في هذا الكلام، وهي جديرة ان تعد من عناصر الجمال الفني فيه، فهل معنى ذلك أن تيمور أديب مصنوع؟

إني لا أناقش هذا (الأمين) وهو لم يأت بدليل يناقش ولا حجة تدفع، ولكني كنت مدرساً، وأراني، في هذا الوطن قد غلبت عليَّ طبيعة المدرس، فجنحت إلى الشرح وإيراد المثال.

يا بني، إني آتيك بشيء من مقال (ولدي) فاسمع:

(كنت في طريق الحياة كالشارد الهيمان، أنشد الراحة ولا أجد الأنس، وأكسب المال ولا أجد السعادة، وأعالج العيش ولا أدرك الغاية! كنت كالصوت الأصم لا تُرجِّمه صدى وكالروح الحائر لا يقره هدى، وكالمعنى المبهم لا يحدده خاطر! كنت كالآلة نتجتها آلة واستهلكها عمل، فهي تخدم غيرها بالتسخير، وتميت نفسها بالدءوب، ولا تحفز نوعها بالولادة؛ فكان يصلني بالماضي أبي، ويمسكني بالحاضر أجلي، ثم لا يربطني بالمستقبل رابط من أمل أو ولدن فلما جاء (رجاء) وجدتني أولد فيه من جديد).

فهل رأيت يا بني أبلغ من هذا في التعبير عن حال رجل قلق حائر ينشد تجديد حياته بولد؟

وهاك أثر الفجيعة في الأديب (المصنوع):

(إن قلبي ينزف من عيني عبرات بعضها صامت وبعضها معول! فهل لبيان الدمع

ص: 45

ترجمان، ولعويل الثاكل ألحان؟ إن اللغة كون محدود فهل تترجم اللانهاية؟ وإن الآلة عصب مكدود فهل تعزف الضرم الواري؟ إن من يعرف حالي قبل رجاء وحالي معه يعرف حالي بعده؟ أشهد لقد جزعت عليه جزعاً لم يغن فيه عزاء ولا عظة! كنت أنفر ممن يعزيني عنه لأنه يهينه، وأسكن إلى من يباكيني عليه لأنه يُكْبِره، وأستريح إلى النادبات يندبن القلب الذي مات والأمل الذي فات والمَلك الذي رفع!).

إن كلامك - يا بني - يدل على أنك قرأت هذا المقال من قبل، وأن له في نفسك صدى من قديم، ويلوح لي أنك ذو فهم، ولكن تعصبك لجماعتك وتأثرك بجوها يغطيان على بصرك. . .

ذكرى شوقي في (الأوبرج):

على أثر ما كتبناه في العدد الماضي عن حفلة ذكرى شوقي المزمع إقامتها في (الأوبرج) يوم 14 أكتوبر المقبل، نشرت اللجنة المؤتلفة لتنظيم هذه الحفلة بياناً في الصحف جاء فيه (أما الغرض من إقامة هذا المهرجان فهو تخليد ذكرى أمير الشعراء فعليا بإنشاء قاعة محاضرات باسم شوقي).

والجنة ترد بذلك على ما وجه إليها من النقد الخاص بتسعير شهود الحفلة بأسعار (الأوبرج) العالية وما في هذا من الاستغلال المادي لذكرى شوقي، فاللجنة تقول إنها ستنشئ بما تغله الحفلة قاعة محاضرات باسم شوقي. وبطبيعة الحال لن تغل الحفلة ما يكفي لإنشاء هذه القاعة إلا إذا كانت حفله (الأوبرج) بمعنى الكلمة يشترك في إحيائها فلان وفلانة كما نشرت بعض المجلات، أي أن شوقي شاعر مصر الخالد الذي أوفدت البلاد العربية كبار شعرائها للاشتراك في تكريمه بالأوبرا - سيحيي ذكرها في آخر الزمن شكوكو وتحية كاريوكا. . .!

ولم كل هذا الابتذال والإسفاف؟ لإنشاء قاعة محاضرات باسم شوقي!

عندنا قاعات للمحاضرات كثيرة، أعرضت عنها اللجنة وتأبى إلا إقامة الحفلة في (أوبرج) الأهرام. . . حيث تقام حفلات أجمل (مايوه) في ضوء القمر، وانتخاب ملكة الجمال. . . فما دامت الأفكار قد تطورت إلى هذا الحد، وأصبحت قاعات المحاضرات (مودة) قديمة. . فلم العناء بإنشائها وتجشم تكاليفها؟

ص: 46

إن إحياء شوقي نفسه لا يبرر هذه المهازل، فضلا عن تخليد ذكراه بقاعة محاضرات!

نفهم أن تقام في (الأوبرج) حفلة لإحياء ذكرى (أسمهان) أما شوقي فمسرح الأوبرا يعرفه، وقاعة الاحتفال الكبرى بالجامعة وغيرها ترحب بالاحتفال لإحياء ذكراه احتفالا يتمثل فيه الأدب الرفيع والفن المستقيم. . .

البعثة الثقافية إلى السودان:

جرت وزارة المعارف في السنين الأخيرة على دعم العلاقات الثقافية والأدبية بين مصر والسودان، فأوفدت بعض الأساتذة لإلقاء المحاضرات، وأنشأت مدرسة الملك فاروق الثانوية بالخرطوم كما أنشأت مدارس أولية في جهات مختلفة.

وشرعت الوزارة في استئناف هذا النشاط في هذا العام، فأعدت بعثة تتكون من ثمانية أساتذة بعضهم من الجامعة والبعض الآخر من رجال الوزارة، ومعهم ثلاثون طالباً من طلبة معهد التربية العالي للمعلمين ومعاهد المعلمين الابتدائية؛ على أن تكون مهمة الأساتذة إلقاء المحاضرات ببعض العواصم السودانية، ويزور الطلبة مختلف الأماكن هناك. وكان المقرر أن تسافر هذه البعثة في خلال سبتمبر الحالي، وأرسلت الوزارة إلى وكالة حكومة السودان بالقاهرة تطلب حجر أماكن لسفرها من الشلال إلى الخرطوم. . . وما كان أشد دهشة الوزارة عندما تلقت من هذه الوكالة أن الحكومة السودانية لا تسمح بسفر هذه البعثة إلى السودان (نظراً لتوتر الحالة السياسية!) ولا تزال الجهات المسئولة تبحث هذه المسألة وإن كان قد غطى على أهميتها بيان حاكم السودان بالنيابة الذي تضمن الإصرار على تنفيذ الخطة التي ترمي إلى فصل السودان عن مصر وانفراد الإنجليز بحكمه.

والواقع أن الإنجليز ينظرون إلى دعم الصلات الثقافية والأدبية بين شقي الوادي بعين القلق والخوف، لأن الثقافة العربية الإسلامية المشتركة هي الروح التي تسري في (نخلة الوادي) من جذعها بالجنوب إلى جريدها وسعفها بالدلتا، وإخواننا في الجنوب يقرؤون المؤلفات والصحف والمجلات المصرية بشغف عظيم، وتعمل الحكومة السودانية جاهدة على نشر اللغة الإنجليزية هناك بمختلف الوسائل، فلغة الحكومة انجليزية، والتعليم في المدارس بالإنجليزية فيما عدا اللغة العربية؛ ورغم كل ذلك يهتم السودانيون بالدارسات العربية اهتماماً كبيراً، ولكثير من الأساتذة المصريين الذين زاروا السودان وحاضروا في

ص: 47

نواديه أطيب الذكر وأجمل الأثر.

فلا عجب أن يخشى الإنجليز خطر البعثات المصرية إلى السودان وإن كانت ثقافية، بل إن الرابط الثقافي أفعل من الدعاية السياسية في هدم سياستهم الاستعمارية.

توصيات المؤتمر الثقافي:

اختتم المؤتمر الثقافي العربي بلبنان أعماله في اليوم العاشر من سبتمبر الحالي. وقد وزعت قرارات المؤتمر التي اتخذت بإجماع الآراء، ومن أهم ما جاء فيها خاصاً بالتربية الوطنية وجوب بث الروح الوطني في نفوس النشء، وأن يعد الوطن هو الوطن المحلي، ثم الوطن الكبير الذي يضم الدول العربية، وأن تكون الدراسات الاجتماعية أساساً لتدريس التربية الوطنية على أن يشمل هذا الأساس إبراز الاتصال الجغرافي التام بين البلاد العربية والتدليل على الدور الخطير الذي قامت به الدول العربية على ممر العصور في إنشاء الحضارات وتقدم الإنسانية، والتوسع في إبراز دور الإمبراطورية العربية، وأن العروبة لم تكن يوماً لدين ما، بل هي أمانة في عنق كل عربي، وأن التعصب لم يعرف في البلاد العربية إلا في العصور التي حكم فيها الأجانب.

ومن القرارات الخاصة بالجغرافيا، العناية بجغرافية الوطن المحلي، ثم جغرافية البلاد العربية واتخاذ قدر مشترك يختاره كل قطر عربي، وإقامة رحلات بين مختلف الطلبة العرب ليطلعوا عملياً على جغرافية البلاد العربية.

ومن القرارات الخاصة بالتاريخ العناية بالتاريخ الوطني المحلي وصلاته ببقية الأقطار العربية، ثم تتسع الدراسة على ضوء القدر المشترك من التاريخ العربي وإبراز أبطاله وأمجاده، والتبسط في الصلات التاريخية بين البلاد العربية وإظهار أثر الحضارة العربية في الحضارة العالمية، وتمجيد الأحداث العظيمة، وتخليد ذكرى عظماء الشرق العربي سواء بإقامة التماثيل لهم أو تسمية الشوارع بأسمائهم، وضرورة اتخاذ الطريقة العملية في دراسة التاريخ.

وقد قدمت هذه التوصيات بعد موافقة اللجان عليها من هيئة المؤتمر العامة للإدارة الثقافية لجامعة الدول العربية، لتعرضها على مجلس الجامعة، فإذا أقرها أصبحت توصيات لكل بلد عربي أن يأخذ بها بالقدر الذي يرتضيه.

ص: 48

ويلاحظ القارئ أن هذه القرارات أو التوصيات لا تشمل اللغة العربية، وهي من موضوعات المؤتمر مع التربية الوطنية والجغرافيا والتاريخ، وقد ترامى إلينا أن القرارات التي أذيعت هي التي وافقت عليها اللجان بإجماع الآراء، ولم يتم ذلك فيما يختص باللغة العربية.

(العباسي)

ص: 49

‌البَريدُ الأدَبيّ

ذلك نصيبي من التبعة

إني رويت ما وجدت، ففي ذلك المؤلف في التصوف:(مالك بن أنس) لا (أنس بن مالك) وقد فاتني تحقيق الاسم هناك وضبطه غير فاطن له، وربما حال دون الفطنة - الفكر وقتئذ في غيره، وقد يشغل شيء عن شيء، ولست أجهل إذ أقول هذا القول أن العلماء لا يقبلون مثل هذه المعاذير. ولما أصلح قاضينا الفاضل إصلاحه وأيقن أني أنا الذي تصرف في أسماء الناس وأزمانهم مقدماً ومؤخراً. . . حكم أن ذلك الخطأ (سبق قلم) تهويناً للخطب، وقوله هذا هو من عناية القاضي التي لا تذم. وقد فهم قراء (الرسالة) الفضلاء الألمعيون من نص الحكم ما فهموا. فنصيبي من التبعة - والقصة هي هذه - هو ما أعلنت، ولغيري قسمته. .

السهمي

يا سيدي: أستغفر الله، أنت إمامنا، وبفقه (الإمام) يقضي القاضي، فإن أهديت إليك فمن عطائك، وإن أطرفتك فببعض حبائك. . .

أطال الله بقاءك مرجعاً للأدب، وذخراً للعرب.

علي الطنطاوي

فعلاء الحائرة:

منذ خمس سنوات كتب الأب أنستاس ماري الكرملي في عدد الرسالة (475) وما بعده يخطئ وصف الجمع بفعلاء المفرد، ويؤكد أنه ليس في الفصيح من الكلام إلا الوصف بفعل المجموع ويسوق الآيات (كأنه جمالة صفر). (ويوم ينفخ في الصور ونحشر المجرمين يومئذ زرقاً). (ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود). (ويلبسون ثياباً خضرا من سندس). (عاليهم ثياب سندس خضر) وينعى على من يقول: كريات حمراء، وكريات بيضاء (لأن القول بفعلاء في مثل هذا الموطن لا يجوز البتة، ولأنه غلط شنيع فظيع، تلعنه الإنس والجن، وملائكة السماء، وأهل النار جميعاً!!) ولأنه (كفر نحوي عربي لم تنطق به العوام، ولا الأعاجم ولا الأروام) وحجته (أن الآيات

ص: 50

القرآنية، والأحاديث النبوية الصحيحة الرواية، والمسموع من كلام فصحاء العرب وبلغائهم هي أحسن شاهد) وقد عارضة حينذاك جماعة من الكتاب ممن لم يأخذ أخذه، ولم يجر في غباره فكان له الفلج عليهم. . .

ومضى الزمن على هذه المعركة إلى أن جاء الأستاذ الفاضل محمد سليم الرشدان فكتب في العدد (735) من الرسالة الغراء ينبه على هذا الخطأ، في قول الكاتبة الفاضلة السيدة منيبة الكيلاني: الأروقة السوداء، فرد عليه أستاذ العربية في هذا الزمان الباحث العبقري (السهمي) في العدد (737)، وقد بدا لي بعد أن قرأت كلمته أن أوجه إليه استفهاماً يجلو هذا الأمر، غير أني آثرت حتى يكتب الأستاذ الرشدان فأنظر ماذا يكون جوابه؟ وقد كتب فكان جوابه بالموافقة على ما أورد العالم الجليل إمام العربية الأكبر، فرأيت أن الأمر لا يزال في حاجة إلى إيضاح، ذلك أن الأستاذ السهمي أورد نقولا لا تنهض في وجه ما ذكره الأب أنستاس، فهو:

(أولا) يحتج بكلام أبي العلاء المعري، وكلام ابن جني، وقول صاحب الكشاف، وكل هذا ليس بحجة، لأن الذي يعوزنا هو شاهد عربي فصيح من كتاب أو سنة، أو أثر عربي خالص (ولا يهمنا بعد ذلك ضوابط النحاة، وقواعد الصرفيين وآراء اللغويين، وتحكمات المتأولين وأرباب الأحكام العربية، لأنهم لم يستقروا جميع قواعد اللغة المضرية، وبيدنا شواهد لا تحصى تدل على نقصان ضوابطهم وتتبعاتهم واستقراءاتهم) كما يقول الأب الكرملي، على أن أستاذنا السهمي لم يعتمد على شيء من ذلك وإنما نقل عن قوم لم يقل أحد بأن ما ينطقون به يجري في العربية مجرى القواعد، أو يكون حجة لمن يحيد عن نهج العرب الفصحاء.

(ثانياً) قول أبي العلاء (فألزمني بذلك حقوقاً جمة، وأيادي بيضاء) لا يبعد أن يكون فيه تحريف من الناسخ، وأن الأصل كان (أيادي بيضا)، ومثل ذلك يمكن أن يقال فيما نقل عن صاحب المخصص، على أن الوصف بمثل سوغ أن يجيء ما بعده مفرداً. وأما قول أبي العلاء في رسالة المنيح (وكم في أديم الخضراء، من أشباح مضيئة زهراء) فذلك ما لا خلاف فيه، وقد ذكر هذه المسألة الأب أنستاس، فقال في العدد (485)(إذا أشير إلى الجمع المكسر بضمير مفرد مؤنث لكونه لغير العاقل أو جاور (فعلاء) وصف مفرد مؤنث يصح

ص: 51

أن يكون للمفرد وللجمع على السواء، فأنت مخير في أن تنعته بفعل أو بفعلاء، تقول قنا خطية ملد، وقنا خطية ملداء لأنك تصف تلك القنا بأنها خيطة وبأن هذه الخطية ملد أو ملداء)، وقال في العدد (486) يرد على بعض من جادله وأورد له كلام الزوزني (وله فارسية خضراء) أي دروع فارسية خضراء يقول (فهذا كلام لا غبار عليه، لأن خضراء هنا مجاورة لفارسية، وفارسية كلمة مؤنثة وإن كان معناها يدل على جمع لأنها عائدة إلى (دروع) ومن الطريف أن نذكر أن الأستاذ الجليل السهمي أشار في هامش كلمته إلى أن شارح ديوان الحماسة أورد هذه الكلمة مفردة مع جمع، ولعله أراد هذه الكلمة السابقة عن الزوزني، وأن الأب أنستاس بعد أن قال ما نقلته آنفاً قال (ثم من هو الزوزني، وأبو الزوزني، وجد الزوزني، بجانب نص القرآن، والأحاديث النبوية الصحيحة، وفصيح كلام البلغاء من العرب؟).

(وبعد) فإنها لفرصة طيبة أن يقول إمام العربية في هذه الكلمة، ولقد تمنيت أن يكون الكرملي حياً حتى نشهد عراكا لغوياً بين عقلين كبيرين، وأنا ما أردت ببعث هذا البحث القيم إلا أن أقف ويقف قراء الرسالة على الحجة القاطعة التي نرجو أن يطالعنا بها (السهمي) فإن ما ذكره الأب أنستاس ماري الكرملي لا يزال صحيح الأديم، ناصع الحجة، موثق البنيان.

علي العماري

المدرس بمعهد القاهرة الثانوي

أكان معاوية كاتب وحي؟

جاء بصفحة 75 من كتاب أبي الشهداء للأستاذ العقاد (كذلك ينبغي أن نذكر حقيقة أخرى في هذا المقام، وهي أن معاوية لم يكن من كتَّاب الوحي، ولم يسمع عن ثقة قط أنه كتب للنبي شيئاً من آيات القرآن الكريم) وفي صفحة 28 من عبقرية الصديق بصدد حديث الأستاذ عن بعض جوانب عظمة النبي الكريم (واتخذ معاوية كاتب للوحي) فأي القولين أصح؟ وما هي الحقيقة التي تؤيدها الأسانيد التاريخية ويعتمدها ثقاة العلماء وجهابذة الرواية؟

ص: 52

علي إبراهيم القنديلي

المحامي

بوابة المتولي

نشرت مجلة مسامرات الجيب في العدد 113 مقالا تحت عنوان (عقائد يشترك فيها الجهلة والمثقفون) جاء فيه هذه العبارة (. . . وذلك كاعتقاد العامة في بوابة المتولي وهي لا تخرج عن كونها بوابة من بوابات سور القاهرة سميت باسم الوالي على مصر).

وللحقيقة والتاريخ أقول أن إطلاق هذا الاسم (بوابة المتولي) على أحد أبواب القاهرة لا يرجع إلى اسم وال تولي ولاية مصر بل إن هذا الاسم إنما هو نسبة إلى متولي الحسبة أو المحتسب.

وكانت مهمة المحتسب هي النظر في الأمور التي تتعلق بالنظام والأمن العام فكان أشبه ما يكون بوزير الداخلية في يومنا هذا.

هذا بجانب أنه كان للمحتسب الإشراف التام على الأسواق يراقب الأسعار ويقاوم الغلاء وجشع التجار ويصادر الأطعمة التي يتطرق إليها الفساد حرصاً منه على الصحة العامة.

ولقد أطلق اسم المتولي على هذا الباب من أبواب القاهرة في العصر العثماني وذلك يرجع إلى أن متولي الحسبة في مدينة القاهرة كان يجلس على مقربة من هذا الباب.

وقد كان متولي الحسبة أو المحتسب عادة شخصية محبوبة من سكان القاهرة لأنه كان يعمل على توفير الأقوات ومقاومة الغلاء ولا شك أن لهذا أثره في معيشة العامة والسواد الأعظم من أهل القاهرة. وهذا مما جعل الألسنة تلهج في الغالب بالشكر والدعاء له والصدور تكن له ضروب التقدير والاحترام، وكان هذا التقدير والتبجيل مما دعى السذج من عامة سكان القاهرة إلى الاعتقاد أن المتولي ملك يهبط من السماء ويقف على هذا الباب فيحل المشاكل والعقد. وهكذا انتقل متولي الحسبة من عالم التاريخ إلى عالم الأسطورة. . .

شفيق أحمد عبد القادر

طالب بكلية الآداب بجامعة فؤاد

ص: 53

‌القَصصُ

القبلة. . .

للقصصي الإسباني (بلاسكو إيبانيز)

بقلم الأديب فؤاد الونداوي

كان في أحد السجون - ولنغفل ذكر اسمه - مجرم خطر شرس الطبع غليظ القلب فظ الخلق. ومع أن الإنسان لا يأمل ان يجد في مثل هذه الأماكن أناساً ورعين يشيع الصلاح في نفوسهم، فإن بين الأربعمائة سجين الذين ضمهم ذلك السجن، كان هذا السجين أكثرهم صلفاً وأشدهم شراسة.

نعته القوم باسم (الذئب) وكان قد قارب الستين من عمره، صرف اثنين وأربعين عاماً منه في غياهب السجون. فهو منذ شب افتتح حياته بالتنقل من سجن إلى آخر تارة بتهمة السرقة، وطوراً بتهمة القتل وما إلى ذلك من جرائم.

ولئن حاولنا أن نعدد الجرائم التي ارتكبها والآثام التي اقترفها، لشق علينا ذلك. وحسبنا أن نقول بأنه كان قد حكم عليه آخر مرة بالسجن مدة هي أضعاف ما تبقى له في جعبة الزمن من عمر، فقد كانت جريمته الأخيرة من أفظع الجرائم وأشدها قسوة ووحشية.

كان وحشاً كاسراً يميل إلى الأذى ويجنح إلى الشر لأتفه الأسباب. ولذلك تحاشاه نزلاء السجن ولم يجرئوا على الاقتراب منه، ولكم ركل غير مرة كل من دنا منه، أو وخزه - على الأقل - بإبرة الحياكة التي لا تفارق يده، فقد كانت حياكة القفافيز مهمته التي تشغله عن كل شيء حواليه.

كان وحشاً ضارباً، وهو في وحشيته أشد بطشاً من أولئك القتلة المتعطشين لشرب الدماء، الذين يحاكون أشرس الكواسر طبعاً وأفظع السباع فتكا.

ولقد اعتاد (الذئب) أن يمضي الأيام والأسابيع، جالساً في قاع السجن، منهمكا في العمل الذي بين يديه، وقد انكب عليه بكليته، فانحنت هامته بعض الشيء من جراء ذلك الأنكباب وكان يكسو رأسه شعر أسود فاحم لم يخطه المشيب، أما لحيته - التي تركها موظفو السجن وشأنها دون قص ولا تهذيب - فقد كانت كثة شعثاء وكانت عيناه مخيفتين يتطاير مهما

ص: 55

الشرر، ونظراته مفزعة مرهبة تنذر أبداً بالويل والوعيد.

وكان قوي الجسم - رغماً عن بلوغه العام الستين من حياته - مفتول الساعد، ذا عقل قوي طالما كان مصدراً لرعب الناس وقلقهم.

كان دائماً صامتاً ساكناً، لا يتحدث إلى أحد، ولا يشارك السجناء في فكاهاتهم وهزلهم السافل. وكان صمته هذا يبعث بالمهابة والخوف في قلوب الجميع، فكان إذا ما رفع بصره وألقى نظره على بعض من حواليه، ازوّر هؤلاء بوجوههم عنه، ورفعوا أبصارهم إلى السقف، كيلا تلتقي عيونهم بنظراته النافذة المرعبة.

وحدث أن تقلد إدارة السجن حاكم جديد، تحدث القوم عن صرامته وشدة بأسه، وأوغل البعض في المبالغة في وصف حزمه وقساوته، فطفق السجناء يرمقون الذئب بنظرات شزرة ذات مغزة دفين، واسترسلوا في تمتمة خافتة دون ما داع أو سبب

وكان للحاكم الجديد بنت صغيرة جميلة تدعى (أدورا) لم تتجاوز الخامسة من عمرها. وفي أحد الأيام اصطحبها أبوها إلى السجن، للتفرج على المساجين، وبينا كان أبوها يقوم بتوزيع الأرزاق على المساجين، كانت هي تمرح بينهم غير هيابة ولا وجلة تتحدث إليهم بلباقة ورقة، وتوزع بينهم ابتساماتها العذبة وكلماتها الرقيقة. وكان المسجونون يضحكون لها ويبشون في وجهها، وكان بعضهم يرجوها في أن تشفع له عند أبيها، بينما لم يتورع البعض الآخر من تعنيفها بقارص الكلام وفاحش القول

وفي زاوية قصية في السجن، انتبذ الذئب مكاناً، وقد أسند ظهره إلى الحائط - بعد ان ترك نصف طعامه إلى جانبه مهملا - واستغرق في الحياكة بسرعة تدير الرأس.

كان رأسه متدلياً إلى أسفل، عندما اتجه إليه الحاكم وابنته ولم يرفعه حتى أصبحا على قيد خطوات منه، فاكتفى بأن حدجهما بنظرة من زاوية عينيه. وهمت الطفلة أن تقترب منه فمنعها أبوها فبادرته قائلة:

- أريد أن أدنو منه وأنظر إليه! فأجابها أبوها بصرامة:

- لا. إنه جد خطر. . إنه مجرم أثيم. . حذار يا بنيتي أن تقتربي منه فقد تصيبك ضربة من يده. . .

- أنظر يا أبتي! انظر إليه. . انظر كيف يحدجنا بنظراته أواه إنه يحوك قفازاً كذلك)

ص: 56

- هو يفعل ذلك دائماً. . لقد حذرني الحاكم السابق منه وقال إنه شديد الخطر وقد أمضى معظم حياته في السجون، وله في هذا السجن ثلاثون عاماً) فشهقت الطفلة وقالت:

ثلاثون عاماً؟! أواه! إنه مسكين. . . يا له من مسكين!).

وما كاد الذئب يسمع كلمة (مسكين) حتى رفع بصره وعلق عينيه بوجه الطفلة دون أن يتوقف عن الحياكة. وأراد الحاكم أن يصرف ابنته عن هذا الموقف، ولكنها اندفعت فجأة مسرعة نحو الذئب وهي تهتف: إنني ذاهبة لأقبله) ثم أقدمت على ذلك في الحال، فاقتربت من الذئب وطبعت على وجهه قبلة بريئة دون اشمئزاز وخاطبته برقة: إليك هذه القبلة، ولا تكن مجرماً بعد اليوم!).

وارتاع الذئب من هول هذه المفاجأة الغريبة، وكاد يصعق، ولكنه استطاع أن يحبس صوته. فندت من حنجرته آهة تشبه الحشرجة أو هي شبيهة بجرس ذلك الصوت الذي يخرجه الأخرس عندما يحاول الكلام فلا يقدر عليه. وغادر الحاكم وابنته المكان وقبل أن يدركا الباب المؤدي إلى غرفة الحاكم، التفت المجرم إليهما وشيعهما بنظراته. ومرت الظهيرة وتلتها الأمسية فدلف الذئب إلى زاويته وكأنه وحش يعود إلى وجاره. وتقضت أيام وأعقبتها شهور، والسجن هادئ لا يوحي مظهره بشيء يسترعي النظر. وفي يوم

وفي يوم من أيام (يوليو) هاج البحر وماج، فاصطخبت أمواجه وكان يسمع لها دوي هائل وصفير مزعج يصم الآذان في داخل السجن، فهاج السجناء وشرعوا يحاكون العاصفة بصخبهم وضجيجهم، وتعالت أصواتهم تعلن التمرد والاستنكار، ثم حل وقت الغذاء فأضربوا عن تناول الطعام. . . وأخيراً انفجرت الثورة التي حيكت مؤامرتها في الخفاء، وارتفعت أصوات الثائرين في قاع السجن من كل جانب: فليسقط الرؤساء. . . فليسقط الحاكم. . .) وهب الحاكم مذعوراً ووثب من غرفته كالنمر الهصور، بعد أن أغلق الباب على ابنته لكيلا تلحق به فتتعرض لسوء، ثم اتجه إلى ساحة السجن ولكنه ما كاد يدخلها حتى اعترض طريقه وجهاً لوجه ثلاثمائة سجين، كانوا قد تسلحوا بملاعقهم الخشبية بعد أن سنوا أطرافها، فغدت حادة تبلغ من الأجسام ما تبلغه منها المدى والدبابيس.

فشهر الحاكم مسدسه في وجوههم وأطلق عياراته الستة على المتمردين، وبينما كانت الرصاصة السادسة والأخيرة تغادر فوهة المسدس، شاهد غولا حقيقياً مخيفاً، رجلا أشعث

ص: 57

الشعر أغبره كبير الرأس أشبه شيء برأس الديبة، وهو يناديه بصوت مرتفع: لا تخف! أنا قادم لنجدتك).

وأقبل الذئب نحو الحاكم مسرعاً، فأمسكه من وسطه وقذف به إلى الحائط، ثم وقف أمامه يحميه بجسمه الضخم من ضربات الثائرين، وما عتم أن أشهر بيمناه سكيناً لم يعلم أحد من أين أتى به، وصار يواجه بها الأعداء ويرد ضرباتهم ويطعنهم طعنات نجلا يحسن تصويبها، فتعدد الصرعى وكثر المصابون وأخيراً خف الحرس لنجدة الحاكم، وبعد أن انتهى الشغب وساد الهدوء وعادت السكينة وخرج الحاكم سالماً، سقط الذئب مجندلا على الأرض مثخناً بجراحه، وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة. فحمله الحرس إلى مخدع الحاكم وأرقدوه على فراس وثير كان أول فراش اضطجع عليه طيلة عمره البائس. . تمدد الذئب هناك وطفق يدير بصره حوله بلهفة ظاهرة كمن يفتقد شيئاً عزيزاً. وظل مستلقياً على الفراش وهو بين الحياة والموت، حتى مثل الحاكم أمامه، فقال بصوت خافت يتضوع أسى، وهو ينظر إلى ملامح الرجل الذي أنقذ حياته بيده: الطفلة! الطفلة. . . وفطن الحاكم إلى قصده، ثم فكر ملياً فأدرك السبب الذي حمل الذئب على أن يذود عنه بنفسه ويحميه بجسمه. أجل! إنها القبلة التي دفعته إلى هذا حتماً! وهرول الحاكم إلى الغرفة التي حبس فيها ابنته، وقد نسى أن يفتحها بعد انتهاء العاصفة، فألقى الطفلة تصرخ وتستغيث، فطوقها بذراعيه وضمها إلى صدره، وذهب بها إلى الغرفة التي تمدد فيها الذئب وهو يعاني آلام النزع الأخير وكان الذئب يحدق في الفضاء، ويرسل نظراته الشاردة ذات اليمين وذات الشمال؛ إنه لا يزال لديه متسع من الوقت لكي يرى فيه ذلك المخلوق الوحيد الذي حنا عليه ورق له، لم يزل له من الوقت ما يكفيه لان يقول لذلك المخلوق المحبوب: أخرى. أجل! قبلة أخرى!) رفع الأب ابنته بين ذراعيه ودنا بها من الذئب وسمع الحاضرون صوت قبلة تردد صداها المنغوم في أرجاء الغرفة. قبلة ملائكية من شفتي طفلة، طبعتها على ذلك الوجه المغضوض الذي جارت عليه عوادي الدهر وصروف الحدثان ووسمته لعنة المصائب والأهوال بميسمها الذي لا يمحى. وعندما قدم القس، وأخذ يرتل صلواته أدعيته، وقد حمل بيديه الزيوت المقدسة، كان الحاكم والحراس قد جثوا على ركبهم، أما الجثة في خشوع، وقد غشى المكان صمت رهيب. وكانت الطفلة ترتل - بإيعاز من أبيها - بصوتها

ص: 58

العذب الطاهر الحنون: أي أبانا الذي في السماوات. . ليتقدس اسمك وليقدم ملكوتك. .)

فؤاد الهنداوي

ص: 59