المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 743 - بتاريخ: 29 - 09 - 1947 - مجلة الرسالة - جـ ٧٤٣

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 743

- بتاريخ: 29 - 09 - 1947

ص: -1

(سياسة) أرسطو

للأستاذ عباس محمود العقاد

السياسة غِير كما يقولون

ولكن (سياسة) أرسطو شيء لا يتغير على الزمن لأنها تقوم على عمل عقل كبير، وقد تتغير النظم، وتتبدل الدساتير، وتختلف الحكومات، ويتفاوت الحاكمون، ويبقى العقل الإنساني في علمه دراسة صالحة لكل عقل، وميداناً فسيحاً لكل مشغول بثمرات العقول.

وكتاب أرسطو في السياسة هو الكتاب الثالث من كتب هذا الفيلسوف العظيم، التي زفها إلى المكتبة العربية رائد السياسة الديمقراطية في هذا الجيل، وأستاذ كتاب مصر في مطلع القرن العشرين، العلامة العامل في شبابه وشيخوخته، صاحب المعالي أحمد لطفي السيد باشا، مد الله في عمره، وهيأ له من الوقت والصحة ما يعينه على إتمام عمله والاحتفاظ بهمته وجهده.

ولا وجه للمقابلة بين مترجمات أرسطو إلى العربية من قبل ومترجماته إليها على يد العلامة الجليل.

لأن ما ترجم من أرسطو إلى العربية قبل اليوم إنما هو مقتبسات أو مرويّات في حكم المقتبسات، تصرّف في نقلها إلى هذه اللغة أناس مشكوك في علمهم باليونانية، مقطعة بجهلهم لأسرار العربية، منصرفون إلى غير الفلسفة أو قاصرون عن التوفر عليها، فلولا فطنة فلاسفة الإسلام، أو اطلاعهم على أرسطو في لغته الأصلية، لما وصل إلينا من فلسفة أرسطو هذا النصيب الذي سجلته الثقافة العالمية لثقافة العرب والإسلام.

أما هذه الكتب الثلاثة التي ترجمها الأستاذ الجليل - وهي كتاب الأخلاق، وكتاب الكون والفساد، وكتاب السياسة.

فهي أول شيء يسمى ترجمة للمعلم الأول بمعنى الترجمة الصحيح، وهي تعريف لقراء العربية بهذا الفيلسوف يضارع ما تهيأ للأمم الأوربية من العلم به في مجال هذه الدراسات. لأنه تعريف يجمع الشمول إلى التدقيق من جانب المترجم الكبير، ويؤلف ما تفرق من المقتبسات والمرويات فيقيمها بنية كاملة، تحيا بأعضائها، ولا تخفى بأشلائها، بين الصحائف والأضابير.

ص: 1

وقد اعتمد لطفي باشا في نقل كتاب السياسة، كما اعتقد في نقل الكتابين الآخرين، على ترجمة (بارتلمي سانتهيلير) أستاذ الفلسفة في (كوليج دي فرانس) ووزير الخارجية الفرنسية في وقت من الأوقات، واعتمد كذلك على مقدمته فنقلها بجملتها ولم يشأ أن يضيف شيئاً إليها من عنده، وهي في اعتقادنا تستدعي الإضافة إليها لسببين: أحدهما أن (سانتهيلير) قد ذكر في مقدمته أن رجل الفكر لا يتجرد كل التجرد من أحوال زمانه وبيئة قومه، وكان هو نفسه مصداقاً ظاهراً لصحة هذا الرأي الذي لا شك فيه، فكان فرنسيا قبل كل شيء في تدليله وإدلاله بقسط الأمة الفرنسية من ترقية المعارف السياسية والنظم الحكومية. مع أنه قنع بالقليل من حْوادث عصر أرسطو التي لها مساس بشخصه وتوجيه ذهنه وشعوره، فلم يذكر منها الكثير الذي لا غنى للقارئ عن ذكره في هذا المقام.

والسبب الثاني الذي كان يطمعنا في مقدمة للكتاب بقلم علامتنا الجليل أن العربية لها كلمة تقال في فلسفة أرسطو على الإجمال، لأنها شغلت العرب زماناً طويلا وشغلوا بها أبناء الأمم الأخرى زماناً أطول. وليس أحق من لطفي باشا بأن يقول هذه الكلمة، وهي يحيي عهد أرسطو في الشرق العربي من جديد، ويتكلم باسم جامعة مصر التي تولاها في صباها، وباسم النهضة الفكرية التي سايرها منذ نشأتها الأولى.

ويبدو لنا أن الأستاذ الجليل قد حرص غاية الحرص على نصوص الترجمة الفرنسية، فأتى بها حرفاً حرفاً وكلمة كلمة في تركيب أسلوبها وترتيب جملها، ولم يسوغ لنفسه أن ينقل الكلمات والمعاني إلى الأسلوب المعهود في كلام العرب، محافظة منه على الأصل الفرنسي في لفظه ومعناه.

مثال ذلك قوله: (وعنده أن كائناً لا يخصص إلا لغرض واحد. لأن الأدوات تكون أكمل كلما صلحت لا لاستعمالات متعددة، بل لاستعمال واحد. وعند المتوحشين المرأة والعبد هما كائنان من طبقة واحدة. والسبب في ذلك بسيط، وهو أن الطبع لم يجعل بينهم ألبتة من كائن للأمرة. فليس فيهم حقاً إلا من عبد ومن أمة. ولم ينخدع الشعراء إذ يقولون: أجل للإغريقي على المتوحش حق الأمرة. . .).

ومثال قوله في المقدمة: (فقد استطاع أن يجد بين تخالف الخلق الأدبي للناس وبين تخالف أنواع الحكومات المشابهات الأظهر ما يكون والأحق ما يكون. . .).

ص: 2

وتقاس على ذلك أمثلة كثيرة في سائر فصول الكتاب.

والذي نلاحظه أنه لم تكن ثمة ضرورة لالتزام النص الحرفي في ترجمة سانتهيلير لأن الكتاب إغريقي في لغته الأولى، ولأنه هو نفسه لم يلتزم نص الكتاب الإغريقي إذا صح ما تأدينا إليه من معارضة الترجمة على الترجمات الإنجليزية المختلفة. فقد حذف بعض الكلمات من أوائل الفصول، ونقل بعضها على غير معناه الذي يدل عليه السياق. ومن ذلك مثلا أن الترجمة العربية تقول عن الرجل والمرأة:(. . . من الضروري اجتماع كائنين لا غنى لأحدهما على الآخر، أريد أن أقول اجتماع الجنسين للتناسل، ليس في هذا شيء من التحكم).

ولا أثر لكلمة التحكم في ترجمة من الترجمات الإنجليزية الثلاث، فباركر - عمدة المترجمين - يترجمها بالقصد ووليام أليس يترجمها بالاختيار وجويت يترجمها بالغرض وبين هذه المعاني جميعاً وبين معنى التحكم فرق في الدلالة له شأنه في كتاب عن الحكم والحكومات

وقد ترجمت السيادة التي تفرض للإغريقي على البربري بالأمرة.

وهي في تقديرنا لا تؤدي المعنى الذي ذهب إليه أرسطو حين أراد أن يكون الحاكم إماماً أو زعيماً للإغريق وسيداً للفرس والبرابرة.

فإن علاقة الأمرة هي علاقة آمر بأمور، وهي قد توجد بين الإمام والمأموم وبين الزعيم وتابعيه، وهي غير العلاقة بين السيد والمسود.

ومن خطأ الطبع فيما نظن ما ورد في الصفحة الثالثة والتسعين عن سكاكين ولف، وهي السكاكين الدلفية كما هو معلوم.

كذلك نظن - من مقابلة الترجمة العربية - أن سانتهيلير لم يلتزم الجرفية في التفرقة بين معاني العدل المختلفة في الكتاب، وهي معاني الأنصاف أو القسط والعدل والناموس فيما نؤثر لها من ترجمة قياساً على النسخ الإنجليزية، وتقابل في اليونانية وو على ما جاء في الترجمات الإنجليزية التي أسلفنا الإشارة إليها.

فإذا صح ما قدرناه من التزام النسخة العربية لنصوص سانتهيلير، فقد كان الأستاذ الجليل في حل من هذا الالتزام، وفي حل من التقيد بترجمة واحدة في اللغة الفرنسية، وهي على

ص: 3

ما نعتقد قد اتسعت لغيرها من الترجمات

على أن هذا التصرف كله لا يحجب عنك معالم أرسطو الواضحة من عبارات الترجمة الفرنسية كما نقلت إلى اللغة العربية، فيخرج منها القارئ في غير شك وهو يشعر أنه قد تابع أرسطو في تفكيره ومنهجه وتفصيل معناه في جميع ما توخاه.

ونلاحظ غير ما تقدم أن اسماً واحداً قد يترجم بلفظين، كترجمة (برسيا) بإيران في الصفحة الخامسة والعشرين، وترجمتها بفارس أو الفرس في مواضع أخرى من الكتاب، وهي الترجمة الصحيحة لما كان متداولاً على ألسنة الإغريق من تسمية الفرس الأقدمين.

وقد يسأل سائل: ما لنا وسياسة أرسطو اليوم وقد طرأ علينا في العصور المتتالية من حوادث الأمم وضروب الحكم وعبر التاريخ ما لم يكن يخطر لفلاسفة اليونان، ولا لفيلسوف في الزمن القديم، على بال!

وقد يقال في جواب ذلك أن الزمن - في الواقع - لم يغير كثيراً من جوهر الآراء التي أثبتها أرسطو في كلامه على طبائع الشعوب وما يلائمها من الحكام والدساتير، ولم يغير كثيراً من جوهر القواعد التي بنى عليها تخريجاته في التفرقة بين أنواع الحكومات أو وظائف السلطات أو أسباب الثورات، وأن قيمة الكتاب التاريخية لا يتطرق إليها الشك إذا جاز الشك في قيمته السياسية عند تطبيقه على الوضع الحديث.

ولكننا ندع هذا الجواب ونستغني عنه لأننا نستطيع أن نقول مقالا لا تكثر اللجاجة فيهن وذاك أننا هاهنا أمام ظاهرة عقلية يقل نظيرها في تواريخ بني الإنسان، وأن علماء اليوم، وعلماء الغد إلى آخر الزمان، لا يستكثرون شد الرحال إلى أقصى المعمور ليدرسوا طبيعة حشرة من هوام الأرض، ويستكنهوا حقيقة كائن حي من أحقر الكائنات، فلو مضى القياس على هذا لما كان كثيراً على إنسان أن ينطلق إلى المريخ ليرى عقل أرسطو يتحرك في دخيلة عمله ويسلك سبيله إلى أسرار الحقائق فيبلغ منها غاية ما ترتقي إليه عقول البشر جميعاً، وهو في زمانه لما يتلق معونة ما من أدوات البحث الحديثة، ولا يعتمد على ركن ما من أركان العلم الحديث.

وأي عقل هو عقل أرسطو هذا الذي نراه في دخيلة عمله وحركة تفكيره وبحثه؟ هو عقل لا يفاق عليه إن لم يكن هو أكبر العقول.

ص: 4

ليس بالكثير على كشف خبايا هذا العقل أن نرحل إلى المريخ لنظفر بسره، لو كلفنا الكشف عنه هذه الرحلة، واستطعنا قضاء هذا التكليف.

وعلامتنا الكبير لم يكلفنا بحمد الله الذهاب إلى المريخ، ولا الذهاب حتى إلى أرض يونان وهي في العدوة الأخرى من بحر الروم!. بل حمل إلينا هذه الذخيرة قريبة منا ناطقة بلساننا، مهيأة لإفهامنا، فأهون ما تستحقه من جهد أن نطلع عليها ونستزيده منها، ونرجو له دوام القدرة على إمداد هذه اللغة ببقية هذا الكنز الثمين، لأنه كنز لم تخل من ذخائره كلها - غير لغتنا العربية - لغة من لغات الحضارة في هذا الجيل.

عباس محمود العقاد

ص: 5

‌إعلان حرب!

للأستاذ علي الطنطاوي

كانت برهة ما بين الحربين، امتحاناً لنا، معشر العرب، واختباراً لعزائمنا، وقد خرجنا من هذه المحنة ناجحين مظفرين وأثبتنا أننا لم نضع إرث الجدود، ولم نفقد عزة الإسلام، وانه لا يزال في عروقنا دم الأجداد، ولا تزال في قلوبنا عزائمهم وأرينا الدنيا كلها أن استماتة المحق تغلب قوة المبطل، حين حاربنا ونحن شعوب عزل جيوش الدول التي انتصرت في الحرب الأولى وسكرت بخمرة الظفر، وحسبت أنها شاركت الله في ملكه، وزاحمته على سلطانه، فقابلتها شراذم منا، ما لها سلاح إلا سلاح الحق وما تنتزعه أيدي عدوها، وثبتت لها وأرهقتها عسراً من أمرها، حتى لانت لها، أو نزلت على مطالبها: حاربنا الإنكليز في شوارع مصر، وفي سهول العراق، وفي ربوع فلسطين، وحاربنا الفرنسيين في جنان دمشق، ورحاب حماة، وشعاف الجبل وحاربنا فرنسا وأسبانيا معاً في سوح الريف الأقصى، وحاربنا الطليان في طرابلس، وثرنا على الغاصب في كل بقعة من أرض العرب، وما خليناه ليلة من إزعاج، ولا أرحناه ساعة واحدة، ولكن كنا نحارب شعوباً لا حكومات، أما حكوماتنا فكانت علينا مع عدوها وعدونا، حتى استقر في إفهام الشعب أن حكومته خصم له، وحتى صرنا في الشام إذا أثرنا ثورة أو سّيرنا مظاهرة، أعملنا سلاحنا في إخواننا من رجال الشرطة، كما نعمله في خصومنا من الفرنسيين ومن كان يناصرهم علينا وقت الثورة من المغاربة والشراكسة والأرمن والسنغاليين، وحتى كدنا نفقد على طول المدى، توقير الأنظمة، وتقديس القوانين، لأنها من عمل الأجنبي وعلم عبيده، لا يضعونها إلا لمصالحهم، وضمان منافعهم إلى أن كان حادث مايو سنة 1945 وجُنّ الفرنسيون الجنة الكبرى فأبوا إلا أن يظهروا ديمقراطيتهم. . . وعدالتهم. . . ومبادئ ثورتهم. . . دفعة واحدة، فضربوا المدينة الآمنة بقنابل الطيارات، وقذائف المدافع، من القلاع المنصوبات على الجبال ورموا بالنار، الأطفال في المدارس، والمرضى في المشافي، والمحبوسين في السجون، وأحرقوا البيوت وهدوها على أهلها، وقتلوا رجال مصلحة الإطفاء الذين جاءوا ليطفئوها، وفعلوا كل ما يليق بحضارتهم وتاريخهم وأمجادهم. . ولا ينتظر غيره منهم.

هنالك رأينا، أول مرة، رجال الشرطة والدرك يقاتلون معنا ويدافعون عنا، ورأينا الرؤساء

ص: 6

والوزراء في صفنا، يحملون ما حملنا، وينالهم ما نلنا، فذكرنا، وقد طالما نسينا، أنهم إخواننا، وأنهم منا.

ولبثنا من ذلك اليوم، نرى الأدلة متتابعة متتالية، على أننا قد استقللنا، ونزح العدو عنا، وجلا عن أرضنا، وصار حكامنا منا، لا أقول إن الحكومات قد صلحت حتى ما نجد لها فساداً ولا نلقي منها ضرراً، كلا، ولا خلص رجالها من أوضار هذا الماضي، ولا أزالوا آثاره، ولا يمكن أن تزول في أربع سنين وقد لبث الغاصبون وأعوانهم، يثبتونها ويبنونها، دائبين على بنائها عاملين على تثبيتها، خمساً وعشرين سنة، ولكن أقول، أننا (أخذنا) ننزع من نفوسنا تلك الصورة السوداء للحكومة ونغسل عنها صبغة العداوة التي كنا نراها مصبوغة بها، ونعيد إلى إفهامنا توقير الأنظمة والقوانين، لأنها (بدأت) تصير من صنع أيدينا، و (شرع) واضعوها يفكرون في وضعها لمنفعتنا، وضمان مصلحتنا، لا لمنفعة الوزراء الحاكمين، ولا لمصلحة الغرباء الغاصبين

ثم تتالت الآيات والدلائل، وكانت جامعة دول العرب، وكانت المقاطعة القانونية للصهيونيين، وكان اجتماع ملوك العرب ورؤسائهم، وكان رحلة النقراشي إلى أمريكا، وقوله فيها ما أجمعت الكلمة على أنه لا يقول أكثر منه خطيب متحمس، ولا مؤرخ حكيم، ووجد فيه كل مصري ترجماناً عن أفكاره، ومعبراً عن مقاصده، وكان موقف فارس الخوري من قضية مصر، موقفاً سر كل عربي في الدنيا، وكان فتنة سورية الكبرى، وكان رأي الحاكمين في الشام والمحكومين جميعاً، ورأي الدول العربية كلها (إلا مملكة الأردن) واحداً فيها، ثم كان هذا الحادث العظيم الذي عقدت له هذا المقال، والذي سيعقد عليه في تاريخ العرب، فصل مترع بالفضائل والأمجاد، والذي سيكون مولد (الشرق الجديد) كما كانت هذه الحرب الماضية مصرع (العرب العتيق). . . والأيام دول والدهر ميزان، فما ترجح كفة إلا لتطيش، وما يرتفع طائر إلا ليهبط ولقد أشرقت من الشرق شمس الحضارة، من مصر وبابل والشام، ثم مالت إلى الغرب، إلى يونان وروما، ثم عادت تطلع من الشرق مرة ثانية، من المدينة ودمشق وبغداد والقاهرة، ثم مالت إلى باريس وبرلين ولندن، وهذا يوم ثالث، قد أوشكت أن تشرق شمسه على هذا الشرق، فينفض عنه غبار المنام، ويهب. . . لقد انقضى الليل، وأذن المؤذن من ذرى لبنان. . . من اللجنة السياسية للدول العربية،

ص: 7

التي قرر فيها رجال مسؤولون، لا أدباء متحمسون، وأعلنوا بلسان حكوماتهم، إنهم سيحلون عقدة فلسطين ومصر، كما حل الإسكندر عقدته المشهورة: بالسيف!

هذا هو الحادث العظيم، وقد قرأ القراء تفصيله في الصحف فما أعيده عليهم. . . وهذا أول الجد، وهذا الذي كنا نتمنى بعضه فلا نصل إليه، ونطلبه فلا نجده، وهذا الدليل على أننا استقللنا، وعلى أن حكوماتنا منا وإلينا، وأنها تنطق بألسنتنا، وأن هواها هوانا، وأنه لم يبق في رجالها من يصانع عدواً، أو يخافه، أو يتزلف إليه. وأن جيوشنا لنا، تسالم من سالمنا، وتعادي من عادينا، وتذود عن بلادنا، وكل بلد عربي بلد العرب كلهم، وكل عدو له عدو لهم، وكل قضية له قضية لهم.

إننا نغفر لحكوماتنا، بهذا الموقف، كل ما لقينا منها في السنين الخوالي، ونعده إسلاماً منها بعد كفر، والإسلام يحب ما قبله، فليحسن إسلامها، ولا يكن كلمة تقال باللسان: إنها قد أعلنت الحرب في الخارج، فلتعلنها في الداخل، لتمنع المدد عن عدوها، فما في الدنيا عاقل يحارب عدواً ويدفع إليه ما له ليقويه به على نفسه، وولده ليربيه على كرهه، ولتبحث عن الثغور التي تذهب منها أموالنا إليهم، فتسدها. بالمقاطعة الاقتصادية، لا بإلقاء المواعظ للترغيب فيها، والخطب للحث عليها، لا، فهذا كلام فارغ، ولكن بالقوانين الصارمة، والعقوبات الشديدة، كما حرمت معاملة الصهيونيين بقانون، وحدت لها الحدود الرادعة، والعقوبات المانعة.

وبذلك ترتقي صناعتنا، وتجود أخلاقنا، لأننا سنضع ما نستطيع صنعه مما نفقده بالمقاطعة، ونصبر عن باقيه، وقد صبرنا مدة الحرب عن كثير من الضروري، وتصبر إنكلترا اليوم عن الخبر المشبع في سبيل وطنها، ولا تقول شيئاً، فهلا في مثل هذا قلدناها؟

على أن في بلادنا (أعني في بلاد العرب) كل ضروري، ولا نفقد بهذه المقاطعة إلا قليلا من وسائل الترف، مما يضر ولا ينفع.

ولتضع الحكومات العربية القوانين الصريحة بإغلاق كل مدرسة أجنبية، إنكليزية أو فرنسية أو أمريكية، وإلا ذهب عملنا هباء، وكان عبثا، وأخرجت هذه المدارس من أبنائنا أعداء لنا، وأعواناً لعدونا، كما وقع في الشام، حين تولى ضرب دمشق رجل عربي أبوه شيخ، اسمه علاء الدين الإمام، عليه لعنة الله.

ص: 8

فإذا صنعت ذلك كان علينا، أن نعلن الهدنة بيننا وبينها، ونكف عن هذه الأيام عن معارضتها، لنتعاون جميعاً على حرب عدونا وعدوها، وكان على كل شاب في بلاد العرب كلها، وكل شيخ، وكل امرأة، أن يعلم أنه جندي في هذه الجبهة وأنه يجب عليه أن يعمل فيها شيئاً: يمشي إلى القتال، إذا جدّ الجدّ، وجاءت ساعة القتال، وكان قوياً قادراً، أو يبذل الفضل الزائد من ماله إذا كان من أصحاب المال، أو يحارب بقلمه وبلسانه، إذا كان من أصحاب الألسنة والأقلام، وعلى كل واحد منا، وعلى كل واحدة، أن يحرم على نفسه كل شيء أجنبي، فلا يأكله إن كان مأكولا، ولا يشربه إن كان مشروباً، ولا يمسّه إن كان طيباً، ولا يلبسه إن كان ثوباً، ولا يقرؤه إن كان كلاماً، ما لم يكن علماً خالصاً، أو أدباً إنسانياً صرفاً، ولا يتداوى به إن كان عَقّاراً، ما لم يكن مضطراً إليه ولا يجد ما يسد مسدّه، ولا يرسل ابنه إلى مدرسة أجنبية، ولا يدعه يذهب في السياسة والاقتصاد مذهباً أجنبياً، وأن نمحو أسماءهم من شوارعنا ومياديننا، ونطمس ذكرهم من مدارسنا وبرامجنا، إلا ببيان حقائقهم، وهتك الستُر الخادعة عنهم، وأن نداوي نفوسنا من هذا السل القاتل الذي هو احتقار نفوسنا، وتعظيم الغربيين، وأخذ كل ما يأتي منهم أخذ الضعيف، وأن نوقن أننا أقوياء حقاً، أقوياء بماضينا وأمجادنا، وبما تركنا في الدنيا من أثر خيّر نبيل، وأقوياء بعَددنا وبعزائمنا، وبأن الحق معنا، وأن البلاد بلادنا، وأن فلسطين لنا، لن يغلبنا عليها، (شحاد) صهيوني، ولا محتال انكليزي، ولا لص أميركي، لا والله ولا الجن ولا العفاريت، إننا والله سنمضي إليها على كل سيارة وكل قطار وكل دابة، ونمشي على أقدامنا إن عز الظهر، ونملأ إليها كل طريق، ونسلك إليها كل سبيل، حتى نترعها رجالا، إن أعوزهم السلاح، فما يعوزهم النبل ولا الإقدام، رجالا لا يحبون الحياة الذليلة، ولا يهابون الموت الشريف، ولا يتزحزحون ولا يريمون، مادام في صدورهم قلوب تخفق، وفي صدورهم نَفَس يطلع وينزل.

فيا أيها الحاكمون، يا من صرخوا من قمم لبنان هذه الصرخة المدوية، اثبتوا وأعلنوا الحرب، إذا لم تعطوا الحق إلا بالحرب: حرب الكلام وحرب المال وحرب الدم والسنان، وسيّروا جيوشكم، فنحن وراءكم، ونحن أمامكم، ونحن معكم، ما نحن للجزيرة، ولا نحن لهذا الماضي، ولا نحن لمحمد، إن وقفنا أو ارتددنا، حتى نطهر فلسطين من كل رجس

ص: 9

صهيوني ونطهر من أنجاس الاستعمار كل بلاد العرب، ونعيد الحضارة والعزة إلى الشرق، على رغم أنف الظالمين!

(القاهرة)

علي الطنطاوي

ص: 10

‌ورثة فلسطين:

حجج تاريخية

للأستاذ نقولا الحداد

استأذن حضرة الدكتور جواد علي أن أعلق شيئاً على مقاله القيم في عدد 15 سبتمبر من الرسالة تعليقاً يضيف حججاً إلى الحجج التاريخية ضد ميراث اليهود من فلسطين.

ذكر حضرة الدكتور (أن أسفار التوراة الخمسة الأولى المنسوبة لموسى نزلت على موسى إذ لم يكن موسى قد دخل فلسطين أي أنها نزلت خارج الأرض المقدسة). طبعاً لان موسى لم يدخل الأرض المقدسة أرض الميعاد مع شعبه الإسرائيليين الخارجين من أرض مصر. بل مات وهو يشرف على تلك الأرض التي تدر لبناً وعسلا ولم يدخلها مع شعبه لأن الله أبى عليه دخولها لذنب أتاه.

والحقيقة أن موسى لم يكتب حرفاً واحداً من هذه الأسفار الخمسة وإن كانت تنسب إليه. بل كتبت بعد رجوع بني إسرائيل من سبي السبعين سنة في بابل. فقد سباهم نبوخذ ناصر سبياً جارفاً سنة 586 قبل المسيح. فبقوا في بابل سبعين سنة واطلع حكماؤهم الأسلاف والخلفاء منهم على أساطير أشور وبابل وشرائع البابليين والآشوريين ولا سيما شريعة حمورابي العربي الذي فتح ما بين النهرين وحكمه هو وخلفاؤه نحو قرن من الزمن.

ولما فتح كورش الفارسي ما بين النهرين أطلق سراح اليهود فعادوا إلى البلاد التي سُبوا منها وشرع حكماؤهم (حاخاماتهم) يكتبون تاريخ قومهم وأساطيرهم وشرائعهم ممتزجة بأساطير بابل وأشور بل ممسوخة منها. وإذا قارنت الشريعتين الحمورابية والإسرائيلية كما هي في سفر تثنية الاشتراع لا تجد إلا فرقاً قليلا بينهما.

وكان موسى قد خرج بشعبه من أرض مصر سنة 1250 قبل المسيح فبين الخروج من مصر والعودة من سبي بابل نحو 734 سنة. وفي هذه الأثناء لم يكتب حرف واحد من التوراة لأن الكتابة الهجائية لم يكن الفينيقيون قد استنبطوها بعد أو أنها لم تكن قد شاعت في اللغات السامية أو الآرامية بل كانت الكتابة السامية مقصورة على رسوم الأشياء المراد التعبير عنها كرسم رجل للرجل والعين للعين. وهذه الكتابة مقتصرة على النقش في الألواح الحجرية أو الآجر المشوى وهذه لا تحتمل كتابات التواريخ والشرائع المطولة.

ص: 11

وإذا طالعنا أساطير البابليين وتاريخهم القدير وجدنا تشابهاً كلياً بين تلك الأساطير وقصة التكوين في التوراة وقصة الطوفان وغيرهما، الأمر الذي يؤكد لنا أن حكماء اليهود اقتبسوا كثيراً من البابليين وزجوه فيما كان أسلافهم يتناقلونه من تاريخهم وأساطيرهم. حتى أن قصة الخليفة في سفر التكوين واردة مرتين متواليتين في الأصحاحين الأولين بأسلوبين مختلفين الأمر الذي يدل على أنهما أُخذا من مصدرين مختلفين.

هذا من حيث نزول الأسفار الخمسة المنسوبة إلى موسى. وما نسبت إليه إلا لأنه كان زعيم القوم الأكبر الذي قادهم من أرض مصر في برية سينا نحو 40 سنة إلى أرض كنعان حيث كان يمنيهم بأسلاب الكنعانيين وبطردهم من بلادهم وامتلاك أرضهم وماشيتهم وأثاثهم كما عَّلم الإسرائيليات قبل الخروج من مصر أن يستلفوا حِليَّ المصريات قبل الهرب. كذا كانت تعاليم موسى لشعبه - أنه يحل لهم مال كل أجنبي عنهم لأنهم شعب الله الخاص حسب تعليمه.

أما أن اليهود ورثة فلسطين فمسالة لا تحتاج إلى كثير تحقيق فإن مجموع ما أقامه اليهود في المنطقة التي كانت قديماً تسمى فلسطين (وهي القسم الغربي من جنوبي فلسطين الحديثة) لم يزد عن ثلاثة قرون. وفيما سوى ذلك كانوا مشردين في الشرق والغرب بسبب فتوحات الدول المحيطة بهم من كل ناحية. وقد هاجر بعضهم عن طريق آسيا الصغرى إلى أوروبا وبعضهم هاجروا عن طريق البحر الأبيض المتوسط إلى نواح مختلفة.

وتغلغلوا في أوروبا التي كانت في تلك الأزمان وثنية تعبد الأصنام المنحوتة. فلما اختلطوا بأولئك الأقوام وعرَّفوهم بديانتهم رأي عقلاء الوثنيين وحكماؤهم أن ديانة اليهود معقولة أكثر جداً من ديانتهم لأنهم فهموا أن إله اليهود شخصية حية غير منظورة وليس صنما منحوتاً من جمادهم ينحتونه. فتهوَّد كثير منهم في جميع أنحاء أوروبا وغربي آسيا. ولما جاءت النصرانية اكتسحت الوثنية ولم تكتسح اليهودية اكتساحاً مطلقاً لأنها مستندة إلى نبوآتها.

فجميع اليهود الذين في أوروبا وغربي آسيا هم من السلالات الآرية وليس فيهم قطرة من السلالات السامية. هم آريون أكثر من هتلر وكان بولس الرسول مؤسس النصرانية يهودياً إغريقياً من أثينا. يدل على آريتهم بياض بشرتهم الناصع وصفرة شعورهم وزرقة عيونهم

ص: 12

خلافاً للساميين الممتازين بسمرتهم وسواد أحداقهم وسواد شعورهم. فما يهود أوروبا من ورثة فلسطين بتاتاً.

أما ورثة فلسطين القديمة والحديثة الحقيقيون فهم سكانها الحاليون الذين كان بعضهم يهوداً والكنعانيون والحيثيون والجزريون والفلسطينيون القدماء والصيدونيون وغيرهم من عبدة البعل، فلما جاءت النصرانية تنصر معظمهم من يهود ووثنيين. ثم جاء الإسلام فأسلم معظمهم واستعربوا كلهم. هؤلاء المقيمون الآن في فلسطين الحديثة هم أهلها وورثتها. وأما اليهود المهاجرون من أوربا وغيرها إلى فلسطين الكبرى التي نشأت من بعد الحرب الكبرى الماضية فليس لهم قلامة ظفر فيها. هم غرباء عنها ودخلاء فيها.

وقد استدل علماء اليهود من التوراة والتلمود أنهم لا يمكن أن يرجعوا إلى أرض آبائهم ما لم يجدوا تابوت العهد المفقود.

ذلك أنه لما غزا نبوخذ ناصر أورشليم أسرع أشعيا وأخذ جميع محتويات الهيكل وخبأها في بعض مغاور جبل نبو جنوبي أورشليم وكل تابوت المهد أهم تلك الكنوز لأنه يحتوي على اللوحين الحجريين اللذين كتب الله أو بالأحرى يهوه رب الجنود (كما تسميه التوراة) وصاياه العشر بإصبعه.

ولذلك جاءت بعثة أثرية يهودية من أميركا بعد الحرب السابقة إلى فلسطين وجعلت تنقب في مغاور جبال بنو عسى أن تعثر على تابوت العهد الذي لو وجدوه لكان أعظم أثر تاريخي. ولكنهم بعد تنقيب طويل شاق لم يجدوه فيئسوا وعادوا بخفي حنين. لذلك لا يحق لهم أن يعودوا إلى أورشليم لأنهم لم يحققوا وعد التلمود أو التوراة. ولن يعودوا.

ليتهم وجدوا ذلك التابوت لكنا نتمتع برؤية خط الله على اللوحين الحجريين وآثار إصبعه الكريمة. . . وكنا نعرف بأي حرف كان الله يكتب. . وأية لغة كان يهوه رب الجنود يكلم موسى أبالعبرية كما يدعى اليهود أم بالسريانية كما يدعى بعض النصارى - حقاً إنه لأثر تاريخي عظيم. لو وجد!

نقولا الحداد

ص: 13

‌في العراق الشقيق

للأستاذ محمد هاشم عطية

أستاذ الأدب العربي بدار المعلمين العالية ببغداد

لاشك أن معظم المصريين لا يعرفون شيئاً يذكر عن التقدم الاجتماعي في هذه البلاد الشقيقة التي استطاعت في مدى قصير من الزمن أن تصل إلى درجة من النهوض لا ينبغي الاقتصار في تقدير قيمتها على ما ينشره بعض الصحف المصرية من التعليقات التي لا تكاد تعبر عن الحقيقة الراهنة لما أصبح يتمتع به ذلك القطر الشقيق من نمو متواصل في أكثر مرافق الحياة ولقد كنت منذ عدة سنين أتوق إلى زيارة العراق رغبة في الوقوف على ما عسى أن يكون باقياً من آثارها التي طالما قرأنا عنها في كتب الأوائل خلال تلك العهود الزاهرة من خلافة العباسيين في بغداد ومن المحقق أن كثيراً من الكتاب والمؤلفين في مصر وغيرها من البلاد العربية مدين إلى حد غير قليل لما أخرجته المطابع في مستهل هذا القرن من ذخائر العربية ونفائسها في الأدب والشعر لمؤلفين وشعراء عاشوا في بغداد وغيرها من المدن العراقية في تلك الأزمان البعيدة وأن أساتذة هذه المدرسة القديمة كانوا أئمة العالم الحديث في البلاد العربية وحتى في غيرها من البلاد المتمدنة في أوقات مختلفة، ومن هنا كان ما تصنعه العراق اليوم من رغبتها في الاستعانة بمصر واستقدامها لكثير من كبار الأساتذة المصريين لتنظيم نهضتها الثقافية على نحو ملائم لما يتبع من المناهج والأساليب الدراسية في مصر هو بمثابة استقضائها لدين قديم للسلف من أبنائها في أعناق مصر الحديثة وغيرها من بلاد الشرق العربي ومن الظواهر البارزة التي تشاهد دائماً في الأوساط الراقية والمجتمعات المختلفة ما يبديه العراقيون من حبهم لمصر وشدة تعلقهم بمحاكاتها في كل ما بلغته من أسباب النظام والتقدم. ولا تكاد تختلف منهج الدراسة العالية والمتوسطة عن أمثالها في مصر إلا في بعض مسائل خاصة بما تقتضيه حالة الإقليم من ناحية القوانين الضرورية للبلاد وأكثر الكتب المقررة للدراسة الثانوية والمتوسطة هناك مقتبسة من الكتب المقررة في المدارس المصرية أو مشابهة لها ولا تختلف عنها إلا في العناية بتدريس تاريخ العراق القديم وأدبها الحديث الذي يمتد من الوقت الحاضر إلى نحو ثلثمائة سنة أما المدارس والمعاهد العالية من الحقوق والطب

ص: 14

والهندسة والزراعة والتجارة ودور المعلمين العالية والمتوسطة فيشترك فيها الطلبة والطالبات غالباً وعليها إقبال شديد أدى في العام الماضي إلى استقالة عميد إحدى الكليات لعجزه عن مقاومة الضغط الشديد على كليته وتحققه من عدم كفاية بنايات الكلية على سعتها لمواجهة هذه الحالة بما يضمن انتظام سير العمل في الكلية وفي هذا العام سيضعون مشروع الجامعة العراقية موضع التنفيذ وإن كان العمل جارياً في المعاهد الفنية والكليات العالية على غرار الأنظمة الجامعية على السواء ويلاحظ أن الطلاب والطالبات يهتمون بالتحصيل والمذاكرة من أول أيام الدراسة ولا يشغلهم في الغالب عن ذلك شيء فليس لهم موسم للمذاكرة يبدأ في شهر أبريل على أحسن التقديرات، ولذا يظن أن نهضتهم الثقافية ستبكر كثيراً عن الموعد المنتظر لها ومما هو جدير بالذكر أن القوانين العراقية تحرم على الأجانب بلا استثناء أن يتمتعوا بالإقامة الدائمة في البلاد ولذلك لا تكاد تعثر في الأراضي العراقية بصقلي ولا رومي من أولئك الأشتات والأجناس المختلفة وهي بالضرورة تحرم على كل أجنبي أن يتملك شبراً من أرض عراقية ولا يسمحون لرءوس الأموال الأجنبية أن تغزو بلادهم ويرون أن تسير نهضتهم الاجتماعية معتمدة على كفايتهم الخاصة ومقدرتهم الحاضرة متريثة بطيئة تنضج مع الزمن خير من أن تتحكم فيها الأيدي الأجنبية برءوس أموالها التي يعتبرون دخولها إلى بلادهم تنازلا تدريجياً عن التحكم في مواردهم وثروتهم والقضاء على كل مشروع من شأنه ترقية مرافق الدولة وإعدادها لحياة طليقة من سيطرة الأجنبي كما هو الشأن في غير العراق من الأقطار الكبرى في البلاد الشرقية.

ولقد شاهدت أن العراقيين يشعرون شعوراً تاماً بشدة الحاجة إلى رفع مستوى الحياة العامة في بلادهم فهم مع إبائهم وما يتمتعون به من الشمائل البدوية كالكرم والشجاعة لا يرفضون الاستجابة لدعاء المصلحين من قادتهم وزعمائهم ولا يحاولون أن يغتروا بالماضي أو يزهون بالألقاب ولا يعتمدون في تدبير أمورهم على الإجراءات المطولة المعقدة من تأليف اللجان واستقدام الخبراء العالميين لكل ما دق أو جل من الأمور وإن كانوا لا يحجمون في الوقت نفسه عن الاستفادة من المدنيات المختلفة واقتباس الوسائل النافعة في تسوية مشاكلهم المهمة ومشروعاتهم الكبيرة مما يجري عليه العمل في مصر وغيرها من بلاد أوروبا وأمريكا ولقد نبههم معالي الأستاذ رضا الشبيبي من كبار رجالهم ومصلحيهم في مقال له

ص: 15

إلى الطريقة المتبعة عندهم في إحصاء السكان وأنها غير دقيقة ولا كفيلة بحماية خراج الدولة في وقت اشتدت حاجتها فيه إلى المال ويستوجب العمل من جميع طبقات الشعب على تزويد خزانة الحكومة بالأموال مساعدة لها على النهوض بما تضطلع به من الأعباء وفي اليوم التالي مباشرة ظهر في الصحف بلاغ من الحكومة بأنها ستوفد قريباً بعثة إلى مصر للتخصص في عملية الإحصاء ودراسة أحدث الأساليب المتبعة في ذلك.

وسمعت من السيد هاشم الآلوسي المدير العام للتعليم الابتدائي أن وزارة المعارف تعد مساكن صغيرة مستوفية لجميع الشرائط الصحية للمدرسين الذين لا يجدون في القرى البعيدة مساكن منظمة وأنهم يعنون أشد العناية بصحة أولئك المعلمين والطلاب ووضع جميع التدابير لوقايتهم من آفتين تتفشيان غالباً في تلك الأماكن النائبة.

وهناك ظاهرة اجتماعية تستحق التنويه وهي ما يسمونه عندهم بالقبول وهو عبارة عما يتبادلونه بينهم من التزاور والسمر في المنازل في أيام الأسبوع في أكثر البيوت الكبيرة في الغداة أو في العشى على حسب المألوف من عادتهم في ذلك، وكثيراً ما شهدت غداة الجمعة في دار صاحب المعالي صبحي الدفتري أحد عظمائهم وهي تضم طائفة كبيرة من رجالات العراق وأدبائهم ومشايخهم يقضون وقتاً طويلا في الحديث والمطارحة مع أدب تناول ورقة حاشية وحفاوة مضيف ويمثلون في ذلك أرقى ما يتطلبه المجتمع المتمدن من مظاهر الاحترام والذوق وكذلك الحال في كثير من البيوتات الأخرى كدار الصدر والشبيبي وحمندي والشواف وغيرهم مما كان يوجد مثله في القاهرة منذ نحو ثلاثين سنة في دار آل سليمان وعبد الرازق وكانت هذه المجالس أشبه بالمدارس العالمية لتخريج المواهب وتلقيح العقول بثمرات التجاريب كما هي الآن في بغداد.

ولقد مكنني صديقي الأديب الكبير والشاعر الموهوب السيد حسين بستانه وهو أحد الأساتذة الذين تخرجوا من دار العلوم العالية في مصر وينهضون الآن بأعباء تدل على مبلغ ما لديهم من الكفاية والثقة مكنني ذلك الصديق الذي لا أنسى ما حييت فضله وأدبه ووفاءه من زيارة المشاهد المقدسة في النجف الأشرف وكربلاء في رحلة ممتعة سأفرد لها مقالا آخر إن شاء الله تعالى.

ولا يمنعني ذلك من القول بأنه ستمر فترة غير قصيرة إلى أن تتخلص بغداد الجديدة مما

ص: 16

يتخلل بنيانها في كثير من الأحياء من الكهوف الغامضة والدروب الضيقة التي لا تخلو من أقذار متراكمة ومسارب عفنة لا يخفى ما لها من الآثار المضرة بالصحة العامة بين سكان العاصمة العراقية وخاصة في أيام الصيف حين يشتد القيظ وتتصاعد الروائح الكريهة من هذه الأزقة ودورات المياه التي لا تزال في حالة بدائية لا يمكن التخلص منها إلا بإنشاء مشروع المجاري على نحو ما هو متبع من ذلك في القاهرة وغيرها من المدن الكبرى في البلاد المتمدنة مع العناية باستخدام الأجهزة الحديثة الضرورية لصيانة المنازل والسكان من الأضرار المحققة من هذه الأوضاع الحالية لدورات المياه والمغاسل وهي من ألزم الأشياء للحياة.

ولا أستطيع أن أزعم أن الطبقات الفقيرة في مصر أحسن حالا منها في بغداد فهي متشابهة في رثاثة الثياب ووسخ الجلود وفيما يختلف على كل منهما من الجهل والفقر والمرض مما يحاربه الناس في القطرين بتنميق المقال اكثر مما يحاربونه بالفعال.

وفي الربيع الماضي زار الوفد السوداني مدينة بغداد وقد كانت هذه الزيارة فرصة جديدة أتاحت لنا أن نشعر من قريب بشدة حدب العراقيين على القضية المصرية وعطفهم على أماني إخوانهم المصريين ولقد لقي الوفد ورئيسه الوطني العظيم من الترحيب والحفاوة ما لا مزيد عليه من سمو الوصي المعظم ورجال الحكومة وطبقات الشعب على اختلافها وأقيمت لهم عدة مآدب وحفلات كان آخرها ما قام به الأساتذة المصريون الموظفون في الحكومة العراقية وقد ألقيت في هذه الحفلة القصيدة الآتية التي يكون من المناسب نشرها الآن في مصر على صفحات الرسالة الغراء وهذه هي القصيدة:

حيّ وفد السودان يا صاح بالشعر

وجدد لهم حِسان الأماني

واسقنا شربة من النيل أحلى

من رحيق معتق في الدنان

هي من كوثر يصفقها الساقي

شفاء لمهجة الظمآن

فبأعلى الشطين ساجعة الأيك

تناغي الأليف في أسوان

وهي نشوى تقول مفصحة الشدو

هتوفاً بأعذب الألحان

نحن شعب فسائلوا النيل عنا

كيف أفتوا بأننا شِعبان

واسألوا الدهر والقرون الخوالي

فسيشهدون أننا أخوان

ص: 17

وحدة في الحياة والدين والرأي

وفضل الحجا وحسن البيان

قد بنتها طبيعة النيل صرحاً

شامخ الفرع راسخ البنيان

لم يعبها أن قد أصاب مغير

من شباها بحده والسنان

كان منها مكان ناطحة الصخر

بقرن عضب ورأس هدان

فأقامت على الشناءة تنمي

لا وناة ولا ذلول العنان

تعصف الحادثات من جانبيها

في الصفا الصم من ذرى ثهلان

أيها الرائح المجد رويداً

إن لقيت الأعلام من كردفان

فأحبس الدمع أن يفيض من الشوق

وخل الفؤاد للخفقان

وتخطر فوق الأصيل ندِياً

من نشر الربا وطيب المجاني

واقض حقاً لآل دنقلة الغراء

واشك الهوى إلى الندمان

وابتغ الصحب في الندى حلالا

وانثر اللفظ سائغاً والمعاني

قل لأشياخهم وقل لشباب

كعوالي أسنة المران

أننا مثل ما عهدتم ولاء

ووفاء ما أشرق الفرقدان

ليس منا من ليس يغضب أن يدعى

لضيم أو يرتضى بالهوان

نرقب النجم أن يضيء سحيراً

من أعالي النيلين حتى الأدانى

شارفاً بنشر البشائر بالوادي

مهلا بنوره للعيان

في ظلال الفاروق والتاج يزهي

باتحاد الإخوان بالإخوان

في ذرى ملكه ومن هو كالفاروق

في عدله وفي السلطان

قد حبتكم بغداد حين نزلتم

في حمى فيصل العظيم الشأن

والعراق الشقيق رحب بالوفد

وحيا بقلبه واللسان

ولعمري لحبة القلب أنتم

ولأنتم إنسان عين الزمان

فهنيئاً لكم بما قد حبيتم

ثقة الشعب وحي هذا الأوان

وعليكم من كل قلب سلام

مثل نور الربيع في نيسان

محمد هاشم عطية

ص: 18

‌رسائل حائرة:

الرسالة الثانية. . .

للأستاذ إبراهيم محمد نجا

(كتبت تقول: (لا أحب أن ألعب بالقلوب؛ حتى لا يلعب أحد

بقلبي.) فإليها حديث القلب في هذه القصيدة):

هل تظنين أنني أتمنَّى

أن أرى قلبك الرقيق مُعَنَّى؟!

لا وحُبِّيك. ما تمنيت إلا

فرحة تحتوي صباك وأَمْنا

وربيعاً يمس قلبك بالحبِّ (م)

فيمضي مرفرفاً يتغنى

يرسل اللحن في أغانيه حبّاً

ويذيع الهوى غناء ولحنا

أنا يا مُنْيتي بقلبك - لو تد

رين حبي - أبر منك وأحنى

أنا أفديك يا حياتي بروحي

وهي أسمى من الوجود وأسنى

أنا أهواك راضيَ النفس حتى

لو يكون الهوى شقاء وحزنا!

كفراش يهفو إلى النار ظمآ

ن، وإن كان في اللهيب سيفنى!

لا تخافي قلبي؛ فما هو إلا

طائر هزه الجمال فغنَّى

عبر العمر تائهاً في الصحارى

ورأى واحة الغريب فحنَّا

لا تخافي حبي؛ فحبيَ بذلٌ

ووفاء، وليس غدراً وضَّناً

واقبليه مني؛ فحبك يسري

فيَّ مسى الدماء، أو هو أدنى

وافهميني، فلو فهمت شعوري

أَلَّف الحب بيننا حيث كنا

كلما بَرَّح السهاد بنفسي

قلت: زدني أودع فتاتيَ وسنى

وإذا قرح البكاء جفوني

قلت: لا بلَّلَ البكا لكِ جفنا

وألاقيك يا شقيقة نفسي

هادئ النفس، وادعاً، مطمئنا

وبقلبي - لو تعلمين - من الوجـ

د تباريح لَفْحُها ما تأنى

وأرد الكلام خشية أن يبـ

در منه ما يكشف المستكنا

وأسميك في الرسائل أختي

وأنا أقصد الحبيبة ضِمْنا

ص: 19

يا حياتي إني وضعت حياتي

بين عينيك ضارعاً أتمنى

فاجعليني كما تشائين إني

أنا أرضى به، وأَنْعَمْتِ عينا

اجعليني في الحب - إن شئت - حراً

واجعليني=- إن شئت - في الحب قِنَّا

وارحميني، أو عذبيني؛ فإني

قد رأيت العذاب للفن خِدْنا

حَسبُ نفسي تجارب تملأ النفـ

س حياة، وتملأ العمر فنا

وكفاني أن أرسل الشعر من قلـ

بي، فيصغي الوجود قلباً وأُذْنا

وسواء لديَّ أصبحتُ قيساً

قيسَ ليلى في الحب أو قيسَ لُبنى

ص: 20

‌شيء من الصراحة

للأستاذ علي العماري

في عدد مضى من الرسالة كتب الأستاذ الفاضل الشيخ على الطنطاوي مقالا بعنوان (مستقبل الأدب) تناول فيه بشيء من الحسرة والألم ضعف الطلاب في هذه الأيام، ولاحظ أن بعض الذين على أبواب التخرج منهم لا يستطيعون أن يقرءوا أربعة سطور دون أن يخطئوا عشرة أخطاء، وأن الألسنة غير مستقيمة، وأن معين النبوغ جف أو كاد.

وأحب أن أقول للكاتب النابغة - في شيء من الحسرة والألم أيضاً - أن كل ذلك صحيح، وأن الذي يعاني مهنة التعليم اليوم يجد ما يفتت الكبد، ويبكي العيون، ولكن لا يكفي أن نبكي على ما يهدد الأدب من تدهور وانحطاط، بل لابد لنا أن نقدم - مخلصين - رأياً في علاج هذا الضعف، ولا قدرة للطبيب على العلاج الناجح المفيد إلا إذا استطاع أن يشخص الداء، ولكن كيف نقول فيما يعيث في مدارسنا ومعاهدنا، وقد نشأنا على حب المداراة، وستر العيون،؟ إننا - إذن - في حاجة إلى شيء من الصراحة، كما أنا في حاجة إلى من يأخذ عنا غير غاضب ولا متسخط، ولقد عالج الأستاذ الفاضل مشكلتين: مشكلة ضعف الطلاب في القراءة، ومشكلة الضعف العام في اللغة العربية، وتكاد الأسباب تكون متداخلة، غير أن للضعف في القراءة أسباباً خاصة.

والذي نشاهده في معاهدنا، ومدارسنا، العالية، والمتوسطة هو عدم العناية بدروس المطالعة، وهذا الإهمال في درس المطالعة ليس مقصوراً على التلميذ، بل هو إهمال عام، فالإدارة والمدرس، والتلميذ، كلهم ينظرون إلى هذه المادة على أنها مادة إضافية، ولا يزال قاراً في الأذهان أن درس المطالعة هو درس (اللعب، والراحة) فنجد أن واضع الجدول يعطي هذه المادة لمدرس مادة أساسية، كالنحو أو البلاغة، وذلك لكي يستعين بها في إتمام دراسة مادته، وأن المدرس لا يعنيه من هذا الدرس إلا أن يستعين به في مادته، ولعل من أوضح الدلالة على الاستهانة بمادة المطالعة، إنا لا نجد طالباً يرسب فيها في الامتحانات العامة كأن كل الطلاب يقرءون صحيحاً، وأن المدرس الذي يعمد إلى إسقاط طالب يعد بين إخوانه وبين تلامذته من الثقلاء المتعجرفين، ويصبح مادة للتندر والتفكه، والتلميذ نفسه لا يكاد يحسب حساباً للامتحان في هذه المادة، لما ألقاه الزمن في نفسه من أن النجاح فيها

ص: 21

مضمون على كل حال. . . وإذا رجعنا إلى الدراسة نفسها وجدنا الإهمال فيها ظاهراً، فقليل من الطلاب بل أقل من القليل من يستحضر نسخة من الكتاب المقرر، بل إن بعضهم يكون الكتاب في يده ولكنه يكسل عن فتحه والمراجعة فيه، وكثير من المدرسين لا يزيدون في الدراسة عن القراءة العابرة - إذا قرءوا -، وإني لأذكر أنه كان مقرراً في الكليات التي تدرس اللغة العربية كتاب الأمالي لأبي على القالي، وكتاب الكامل للمبرد، وكتاب زهر الآداب للحصري، ومقدمة ابن خلدون، وأذكر مع ذلك أن ما قرئ من هذه الكتب لا يتجاوز مائة صفحة في أي سنة من السنوات، وفي أي فرقة من الفرق، وليس عجيباً بعد هذا أن نجد بعض المتخرجين لا يعرف شيئاً عن هذه الكتب إلا أنه حصل عليها من غير مقابل، بل لقد رأيت واحداً يبيع كتاباً منها فسألته لم يبيعه؟ فأجاب لأنه لا يفكر في أن يفتحه يوماً من الأيام! وهو الآن من المعدودين عند السادة الرؤساء!

وإذا تجاوزنا القول في المطالعة إلى القول في المحفوظات وجدنا الأمر أدهى وأمر، وذلك لأن في الطلاب انصرافاً غريباً عن الحفظ والاستظهار، على أن من يحفظ منهم لا يحفظ راغباً مستلذاً من منثور العرب ومنظومه، وإنما يحفظ ليدخل الامتحان وكفى!!.

حتى هؤلاء الذي يحفظون للامتحان قلة، وإنما الشأن في طلاب اليوم ترك الحفظ جملة وتفصيلا، وليس بعجيب أن تجد طالباً في المرحلة الأخيرة من الأقسام الثانوية وهو لا يكاد يقرأ ثلاثة أبيات تباعاً، وإني لأعرف صديقاً ينظم الشعر، وقد تخرَّج منذ سنوات وهو إلى الآن لا يستطيع أن ينشدك شيئاً من الشعر القديم!!

وكثيراً ما نصادف - في الامتحان - بعض طلاب لا يحفظون شيئاً أبداً، حتى إن بعض الممتحنين يتندر بهم قائلاً ألا تحفظ شيئاَ من المواليا أو الرجل؟! كما لاحظت أن بعضاً يحفظون قصيدة واحدة تظل معهم سنوات ينشد منها في الامتحان كل عام. . . ومع كل ذلك فلا تكاد تجد رسوباً في هذه المادة أيضاً، ومن الحق أن نذكر أن وزارة المعارف قررت كتباً لهذه المادة، ولكن الحق أيضاً أن نذكر أن عدداً قليلا جداً من يعني بالاستظهار والتفهم. .

وإن أكبر الضرر في هذا السوء الذي نشاهده في معاهد التعليم يرجع إلى اشتغال المتعلمين بالشئون العامة وإلى مصانعة الرؤساء لهم، واعتمادهم عليهم فيما يحاولون من أمور، فقد

ص: 22

أصبح الطلاب يعتقدون أن في يدهم الحل والعقد، وأنهم يستطيعون أن يقيموا وأن يقعدوا، وتراهم يتدخلون فيما يعنيهم وما لا يعنيهم

أنا لا ادعوا بطبيعة الحال إلى إبعاد الطلاب عن القضايا الوطنية الكبرى ولكن أدعو إلى أن يعرفوا حدودهم، ومدى ما ينبغي أن يتدخلوا فيه، وأن يكون للرؤساء ضمائر، وأعين بصيرة فلا يساعدونهم على الفوضى؛ ولا يستغلونهم في أغراضهم الشخصية، ولا يجعلونهم كالجماهير التي يقول فيها شاعرنا شوقي.

والجماهير مطايا المرتقى

للمعالي وجسور العابرين

فإذا انتظم الطلاب في دروسهم وجدوا دراسة ضحلة لا تفيد علماً، ولا تنتج أدباً، وقد ظهرت في السنوات الأخيرة (مودة) جديدة كانت أضر على العلم من كل ما منى به، فقد لجأ أكثر المدرسين إلى تلخيص الكتب، وما على المتعلم بعد ذلك إلا أن يحفظ هذه القواعد القليلة حتى يجوز الامتحان، وكفى الله المؤمنين القتال. . تلك حال نشاهدها في الأزهر ونشاهدها في وزارة المعارف، ونشاهدها في المدارس العالية، والكليات.

في المدارس الثانوية كتب لا بأس بها في البلاغة العربية ولكن أكثر المدرسين لا يدرسون هذه الكتب، بل يعطون تلاميذهم ملخصات في كراسات يحفظونها ولا يتذوقون شيئاً من دراسة البلاغة، وفي مدرسة عالية همها تخريج مدرسين للغة العربية يترك الطلاب كتاب الأشموني ليقرءوا ملخصاً له وضعه أحد الأساتذة كأنهم في مدرسة ابتدائية ثم هم يمتحنون في هذا المختصر، وليس الشأن في الأزهر بأحسن من هذا فقد هجر الطلاب الشروح والحواشي واعتمدوا على المختصرات، لينعموا بما فيها من ورق أبيض صقيل، ومن اختصار يساعد على الحفظ وعلى الامتحان.

نعم إن بعض الكتب في حاجة إلى التهذيب والتنقيح، ولكنه ليس هذا التهذيب الذي يخرجنا من شر ليوقعنا في شرور، وليس أجدى على اللسان من هذه الدراسة المتعمقة، وإن احتاجت إلى كثير من الجهد والوقت.

ولقد دلتني مشاهداتي على أن للدروس الخصوصية أثراً بالغاً في ضعف التلاميذ، فقد أصبح مفهوماً عند أولياء الأمور أن التعاقد على درس خصوصي معناه التعاقد على نجاح التلميذ، ولعل من الطريف أن أذكر أني كنت مع أحد المدرسين في المدارس الابتدائية يوماً

ص: 23

فجاءه تلميذ يساومه على درس فقال الأستاذ للتلميذ: قل لأبيك أين لا أضمن نجاحك ثم عد، فخرج التلميذ وقال لأبيه، ولكنه لم يعد!!

ومع هذا الضعف الظاهر في اللغة العربية نجد أن النتائج فيها حسنة، حتى أصبح التلاميذ لا يرهبون الامتحان فيها، وبالتالي لا يعطونها العناية الكفاية، وإذا تطرقنا إلى الامتحانات فإننا نذكر - مع المرارة العميقة - أنها فقدت رهبتها في بعض دور التعليم، وكيف لا؛ والنتيجة في بعضها - مع هذه الفوضى - تبلغ ثمانين في المائة؟

أما دراسة اللغات الأجنبية في المدارس فتنال أكبر قسط من العناية، ولا شك أن هذا سبب ظاهر في ضعف التلاميذ في اللغة العربية.

فليس عجيباً بعد كل هذا أن نرى المتخرجين ضعافاً، لا يكادون يقيمون ألسنتهم وأن نفقد فيهم النبوغ والعبقرية، وأن ننادي أولياء الأمور بأن الإصلاح في أيديهم وهم عليه قادرون، وأن الدعوى بأن اللغة العربية عسيرة تحتاج إلى تسهيل، ومعقدة تحتاج إلى تيسير، إنما هو هروب من الحقائق الدامغة التي لا يجهلها أحد ممن يتصلون بشئون التعليم.

لتكن العناية بدروس المطالعة هم المدرس والتلميذ وليكن الإشراف عليها إشرافاً صحيحاً حازماً، ولتعط ما هي جديرة به بين العلوم من جهد ووقت ورعاية، وليفهم كل تلميذ أن أول واجب عليه أن يقرأ قراءة مستقيمة، وأن اللغة العربية هي مجده ومجد آبائه، وليلزم التلاميذ في كل معاهد التعليم بقسط كبير من مأثور العرب يحفظه في كل عام، ويمتحن فيه، ويسأل التلميذ في الفرق العالية عما في محفوظه من أسرار بلاغية، ومزايا أدبية. .

وعلى الرؤساء أن يواجهوا الأمور بصرامة وحزم فيأخذوا البري بالمجرم حتى تستقيم قناة الجميع، ولا نكون متعنتين إذا طالبنا وزارة المعارف بأن تحرم الدروس الخصوصية على كل مدرسيها مهما كانت الأسباب الداعية لذلك، كما تطالب المدرسي بأن يدرسوا الكتب المقررة، وأن يزيدوا عليها، وأن يدعوا هذا التهوين من شأن اللغة العربية وآدابها. . . حينئذ نقف في أول الطريق لنمضي إلى الغاية، وسنبلغ الهدف إن أخلصنا لواجبنا، وراعينا حق الله والوطن واللغة في هؤلاء الأبناء.

على العماري

المدرس بالأزهر

ص: 24

‌حول جدل في الجامعة

قرأت اليوم وأنا بريف الشرقية حديثاً للأستاذ الفاضل (العباس) تحت عنوان (جدل في الجامعة)

ولما كان هذا الحديث يخصني لأنه يدور حول رسالة قدمتها كتبت هذا إليكم رجاء التفضل بنشر هذه الكلمة ليقف القراء على جلية الأمر وليعرفوا الخطأ من الصواب.

وقبل أن أبدأ الحديث ألفت الذهن إلى أنه ليس من الحق في شيء أن الأستاذ أحمد أمين قد عاب الرسالة لضعف في منهجها ولا لإنكار ما فيها من حقائق علمية، ولقد كان كل ما صنعه أن لفت ذهن الجامعة إلى أن مناقشة الرسالة قد تثير ضجيجاً لما فيها من أفكار وآراء.

يتلخص موقف الأستاذ أحمد أمين في هذه المسألة وهو في هذه يعتبر متضامناً مع الأستاذ الشايب ومن هنا يكون حديثي مع واحد منهما حديثاً مع الآخر.

وإذا كان الذي يهم الجمهور من هذه المسألة هي المسألة الدينية فقد قصرت حديثي عليها ليرى القراء أن ما قلته في الرسالة هو الذي يتفق مع الدين ويجري ومقاصده.

وأحب أن يعلم القراء أني قد التزمت في هذه الرسالة أمرين

الأول: - ألا أثبت حقيقة ينكرها الدين وسجلت ذلك في الرسالة حيث قلت في ص 21 ما نصه (وأعتقد أن من حقنا أن نقف وقفة قصيرة نشرح فيها هذه العلاقات لنقدر ما في القرآن من معان تاريخية تقديراً لا ينكره الدين) انتهى بنصه.

الثاني: - أني التزمت في استنباط ظواهر القصص القرآني طريقة الاستقراء ومن هنا كانت كل حقيقة أدبية أثبتها مستمدة من القرآن الكريم. ولقد سجلت ذلك أيضاً على نفسي حيث قلت في الرسالة ص 23 (والآن نستطيع أن ننتقل إلى الجو القرآني لنبحث ما في قصصه من أشياء تاريخية. وقبل البدء ننظر في اعتراض قد يستثار ذلك لأن ما قررناه من صلة بين التاريخ والقصة يعتمد على ظاهرات في القصص لوحظت حديثاً وقررت على أنها بعض التقاليد الأدبية التي تصور ما للقاص من حرية والقرآن أقدم من هذه الملاحظات للظواهر وهذه المقررات للتقاليد.

على أنها لو كانت قديمة لا تلزم القرآن في شيء إذ لكل قاص مذهبه وطريقته ولكل خالق حريته في الخلق والابتكار ولن يقرر ما في القرآن من قيم إلا واقع أدبي ألتزمه القرآن

ص: 26

نفسه أو على أقل تقدير حرص عليه وهو قول له وجاهته فيما نعتقد ثم هو يلزمنا أن نبحث طريقة القرآن من واقعه العملي).

وعلى هذين لا يتصور متصور أن يكون القصد من الرسالة الخروج على الدين أو القول بما ينكره.

ولقد قلت في الرسالة إن قصد القرآن من قصصه لم يكن إلا العبرة والعظة وليس منه مطلقاً تعليم التاريخ أو شرح حقائقه ومن المعروف دينياً ألا نستنتج من نص قرآني أمراً لم يقصد إليه القرآن.

على أن هذا القول قد قال به الأستاذ الإمام، وقد نقله عنه صاحب المنار في مواطن كثيرة من كتابه فقد جاء في الجزء التاسع ص 374 طبع سنة 1342هـ ما يأتي (إن الله تعالى أنزل القرآن هدى وموعظة، وجع قصص الرسل فيه عبرة وتذكرة لا تاريخ شعوب ومدائن ولا تحقيق وقائع ومواقع).

وجاء في الجزء الثاني ص 205 طبع سنة 1350هـ ما يأتي (فإن قيل إن التاريخ من العلوم التي يسهل على البشر تدوينها والاستغناء بها عن الوحي فلماذا كثر سرد الأخبار التاريخية في القرآن وكانت في التوراة أكثر؟

والجواب ليس في القرآن شيء من التاريخ من حيث هو قصص وأخبار للأمم أو البلاد لمعرفة أحوالها، وإنما هي الآيات والعبر تجلت في سياق الوقائع بين الرسل وأقوامهم لبيان سنن الله تعالى فيهم إنذاراً للكافرين بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وتثبيتاً لقلبه وقلوب المؤمنين به (وسترى ذلك في محله إن شاء الله تعالى) ولذلك لم تذكر قصة بترتيبها وتفاصيلها وإنما يذكر موضع العبرة فيها) انتهى بنصه.

على أن هذه المسألة قديمة ومن أجلها عد الأصوليون القصص القرآني من المتشابه. ولقد نتج عن ذلك طريقتان في التفسير طريقة السلف وطريقة الخلف.

أما الأولون فيذهبون إلى أن كل ما ورد في القصص القرآني من أحداث قد وقع.

وأما الآخرون فلا يلتزمون هذا وعلى طريقتهم جرى الأستاذ الإمام وهذا هو نص المنار في وصف هذه الطريقة عند تفسيره لقصة آدم من سورة البقرة.

(وأما تفسير الآيات على طريقة الخلف في التمثيل فيقال فيه إن القرآن كثيراً ما يصور

ص: 27

المعاني بالتعبير عنها بصيغة السؤال والجواب أو بأسلوب الحكاية لما في ذلك من البيان والتأثير فهو يدعو بها الأذهان إلى ما وراءَها من المعاني) ص 280 جـ1 طبع سنة 1346هـ.

ويمضي صاحب المنار في شرح هذه الحقيقة إلى أن يقول: قال الأستاذ الإمام ما مثاله. وتقرير التمثيل في القصة على هذا المذهب هكذا. إن إخبار الله الملائكة بجعل الإنسان خليفة في الأرض هو عبارة عن تهيئة الأرض وقوى هذا العالم وأرواحه. الخ القول إذا بأن بعض القصص القرآني قصص جيء بها لتمثيل المعاني قول معروف لدى رجال الدين وطريقة معروفة لدى المفسرين، وجرى عليها إمام من أئمة الدين هو الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده.

جريت أنا على هذه الطريقة يدفعني إليها غرض ديني هو تخليص القرآن من مطاعن الملاحدة والمستشرقين. وتفسير المسألة يرجع إلى أن هؤلاء يبحثون عن العلاقة بين القصص القرآني والتاريخ اتفاقاً واختلافاً وينتهون من ذلك إلى أن في القرآن أخطاء تاريخية.

أما موقفي فيتلخص في أنه الدراسة على هذا الأساس خاطئة لأن القصص القرآني لا يدرس على أساس أنه قد جاء لتعليم التاريخ أو شرح حقائقه وذلك حيث قلت في ص 5 (كما نجد المستشرقين يلجون من نفس الباب فيطعنون على النبي والقرآن حين يوردون بعض الاعتراضات وحين يذهبون في فهم القصص القرآني مذهب أصحاب التاريخ فيبتعدون بذلك عن المذهب الحق في فهمه وهو أنه قصص وقصص ديني يقصد منه غير ما يقصد من التاريخ.) مذهب الأستاذ إذا هو الذي يجنبنا كل هذه الأشياء ومن أجل هذا اعتمدته وجريت عليه.

ومن أجل هذا قد ينال القارئ العجب من أن يقف الأستاذان مني هذا الموقف. لكن للمسألة سراً قد يتضح لدى القارئ بعد قليل.

وتبقى بعد ذلك مسألة الأساطير.

وهي مسألة حلها القدماء من المفسرين وهو حل يجري مع ما يقول به الأستاذ الإمام في تفسير القصص القرآني.

ص: 28

لقد فهم الرازي ما يقول به المحدثون من الأدباء من أن الأسطورة أداة من أدوات التعبير لا تقصد لذاتها وإنما تقصد لما تمثله من المعاني وتدعو إليه من الأغراض وذلك حيث يقول عند تفسيره لقوله تعالى (بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله) من سورة يونس إذ قال (واعلم أن هذا الكلام يحتمل وجوها الأول أنهم كلما سمعوا شيئاً من القصص قالوا ليس في هذا الكتاب إلا أساطير الأولين ولم يعرفوا أن المقصود منها ليس هو نفس الحكاية بل أمور أخرى مغايرة لهما).

وهنا نحب أن نلفت الذهن إلى أن القرآن يعني من الأسطورة القصة التي لم ترد في الكتب السماوية السابقة عليه وليست بحال من الأحوال القصة التي لا أصل لها ولا القصة المخترعة ومن أجل هذا كانوا يقولون أساطير الأولين اكتتبها. أن لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين.

على أن المسألة كما وضحت في الرسالة تتفق وما قال به علماء أصول الفقه.

قال هؤلاء بأن في الأديان السماوية عناصر خالدة ثابتة لا تتغير بتغير الظروف والمناسبات وهذه هي التي بقيت في الإسلام.

وفيها عناصر تتغير بتغير الظروف والبيئات هي التي خالف فيها القرآن غيره من الديانات.

وقلت بأن المسألة الأدبية تجري على هذا الأساس. عناصر خالدة ثابتة كالأشخاص والأحداث وهذه قد بقيت في القصص القرآني كما كانت في قصص غيره من الكتب السماوية.

وعناصر يجوز عليها التغيير والتبديل كالمسائل التي يدور حولها الحوار.

وهذا هو الأمر الواضح تماماً من صنيع القرآن.

وأعتقد أن الأمر الذي وقع في الدين ليس من الغريب أن يقع مثله في القرآن.

هذه هي نظريتي في القصص وهي نظرية تعتمد على طريقة الخلف ومذهب الأستاذ الإمام.

وهذه هي نظريتي في الأساطير وهي تتفق وما ذهب إليه الرازي وتجري مع مذهب الأستاذ الإمام والمذهب الأدبي في أن الأسطورة أداة من أدوات التعبير. ثم هي على

ص: 29

التفسير الذي جرينا عليه تشبه إلى حد كبير التفسير الذي جرى عليه الفقهاء فيما يخص الأديان.

وليس من الحق في شيء أن نجيز في الدين ما لا نجيزه في الأدب مع أنه الأمر الذي قال به المفسرون وجروا عليه في تفسير القرآن.

المسألة لا تحتاج هذا الضجيج. لكنها العصبيات فأساتذة الجامعة يتعصبون ويحتزبون كما يتعصب ويتحزب رجال السياسة.

وإذا كان الأستاذ الخولي قد رفض رسالة الأستاذ المحاسني فيجب أن ترفض رسالة خلف الله.

هذه بعض مسائل الرسالة نشرتها لأنها تهم القراء أما ما بقى فستعلمونه في القريب العاجل إن شاء الله.

محمد أحمد خلف الله

ص: 30

‌مدى الثقة في هيئة الأمم المتحدة

(تتمة ما نشر في العدد الماضي)

وقامت الكتلة الشرقية بدورها بتطبيق مبادئ الميثاق خير تطبيق حين عرضت مسألة مصر وذكرت الكتلة الغربية بقولها السابق في مسألة إيران والذي يبدو أنها نسيته. ولعل القارئ يتساءل: لم عارضت الكتلة الغربية مطالب مصر مع وضوحها واتفاقها مع نصوص الميثاق. والجواب عن ذلك هو الخشية من ترك فراغ في مصر قد يمتد إليه النفوذ الروسي الزاحف إلى البحر الأبيض المتوسط.

وفي سبيل ذلكيضحي بالميثاق وترفض مطالب مصر العادلة. . وهذا أمر مؤسف حقاً يذكرنا تماماً بما كان يسود القرن التاسع عشر من سياسة توازن القوى ومناطق النفوذ. . . تلك السياسة الخرقاء التي سببت الحروب المتتالية والتي يخيل إلينا أنها ستكون سبباً لحرب ذرية في المستقبل.

ويمكننا ملاحظة الظاهرة المتقدمة في مسألة إندونيسيا، فقد صرح أحد السياسيين من الكتلة الغربية بأن السب في معارضة أمريكا وإنجلترا لمطالب إندونيسيا هو الخوف من تفشي روح القومية إذا المعتقد أن سكان المستعمرات - إذا ما استقلوا - لا يستطيعون دفع تيار الشيوعية وحدهم.

وكذا الأمر في مسألة اليونان. فالمعروف أن الكتلتين تتصارعان هناك بشكل واضح سافر. والإضرار والمشاكل التي تنتج من هذا التنافس يقع عبؤها كله على كاهل الأمة اليونانية المسكينة التي راحت تتمزق وتأكل بعضها بينما غيرها يتميز ليبتلعها. والعلاج في نظرنا هو أن تترك هذه الأمة مرة لا تعبث بها واحدة من الكتلتين ويقيننا أنها ستلم ما تبعثر منها، وتنهض فتضمد جراحها وتزيل ما كان على بصرها من غشاوة مصطنعة ثم تمضي حرة لتقرر مصيرها بنفسها. ثم إن المرء ليتساءل عن مصير معاهدات الصلح، فالحرب قد وضعت أوزارها منذ زمن طويل والصلح لم يعقد بعد: أليس هذا مما يرثي له؟ إن العجب في هذه الأعجوبة يزول حتما إذا ما أرجعنا العلة إلى هذا التنازع البغيض بين الكتلتين فحكومات الدول المهزومة لابد أن تكون على شكل معين حتى ترضي كلا من الطرفين ومستحيل أن يكون أساس كل من النظامين جد مختلف عن الآخر ثم يتفقان على أمر

ص: 31

معين.

وقد عرفنا الآن أن سياسة توازن القوى ما زالت باقية في ميدان السياسة الدولية وأنها ما زالت تنفث سمها القاتل في نواحي المعمورة مما يجعلنا نخش على هيئة الأمم من سريانه فيها فلا يتركها إلا جثة هامدة. . وبذلك تذهب كما ذهبت عصبة الأمم من قبل دليلا صارخاً على غباء البشرية وتأخرها في فهم المعاني الإنسانية إن سياسة توازن القوى هي سياسة الأقوياء من الدول وليس من الإنصاف أن تلقي وزر الكارثة كلها على عاتق هذه الدول بل إن للدول الصغيرة أيضاً نصيبها في ذلك وهو ما نسميه: سياسة التهاون أو عدم الاكتراث - وهو العامل الثاني الذي أشرنا إليه في بدء الحديث.

إن كل دولة عضو في هيئة الأمم لابد أن تحترم الميثاق وإن وجودها كعضو شاهد عليها بوجوب الرضوخ التام لأحكامها. ولكن الشواهد تدل كلها على عكس ذلك تماماً.

ففي الشكوى التي تقدمت بها حكومة الهند إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة تتهم فيها حكومة جنوب أفريقيا بمعاملة الرعايا الهنود معاملة تقوم على التفريق بين الأجناس وحرمانهم من التمتع بالحقوق المدنية والعامة. . دافع المرشال سمطس هذه التهمة عن حكومته بأن المسألة المعروضة تدخل في الاختصاص الداخلي لكل دولة، ومن ثَم فلا اختصاص للجمعية العامة في هذا الشأن وفقاً للمادة الثانية في فقرتها السابعة وبذلك غلب الناحية القانونية على الناحية السياسة وطلب إحالة الأمر للفصل فيه إلى محكمة العدل الدولية. . غير أن وجهة نظره لم تقبل داخل الجمعية. ذلك أن مندوبي الدول قد غلبوا الناحية السياسية على الناحية القانونية وأصدروا توصية لرفع القيود ومعاملة الهنود معاملة لا تقوم على التفريق. ولكن هل فقدت هذه التوصية؟

إن من المؤسف حقاً أن يكون المارشال سمطس هو الذي كتب بيده ديباجة الميثاق التي تعتز بكرامة الأفراد وأقدارهم وبالحقوق المتساوية للرجال والنساء على السواء. . ثم يكون هو أول الهادمين لها!.

ولكن أسفنا يبلغ أوجه حين نعلم أن توصية الجمعية العامة لم تنفذ هي أيضاً! وليس لهذا الأمر الخطير من سبب سوى التهاون وعدم الاكتراث بالميثاق والهيئة معاً.

على أن مسألة الشقيقة إندونيسيا مثلا واضحاً لهذا الهوان الذي يلاحق الميثاق. وقد أصدر

ص: 32

مجلس الأمن قراره بوقف القتال ولكن هولندا لم تذعن للمرة الأولى. فأصدر قراراً ثانياً. ولكن هيهات وما زال العالم ينتظر قراره الثالث. فما أبخسها من أوامر

ومهما كان الرأي فلن تكون سياسة التهاون وعدم الاكتراث هذه هي الأولى أو الأخيرة في نوعها. بل إن سوابقها جلية في عصبة الأمم السابقة. إذ أن إيطاليا قد ضربت عرض الحائط بميثاق العصبة واعتدت على أثيوبيا أشنع اعتداء وكان اعتداؤها بمثابة مسمار يدق في نعش العصبة التي تهاون أعضاؤها بدورهم في تطبيق الجزاءات الاقتصادية والسياسية المنصوص عليها.

ولقد انسحبت إيطاليا وألمانيا إثر ذلك وكونتا ما سمى في الحرب الأخيرة بدول المحور.

إننا نخشى أن يعاد تمثيل هذه المهزلة مرة أخرى فتنسحب بعض الدول من هيئة الأمم لسببين لا ثالث لهما: إما أن تكون دولا قوية تحس بأن الميثاق قيد يحد من أطماعها وهو لا يعدو أن يكون قيداً معنوياً ليس له القوة المادية التي تحسب لها ألف حساب.

فلم لا تفلت إذن من هذا القيد الأجوف الواهي؟. ولم لا تحطمه إن أبدى مقاومة؟

وإما أن تكون دولا ضعيفة خاب ظنها في عالم سعيد بجانب الميثاق فلم تجد بجانبه أمناً أو استقراراً بل أصابها ظلم وجور. . فأرادت أن تنطوي على نفسها وأن تعيش في عالمها وحدها كمن ينأى بنفسه عن جيرة السوء وصحبة الأشرار.

ولقد تردد في بعض الآونة أن مصر تريد أن تنسحب من الهيئة إن لم تقدر مطالبها حق قدرها. . وحق الانسحاب لم يمنع منعاً باتاً بل صار في ميثاق الهيئة (رخصة) لا تستعمل إلا في حدود معينة وعند قيام المسوغ لذلك، وقد كان هذا الحق مطلقاً كل الإطلاق في عصبة الأمم ومن مسوغات حق الانسحاب التي أوضحها مؤتمر سان فرنسيسكو ما يلي.

(إنه إذا أحست دولة من الدول في ظروف استثنائية ألا مناص لها من الانسحاب وإلقاء عبء حفظ السلم والأمن الدولي على عاتق الأعضاء الآخرين فليس مما يدخل في أغراض الهيئة أن ترغم مثل هذه الدولة على الاستمرار في هذا التعاون في داخل الهيئة ومن البديهي أنه لا مناص من انسحاب الدول بعضها إثر بعض أو من حل الهيئة بأية صورة أخرى إذا هي انتهى أمرها بأن خيبت آمال الإنسانية بأن تكون قد عجزت عن حفظ السلام أو بأن كان حفظها للسلام على حساب القانون والعدل).

ص: 33

ولا يفوتني في ختام هذا المقال أن أشير إلى نواحي نقص أخرى في الميثاق ولها أهمية عظمى تتعلق بحق الاعتراض (الفيتو) وبوليس الأمن الدولي. وقد تساعدنا الظروف فنتناولها بالبحث في مقال آخر إن شاء الله تعالى.

عبد الحميد عثمان عبد المجيد

ص: 34

‌3 - من ذكرياتي في بلاد النوبة:

في جنح الليل!

للأستاذ عبد الحفيظ أبو السعود

ألقت بنا الباخرة إلى مرفأ عنيبة، وسط ضجيج الحمالين، وصيحات الركاب، وضوضاء البحارة، الذين شرعوا بمساعدة الحمالين ينزلون أمتعتنا، وأمتعة فضيلة قاضي عنيبة المنقول من إسنا إلى هذه البلدة النائية، والبضائع الكثيرة المرسلة إلى المدرسة من خضر، وفاكهة، وبعض العُلب والصفائح المليئة بالمسلى وغيره، مما لا يكاد يوجد منه شيء في عنيبة، ويجلبه المتعهدون من أسوان وغيرها من بلاد الصعيد الوفيرة الخيرات. .

ولم نجد في الحمالين شهامة ونجدة، ونشاطاً وإسراعاً إلينا، كما نجد هذا في حمالي القاهرة أو مديريات الوجه البحري، وبعض مديريات الصعيد مما يلي القاهرة، حتى ليهرع إليك عدد من الحمالين قد لا يكون إليك حاجة بهم، ومع هذا يكاد كل منهم أن ينتزع أمتعك منك، ويحملها عنك. . . وإنما وجدنا فيهم تباطؤاً وكسلا، وتوانياً، جعلنا نصرخ فيهم، ونشتد معهم في المعاملة، ونقسو عليهم في القول، وهم يتهربون، ويتسللون لواذاً، وكأنما نريد أن نستغلهم استغلالا، وأخيراً قالوا لنا: دعوا أمتعتكم، واذهبوا إلى المدرسة، وسنوافيكم بعد مدة، عندما ترحل الباخرة. .!!

ونظر بعضنا إلى بعض نظرات ملؤها الدهش والعجب، والحيرة والارتباك، إذ كيف ندع أمتعتنا على الشاطئ بين فئة لا ندري من أمرها شيئاً؟! وكأنما زاد مخاوفنا ظلام الليل، الذي لم تجد أضواء الباخرة شيئاً، بل كانت هذه الأضواء مع قوتها ضعيفة واهنة، وكأنها أشعة خافتة لنجم كليل!! وكانت أمواج النيل الصاخب، تضطرب في عنف، وترتفع إلى حيث نقف مع الجموع المستقبلة للباخرة وتقبل منا الأقدام، في ثورة خانقة، وغيظ صارخ فتبلل أحذيتنا، ولكنا من فرط ما نحن فيه من دهشة وعجب واستغراب، لا نكاد نشعر بهذه الأمواء، ولا نحس لها أثراً؟!

وضاقت صدورنا. لأننا وقد أثقلتنا هذه الأحمال والأمتعة، لا نجد من يسرع في حملها حيث نريد. . وتطلعنا حوالينا، فلم نجد إلا النيل شرقاً، رحباً مخيفاً، والجبال غرباً، بشبحها المظلم القاتم، وكأنها حراس علينا، تشرع في وجوهنا أسلحة لا نطيق لها صبراً، ولا عليها

ص: 35

احتمالا، فيقينا هكذا مدة، ثم عارض بعضنا في هذا، وسكت البعض الآخر مقتنعاً بهذه المعارضة، ولكنا في النهاية لم نجد مناصاً من الرضوخ لهذه الرغبة، والنزول على هذه الإرادة مكرهين، فلقد اتجهت إلينا الأنظار متعجبة دهشة، وكأنها تقول: علامَ التشكك والارتباك، وعلام الخوف والاضطراب وهذه البلاد لا موضع فيها لخائن الأمانة، أو ناكث للعهد، أو خافر للذمة؟!! وكأنما كانت هذه النظرات ألسنة ناطقة، لا نظرات صامتة، فسرعان ما شعرنا جميعاً بالتخاذل والخجل، ومضينا إلى حيث نريد. .

سرنا على الميناء متجهين إلى المدرسة كما أشار لنا بعض الواقفين، وميناء عنيبة جسر ممدود إلى داخل النيل، نهايته على الشاطئ الأصلي للنيل، فإذا جاء الفيضان، وارتفعت مياه النيل خلف الخزان في نوفمبر تقريباً من كل عام، وجدت الميناء عبارة عن لسان طويل جداً، ممدود حوالي ثلاثمائة متر، وعرضه متران تقريباً، فإذا ما زاد الفيضان، غمر هذا اللسان، ورست البواخر على الشاطئ الجديد، الذي يظل الماء عنده إلى أوائل مايو، ثم يأخذ في الانحسار مرة أخرى حتى يصل إلى الشاطئ القديم، فيضيق النيل كثيراً. وحول الميناء شاهدنا بضع عوامات، وعلمنا أنها كلها تابعة لوزارة الأشغال (مصلحة الميكانيكا والكهربا)، وأن منها ما يستعمل كـ (عنبر) صغير به مضخات لرفع مياه الشرب من النيل إلى محطة الطلمبات الخاصة بهذه العملية في مستعمرة عنيبة. ومنها ما يستعمل كمنازل صغيرة لغير المتزوجين، ومنها ما يستعمل للصيانة، فيكون أشبه بمصنع صغير متنقل، وهذا لا يرسو في عنيبة دائماً، وإنما ينتقل بين محطات المركز كبلانة والدكة وغير ذلك.

كان الظلام حالكا، والسكون شاملا، ولم يكن هناك أثر لشعاع من النور، وخاصة وقد صفرت الباخرة، وأطفأت مصابيحها الأمامية (الكشافات) التي لا تضيئها إلا عندما تريد الإرساء في محاط المركز. . أما عندما تسير فلا تستطيع أن تنير هذه المصابيح، لأنها بانعكاسها على الماء، واضطراب صفحة الماء، تدع الربان لا يستطيع أن يتبين طريقه، ولا يعرف كيف يسير!

مضينا نضرب في الرمال على غير هدى، لا نكاد نرفع رجلا حتى تغوص أخرى، الأمر الذي أوهن قوانا، وأضف عزائمنا، فقطعنا المسافة من الميناء إلى المدرسة في ساعة ونصف تقريباً، بينا هي لا تتجاوز الألف متر.

ص: 36

وشعر كل منا بتقصير المدرسة في حقنا، فكان الواجب. يقضي بأن ترسل في انتظارنا أحد فراشيها، وهم كثر على ما سمعنا، كدليل على الأقل يكفينا مؤنة السؤال عن الطريق وسط هذا الظلام الحالك، الذي لم يجدنا معه السؤال شيئاً، إذ أن كل شخص نسأله لا يحرك ساكناً بل يكلمنا في هدوء وسكون وهو جالس دون مبالاة، مما جعلنا نغلظ القول لبعضهم، وكدنا نعتقد أن كل الأهلين على هذا الوضع من الخمول المعيب، والكسل الأليم.

ودفع هذا الوضع الشاذ بعض الزملاء إلى الصراخ وسط هذه الفلاة القاتمة، بألوان من السباب والغيط، والنقمة والثورة، ولكن الصوت كان يتردد صداه في وحشة مرهقة، وكأنما نحن نسير في مقبرة مهجورة تعبث فيها الجن، ومردة الشياطين فساداً وتنكيلا بالناس. .!!

وأخيراً وصلنا إلى المدرسة بعدما أرشدنا خفير المستشفى الذي اضطر لذلك اضطراراً حينما كدنا نضل الطريق نهائياً. . وفتحت لنا المدرسة أبوابها، وكنت لا تسمع فيها حركة ولا صوتاً، على الرغم من نوم التلاميذ، وكثرة عددهم، الذي يربي على خمسمائة تلميذ. واستقبلنا مشرفان فاضلان، وجدنا في سماحتهما ولطف حديثهما ما هوّن علينا ما قاسينا من مصاعب، في هذه السفرة الشاقة، والرحلة المضنية، وخاصة وأن أكبر مسافة قطعتها قبل أن أنقل إلى هذه البلاد، هي المسافة ما بين القاهرة والإسكندرية، والتي لا تتجاوز الأربع الساعات. .

وجال معنا المشرفان قليلا في أنحاء المدرسة، بالقدر الذي يسمح لنا بتعرف ما حولنا، ورؤية المكان الذي سنبيت فيه، لنكون على خبر به، وبينة من أمره وبخاصة ومعنا صبي صغير هو نجل أحد الزملاء، وقد سمع هذا الصبي عن عقارب عنيبة في الباخرة ما جعله ينكمش في نفسه طوال المدة، ولا يكاد يضع رجليه على الأرض، خشية أن يناله مكروه، فبقى شارد الطرف، حائر الفكر، مضطرب الشعور، لا تكاد تكلمه حتى تدرك مبلغ ما يعانيه من حيرة وارتباك. . . وكان الظلام ناشراً لواءه على المدرسة كذلك، وكانت هذه المصابيح الهوائية الضئيلة، تبعث الضوء خافتاً باهتاً، وكأنما هو خائف مضطرب، يخشى صولة الظلام القاهر، ووحشة الليل المخيف. . .

والمدرسة كما علمنا لا تضاء بهذه المصابيح الهوائية المنتشرة في كل ناحية من نواحيها، والتي تشتعل بزيت النفط، بل تضاء بالكهرباء فلها مولد كهربي خاص، إلا أنه يدور قبيل

ص: 37

الغروب من كل يوم، ويتوقف عن الإدارة في الحادية عشرة مساء، إلا إذا دعا الداعي، لأن يبقى مدة أطول، ساعة أو ساعتين حسب الحاجة إليه، بأن أقيمت في المدرسة حفلة للسمر، أو لتوديع بعض الزائرين، وانتظار الباخرة التي ستقلهم إلى الشلال، إذ أن ميعاد بعض البواخر وهي السريعة، الواحدة والنصف صباحاً، أو الثانية أحياناً، ولكن لابد للمسافر من أن ينتظرها ابتداء من الثانية عشرة أو قبل ذلك، فربما تدفعها الريح مسافة تتقدم بها ساعة أو ساعتين!! أقول وفي هذه الظروف تبقى الإنارة حتى تنتهي الحفلات، أو المناسبات، ثم تشعل المصابيح على الأثر. .

وما كاد يستقر بنا المقام، حتى جاء الحمالون، ومعهم أمتعتنا، يحملونها على الحمير النحيفة العجفاء، فكان هذا دليلا عملياً على ناطقاً بالأمانة الشاملة في هذه البلاد!

عبد الحفيظ أبو السعود

ص: 38

‌الأدب والفنّ في أسبُوع

(التيسير) بدار الكتب:

انتهز حضرة صاحب المعالي عبد الرزاق السنهوري باشا وزير المعارف، فرصة وجوده بأمريكا في وفد مصر إلى مجلس الأمن، فزار بعض الجامعات الأمريكية، واتصل بأساتذتها، وفاتح بعضهم في دعوتهم إلى زيارة مصر، فأبدوا ارتياحهم إلى ذلك، ووعد بأنه سيهتم عند عودته إلى مصر بتوجيه الدعوة الرسمية إليهم. وزار معاليه أيضاً مكتبة (الكونجرس) التي تعد أعظم مكتبة في العالم، وقد تحدث إلى مراسل الأهرام عن هذه المكتبة فقال:(تحوي هذه المكتبة سبعة ملايين مجلد، وقد أصبحت كعبة المنقبين والعلماء، وتهيئ لرواد الكتب من أسباب التيسير ما لا تهيئه لهم أية مكتبة أخرى في القارتين).

وليت معاليه يدعو بعض موظفي مكتبة (الكونجرس) لزيارة دار الكتب المصرية، ليقفوا على ما تهيئه لروادها من أسباب التيسير التي منها:(في الخارج) و (لدى الموظفين) و (في المطبعة) و (مفكوك) و (في المغارة) ويأتي أحد هذه الأسباب على (سند الاستعارة) إلى طلب الكتاب بعد وقت يدهش الأمريكي، الذي يعيش في عالم السرعة، للبراعة في تضييعه! ويظهر أن دار الكتب قد وصلت إليها عدوى (الأداة الحكومية) لا في البطء وحده بل كذلك في الوساطة والتوصيات، إذ أصبح من اللازم لكي تحصل على الكتاب المطلوب أن تستعين بصديق من موظفي الدار. . .

وبعض تلك الأسباب: (أسباب التيسير) عجيب، فقد طلبت كتاباً في أيام متباعدة، وفي كل مرة كانت تزحف إلى كلمة (مفكوك) على سند الاستعارة. . . فلم يظل مفكوكا؟ أما مسألة (المغارة) فهي أعجب العجب! فقد أودع هذه المغارة كثيرٌ من الكتب خوفاً عليها من الغارات الجوية، وانتهت الحرب، وأضيئت القاهرة، وأزيلت المخابئ وألقيت وزارة الوقاية. . . كل ذلك والكتب نائمة في (الكهف) وما تزال في سباتها!

ولكني أخشى، من حضور الأمريكيين إلى دار الكتب المصرية، أن يتحدثوا عن مصر عندما يعودون إلى بلادهم فيضموا موضوع (التيسير بدار الكتب) إلى (كرم الضيافة) و (الآثار القديمة) و (الشوارع الكبيرة التي جدت بالقاهرة) التي جرت على الإشادة بها من زار مصر قبلهم من الغربيين المجاملين، كأنهم لم يروا في هذه البلاد شيئاً يعجبهم غيرها!

ص: 39

كان وأخواتها:

هكذا سمي العدد الخاص الذي ظهر أخيراً من مجلة (الاثنين) وقال المحرر مقدماً هذا العدد: (إنه كان في النية أن يكون خاصاً (بكان) وأخواتها، فاحتجت (إن) وأخواتها، فلم يسع التحرير إلا إجابة طلباتهن).

وكانت إجابة تلك الطلبات أن جعل (لإن) وأخواتها ما (لكان) وأخواتها في هذا العدد من حق. . . هو أن يبدأ بكل منها أو يتضمنها عنوان موضوع من الموضوعات التي اعتادت المجلة أن تنشر أمثالها. . . ومن هذه العناوين (كنت أدخن السجاير اللف) و (إن مع العسر يسرا) و (لست ملاكا) و (بات على الرصيف).

وقد ذكر في هذا الصنيع بما كان يفعله كتاب العصور المتأخرة من استعمال الاصطلاحات النحوية في كتاباتهم وما كانوا يتجشمونه من الإتيان بكلام يتكون كله من الحروف المعجمة، أو يخلو من حروف معينة، وغير ذلك من ضروب الرياضيات الكلامية التي كانوا يتوفرون عليها لإظهار التمكن وإحراز السبق

ولا شك أن عدد (كان وأخواتها) بذل فيه جهد في اختيار العناوين المبتدئة والمتضمنة إحدى تلك الأدوات، ولكن ما محصل كل هذا؟!

على أن فيه غير العناوين جهداً آخر (ليته) لم يكن. . هو صفحة عنوانها (لكن في تاريخ البشرية) حوت وقائع من التاريخ تغير فيها مجرى الأمور وكانت (ولكن) نقطة التحول، مثال ذلك:(غزا الاسكندر أفريقيا وآسيا، وأصح سيد العالم وهو في شرخ الشباب وعنفوان الجمال، وأراد أن يجمع الشرق والغرب تحت تاج واحد، ويصهرهما في حضارة واحدة. . . ولكن. . . في يوم من أيام القيظ نزل الاسكندر للاستحمام في مياه نهر بارد، فأصابته حمى قضت على حياته).

وبقية الأمثلة على هذا النسق من حيث موقع (ولكن) فيها، وقد قدم لها كاتبها بأن (لكن) من أحرف العطف التي (تشرك ما بعدها في حكم ما قبلها). فلكن هنا - مع أنها قد تسللت إلى العدد الخاص (بكان) و (إن) وأخواتها - ليست من أحرف العطف، لأنها مسبوقة بالواو وداخلة على جملة، فهي حرف ابتداء، وهي لم تشرك ما بعدها في حكم ما قبلها.

وفي العدد مقال للأستاذ محمد توفيق دياب بك عنوانه (إن من البيان لسحراً) قال في

ص: 40

مفتتحه: (وأخذت في التروية والتفكير: إن من البيان لسحراً. . من عسى أن يكون قائلها الأول؟ وأجابت الذاكرة: إنه الرسول الكريم قالها إعجاباً بقصيدة إسلامية ألقاها بين يديه حسان بن ثابت).

والذي نعرفه أن الرسول الكريم قال هذه الحكمة لعمرو ابن الأهتم عندما علل مدحه الزبرقان بن بدر وذمه له في مجلس واحد لاختلاف الباعث - بقوله وقد رأى كراهة ذلك في وجه الرسول: (يا رسول الله، رضيت فقلت أحسن ما علمت، وغضبت فقلت أقبح ما عملت، وما كذبت في الأولى، ولقد صدقت في الثانية).

وساق الأستاذ دياب مثلا للبيان الساحر بعض قصيدة ابن الرومي التي رثى بها ولده (محمداً) من قوله:

توخى حمام الموت أوسط صبيتي

فلله كيف اختار واسطة العقد.

وقال الأستاذ: (وكان محمد ولده الأوسط بين أخوين)؛ وهو يريد أخذ خير أولاده، ولو كان المراد المتوسط بين أخوين، لكان الكلام تافهاً لا يليق بابن الرومي.

وقد عنيت بكل ذلك، لأن (الاثنين) مجلة منتشرة، وأحب ألا يستقر في الأذهان إلا الصحيح من مسائل اللغة والأدب.

موسم الأوبرا والفرق الأجنبية:

تعمل الآن الفرقة المصرية للتمثيل والموسيقى في إعداد رواية (الناصر) لتمثيلها على مسرح الأوبرا في مفتتح الموسم القادم، وقد ألف هذه المسرحية الأستاذ عزيز أباظة باشا تحقيقاً لرغبة ملكية سامية في أن يظهر على المسرح عصر من أزهى عصور العروبة والإسلام.

والعصر الذي تعرض الرواية صوراً منهن هو عصر العرب الذهبي بالأندلس، عصر عبد الرحمن الثالث الناصر لدين الله، ويقع في القرن العاشر الميلادي، أي في العصور الوسطى، إذ كانت أوربا يسودها الجهل والفوضى وكل مساوئ الحكم الإقطاعي، على حين كان الأندلس، في طرفها الجنوبي الغربي، قد سعدت بالعرب فازدهرت فيها العلوم والآداب والفنون، وانتشر العدل وعم الرخاء.

وتعاون وزارة المعارف ووزارة الشئون الاجتماعية الفرقة المصرية على إعداد هذه

ص: 41

المسرحية، لتهيئ لها أسباب النجاح، ولتظهر المجد العربي على المسرح في المظهر اللائق به.

وهذه الرواية فاتحة طيبة لموسم التمثيل بالأوبرا، نود أن تعقبها وتشغل الموسم كله في هذا العام مسرحيات عربية تمثلها الفرقة المصرية للتمثيل والموسيقى وبعض الفرق المصرية الراقية التي تشكو التعطل. أعني ما يأتي:

1 -

يطلب من الكتاب الذين عرفوا بالإجادة في التأليف المسرحي أن يغذوا المسرح بقصص تصور واقع حاضرنا وسالف مجدنا، وفي توجيه الطلب إليهم تقدير لهم يحفزهم على الإنتاج، ولا بأس بقبول الجيد مما يقدم من غيرهم، ويتكون من ذلك ومن بعض المسرحيات المصرية القديمة مواد (لتموين) الموسم.

2 -

تشغل الموسم كله في مسرح الأوبرا، الفرقة المصرية للتمثيل والموسيقى، وتدعى للعمل به كذلك الفرق الكبيرة التي عانت الكساد في السنوات الأخيرة، وكان المكان، أي المسرح، من أسباب هذا الكساد، فنهيئ لفرقنا مجال العمل، ولفننا فرصة الازدهار.

3 -

وعلى ذلك، ومراعاة للظروف السياسية التي نحن فيها، لا يكون ثمة أي داع لمجيء الفرق الأجنبية إلى هذه الديار في هذا العام على الأقل، وخصوصاً الفرق التي تأتي من بلاد الأعداء ومعاونيهم علينا، وحسبنا ما كان من (تمثيلهم) في مجلس الأمن. . . ولست أدري كيف لا تحول (قيود) الظروف الحاضرة (الصعبة) دون استيراد هؤلاء!

وما أحوجنا الآن في جهادنا الحالي إلى المبلغ الضخم الذي ينفق على الفرق الأجنبية لننتفع به في مساعدة الفرق المصرية بجزء منه وصرف الباقي لتقوية الجيش.

أما حضرات السادة ذوو الأذواق العالية التي لا يرضيها إلا الفن الغربي. . فيجب عليهم أن يعيشوا معنا، ويحسوا إحساسنا، ويصحبونا إلى مشاهدة تمثيلنا والاستماع بفننا.

وقد كنت أجعل المطلب الرابع تخفيض أسعار دخول الأوبرا، لتتاح الفرصة لأكبر عدد ممكن من طبقات الشعب - لولا أنني قرأت في إحدى المجلات أن ذلك قد تقرر فعلا.

توصيات المؤتمر في اللغة العربية:

أتيت في الأسبوع الماضي على أهم توصيات المؤتمر الثقافي، في التربية الوطنية، والجغرافية، والتاريخية. ولما كانت توصيات اللغة العربية لم تذع، فقد ظن أن المؤتمر لم

ص: 42

يتخذ قرارات في شأنها وقد أشرنا إلى ما ترمي إلينا من هذه الظنون

والواقع أن لجنة اللغة العربية كانت تأخرت في إعداد تقريرها، فترتب على ذلك تأخر طبعة عن جلسة المؤتمر الختامية، فتليت توصيات اللغة العربية من نسخة مكتوبة باليد، ووافق عليها المؤتمر كما وافق على توصيات المواد الاجتماعية التي كانت قد طبعت، فأرسلت الأخيرة إلى إدارة الصحافة بالجامعة العربية، فوزعتها على الصحف، ولم ترسل توصيات اللغة العربية من لبنان إلى حين كتابة هذا، ولعلها في الطريق

وقد اطلعت على نسخة مخطوطة من هذه التوصيات، وهي مفصلة شاملة لمناهج السنوات المختلفة بالتعليمين الابتدائي والثانوي في مواد اللغة العربية. ونقطف منها بعض التوصيات العامة فيما يلي:

افتتح تقرير لجنة اللغة والقواعد، بأن المؤتمر يرى أن قواعد اللغة العربية، من نحو وصرف وإملاء، تحتاج إلى تيسير وتبسيط يقربانها من مدارك الطلاب، على ألا يمس ذلك بحال من الأحوال جوهر اللغة.

وجاء في تقدير لجنة الأدب أن الغاية من التثقيف الأدبي في المرحلة الابتدائية تنشئة الطلاب على الأخلاق السامية والروح الوطنية والشعور العربي، مع تربية ذوقه الفني، وتنمية ملكة التعبير فيه، وتزويده بطائفة من المعلومات تزيد في ثقافته العامة.

وفي التعليم الثانوي يجب أن ينظر إلى الأدب نظرة واسعة، بحيث لا يكون مقصوراً على الشعر والنثر الفنيين، بل يتناول أيضاً الموضوعات الفكرية والعقلية المصوغة صياغة أدبية مثل مقدمة ابن خلدون ورحلات ابن جبير وابن بطوطة ورسالة حي ابن يقظان وبعض كتابات الغزالي وبعض قطع تاريخية من الطبري والفخري ونحو ذلك. وفي المرحلة الأولى من دراسة الأدب يكون الاعتماد على نصوص أكثرها من الأبد الحديث، وأقلها مما يقرب من هذه النصوص في السهولة من الأدب القديم.

ويكتفي من تاريخ الأدب في هذه المرحلة بما كان تعريفاً موجزاً بقائل القطعة وما كان لازماً لفهمها. وفي المرحلة الثانية تختار نصوص أدبية مرتبة حسب العصور من الجاهلي إلى الحديث، يراعى في اختيارها دلالتها على روح عصرها وتصويرها لخصائصه الفنية، مع مناسبتها لاستعداد الطالب وفهمه، وتكون دراسة الأدب مستمدة من هذه النصوص

ص: 43

ويرى المؤتمر أنه يجب ألا نتقيد في التعليم الثانوي بالبلاغة الشكلية النظرية، وأن نعود بالنقد إلى وظيفته الأساسية، وهي تذوق الأدب، وفهم نصوصه، وإدراك صوره ومعانيه، والقدرة على محاكاته. والطريق الطبيعي إلى ذلك هو العناية بالنصوص نفسها، وفهم المراد منها، ومناقشة أفكارها، وتبين ما فيها من جمال أو نقص، وتعرف ما بينها وبين شخصيات منشئيها من صلات ولاحظ المؤتمر أن تسمية الإنشاء باسم (التعبير) أفضل لما في هذا من توسيع لمدلوله، وخروج به عن دائرة الشكلية والتكلف، وتنبيه إلى نواح من النشاط تساعد على نمو الملكة المعبرة المبتكرة عند التلميذ.

ويوصى المؤتمر بأن يعطي للغة العربية - وهي عماد الثقافة القومية - أكبر مقدار ممكن من زمن الدراسة في مناهج التعليم.

ونكتفي الآن بهذا القدر، على أن نأتي في الأسبوع الآتي بما يراه المؤتمر من الطرق والوسائل لتوفير القدر المشترك من الثقافة العربية بين ناشئة العرب.

(العباس)

ص: 44

‌الكُتُبَ

عرض ونقد:

أخي إبراهيم

(تأليف الآنسة فدوى طوقان)

بقلم الأستاذ إبراهيم محمد نجا

هذا كتيب لطيف الحجم، جم الفائدة، كتبته الشاعرة النابهة الآنسة فدوى طوقان، عن أخيها شاعر فلسطين، وفقيد الشعر العربي الأستاذ إبراهيم طوقان. والذين قرؤوا رثاء الآنسة فدوى لأخيها إبراهيم، قد لمسوا من غير شك في هذا الرثاء مبلغ ما تكنه الآنسة لأخيها الشاعر من الإعجاب والتقدير، وعرفوا مقدار ما بينهما من ألفة الروح، وقرابة العاطفة، فوق ما بينهما من ألفة الأخوة، وقرابة الدم.

والذين يقرؤون هذا الكتيب يلمسون فيه كذلك كل هذه المعاني والمشاعر في صورة قوية واضحة؛ فقد شاءت الآنسة أن تصدر كتابها بهذه الأبيات الحزينة المتفجعة التي تصور الحزن والإعجاب معاً تصويراً قوياً مؤثراً:

أي لحون رعن سمع الزمن

بعثتها من نبضات الفؤاد؟!

أودعتها الروح تناجي الوطن

فيها، فتهتز الربا والوهاد!

ثم تراميت صريع الوهن

مخضب الروح، سليب الضماد!

وامتنع الشدو كأن لم يكن=وجذوة القلب استحالت رماد!

ثم أخذت تعرض صوراً من حياة أخيها في مراحلها المختلفة بأسلوب يستدر الدمع، ويستثير الشجون! وهي في أثناء ذلك تأتي بنماذج من شعره، لا تعرض لها بالنقد والملاحظة، وإنما تذكر دواعيها ومثيراتها، ثم تدع للقارئ أن يحكم عليها. أما هي فمعجبة بشعر أخيها كل الإعجاب، مؤثرة لشخصه كل الإيثار.

واشهد أني بعد أن قرأت هذا الكتاب - وفيه نماذج كثيرة من شعر إبراهيم - قد أصبحت أكن لهذا الشاعر من الإعجاب والتقدير مثل ما أكنه لكل شاعر موهوب. وما أندر أصحاب المواهب في هذا الزمان! وأصبحت كذلك أجد لفقده من الأسف والحسرة مثل ما أجد لفقد

ص: 45

الشابي والهمشري والتيجاني والمعلوف وبليبل وأمثالهم من الشعراء الذين فقدناهم، وهم في ريعان الشباب، ومعقد الأمل، ومناط الرجاء. وإن كان بعض هؤلاء لم أعرف عنه، ولم أقرأ له إلا بعد موته بسنوات.

ورأيي الصريح في إبراهيم أنه يمتاز في شعره بدقة الوصف، والإحاطة بالتفاصيل، دون أن يضطره ذلك إلى الإسفاف والتبذل في الألفاظ أو المعاني. وقد أعانته على ذلك قوة روحه الشاعرة، ووفرة ثروته الأدبية. كما يمتاز برقة الألفاظ في مواضع الرقة، وجزالتها في مواضع الجزالة، وجمال التخيل، وطرافة المعاني في كثير من القصائد.

وقد مهدت له براعته في الوصف سبيل البراعة في الشعر القصصي كما يظهر ذلك جلياً في قصيدته الرمزية القصصية الرائعة (مصرع بلبل). وفي يقيني أن إبراهيم لو مد في عمره لآتى بالمعجب المطرب في هذا الفن من فنون الشعر الحديث.

ولكنه في شعره الغزلي في حاجة إلى شيء من قوة الانفعال، وفورة العاطفة، فقد سيطرت على هذا الشعر رقة الشعور، ووداعة العاطفة، وهدوء النفس. ويبدو ذلك واضحاً في قصيدتيه (ملائكة الرحمة) و (في المكتبة). ولولا ما في هذا الشعر من براعة الوصف، وطرافة المعاني، وجمال الأسلوب، لما استحق إبراهيم أن يعد من شعراء الغزل في هذا العصر.

أما شعره في الوطنيات والموضوعيات - على حد تعبير الآنسة فدوى - فهو شعر قوي الألفاظ والمعاني على السواء، وإن كان بعض هذا الشعر تفوته جزالة الألفاظ، وفخامة الأسلوب، مثل قصيدته (الشاعر والمعلم) التي يقول في مطلعها:

شوقي يقول وما درى بمصيبتي

(قم للمعلم وفه التبجيلا)!

وقصيدته التي يقول في أولها:

أنتم المخلصون للوطنيهْ

أنتم الحاملون عبء القضيهْ

وقصيدته التي يقول فيها:

إن قلبي لبلادي

لا لحزب أو زعيم

ولست أدري لماذا تذكري هذه القصيدة بمقطوعة البارودي التي يقول فيها:

أنا في الشعر عريق

لم أرثه عن كلاله

ص: 46

كان إبراهيم خالي

فيه مشهور المقاله

وهناك فن من فنون الشعر لا أجد إبراهيم يفرده بالحديث، ويختصه بالقول، وإنما يلم به في قصائده إلماماً، ويعرض له عرضاً، ذلك هو تحليل النفس البشرية وسبر أغوارها، وتصوير حالتها المختلفة، وتجاربها المنوعة، مع أن هذا الفن من فنون الشعر أدل على عمق إحساس الشاعر، وكثرة تجاربه، وسعة أفقه، من غيره من فنون الشعر المختلفة. والشعراء بعد ذلك درجات في شعر الحالات النفسية، فمنهم من يقف عندما يخص نفساً دون نفس، أو طائفة من النفوس دون طائفة ومنهم من يوفق إلى ما يمس النفوس البشرية كلها في أحوالها المختلفة.

ولعل إبراهيم قد صرفه الحديث عن آلام وطنه عن تعمق النفس البشرية. وآلام الوطن لا تحتاج لإحساسها إلى التعمق والإستقصاء؛ لأنها تغلي في النفوس، وتجيش في الصدور، ولكنها في حاجة إلى من يحس تصويرها، والتعبير عنها، والتأثير بها. ومهما يكن من شيء، فإن إبراهيم طوقان موهبة من المواهب الفنية، يعظم فيها الرزء، ويجل عنها العزاء، ويعز فيها العوض.

وإذا كان لي بعد ذلك أن أدل الآنسة الفاضلة على شيء، فإنما أدلها على أنها قد عرضت حياة أخيها عرضاً موجزاً يوشك ألا يسمى ترجمة حياة. فإن كان ذلك ضرورة من ضرورات النشر، فهل لها أن تتناول هذه الحياة بمقالات تفصل فيها ما أجملت، وتوضح ما أبهمت، وتذكر ما لم تذكر؟!

وشيء آخر أحب أن أدل الآنسة عليه، هو أنها قد تركت بعض جوانب من حياة أخيها دون أن تعرضها، فعلت ذلك عن عمد وإصرار، كما يبدو من إهمالها الحديث عن (سيئات!) هذا الغرام الذي قام بين أخيها وبين فتاته أو فتاة الجامعة الأمريكية ببيروت، مع أنها لم تهمل الحديث عن حسنات هذا الغرام. . . حسناته الأدبية طبعاً!! ومع أنها ذكرت أن لهذا الغرام سيئات، ثم قالت:(أما السيئات، فليس هذا بموضع تدوينها)! لماذا؟ ألأن هذه (السيئات) سيئة إلى الحد الذي يجعل القلم الأنثوي يتصبب (مداداً!) حين يخوض في حديثها؟

على أن الذي أفهمه أن على الآنسة أن تكون مؤرخة في كتابتها قبل أن تكون شيئاً آخر، وأن التاريخ الأدبي يقتضيها إذا ذكرت ناحية من النواحي الظاهرة أو الخفية في حياة من

ص: 47

تكتب عنه، أن تقول فيها ما يغني وما يفيد. ومن يدري، فقد تكون النواحي الخفية في حياة الشاعر أدل على معرفة نفسه، وأبعث على فهم شعره من غيرها من النواحي الظاهرة.

وبعد، فالرأي أن الآنسة الفاضلة قد دلت بكتابها على أنها تملك موهبتي الشعر والنثر معاً؛ فقد أجادت في حديثها عن أخيها حديثاً ممتعاً حزيناً مؤثراً! وأجادت كذلك فيما اختارت له من النماذج الشعرية التي نثرت بعضها في أثناء الكتاب، وجعلت بعضها الآخر في آخره. فهل لها أن تعني بطبع ديوان أخيها إبراهيم طبعاً يليق به، ويروج له؟ إنها حين تفعل ذلك تقدم خدمة كبيرة، لا أقول لأخيها فحسب، وإنما أقول للشعر العربي أيضاً. رحم الله شاعر فلسطين إبراهيم طوقان، ومد في حياة فدوى طوقان شاعرة فلسطين.

إبراهيم محمد نجا

ص: 48

‌البَريدُ الأدبي

تفرعن، فرعون:

خمنت (الاثنان) الغراء في الجزء ذي الرقم (692) - 15 سبتمبر سنة 1947 - أن الفعل (تفرعن) هو من كلام العوام، فأنزلته في تضاعيف عباراتها في مقالة من مقالاتها وسط أقواس أربع أو أهلة معرفة قراءها بما فعلت أن المقام اقتضى استعمال هذا الفعل على عاميته مبالغة في التبيين واستقصاء، وإنها بحالة لعلمية. فإن كانت (الاثنان) خمنت ما خمنته أو استيقنته فلتعلم - غير مأمورة - أن (تفرعن) فعل صحيح فصيح وعربي بحت قد نجلته العربية من (الجزيرة) ولو وضعته في مصر أو في الشام أو في العراق أو في المغرب الأقصى ما أنكرناه ولتقبلناه بقبول حسن كما تقبلنا سواه، وهي العربية المتبحبحة المتصرفة في كلامها، ولها لأئمتها أن يتصرفوا ولا يقفوا. وإنه لما جاء (فرعون) اسمه إلى (الجزيرة) وتحدث الأقوام بما تحدثوا به اشتق منه (التفرعن) و (الفرعنة) ولم يسلم هو فراح (فرعون) عند العرب صفة صرفوه فيها ومنعوه علماً فـ (كل عادت متمرد فرعونٌ) كما في اللسان والتاج، وفي الأساس: (فيه فرعنة، قال: وقد يكون مرة ذا فرعنهْ.

وقد تفرعن علينا فلان، وما هو إلا فرعونٌ من الفراعنة، ومن المجاز: تفرعن البنات إذا طال وقوى).

وخير لغاته هي ما نطق بها (الكتاب) أي بكسر الفاء وفتح العين، وحكى ابن خالويه عن الفرّاء (فرعون) بضم العين وفتحها، وهي لغة نادرة كما في التاج.

والاشتقاق من أسماء الأعلام في الجاهلية والإسلام كثير.

وقد يغنى فعل أخذ من اسم عن كلام طويل، فمن ذلك ما أورده الإمام الزمخشري في (أساس البلاغة):(وتجاحظ فلان في كلامه) وما ذكره في شرح لإحدى مقاماته:

(ابن الفرات هو علي بن محمد بن الفرات وزير المقتدر، وكان كريماً سخياً سرياً يتبرمك في أيام وزارته).

وهذان الفعلان (تجاحظ وتبرمك) المأخوذان من ذبنك الاسمين فيهما من المعاني ما فيهما، والأمثلة من هذا القبيل جمة.

ذكرني (الاثنان وفرعون) بخبر في (روض الأخيار المنتخب من ربيع الأبرار) وبأبيات

ص: 49

لأمير الشعراء (أحمد شوقي) رحمه الله في قصيدة عظيمة عبقرية. جاء في الروض:

(حضر مجلس (الإمام) الأعمش قوم ليسمعوا الحديث، فقال: ما اليوم؟

فقال رجل منهم: الاثنين. فقال (الإمام) الأعمش: الإثنان، أرجعوا فأعربوا كلامكم ثم اطلبوا الحديث).

قال أمير الشعراء:

زمان الفرد يا (فرعون) ولى

ودالت دولة المتجبرينا

وأصبحت الرعاة بكل أرض

على حكم الرعية نازلينا

(فؤاد) أجل بالدستور دنيا

وأشرف منك بالإسلام دينا

السهمي

أدب العروبة في الميزان:

كانت الجولة الأخيرة للأستاذ على متولي صلاح بين دفتي الأثر القيم لجامعة أدباء العروبة تعقباً لآثار ثلاثة من شعرائها، كاتب هذه السطور، والأستاذين العوضي الوكيل وطاهر محمد أبى فاشا.

وأحب أن أناقش ما جاء في ثنايا مقاله من هنات أخذها عليَّ مشكوراً في رفق وهوادة.

يقول الأستاذ (أما أن يترك الشاعر الموضوع الأصلي إلى الحديث عن نفسه وعن عاطفته في أمر لا علاقة للموضوع به فذلك ما نأخذه على الشاعر). وقد استشهد على ذلك بقصيدتي في الفيوم، قائلا إنني لم أسق (من تاريخها الحافل أو ماضيها المجيد شيئاً) وإنني (سردت على الناس قصة غرام شخصي في غزل أخاطب به حبيبة بعينها). .

أما أنني جانبت الموضوع في مهرجان الفيوم فهذا ما يصعب أن أوافقه عليه. .

فإن موضوع الفيوم متعدد الجوانب، متشعب الاتجاهات. (والتاريخ الحافل والماضي المجيد) أحد هذه الجوانب. ورياض الفيوم وجناتها مضطرب واسع الخيال الشاعر. .

وما الذي يزعجك يا سيدي من أن يتكفل النثر (بالجانب التاريخي الحافل والماضي المجيد) تاركا للشعر أن يصور جمال الطبيعة في الفيوم، وأنا أحيل الأستاذ متولي على قصيدتي مرة أخرى ليقتنع بأنني لم أشذ قيد أنملة عند تناول الموضوع من هذه الناحية.

ص: 50

أما عن قصيدتي في المنصورة، فالمنصورة كما يسميها أستاذنا الكبير الزيات صاحب الرسالة بلد السحر والفتنة والجمال فلا تثريب على الشاعر من أن يتأثر بهذه الأجواء الساحرة الفاتنة على أنني لم أفرط في قصيدة المنصورة في الاستطراد في ذكر (الناحية التاريخية والماضي المجيد).

ثم ليسمح لي الأستاذ أن أتحداه في غير هاتين القصيدتين وموضوعهما من الشعر كما قدمت - أن يذكر بيتاً واحداً خارجاً عن الموضوع في سائر القصائد الأخرى في الكتاب.

أما أنني أتغزل في حبيبة بعينها، فليتفضل الأستاذ بمراجعة ما تحت يده من دواوين الشعراء في عصور الأدب العربي وأنا الزعيم له بأنه سيجدهم جميعاً مفهومين جداً وهم يتغزلون في واحدة بعينها وأن الأدب العربي لم يسجل عليهم في هذا الصدد عيباً أو نقيصة. أما بقية المآخذ فسأجمل الرد عليها إجمالا.

فعدم علم الأستاذ بكيفية نثر الطيور للأزهار فوق الروابي فلست مسئولا عنه فقد رأيتها بعيني رأسي وعليه أن يغشى إحدى جنات المنصورة ليرى ما رأيت أما أن كلمة أنس الأماني عامية ولا معنى لها فحينما يحرمه الله تحقيق أمنية له - لا قدر - ثم يشاء له تحقيقها حينئذ سيستشعر أنس هذه الأمنية لقلبه وعواطفه - أما أن البيت:

أقضي الليالي أنات مرددة

والشاهدان عليَّ النجم والسهد

لا يكون السهد شاهداً مع النجم وهي حالة يعانيها من كتبت عليه المحنة فلم لا تكون هذه الحالة نفسها شاهداً؟

أما المفاضلة بين (غزالة) و (بغداد) وبين (الدسوقي) و (الرشيد) فقد فهمها منهما غريباً لا يتسق مع ما ترمي إليه الأبيات من تشبيه يلتقي فيه البلدان والرجلان عند هدف التمجيد والتكريم والإشادة بمن يعمل على رفع شأن الأدب ورعاية الشعر.

أما أن كلمة (ملياً) في البيت:

يا لواء الفاروق عشت مليا

نحن نفدي لواءه المقصودا

كان الأولى أن يكون موضعها (دواما) لأن معنى الأولى الزمن الطويل بدليل الآية (واهجرني مليا) فلعل الأستاذ يوافقني على أن كلمة (مليا) تنساق في الجرس أكثر من (دواما) والزمن الطويل لا تلتمس له النهاية التي حددها الأستاذ متولي،

ص: 51

أما المأخذان الأخيران في عم تأتي حر العطش من الري العذب في البيت:

فاسقنيها في ربيع الزمن

خمرة من ريها العذب أوامي

وعدم تصور حباء اللذع وأنه لا يكون إلا في الخير لا في اللذع البيت:

قلبي الذي بات يصلي منك جمرته

وقد حبته بلذع دونه سقر

فحر العطش يتأتى من الري العذب من هذه الخمرة التي تغري دائماً بالعلل والنهل فكلما روى الشارب ظمئ.

أما أن العطاء لا يكون في اللذع فلذع القلوب واكتواؤها بنار الحب شيء يلذ العاشقين يتمنونه ويغرمون به.

بقى أن أعقب على مآخذ للأستاذ الناقد على نتاج الجامعة الذي يقول أنه ضئيل ويسير وهو مأخذ يدعو إلى الدهشة والعجب فما الذي كان يتوقعه الأستاذ من مجهود للجامعة أضخم من هذا في عامها الأول فقد افتتحت الجامعة فروعاً عدة في مختلف أنحاء القطر شهدتها جموع كثيرة وأذاعها الأثير على سائر أقطار الشرق والعروبة ثم أخرجت الجامعة للناس كتاباً قيما يضم الرائع من الشعر والنفيس من النثر للأساتذة العقاد، ناجي، غنيم، رامي الخ.

أما اقتراح الأساتذة على معالي رئيس الجامعة في تعديل تشكيل هذه الجامعة وإقصاء بعض القائمين بأمر الدعاية والعمل لها، فقد أعلن معالي الرئيس غير مرة أن هؤلاء القائمين بالنشاط الموفور لخدمة الجامعة ليسوا من كبار الكتاب أو الشعراء في البلد وإنما هم أناس قدموا أنفسهم وأوقاتهم لخدمة الجامعة ونشر أغراضها ومبادئها مستمدين العون من قادة الفكر والبيان في مصر وسائر أقطار العروبة.

أحمد عبد المجيد الغزالي

ص: 52

‌القصصُ

قصة مصرية:

أحزان غالية

للأستاذ نصري عطا الله سوس

(. . كان لها قلب، وكان قلبها)

(المتمسك بالحياة سر ما تعانيه من عذاب)

كان الصمت الموحش الرهيب يخيم على قاعة المسرح المزدحمة بالجماهير التي توافدت لرؤية رواية (المنبوذ) في ليلتها الأولى، وكان الجميع يتتبعون التمثيل بشغف واهتمام وقد ارتسمت على وجوههم أروع العواطف وأعمق الانفعالات. . .

ولم يكد يهبط الستار على الفصل الأخير وتضاء الأنوار حتى بدد وحشة الصمت دوي الهتاف والتصفيق الذي تجاوبت به أنحاء القاعة الواسعة، وارتفع الستار مرة أخرى وقدم الممثلون للجمهور فروض الشكر والامتنان، ثم هبط الستار مرة ثانية، ولكن حماسة الجمهور لم تفتر بل ظل يهتف ويصفق في نشوة وذهول كأنه يأبى الرجوع إلى عالم الواقع الذي انتزعته منه تلك المسرحية الرائعة ساعات خالدات. . .

ولم تقل نشوة الممثلين، وموظفي المسرح، ومؤلف الرواية نفسه عن نشوة الجمهور، فلم يكن بين كل أولئك من يقدر لهذه المسرحية التي تردد مدير الفرقة كثيراً في قبولها مثل هذا النجاح النادر في تاريخ المسرح كله، نعم. إن شهرة المؤلف ومكانة الممثلين لا يتطرق إليهما شك ولكن المشكلة التي عالجها المؤلف في مسرحية أعلى من مدارك الغالبية من رواد المسرح؛ والحديث الذي أجراء على ألسنة أبطالها أقرب إلى حديث الفلاسفة والشعراء منه إلى حديث عامة الناس، كما أنه هاجم أفكارا وعقائد باطلة لها على نفوس العامة سلطان كبير وإن كان لا يشك أحد في تفاهتها وسخفها ولقد جازف مدير الفرقة بقبول الرواية للتمثيل معتمداً على ما تتمتع فرقته من ثقة وسمعة طيبة وتفنن في الإعلان المغري عنها رواح ينتظر النتيجة. . . ونجحت الرواية في ليلتها الأولى نجاحا فاق كل حسبان وتقدير.

ص: 53

ولم تنجح الرواية لقوة موضوعها وكفاءة ممثليها بقدر ما نجحت لأن امرأة شقية كانت تقوم بدور بطلة الرواية.

ووفقت في أداء دورنها توفيقاً كاد يرقى إلى مستوى الإعجاز ولم تكن (سميرة) من الممثلات البارزات فقد قضت في دنيا المسرح أكثر من خمس سنوات وفي العام الأخير فقط بدأ المخرج يثق فيها بعض الشيء ويسند إليها بعض الأدوار الهامة.

ولكن سميرة في تلك الليلة التي قامت فيها بدور البطولة في رواية (المنبود) لم تكن نفس الممثلة التي عرفها رجال المسرح أو رواده خلال خمس سنوات! من كان يصدق أن المرأة التي مثلت دور (نبيلة) هي نفسها ذات المرأة المحتشمة الصموت التي ألف الكل رؤيتها في أوقات فراغها منتحية ركنا قصيا تدخن سيجارتها في وحدة وهدوء. أجل، لم يكن هناك من يصدق أن تنقلب سميرة التي يعرف الكل مستوى تمثيلها إلى شعلة من نار تعدى كل من اشترك معها في التمثيل بالحرارة واللهب. . لقد كانت بمثابة القلب الحار الجياش بالدم الذي يمد بقية الجسم بالوقود اللازم للحركة والحياة.

والسر في ذلك لم تكن تعرفه إلا سميرة وحدها، إنها لم تمثل في تلك الليلة دورا على خشبة المسرح، بل كانت تعيش، كانت تحترق. وانتهت الرواية وأسدل الستار، وانسلت سميرة إلى غرفتها لتستريح ولم تمض دقائق حتى أندفع المؤلف إلى غرفتها وأحتضنها في حرارة وقبلها مهنئاً فراعه برودة شفتيها وشدة اضطرابها، وبعد لحظات أقبل مدير الفرقة وهو يصيح في طرب:

- إني أهنئ كل منكما بالآخر. . إن روايتك يا أستاذ لن تعيش إلا مقترنة باسم سميرة، وسميرة لم ترتق إلى هذا المستوى العالي إلى على أجنحة روايتك. . ونظر إليها في غبطة فأذهله شحوب وجهها وما ينطق به من ألم. . .

أما سميرة نفسها فقد كانت في دنيا أخرى، كانت ذاهلة عن نجاحها وعن كلمات الإعجاب والتقدير التي تنهال عليها، وعن حفاوة الجمهور ومقدار تأثره. ولقد بذلت كل ما في طاقتها لإخفاء ما بها عمن حولها ففشلت، وحملوها إلى دارها وهي ترتعش كالمحموم.

وفي الصباح لم تقو على مبارحة فراشها. . وأرسلت تستدعي طبيباً

وفحصها الطبيب فحصاً دقيقاً ولكه لم يستطع أن يهتدي إلى علة يعزى إليها شحوبها

ص: 54

وهزالها. . . ولكن وجه المريض يعترف دائماً للطبيب الماهر بكل الأسرار التي يجتهد صاحبه في إخفائها، واستطاع الطبيب الذي عاد سميرة أن يفهم أن سر علتها لا يكمن في جسرها: إن أعصابها المنهوكة المستنزفة، وحسرتها الذائبة في عينيها، وأحزانها الراقدة في أطواء صوتها تنطق بأنها تضم ضلوعها على صراع عنيف أو فاجعة دامية لا تريد أن تبوح بها فلم يسعه إلا أن ينصحها بالراحة التامة والتروح إلى مكان آخر لتبديل الهواء، ووصف لها دواء للأعصاب.

وما أسهل إسداء النصح!! الراحة التامة؟؟ لقد بكت عندما سمعت هذه الكلمة، إنها في حاجة إلى الراحة حقا، ولكن أنى لها أن تنالها؟ إن الزمن حكم عليها بالشقاء وأمعن في إذلالها كأن بينه وبينها ثأراً لا ينقضي - والآن يأتي رجل غريب ويخبرها أن جسدها سليم ويفهمها في لباقة أنه يدرك أن هناك سراً يهز أعصابها هذه الهزات العنيفة ثم ينصحها بالراحة!!

وعلى فراش الأوجاع انفسح أمامها المجال للتأمل والتفكير، وطافت برأسها العاني ذكرى (المنبوذ) وكلمات الإعجاب وعاصفة التصفيق. . . وعلت وجهها ابتسامة شاحبة وأغمضت عينيها وراحت تتذكر. . .

أحقاً كانت تمثل دورا على خشبة المسرح؟ تتكلف العواطف وتتصنع البكاء، وتفتعل الحزن والألم والتنهدات. .؟ لقد فعلت ذلك مئات المرات، أما في تلك الليلة التي لن تنساها فقد كانت تعرض على الجمهور مأساتها الدامية وذكرياتها الحزينة وكانت في شبه غيوبة وهي على خشبة المسرح فقد استولت أحزانها وذكرياتها التي ظلت سنين حبيسة لا ترى النور على مشاعرها ولسانها وتدفقت الكلمات من فمها في ثورة وعنف حاملة في تضاعيفها لهباً وشواظا من أنون آلامها. . . ولم تعد سميرة ممثلة تتحكم في دورها بل امرأة شقية تتحكم فيها ثورة آلامها وتنطقها دون وعي بما يعتلج في صدرها ورأت بعينيها ذهول المشاهدين وسمعت بأذنيها الأنات والآهات وبكاء الباكيات فزاد تأثرها وانفعالها وتمثلت لها حياتها قاتمة الألوان دامية الجراح وأحست نحو نفسها بالشفقة والرثاء. . . فكان ما كان آه لو كانت تعرف من يحس نحوها ببعض ما تحسه هي نحو نفسها من شفقة ورثاء لما تألمت كل هذه الآلام، أو لو يقع لها في مستقبل أيامها ما وقع لتلك الفتاة التي مثلت دورها على

ص: 55

المسرح لشعرت ببعض العزاء وانتظرت في صبر وأمل

كانت حوادث الرواية تدور حول فتاة جنت عليها سذاجتها وطيبة قلبها، ظنت أن الشباب طريقا مفروشاً بالورد ولكنها لم تكن قد أدركت بعد أن الشوك يوجد دائماً حيث يكون الورد بألوانه الفاتنة المغرية. وأسلمها العبير فأغمضت عينيها واستسلمت للأحلام. . فجرفها التيار - وأفاقت فجأة لتجد أن ثمرة الغواية تنبض في أحشائها، وطاف بخيالها شبح الفتيات اللواتي يتخلص منهن ذويهن ذبحا واغتيالا فكانت صدمة هائلة لم تستطع بعدها ملاقاة أهلها فهامت على وجهها وذاقت صنوفاً من التشرد وعرفت ألواناً من الهوان. وفي دنيا المسرح ألقت عصا التسيار لتكسب قوتها بعرق جبينها. . . وأيقنت في قرارة نفسها أن تلك هي خاتمة المطاف: إنها ستظل تمثل وترقص وتعيش حياة الليل الآثمة حتى تنقضي أيامها

لقد أيقنت بعد التجارب المرة أن الرجال ذئاب وأنهم لا يرون فيها إلا متعة ساعة وسلعه يتداولها كل من يستطيع أن يدفع الثمن فعافتهم نفسها وكرهت جسدها الحار المغري الذي كان يجذبهم نحوها فتمنحه لهم كارهة وقبلها يفيض بالعبودية والهوان - وكانت نفسها تتلوى ألماً وحزناً ولا تجد من تستطيع أن تفضي إليه ببعض ما تحس. إن المجتمع لا يفرق، بل يدمغهن جميعاً بوصمة العار ويحكم عليهن بأن يعشن منبوذات شريدات طعمة للعار والنار. . . ولا يلاحقهن - في منفاهن - إلا طلاب المتعة العابرة، والأرقاء الذين يبيعون العمر وينفقون ثمنه في سوق الشهوات. . . وبرغم ذلك لم تيأس ولم تستنزف أوصابها كل ما في قلبها من طيبة وسذاجة بل كانت تتألم في صمت وتحلم في سكون بالحياة الهانئة الوادعة وعاشت على الأمل ومنه كانت تلتمس العزاء وتروي ينبوع الأحلام في قلبها.

ولم تكذب الأيام ظنها، فقد ساقت إليها يوماً شاباً من أولئك الذين لا يؤمنون بقوانين المجتمع ولا يعبئون كثيراً بعرفه وتقاليده واستطاع أن يستشف من وراء حياتها الصاخبة الصارخة الألوان صفاء قلبها الذي طهرته الآلام ووجد فيها المرأة التي يبحث عنا من زمن فاصطفاها لنفسه وحررها من بيئتها وماضيها وعاش معها كأسعد ما يكون إلفان، ضاربا عرض الحائط بسخط أهله ونقمة عشيرته وعارفيه. . . وأثبتت هي للجميع أن السماء لا توصد أبوابها في وجه تائب مهما اقترف من رذائل وشرور وأن كل آثام الأيام لا تستطيع

ص: 56

أن تخمد تلك الشرارة الإلهية التي تودعها العناية قلب كل بشري. . .

واعجبا لذلك الفتى الذي كتب هذه الرواية! هل استوحاها خياله أم كتب سيرة حياتها هي بعد أن استوحى الغيب وعرف ما يضمره لها الزمن في مستقبل أيامها. . . لقد ضمنها كل ما وقع لها، وعبر فهيا عن كل أشجانها وآلامها. وأمالها: لقد زلت (سميرة) كما زلت (نبيلة) بطلة الرواية وتشردت مثلها. . . وأصبحت ممثلة. . . ولكن السماء لم ترسل لها بعد ذلك الشاب الذي سينشلها من العذاب الذي تعيش فيه ويخلصها من الشرور والآثام التي عليها أن تقترفها كل ليلة لتعيش.

لقد قامت سميرة بدور (نبيلة) ومثلتها وقت سقوطها ومحنتها فعبرت عن مشاعرها وآلامها، ومثلتها السعادة فعبرت عن أمالها وأحلامها فهل تتحقق الأحلام كما تحققت الآلام؟

ياله من حلم ذهبي لم يتحقق إلا خيالا، لقد عاشت مع رجل أحلامها على خشبة المسرح ساعات وسمعته يصرخ في أهله عندما كانوا يحاولون ثنيه عن عزمه (نعم. . . لقد عاشت في تلك البيئة سنوات، ولكن ما ذنبها؟ لقد وقعت في الشرك مرة وقبض عليها صياد قاسي القلب وأبقاها في الأسر سنين فهل يمكن للسنين أن تنسيها حريتها؟ والآن وقد تحطمت أسلاك القفص الذي احتواها طويلا. . . فهي تتطلع نحو السماء في لهفة وفرح. . . ثم تنشر جناحاها وتتجه مسرعة نحو الحرية والنور. . .) ويطول الجدل معه فيضيق بهم ويصرخ فيهم. . . (لقد قلت لكم إني أحبها وهي أيضاً تحبني ولن أتخلى عنها. . . إن الحب معجزة أيها الناس يجعل المستحيل ممكناً. لا، لا، لست مخدوعا بل أنا موقن أنها عذراء القلب نقية الروح).

يا إلهي. . . أيها الغفور الرحيم، هل سترحمها وترسل لها رجلا مثله تراه بعينيها على مسرح الحياة؟ أم تطوي العمر وهي تنتظر؟

وقضت سميرة في فراشها أياماً طويلة كانت نفسها خلالها مسرحا لمختلف العواطف والانفعالات والأزمات. كانت تسترسل في البكاء ساعات طويلة حتى تقترح جفونها وتنام وتستيقظ والدموع على صفحة خديها.

وتسرب إلى قلبها اليأس والسخط على الحياة.

وأغراها السخط بالتمرد على القدر!

ص: 57

لم يقسو الزمن عليها كل هذه القسوة. . .؟ ألا تكفي سنوات طويلة من الآلام والعذاب كفارة عن خطيئة انساقت إليها دون وعي أو إرادة؟ آه. . . ماذا ينفع الندم الآن؟

وغاظها موقفها من نفسها: لقد ظلمها الزمن وغدر بها، فلم تضيف إلى ظلم الزمن لها ظلمها لنفسها؟ لم كل هذا البكاء والندم والألم؟ هل تستحق هذه كل هذا؟!

واختمرت في رأسها الفكرة وأرادت أن تثأر لنفسها. . .

وعندما غادرت فراشها لم تعد تحس أنها نفس المرأة التي مثلت دور (نبيلة) فبكت وأبكت. . .

الحياة البوهيمية الصاخبة، والكؤوس الترعة، والليالي الماجنة الحمراء تشفي الجراح التي استعصت على الزمن. .

وأدهش الناس تغيرها، ماذا جرى لهذه الفتاة المحتشمة الزرينة العازفة عن حياة الليل؟ لقد كانوا يضربون بعزة نفسها الأمثال فما بالها أصبحت يسيرة المنال على كل من يطمع فيها.!!

ونجحت سميرة وعلا نجمها

وسرعان ما اشتدت المنافسة عليها وكثرت العروض، وتشاحن عليها فرسان الليل، ولم تعد حياتها في الماضي إلا حلماً باهتا يطارده بريق الذهب الذي تلهو به الآن كما يلهو الأطفال برمال الشاطئ.

ها هي تنتقم من الرجال. إنهم يتملقون رغباتها ونزواتها وهي تلهو بعواطفهم وتدوس قلوبهم وتستنزف جيوبهم لتعيش عيشة البذخ والترف وظهر اسمها في الصحف وأخذت المجلات تتبع أخبارها وتنشر صورها وتتندر بأن ما تنفقه على كلبها المدلل السعيد يكفي عائلة متوسطة الحال. . .

هل تستطيع الحياة أن تمنح أكثر من كل هذا النعيم؟ ليتها عرفت منذ أن طرقت دنيا المسرح! لقد أضاعت خمس سنوات من عمرها في الندم والألم منزوية في ركن مظلم وموكب الحياة يمر بها وهي عازفة عنه كأنه لا يفتنها أو يشيرها.

ودارت عجلة الزمن دورات وسميرة مندفعة في تيار اللهو الصاخب اندفاعا لم يقو على وقفه ما كان يعتريها أحياناً من ثورة وتمرد وبغضاء للرجال، لقد كانت منذ مرضها ذاهلة

ص: 58

عن نفسها وكانت أعصابها تحت تأثير مخدر قوي هو الرغبة في الثأر لنفسها.

ولكن روح القلق التي كانت تستبد أحياناً تغلبت في النهاية وعادت أيامها نهباً للأسى والوجوم من جديد. إن الحزن يعصر قلبها عصراً وتحن إلى الدموع فلا تسعفها الدموع وتحاول أن تغرق همومها كما اعتادت في اللهو والصخب ولكن همومها تعلمت العناد وهزمتها في النهاية! إنها تحس الآن ما يحسه الشريد الضال الذي يهيم على وجهه في الصحراء يبحث عن ذعر عن شيء يهتدي به فلا يجد، فتزداد روحها وحشة وكآبة وضيقاً بالحياة.

والأمر الذي زادها ضيقاً وألماً عجزها عن أداء أدوارها على المسرح أداء طيباً، فقد كانت تروح وتجيء على المسرح كأنها دمية خشبية تنطق بألفاظ لا تحسها ولا تفهم لها معنى وأصبحت حياتها على المسرح كحياتها الواقعية باهتة الألوان مضطربة الظلال وبدأ صاحب الفرقة يتنكر لها فازداد طبعها حدة فكانت تثور لأتفه الأسباب وتصب شتائمها على رؤوس الناس دون حساب.

وهالها ما صار إليه أمرها، ورأت بعينيها الهوة التي تكاد تنفغر تحت قدميها وسألت نفسها: إنها تحيا هذه الحياة المتشابهة في ظواهرها ووقائعها من سنوات فما الذي ضاعف بؤسها هذه الأيام؟؟ ولم تجهد نفسها كثيراً لتجد الإجابة على هذا السؤال! لقد حاولت أن تقيم من حياة المجون سداً بينها وبين آلامها ولكن المجون لم يزدها إلا شقاء وآلاماً.

وعافت حياة المجون مرة أخرى، وتلفتت إلى الوراء لتلقي نظرة على الماضي ولكن طريق الرجوع لم يكن سهلا. . . كان عليها أن تعيش عيشة التهتك والاستهتار كي تستطيع أن تلبس وتسكر وتقامر حتى لا يقتلها السأم والملل. ولتهرب من مواجهة ضميرها، نعم ضميرها الذي بدأ يستيقظ ويزلزل كيانها.

وسارت في تيار الأيام كما تسير ورقة ذابلة على متن الأمواج شاعرة أن قلبها قد مات وأنها لم تعد تحزن وتثور وتفرح وتضحك من كل قلبها كما اعتادت أن تقعل، لقد طردت قلبها من عالم ذكرياتها وأوصدت دونه الباب آملة أن تجد له مستقراً أهنأ من عالم الذكرى والآلام ولكنه ظل شريداً هائماً كسفينة تائهة في مجاهل المحيطات، إنها لم تعد تملك من أمر نفسها شيئاً بل أصبحت أسيرة الحياة وعليها أن تعتش.

ص: 59

وعاشت. . . تكفن أيامها ولياليها في قبور مضيئة لامعة ضاحكة يتقاذفها عاملان: الحياة التي فرضت نفسها عليها، وروح السخط والاستنكار التي كانت تتسلط عليها أحياناً فتنتزعها من من حياتها وتستخلص منها ضريبة الألم والدموع.

وفي إحدى الليالي كانت كعادتها تلهو وتمرح وتعب الكأس بعد الكأس ولكن الذي يتفرس في وجهها كان يوقن أنها حزينة: كانت تحس بحنين غامض نحو شيء لا تدري كنهه وكانت عيناها الملبدتان بالأكدار تستنجدان بالدموع. . . وحاولت جهدها أن تقاوم فلم تستطع، وآثرت أن تنصرف إلى دارها مبكرة وحاولت تنام فلم تستطع.

وانسرقت روحها إلى الماضي وعاد إلى خاطرها ذكرى الليلة التي مثلت فيها دور (نبيلة) لأول مرة. . .

وأفاقت ذكرياتها لكن من غفوتها وبدت أمام عينيها أطياف الأمل التي كفت عن التفكير فيها منذ أمد طويل.

وحاولت أن تكتم شجونها فلم تستطع وانفجرت الدموع من مآقيها غزيرة طيعة، وأحسن تحو نفسها باحتقار هائل.

ولم تشعر كم مضى من الزمن وهي تبكي لأنها كانت تجد في البكاء لذة وسعادة ظلت محرومة منها طويلا. ودهشت عندما استيقظت في ظلام الليل كيف استولى عليها النعاس دون أن تشعر وهي جالسة على أريكتها تبكي. واستهواها الظلام والسكون فجلست تفكر وعادوها الشوق الجارف نحو شيء يهز حياتها هزاً عنيفاً ويستحوذ على قلبها وأيامها ولياليها ولا يترك لها وقتاً للتفكير في نفسها. . .

وساءلت نفسها: هل هي جديرة بأن تتمنى وتطمع في حياة الدعة والسلام بعد أن لطخت حياتها بالأوحال؟؟ كيف جاز لها أن تنسى قلبها؟ وكيف أباحت لنفسها ما أباحت وحجبت عن عينيها أنوار الأمل؟

لقد كانت آلامها منبع شجاها ونوحها، ولكنها طردتها من حياتها فطردت معها ثروة عمرها التي تسبع على حياتها أعمق الألوان وأصفاها. لقد كان الألم حقاً، ولكنه كان محراب روحها الذي فيه تتعبد وتوقد الشموع وتحرق البخور من دمها وأعصابها فتحس أن الأيام مازالت تحتفظ لها بنضارة قلبها ويقظة ضميرها، وما أغلاهما من ثروة.

ص: 60

وتاقت روحها إلى حياة الماضي، إلى العزلة والانطواء على النفس. إنها تود أن تفرغ من جديد لآلامها وآمالها تحتضنها وتمنحها دفء قلبها كما يحتضن الطائر فراخه الصغار.

وظلت تفكر وتحلم حتى باغتها النوم مرة أخرى.

ولم تستيقظ إلا قبيل الضحى. . .

وتأملت وجهها في المرآة فراعها انتفاخ عينيها واحمرارهما والألم الممض الذي تنطق به قسمات وجهها. ذلك الألم الذي ظنت إنها قد قطعت بينه وبينها كل السبل.

وتنفست هواء الصباح في ارتياح كأن ثقلا قد انزاح عن صدرها. . وكانت تحس - للمرة الأولى منذ مرضها - بما يحس التائه في الصحراء عندما تلوح له معالم العمران من بعيد.

(شبرا، مصر)

نصري عطا الله سوسن

ص: 61