الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 744
- بتاريخ: 06 - 10 - 1947
الهيضة بالهيضة تذكر:
من ذكريات الطفولة
كنت في الثالثة عشرة من عمري حين وفد على مصر وباء الهيضة في سنة 1902، وكانت قريتنا الصغيرة الفقيرة تنقل خُطاها الوئيدة في طريق الحياة وادعة بالأمن، ناعمة بالرضا، هانئة بالقناعة.
كان المرض قليلا ما يغشاها، فإذا غشيها غشِى الكهل الضعيف. وكان الموت كثيراً ما ينساها، فإذا ذكرها ذكر الشيخ الهرم. لذلك كان المرض لندرته مرهوب الاسم، وكان الموت لوحشته مهيب الصورة. فإذا مرض الصحيح تجمع القوم في منظرته أو على مصطبته، يؤانسونه ويمرضونه ويدعون له؛ وإذا مات المريض لبسوا الحداد عليه العام كله، فلا يلبسون الجديد، ولا يحلقون اللحى، ولا يأكلون الفسيح، ولا يصنعون الكعك، ولا يباشرون المضاجع.
وفي ذات ليلة من ليالي الصيف على ما أذكر، قيل إن لأسرة فلان قريباً غريباً علموا أنه مريض فذهبوا ليعودوه فعادوا به.
وهو يشكو مرضاً لم يشكه أحد من قبل: ظمأ لا ينقعه ماء، وقيء لا يمنعه دواء، وإسهال لا يقطعه شيء. وفي الصباح الباكر نعته الناعيات فأجمعت القرية على الحزن عليه، وأقبلت الجيرة على العزاء فيه، ورسموا المأتم أسبوعاً كالعادة. إلا أن ثلاثة من أسرة الفقيد مرضوا تلك المرضة، وماتوا تلك الموتة، فلم يقوضوا سرادق العزاء، حتى أتى على جميع الأسرة الفناء. وصحا الناس من دهشة الروع وذهول الفاجعة، فإذا كل غرفة فيها مريض، وإذا كان ساعة فيها جنازة! وهان الموت ورخصت الأموات، وإذا كل ساعة فيها جنازة! وهان الموت ورخصت الأموات، فلا يُعاد محتَضر، ولا يشيَّع ميت، ولا يُعزى حي. وقال فقهاء القرية إنه الهواء الأصفر الذي أهلك الله به عاداً الأولى فهيهات أن يعصم الناس منه بيوت مغْلقة، أو حصون معلّقة.
فاستكان القوم للقضاء، وصفت قلوبهم من الحقد، وعزفت نفوسهم عن الدنيا، وانصرف كل امرئ عن عمله في انتظار أجله.
كان الموت الوحِيُّ الذريع يخترم لِداتي في الحارة واحداً بعد واحد، فخلت الملاعب من
الأطفال، وأقفرت المكاتب من الصِّبية. وكان شوقي إلى بعضهم يدفعني إلى أن أزورهم خلسة، فأجد فيهم من يكابد هول الداء وحده، فلا أبوه يخفف عن كبده سعار العطش، ولا أمه تسمح عن ثوبه رجْع القيء! لقد شغل كل إنسان بنفسه عن غيره، ولها كل بيت بكبيره عن صغيره.
ولكن (زهرة) اليتيمة زينة الصبايا وبهجة الحارة كانت في السواد من قلب أختها، وفي السواد من عين أخيها. مرَّضتها الأخت حتى أخذتها سكرة الداء، ومرَّضها الأخ حتى غشيته غمرة الموت. وبقيت (زهرة) الجميلة وحدها تنتظر النهاية المحتومة في حجرتها الموحشة على حصيرتها الخشنة. وكانت عمتها العجوز تزورها الحين بعد الحين لترمقها من بعيد ثم تنصرف. وكنت أكنُّ لهذه الفتاة نوعاً من الحب المبهم يختلط فيه الإعجاب والحنان والعطف. وكان بيتنا يشرب الماء مغلي فلم يصب أحد منا بسوء، فظننت أن الدواء في هذا الماء، فحملت منه قلة ثم دخلت بها عليها.
فلما رأتني افترت شفتاها الذابلتان عن ابتسامتها الحلوة. وأشارت بطرفها إلى الماء فجرَّعتها منه جرعة. ثم جلست بجانبها أرنو إلى العينين الغائرتين وقد كانتا كعيني الرشأ، وإلى الوجنتين الشاحبتين وقد كانتا في حمرة الورد، وإلى الجسد الضارع المشفوف وقد كان في غضاضة السوسن. ثم وضعتُ القلة مرة أخرى على فمها الجاف فرشفت منها رشفة، ولكن الماء وقف في حلقها فلم تستطع أن تسيغه. ثم شخص بصرها، وحشرج صدرها، وأخذها فواق ضعيف، ثم لفها سكون شامل!
لا أزال أذكر هذا المنظر المروع وأتمثله كأنه وقع أمس! ولا أزال أذكر أن تياراً من الرعب قد اعتراني، فعقل يدي وعقد لساني، فخرجت من الحجرة هارباً بنفسي لا ألوي على شيء، ولا أخبر أحداً بشيء!
وا حسرتا على قريتي الصغيرة الفقيرة! لقد جثم على صدرها الموت المائت حتى ختم على أكثر الدور، ونقل نصف أهليها من الدور إلى القبور!
كانت حالنا يومئذ غير حالنا اليوم؛ فلم يكن هناك مصل يفي، ولا علاج يشفي، ولا حكومة تطارد الوباء وتحصره، ولا أمة تتبع النظام الصحي وتنشره.
أحمد حسن الزيات
لا هَوَادة بعد اليوم
للأستاذ محمود محمد شاكر
لا يحلل لعربي منذ اليوم أن يرفع يده عن سلاح يعده لقتال عدو قد أحاطت به جيوشه من كل ناحية ولا يحل لعربي منذ اليوم أن يدع ثغرة من ثغور العدى إلا سدها بنفسه أو ولده أو صديقه. ولا يحل لعربي منذ اليوم أن يضع عن عاتقه عبء الكد والكدح التماساً للراحة أو الدعة. ولا يحل لعربي منذ اليوم أن يتواكل ويقول لنفسه: لقد تعبت، وما يضرني أن أترك هذا لفلان فهو كافيه. ولا يحل لعربي منذ اليوم أن يقول: غداً أفعل ما حقه أن يفعل اليوم. ولا يحل لعربي منذ اليوم أن يخدع نفسه عن حرب دائرة الرحى بيننا وبين اليهود وأشياعهم من أمم الأرض. ولا يحل لعربي منذ اليوم أن يكتم الحق عن أهله أو عن عدوه، ويقول هذه سياسة وكياسة وترفق. ولا يحل لعربي منذ اليوم أن يمالئ قوماً يكاشفونه بالعداوة والبغضاء ونذالة الأخلاق. ولا يحل لعربي منذ اليوم أن يقبل من رجال السياسة تأجيل شيء من قضايا العرب، فهي كل مترابط لا ينفك منها شيء عن شيء.
لقد عرف كل عربي وكل مسلم على ظهر هذه الأرض ما آلت إليه القضية المصرية السودانية في مجلس الأمن، وعرف كل عربي وكل مسلم ما صارت إليه قضية فلسطين في الجمعية العمومية لهيئة الأمم المتحدة فهل بقي بعد هذا مجال لناظر حتى يقول: سوف أحتال بالسياسة حتى أنال ما هو حق لي؟!
إن بريطانيا وأمريكا وسائر الدول التي تدير لهما الساقية، قد كشفت عن طواياها بما لا يدع لأحد علة يتعلل بها أو يتشبث، فقد قالوا الكلمة الصريحة الواضحة بأنهم عدوٌّ لنا وحرب علينا، وأنهم يبغون أن يحطموا هذا الجيل العربي، وأن يسلطوا على رقابه أنذال اليهود وأوباش الاستعمار، وأنهم يعتقدون أننا قوم لا نصلح لأن نحكم أنفسنا بأنفسنا، أو أننا أمم قصَّر لم نبلغ رشدنا ولا يظن بنا بلوغ الرشد. فهذا ترجمة موقف الدول المعادية حيال قضية مصر والسودان وحيال قضية فلسطين.
وسر هذه العداوة - ولا نكتم الحق - هو أن أوربة وأمريكا جميعاً لا يزالون يعيشون في أنفسهم إذا ذكر العرب، في أحقاد صليبية لم تستطع المدنية ولا استطاع العلم، ولا استطاعت سهولة المواصلات، ولا استطاعت كثرة الهجرة والرحلة، أن تنفيها عن قلوبهم،
بل لعلها زادتهم أضغاناً على أضغان، ولا تزال أوربة وأمريكا تقول: خطر الإسلام وخطر العرب، كما كانوا يقولون الخطر الأصفر والخطر الأسيوي. وإذا كان بعض ساستنا الذين لقوا ساسة الأوربيين والأمريكيين قد انخدعوا بظاهر من القول حين سمعوا أحاديث أولئك المرائين المنافقين من ساسة أوربة وأمريكا، وظنوا أن لين القول دليل على صدق العقيدة، حتى أجروا في أحاديثهم ذكر (عطف أمريكا على العرب) و (عطف بريطانيا على العرب)، فقد ضلوا ضلالاً مبيناً. إن أوربة وأمريكا لا تعرف العطف على العرب، بل هي العدو، وهي البلاء المصبوب علينا، وإلا فكيف تعطف بريطانيا على العرب وهي التي لا تزال تفعل الأفاعيل في مصر والسودان؟ وكيف تعطف أمريكا على العرب وهي التي خذلت مصر والسودان في مجلس الأمن؟ وكيف تعطف بريطانيا وهي التي ورطَّت الدنيا كلها في مشكلة فلسطين، ثم تجيء فتطلب من هذه الدنيا أن تحل المشكلة لها المشكلة؟ وكيف تعطف أمريكا وهي التي تمد اليهود بالمال والقوة والسلاح والدعاية؟ وكيف وهي التي تبيح لشركات النشر والإذاعة والصحافة أن تدلس وتكذب وتخدع في شأن العرب، ولا تجد منكراً ينكر، ولا لساناً يدافع، ولا قلماً يشمئز من هذه الوسائل التي تطفح بالغدر والبغي والنذالة؟!
إنهم جميعاً يظاهرون علينا اليهود ويظاهرون علينا الاستعمار، ويفعلون ذلك علانية لا يستخفون، ففيم نحتال نحن بالمداورة أحياناً خشية أن نثير علينا هؤلاء المظاهرين، ومخافة أن نُرْمي بالتعصب؟ فيم نخاف ونحن في معمعة هذه الحرب التي تشنها علينا بريطانيا وأمريكا بالاستعمار وباليهود؟ ولم نخاف أن نتعصب لحريتنا واليهود يتعصبون لعدوانهم جهاراً؟ إن العرب قد عاشوا على ظهر هذه الأرض أكثر من ثلاثة عشر قرناً فكانوا أمة وسطاً لم تظلم ولم تضطهد، بل نصرت المظلوم وآوت المضطهد، ورفعت النَير عن رقاب الأمم مجوسها ونصاراها ويهودها، حتى جاء أمر اله وذهبت ريحهم وغلبت عليهم الأمم. فتاريخ العرب كله دليل على أن هذا الجيل من الخلق يأنف أن يظلم وأن يضطهد، ولكنه يأنف أيضاً أن يقبل الظلم والاضطهاد، فإذا رد الظلم عن نفسه ودفع الاضطهاد عن حماه، وحمى حوزته دون عدو باغ، أو توقي شراً يوشك أن يتوغل في قلب حياته، فما يفعل ذلك عن تعصب أو حقد أو جهالة، بل هو الحق ووسائل الحق!
وإذا كان فيما نفعله، أو فيما يجب أن نفعله، شيء يؤخذ على أنه صرامة وشدة وحنبلية متزمتة، فيما اضطررنا إليه فعلناه. وإليك مثلا هذه الدول العربية التي بدأت تضج ضجيج البعير آذاه العبء الفادح، من غول الاستعمار الأدبي والسياسي والاقتصادي، والتي بدأت تعرف أن كل باب من أبواب الحياة قد وقف عليه دبدبان من اليهود أو من الأجانب الطارئين، ليذودوا العرب عن الانتفاع ببلاده التي هي له ملك متوارث منذ أقدم عصور التاريخ - يذودونه عن الانتفاع بتجارة بلاده، لأن شياطين التجارة ومردتها فئة من هذه اليهود وهذه الأجانب، ويذودونه عن الانتفاع بمعادن أرضه، لأن أبالسة الحديد والنار هم أصحاب المناجم في أرضه وبلاده، ويذودونه عن الانتفاع بقوى شعبه، لأن خزان المال من اليهود والأجانب يضربون العمال بالفقر والذل والبؤس، ولا يدعون لهم متنفساً، ولا طريقاً إلى بلوغ المستوى الذي يحق لهم بجهودهم التي يجودون بها، فتكون لليهودي والأجنبي غنى ومالا وثروة وعجرفة وتغطرساً على هذه الأمة العربية، ونكبة وبلاءً واستعماراً كأنه جوامع من غليظ الحديد مضروبة في أوتارها الراسخة في جوف الأرض العربية. هكذا هو، فماذا تفعل هذه الدول؟
أليس من الحق لكل بلد عربي أن يسن قانوناً لأهله أو قانوناً لحكومته إذا استطاع - أن يحرم على كل يهودي وأجنبي أن ينشئ شركة إلا إذا كان كل عامل فيها وكل موظف من أهل البلد، وأن تكون أرباح الشركة لا تزيد على قدر معلوم، وأن يكون الدخل وقفاً على البلاد التي يستثمر فيها جهوده، فلا يخرج مالا ولا يختزنه في مصارف بلاد أخرى غير البلاد التي استوطنها، ورغم أنه جاء ليسدي إليها خيراً بعلمه أو فنه أو صناعته أو تجارته؟
أليس من الحلق لكل بلد عربي إذا هو رأي هذه الأجانب وهذه اليهود تملأ عليه الجو، وتأتيه مهاجرة من كل مكان هجرة حرة غير مقيدة أن ينظر لنفسه ومصالحه، ويعرف أن هؤلاء خطر ينبغي درؤه واتقاؤه بكل وسيلة؟ فإذا منعنا الهجرة أو قيدناها فأي تعصب في هذا؟ وإذا كنا نعلم علم اليقين أن هؤلاء الطارئين هم من حثالة اليهود وحثالة الأجانب، وأنهم أرذل خلق الله أخلاقاً وأقلهم علماً وأخسهم نفوساً، فأي تعصب في أن نقول للعالم كله إننا نأبى أن نؤوي هذه الحثالة القذرة في بلادنا وبين أهليها، وأن نمنعهم أن يتدسسوا إلى
حمى أعراضنا بنذالاتهم وفجورهم وعهرهم وبالخبث التي انطوت عليه دخائلهم؟ وإذا كنا نعلم علم اليقين أن هذه الحثالة الخبيثة، وهذه الرمم الإنسانية تفعل في شوارعنا وطرقاتنا ما لا تستطيع أن تفعل مثله في بلاد غير بلادنا التي وقعت تحت بطش الاستعمار قرناً أو بعض قرن، فأي تعصب في أن نسن قانوناً يوجب ترحيل هؤلاء الطارئين، أو يوجب نزع الجنسية المصرية أو العربية أو السورية عن هذه الفئة التي جاءت دخيلة على بيوتنا وديارنا وأخلاقنا؟
إن من حق البلاد العربية أن تفعل ذلك ولا تبالي بنقد منتقد ولا هجوم متهجم، ولا إقذاع مبطل ولا سفاهة مدخول السريرة خبيث الطوية. كلا إنه ليس حقاً لها وحسب، بل هو فرض لا مناص من أدائه والقيام عليه وحياطته كل الحياطة، إن هذه اليهود وهذه الأجانب هي ذرائع الاستعمار، وهي أداة البطش التي سلطها الاستعمار على رقابنا، وهي الخبيثة المردية التي تفشى داؤها حتى أوهى القوى وأوهن العزائم، وأكلنا لحماً طرياً وتركنا عظاماً نخرة.
وها نحن الآن مقبلون على حرب بيننا وبين اليهود، وحرب بيننا وبين الاستعمار، وكلاهما حرب لا هوادة فيها ولا مفر منها، فكيف يجوز في العقول أن ندع العدو بين ظهرانينا يعيث فساداً وخيانة وتجسساً، بل يأخذ من أموالنا ويرد على أموال عدونا، فيضعفنا ويقويه، وينهكنا وينميه، ويوهننا ويضربه؟ إن من القوانين الدولية في زمن الحرب أن تضع الدولة يدها على أموال أعدائها جملة واحدة، فتستثمرها في حقها وبحقها لتكون لها قوة وعتاداً، ومن القوانين الدولية أن تقبض الدولة على أبناء الدولة المعادية فتأسرهم في المعتقلات حتى تضع الحرب أوزارها، خشية أن يفجروا في الأرض ويكونوا عيوناً عليها، وبلاء في داخلها، و (طابوراً خامسا) في شعبها. فهل شك أحد في ذلك أو استنكره أو بغض إلى دولته فعل ذلك؟ كلا! وإذن فكيف يجوز للعرب منذ اليوم، وقد شرعوا في الجهاد وعزموا على أن يحطموا أغلال الاستعمار، وأن يقوضوا عرش اليهودية الباغية، أن يتهاونوا في الضرب على يد هذه التجارة اليهودية في قلب بلادهم، أو أن يبيحوا لأعوان الاستعمار من شذاذ الأمم والأفاقين أن يسرحوا حيث شاءوا من بلادهم، وأن يستولوا على ما يشاءون من أموالهم وأرزاقهم، وأن يدخلوا فينا ليكونوا عيوناً علينا في هذه الحرب التي تدور بيننا
وبين يهود، وبيننا وبين الاستعمار والمستعمرين.
ومن الذي حمل اليهود على الهجرة إلى مصر مثلا؟ أليست هي الفكرة الصهيونية؟ ومن الذي حمل الأجانب على الهجرة أيضاً إلى بلادنا؟ أليس هو الاستعمار؟ فكيف ندع الصهيونية والاستعمار يجوسان خلال الديار ونحن في معمعان القتال؟ وأنا أضرب مثلا لم أزل أتتبعه منذ قامت اللجنة التي وكل إليها كتابة تقرير عن فلسطين، ومنذ رفعت قضية مصر والسودان إلى مجلس الأمن.
فمنذ ذلك الحين وأنا أنظر وأتسمع، وأتفرس الوجوه، وأتوسم الشمائل، فإذا هذه اليهود وهذه الأجانب قد خفتت أصواتها، ولانت أخلاقها، وهذبت غطرستها، وحلت لنا ألسنتها، وابتسمت لنا وجوهها. ولم أكن أجهل أن ذلك كله نفاق ورياء وخديعة يظنون أنها تخدعنا عن طوايا قلوبهم. فلما كان من أمر القضية المصرية السودانية ما كان، وظهر من مستور اللجنة المزورة ما ظهر، إذا هذه الأصوات الخافتة قد صارت نعيقاً، وإذا الوجوه المبتسمة قد شاهدت بالتجهم وإذا الشمائل المؤدبة قد صارت عجرفة وطغياناً، وإذا هذه الخلائق الفاجرة تمشي على أرضنا تيهاً وخيلاء كأنها جنس وحده ونحن عبيده وأذلاؤه، وإذا نظرت الازدراء وكلمات التحقير تقال على مسمع منا ومنظر بلا حياء ولا أدب ولا خلق، وإذا كلمة (عربي) تتردد مرة أخرى على ألسنة هؤلاء الأنذال الجبناء في كل مكان بعد سكوتهم عن النطق بها خوفاً وفزعاً، أن يكن قد دنا موعد نصر العرب في قضية فلسطين وقضية مصر والسودان هذه كله شيء تتبعته أنا ومن أعرف، بلا زيادة ولا دعوى كما تفعل هذه الخبائث من يهود وشذاذ الآفاق.
إنها الحرب المبيرة أيها العرب، فلا تكن يهود التي ضرب الله عليها الذل والمسكنة والتشرد في جنبات الأرض، أحمى منكم أنوفاً وأشد منكم حفاظاً، وأقوى منكم حمية، وأجرأ منكم قلوباً ولا تكن يهود أيها العرب أشد محافظة على باطلهم منكم على حقكم واعلموا أيها العرب أن الذين بيننا وبين يهود والذي بيننا وبين الاستعمار دم لا تطير رغوته ولا ينام ثائره، وقد جدت الحرب بكم فجدوا يا أبناء إسماعيل ويا بقية الحنيف إبراهيم، ولا يهولنكم مال اليهود، ولا بطش بريطانيا، ولا مخرفة أمريكا، فإن الحق لله، وكلمة الله هي العليا.
محمود محمد شاكر
على هامش المعركة!
للأستاذ علي الطنطاوي
تحرك الجيش المصري بعد طول السكون، وسهر القادة يرسمون الخطط، ويعدون مناهج القتال، واستعد الجند وشحذوا السلاح، وسيقت الكتائب تتراً، فلا ترى إلا جنداً يزحفون إلى ساحة المعركة، يمشون خائفين وهم الكماة الشجعان الذين ما عرفوا الخوف، ويتقدمون حذرين وهم الشوس المقاديم الذين لا يرهبون الخطر، يتلفتون لا يدرون من أين يأتيهم هذا العدو المرعب، الذي يضرب الضربة، فيهدم الدور، ويفتح القبور وهو مختف لا يرى، فإذا وارى الناس موتاهم، ومسحوا دموعهم، وحسبوا أنهم نجوا منه، رأوه قد ضرب ضربته الثانية، في مكان قريب أو بعيد، لا يعلمون كيف تسلل إليه. لا يقف في وجهه حصن، ولا يرده بارود، ولا ينفع معه رصاص ولا قنابل؛ ولا يدرون من أين يطلع عليهم: أيهبط من السماء، أم يخرج من الماء، أم ينبعث من خلال الظلام؛ يخشون أن يكون قد امتلكهم وهم لا يحسون، وقبض على أعناقهم، يمتص دماءهم، ويزهق أرواحهم، ويجرعهم كؤوس الموت. . . وهم واقفون يحرسون البلاد منه، ويعدون العدة للقضاء عليه.
وفشا في الناس الخوف، وعمّ الذعر، وعلت الوجوه قترة الجزع، وشغلت الألسنة أحاديث الخطر، وملأت القلوب رهبة المصير ولو كانت معركة جنود وعتاد لهانت ولما خاف منها أحد، لأن هذا الشعب قد تمرس بالمعارك من يوم كان قابعاّ في صحرائه، يساير الشمس، ويصاحب الرمال، ويعانق السيوف، إلى أن أخرجه محمد ليضيء مصباح القرآن في المشارق والمغارب، فينير به الدنيا المظلمة، والقلوب القائمة، وهو إلف المعارك وحليفها، خاضها وهي تلتهب بنار الهواجر، عند خط الاستواء، وهي تتشح بجليد الشتاء على حدود القطب، ما ردّه عنها الزمهرير ولا ريح السموم، وواجه الأعداء من كل لون وجنس ولسان، فما يخاف اليوم إنكلترا ولا يخشى أمريكا، ولكن هذا العدو أنكى من إنكلترا نكاية، وأخفى مكراً، وأسرع ضرراً. صغير ولكنه يحط النسر من عليائه، ويلقى الأسد على مضائه، ويفتك بهذا الإنسان الذي حكم الجو والبحر، وسابق في الفضاء الصوت، وعاند القدر، فجاء القدر يحاربه بأصغر جندي من جنوده، بجندي تحمل الآلاف منه - من هوانه - رجل ذباب، وهي لا تشعر بما تحمل. . بـ (مكروب الكوليرا).
وسمع الناس باسم (الكوليرا) فذكروا (الهواء الأصفر) وذكروا (الوباء) وما يروي التاريخ من أرزائه وبلاياه.
واغتنم الشيوخ الفرصة ليحظوا بالالتفات إليهم بعد طول الأعراض عنهم، فحدثوا بما رأوا من فظائع الوباء الذي مر على مصرفي مطلع هذا القرن، والذي جاء جاز بالشام، في الحرب الماضية، ورأيناه نحن، وبالغوا، ووصفوا الجثث التي تكاثرت حتى ما تسعها القبور، والصراخ الذي علا حتى ما تتحمله الآذان، والآلام التي ازدادت حتى ما يطيقها بشر. فروَّعوا الناس وخوفوهم، على خوفهم، فما يستقر بهم قرار. . .
وقامت الحكومة، وانبرى الأطباء، يهدئون الناس ويطمئنونهم، ويرجعون إليهم ثقتهم بالعلم، ويضعون لهم المناهج الصحية، ويدلونهم على وسائل الوقاية: لا تشربوا الماء إلا من الأنابيب، وإن شككتم فيه فاغلوه، ثم صبوا عليه ماء الليمون، ولا تأكلوا الثمار إلا مسلوقة أو مغموسة بالماء المغلي، ولا تعملوا كذا إلا بكذا، ولا تصغوا كيت إلا بكيت. ثم تعالوا نعطيكم الدواء الواقي، وما بقي من القضاء إلا من قضاه. . ولكن لكل شيء أسباباً، ولكل مرض علاجاً، والذي أنزل الداء هو الذي أنزل الدواء.
ونشرت هذه النصائح في الجرائد، وعلقت على السيارات، وقيلت في (الإذاعات)، وخطب بها على المنابر، وأسرع القارئون والسامعون يعملون بها، وينفذون ما جاء فيها، وحسب أولو الأمر أنهم قد أسمعوا الناس، وعلموهم، ووقوهم أسباب الردى، ولم يدر أحد بجيراننا الذين يسكنون (عشة حقيرة) خلال قصور الروضة العامرة، مبنية من جذوع النخل، مغطاة بالقش وبأنواع اللقي، لها باب صغير كأنه فتحة مغارة، لا شباك لها ولا نافذة، ولا ترى الشمس داخلها، ولا يجاوز الضوء بابها ولا يلجها إلا بمقدار. لا ماء فيها إلا ما يستقونه من ماء النهر فيضعونه في الجرار المكشوفة يلغ فيها الكلب، وتغسل فيها الآنية، ويسقط فيها الذباب، فتزداد أذى على أذاها، ولا نور إلا نور مصباح زيتي يكاد دخانه المتكاثف يطمس نوره الخافت، ولا نار إلا نار هذا الحطب الذي يوقدونه فيها ليطبخوا عليه، فيخرج دخانه من شقوق السقف، يملأ الحيّ، ويروع الغريب، فيظن أن البيت، (أعنى الكوخ) قد احترق. . . تنام في هذه (العشة) الأم (الشحادة) وأولادها والكلب والحمار الهزيل، وما لا يعلمه إلا الله من الفيران والصراصير والخنافس وسائر الهوام والحشرات والدبابات، لا يكلمون أحداً
في الحي ولا يكلمهم أحد، قد خرجوا من دنيا الناس ولم يدخل الناس دنياهم. وما دنياهم؟ إن خيراً منها دنيا كثير من كلاب الأغنياء وخيولهم وقردتهم. وليس فيهم من يقرأ جريدة أو يبصر إعلاناً، أو يسمع (رادّاً) أو يحضر وعظ واعظ، أو خطبة خطيب، فلم يعلموا بما روّع الناس، وصدع خوفه قلوبهم، ولا عرفوا من طرق الوقاية كثيراً ولا قيلا
ولم هم عرفوها، لما استطاعوا أن يصنعوا شيئاً.
وأمثال هؤلاء الذين لم يدر بهم أحد كثير كثير. . إن نحن توقينا المرض، حملوه هم إلينا، فما أغنى عنا توقينا شيئاً، وإن اعتصمنا بالعلم والمال، فما لهم من علم يعصمهم ولا مال.
ولو كنا صدقنا الحملة يوم حملنا على المرض والجهل والفقر لوجدنا فيهم اليوم صحة تعينهم على احتمال المرض، وعلماً يمكنهم من فهم مناهج الوقاية، وما لا يقدرهم على تهيئة أسبابها. ولكنا أهملناهم فجئنا نتلقى عواقب هذا الإهمال، فإن أصِبنا اليوم بهم فيا طالما أصيبوا هم بنا، وإن شكونا من أذاهم لنا، فيا طالما شكوا هم من أذانا.
وهل شكوا حقاً؟ وهل تركنا لهم ألسنة تنطق بشكوى؟ أو أقلاماً تعبر عن نقمة؟ أما أخرسنا بالجوع ألسنتهم، وشللنا بالجهل أصابعهم، وحرمناهم الإنسانية حين جعلناهم حيوانات لا تنطق وما كان الإنسان إلا بالنطق إنساناً!
فانشروا الآن ما شئتم من نصائح، وأذيعوا ما أردتم من مناهج، إن أكثر الناس لا يقرؤونها، وإذا قرؤوها لا يعملون بها لأنهم عاجزون عنها، فوقوهم أنتم أسباب المرض لتقوا أنفسكم واعتنوا بهم ليبقوا في خدمتكم، ولكن لا تنموا عليهم بفعلكم، ولا تزعموا أنكم أحسنتم إليهم بصنعكم، لأنكم تطيلون حياتهم فتطيلون معها عذابهم، ولو تركتموهم يموتون لكان خيراً لهم (هم) وأبعد للمتاعب عنهم.
أما إن الخطر على هؤلاء المساكين منا، والخطر على الأمة منهم من مرضهم وجهلهم وفقرهم، أشد من خطر (الكوليرا) فاعملوا على دفعه، واعلموا أنكم إن لم تحيوهم بما في طبيعة العروبة من مساواة، وما في أحكام الإسلام من عدالة؛ أوشكتم أن تخالفوا بفعلكم العروبة والإسلام، وأن تؤيسوهم منها، وأن تضطروهم اضطراراً إلى التفتيش عن مصدر آخر للأمل لعلهم يظنون (ظناً كاذباً) أنهم واجدوه في الشيوعية، فيكونوا شيوعيين، ويومئذ تكون الطامة الكبرى. . .
وانظروا هذا الوباء المروع، الذي أفزعكم وصدع خوفه قلوبكم، من أين جاءكم؟ تقولون: من الهند. . . نعم، ولكن ما جاء به حاج هندي، ولا تاجر ولا سائح، ما جاء به إلا هؤلاء الإنكليز، إنه لا يأتي منهم إلا الكوليرا، والصهيونية، وسورية الكبرى، فاعتبرا، وصدقوا، وانفضوا أيديكم منهم ومن مدارسهم، ومن بضاعتهم، إن الوباء الذي تنشره المدرستان الإنكليزيتان بجوارنا في الروضة، لا يقل عن هذا الوباء الذي تنشره معسكراتهم بجوار القنال، بل ربما كان شراً منه، لأن ذاك يقتل الأجساد، وهذا يفتك بالأرواح، ويعصف بما فيها من خيرات، ويذهب بما تنطوي عليه من حب لمصر وللعروبة وللاستقلال، ويجعل من أبنائها أعداء لها، فقاطعوا كل شيء إنكليزي، وأقيموا دونه سداً منيعاً، كهذا السد الذي تقيمونه دون (الكوليرا الإنكليزية)، وقفوا عليه الحراس الشداد، معهم الأسلحة المواضي، فلا ينفذ منه شيء إنكليزي قط، لا رجل ولا كتاب ولا فكرة ولا بضاعة ولا كوليرا ولا صهيونية ولا سورية الكبرى. . .
وبعد، فلا يبلغ بكم الجزع، فالخطب إن شاء الله يسير، والسلامة قريبة، والمرض زائل، وما أخشى على مصر المرض ولكن أخشى أن تنقشع السحابة، ويعود الصفاء، فننسى أن في مصر ملايين لم تصل إليهم هذه الحضارة، ولم يستمتعوا بشيء من متعها، ولم يصبهم من خير مصر إلا الأقل، وخيرها يصيب كل أجنبي عن مصر، آكِل لخيراتها كاره لها، مزدر لأهلها، وإن لهؤلاء حقاً صريحاً، حقاً أقرته الأديان والشرائع كلها، والإنسانية، وقواعد العدالة: هو أن يكونوا أصحاء الأجسام، متعلمين ما يفهمون به الخير من الشر، واجدين من المال ما يشترون به ضروريات الحياة. وننسى أن الله خلق الناس إخواناً، فلم يخلق بعضهم عبيداً لبعض، وأن عمرو بن العاص، أبطل العبودية من مصر وألغى (نظام الطبقات)، وسوْى بين الناس، في العهد الذي نسميه جهلا وغفلة عهد (القرون الوسطى)، وأنه من العار على الإنسانية وعلى الحضارة، وعلى مصر، أن تعود إليه مصر في (قرن العشرين).
وأن ننسى أن الإنكليز هم جاءونا بالوباء، وأنه لا يأتي منهم إلا هذا. . وأخشى أن نعود إلى معاملتهم وتحسين الظن بهم وبحضارتهم وأن لا نقطع على أنفسنا عهداً جازماً، مقسمين بقبور إخواننا هؤلاء الذين قضوا شهداء (الكوليرا الإنكليزية)، وبدماء شهدائنا الذين سقطوا
صرعى على ثرى مصر برصاص الإنكليز من يوم وطئوا مصر غاضبين إلى هذه الساعة، وبأمجاد ماضينا، وأرواح أجدادنا، أننا سنقاطع كل شيء إنكليزي ولو كان الخبز الذي نأكله، والماء الذي نشربه، والهواء الذي ننشقه، وأن نموت أحراراً، إن لم نجد إلا حياة الذل حياة!
(القاهرة)
علي الطنطاوي
كَلْواذى
للأستاذ شكري محمود أحمد
إحدى طساسيج بغداد المشهورة، ومواطن اللهو المذكورة، لها ذكر في الأخبار والآثار، بل ربما كانت من أقدم المواضع الأثرية في العراق.
قال المسعودي في الكلام على الأمم ولغاتها ومواضع مساكنها ما نصه (الأمة الثانية: الكلدانيون، وقد ذكروا في التوراة بقوله عز وجل لإبراهيم (أنا الرب الذي أنجيتك من نار الكلدانيين لأجعل هذه البلاد لك ميراثاً). . . وكانت دار مملكتهم العظمى مدينة كلواذى من أرض العراق، وإليها أضيفوا، وكانوا شعوباً وقبائل منهم الأثوريون والجرامقة والأرمان ونبط العراق وأهل السواد. . . ثم يحدد مملكتهم هذه فيقول: وكانت بلاد الكلدانيين العراق وديار ربيعة وديار مضر والشام وبلاد العرب واليمن وتهامة والحجاز واليمامة والعروض والبحرين والشحر وحضرموت وعمان. . . ثم يقول بعد ذلك: وهذه جزيرة العرب كانت كلها مملكة واحدة يملكها ملك واحد، ولسانها واحد سرياني وعاصمتها واحدة هي كلواذى.
وقد دلت الحفريات التي أجريت في هذا الموضع على أنها من أقدم الأراضي المعمورة في العراق كما سنبين هذا في موضعه.
اسمها ومعناه:
اختلف المحققون في شكل اسمها وعدد حروفه، واختلافهم يدور على الحرف الأول والأخير منها. قال ياقوت في معجمه: كلواذى بالفتح ثم السكون والذال معجمه آخره ألف تكتب ياء مقصورة، وعلى هذا أيضاً صفي الدين بن عبد المؤمن في كتابه مراصد الاطلاع.
وجاء في كتاب محمد بن الحسن الحاتمي الذي سماه (جبهة الأدب) وابتدأ فيه بالرد على المتنبي أن الصواب فيه كِلْواذ بكسر الكاف وإسكان اللام وإسقاط الياء.
أما معناه فقد ذكر ابن الإعرابي: الكلواذ تابوت التوراة وقال الحاتمي: قلت له - يعني المتنبي - أخبرني عن قولك:
طلب الأمارة في الثغور ونشوة ما بين كرخايا إلى كلواذ من أين لك هذه اللغة في كلواذ؟ أحسبك أخذتها عن الملاحين. قال: وما الكلواذ؟ قلت: تابوت التوراة، وبها سميت، قال وما
الدليل على هذا؟ قلت قول الراجز:
كأن أصوات الغبيط الشادي
…
زيرٌ مهاريقٌ على كلواذ
الكلواذ تابوت توراة موسى عليه السلام. وحكى في بعض الروايات أنه مدفون في هذا الموضع، فمن أجله سميت كلواذ.
موقعها:
قال ياقوت: كلواذي طسوج قرب مدينة السلام بغداد، وناحية الجانب الشرقي من بغداد من جانبها، وناحية الجانب الغربي من نهر بوق. ثم قال: وهي الآن خراب أثرها باق، بينها وبين بغداد فرسخ للمنحدر. وعلى هذا أيضاً صفي الدين في مراصد الاطلاع، ولكنه زاد عليه: وهي أسفل من بغداد أحد أبوابها إليه، وهي قرة كثيرة عامرة.
وكان تحتها في القديم قرية عامرة اسمها مصراتا جاء ذكرها في معجم البلدان ومراصد الاطلاع. وكان بين كلواذي وقرى بنَّا فرسخان وكان من أعمالها قرية صغيرة اسمها الفِرْك، جاء ذكرها في شعر أبي نواس في هجاء إسماعيل بن صبيح كاتب الرشيد في قوله:
أحين ودعنا يحيى لرحلته
…
وخلف الفرك واستعلى لكواذا
أتته فقحة إسماعيل مقسمة
…
عليه أن لا يريم الدهرَ بغداذا
فحرفه رده لأقول فقحته
…
أقم على ولا هذا ولا هذا
وإلى جانب كلواذي قرب نهر تامُرّا قرية أخرى اسمها الزعفرانية، ولا تزال هذه القرية عامرة تحمل هذا الاسم.
ومن أعمال كلواذي قرية بارى ذكرها ياقوت وصفي الدين قد بدئ بإعادة بناء هذه القرية حديثاً باسم (بغداد الجديدة) لأن الشركة المشرفة على البناء لم تعرف اسمها القديم. وقد كانت هذه القرية كثيرة البساتين والمتنزهات يقصدا أهل البطالة واللهو والمولعون بشرب الخمر، وقد ذكرها الحسين بن الضحاك الخليع في قوله:
أحب الغي من نخلات باري
…
وجوسقها المشيد بالصفيح
ويعجبني تناوح أيكتيها
…
إليّ بريح حوذان وشيح
ولن انسى مصارع للسكارى،
…
ونادية الحمام على الطلوح
وكأساً في يمين عقيد ملك
…
تزين صفاته غرر المديح
أما موقعها بالنسبة إلى خطط بغداد في هذا العصر ففي معسكر الرشيد الذي كان يسمى معسكر الهنيدي ومدينة العمال ومخيم الأرمن وحلبة السباق وتل محمد وتل حرملة، وناحية الكرادة. وربما كان هذا الاسم (كرادة) تطوراً لاسمها القديم كلوازي.
التنقيبات في كلوازي: أجريت تنقيبات كثيرة في بعض مناطق كلوازي، عثر فيها المنقبون على أمور مهمة جداً في تاريخ العراق، وأقدم من قام بالحفريات في أطلالها البحاثة الألماني فلكس جونس سنة 1850 وكتب كتاباً باللغة الألمانية عن الحفريات بين النهرين، ومما عثر عليه في تل محمد ألواح كثيرة من اللبن المشوي كما عثر على كتابة لحمورابي. (ج 2 ص 95)
وهناك تل آخر يبلغ نصف قطره 150 متراً اسمه تل حرْمله يفصله عن تل محمد نهر مندرس وأرض مرتفعة طولها 600 متراً وقد اعتبرها هرتزفلد بقايا مدينة مندرسة.
ولما أرادت الحكومة العراقية أن تبني مدينة للعمال وصغار الموظفين سنة 1945 قامت مديرية الآثار العراقية بإجراء التنقيبات في المنطقة التي بين تل محمد وتل حرملة لمعرفة طبيعة هذه الأرض المندرسة.
وقد أظهرت الحفريات أن تل حرملة يمثل سوراً حصيناً على شكل مربع غير منتظم له باب واحد في الجهة الجنوبية الغربية وعلى طرفيه أبراج عظيمة هائلة.
وعثر بنتيجة الحفر على معبد كبير طوله 28 متراً وعرضه 18 متراً، على بابه أسدان بحجمها الطبيعي، كما عثر على معبد أصغر منه طوله 15 متراً وعرضه 14 متراً وعلى بابه أسدان أيضاً من الطين المشوي. وعثر على عدة أبنية مماثلة، وعلى بناية واسعة طولها 25 متراً وعرضها 23 متراً ينم شكلها على أنها كانت موضع الإدارة، وعثر على بنايات صغيرة ينم شكلها على أنها كانت دوائر حكومية وخزائن للوثائق الرسمية.
أما الآثار التي عثر عليها في هذا التل فأهمها 1300 لوحة من مختلف الأنواع والحجوم، وكلها من اللبن المشوي، وفي بعضها مستندات يستعملها الكهنة وهي تحمل اسم الإله (خاني) واسم زوجه (نيسابا) كتبت داخل طغراء مربعة الشكل.
وفي إحدى هذه الألواح قائمة بأسماء مدن، كما عثر على ستة تماثيل من الطين المشوي
وهي مهشمة لقدم العهد
ذكرها وأخبارها: كانت كلواذي ملتقى الفساق ومأوى العشاق، يجتمع فيها أرباب التهتك والدعارة يعقدون فيها مجالسهم بين رياضها وعلى حفافي أنهارها، يشربون ويفجرون، يقيمون فيها الشهور بين الدنان والقيان والمعازف، مقيمين على إطاعة إبليس في هتك ستر المعاصي واقتراف الآثام.
فهذا أبو نواس قيل له مرة: هل تريد الحج؟ فأجاب: نعم إذا فنيت لذات بغداد. . وأني له ذلك وهو في بغداد التي جمعت الظرف والجمال والمتعة والثراء. . . وهب أن بغداد ضاقت به فلم يطق الحياة فيها حتى دفعت به إلى الحج فكيف يتخلص من قطربل وكلواذي، وهؤلاء شذاذ بغداد ملء السمع والبصر. . . وفيهم يقول:
وقائل هل تريد الحج قلت له:
…
نعم، إذا فنيت لذات بغداذ
أما وقطربل مني بحيث أرى،
…
فقنّة الفرك من أكناف كلواذ
فالصالحية فالكرخ التي جمعت
…
شذاذ بغداد ما هم لي بشذاذ
ومن ظريف ما هجيت به بغداد قول بعضهم:
اخلع ببغداد العذارا
…
ودع التنسك والوقارا
ولقد بليت بعصبة
…
ما أن يرون العار عارا
لا مسلمين ولا يهو
…
د ولا مجوس ولا نصارى
فكيف يترك أبو نواس هذه الحياة المرحة ويذهب إلى الحج؟. . ولكن الرشيد لما خرج يريد الحج شاء أن يكون في ركابه شاعرنا الظريف أبو نواس، فاصطحبه معه، وفي مكة نظم أرجوزته المشهورة، وهي أروع ما قيل في الزهد أولها:
إلهنا ما أعد لك
…
مليك كل من ملك
فلما عاد أبو نواس إلى بغداد أشيع أنه تنسك بعد حجه، وعكف يكفر عن ذنوبه، وهذا خبر ظريف، وكيف يكون ذلك وهو في بغداد بين عصابته من أحلاس الكأس وفرسان الخمر، ثم هذه كلواذي وطيزناباذ، وتلك قرى بنا قد توزع قلبه بين حاباتها وظبائها، فكيف يزهد ويرعوي؟ ويترك هذه الحياة الضاحكة المصفقة؟ لذلك راح يكذب هذا الخبر - خبر النسك بأبيات ظريفة منها:
قالوا: تنسك بعد الحج قلت لهم:
…
أرى وأرجو وأخشى ظيزناباذا
ما أبعد النسك من قلب تضمنه
…
قطربل فقري بنا فكلواذا
فإن سلمت، وما قلبي على ثقة
…
من السلامة، لم أسلم ببغداذا
ومن الغريب أن مطيع بن اياس وهو رأس العصبة الماجنة، يذم بغداد كما يذم كلواذي ويأسف على عمره الذي زال عنه وأسكنه بغداد، ثم يدعو على بغداد وكلواذي بالخراب قائلا:
حبذا عيشنا الذي زال عنا
…
حبذا ذاك، حين لا حبذا ذا
زاد هذا الزمان شراً وعسراً
…
عندنا، إذ أحلنا بغداذا
بلد تمطر التراب على النا
…
س، كما تمطر السماء الرذاذا
خربت عاجلا واخرب ذو العر
…
ش بأعمال أهلها كلواذا
كان كلواذي ميناء مدينة بغداد، ترسو فيها السفن التجارية القادمة من واسط والبصرة أو القادمة من شمال بغداد في نهر دجلة أو نهر تامرا، وقد كانت عامرة على عهد العباسيين تمد بغداد بمختلف المنتوجات الزراعية، بل كانت من الأسباب الهامة التي جعلت المنصور يختار موضع مدينة السلام بغداد في هذا المكان.
قال المقدسي إن المنصور انتصح بما أشير عليه في بناء عاصمة ملكه في هذا الموضع، ويذكر هذا الجغرافي أن أصحاب المنصور قالوا له (تنزل في بغداد فإنك تصير بين أربعة طساسيج، طسوجان في الجانب الغربي وطسوجان في الجانب الشرقي، فأما اللذان في الجانب الغربي فقطربل وبادوريا وأما اللذان في الجانب الشرقي فنهر بوق وكلواذي).
وبقيت عامرة بقراها مدة طويلة من الزمن، وقد خرجت على عهد ياقوت أي في القرن السابع الهجري لأن ياقوت كانت وفاته سنة 626هـ.
كانت أرض كلواذي منخفضة لذلك كانت مهددة بالغرق كلما زادت المياه في دجلة. ففي سنة إحدى وأربعين وستمائة مثلا زادت دجلة زيادة مفرطة وغرقت مواضع كثيرة في بغداد فعمل الناس سداً بين بغداد وكلواذي، وانتقلوا خلف السكر، وصليت الجمعة على طرف الخندق مما يلي دار المسناة - وهي القصر الموجود في القلعة حالياً -.
قال ابن الفوطي وفي هذه السنة 641هـ احكم السد الذي بين بغداد وكلواذي، وخرج تاج
الدين بن الدوامي حاجب باب النوبي إلى باب كلواذي - هو الباب الشرقي حالياً - وأحكم السكر وبات عليه).
وقد شهدت كلواذي المعارك بين الأمين والمأمون، ودارت فيها المعارك بين الجيشين، قال المسعودي: لما تقدم هرثمة بن أعين إلى بغداد نزل زهير بن المسيب الضبي أحد قواده في مصراثا مما يلي كلواذي، وغشى ما في السفن من أموال التجار الواردة من واسط والبصرة، ثم تقدم فنزل كلواذي فتأذى الناس به، وحمد له خلق من العيارين وأهل السجون والشطار.
وكان الشطار والعيارون يحاربون المامونية وهم عراة في أوساطهم المآزر، وقد اتخذوا لرؤوسهم واوخل (؟) من الخوص سموها الخوذ، ودرقاً من الخوص والبواري محشوة بالرمل والحصى، وقد خرجت العراة ذات يوم في مائة ألف رجل إلى كلواذي بالرماح والسيوف والقصب والطرادات ونفخوا في القصب وقرون البقر وزحفوا على المأمونية في كلواذي حتى أخرجوهم منها
شكري محمود أحمد
مدرس العربية بدار المعلمين الابتدائية
فلسفة طاغور في العلم والعمل
للأديب عبد العزيز محمد الزكي
يعرف عن طاغور أنه صرح في مناسبات عدة، أنه ليس بفيلسوف ولم يحاول قط أن يبتدع مذاهب جديدة في الفلسفة، وأنه كان يعمل دائماً على إحياء الحكمة الهندية القديمة والتعاليم الهندوسية حتى تساير روح العصور الحديثة واتجاهات المدنية الغربية، ولكن بدون أن تفقد في الوقت نفسه شيئاً من أصالة مقوماتها الروحية، أو تتعارض مع نزعات الهنود الأساسية.
أحسب أن أرى هذا عمل شاق! إذ كيف يمكن التوفيق بين تعاليم متعارضة ومبادئ متناقضة؛ فإن تعاليم الهند الروحية تزهد في متع الحياة، وتحتقر ميدان المادة والقوة، وتنفر من الحياة العملية النافعة، وتكره أن تخوض معترك التوسع الاستعماري وبسط النفوذ، ولا تتمسك إلا بالفضائل الخلقية والقيم المعنوية، وتدفع الهندي لأن يؤمن باتحاد الوجود الشامل، وتلزمه بان يسعى لكي يدرك الله ويلاشي فرديته فيه، فيشعر بالوحدة المطلقة التي تبعث في نفسه السعادة والحرية. بينما مبادئ الحياة الغريبة ترحب بمختلف متع الدنيا الحسية، وتحث على كل عمل يجلب أي نفع مادي، وتشجع على الاندماج في الحياة الاستغلالية والمغامرة في ساحة المادة والقوة، كما لا تتمسك إلا بالفضائل النفعية والقيم العملية، ولا تكترث للدين بقدر ما تكترث للدنيا؛ فأقبل الغربي على ملاذ الحياة الأرضية إقبالا جنونياً غافلا عن أصول تعاليم ديانته المسيحية التي تنشد الخلاص من الحياة التي تجذبه مفاتنها، فشمله الطمع والجشع والأنانية، ووقع فريسة للفوضى والاضطرابات والقلق، وحرم من الأمن والسلام والاطمئنان.
ويخيل إليّ أن طاغور لم يفكر في أن يوفق بين هذه النزعات المتضاربة، وإنما لاحظ على الغرب شغفاً عميقاً بالعلم وجداً مستمراً ونشاطاً متواصلا في العمل فاستحق كل ذلك منه الإعجاب والتقدير. بينما وجد تعلق الهند بالزهد والانصراف عن الحياة شغلها عن كل شيء إلا عن تحقيق الاتحاد بالله والاندماج في اللانهاية؛ فأصيبت بالجمود والموت، وكسيت بصبغة التقاليد العتيقة التي لا تلائم روح الحياة العصرية، وبدت الهند كأمة كسولة عاجزة في عالم كله حركة وتغير وتقدم فأراد طاغور أن يبعث حيويتها من جديد، ويخلع
عنها رداء القدم والعجز؛ وأن يبين لها الوسائل التي تمكنها في الاندماج في الحياة العملية، والمساهمة بنصيب وافر في تقدم العلم وترقية العمل. وكان طاغور في ذلك كله حريصاً كل الحرص على المحافظة على الطابع الهندي، فإن بدت كتاباته كأنها تحث الهنود على كشف القوانين العلمية، والابتكار في ميدان العمل، ومحاكاة الغرب في مختلف نشاطه الحضاري، إلا أنه عمد أن لا تكون بواعث الهندي أو غاياته في بحثه في العلوم وتجديده في العمل هي عين بواعث الغربي وغاياته، كما حرص على أن تستمد هذه البواعث وتلك الغايات من صلب الحكمة الهندية عامة، ومن أصول الدين الهندوسي خاصة.
ولكي نفهم كيف استعان بالكتب المقدسة في تشكيل دوافع طلب العلم، وأهداف أداء العمل المستمر المتجدد حسب المزاج الهندي الخالص، يحسن بنا أن نعرج أولا إلى نظرات الدين الهندوسي - كما فهمه طاغور - إلى النفس الإنسانية التي تكشف المعرفة وتعي العلم، وإلى الإرادة البشرية التي تنجز الأعمال الدينوية ويتنكر فيها.
أولا: أما عن النفس فيقول طاغور إن الدين الهندوسي يؤكد لنا أن الكون وحدة شاملة، تضم كل ما يوجد فيه من جماد ونبات وحيوان وإنسان، ويتجلى الله فيها جميعاً. وأن النفس الإنسانية جزء من أجزاء الكون المتعددة المتنوعة التي يتجلى فيها الله، إلا أن لها استقلالها الخاص، ووجودها المنفرد، وكيانها القائم بذاته بالرغم من اتحاد أجزاء الكون الشامل، وتجاذبها الشديد. إذ أن استقلال النفس له قيمته، فعن طريقة يمكن للنفس أن تحقق وحدتها بالكون في صورة أروع وأقوى مما لو كانت راقدة فيه غير شاعرة باستقلالها، فضلا عن أن هذا الاستقلال لا يفصلها تماماً عما في الوجود، ولا يقطع صلتها بالحقيقة الكامنة في جميع نواحي الكون، وفي أعمق أغوار النفس. فهي مرتبطة بالله وكيانها قائم به، بل إن كمالها لا يتحقق ما لم تشعر بحضوره في دخيلتها، ولا تفز بحريتها الروحية إلا إذا خضعت لإرادته، ولا تحس بالغبطة إلا إذا اندمجت فيه وأمحت فرديتها في لا نهايته.
وأما إذا شعرت النفس بنوع من الانفصال المطلق عن الكون المتحد الذي يكمن الله في جميع أشيائه، فإن مرجع ذلك إلى حبس حياتها في حدود فرديتها، وإلى خداعها بالمظهر الكاذب وإلى استسلامها لإغراء الوهم الباطل الذي يوحي إليها بأنها غاية ذاتها، ويشغلها عن أي حقيقة أخرى تتعدى هذه الذات، ويوقفها تحت تأثير شهوات الإنسانية والكبرياء
والغرور فتندفع في طريق الآثام والجرائم التي تحجب عن النفس حقيقتها المستعمرة فيها، فتجهل أن الكون تجمع أجزاءه وحدة تامة يتجلى فيها الله ولا تملك أن تحقق كمالها بالاتحاد باللانهاية، وتفشل في إحراز حريتها الروحية، تحرم من الشعور بالحب الذي يفيض بالغبطة والسرور. وإذا أرادت تلك النفس الآثمة أن تحقق كمالها، يجب أن تخرج ذاتها في حدود فرديتها العتيقة إلى نطاق اللانهاية الفسيح، وتسعى لأن تتحرر من أسر المظهر، وتكشف عن زيف الباطل؛ بأن تفد نفسها لمعرفة حقيقة وحدة الكون عن طريق معرفة قوانين الطبيعة العلمية، وعن طريق إنكار الذات وفعل الخير وتحذير النفس من الشهوات الدنيئة والرغبات المنحطة وعن طريق ملاشاة قرويتها في اللانهاية؛ فيجري فيها ذلك الحب الذي يجعلها تدرك حقيقة الجوهر الكامن فيها، وتعلم أنها في وحدة تامة مع الله والطبيعة، وتفوز آخر الأمر بكمالها.
يفهم مما تقدم أن معرفة حقيقة اتحاد الكائنات الشامل هو السبيل الوحيد لكمال النفس الإنسانية، التي لا يمكن أن تدرك هذه الحقيقة الكبرى إدراكا عميقاً صادقاً، إلا إذا تكشف لها أولا ما تحتوي عليه هذه الحقيقة الكبرى من حقائق صغرى متعددة، ينطوي كل منها على أحداث متشابهة لا نهاية لها، لأن معرفة هذه الحقائق الصغرى، فضلا عن أنها تغنينا عن جمع أحداث متشابهة تشغل الذاكرة، ولا تزيد من معرفة النفس شيئاً، ولا تؤدي إلى معرفة شيء سواها؛ فإنها تمهد لنا السبل إلى إدراك الحقيقة الكبرى التي تعتبر كل حقيقة صغرى وجهاً من وجوهها. فإن معرفة قانون الجاذبية مثلا، لا يحوجنا إلى جمع أحداث تماثل سقوط التفاحة من الشجرة ونزول المطر على الأرض؛ ونضع أيدينا على حقيقة عامة تفتح آفاقاً تقودنا إلى اللانهاية التي تبلغ كل الحقائق الصغرى العامة.
فإن معرفة قوانين الطبيعة على ذلك، والجد في الكشف عن ما جهل منها، أمر ضروري يمهد لنا إدراك حقيقة اتحاد الطبيعة بالله، ومعرفة وحدة القانون في وجوه الطبيعة المختلفة أي أن طلب العلم لا يقصد به مجرد التثقيف وتوسيع أفق المعرفة أو أن معرفة قوانين الطبيعة ليست هي في ذاتها غاية بحثنا في العلوم فإن قانون الجاذبية يعني أكثر من سقوط تفاحة على الأرض، وأن قانون تطور الأنواع يعني أكثر من تعاقب المخلوقات؛ إذ أن معرفة مثل هذه القوانين يفسح لنا الطريق للاندماج في مكونات الطبيعة والاتحاد بمحتوياتها
المتنوعة، فنحس أن هناك جسما شاملا واحداً عالمياً، ونشعر أن هذه القوانين الطبيعية تشملنا وترتبط بنا برباط واحد، وندرك أن أجسادنا وأعضاءنا أشياء عالمية، وأن البخار والكهرباء من أعصابنا وعضلاتنا، فنعرف أن هذا العالم جميعه ما هو إلا جسم واحد ممتد لنا.
فالقوانين الطبيعية لا تنفصل عنا، وتدل على أن هناك صلة وثيقة بين الإنسان والطبيعة، فهي ملك لنا، ومعرفتها تمدنا بالقوة المعنوية إذا اتخذناها سبيلا للاتحاد بسائر الأشياء، وتضعفنا إذا استخدمناها في مقاومة أغراض الطبيعة في الحياة. إذ لو انصرف العلم إلى تسخير هذا العالم لخدمتنا، وبسط نفوذ الإنسان على كل ما يحيط به، ونصره على سائر العوائق التي تعرقل مكافحته للطبيعة، أو تحول دون استعباده لشعوب الأمم الأخرى، لفقد قيمته الحقيقية، وبعد عن غايته الصحيحة، وخضع لشهوات الإنسان الدنيئة التي تفسد الانتفاع بالعلم، وتدفع الإنسان إلى القوة والوحشية والجشع، فترتكب الجرائم، وتندلع الحروب، فيعم الخوف والهلع والقلق والاضطراب، أما إذا قصد بالعلم الاندماج في موجودات الكون، والاتحاد باللانهاية، والخضوع لإرادة الله، لتمردت روح الإنسان وأمحت حقيقتها في الحقيقة الكبرى، فتتمتع بالحب، وتنعم بالسرور والغبطة.
ثانياً: وما فهمه طاغور عن النفس من الكتب الهندوسية المقدسة، وكتب حكماء الهند، يشابه ما فهمه منها عن الإرادة فإن قال إن للنفس وجوداً مستقلاً عن الكون المتحد، فإنه يقول أيضاً إن للإرادة حرية السيادة على شئون عالمنا الصغير. وإذا ذكر أن استقلال النفس المطلق وهم باطل، وفي المظهر، وأنها جزء من أجزاء الوجود المتحد، وتسمو وجودها من الله، فإنه يذكر كذلك أن حرية الإرادة المطلقة وهم باطل، وفي المظهر، أنها لا تعمل إلا في حدود، وأنها جزء من إرادة اللامتناهي وملكا له.
البقية في العدد القادم
عبد العزيز محمد الزكي
3 - مدى الثقة في هيئة الأمم المتحدة:
حق الاعتراض (الفيتو)
من المبادئ المقررة أن للقانون الدولي أيضاً أشخاصه ورعاياه تسري عليهم أحكامه التي يخضعون لها ويحترمونها، وقد تعددت آراء الفقهاء حول طبيعة هؤلاء الأشخاص، فقالوا بأنهم الأفراد العاديون في رأي، وبأنهم الدولي في رأي ثان، وبأنهم الأفراد مجتمعين في دولهم في رأي ثالث، وهناك آراء أخرى نضرب عنها صفحاً لنذكر أن الاتجاه الغالب هو أن شخص القانون الدولي هو الدول، وما دام الأفراد متساوين أمام القانون العادي كذلك تتمتع دول العالم بالمساواة صغيرها وكبيرها، فنرى القانون الدولي يعلن ذلك صراحة، وتأتي المواثيق الدولية فتكرر حق المساواة، ومن بينها ميثاق الأمم المتحدة الذي أكد في ديباجته الإيمان بالحقوق الأساسية للإنسان وبكرامة الفرد وقدره، وبما للرجال وللنساء وللأمم كبيرها وصغيرها من حقوق متساوية، والذي جاء ضمن مبادئه أن الهيئة تقوم على مبدأ المساواة في السيادة بين جميع أعضائها.
ولكن هذه المساواة التي تكلمنا عنها لا تعدو مساواة الدول أمام القانون، فإذا ما خرجنا بها إلى ميدان الحقائق العلمية وإلى حيز الواقع والتطبيق، نجدها تتلاشى أمام حقيقة لا مراء فيها: وهي أن هناك دولاً قوية تهيمن، وأخرى صغيرة تذعن، والقوة هنا هي قوة المصالح، ولم يفت الفقهاء وهم يعقبون على حق المساواة أن يشيروا إلى هذه الحقيقة الواضحة، ويجدوا لها تطبيقات عدة حتى في عصبة الأمم نفسها، حيث كانت الدول الصغيرة تفسح الطريق لسيطرة الدول القوية عليها في بعض اللجان، وذلك لشعورها بقوة مصالحها فيما يختص بالغرض الذي أنشئت من أجله هذه اللجان، وتبدو مظاهر هذه السيطرة مثلاً في مسألة التصويت على القرارات كي تكتسب قوة التنفيذ، فيكون للدولة القوية صوتان أو أكثر وللدولة الصغيرة صوت واحد، وقد يشترط لتنفيذ القرارات أن تؤيدها الدول القوية، ولو كان لكل منها صوت واحد. إن الحديث عن هذه المظاهر يمتد إلى نواح عديدة. . . وكلها شاهد على أن نزعة السيطرة والغلبة، وقد تكون الأثرة ما زالت هي الغالبة في مجالات السياسة الدولية، فالعقلية المضحية التي تفهم المساواة على وضعها الصحيح لم توجد بعد، ولا يخلو ميثاق هيئة الأمم المتحدة من مواضع كثيرة يمكن نقده فيها على ضوء
ما تقدم والصورة القوية البارزة لذلك يمكن البحث عنها في مجلس الأمن وهو الأداة التنفيذية للهيئة.
وسيجد القارئ للميثاق طلبته في مشكلة التصويت حيث تطرح الدول القوية جانباً مسوح الرهبان لتكشف عن حديدها ونارها إذ أن هذه المشكلة من المواطن شديدة الحساسية التي تثير في أدق صورها علاقة الدول العظمى بعضها ببعض ثم علاقة الدول العظمى بالدول الصغرى وتكييف تلك العلاقات.
وقد اتفق في (مبارتن أوكسي) على مبدأ إجماع الدول العظمى عند اتخاذ قرار في أعمال العنف التي تتخذ ضد دولة تقوم بعمل من أعمال العدوان. . ولكن قام الخلاف على إجراءات التصويت في المسائل الأخرى. . فبقيت المسألة دون حل، حتى انعقد مؤتمر (يالتا) في فبراير سنة 1945 وقام الرئيس (روزفلت) بإزالت ما كان هنالك من تعارض في وجهات النظر فوضع اقتراحاً حاز قبولاً من كل من (الرفيق ستالين) و (تشرشل) كما عرض على فرنسا والصين فوافقتا عليه. . وتقضي قواعد التصويت التي اجتمع عليها الأقطاب في يالتا بأن يكتفي بأغلبية سبعة أصوات من أحد عشر صوتاً بالنسبة لجميع قرارات المجلس على أن يكون من بين هذه الأغلبية أصوات الدول الخمس العظمى مجتمعة. . . وهذه القاعدة لا يرد عليها سوى استثنائين: الأول يتعلق بالإجراءات ويكتفي فيها بأغلبية سبعة أصوات دون تمييز بين الأعضاء الدائمين وغيرهم.
والثاني يختص بأي نزاع يعرض على المجلس وتكون إحدى الدول الأعضاء طرفاً فيها فيجب عليها الامتناع عن التصويت.
غير أن الخلاف بين الدول قام في مؤتمر (سان فرنسيسكو) حول هذا القرار وحاولت الدول الصغرى وكانت تتزعمها أستراليا محاولة صادقة في سبيل تعديله لأنه يتفرع عن هذا القرار أنه يكفي أن تمتنع إحدى الدول العظمى عن التصويت أو تعارض القرار وهذا هو حق الاعتراض أو الفيتو لكي يستحيل على مجلس الأمن إصدار القرار المراد إصداره. .
ولقد نددت الدول الصغرى بحق الفيتو هذا ووضعته بأنه سيف مصلت فوق الرءوس وأن أحكام القانون والعدالة وحقوق الدول في الحرية والمساواة والسيادة ستصير كلها كلمات
جوفاء يمكن لأية دولة عظمى أن لا تعيرها اهتماماً طالما كان في يدها هذا السلاح الذي تنهار أمامه جميع الادعاءات.
ورغم هذا الدفاع العادل فقد باءت محاولات الدول الصغرى بالفشل. . واكتفت بتأكيد أصدرته الدول العظمى أثناء المناقشة ومفاده أنها في استعمال حقوقها في التصويت سيحدوها دائماً الإحساس بتبعاتها نحو الدول الصغرى وأنها لن تستعمل حق الاعتراض إلا في أضيق الحدود.
نستطيع أن نفهم إذن مما تقدم أن حق الاعتراض هو - أولا - نص من نصوص ميثاق هيئة الأمم جاءت به المادة السابعة والعشرون، وأنه - ثانياً - ميزة تعتذ بها الدول الكبرى وتحرص عليها أشد الحرص.
ولما كان هذا الحق نصاً من نصوص الميثاق، فهو - كبقية النصوص معرض للتفسيرات المغرضة التي تتلاءم مع أهواء كل من الكتلتين، الشرقية والغربية، وكان من المحتوم أن يثور حوله الخلاف ويكثر الجدل لا سيما أنه يعد من أهم النصوص بل أقواها على الإطلاق.
استعملته الكتلة الشرقية في مسألة البلقان وحدها ثلاث مرات، ولاشك أنها بذلك قد فوتت على غريمتها أغراضها وخططها الأمر الذي أثار حفيظتها ودفعها هي الأخرى إلى استعماله أخذاً بالثأر والانتقام. . . ولعله من المؤسف حقاً أن تكون الشقيقة إندونيسيا ضحية للاستعمال السيئ لحق الاعتراض مما حرك سخط الضمائر الحرة على الكتلة الغربية التي كانت تلوح به أيضاً أثناء نظر القضية المصرية.
ومهما يكن الآراء فإن من المحقق أن الدول العظمى قد نقضت وعدها السابق، وأصبحت تستعمل حق الاعتراض طوع الأهواء والشهوات، ولعل أعظم دليل على ذلك ما حدث ومازال يحدث في طلبات الانضمام إلى هيئة الأمم، وكان من جراء ذلك كله أن تعود صيحات الدول - لاسيما الكتلة الغربية - منددة بسوء استعمال حق الاعتراض في اجتماع الدورة الحالية للجمعية العامة فارتفعت صيحة تقول: إن استعمال الدول الكبرى لحق الفيتو قد شل العمل في سبيل تحقيق السلام العالمي، وأن ثمة خطراً من إساءة استعماله مما قد يجعل استتباب السلام مستحيلا.
وتجاوبت أخرى تقول إنه ليس من المغالاة في شيء أن بناء هيئة الأمم المتحدة لابد أن ينهار يوماً ما بفعل الضربات المستمرة التي تصيبه من معول الفيتو، وأنه ينبغي أن يختار العالم بين هيئة الأمم المتحدة والفيتو إذ لا قبل لنا بهما معاً ولا يبعد أن نفقد الاثنين عما قريب.
ورغم أن الأرجنتين هي التي أثارت هذه القضية في الجمعية العامة إلا أن الولايات المتحدة هي التي تزعمت الحركة المناهضة، واقترح (مارشال) وزير خارجيتها في خطابه الذي ألقاه أن تقوم (هيئة تنفيذية للسلم والأمن الدولي) تتكون من جميع أعضاء الجمعية العامة، وهذا الاقتراح خطير جداً نستطيع أن نفهم منه أشياء كثيرة.
وتبدو خطورته إذا ما عرفنا أن لمجلس الأمن اختصاصين: يتعلق الأول منهما بحل المنازعات حلا سلمياً أو بعبارة أدق حل المنازعات التي يكون من شأن استمرارها تعريض السلم والأمن الدولي للخطر، ويختص الثاني بالأحوال التي يقع فيها تهديد للسلم أو إخلال به أو حصول عدوان معين.
وعلى ذلك يكون هدف مارشال أن ينتزع الاختصاص الأول لمجلس الأمن لتقوم به الهيئة التنفيذية المقترحة، وإذا عرفنا أن حق الاعتراض هو السائد في جميع أعمال مجلس الأمن بنوعيها استطعنا أن نفهم أن الاقتراح يرمي إلى إبعاد حق الاعتراض عن المسائل التي من الاختصاص الأول لمجلس الأمن والتي يراد إلصاقها بالهيئة المقترحة وهي المسائل المتعلقة بالسلم والأمن الدولي ثم قصر هذا الحق على الاختصاص الثاني أو ما عبر عنه مارشال بالحالات التي تضطر فيها هيئة الأمم المتحدة إلى اتخاذ إجراءَات عسكرية أو اقتصادية. ولعل من المفيد أن نقدم للقارئ بعض فقرات من خطاب مارشال يشرح فيها وجهة نطره فيما يتعلق بهذا الاقتراح حين قال:
(إنه يتسنى بذلك أن نبعد تهديد استعمال الفيتو في المسائل التي تشير إليها المادة السادسة من الميثاق وهي التي تنص على حل الخلافات حلا سلمياً وإن حق الفيتو قد منع مجلس الأمن من القيم بوظيفته الحقيقة). .
ومن العجيب أن تكون الولايات المتحدة هي التي اقترحت نص الفيتو، وهي نفسها التي تحمل عليه الآن حملة شعواء. . والتعليل لذلك التناقض قد وضعناه من قبل في يد القارئ:
وهو ذلك التنافس المرذول بين الكتلتين الشرقية والغربية على مصير العالم التعيس. إن نصوص الميثاق لا تفسر أو تطبق حسب مقتضى المنطق والعقل ولكن تجتهد كل كتلة في أن تفسرها بما يتفق مع مصالحها وينزل بالطرف الآخر أشد الإضرار، ويعلم الدارسون للقانون أن العلاقات الدولية مازالت في دور الطفولة وكان الواجب أن نبعد النصوص الخطرة من تنظيم هذه العلاقات كما نبعد الألعاب الخطرة عن متناول أطفالنا.
لقد قلنا إن حق الاعتراض ميزة تعتز بها الدول الكبرى وتحرص عليها أشد الحرص لأنه بمثابة سلاح في يدها تمزق به الدول الصغرى كلما احتاجت إلى طعام جديد، فالولايات المتحدة تريد إبقاءه مع تقييده وتحديده بالحدود التي ذكرناها، وروسيا السوفيتية تجاهد في إبقاء النص كما هو دون تغيير أو تعديل، وبريطانيا - كما جاء على لسان رئيس وفدها في الجمعية العامة - لن تقترح إلغاء حق الفيتو ولكنها تشعر فقط بأن هذا الحق قد أسيء استعماله، وليس علاج ذلك تغيير ميثاق هيئة الأمم المتحدة ولكن معرفة ما إذا كان العالم يؤيد بريطانيا في اعتقادها بأن حق الفيتو قد أسيء استعماله أم لا؟!
وبهذه المناسبة نقول إن اقتراح مارشال يقوم بذاته دليلا على أن بناء ميثاق هيئة الأمم لم يقم على دعائم ثابتة، وأن مجرد الحديث عن تغيير الميثاق أو تعديله مدعاة لأن توزن الثقة به من جديد.
إننا لا نريد بقاء هذا السلاح في يد خمس دول لترهب به بقية دول العالم بل إن مصير الإنسانية أجل من أن تتحكم فيه شرذمة تناسق وراء أهوائها وشهواتها. والرأي الصائب أن تتمسك الدول بمبدأ المساواة في السيادة، وحكم الأغلبية في تنفيذ القرارات، وألا تدع لأية قوة سبيلا عليها سوى سلطان القانون والعدالة.
وأكرر في الختام أن هناك بعض المآخذ الأخرى على هيئة الأمم ويمكن جمعها تحت عنوان (بوليس الأمن الدولي) فإلى اللقاء.
عبد الحميد عثمان عبد الحميد
كلية الحقوق
ألحان ثائرة
(مهداة إلى الصديق القديم محمود فهمي النقراشي)
ألق عن وجهها الغضوب النقابا
…
لا تخاصم إلى الذئاب الذئابا
أمِرَ الأمرُ فادّرعهم شيوخاً
…
عاقروا الصبر، وادّرعهم شبابا
وأدرك لحنك الذي أيقظ الثو
…
رة، واخُمر في صَهْده الأعصابا
نحن في عالم تحيفه الشك
…
وضل الصواب فيه الصوابا
أمة تنشد السلام. . . فما با
…
ل حمام السلام أمسى غرابا؟!
أي أمثولة أصم بها الدا
…
عي وإن هاج ثائرين غضابى
معبد صور العدالة في الأر
…
ض إلها، والأمن فيها نصابا.!
ما لرهبانه العجائز كانوا
…
أول الملحدين لما أهابا. . .!
ما لألحانه الجميلة باتت
…
فوق أطلاله بكا ونُعابا؟!
إنما نحن أمة تمضغ الحق
…
د فما بالنا نعاف اللُّهابا
وإذا الحق لم يصادف سميعاً
…
أوشك الحق أن يحول احترابا
ليس في شرعة الطواغيت غير النـ
…
ار رباً، وغيرها محرابا.!
والذي يطلب الحياة سلاماً
…
كالذي يطلب الحياة سرابا
ذل من يركب الرجاء وفي كف
…
يه ظفر يذود. . ذل وخابا
طاهر محمد أبو فاشا
من وراء المنظار
من خوف الكوليرا في كوليرا!
دخلت أزور ابن عم لي في داره فلقيتني زوجه في الدهليز وما وقع بصرها عليَّ حتى قالت وهي تضحك: هلم فهذا منظر خليق بأن تراه من وراء منظارك، ولقد خطرت ببالي الساعة وأنت على السلم؛ وقادتني إلى حجرة الطعام حيث كان زوجها يتهيأ لتناول عشائه.
ودخلت في سكون ولم أحيّ فلم ينتبه إليَّ، ونظرت فإذا بالمسكين يجلس إلى المائدة وقد وضع رجله اليمنى في (حلَّة) على الأرض عن يمين مقعده تبينت فيها سائلا ما ورجله اليسرى في (حلَّة) أخرى عن شماله وهو يغسل يديه في وعاء على خوان قريب منه وعلى صفحة وجهه سحابة مركومة من الهم، وضحكت وضحكت زوجته فرفع رأسه وابتسم ابتسامة ضئيلة لم تلبث أن غرقت في هذا السحاب المركوم، وأراد أن ينهض فلم يستطع لبعد ما بين الحلتين، ثم قال في إشارة حازمة وفي لهجة جازمة: لا تؤاخذني أرجو أن تغسل يديك في هذا الوعاء، ونظر إلى زوجته نظرة عتب وسألها لم لم تطلب إليَّ أن أغسل يدي في الوعاء لدى الباب، وكأنه لم يعجبه ضحكها في هذا الموطن، موطن الجد الرهيب فطلب إليها في شيء من العنف أن تغسل يدها، وفهِمَتْ أن ذلك لأنها سلمت عليّ، فمشت حمرة خفيفة في محياها الأبلج ولم تجد بداً من إطاعته إشفاقاً عليه كما قالت مداعبة إياه في رفق. . .
وراحت ربة البيت تشرح لي هذه السوائل التي يغمس فيها رجليه ويديه، وتضحك إذ تقص عليّ كيف يغسل يديه كلما لمس شيئاً، وكيف يدعو بائع اللبن وبائع الصحف وغيرهما إلى غسل أيديهم قبل أن يناولوه شيئاً وكيف لا يفوته كلما نقص وعاء الغسيل لدى الباب أن يملاه بالمحلول. . .
وينظر إليها زوجها إذ تضحك فيمتلئ غيظاً ويسألها كيف لا تدرك وهي المثقفة المهذبة أن الأمر جد لا هزل، وفيم هذا الضحك الذي ينطوي على عدم المبالاة والذي يفهم منه أنها لن تعمل في غيبته شيئاً مما يدعوها إليه من وقاية؟
ولم تغب عن منظاري بقية (الاستحكامات) في الحجرة فهذه مضخة قريبة بها من السائل كيت وكيت، وتلك أخرى بها من المساحيق كيت وكيت، وثالثة ينطلق منها إذا فتحت غبار
كثيف لمطاردة الذباب، وكم ذكرتني بشبيهاتها من المدافع التي كانت تنصب لمطاردة الطائرات زمن الحرب. .
ونظر رَبُّ الدار فإذا أحد الأطباق يظهر جانب منه من تحت الغطاء القماشي فتأفف ونظر في وجه امرأته نظرة حنق وسحب القماش فغطى الطبق؛ وسألته فيم هذا الغطاء؟ فنظر إليّ وكأنه ينظر إلى معتوه ثم قال، ألا ترى أن ذبابة واحدة كفيلة بأن تقتل من في المنزل جميعاً بل من في الحي كله إذا وقعت على الطعام؟ فقلت: إذا كان هذا مبلغ خوفك من الذباب في الليل وهذه المدافع من حولك فليلطف بك الله في النهار؟
وضحكت زوجته ضحكة عالية ثم نظرت إليه معاتبة وما تريد إلا أن تسري عنه وقالت: أتذكر الحرب؟ صور لنفسك إحدى طوائر الألمان المنقضة وقد هبطت من السماء على دارك فهذا هو شأنه تلقاء ذبابة مسكينة من الذباب.
وما أتمت كلامها حتى نظر إليها وراح يقلد لهجتها ونطقها مستهزئا وهو يقول: ذبابة مسكينة من الذباب! المسكين أنت! لقد كان من المخابئ عاصم من الطائرات وما الذي يعصمنا من ذبابتك المسكينة؟
وقلت له ما الذبابة بمسكينة ولا زوجتك بمسكينة، وإنما أنت المسكين فهذا عذاب ليس مثله عذاب؛ وضحكنا جميعاً وكشف الغطاء عن الطعام ليأكل، وقمنا نداعبه فوقفت عن يمينه وفي يدي إحدى المضختين وقامت زوجته عن يساره وفي يديها المضخة الأخرى، وكلما ابتلع لقمة حمد الله ونحن ندعوه إلى الطمأنينة فلن نسمح لذبابة أن تقرب من المائدة حتى يفرغ من طعامه. . .
وانصرفت، وفي نفسي أني لن أرى من هو أشد من ابن عمي وهماً؛ ولكن منظاري وقف بي في صباح اليوم التالي على منظر أنقله للقارئ في غير نقص أو زيادة:
انحنت عجوز أمام باب إحدى جرائدنا الكبرى وراحت تقيئ وفزع الناس بالضرورة وابتعدوا عنها واقترح بعضهم طلب الإسعاف؛ ومر شاب وجيه المظهر بادي الفتوة كثير الأناقة، وقد فرغت العجوز من قيئها فخيل إليه انه مس بحذائه هذا القيء بعد أن فطن إلى أنها كانت تقيئ فكأنما نزلت به صاعقة من السماء، ونظرتُ فإذا صفرة كصفرة الموت تمشي في محياه وإذ العرق يلتمع في جبينه ونظر إلى الناس لهفان كأنما يستنجدهم، ولبث
في مكانه لحظة لا يدري ماذا يفعل، ثم مر قريباً منه (تاكسي) فاستوقفه ومد يده فخلع حذاءه وجوربه في حذر بحيث لا يمس إلى وجهه، ثم مشى حافياً ودخل السيارة وانطلق وترك الحذاء الجميل والجورب الثمين حيث كان يقف ولم يلتفت إليه لفتة كأنما يخشى حتى مجرد منظره!
وكم كان يبعث على الضحك منظر السابلة بعد ذلك إذ يلقون نظراتهم على هذا الحذاء في تعجب وهم لا يعلمون لم ألقى به هناك وبماذا يفسر وجوده، وكان يمشي بعضهم في سكون ودهشة بينما كان يستفهم البعض أحد الواقفين، واجتمع عدد من الخلق فمنهم من ينظر إلى العجوز ومنهم من ينظر إلى الحذاء، واختلط الأمر على الناس حتى لقد سمعت من كانوا في مؤخرة الزحمة يقول إنها قنبلة! ووثق بعضهم من الأمر فراح يصف طولها وحجمها وشكلها! وهكذا ينقلب الحذاء الجميل الهادئ إلى نوع مفزع من من المفرقعات!. .
وذكرت ليلة الأمس ومبلغ خوف ابن عمي، وحرت بين البطلين أيهما أولى بالرثاء، أهو ابن عمي أم هو صاحب الحذاء؟
الخفيف
هذا الطوفان. .!
للأديب الطاهر أحمد مكي
كنا جماعة، وكان الحديث عن الأدب. . . نقلب الرأي في طغيان الأدب الرخيص على العالي، وعدوان العامية على العربية، واحتلال المجلات الهزلية لعقول الناشئة، والصحف اليومية لجمهور المثقفين. . . وبقاء أدوات الفن الرفيع من مجلات وكتب، محصورة في دائرة ضيقة من الذيوع والانتشار! لأنها لا تتمشى من الغرائز، ولا تخضع لرأي العامة، ولا تهبط لمستوى الدهماء، ولا تستجلب رضا القراء، بصورة عارية، أو مقال مثير!. .
والناس اليوم في انحلال خلقي، مصدره قسوة الحرمان في أيام الحرب وأعقاب الحرب، واستهتار جنسي مبعثه إطلاق العنان للغرائز، واستسلام الفتيان للشهوات وتسرب الإباحية إلى العقول واندفاع الصحف التي همها أن تربح عن أي طريق، وأن تعيش بأي أسلوب، في ممالأة هذا اللون من الحياة!
طالع ما تشاء من صحف اليوم، واقرأ ما تهوى من كتبه، فلن تجد للعربية من بلاغتها وروعتها أثراً ولن تشعر بالمتعة الروحية السامية، التي تطرب لها حين تلتمس القراءة، في كتاب قديم، أو سفر حديث، من إنتاج أولئك النفر القليل، من كتاب العربية الأفاضل، ممن صمدوا أمام التيار، فلم يجذبهم بريق الذهب اللامع، ولم يجرفهم تيار المادة الخادع، فظلوا كما هم، وكما شاء لهم إيمانهم بالفن ورسالته، أوفياء بالعهد، حفظاء للرسالة، ولو كره الجاهلون وأنصاف المتعلمين!. .
إن المطابع قد أغرقت السوق بطوفان من الكتب، جلها غثيث تافه لأن صاحبه طالب شهرة، لا يعينه إلا أن يطبع اسمه في مكان بارز من غلاف الكتاب، وسيان لديه أن يرحب به الناس أو يغضبوا عليه مادام قد بلغ الغاية التي سعى إليها، فأقحم شخصه في زمرة المؤلفين!. .
وتجاريين تخصصوا في اقتناص المال من الجيوب، بالحلية الواسعة، والدهاء الماكر، وحذقوا فن التلصص وأساليبه، وكان أن لمسوا مركب النقص في الحياة المصرية، وما تعانيه الشبيبة من حرمان وكبت، فطفقوا يغرقون الأنظار بطوفان من الصور العارية، ويؤججون الشهوات بأبحاث عن الرذيلة الفاتنة، ومن ثم كتب لهم النجاح، وإن يكن ثمنه، فساد ضمائر الشباب، وإهدار عفاف الفتيات!. .
محال أن يوقف هذا الفيض من الانحلال، أفراد قلائل أو صحف محدودة الذيوع والانتشار، فعلى الذين يملكون التشريع والتنفيذ، وقد استعملوهما في كل ما يتصل بماديات الحياة، أن يعطوا الناحية الروحية بعض العناية، فنحفظ للغتنا سموها، ولأدبنا روعته، ولأخلاقنا جمالها، فنسدي بذلك للعربية، فضلا لا ينكر ولا يجحد!. .
الطاهر أحمد مكي
تعقيبات
عقليتنا المستعمرة!!
في المؤتمر الثقافي العربي الذي عقد أخيراً في لبنان، اقترح أحد الأعضاء أن يرسل المؤتمر بكتاب إلى مجلس الأمن يؤيد به قضيتي مصر وفلسطين، فنهض له الأستاذ فؤاد أفرام البستاني ورد اقتراحه بأن المؤتمر ثقافي ولا سياسي، فليس من شأنه أن يرسل بهذا الكتاب ولا من مهمته أن يقتحم هذه الأمور التي هي من شأن رجال السياسة. . فقال الراوي وكاد الأمر أن يتطور أو يتهور. لولا أن الأستاذ إسمعيل القابني بك رئيس وفد مصر حسم الأمر بلباقته فطلب تحويل كافة الاقتراحات إلى اللجان الخاصة. .
وليس هذا بالأمر الغريب، ولا هو مما يثير الدهشة، فإننا أبناء الشرق العربي قد مُنينا بالاستعمار الفاجر دهراً فهدم كياننا، وحكم قوميتنا، وحلل شخصيتنا، وكانت خدعته الكبرى في ذلك أن أقنعنا بأن الدين شيء لا يتصل بالدنيا، وأن العلم شأن غير السياسة، وأن السياسة خطة غير الوطنية، وأن الوطنية هي أن يجد الإنسان ما يملأ به بطنه. . وهكذا أصبحنا نحيا الحياة، إذا أخذنا في ناحية منها فإننا نستدبر جميع النواحي الأخرى ولا يمكن أن نجمع في ذلك بين طرف وطرف، وليس رأي أخينا أفرام البستاني إلا أثرا من آثار تلك الخدعة الاستعمارية التي نكبنا بها الاستعمار اللئيم. . .
ألا ليت الأستاذ أفرام يقول لنا ما قيمة هذه الثقافة وما جدواهما وما حاجتنا إليها إذا لم تحقق لنا حياة حرة كريمة، وإذا لم تحقق تلك العقبات التي تعترض طريقنا وتذل أعناقنا، وإذا لم تفعم نفوسنا بالقوة والشجاعة والبطولة، وإذا لم تخلق لنا شخصية واضحة وقومية متميزة، وإذا لم تكن صلتنا بالحياة وطريقنا إلى المستقبل وسلاحنا الذي نكافح به الظلم، أجل! ماذا تكون الثقافة إذا لم يكن كل هذا أثراً من آثارها في حياتنا ونهوضنا وفي نفوسنا وقلوبنا؟!
لقد رأينا في الحرب الماضية كيف كان العلماء يبذلون علمهم ويرهفون قرائحهم في سبيل نصرة أممهم، وكيف كان رجال الفكر والفهم يتصدون للدفاع عن أوطانهم ويخاطرون في ذلك أكثر مما يخاطر الجنود. . . بل نحن أبناء الشرق ندرك ونعرف أن الاستعمار لم يكن يسير في أي بلد من بلادنا إلى وراء خطوات مستشرق يتخذ العلم وسيلة للتحكم أو وراء مستكشف يجعل الاستكشاف طليعة للتملك، أو وراء مدارس وجامعات ينشئون فيها أبناءنا
على هواهم، ويبثون بها في نفوسنا من العقائد مثل ما يعتقد (السيد أفرام) من أن الثقافة لا شأن لها بالسياسة. .
إننا نجاهد للتحرر من الاستعمار السياسي والاقتصادي، وسنفوز بذلك لاشك، وإن التحرر منها علم الله لأسهل وأيسر من التحرر من استعمار آخر يكرب نفوسنا وينخر في عظامنا إلا وهو الاستعمار العقلي الذي يجب علينا أن نقاومه ونطارده وأن نعلن عليه حرباً لا هوادة فيها، فإنه السم القاتل والداء الدفين. .
الآباء والأبناء:
وقع في يدي تقرير اللجنة الأولى للمؤتمر الثقافي العربي فرأيت فيه اتجاهاً طيباً يدعو إلى الغبطة ويبشر بخير كثير، فقد أشار (بأن تكون الدراسات الاجتماعية أساساً لتدريس التربية الوطنية، على أن يشمل هذا الأساس إبراز الاتصال الجغرافي التام بين البلاد العربية وما كان لذلك من دور خطير في قيام الحضارات وتقدم الإنسانية)، كما تضمن الإشارة إلى الواجب في (إبراز دور الإمبراطورية العربية في التاريخ، وتوضيح الفكرة في أن العروبة لم تكن لدين ما، بل إنها كانت ولا تزال أمانة في عنق كل عربي، وأن التعصب لم يعرف في البلاد العربية إلا في العصور التي حكم فيها الأجانب) ثم ينوه التقدير (بالأخوة في العروبة والدعوة إلى التكتل والعمل على التذكير الدائم بمساوئ الاستعمار وضرورة اتخاذ النظام الديمقراطي أساساً في تنشئة الطالب).
وبعد أن أشارت اللجنة في تقريرها هذا إلى ضرورة تدريب الطلبة على أساليب الحياة المختلفة في ميادين التعاون الاجتماعي والرياضي والكشفي دعت إلى قيام اتحاد للطلبة العرب ومؤتمرات سلم ومخيمات كشفية ووضع أناشيد مشتركة وتبادل الطلبة العرب بين الأقطار العربية وإنشاء بيوت لعم في كل قطر عربي. .)
وما أريد أن أورد كل ما نضمنه ذلك التقرير، فقد تضمن تفاصيل مطولة، وهي تفاصيل تلتقي كلها في رغبة واحدة، هي تقوية الشعور بالقومية العربية في نفوس أبناء الجيل الجديد حتى لا تكون الوحدة العربية ميثاقاً مكتوباً في الورق، بل تكون دماً يتدفق في العروق.
إنه كلام طيب جداً، وإنما العبرة بالتنفيذ القريب، وحين نبدأ أول خطوة في هذا السبيل
نكون في الواقع قد بدأنا السير لتحرير عقليتنا من إرضاء الاستعمار.
ولماذا ننسى أنفسنا:
اهتمت الصحف المصرية على اختلاف نزعاتها بتتبع (الكوليرا) كما يسمونها الآن أو (الهيضة) كما كانت تسمى من قبل، واهتمت إلى جانب ذلك بسرد تاريخ ذلك الوباء اللعين في مصر، وما كان له من هجمات عنيفة على المصريين، ثم ما كان لرجال الطب من جهود صادقة في مدافعته واكتشاف ميكروبه وتحدثت في هذا عما كان من حضور الدكتور كوخ الألماني إلى مصر عام 1883 على رأس بعثة طبية لاكتشاف هذا الميكروب وعما كان من وصول بعثة طبية أخرى من معهد باستور بفرنسا لمثل هذا الغرض، ولكن الصحف المصرية جميعها نسيت في هذا المقام جهداً مصرياً كان من الواجب أن يذكر، وكان من الواجب أن يرجع إليه رجال الطب عندنا فسيجدون فيه من التجارب المفيدة والخبرة النافعة ما لا يقل عن تجارب بعثة (كوخ) ولا بعثة (باستور).
ذلك أنه لما تفشى وباء الكوليرا في مصر عام 1883م وجاءت البعثات الطبية من الخارج لدراسة أحوال هذا الوباء وإثبات تجاربها عنه عكف المجلس الصحي في مصر هو الآخر على مثل هذا العمل وأخذ أعضاؤه يوالون البحث والتجربة بشأن هذا الوباء، وانقسموا في هذا إلى فريقين: فريق يرى أنه يتولد تولداً ذاتياً متى كانت هناك البيئة التي تساعد على وجوده ونموه، وفريق يرى انه لا يظهر في مكان إلا منقولا إليه من مكان آخر وكان على رأس هذا الفريق الدكتور سالم باشا سالم طبيب المعية الخديوية يومذاك، وقد جرت مناظرات بين الفريقين كانت أعنف وأشد من المناظرات التي قامت بين (كوخ) وأطباء ألمانيا في ذلك الوقت، ولكن الأطباء الألمان أخذوا يوالون البحث حتى وصلوا في هذا إلى ما نفعوا به الإنسانية وكانت حكومتهم تشجعهم على ذلك بألوف الجنيهات، أما الذي جرى عندنا فإنه بسبيل العبرة ويدعو إلى العبرة، ذلك أن الخديوي توفيق خشي يومذاك من امتداد المناظرة بين الفريقين فألغى مجلس الصحة وكفى الله الأطباء شر القتال. .
مضى ما مضى، فلن يجدي التحسر عليه، ولكن الذي يدعو إلى الأسف أن ما توصل إليه أطباؤنا يومذاك من نظريات وآراء، وحققوه في خبر كان، ولو كان رجال العلم عندنا يذكرون أنفسهم ويعتدون بشخصياتهم لكان في رجال الطب من عكف على موالاة ذلك
البحث والبناء على ذلك الأساس الذي وضعه الأطباء المصريون فكان حقق لمصر في ذلك فخراً لا ينسى.
ولكن أين في أطبائنا اليوم من يذكر ذلك الجهد؟ أو يكون عنده شيء من خبره، أليس من العار أن يكون في مستشفى الإسكندرية غرفة اسمها (غرفة كوخ) تخلد بها ذكرى ذلك الطبيب الألماني وزيارته لمصر، ومع هذا فليس فينا من يذكر شيئاً عن أولئك الأطباء المصريين الذين بذلوا من الجهد، وأبدوا ما أبدوا من علم واسع وخبرة نافعة وتجارب انتفع بها (كوخ) وغير (كوخ) من الأطباء.
في ماضينا مواقف لابد أن نبني عليها حتى تترفع، إنها مواقف عظيمة مشرفة يمكن أن نعتز بها بين الأمم، ولكنا مع الأسف أمة تجهل ماضيها وتنسى نفسها!
(الجاحظ)
الأدب والفنّ في أسبُوع
خلاف بين الأساتذة:
حينما كتبت الموضوع الذي عنونت له بـ (جدل في الجامعة) بالعدد (741) من الرسالة - كنت قد سمعت أحاديث عن حال واقعة بين بعض أساتذة كلية الآداب، قيل إنها أصل الجدل في مسألة الرسالة المقدمة من الأستاذ محمد أحمد خلف الله للحصول على (الدكتوراه) والتي موضوعها (القصص في القرآن).
وقد أمسكت عن الإشارة إلى ذلك الذي سمعته لأني لم أر فيه وقتذاك ما يخرج عن الأمور الشخصية، وقصدت إلى موضوع الرسالة وما أثير حوله إذ رأيت فيها ما ينبغي من أجله نقل المسألة من حيزها المحلي إلى ميدان الرأي الأدبي العام.
ولكن الأستاذ خلف الله أشار في آخر مقاله بالعدد الماضي الذي أوضح فيه بعض ما تضمنته رسالته بعد أن قرأ (جدل في الجامعة) - إلى ما كنت قد أمسكت عنه، وذلك بقوله:(المسألة لا تحتاج هذا الضجيج. لكنها العصبيات فأساتذة الجامعة يتعصبون ويتحزبون كما يتعصب ويتحزب رجال السياسة وإذا كان الأستاذ الخولي قد رفض رسالة الأستاذ المحاسني فيجب أن ترفض رسالة خلف الله).
وتفصيل ذلك - حسب ما سمعته - أن الأستاذ زكي المحاسني كان قد أعد رسالته بإشراف الأستاذ الشايب، ولما عرضت الرسالة على لجنة من الأساتذة أجازوها إلا الأستاذ أمين الخولي فقد رفضها، وحدث بعد ذلك أن رفضت رسالة (القصص في القرآن) التي أشرف عليها الأستاذ الخولي، وهذا هو صاحبها يعلل رفضها، وهو يرمي بهذا التعليل إلى نفي أن الباعث على هذا الرفض ما تضمنته من أراء متطرفة.
والذي نستخلصه من كل ذلك أن هناك خلافاً بين كبار الأساتذة في كلية الآداب، وقد كنا نقول إن الألسنة تمتد بالأقاويل والشائعات، لولا أن عضواً من هيئة التدريس بالكلية يقرر ذلك. .
والمسألة ذات بال وخطر، لأن ذلك الخلاف يتدخل في الحكم على رسائل الطلاب، وهذا هو ما يخرجها عن الحدود الشخصية، وقد تمتد أثر هذا الخلاف إلى غير الرسائل من تقدير كفايات الطلبة في الامتحانات!
ولا أتقدم أكثر في هذا، بل أرجع فأقول: أيمكن أن يقع ذلك من أولئك الأساتذة الأعلام وهم يعلمون أنهم مثل عالية للطلبة الذين يضعون مصائرهم بين أيديهم. .؟
ولكن ما حيلتي. . وقد غضضت النظر عما سمعت، فإذا مدرس بالكلية يصرح به. .
القدر المشترك بين ناشئة العرب:
القدر المشترك من الثقافة العربية الذي يقدم لأبناء العروبة في جميع أقطارها، هو أحد الغرضين اللذين أعلنت الهيئة التحضيرية للمؤتمر الثقافي العربي أن أعماله تهدف إليهما، والغرض الثاني هو تحسين طرق تعليم اللغة العربية.
وقد وعدت في الأسبوع الماضي أن آتي بما يراه المؤتمر من الطرق والوسائل لتوفير القدر المشترك. وهاك ما وعدت به:
يرى المؤتمر أن الهدف الذي ترمي إليه دراسة القدر المشترك هو إثارة شعور المشاركة بين سكان الأقطار العربية في الحضارة والتاريخ، وفي منزلتهم من النشاط الدولي الحديث.
وهذا القدر ينبغي أن يكون في المرحلة الابتدائية يسيراً ملائماً لمدارك التلاميذ، وممهداً لقدر أرقى منه في المرحلة الثانوية ويمكن توفير هذا لقدر في المرحلة الابتدائية عن طريق:
1 -
الأناشيد: فتختار منها مجموعة تكون موضوعاتها مناسبة لفكرة التعاون العربي والمشاركة في الشعور، توقع توقيعاً موسيقياً، ويحفظها بتوقيعها تلاميذ جميع الأقطار العربية.
2 -
المحفوظات: تختار قطع سهلة، يلاحظ فيها أن تكون مما يشيد بالأخلاق العربية من نجده وبطولة وما إليهما، وأن يكون بعضها لأدباء من الأقطار العربية المختلفة، مع تعريف بسيط بهم، وهذه يحفظها جميع التلاميذ.
3 -
القصص: فيختار منها عدد يحقق الفكرة السابقة، من تصوير الكرم والإباء وعزة النفس وغيرها، مما يبعث في نفوس التلاميذ الإعجاب بتاريخ العرب وأبطالهم قدامى ومحدثين.
4 -
المطالعة: فتتناول بعض كتبها في كل قطر موضوعات تعين على تقوية الروابط العربية، كوصف بعض المشاهد والآثار القائمة في مختلف الأقطار العربية، وكالحديث عن
فضائل العرب وفتوحهم ودولهم، وثقافاتهم وفنونهم.
ويلاحظ أن يدرس هذا في مرحلة التعليم الابتدائي مؤيداً بالصور والرسوم، أو مصاحباً للموسيقى، أو قائماً على التمثيل والحوار، مما هو مقرر في أساليب التربية.
ويوصى المؤتمر أن يسار في دراسة القدر المشترك في المرحلة الثانوية على النهج الذي قرر في مرحلة التعليم الابتدائي، مع التوسع في الثانوي بما يقتضيه في الدراسة واتساع مدارك التلاميذ وآفاقهم.
ويرى المؤتمر أن الاتفاق على منهج واحد لا يكفي لتقريب الثقافة والنهوض باللغة العربية إذا لم يعد لتعليم هذا المنهج معلمون على حد كبير من العلم وسعة الأفق والقدرة على التدريس، ولذا قرر أنه لابد من إنشاء معاهد علمية موحدة النظام في الأقطار العربية لتخريج ذلك النوع من المعلمين.
ويرى أن القدر المشترك إنما يصلح منهجاً لطلاب الثقافة العامة أما الطلاب الذين يرغبون في التخصص أو يعدون لتدريس اللغة العربية فيكون لهم منهاج أوسع وأعمق (وأنا لا أدري لم لا يصلح المنهاج الأوسع الأعمق ليكون قدراً مشتركا بين المتخصصين ومن يعدون للتدريس في جميع البلاد العربية وخاصة في المعاهد التي قرر المؤتمر انه لابد من إنشائها؟).
ويرى عقد مؤتمرات دورية لمعلمي اللغة العربية تشخص إليها وفودهم من مختلف البلاد للبحث وتبادل الرأي في أساليب التعليم كي يستفيد بعضهم من تجارب بعض، وكي يتحدوا في الوسائل والغايات وينهضوا باللغة العربية وآدابها.
مدى نجاح المؤتمر الثقافي:
وبعد فهذه التوصيات إلى ما عرضناه في العددين الماضيين من الرسالة، هي أهم مقررات لجان المؤتمر الثقافي التي وافقت عليها الهيئة العامة للمؤتمر وأوصت بأن تأخذ بها البلاد العربية المخلفة لتوحيد الثقافة بين بنيها، وكل تلك التوصيات تتجمع في (القدر المشترك) من حيث التوحيد، ومن حيث تكوينه من مواد نافعة، وكان ذلك في اللغة العربية وفي المواد الاجتماعية لأنها هي التي تتمثل فيها الروابط القومية والثقافية بين البلاد العربية.
ولا شك أن المؤتمر بذلك وضع الخطط الأساسية التي ينبغي أن تسير عليها الثقافة العربية
في المدارس الابتدائية والثانوية، ولو صرفنا النظر عن المناهج والتفصيلات التي قد يجد فيها متفحص ما لا يروقه، فإن الذي لا شك فيه أن المؤتمر نجح في بناء الهيكل العام، وهذا كسب ليس بالقليل وخاصة إذا لاحظنا أنه الباكورة الثقافية للجامعة العربية، وقد تم نجاح آخر لا يقل قيمة عن هذا النجاح إن لم يزد عنه، وهو التقاء هذه الجمهرة العظيمة من رجال الفكر في الأقطار العربية، وما شعروا به، بعضهم نحو بعض، من المودة والأخوة، وما لمسوه من التجاوب الفكري بينهم، وقد وقفت، من أحاديث العائدين، على ما ساد اجتماعات اللجان من روح طيبة في حسن التفاهم والتوافق على الأغراض، وعلى ما استقبل به اللبنانيون إخوانهم العرب الوافدين عليهم من الحفاوة والترحيب.
ملاحظات على المؤتمر:
على أن كل ذلك لا يمنع من تسجيل الملاحظات الآتية:
1 -
قام برنامج المؤتمر على أن له غرضين: تحقيق القدر المشترك، والنظر في الوسائل المؤدية إلى تحسين طرق تدريس اللغة العربية. أما الغرض الأول فقد عرفت جهد المؤتمر فيه، وأما الغرض الثاني فقد أهمل إهمالا، وكأني بالمؤتمر قد ضاق به فرأى في تثاقل أنه لابد من إنشاء معاهد علمية موحدة النظام في الأقطار العربية لتخريج معلمين للغة العربية، وأوصى بعقد مؤتمرات دورية لمعلمي اللغة العربية، وليس هذا ولا ذاك بجهد ناجز في (تحسين طرق تدريس اللغة العربية) الذي جعله المؤتمر أحد غرضيه.
2 -
كانت الحفلات التي أقيمت للحفاوة بأعضاء المؤتمر عامرة بنشاط أدباء لبنان الذين أفاضوا وأمتعوا بالشعر والنثر والزجل، وكان من الطبيعي ان يجاوبهم أدباء مصر، ولكن الذي حدث أنه لم يعن بتقديم هؤلاء، واكتفى بنشاط بعض الكبار من وفد مصر، ولم يخرج عن هذا النطاق إلا الجارم بك.
3 -
لم تهيأ لممثلي الصحف الأسباب التي تكفل لهم سرعة الاتصال بصحفهم، فلم يكن أمامهم إلا البريد الذي يبلغ القاهرة في بضعة أيام. ومن الطريف أن الأنباء التي نشرت عن المؤتمر في خلال انعقاده لم تكن عن طريق المراسلين، وإنما أخذت أنباء حفلة الافتتاح عن الإذاعة اللبنانية، أما ما نشر من أخبار المؤتمر بعد ذلك فكانت تتلقاه بالتليفون إدارة الصحافة بالجامعة العربية بالقاهرة، وتدفعه إلى الصحف فتنشره.
موضوعات السينما والأفلام الخرافية:
قال الأستاذ محمود بيرم التونسي في بيان الموضوعات التي لم تعالجها السينما المصرية بمجلة (الاستديو): (هي الموضوعات المصرية البحتة، لأن المشتغلين بالسينما عندنا يأتون بروايات أجنبية ويخلعون عنها القبعات ويضعون بدلا منها طرابيش ولاسات وعمائم، حتى لقد أفهمونا بالقوة أن حياتنا هي هذه الصالونات والحفلات وأننا نفتح بيوتنا للشبان باسم الخطوبات حتى أصبحنا كذلك فعلا، والجرم الأول يقع على عاتق السينما المصرية لأنها هي التي فرضت علينا هذه الحياة).
ولفتة الأستاذ إلى تأثير السينما بالإيحاء في حياتنا لفتة بارعة والحق أن أصل الداء في هذا الأفلام هو اختطافها من الأفلام الأجنبية على الوجه الذي صوره بيرم.
وقد كثر النعي على ذلك، وأفاض النقاد في التوجيه إلى ما يجب أن تعالجه السينما من الموضوعات التي عُدّ منها مواقف البطولة في تاريخنا المجيد، ولكن من توجه؟ فيظهر أن بعض الناس قد فهم أن هذه المواقف هي تلك الأساطير والقصص الخرافية التي تقوم على الأعمال الخارقة والبطولة التي لا يغلبها غالب، فظهرت أخيراً عدة أفلام من هذا النوع، وليت هذه الحوادث يقصد منها فكرة ترمي إلى هدف يبرر هذا التهريج.
وأصل هذه الأفلام هو أصل تلك الروايات التي أفسدت المجتمع، فإنه يحلو للغربيين أن يعرضوا صوراً وأحداثاً خرافية على أنها تمثل حياة الشرق، وقد أخذوها حقاً عن أصول عربية وضعت في أزمان غابرة، ولكنهم حرفوها عن مواضعها، فجاءت بعيدة عن حياة الشرق حتى في تلك الأزمان.
ثم جاء أصحابنا الذين توجههم فلا يأتون بخير، فحوروا أو ألفوا على ذلك الغرار. . . وإنا لنخشى أن يفسدوا الأذواق بهذا العمل كما أفسدوا المجتمع بتلك الروايات.
وأصل الداء كله يرجع إلى العجز عن معالجة موضوعات حياتنا، واستسهال الأخذ والتحوير؛ والمنتجون يستريحون إلى ذلك ليسره ورخصه وإثارته عواطف السذج والبسطاء. فالسينما المصرية في حاجة إلى أقلام جديدة أكثر من حاجتها إلى وجوه جديدة.
(العباس)
البريدُ الأدبي
حول جدل في الجامعة:
تعرض صاحب رسالة (الفن القصصي في القرآن الكريم) في كلمته المنشورة بعدد الرسالة الماضي لرأى الأستاذ أحمد أمين بك في هذه الرسالة، فرأينا أن ننشر رأي الأستاذ كاملا بنشر تقريره الذي قدمه إلى عميد كلية الآداب وهذا نصه:
حضرة صاحب العزة عميد كلية الآداب.
تحية واحتراماً.
قرأت الرسالة المقدمة من محمد أفندي خلف الله لنيل الدكتوراه وموضوعها (الفن القصصي في القرآن) والتي تفضلتم فأحلتموها على لقراءتها وإبداء الرأي فيها.
وقد وجدتها رسالة ليست عادية بل هي رسالة خطيرة أساسها أن القصص في القرآن عمل فني خاضع لما يخضع له الفن من خلق وابتكار من غير التزام لصدق التاريخ والواقع وأن محمداً فنان بهذا المعنى.
وعلى هذا الأساس كتبت كل الرسالة من أولها إلى آخرها وأرى أن من الواجب أن أسوق بعض أمثلة توضح مرامي كاتب الرسالة وكيفية بنائها.
يرى أن القصة في القرآن لا تلتزم الصدق التاريخي وإنما تتجه كما يتجه الأديب في تصوير الحادثة تصويراً فنياً بدليل التناقض في رواية الخبر الواحد.
مثل أن البشري بالغلام كانت لإبراهيم أو لامرأته. بل تكون القصة مخلوقة مثل: وإذا قال الله يا عيسى بن مريم أأنت قلت. . . الخ ص 14 وما بعدها.
الإجابة عن الأسئلة التي كان يوجهها المشركون للنبي ليست تاريخية ولا واقعة وإنما هي تصوير لواقع نفسي عن أحداث مضت أو أعرقت في القدم سواء كان ذلك الواقع النفسي متفقاً مع الحق والواقع أم مخالفاً له 28.
وربما كانت مسألة الجن التي تصور رأي الجاهليين في تسمع الجن لأخبار السماء ميداناً من الميدان القصصي.
(ابن الخياط)
والقرآن يقرر أن الجن تعلم بعض الشيء. ثم لما تقدم الزمن قرر القرآن أنهم لا يعلمون
شيئاً 29 والمفسرون مخطئون حين يأخذون الأمر مأخذ الجد 30 الأنبياء أبطال (ولدوا في البيئة وتأدبوا بآدابها وخالطوا الأهل والعشيرة وقلدوهم في كل ما يقال ويفعل وآمنوا بما تؤمن به البيئة من عقيدة ودانوا بما تدين به من رأي وعبدوا ما يعبد من إله ص 37.
تصوير أخلاق الأمم كبني إسرائيل ليس بضروري أن يكون واقعياً بل يصح أن يكون تصويراً فنياً يلاحظ الواقع النفسي أكثر من صدق القضايا. . . الخ ص 75.
القصة هي العمل الأدبي الذي يكون نتيجة تخيل القاص لحوادث وقعت من بطل لا وجود له أو لبطل له وجود، ولكن الحوادث التي ألمت به لم تقع أصلا أو وقعت ولكنها نظمت على أساس فني إذ تقدم بعضها وأخر بعضها أو حذف بعضها وأضيف إلى الباقي بعض آخر أو بولغ في تصويرها إلى حد يخرج بالشخصية التاريخية عن أن تكون حقيقة إلى ما يجعلها في عداد الأشخاص الخيالية وهذا قصدنا في هذا البحث من الدراسة القرآنية 81.
أخطأ الأقدمون في عد القصص تاريخاً 83.
منهجه هو معالجة القصة من حيث هي أدب ويعنى بذلك خلق الصور والابتكار والاختراع (84) ولذلك لا مانع من اختلاف تصوير الشخصية الواحدة في القرآن 85.
وجود القصة الأسطورية في القرآن 89.
ولعل قصة موسى في الكهف لم تعتمد على أصل من واقع الحياة 89 بل ابتدعت على غير أساس من التاريخ.
والقرآن عمد إلى بعض التاريخ الشعبي للعرب وأهل الكتاب ونشره نشراً يدعم غرضه 93 كقصة ذي القرنين.
وقصة إبليس من نوع الخلق الفني الذي يتشبث فيه القرآن بالواقع 106 عناصر القصة هي العناصر الفنية والأدبية التي اتخذ منها الفنان مادته التركيبية والتي أعمل فيها خياله وسلط عليها عقله ونالها بالتغيير والتبديل حتى أصبحت وكأنها مادة جديدة بما بث فيها من روحه، وكذلك القصص في القرآن والبحث عن المصادر في القصص القرآني على هذا الأساس.
يجب ألا يزعجنا لأنه الواقع العملي في حياة كل الفنون والآداب ص 118 وطبق هذا المبدأ تطبيقاً واسعاً.
فالقرآن كل يغير في العناصر ليجعلها ملائمة للبيئة ولطبيعة الدعوة ص 125. . . وما تمسك به الباحثون من المستشرقين ليس سببه جهل محمد بالتاريخ. . . بل قد يكون ذلك من عمل الفنان الذي لا يعنيه الواقع التاريخي ولا الحرص على الصدق العقلي، وإنما ينتج عمله ويبرز صوره بما ملك من الموهبة الفنية والقدرة على الابتكار والاختراع والتغيير والتبديل) ص 136.
ومن هذا القبيل خلق صور الجن والملائكة 137.
تدرج القصص في القرآن كما يتدرج أدب كل أديب، فالأدباء يلتمسون المتعة واللذة في كل أمر فني يعرض لهم ثم يتقدمون خطوة فيبغون الاستمتاع واللذة بالمحاولات الأولى التي تقوم على التقاليد والمحاكاة ثم يكون التخلف شيئاً فشيئاً والدخول في ميدان التجارب الخاصة ومظاهر ذلك النسخ والتدرج بالتشريع 169 الخ.
ومن ذلك كله نرى أن المسألة - كما قلت - خطيرة ومن المتوقع أن يكون لها صدى كبير سبق أن حدث لأقل من هذا.
فالمسألة في نظري يجب أن يفصل فيها رجال الجامعة المسؤولون قبل أن يفصل فيها الأساتذة قراء الرسالة من ناحيتها التفصيلية والشكلية. وتفضلوا بقبول فائق احترامي.
أحمد أمين
إلى خلف الله العامري
يا (أستاذ. .)!
لقد أغمدت سيفي، ولويت وجهي عن الميدان، لأنك أصبحت أعزّ عليّ، من أن أجرد في وجهك سيفاً، أو أثير عليك حرباً، وكيف وأنت رجل خيّر فاضل (لست من الشرّ في شيء، وإن هان) وأنت تنصف من نفسك، وتنال منها ما لا يناله الخصم العنيد، وتكتب عنها بقلمك ما لا يكتبه العدو اللدود، وكيف وقد صرت أستاذي. . . تعلمت منك أشياء كنت أجهلها. .
تعلمت منك كيف يكون العذر أقبح من الذنب، حين قرأت لك ما كتبت تعتذر به من ذنبك، وتعلمت كيف يفهم بعض (العلماء!) من الكلام ما لا تدل عليه ألفاظه ولا يفيده نظمه، ولا
يمكن أن يخطر على بال كاتبه. وكيف تبلغ (الفطنة. . .) ببعض (الأذكياء. . .) أن يريد أحدهم الشيء فينطق بضدّه، ويعمد إلى تبرئه نفسه فيوبقها.
قلت لا فضّ الله فمك، وسلّمك:
(والآن نستطيع أن ننتقل إلى الجو القرآني، لنبحث ما في قصصه من أشياء تاريخية، وقبل البدء ننظر في اعتراض قد يستثار ذلك لأن ما قررناه من صلة بين التاريخ والقصة يعتمد على ظاهرات في القصص لوحظت حديثاً وقررت على أنها بعض التقاليد الأدبية التي تصور ما للقاص من حرية والقرآن أقدم من هذه الملاحظات للظواهر وهذه المقررات للتقاليد على أنها لو كانت قديمة لا تلزم القرآن في شيء إذ لكل قاص مذهبه وطريقته ولكل خالق حريته في الخلق والابتكار ولن يقرر ما في القرآن من قيم إلا واقع أدبي ألتزمه القرآن نفسه أو على أقل تقدير حرص عليه وهو قول له وجاهته فيما نعتقد ثم هو يلزمنا أن نبحث طريقة القرآن من واقعة العملي).
انتهى بنصه وفصه، وألفاظه وحروفه، واحلف لقد قرأنه خمس مرات متتاليات فلم أفهم المراد منه، لأنه أرفع من أن يصل إليه فهمي، أو يطوله علمي.
ولقد كنا في الكفر بالدين وحده، فصرنا الآن في الكفر بالدين، والكفر بالعربية! أفبمثل هذا الأسلوب تريد أن تكتب عن القرآن؟ أن هذه هي البلاغة الجديدة، التي هبط بها الروح (الأمين) على قلب أستاذك نبيّ البيان في آخر الزمان.
هذا كلامك، لا يفهمه الناس، فهل تفهم أنت كلامهم؟ لنَرهْ: نقلت من تفسير المنار قوله: (إن الله أنزل القرآن هدى وموعظة، وجعل قصص الرسل فيه عبرة وتذكرة، لا تاريخ شعوب ومدائن، ولا تحقيق وقائع ومواقع).
فلم تفهم منه إلا أن القرآن ليس بكتاب تاريخ، وإذا كان يروي أخبار الماضين، ولم يكن تاريخاً فما هو إلا قصة، كقصص اسكندر دوماس وتوفيق الحكيم، ودوماس لا يؤخذ من قصصه التاريخ، لأنه لم يكتبها له، ولم يحرص فيها على حقائقه فقصص القرآن كذلك.
أرأيت؟ فلماذا تتعب نفسك فيما لم تخلق له؟ وهل تظن أنك تفهم كلام الله، وأنت لم تفهم كلام (عبدِه)؟
ثم قلت: على أن هذه المسألة (أي مسألة كون قصص القرآن صحيحاً أو أسطورة) قديمة -
ومن أجلها عد الأصوليون القصص القرآني من المتشابه - ولقد نتج عن ذلك طريقتان في التفسير طريقة الخلف، أما الأولون فيذهبون إلى أن كل ما ورد في القصص القرآني من أحداث قد وقع وأما الآخرون فلا يلتزمون هذا (أي لا يقولون بأن كل ما ورد في القصص القرآني من أحداث قد وقع) وعلى طريقتهم جرى الأستاذ الإمام).
مسكين أنت يا أيها الأستاذ الإمام، لقد صرت عند هذا (العامري) إماماً في تكذيب القرآن، وفي الكفر بالرحمن، ومساكين أنتم يا أيها الأصوليون. .
وكل شيء إلا الأصول من فضلك! مالك وللأصول؟ ولماذا تهرف بما لا تعرف حتى تطلق الألسنة بغيبتك؟ ومن قال لك إن الأصوليين يعدون القصص من المتشابه؟ وهبهم قالوه أفتدري أنت ما المتشابه؟ وفي أي كتاب رأيت هذا؟ ومن أي عالم سمعته؟ أو ما كان خيراً لك لو اشتغلت فيما تحسن؟ وتركت لغيرك التدليل على أن قصص القرآن أساطير كأساطير هوميروس، وروايات كروايات دوماس، ما دام غرضك كما تقول (غرضاً دينياً هو تخليص القرآن من مطاعن الملاحدة والمستشرقين)؟ ولا والله، ما غرضك إلا (الشهرة. . .)، ولن أكون عوناً لك عليها بعد اليوم!
علي الطنطاوي
هل كان معاوية كاتب وحي؟
ذكرت في كتابي (أبطال الفتح الإسلامي) في ترجمة الإمام علي كرم الله وجهه أن كتبة النبي صلى الله عليه وسلم كانوا ثلاثة وأربعين منهم أبو سفيان وابناه معاوية ويزيد وقد سرد هذه الأسماء كثير من المؤرخين كابن كثير وغيره، ولكن ابن أبي الحديد، ذكر في شرحه لنهج البلاغة أن ما عليه المحققون أن معاوية بن أبي سفيان لم يكن من كتبة الوحي، بل كان هو وربيعة التميمي لا يكتبان للنبي صلى الله عليه وسلم إلا مكاتبات الملوك ورؤساء القبائل. أما كتبة الوحي فكانوا علي بن أبي طالب وزيد بن أرقم وزيد بن ثابت رضي الله تعالى عنهم)
المنصورة
محمود نصير
القَصصُ
قصة من الأدب الروسي:
(الحُمَّى)
للكاتب الروسي أنطون تشيكوف
للأستاذ مصطفى جميل مرسي
1860 -
1904
(هذه صورة وليست قصة!. . تمتاز بألوان من الوصف الدقيق
وتزخر بصنوف من التصوير البارع. . . يعرضها تشيكوف
- ذلك الكاتب العظيم - بريشته الفنانة وقلمه الصنع. . .
فيبدع الوصف ويجيد التصوير وتجيء آية بينة واضحة على
قدرته البيانية وقريحته الخصبة وعبقريته في رسم المشاعر
الإنسانية، والاحساسات النفسية. . .
فهو يجلو لنا صفحة رائقة شائقة من حياة مخلوق من البشر. . . أصابته حمى (التيفوس)، فخر صريعها. . . وراح يعاني آلامها وبلواءها. . . وأحسب أن هذا لا يتيسر إلا لمن كابد الآلام، وثقلت عليه وطأة المرض. . . فأشتد تأثره به.! وأخرج لنا هذه الصورة المجلوة الحقة التي لا يدخلها باطل. . ولا تخالجها مبالغة!. .)
(م جميل)
كان القطار ينساب بين الربوع في سرعة وفي صخب، بعد أن خلف وراءه (بتروغراد) وغايته (موسكو)!. . . وفي إحدى عرباته جلس الضابط (كليموف) وهو شاب تجلت على سيمائه آيات العناء والألم!.
وكان رفيقه - الذي قعد مواجهاً له - رجلاً طاعناً في السن!. حليق الذقن. . . تلوح عليه دلائل الثراء والعيش الرغد. ويخيل إلى المرء أنه من أبناء (فينلندا) أو (السويد). . . لم يبرح طيلة السفرة. . . يدخن (غليونه)، وينفث هباءه في الهواء!. . . وكان ثرثاراً مهذاراً، نهماً إلى الحديث، شرهاً إلى الكلام. . . لا يفتأ يلفظ بهذره حول معنى واحد. . . دون تنويع ولا تبديل!. . .
- (ها!. إنك ضابط!. كذلك لي أخ ضابط؛ بيد أنه نوبي يجوب البحار!. . ألا خبرني ما الداعي لذهابك إلى (موسكو)؟!.)
- (إن لي مقاماً هنالك!!.)
- (ها!! أما تزوجت بعد؟!)
- (كلا. . . إني أعيش مع خالتي وأختي!.)
(إن أخي ضابط كذلك، غير أنه متزوج. . . وقد أنجبت له امرأته ثلاثة أطفال. . . ها!!.)
وكان الرجل الفنلندي ينظر - خلال ذلك - في بلاهة وغرابة. . . وتترسم على شفتيه ابتسامة تعبر عما يختلج في نفسه من جزل ومرح، حينما يهتف:(ها!!.)
أما كليموف - وكان يشعر بدوار وصداع في رأسه، ويحس بفتور ودعث في جسده - فقد برم بالجواب على أسئلته. . . وراح يحمل عليه في قلبه إصراً وبغضاً!. . . وتراود نفسه رغبة جامحة في أن يختطف غليونه. . . ويلقي به تحت المقعد، ويأمر (الفنلندي) نفسه بالبحث عن عربة أخرى.!
وقال يحدث نفسه - وقد ضاق به ذرعاً (ما أفظع أولئك (الفنلندين) وأبغضهم إلى النفس!. إنهم أوغاد مذقو الخلق، أولو خسة وذوو سفه. . . لا يأتون إلا كل تافه غير محمود من الأفعال. . . وما خلقوا إلا ليعوقوا العالم فحسب!. فما أدري مكرمة ذاعت لهم، ولا حسنة أثرت عنهم!.).
وزاد إحساس الضباط الشاب بما يكتنفه من وعك وكآبة وألم!. فعلا وجهه شحوب وامتقاع. . . وسرى الجفاف والظمأ إلى حلقه فلذغه لذعاً شديداً، وضاقت رأسه - وقد ثقلت تحت وطأة الصداع - بما يضطرب فيها من أفكار سوداء تجول بخاطر معربدة صاخبة على غير هدى. . . ثم لا تلبث أن تفيض على ما حوله من مقاعد وأناس يلوحون في حلكة
الظلام!. . .
ويطرق سمعه - في عنف - خليط من الهرج والمهرج. . . يترامى إليه من بلبلة الأصوات وضوضاء العجلات، وصفق الأبواب وهدير الأجراس وصفير القطار وضجيج الناس وعجيجهم في كل محط يقف به!.
وكان الزمن يمضي متباطئاً على مهل حيناً، وسريعاً على عجل حيناً آخراً. . . ولاح لكليموف وكأن القطار يقف كل دقيقة في محطة!. وتمر به القطارات الأخرى سراعاً يلاحق بعضها بعضاً بينما قطاره يتهادى في سيره ويدوي ويجلجل!. . .
إن مسمع تلك الجلبة وذلك الصفير. . ومرأى هذا الفنلندي وهذه الحلقات من الدخان ينفثها من غليونه في الهواء. . . كل ذلك تمازج مع الكآبة السوداء التي تعتديه في إيهام. وتمخض عنه كابوس مخيف يجثم على صدره، ويكاد أن يزهق أنفاسه!.
وبينا هو في غمرة ذلك العذاب الأليم، ورفع رأسه المصدع ونظر من خلال عينيه الذابلتين. . . إلى المصباح!. وقد راح يرسل ضوءاً واهناً متراقصاً لا يثبت على شيء. . ويعقد الظلال، ويشيع جواً من الرهبة والغموض!!
وود (كليموف) لو يرفع صوته بطلب شربة ماء. . . ولكن لسانه جمد. . . فقد يبس ريقه وجف حلقه من حرقة الصدى!. كما أن قوته وهت عن أن تجيب (الفنلندي) إلى ما يسأله إياه، وتستمع إلى ما يهذي به.
فحاول أن يمدد جسده على المقعد حتى تداعب عينه سنة من النوم. . . ولكن النوم أبى عليه أن يأخذ بمعاقد أجفانه. وظلت تلك الكآبة القاتمة والخواطر السوداء والصور الغريبة تعبث به وتعيث من حوله. . . في حين أن ذلك (الفنلندي) نام ملأ جفونه ما حلا له النوم، وعلا شخيره؟. ثم أفاق من نومه وأشعل غليونه وطفق يحدثه ويردد (ها!!.) ثم لم يلبث أن غط في النوم من جديد! وتحامل (كليموف) على نفسه في (سبيروف)! ونهض يسعى في طلب الماء!. فامتد طرفه إلى فريق من الناس يجلسون إلى مائدة حافلة بالطعام، ويأكلون في شراهة وعجلة. . . فتمتم وهو يحاول أن ينأى بأنفه عن رائحة الشواء ويشيح بوجهه عن مرأى أولئك القوم وهم يلوكون الطعام في أفواههم المكتظة:(كيف يأكلون؟!)
ثم لمح بعد ذلك امرأة وضيئة تتحدث إلى رجل عسكري يضع على هامته قلنسوة حمراء.
وتبتسم له، فيفتر ثغرها عن أسنان كالدر المنظوم. . . ولكن أثارت تلك الابتسامات وتلك الأسنان اللؤلؤية وتلك السيدة الوضيئة ذاتها عاصفة من السخط والحنق في نفسه!.
وإذا ما أدرك بغيته من الماء!. قفل راجعاً إلى مجلسه. . . فألفى (الفنلندي) قد استوى على كرسيه يدخن، فلما أبصره (الفنلندي) قال له في شيء من العجب:(ها!! أي محطة هذه؟!) فأجابه كليموف في صبر نافذ وقد استلقى على مقعده وضم شفتيه حتى لا يتسلل إلى حلقه دخان الغليون الحاد اللاذع: (لست أدري!.)
- (متى نصل إلى مدينة (تفر)؟!. . .)
- (لست أدري! ومعذرة إن كنت لا أستطيع الكلام إني مريض ضيق الصدر!!. . .)
فطرق (الفنلندي) حافة النافذة بغليونه!. وطفق يحدثه عن أخيه البحار فلم يعره (كليموف) أدنى التفات ولم يكترث له بل راح يفكر في فراشه الوثير اللين. . . وإبريقه البلوري ذي الماء العذب القراح. . . ويتصور في خياله أخته (كاتي) التي تعرف وكيف تروض نفسه وتخلع بزته وتحنو عليه وترنو إليه!. ثم ترسمت على شفتيه بسمة شاحبة، حينما تذكر خادمة الجندي (بافل) وهو ينزع حذاءه الضخم في رفق. . . ويضع الماء على المنضدة في هدوء!. . وخيل إليه إنه ما يكاد يستلقي على سريره ويجرع بعض الماء يطفئ به غلته. . . حتى يزول عنه ألمه، ويبرأ من سقمه! ويغط في نوم هادئ!. . .
عادت تلك الأصوات تختلط في سمع كليموف في هرج ومرج وراح يطرق أذنه في عنف هدير الأجراس وصفير القطار. . . وضوضاء العجلات، وهي تنساب صاخبة على القضبان!.
فدفن كليموف وجهه - وقد تملكه اليأس ولح عليه الألم - في وسادة المقعد. . . ثم أمسك برأسه بين يديه. . . وثانية راحت تطوف بفكره خواطر عن أخته (كاتي) وخادمه (بافل). . .
ولكن أخته وخادمه اختلطا - هذه المرة - في الصور التي تتهيأ له والأشباح التي تتمثل لوهمه. . . ولفحت وجهه حرارة زفراته التي تردها عليه الوسادة. . . وقد دفنه فيها!.
وتسرب الوهن إلى عظامه فشقت عليه الحركة. وتسلل من النافذة تيار هوائي بارد، فأصاب ظهره. . . بيد أنه لم يحرك ساكناً وأبى أن يغير الوضع الذي استقر عليه جسده. .
ثم لم يلبث أن غاب في سبات قلق مضطرب، سعى إليه فغل أطرافه وأغمض أجفانه!!. . .
فلما ثاب إلى رشده - بعد أن تقضي زمن طويل - رأي النهار بازغاً، والشمس تبعث في أوصال الكون ضياءها!. . .
وكان السفر يهمون بارتداء معاطفهم، ويتهيأون لمغادرة القطار. . . حتى إذا وقف في الموضع الذي أعد له. . . أسرع الحمالون في مآزرهم البيضاء، وأرقامهم النحاسية الصفراء. . . إلى الركب يحملون عنهم متاعهم وحقائبهم. . .
فألقى (كليموف) معطفه على منكبيه في حركة آلية. . . وغادر القطار!. وأحس - وهو يسير انه ليس هو. بل مخلوق آخر!. غريب. . . وأحس أن حرارة القطار مازالت ناشبة فيه. . . وأنه ما برح مصحوباً بذلك الصدى في حلقه. . . والأشباح من حوله. . . والكآبة في نفسه. . . وهي التي جميعاً حرمت جسده لذة الرقاد وحبست عن عينيه نعمة النوم. . .
واستقل عربة - كانت واقفة خارج المحطة - بعد أن وضع أمتعته إلى جواره في تلك الحركات الآلية. . . وتقاضاه السائق (روبلا وخمس وعشرين كوب) حتى يبلغ به دارة في شارع (بوفارسكا). . . فأذعن لما أراده عليه، ولم يساومه وهو يعلم حقاً أن ثمت زيادة في الأجر. . . بيد أن النقود لم تكن ذا قيمة لديه في ذلك الحين!. . .
فلما بلغ بيته. . . تلقته خالته بالترحاب!. وقابلته أخته وهي غادة هيفاء شارفت ربيعها الأول من العمر. . فحيته بإيماءة رقيقة وهي ممسكة بقلم تخط به في كراسة معها. . . فتذكر أنها تتهيأ لامتحان تنال به إجازة التدريس. .
ولكنه لم يرد تحيتها ولا أجب على أسئلتها!. بل راح يلهث من الأتون الذي يضطرم في صدره. . . وانطلق على غير هدى ولا بصيرة. . يجتاز الحجرات إلى حجرته. . فارتمى على فراشه يئم ويتأوه.
وتراءت لخياله من جديد تلك الأشباح والصور التي لزمته في القطار!. الفنلندي وغليونه. . الجندي ذي القلنسوة الحمراء!. والسيدة ذات الثنايا اللؤلؤية. . ورائحة الشواء. وضياء المصباح الواهنة. . المتراقصة.!! فأفقدته صوابه وسلبته رشده وجعلته لا يبصر ما حوله ولا يسمع تلك الأصوات القلقة على مقربة منه.!
فلما أفاق من غشيته. . . ألفى نفسه مضطجعاً في فراشه. . عاري الجسد أو شبه عار!. ولمح خادمه (بافل)، وذلك الإبريق البلوري ذا الماء العذب. . بيد أن هذا لم يخفف من حدة مرضه، ولم يجلب عليه راحة أو سكينة. .
فما برحت أطرافه واهنة متيبسة يشق عليه تحريكها. ولسانه قد تشقق من جفاف. . حتى عكدته وعلاه الطلا. . وراحت ترن في مسمعه قهقهة ذلك الفنلندي وقولته: (ها!!.).
وقام إلى جوار فراشه رجل بدين عظيم الهامة ذو لحية سوداء إنه الطبيب!. ينظر إليه في إمعان وتأمل، ولم يلبث أن نبس في صوت ذي فيهقة وتشدق:(حسن!. حسن. . يا صغيري رائع. . رائع. . لقد برأت تماماً!. .).
فأثارت طريقة الطبيب في النطق، وضغطه مخارج الحروف حنق كليموف. . وأغضبته دعوته له بـ (يا صغيري)، وأسخطه ذلك التلطف البغيض الذي يبديه نحوه. فلما تمتم قائلا:(ما الذي يدعوك إلى مناداتي بـ (يا صغيري)؟. وما علة تلك الألفة التي تحدثني بها؟. عليك اللعنة!.) راعة من صوته جرس أجش صعق!. كاد أن ينكره!!.
كان الوقت يكر في سرعة ينزعج لها القلب، كزمن القطار!. فقد كان ضوء النهار يغمر الغرفة ويسطع في أرجائها. . ثم ها هي ذي عتمة المساء تخيم وتشيع في أنحائها!. ولكن الطبيب لم يبرح الغرفة، بل ظل فمه يتشدق بتلك الألفاظ البغيضة الثقيلة في كل حين!.
وعاد يتراقص أمام ناظره في فضاء الحجرة العريض صف غير ذي نهاية من الوجوه والسجن. . (بافل). . الفنلندي. . القائد (تاروشفتش). . والضابط (مكسيمنكو).!. وذو القلنسوة الحمراء. . . السيدة ذات الثنايا اللؤلؤية. . . الطبيب المتفيهق! كلهم يتحدثون ويلوحون بأياديهم! ويأكلون في نهم.
ولم يلبث (كليموف) أن أيصر - في بياض النهار الآفل - كاهن الكنيسة الأب (ألكسندر) في مسوحة الديفية. . . يقبض بين أنامله على الصليب!. . ويتمتم بصلوات وأدعية!. . وقد تجلت عليه دلائل لم يرها (كليموف) من قبل. . فشردت عن وجهه تلك الابتسامات والضحكات التي طالما طالعته مترسمة عليه. . وتبدت عليه سيماء الرزانة والرصانة!. . وأخذ يرسم على كليموف علامة الصليب!. .
وفي الليل. . كانت تتسلل حوله أشباح وظلال تغدو وتروح في إبهام وغموض. . . وكانت
أخته راكعة إلى جواره!. . تردد صلاة خفيفة في صمت وخشوع.!. وترفع طرفها - في هيبة ورغبة - إلى السماء حيناً تطلب الرحمة من الله. . وإلى صورة (القديسين) أحياناً تسائلهم العطف والشفاعة. .
ما أن تنسم (كليموف) البخور والأرج - وهو يتضوع في جو الغرفة - حتى صاح - وقد استفزه ما استقر في بطنه (احملوا هذا البخور اللعين بعيداً!.).
بيد أنه لم يكن ثمت من يجيبه. . وكان يترامى إلى سمعه من بعيد صوت الكهنة، وهم يرتلون أناشيد (الوداع). . وصدى خطوات تهول على درجات السلم بين صعود وهبوط!.
حينما خفت وطأة الحمى عن كليموف. وانثنى عنه هذيانه!. كانت غرفته عاطلة من البشر. . وراحت أشعة الشمس تفيض من خلال النوافذ، وتسيل من بين السدول والأستار!. وراح يتراقص على مياه الإبريق البلوري شعاع مرتعش من النور دقيق براق كلاسيف المسلول. . . وطرق سمع (كليموف) صليل العجلات وصرير العربات وهي تدرج في الطريق، فأدرك أنه خلو من الثلوج. .
فراح يمد طرفه إلى ذلك الشعاع. . ثم يقلبه بين أثاث الغرفة ومتاعها. . . ونوافذها وبابها. ولم يلبث أن راودت نفسه رغبة ملحة في الضحك.!!. فأخذ صدره يهتز وخصره يرتج من الضحك العذب البهيج الذي راح يحتاج جسده من هامة رأسه حتى أخمص قدمه. . وهو لا يدري لذلك سبباً سوى الشعور البالغ من السعادة والارتياح، والإحساس السابغ من البهجة والمراح. .
وتملك كليموف شوق فائق إلى الناس والحركة والحديث، غير أنه لم يقو على تحريك أي عضو من جسده لما يعتريه من وهن وضعف! كان منشرح الصدر طلق المحيا لتنفسه الهادئ طيب النفس طرب الفؤاد لضحكه وبشره!. ووجود ذلك الإبريق البلوري ذي الماء العذب الفرات. . وشعاع الشمس المرتعش، وأستار النافذة المزركشة المزينة بشتى الألوان. .
ولاح له فيما بين جدران غرفته كون فاتن رائع. . أبدع الخالق صنعه! وحينما ولف الطبيب إلى غرفته ملك الصبيحة تمثل في ذهنه ما هو عليه من علم وبراعة في التشخيص، ودمائه ورقة في المعاملة وحسن وظرف في المعاشرة. . ما أجمل الناس
جميعاً!. ما ألطفهم!!
قال الطبيب (رائع!. رائع. . لقد تماثلت يا) صغيري (للشفاء. . وكدت أن تبرأ وتعاودك عافيتك!. .).
فأصغى الضابط الشاب إلى فيهقته في النطق. . وهو يضحك جزلا. . ثم هاجته ذكرى ذلك (الفنلندي). . والسيدة ذات الثنايا اللؤلؤية. . والقطار. . فانقلب ضحكه إلى قهقهة. .
ثم لم يلبث أن طلب بعض الطعام والسجائر. . وقال في إلحاف (أيها الطبيب!. دعهم يحضرون لي خبزاً وسرديناً وملحاً. .) فأبى الطبيب عليه ذلك!. وصدع (بافل) بأمره. . ولم يسع في طلب الخبز لسيده. . فطفق (كليموف) يصرخ ويصيح كالطفل حينما لا يجاب إلى بغيته. . فقال له الطبيب وهو يضحك مداعباً: (اسكت. . أيها الوليد الصغير. .) فلم يسع كليموف سوى أن يشاركه ضحكه! ولما غادره الطبيب أغرق في وسن هادئ عميق. . . أفاق منه بعد حين ومازال هذا الإحساس المفعم بالمرح، الفياض بالسعادة. يتملكه ويتسلط عليه نفسه. . وقد جلست خالته بجانب فراشه. . . فابتدرها قائلا في بهجة وبشر:(أه. . يا خالتي!. ما الذي كنت أعانيه؟!. .)
- (تيفوس!. . .)
- (أحسبه كذلك! بيد أني الآن في تمام الصحة أين كاتي؟)
- (ليس بالدار!. . . لعلها ذهبت لزيارة إحدى لداتها بعد فراغها من الامتحان!.)
ومالت المرأة العجوزة - وهي تقول ذلك - نحو جوربها كأنها تبغي إصلاحه بيد أن شفتيها أخذتا ترتعدان!. فأشاحت بوجهها بعيداً. . . وبغتة راحت تجهش بالبكاء وتنشج بالنحيب.
لقد نسيت في غمرة حزنها وحسرتها ما أمرها به الطبيب ففتأت تصيح: (آه. . . كاتي! كاتي!. . . لقد ذهب عنا ملاكنا. . . لقد رحلت!.) وأطرقت برأسها إلى الأرض، وهي تتأوه من البث والأسى. . . فحملق كليموف في شعرها الرمادي. . لا يحير فهما لما تقول، فسألها وقد تولاه الانزعاج. . . لكاتي. . . (ولكن أين ذهبت يا خالتي؟؟!!.).
فأجابته العجوز بين دموعها التي راحت تنهمر على وجنتيها، وتكاد أن تخنق صوتها:(لقد أصيبت منك بالتيفوس!. . وماتت! وواريناها التراب في اليوم السابق على البارحة!).
على الرغم من فجاءة وهول ذلك النبأ المفزع المروع. . . فما استطاع (كليموف) أن يقمع
تلك الغريزة الحيوانية، التي جنحت بالضابط الناقه إلى الضحك والمرح! فراح يصيح ويقهقه ويشتكي الجوع. . . حتى إذا انقضت سبعة أيام. . . اعتمد كليموف على ساعد (بافل) وخطى وئيداً حتى دنى من النافذة. . . حيث قام ثمت يسرح الطرف في مساري الربيع الطلق الضاحك وهو ينفث في الأرض الحياة والخضرة! وقد علت شمس الضحى في السماء تكالمها الغيوم والسحب. وطرق سمعه صليل العربات فخيل إليه أنه فظيع حاد!
حينئذ صدع قلبه الأسى وأمضه الكمد. . . وأحس بوقع الفجيعة عليه أليما عنيفاً. . . فطفق ينتحب في وله ومرارة ويغمغم شارد اللب كاسف البال. . . وقد دفن رأسه بين راحتيه. . . (كم أنا شقي!. . . يا ربي. . . كم أنا شقي!. . .).
وودع بهجته ومرحه. . . وانثنى يضطرب فيما كان يكتنفه من سآمته للحياة وضجره بالعيش. وقد ضاعفتهما فداحة تلك الخسارة التي لا تعوض!. . .
(طنطا)
مصطفى جميل مرسي