الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 746
- بتاريخ: 20 - 10 - 1947
الطابور الخامس في حرب الكولرا
عبأت الحكومة المصرية لجهاد الكولرا الإنجليزية قوى الدولة، وتجهزت للقائها بأحدث الأسلحة من عزل وحصار وعلاج وتلقيح وتطهير ودعاية. وكان المرجو من كل أولئك أن يموت الداء الوليد في مهده، وينكفئ الوباء العنيد عن قصده، وترفض مخاوف الموت عن البلاد في مدى أسبوعين كما وعد بذلك أولو الأمر في أول الأمر. ولكن شهراً يوشك أن ينصرم والعدوى السريعة لا تزال تستشري، والموت بمنجله الحاصد لا يزال يسبق الآجال في كل بقعة! فيما ذا نعلل هذه الهزيمة وأسباب النصر موصولة ونتائجه مكفولة وطرائقه مؤدية؟ نعللها بأن في صفوف العدو طابوراً خامساً يهيأ للمرض الوقود ليشتعل، ويشحذ للموت المناجل ليحصد! ذلك الطابور الخامس هو أطباء وزارة الصحة! ومن الإنصاف أن لا نعمم الحكم؛ فإن من هؤلاء فريقاً لا يزالون أوفياء للإنسانية خلصاء للمهنة، لم يفجروا في يمين أبقراط ولم يخرجوا عن قانون ابن سينا. ولكن هذا الفريق لم يعرف وا أسفاه الإقليم الذي نعيش اليوم فيه!
أكثر هؤلاء الأطباء منهومون بالمال، يتهالكون على جمعه، ويتنافسون في ادخاره. وهم في سبيل تحصيله يسفهون الحق، ويغفلون الواجب، ويجهلون الرحمة وينكرون الحسنى، ثم يخفون اللقاح عن الفقير ليظهروه بالثمن للغني، ويصعبون الدخول في المستشفى ليسهلوا الدخول في العيادة، ويكلون تطبيب المرضى لأجلاف الممرضين وجفاه الخدم، ليلعبوا النرد في القهوة، أو يلهوا بالورق في النادي! ومن جرّاء هذا الإهمال والاستغلال والعنت استحب الناس المرض على الصحة، وفضلوا الحلاق على الطبيب، وضنوا بمرضاهم على المعازل فلم يبلغوا (المركز) عنهم، حتى لا يموتوا وحداء في وحشة، ولا يدفنوا غرباء في مهانة.
هؤلاء الأطباء وأشباههم من غير الموظفين تعرفهم الحكومة بالسماع والخبرة. ولولا سوء رأيها فيهم، وترجيحها ما شاع في الناس عنهم، لما جعلت ألف جنيه مكافأة لكل من يبلغها أن طبيباً تاجر بلقاح أو لقح بأجر.
وإنك لتعجب أن يكون في الناس من لا يشغل باله في سورة الوباء إلا بالثراء، ومن طبيعة الإنسان إذا اكتنفته ظواهر المرض ومظاهر الموت إن يخشع قلبه وتزهد عينه؛ ولكن عجبك ينقضي إذا حشرك الله في زمرة هؤلاء الذين يعيشون على حساب المرض والموت،
فجعلك طبيباً أو ممرضاُ أو حانوتياً أو نحو ذلك؛ فيومئذ تشعر بحكم الإلف والعادة أنك أشبه بخدمة الموائد في حفلة العرس، أو بحملة القماقم في موكب الجنازة، لا يعنيك من الأمر غير الأجر، ولا يغنيك عن شأنك شؤون الناس.
على أن في الطبابة جزءاً من النبوة وشطراً من الحكمة، وعلى هذا الشطر وذلك الجزء يعول الناس في إيقاظ الضمير الإنساني في هؤلاء الأطباء فيعودون كما كانوا رسل سلامة وملائكة رحمة.
(المنصورة)
احمد حسن الزيات
حديث الدولتين
للأستاذ محمود محمد شاكر
الآن حصحص الحق، ولم تبق في نفس ريبة تحجبها عن رؤية الحقيقة سافرة بينة واضحة تكاد تنطق وتقول هاأنذا فاعرفوني؛ فهذه بريطانيا أم المكر والدسائس قد دخلت ارض فلسطين العربية ليقول قائد جيشها يومئذ حين وطئت قدماه المدنستان هذه الأرض المطهرة (هذه آخر حرب صليبية)، فكان ذلك إعلاناً عما اعتمل في نفوس أولئك الغزاة من سخائم الحقد والضغينة والعصبية الجاهلية الموروثة، ثم لم تلبث هذه الدولة ان نكثت عهودها للعرب، وكانت قد قطعت هذه العهود على نفسها لتستجر معونة العرب لها في الحرب العالمية الأولى.
ولم يكن ذلك فحسب، بل إنها كانت تكيد للعرب من وراء حجاب فقطعت عهداً آخر يناقض عهودها للعرب، وكان هذا العهد لرجل غير مسؤول من الأفاقين الصهيونيين المتعصبين. فلما دخلت فلسطين بعد الحرب العالمية الأولى أظهرت أنها دولة لا تستطيع أن تنقض عهدها فإن العهد هو شرفها الشامخ الباذخ النقي الطاهر، فمن اجل ذلك أصرت على ان تحمي اليهود الذين جاءوا من أرجاء بلاد الله ليحتلوا ارض فلسطين. وظلت وكالات الأنباء تطمس حق العرب فيما تنشره الصحافة، وتجلوا باطل اليهود جلاء منيراً حتى انخدعت الدنيا كلها بالترهات التي تحوكها هذه الشركات الصهيونية.
وثار العرب يطلبون حقهم ويريدون طرد هؤلاء الدخلاء من ارض الآباء والأجداد، فوقفت بريطانيا تذود عن باطل اليهود فتفتك بالعرب فتكاً وحشياً، تعذب طلاب الحق وتهينهم وتشردهم لا ترعى حرمة لطفل ولا شيخ ولا امرأة، وضربت الغرامة على القرى والدساكر والبلاد لأهون سبب، وهي في أثناء ذلك ترخى للأفاقين من اليهود وتغريهم بالعرب وتمهد لهم في الحكومة حتى يستولوا على السلطان، وتحميهم من شر العرب وبأسهم وتسلط على رقاب المسلمين والنصارى أهل فلسطين.
وجعلت صحفها وشركات أنبائها تذيع على العالم الأكاذيب، وتصور العرب بصورة المعتدين الباغين، وتسمي الأحرار من أبناء إبراهيم وإسماعيل عصابات ولصوصاً وفتاكاً، وترميهم بالبهتان والكذب، وتستر عن العالم كله فظائع ما ترتكبه في حق الأحرار
المجاهدين.
وظلت بريطانيا على ذلك الطغيان الفاجر تعمل بالدسيسة والوقيعة والكذب والتغرير، حتى جاءت الحرب العالمية الثانية، فقام الأبالسة من رجال السياسة البريطانية يفتلون في الذروة والغارب من هذه العرب حتى لانوا وانخدعوا بان بريطانيا سوف تنصفهم وتعطيهم حقهم يوم تضع الحرب اوزارها، وهي في خلال ذلك تجند اليهود في جيوشها وتزودهم بالسلاح وتدخلهم فلسطين وتظهر الكراهية لما تفعل، وتبطن الغدر فيما تريد، فاحتشدت من اليهود جيوش جرارة في فلسطين باسم الديمقراطية والدفاع عنها، وباسم الاضطهاد الذي أنزله النازيون بهم في اوربة، وبغير ذلك من الأسباب الكثيرة التي تعلقت بها السياسة البريطانية.
ووضعت الحرب أوزارها، واشتد ساعد اليهود، وهم أهل المال وحراسه، فأعانوا بريطانيا، ثم لم يلبثوا أن كشفوا القناع في أمريكا وهم فيها القوة الظاهرة في انتخاب رئاسة الجمهورية، وأصحاب الشركات والأموال في نواحي الاقتصاد الأمريكي، وهم شياطين الصحافة والمستولون عن إعلاناتها وشركات أنبائها ورجال تحريرها، فإذا أمريكا تندفع في طريق الصهيونية غير عابئة بالحق الظاهر، ولا بمصالحها في بلاد العرب، ولا بكرامتها بين الأمم، ولا بسمعتها في دواوين التأريخ. وإذا هي أشد بغياً على العرب من بريطانيا، وإذا صحافتها أشد جلافة من الهمجي الذي لم يهذبه تأديب ولا تثقيف.
هكذا كان أمر بريطانيا وأمر أمريكا، وإذا هيئة الأمم المتحدة ترسل لجنة إلى فلسطين لتضع تقريراً، وإذا هذا التقرير فجور ليس بعد فجور، ولا عجب فإنها لجنة كانت من أول أمرها ضالعة مع اليهود، فقسمت أو أشارت بأن تقسيم فلسطين قسمة جائرة بين العرب واليهود. أما العجب العجاب فهو أن نرى بريطانيا العظمى ذات السلطان والبأس والبطش، تذل لعدوان اليهود على جنودها وعلى جلد ضباطها وشنقهم واختطافهم وتعذيبهم، ثم يأتي قرار التقسيم الذي اقترحته اللجنة، فإذا بريطانيا تزعم أنها سوف تجلو عن فلسطين وتدع العرب واليهود لكي يحلوا هذه المشكلة المستعصية على ساسة بريطانيا العظمى أيضاً!!. . .
فماذا تريد بريطانيا بهذا الانسحاب المفاجئ بعد أن كانت هي سر النكبة التي نزلت بساحة
العرب مسلميهم ونصرانيهم في فلسطين وفي سائر بلاد العرب؟
لا جرم أنها تريد أن يقع القتال بين العرب واليهود، وتخرج هي سالمة من هذا الصراع، وهي في خلال ذلك سوف تعطي اليهود المعونة والسلاح، ويجهد أسطولها خفية في تهريب الأفاقين إلى فلسطين.
أما أمريكا فهي تضحك الثكالى بسياستها في هذه المشكلة، فهي تلجأ إلى هيئة الأمم المتحدة ويقوم مندوبها في اجتماع اللجنة الخاصة ببحث مشكلة فلسطين، ويكشف القناع عن سياسة هذه الدولة المحدثة في السياسة ويقول أن حكومته تؤيد مشروع تقسيم فلسطين، وتؤيد سياسة الهجرة التي اقترحتها لجنة التحقيق في تقريرها، ولي هذا فحسب، بل تتبرع هذه السياسة الأمريكية فتقترح تجنيد قوة دولية من المتطوعين بواسطة هيئة الأمم المتحدة، لكي تتولى الإشراف على تنفيذ قرارات الجمعية العمومية.
فماذا تريد أمريكا بهذا التدخل المفاجئ، بعد أن كانت بمعزل عن الغلو في السياسة الاستعمارية، ولها مصالح كثيرة في بلاد العرب تعمل جاهدة على تثبيتها وتوطيدها؟
لا ريب في أنها تريد أن تحل محل بريطانيا في حمل خبائث الاستعمار بعد أن شاخت أم الخبائث، ولا ريب في أن نفسها تسول لها أن اليهود أهل جد وعمل وإتقان وأصحاب مال وافر وانهم إذا تم لهم إقامة دولة يهودية في قلب البلاد العربية، فذلك إيذان باستيلائهم على الميادين الاقتصادية كلها، وإن يهود إذا فعلت ذلك ضمنت لأمريكا الحق الأول في السياسة الاقتصادية في الشرق الأوسط كله. وإذن فأمريكا تريد أن تلتمس أسباباً للتدخل في مسالة فلسطين، فهي تؤيد اليهود مهيمنة بمصالحها في بلاد العرب، لكي يقع القتال بين العرب واليهود، وتنتهز هي الفرصة فتعين اليهود بالمال والسلاح والرجال، ثم تلعب هي وبريطانيا لعباً خبيثاً في هيئة الأمم المتحدة لكي يجندوا جيشاً دولياً لتنفيذ مشروع التقسيم بالقوة، ويكون قوام هذا الجيش من أهل العصبية الصهيونية الذين استشرى أمرهم في بلاد أمريكا. ويومئذ تدخل أمريكا للشرق الأوسط كله بصك توقعه لها هيئة الأمم المتحدة - أي سوق الرقيق الدولية
وإذن فالأمر كما ترى بين كإسفار الصباح، وهو أن هاتين الدولتين الاستعماريتين تتخذان أسلوبين مختلفين في الظاهر متفقين في الباطن، يفضي إلى حمل العرب على قتال يهود.
ونعم ما أراد ونحن العرب نقبل منهما هذا التحريض الخبيث، لأننا نريد أن نقاتل اليهود قتالاً لا هوادة فيه، فان دمائنا ليست أغلى من حريتنا وشرفنا وديننا. ولعل أمريكا قد سمعت لألئك الأفاقين اليهود الذين يزعمون لها أننا نهدد على غير طائل وإنما هي جعجعة ولا طحن لها، فآثرت أن تكشف سوءتها وقبيح نيتها للعرب وتصالح اليهود وتتملقهم وتحطب في حبالهم. فلتعلم أميركا ولتعلم بريطانيا أنا لسنا كاليهود ولسنا كسواهم من الذين يجرؤون لأنهم يحملون أسباب الغدر والخيانة والابادة، فلوا لقوا أعداءهم وجهاً لوجه لفروا واندحروا صاغرين. إن العرب ليريقون دماءهم في سبيل الحرية والشرف والنبل وان كانت كثرة السلاح مما يعوزهم، وفرق بين النذل الجبان والشريف الشجاع، فهذا يكون اقل السلاح حصناً له وحافزاً ومحرضاً، وذلك إذا رأى حملة صدق انتثرت نفسه وطار قلبه وألقى عدته وسلاحه واغمض في الأرض هارباً. فهذه يهود وهذا نحن أيها المخدوعون. . .
إن بريطانيا وأميركا وصحافتها قد أعلنت لنا بأحقادها فلنعلن نحن أحقادنا. وإن يهود قد استغرت بقوتها وبمعونة بريطانيا وأميركا ومظاهرتها لعدوانها علينا، فلا تأخذنا بعد اليوم رحمة يهود، فقد رحمناهم يوم اضطهدوا، وآويناهم أيام شردوا، وأفسحنا لهم بلادنا وقد طردتهم الأمم المسيحية القديمة طرد الكلاب الجربى، ولكنهم أنكروا ذلك ونسوه، وعضوا اليد التي مسحت آلامهم وجروحهم على مر العصور. ونعم ما فعلت يهود، فإنها قد أيقظتنا من غفلتنا، ويسرت لنا أن ننقذ العالم عاجلاً أو آجلاً من عربدة هذا الجيل الذي طهر الله أسلافهم، وصب لعنته على الإخلاف لعنة باقية حتى يرث الله الأرض ومن عليها. . .
محمود محمد شاكر
من شوارد الشواهد
للأستاذ علي الطنطاوي
19 -
ستقطع في الدنيا إذا ما قطعتني=يمينك فانظر أي كف تبدل
لمعن ابن أوس المزني، شاعر مخضرم مجيد معمر، من قصيدته التي يقول فيها:
لعمرك ما أدري وإني لأوجل
…
على أينا تأتي المنية أول
وإني أخوك الدائم العهد لم أخن
…
إن ابزاك خصم أو نبا بك منزل
أحارب من حاربت من ذوي عداوة
…
واحبس مالي إن غرمت فأعقل
وإن سؤتني يوماً صبرت إلى غد
…
ليعقب يوماً آخر مقبل
ستقطع. . . (البيت).
وفي الناس إن رثت حبالك واصل
…
وفي الأرض عن دار القِلى متحول
إذا أنت لم تنصف أخاك وجدته
…
على طرف الهجران إن كان يعقل
ويركب حد السيف من أن تضيمه
…
إذا لم يكن عن شفرة السيف مزحل
وهي طويلة جيدة، ومنها البيت السائر:
إذا انصرفت نفسي عن الشيء لم تكد
…
إليه بوجه آخر الدهر تقبل
20 -
فهبك يميني استأكلت فقطعتها=وجشمت قلبي صبره فتشجعا
لدعبل يعاتب مسلم ابن الوليد، من قصيدته التي يقول فيها:
أبا مخلد كنا عقدي مودة
…
هوانا وقلبانا جميعاً معاً معا
فصيرتني بعد أن انتكاثك متهما
…
لنفسي عليها أرهب الخلق اجمعا
غششت الهوى حتى تداعت أصوله
…
بنا وابتذلت الود حتى تقطعا
وأنزلت من بين الجوانح والحشى
…
ذخيرة ود طالما قد تمنعا
فلا تلحيني ليس لي فيك مطمع
…
تخرقت حتى لم أجد لك مرقعا
فهبك. . . (البيت).
20 -
فإما أن تكون أخي بحق=فاعرف منك غثّي من سميني
وإلا فاطرحني واتخذني
…
عدواً أتقيك وتتقيني
للمثقب العبدي، وبعده:
فما أدري إذا يممت أرضاً
…
أريد الخير أيهما يليني
أالخير الذي أنا مبتغيه
…
أم الشر الذي هو يبتغيني
22 -
إن القلوب إذا تنافر ودها=مثل الزجاجة كسرها إلى يشعب
لصالح بن عبد القدوس، من قصيدته الطويلة في الحكم، ومطلعها:
صرمت حبالك بعد وصلك زينب
…
والدهر فيه تصرم وتقلب
فدع الصبا فلقد عداك زمانه
…
واجهد فعمرك مر منه إلا طيب
وبعدهما البيت السائر:
ذهب الشباب فما له من عودة
…
وأتى المشيب فأين منه المهرب
ومنها:
لا خير في ود امرئ متملق
…
حلو اللسان وقلبه يتلهب
يعطيك من طرف اللسان حلاوة
…
ويروغ منك كما يروغ الثعلب
23 -
تمسك إن ظفرت بذيل حر=فان الحر في الدنيا قليل
من شعر الفقهاء، وهو لأبي اسحق إبراهيم بن علي بن يوسف الشيرازي الفيروز آبادا العالم العلم المعدود من أعلام الملة وقبله:
سألت الناس عن خل وفى
…
فقالوا: ما إلى هذا سبيل!
24 -
إن الكرام إذا ما أسهلوا ذكروا=من كان يألفهم في المنزل الخشن
لإبراهيم بن عباس الصولي، الكاتب الشاعر، وقبله:
أولى البرية طراً أن تواسيه
…
عند السرور الذي واساك في الحزن
25 -
حسن قول (نعم) من بعد (لا) =وقبيح قول (لا) بعد (نعم)
للمثقب العبدي وهو عائد من محصن بن ثعلبه، شاعر جاهلي قديم كان في زمن عمرو بن هند وعمر حتى أدرك النعمان ابن المنذر، سمي المثقب (بالكسر) لبيت قاله وهو:
ظهرن بكلة وسدلن رقماً
…
وثقبن الوصاوص للعيون
من قطعة له يقول فيها:
لا تقولن إذا ما لم ترد
…
إن تتم الوعد في شيء: (نعم)
حسن قول (نعم). . . (البيت)
إن (لا) بعد (نعم) فاحشة
…
فب (لا) فابدأ إذا خفت الندم
وإذا قلت (نعم) فاصبر لها
…
بنجاز الوعد إن الخلف ندم
أكرم الجار وراعي حقه=إن عرفان الفتى الحق كرم
إن شر الناس من يمدحني
…
حين يلقاني وان غبت شتم
26 -
منذ الذي ما ساء قط=ومن له الحسنى فقط
للحريري، من المقامة الشعرية، وأول المقطوعة:
سامح أخاك إذا خلط
…
منه الإصابة بالغلط
وتجاف عن تعنيفه
…
إن زاغ يوماً أو قسط
واعلم بأنك إن طلبـ
…
ت مهذباً رمت الشطط
27 -
وان امرءاً يمسي ويصبح سالماً=من الناس إلا ما جنى لسعيد
للمعلوط بن بدل القريعي وقبله:
متى ما يرى الناس الغنى وجاره
…
فقير يقولوا عاجز وجليد
وليس الغنى والفقر من حيلة الفتى
…
ولكن أحاظ قسمت وجدود
إذا المرء أعيته المروءة ناشئاً
…
فمطلبهاً كهلاً عليه شديد
وكائن رأينا من غني مذمم
…
وصعلوك قوم مات وهو حميد
وإن امرءاً. . . (البيت)
28 -
نوائب الدهر أدبتني=وإنما يوعظ الأديب
لسليمان بن وهب، وزير المهتدي قاله في نكبته، وبعده:
قد ذقت حلواً وذقت مراً
…
كذاك عيش الفتى ضروب
ما مر بؤس ولا نعيم
…
إلا ولي فيها نصيب
29 -
اخلق بذي الصبر إن يحظى بحاجته=ومدمن القرع للأبواب أن يلجأ
لمحمد بن بشير الرياشي، شاعر عباسي ماجن ظريف هجاء، لم يفارق البصرة ولم يتكسب بشعره، وقبله:
كم من فتى قصرت في الرزق خطوته
…
ألفيته بسهام الرزق قد فلجا
لاتيأسن - وإن طالت مطالبة -
…
إذا استعنت بصبر أن ترى فرجا
إن الأمور إذا انسدت مسالكها
…
فالصبر يفتح منها كل ما ارتتجا
اخلق بذي الصبر. . . (البيت).
30 -
من راقب الناس مات غماً=وفاز باللذة الجسور
لسلم الخاسر، ابن عمرو بن حماد، وسمي الخاسر لأنه باع (كما قالوا) مصحفاً كان له واشترى بثمنه طنبوراً، أخذه من قول (أستاذه) بشار:
من راقب الناس لم يظفر بحاجته
…
وفاز بالطيبات الفاتك اللهج
31 -
فلا وأبيك ما في العيش خير=ولا الدنيا إذا ذهب الحياء
رواه أبو تمام في الحماسة، ولم ينسبه، وقبله:
وأعرض عن مطاعم قد أراها
…
فاتركها وفي بطني انطواء
يعيش المرء ما استحيا بخير
…
ويبقى العود ما بقي الحياء
فلا وأبيك. . . (البيت).
32 -
يريد المرء أن يعطى مناه=ويأبى الله إلا ما يشاء
لقيس بن الخطيم الأوسي، شاعر فارس قتل على جاهليته من قطعة له يقول فيها:
وما بعض الإقامة في ديار
…
يهون بها الفتى إلا بلاء
وبعض خلائق الأقوام داء=كداء البطن ليس له دواء
يريد المرء. . . (البيت)
وكل شديدة نزلت بقوم
…
سيأتي بعد شدتها رخاء
ولا يعطى الحريص غني لحرص
…
وقد ينمى على الجود الثراء
غنى النفس ما عمرت غنى
…
وفقر النفس ما عمرت شقاء
33 -
أضاعوني وأي فتى أضاعوا=ليم كريهة وسداد ثغر
للعرجي، وهو عبد الله بن عمر بن عمرو بن عثمان بن عفان، شاعر إسلامي حجازي كان ينحو منحى ابن أبي ربيعة في غزله، قاله لما حبس، وبعده:
وصبر عند معترك المنايا
…
وقد شرعت أسنتها لنحري
أجرر في المجامع كل يوم
…
فيا لله مظلمتي وقصري
كأني لم اكن فيهم وسيطاً
…
ولم تك نسبتي في آل عمرو
عسى الملك المجيب لمن دعاه
…
سينجيني فيعلم كيف شكري
فأجزى بالكرامة أهل ودي
…
وأجزي بالضغائن أهل وتري
34 -
أشاب الصغير وأفنى الكبير=كر الغداة ومر العشى
للصلتان العبدي، وهو قثم بن خبيه من عبد القيس، شاعر إسلامي خبيث اللسان، وبعده:
إذا ليلة هرمت يومها
…
أتى بعد ذلك يوم فتى
نروح ونغدو لحاجتنا
…
وحاجة من عاش لا تنقضي
ويسلبه الموت أثوابه
…
ويمنعه الموت ما يشتهي
تموت مع المرء حاجاته
…
وتبقى له حاجة ما بقى
35 -
لئن سأني أن نلتني بمساءة=لقد سرني أنى خطرت ببالك
لابن الدمينة، عبيد الله بن عبد الله الخثمعي، والدمينة أمه، شاعر إسلامي غزل مجيد، من قصيدته التي أرويها كلها لنفاستها:
قفي يا أميم القلب نقض لبانة
…
ونشك الهوى ثم افعلي ما بدا لك
سلى البانة الغيناء بالأجرع الذي
…
به البان هل حييت أطلال دارك
وهل قمت بعد الرائحين عيشة
…
مقام أخي البأساء واخترت ذلك
وهل هملت عيناي في الدار غدوة
…
بدمع كنظم اللؤلؤ المتهالك
أرى الناس يرجون الربيع وإنما
…
ربيعي الذي أرجو نوال وصالك
أرى الناس يخشون السنين وإنما
…
سني التي أخشى صروف احتمالك
ومنها:
ليهنئك إمساكي بكفي على الحشى
…
ورقراق عيني رهبة من زيالك
ولو قلت طأ في النار أعلم أنه
…
هوى منك أو مدن لنا من وصالك
لقدمت رجلي نحوها فوطئتها
…
هدى منك لي أو ضلة من ضلالك
أبيني: أفي يمنى يديك جعلتني
…
فأفرح أم صيرتني في شمالك
لئن سأني. . . (البيت)
تعاللت كي أشجى وما بك علة
…
تريدين قتلي؟ قد ظفرت بذلك
36 -
ولي كبد مقروحة من يبيعني=بها كبد ليست بذات قروح
له - من قصيدة له فيها إقواء. وبعده:
أبى الناس ويب الناس لا يشترونها
…
ومنذا الذي يشري دوىً بصحيح
37 -
كل امرئ صائر يوماً لشيمته=وإن تخلق أخلاقاً إلى حين
لذي الإصبع العدواني، واسمه حرثان بن محرب، من قصيدة له طويلة أولها:
يا من لقلب طويل البث محزون
…
أمسى تذكر ريا أم هارون
ومنها:
ولي ابن عم على ما كان من خلق
…
مختلفتان فاقليه ويقليني
أزرى بنا أننا شالت نعامتنا
…
فخالني دونه بل خلته دوني
لاه ابن عمك لا أفضلت في حسب
…
عني ولا أنت دياني فتخزوني
ولا تقوت عيالي مسبغة
…
ولا بنفسك في العزاء تكفيني
فإن ترد عرض الدنيا بمنقصتي
…
فإن ذلك مما ليس يشجيني
38 -
فإن تكن الأيام فينا تبدلت=ببؤسي ونعمي والحوادث تفعل
فما لينا منا قناة صليبة
…
ولا ذللتنا للتي ليس تجمل
لإبراهيم بن كنيف النبهاني، من شعراء الحماسة، من قطعة له، منها:
تعز فإن الصبر بالحر جميل
…
وليس على ريب الزمان معول
فلو كان يغني أن يرى المرء جازعاً
…
لحادثه أو كان يغني التذلل
لكان التعزي عند كل مصيبة
…
ونائبة بالحر أولى وأجمل
فكيف وليس كل يعدو حمامة
…
وما لامرئ عما قضى الله مزحل
فإن تكن. . . (البيتين).
ولكن رحلناها نفوساً كريمة
…
تحمل مالا يستطاع فتحمل
وقينا بحسن الصبر منا نفوسنا
…
فصحت لنا الأعراص والناس هزل
39 -
وإنما أولادنا بيننا=أكبادنا تمشي على الأرض
لحطان بن المعلي، شاعر إسلامي من شعراء الحماسة، من قطعة له يقول فيها:
أنزلني الدهر على حكمه
…
من شامخ عال إلى خفض
وغالني الدهر بوفر الغنى
…
فليس لي مال سوى عرضي
أبكاني الدهر ويا ربما
…
أضحكني الدهر بما يرضى
لولا بنيات كزغب القطا
…
رددن من بعض إلى بعض
لكان لي مضطرب واسع
…
في الأرض ذات الطول والعرض
وإنما أولادنا. . . (البيت).
لوهبت الريح على بعضهم
…
لامتنعت عيني من الغمض
علي الطنطاوي
رأي الأكثرية في السياسة الشرعية
للدكتور السيد محمد يوسف الهندي
أثار الأستاذ عبد المتعال الصعيدي في مقال له نشر في العدد 732 من (الرسالة) مسألة الأخذ بـ (رأي الأكثرية في السياسة الشرعية) وهي مسألة تنطوي على مقارنة النظام الديمقراطي البرلماني الحديث مع النظام التشريعي والحكومي الإسلامي من ناحية الطبيعة والوضع والروح جميعاً، فأول ما يجب ان يلاحظ في هذا الصدد إن النظام الأوربي إنما هو وليد ظروف تختص بالمجتمع الغربي وغني عن القول ان المجتمع الغربي لا يبتنى على أساس غاية دينية تنسى المؤمنين بها والعاملين في سبيلها جميع الفوارق البشرية كالإقليمية والطائفية والوطنية والقومية وكذلك يعدم في أي مجتمع غير إسلامي مبادئ تضمن للناس العدالة في معاملاتهم بعضهم مع بعض وتكفيهم التناحر فيما بينهم لأغراض دنيوية، فإذا الاختلاف الناشئ بين أفراد المجتمع الغربي هو في الحقيقة اختلاف المصالح المادية بين مختلف طبقات الشعب التي لا تزال في حالة حرب مستمرة تبعث كل واحدة منها على حشد القوة (وهي ترتكز في العدد) ضد الأخرى، ومن المعروف إن النظام السياسي إنما يصطبغ بصبغة المجتمع الذي ينشأ منه، وعلى ذلك فالنظام الديمقراطي الحديث ليس إلا وسيلة لتسوية الاختلافات الناشئة عن الطموح إلى أغراض مادية لا تسوية حاسمة على أساس المبدأ والحق بل تسوية تمكن فريقاً من الشعب من إدارة الشؤون لصالح (زبائنه) فقط وكذلك يكون الحكم سجالاً بين مختلف أحزاب الشعب الذي لا يزال من حيث المجموع قلقاً غير مطمئن إلى التوازن والعدل الاجتماعي، أما المجتمع الإسلامي فبالعكس يبتنى على مبادئ يتلقاها الشعب من الله ويتعهد على نفسه كل فرد من الشعب على السواء بتطبيقها على أعماله وتنفيذها فيما بين الناس بما فيها من صالح الإنسانية وضمان الحق والنصفة في المعاش والمعيشة. فالمجتمع الإسلامي موحد الكلمة، موحد الإيمان بالمبادئ الحقة وفوق كل شيء موحد الشعور بالمسؤولية لدى العليم الحكيم في حق الأفراد ومجموع الأمة، فأي مجال في مجتمع مثل هذا أن ينقسم إلى أحزاب متعارضة الهوى في الدنيا وما فيها مغرضة متحيزة في نواياها وأعمالها؟ ولا يعدم المتتبع لأحكام القرآن والسنة ما يقنعه بان النظام الإسلامي السياسي إنما هو مؤسس على التعاون
والتضامن والتآزر الفعلي بين المسلمين كافة في السلم وفي الحرب من غير فرق وانه لا يعترف بحال من الأحوال بوجود معارضة مستقرة التي هي من أهم مظاهر الديمقراطية البرلمانية
وإنما مرد هذه الميزة إلى للنظام الإسلامي إلى أن الاتفاق على الشريعة التي هي قانون الحياة بأوسع معانيه، سابق على تكون الهيئة الاجتماعية والسياسية بين المسلمين بل هي منشأهما وقوامهما بحيث ينزل المسلمون جميعاً بمنزلة لجنة تنفيذية لا غير، ومن المعروف أن المعارضة لا مكان لها في لجنة تنفيذية قط، أما الحال في الغرب فعلى العكس تماماً لان هناك تكونت الهيئة الاجتماعية أولاً على أساس بعض المصالح المشتركة بطريق الارتقاء غير الشعوري ثم هي أقبلت على التشريع لافتقارها إلى وضع حدود للأعمال الإنسانية التي لم تزل ولا تزال معرضة للإفراط والتفريط ولما لم يكن لها مستند إلى المصدر الأعلى اندفعت بطبيعة الحال إلى التعويل على العقل الذي قلما يتخلص تماماً من أسر الهوى فتعذر عليها (الاتفاق) في التشريع لكون أفرادها كثيري الهوى شتى المسالك نتيجة لعدم ارتباطهم بحدود من الله فإذا فشلت الهيئة الاجتماعية الغربية في تحقيق (الاتفاق)(استكانت) إذ ذاك (إلى الاختلاف) واهتدت إلى إيجاد نظام للتشريع يؤدي إلى حفظ السلام وسير الأعمال غير معرقلة مع عدم اقتناع عدد غير قليل بما ينتج منه وهذا النظام هو النظام الديمقراطي الحديث. . .
ولا يخيل إلى القارئ إن باب التشريع قد اقفل في الشريعة الإسلامية فان الشريعة الإسلامية بصفتها نظاماً دائم النمو والاتساع تتضمن في ذاتها الطرق المسنونة والأساليب الواضحة لكفاءة الأحوال المتجددة والظروف الطارئة على ممر الأيام والعصور ولكن مهمة التشريع عند المسلمين إنما تقتصر على تطبيق المبادئ المنصوصة عليها على الأحوال غير المحسوبة لها. وهذه المهمة لا تتأدى إلا على أيدي العلماء المعروفين بالفقه في الدين والصدق والتقوى في أعمالهم الحائزين على ثقة الناس في أمانتهم فيعتبر الإنسان هذه المهمة من اختصاصهم ولا يسمح بالتدخل فيها لكل من يفوز بكثرة الأصوات سواء وجدت فيه المؤهلات الخاصة والشروط اللازمة أم لا كما هو الحال في النظام الديمقراطي الأوربي. . .
ويتضح مما قيل آنفاً إن الاختلاف الناشئ بين العلماء المسلمين الثابتين على التقوى إنما هو بمثابة مناقشة علمية أكاديمية ناشئة عن النيات الخالصة والتحريات الصادقة ولا يشوبه شيء من الهوى أو رعاية مصالح الناخبين في أي قطر مخصوص ومثل هذا الاختلاف لاشك انه رحمة من حيث انه يؤدي إلى تثبيت الحقائق الإسلامية وسير الأمور حسب مقتضى القانون الإلهي في جميع الأزمنة والعصور. . .
وما عدا القياس والاجتهاد هناك طريقة أخرى للتشريع في الإسلام ألا وهو الإجماع ومبناه أن الإيمان والعمل بالإسلام يخلقان في المسلم ملكة تدفعه إلى الاتجاهات التي تتفق هي والروح الإسلامي وإن لم ينص القرآن والسنة على شيء في صددها
فهذا فيما يتعلق بالأمور الدينية مع فهمنا الدين بأوسع معانيه وأشملها أي النظام الذي يسيطر على جميع الأعمال الفردية والاجتماعية مما لها شأن أدبي وأخلاقي. . .
أما المسائل من قبيل تأبير النخل فلا شأن للإسلام أو أي نظام تشريعي بها لأنها من اختصاص الفنانين ومدارها على التجربة والمشاهدة لا غير. . .
فلم يبق الآن إلا بعض أمور اسميها أموراً إدارية محضة مثل الحرب والسلم والخوف والأمن وهي التي يرجع فيها إلى أولي الأمر وأولوا الأمر يقضون فيها بمشورة الناس.
فلا شك أن الإسلام يقدر رأي الأكثرية حق قدره إذا صادف الحق ووافق المبدأ، ولكن طبيعة النظام الإسلامي تأبى أن تكون للأكثرية أهمية كبرى في التشريع لان مصدر السلطة عند الغربيين هو الجمهور وهذا القول يستلزم ان يكون التشريع دائماً حسب إرادة الناس وهم مختلفون في أهوائهم أما في الإسلام فمصدر السلطة ليس إلا الله والتشريع لا يكون إلا وفقاً لمشيئته والمسلمون كلهم سواء في ابتغاء مرضاته. . . ثم التشريع لا يحتل المكان الأول في النظام السياسي الإسلامي لان الإسلام في نفسه شريعة كاملة أما أمر التفريع والاستنباط بالنظر إلى الأحوال المتجددة فهو موكول إلى نزعته وليس لكل ذي حنجرة أن يصوت في كل ما يعنيه أو ما لا يعنيه وصفوة القول إن الجمهورية في الإسلام ليست كالديمقراطية في الغرب التي مدارها، بعبارة حكيم الشرق الدكتور محمد إقبال رحمه الله على (تعداد الناس لا على وزنهم). . .
السيد محمد يوسف الهندي
حول مؤتمر الآثار بدمشق
للأستاذ مصطفى كامل إبراهيم
لعل من أهم الخطوات الثقافية الموفقة التي كانت باكورة نشاط اللجنة الثقافية بجامعة الأمم العربية هي عقد مؤتمري الثقافة والآثار.
ومؤتمرات الثقافة ليست جديدة على العالم العربي فقد كانت في الجاهلية تنتظم في أسواق الجزيرة العربية، ثم كان الخلفاء والأمراء والسلاطين يقيمون شيئاً مثلها في بلاطهم وتحت رعايتهم، يجتمع فيها مشهورو أصحاب الأقلام وأمراء الشعر والعلم والفن من بلدان العالم الإسلامي، وطالما اشترك الخلفاء أنفسهم في النقاش وتذوقوا لذته. . .
على أن دراسة الآثار القديمة لم تكن لتهم القوم كثيراً في الإسلام فقد كان يخشى المتحدث في مدنيات الفراعنة أو الأكاسرة أن يتهم بالمروق، أو أن يعمد منافسوه إلى أن يلصقوا به جريمة الإلحاد أو الردة أو الزندقة. وقد كانت الأخيرة في فترة ما من حكم العباسيين جريمة تدني رقبة صاحبها من سيف الجلاد، مما صرف علماء المسلمين على الدراسة التفصيلية في تراث الوثنيين في مصر، والمجوس بفارس، والمسيحيين في مصر والشام.
ثم كان لابد لهذا الإهمال من نتائج: فقد امتدت أيدي العبث والتدمير والسطو والتبديد إلى تراث القدماء، واستمرت هذه الحال المؤلمة إلى آخر الزمان، فلم يتردد بدر الجمالي - مثلاً - وزير المستنصر الفاطمي في سنة 480 هـ (1087) م من أن يستخدم بعض أحجار جبانة الجيزة من حول الأهرام لبناء استحكاماته ولا زالت أحجار السوريين بأبي النصر والفتوح تحمل رسوماً وكتابات هيروغليفية. وفي العصر التركي تمكن عثمان كتخدا (الكخيا) من الحصول على قطعة من الحجر (الديوريت) الأخضر مما خلفه قدماء المصريين فاستعملها عتبة لمسجده في ميدان (الأوبرا). وليس اعجب من أن تتواتر الشائعات في سنة 1947 - نرجو أن تكون كاذبة - عن فكرة صهر ذهب (توت عنخ آمون) لتغطية النقد المصري، وما هو بكاف ولا بعشرة أمثاله.
والشيء الذي لا شك فيه، هو أن العرب في وسط الجزيرة سكنوا واد غير ذي زرع أحاطت بهم بيئة خالية من الخير ورغد العيش والاستقرار، فنشأوا نشأة خشنة وعاشوا خلوا من شارات الفن ومخايل المدينة، لعدم حاجتهم إليها - والحاجة تفقد الحيلة - أو
لانصرافهم إلى النضال في سبيل العيش والتقاتل القبلي. ولما جاء الإسلام بخيره وبركته واخرج العرب من الظلمات إلى النور، صرف القوم إلى الفتح وتوطيد دعائم الدين الحنيف، فلم يذق العرب حلاوة الاستقرار الحقيق والانصراف إلى التعمير الفني إلا ابن حكم دولة بني أمية، حيث رأوا لزاماً عليهم أن يأخذوا بأسباب المدنيات التي ألفوها أمامهم في الأمم المغزوة، فبدأ الفن يلتمع في جبين الإسلام.
وهاهي دمشق الحبيبة التي أشرق من جنباتها القبس الأول من نور الفن الإسلامي فأضاء المشرق والمغرب، وخلق أصولاً وقواعد ترسم الغربيون خطاها ونسجوا على منوالها لا يتركونها إلا ليعودوا إليها حتى يومنا هذا. وهاهي دمشق تحتضن مؤتمر الآثار العربي وتحله اجمل قصورها (قصر العظم)، تحت رعاية فخامة رئيس الجمهورية السورية الذي أضفى على المؤتمر عنايته مما كان سبباً قوياً في نجاحه.
ويجدر بنا أن ننوه بجهود المنظمين وهم نخبة من أساتذة الآثار المبرزين وعلى رأسهم الدكتور زكي محمد حسن، والدكتور احمد بدوي. أما حضرات المندوبين فقد حاضروا في موضوعات شيقة عن تراث العرب نرجو أن يتم طبعها قريباً ليفيد منها العالم العربي التواق إلى هذه العلوم التي ظلت ردحاً من الزمن وقفاً على المهتمين من علماء الأجانب، يكتبونها بلغتهم وما تمليه عليهم أهواؤهم أما فقهاء الآثار من العرب فقد كانوا - سامحهم الله - لا يكتبون إلا بلغة من اللغات (الحية). أما العربية فكانت لا تحظى منهم إلا بجهد ضئيل.
أما المعرض الفريد الذي أقامه الأستاذ حسن عبد الوهاب بصورة - وهي كلها من روائع فنه - فقد أخرج بها زوايا مفصلة هامة للآثار الإسلامية أبرزتها في غاية من الفخامة والجلال.
ومما يثلج صدورنا نحن العرب أن نرى اليمن الشقيق يطرح اليوم سياسة العزلة والانطواء على النفس وان نرى عاهله العظيم، جلالة الإمام يحيى حميد الدين، يدفع ببلاده العريقة في تيار النشاط الدولي، فيظم جهد اليمن إلى جهود شقيقاته فيشتد ساعد العرب وتقوى الأسرة العربية، وهاهو نجله سمو الأمير سيف الإسلام عبد الله وساعده الأيمن الأستاذ العالم السيد علي، نزيل القاهرة الآن، دائبي النشاط فيما يفيد العرب ومما يذكر لجلالته بالثناء انه
سمح، لأول مرة، لعالم عربي هو الأستاذ فخري بزيارة (مأرب)(مدينة سبأ) وطن الملكة (بلقيس) وتصوير آثارها والكتابة عنها.
وللعرب اليوم أن يطمئنوا على تراثهم القومي في الوطن الكبير، وقد أصبحت أمانة الآثار، والحمد لله، معظمها في أيدي العارفين بها من أبناء العروبة، يرون فيها العزة القومية ويضنون على تراث الأجداد، وكنوزهم أن تذهب هباء، أو تتسرب التحف النادرة إلى متاحف الأمم الأخرى. . . يتلقفونها تلقف القناصة من زواحف الأجانب وتجار المسروقات، ممن حذقوا في التلصص وأجادوا صناعة التهريب، فتذهب في غفلة من العرب في عصور الاضمحلال السياسي - وهو اصل البلايا - والجهل بقيم الأشياء.
ولما كانت دراسة التاريخ تعتمد اعتماداً كبيراً على دراسة الآثار، فان الرواية تظل حائرة قلقة غير مستقرة، تنهال عليها المطاعن، وحتى يقرها ويؤيدها السند الأثري، فقد اقر المؤتمر نشر الثقافة الأثرية بين أبناء الوطن العربي، وإقامة المتاحف، وتبادل الأساتذة وإلقاء المحاضرات، وعرض الصور، مما يساعد العرب على استيعاب هذه العلوم القديمة الحديثة فلا يمرون بها مرور العابر الكريم. ولاشك بان نشر الثقافة الأثرية على هذا الوجه يتيح فرصاً عظيمة لتوثيق روابط الألفة بين أبناء العروبة في مختلف الأقطار، وسرعان ما يصبح الوطن العربي الكبير حقيقة ماثلة في قلب كل عربي.
والآثار فضلاً عن كونها كنوزاً مادية. وتراث قومي يعيد ذكرى أيام المجد وعظمة الماضي فهي خير حافز لهمة الجيل الجديد، تنفخ فيه من روح السمو والعزة الوطنية ما يجعله يعمل جاهداً لاسترداد مجد الأيام السالفة وعظمة الأجداد.
وقد أسهمت مصر بكثير من أبنائها في هذا المؤتمر فكان هناك مندوبون عن الجامعتين وبعض الهيئات. إلا أننا لم نر من يتكلم باسم إدارة حفظ الآثار العربية وهي التي تقوم بالحفظ والترميم والعناية بالآثار الإسلامية، ليس في مصر فحسب بل في بعض الأمم العربية الأخرى وهو عمل خطير الشأن يتركز على العلم والدراية، وكذلك معهد الآثار بالجيزة فلم يشترك أحد من طلبته في نشاط المؤتمر.
أما شمال أفريقيا فلها العذر وكفاها ما بها وأعانها الله على ما رزئت به من بلية الاستعمار، الذي جمع عليها القحط والبغي والاضطهاد.
وبعد. . . فإننا نرجو مخلصين أن توضع قرارات المؤتمر موضع التنفيذ، حتى إذا جاء موعد انعقاد المؤتمر التالي، وقد اتفق عليه أن يكون بالقاهرة، وجد المؤتمرون أمامهم ثمرات ما عملوا فينصرفون إلى الاستزادة، والله يجزي العاملين.
القاهرة
مصطفى كامل إبراهيم
وكيل اتحاد الثقافة الأثرية
صور وانطباعات:
الجيل الملهم
للأستاذ مناور عويس
(هلمي معي من لبنان يا عروس، معي من لبنان!. . .
انظري من رأس أمانة، من رأس شنير وحرمون،
من خدود الأسود، من جبال النمور!. . .
تحت لسانك عسل ولبن، ورائحة ثيابك كرائحة لبنان!. . .
ينبوع جنات، بئر مياه حية، وسيول من لبنان!. . .
طلعته كلبنان، فتى كالأرز!. . .
أنفك كبرج لبنان الناظر تجاه دمشق!. . .)
(نشيد الإنشاد)
الملك الشاعر الحكيم يتغزل بحبيبته فلا يجد شبيهاً لها اجمل من لبنان. . . فما سر لبنان؟ وما هذا السحر الذي اتشح به لبنان منذ أقدم العصور حتى الآن؟
الشعراء والفنانون ينشدون جمال لبنان، والأنبياء يتغزلون بجمال لبنان، والرعاة والفلاحون ينظمون العتابا والموال في حب لبنان!. . .
(إذا ذكر لبنان تواردت على الذهن مواكب من الصور والأخيلة والأشباح والأحلام، وانتشرت في الأنف روائح الصنوبر والبخور والزعتر والفل والياسمين، وانتصبت أمام الأعين غابات الأرز والبلوط تعدو فيها الأسود والنمور والظباء!)
فينيقياء، عشتروت، جبيل، الارز، صور، بعلبك، حرمون، قاديشا!. . . يا لها من أسماء صغيرة في النفوس الشاعرة فعل الصهباء، ففي ذكر هذه الأسماء تلخيص لتاريخ الإنسان القديم وأديانه، (فعلى شواطئ لبنان ازدهر العقل البشري وترعرع، وعلى شواطئ لبنان استيقظت الروح في الإنسان فعبد الله في صورة عشتروت). وفي غابات لبنان مثلت أروع أدوار الحب بين الآلهة كما تخبرنا بذلك الأساطير المصرية والفينيقية، وفي جبيل تلك البلدة الصغيرة اليوم الواقعة بين طرابلس وبيروت مثلت افجع مأساة للحب بين (إيزيس) و
(اوزابرس). ومن أمام الأرز الخالد، الرافع رأسه نحو السماء، الهازئ بالزمن، الضاحك من الإنسان وغروره، أجل من أمام الأرز مرت جيوش رعمسيس، وجحافل المقدوني، وأبطال بومبي، ومساعير معاوية، وقوات السلطان سليم، وعساكر إبراهيم باشا. . . مرت كلها من أمام الأرز مطأطئة الرؤوس خاشعة الأبصار، حكمت البلاد ودوخت الأمصار، عمرت ما عمرت وخربت ما خربت، ثم مضت لسبيلها:
كأن لك يكن بين الحجون إلى الصفا
…
جليس ولم يسمر بمكة سامر!
وظل الأرز رافعاً رأسه نحو السماء يبتسم ابتسامته الأزلية!
وهذه صور التي كانت في ما مضى سيدة مدن فينيقيا، صور التي وقفت في وجه الاسكندر العظيم وأرغمته وجنوده على تحمل البرد والحر سبعة اشهر خارج أسوارها، نراها اليوم قرية صغيرة أقرب إلى الخراب منها إلى العمران (فسبحان من رد عامرها خراباً وجعل أنسها وحشة) وأدال منها إلى سواها!
وهذه مدينة البعل التي شهدت عظمة فينيقيا واليونان والرومان ومجد العرب والترك، ما تزال أعمدتها شاهدة على تفوق العقل البشري وجبروت الإنسان!
أي مدينة الشمس! لقد وقفت إزاء آثارك خاشعاً لدى روعة الفن، حالماً بأشياء غامضة لذيذة كالأماني، ناعمة كأنفاس الربيع!
ثم هذان الشيخان الأزليان اللذان كلل الثلج هامتيهما، واللذان كانا وما زالا رمزاً لعظمة لبنان وروعته وجلاله!
حرمون وصنين! من وقف أمامهما ولم يحس بقرارة نفسه بالهيبة والوقار؟ من شهدهما ولم يشعر بالخشوع والتأمل العميق؟!
وكل من أسعده الحظ بزيارة (بشرِّي) حيث الأرز الخالد، وحيث يرقد رقدته الأبدية فقيد الشعر والفن جبران خليل جبران، ومشى بضع خطوات إلى الجنوب أشرف على واد عميق رهيب، وهوى سحيقة تبعث الرعب والخشوع في أقسى القلوب وتذكر الإنسان بالموت والفناء.
هذا الوادي هو وادي (قاديشا) أو وادي القديسين، وقد دعي كذلك لأن النساك والمتعبدين في عصور المسيحية الأولى اتخذوا مغاوره معابد، وكهوفه صوامع يتعبدون فيها ويتهجدون
حيث الوحدة الشاملة المغبوطة، والسكينة الخالدة، التي لا يكدرها غير هدهدة المياه المنحدرة من فوق الصخور على حصباء الوادي!
فينيقيا، عشتروت، جبيل، بعلبك، حرمون، صنين، الأرز، قاديشا. . . كلها أسماء تفيض شعراً وإلهاماً وتاريخاً، إنها مصدر وحي للأديب لا ينفد، ومورد عذب للفنان لا ينضب، فقل أن تجد شاعراً أو كاتباً شرقياً كان أو غربياً يخلو شعره أو نثره من وحي هذه الأسماء الملهمة، ذلك لأن لبنان في نظر الشعراء والكتاب - الشرقيين منهم والغربيين - (غابات مسحورة تفوح منها روائح معطرة بأنفاس عشتروت وبعل وغيرهما من آلهة الفينيقيين وأبراج وقصور من المرمر والنحاس، وأسود ونمور وظباء وأيائل وصوامع وهياكل وأنبياء وقديسين!)
فهذا (لامرتين) شاعر فرنسا العظيم يزور لبنان ويستلهم أرزه فيوحي إليه بآيته الباقية ما بقي الشعر الفرنسي، وأعني بها (سقوط ملاك). وهذا (رينان) الفيلسوف الشهير يأوي إلى أحد أديرة لبنان ليكتب كتابه الخالد (ابن الإنسان)، وكذلك (شاتوبريان) و (هنري بوردو) صاحب القصة الشهيرة (تحت ظلال الأرز)، وهي قصة واقعية معروفة، بطلها فتى مسلم من طرابلس، وبطلتها فتاة مسيحية من بشري ومسرحها الأرز. . . وللشاعر الإنجليزي (شلي) مأساة شعرية رائعة عن موت (أوزايرس) وبعثه في مدينة (جُبَيل) اللبنانية، وكذلك الشاعر الخالد وليم شكسبير وغيرهما كثيرون
فلبنان شاعر وملهم الشعراء، وأبناء لبنان شعراء بالفطرة، (وكيف لا يكونون شعراء إذا سكنوا لبنان وتكحلت عيونهم ببهاء صنين، وتنشقوا عطر الأزهار المنتشرة في أودية الجبل ووهاده، ونظروا إلى البحر الأزرق والسماء الصافية الأديم، وأشرفوا على تلك القمم المزينة بالمعابد والقباب والأجراس، وتظللوا بظل الأرز الخالد المرتفع في الفضاء كأنه صلاة تصعد إلى العليِّ؟!)
لقد طبع لبنان أهله بطابعه الخاص، ففي أخلاقهم رقة نسيمه وصلابة أرزه ورسوخه، وفي أدبهم ما في لبنان من عذوبة وجمال وسحر وروعة. . . لقد جرى حبه في قلوبهم مجرى الدم، فهذا شاعرهم داود عمون يوصي قبل موته بأن يجعلوا من ثلج لبنان كفنه، وفي ظل الأرز ضريحه:
يا بني أمي إذا حضرت
…
ساعتي والطب أسلمني
فاجعلوا في الأرز مقبرتي
…
وخذوا من ثلجه كفني!
طالما تنافس الشعراء والكتاب قديماً وحديثاً في وصف لبنان وتصوير جماله، فلا ترى شاعراً زاره أو مر به إلا ألهمه من الشعر أطيبه ومن النثر أطربه. فالمتنبي شاعر العظمة الذاتية والطموح يمر بلبنان فلم يثنه طموحه ولم تنسه مطامعه أن يصف وعورة مسالك لبنان وصعوبة قطع عقابه:
وعقاب لبنان، وكيف بقطعها
…
وهو الشتاء وصيفهن شتاء؟!
ويزوره شوقي لأول مرة فيروعه فيهتف:
لبنان والخلد اختراع الله لم
…
يوسم بأزين منهما ملكوته!
ولحافظ ومطران والرصافي والزهاوي وغيرهم من كبار شعراء العربية في لبنان ما يسكر ويرقص. . . ومن أروع الشعر ما خاطب به الشاعر العبقري الياس أبو شبكة لبنان:
لبنان! يا ريف السماء وثغرها!
…
في كل شبر من ترابك ملهم!
ما أنت بالبلد اليتيم وإنما
…
في كل عين لا تراك تيتم!
أما شعراء المهجر وعلى رأسهم جبران ونعيمه والقروي والريحاني وأبو ماضي وفرحات والمعلوف وغيرهم ممن لا تحضرني أسماؤهم الآن، فقد جعلوا من لبنان وطناً روحياً يحجون إليه بأرواحهم ويلهجون به في يقظتهم ومنامهم، فأبدعوا لنا من تغنيهم بلبنان والحنين إلى لبنان أدباً جديداً وروحاً جديدة لم نعهدها في الأدب العربي من قبل، فرفعوا بذلك رأس الضاد عالياً، ولفتوا أنظار الغرب إلى هذا الشرق الحالم المتأمل الذي تتلمذوا عليه فيما سلف من الزمان وقبسوا من أنواره، والذي سوف يعودون إلى أحضانه حيثما ترهقهم هذه الحياة المادية التي يرزحون اليوم تحت أعبائها الثقيلة. . .!
فبلد تحج إليه قلوب الناس من جميع أقطار المسكونة، وتحلق فوقه أرواح الشعراء والملهمين من جميع الأمم والأجناس، بلد ينجب الأبطال والباباوات والقياصرة العظام، وينشئ الفلاسفة الأفذاذ والشعراء والكتاب والفنانين والقديسين. . .
بلد من أبنائه ميخائيل نعيمه وجبران والريحاني ومي لاشك في أنه بلد جدير بكل عربي القلب واللسان أن يحبه ويكبره ويتعلق به، لأنه من البلاد العربية كالقطب من الدائرة،
كالقلب من الجسم. . . فحيا الله لبنان وأبناء لبنان!
(يافا)
مناور عويس
مدرس الأدب العربي بكلية تراسانطه بيافا
4 - من ذكرياتي في بلاد النوبة:
جغرافية البلاد
للأستاذ عبد الحفيظ أبو السعود
وما كدنا نقيم بالمدرسة، ونزاول عملنا فيها، ونتصل بهذه الحياة الجديدة، ونتعرف إلى الأهليين في هذه البلاد، ونجوب أنحاءها، ونشاهد آفاقها - ما كدنا نفعل ذلك، حتى أدركنا قيمة المعرفة، ومنزلة الترحال، والانتقال من مكان إلى مكان. .
لقد شعر كل منا بالتقصير في حق بلاده، والتفريط في مصلحة وطنه، لأنه لا يكاد يعرف شيئاً عن هذا الوطن، الذي تقله أرضه، وتظله سماؤه، وينشق عبير روضاته، وينعم بثماره وخيراته. . .
أدركنا هذا، وشعرنا به وتمثل لنا حينئذ نشاط الأجانب، وقيمة الرحلات عندهم، وأثرها في حياتهم، وكيف أنهم ارتفعوا بها قدراً، وعظموا بها منزلة، وخلدوا بها ذكراً، وبعدوا شأواً ودفعتهم إلى العمل المنتج، والسعي الحثيث!.
وهالنا ألا يكون نصيبنا من جغرافية بلادنا سوى معلومات ضئيلة، لا تنبض بالحياة، ولا تكاد تنهض على قدمين، أو تقوم على ساق، لأنها تنبت في حجرات الدراسة فحسب، ولا تنال حظها من واقعية الحياة!!
ويقيني أنه واجب على المثقف إذا حل ببلد، أن يعطيه شيئاً من اهتمامه، وجانباً من عنايته، فيدرسه دراسة توقفه على جميع ما يعنيه، من مختلف نواحيه، بحيث يجيب إجابة حسنة إذا سئل عنه وخوطب بشأنه. .
وإذا فهم الإنسان البيئة الجديدة التي يحيا فيها، أمكنه أن ينتج على خير ما يحب، وأن يؤثر فيها كما يريد، دون أن تتكاءده عقبة، أو تقف في سبيله صعوبة، أية كانت. . . ومن الخطأ أن يترك بيئة دون أن يحدث فيها أثراً يذكره به أهلها، ويحيا به في ذكراهم على الدوام.
لهذا كله، عنيت بدراسة بلاد النوبة، ولن يكلفك معرفة جغرافيتها، أكثر من نظرة فاحصة إلى خريطة الوجه القبلي، وبخاصة مديرية أسوان، لتدرك أن الجزء المنزرع شؤيط ضيق على شاطئ النيل. . . بيد أن هذا الشريط يكاد ينعدم تماماً، ويتلاشى في المسافة ما بين الشلال وحلفا، وهذا الجزء نفسه هو بلاد النوبة، إحدى مناطق القطر المصري، وهي جزء
من مديرية أسوان، غير مطروق. . ولذا فبلاد النوبة قليلة السكان، لا تحظى بإقبال المصريين، مثقفين أو غير مثقفين، ولا بإقبال أهلها أنفسهم على العمل فيها، والانتفاع منها!!
وحدود هذه الشلال شمالاً، وأدندان جنوباً، وهي آخر الحدود المصرية كما قضت بذلك السياسة الغاشمة، سياسة الاحتلال المقيت. ومن الشرق والغرب على السواء، سلاسل جبال تختلف ارتفاعاً وضخامة، وصحاري منبسطة واسعة، لا يكاد يقيم فيها الإنسان، اللهم إلا الجزء الواقع على النيل مباشرة فيضم نجوعاً كثيرة متناثرة على الشاطئين، وهي مثال الفقر والحاجة، ورمز البؤس القاتل، والشقاء الأليم. . وهي مع هذا عنوان التضحية، والتفاني في حب الوطن، حيث مسقط الرءوس مهما اشتد البلاد، وتمادى القدر في الغلواء!!
والمسافة من الشلال إلى وادي حلفا، حوالي ثلاثمائة وخمسين كيلو متر، مقسمة إلى أربع وأربعين محطة تقريباً، تقف الباخرة البطيئة (البوستة) في كل منها، تحمل البريد، والبضائع والركاب، منها وإليها، ولا تقف الباخرة السريعة إلا مرة واحدة في عنيبة. .
وإذا كان هذا الاسم (بلاد النوبة) يلقي في روع الإنسان حين يسمعه، أو يقرأ عنه أن سكان هذه البلاد نوبيون جميعاً، فإن الحقيقة غير هذا، والواقع يخالفه. . ذلك لأن هذه البلاد تنقسم إلى ثلاث مناطق تختلف كل منها عن الأخرى تمام الاختلاف، وتباينها إلى حد كبير.
فالمنطقة الأولى من الشلال إلى المضيق، وهي خمس عشرة محطة: الشلال، دهميت، الأمباركاب، خور رحمة، أبو هور، مرواو، مرية، قرشة، جرف حسين، كشتمنة، الدكة، العلاقي، قورته، السيالة، المضيق.
وللشلال شهرة بالملاحة، فأكثر الملاحين الذين يشتغلون في البواخر النيلية بوجه عام، تجارية وحكومية، وشراعية، من هذه البلاد الصغيرة المسماة بالشلال!!
وإنك لتعجب أشد العجب حينما ترى أبناء هذه البلدة يثبون في البواخر وثباً، ويقفزون هنا وهناك، وكأنما ولدوا على ظهور هذه البواخر، وعلى صفحات النيل، وبين موجاته العاتية، وتياره الجارف، ومع هذه فلا ينالهم أذى ولا يلحقهم مكروه!!
بيد أن الألم يحز في نفسك حزاً، حينما تراهم يرتدون الأسمال البالية، التي لا تكاد تستر
شيئاً من أبدانهم وأجسامهم! تلك الأجسام الهزيلة الضعيفة، التي لا تكاد تقوى على الحركة والحياة، فلقد اجتمع عليها المهلكات الثلاث: الفقر والمرض والجهل. . . وما أكثر هؤلاء الصبية في محط الشلال، حيث القطر الحديدية، والبواخر النيلية. .
وفي الدكة مشروع للري، ولهذا فقد اشتغل كثير من أهلها بالزراعة، وقد شعرت وزارة المعارف بازدياد حركة التعليم في هذه البلاد فأنشأت في الدكة مدرسة ابتدائية، حتى تقاوم الجهل وتثقف العقول، وتنير الأذهان والفهوم. .
وكذلك في كل من العلاقي، والسيالة، مشروع للري، بعث النشاط نسبيا في أهل هذه البلاد وما جاورها، وجذبها إلى موطنها الأصلي، بدل التشرد في كثير من بلاد القطر، سعياً وراء الرزق والقوت، ومزاولة أعمال ومهن، اشتهرت بهم، واشتهروا بها، ولكنها لا تناسبهم الآن، أو بالأحرى لا يرضى الجيل المتعلم الجديد، الذي تعلم واكتملت ثقافته، واتسعت مداركه. . .
والمنطقة الثانية من السبوع، إلى كرسكو، وهي ست محطات: السبوع، وادي العرب، شاترمة، المالكي، السنغاري كرسكو، وليس في هذه المنطقة مشروعات للري، ومع هذا فأهلها يزرعون المساحات القليلة الضئيلة على جانبي النيل، ويجدون في هذا مشقة لا تكاد توصف، ويكفي أن تدرك، أنهم يجلبون (الطمى) من النيل عندما ينحسر الماء، ويضعونه فوق السفح الصخري إلى حد يكفي لنمو النبات، ثم يرفعون الماء بالدوالي والنواعير، ويبذلون في ذلك جهداً لا يقاس به جهد إنسان والغني القادر فيهم من يصلح بهذه الطريقة بضعة قراريط!!
بيد أن بلدة المضيق، خليط من العرب أهل المنطقة الثانية، ومن النوبيين الشماليين، أهل المنطقة الأولى، ولهذا تجد لغتهم خليط من العربية و (الرطانة) النوبية، وكذلك بلدة كرسكز على هذا الوضع لوقوعها بين المنطقة الثانية، والمنطقة النوبية. . . منطقة أهل الجنوب. .
وأما المنطقة الثالثة فهي أحسن حظاً من هاتين المنطقتين، وأرغد عيشاً، وأكثر ثراء وغنى، وهي أربع عشرة محطة: أبو حنضل، الديوان، الدر، توماس، قتة، إبريم، عنيبة، الجنينة، مصمص، توشكي، أرمنا، أبو سمبل، بلانه، أدندان.
وفي كل من توماس، وعنيبة، وبلانة، مشروع للري، إلا أن بلانة أخصب بلاد النوبة،
وأنضرها زراعة، وأوفرها محصولاً، وأسبقها في ميدان التقدم الزراعي الذي ينتظر هذه البلاد، بجانب التقدم الصناعي الذي سيجرفها جرفاً إن شاء الله، ضمن ما يجرف من بلاد القطر، الغنية بالمعادن الدفينة، والثراء المقبور!!
ولكل منطقة من هذه المناطق الثلاث، اسم خاص بها، فالمنطقة الأولى منطقة (الكنوز) أو منطقة (نوبيّي الشمال). والمنطقة الثانية منطقة وادي العرب. والثالثة منطقة (نوبيّي الجنوب).
ولكل منطقة من هذه المناطق كذلك عادات وتقاليد خاصة تغاير تمام المغايرة المنطقة الأخرى، وهذا مما يجب أن يدخل إلى حد كبير في حساب الباحث، إذ أن واحداً من الكنوزيين، أو أهل الشمال، لو أراد أن يكلم آخر من نوبيي الجنوب، فإن أحدهما لن يفهم شيئاً مما يقول صاحبه، فلكل لهجة خاصة، أو ما يسمونه (رطانة). . .
ولن يحاول ساكن المنطقة الثانية - منطقة العرب - أن يفهم من أحدهما شيئاً، لأنه لا يعرف شيئاً من (الرطانة) وإنما هو يتكلم اللغة العربية التي دخلها قليل من اللحن والتحريف وإن كان يحتفظ باللهجة الجميلة، ذات الجرس الموسيقي البديع!
غير أن اللغة العربية تجمع بين هؤلاء الأخوة جميعاً، ولكنها عربية غير سليمة بطبيعة الحال، وكثير من الصبية والصغار لا يعرفون العربية، ولا يرضون بالرطانة بديلاً، وكذلك أكثر النسوة اللاتي لم يغادرن بلادهن، إلى مختلف بلاد القطر. فهؤلياء لا يتكلمن بالعربية على الإطلاق، لأنهن لا يكدن يعرفن عنها شيئاً أكثر مما يعرف عنها أهل القطبين!!
ومن العجيب أن التنافس شديد في العلم والمعرفة، والرقي إلى المناصب السامية، والتخلص من ربقة الماضي الأليم - بين أهل الشمال وأهل الجنوب من النوبيين فحسب، أو بالحري بين المنطقة الأولى والمنطقة الثالثة، ويظهر ذلك جلياً بين تلاميذ مدرسة عنيبة، في بدء العام الدراسي عند الدخول أو الالتحاق بالمدرسة، ثم يزداد وضوحاً في حجرات الدراسة مما يشحذ الهمم ويلهب القرائح، ويدعو إلى التفوق والنهوض. .
ويلاحظ أن تلاميذ المدرسة من أهل الشمال، أكبر سناً من تلاميذها من أهل الجنوب، وربما يكون مرجع هذا إلى أن قرب المدرسة من أهل الجنوب يساعدهم على الالتحاق بها في سن صغيرة.
كما تبدو هذه المنافسة بين الكبار في شتى النواحي، ومختلف مظاهر الحياة، مما قد نعرض له في سياق الأحاديث.
عبد الحفيظ أبو السعود
الغزل في شعر المرأة
للشيخ محمد رجب البيومي
من الأدب النسوي:
شعر المرأة في مجموعة قليل ضئيل فأنت تجد الموسوعات الأدبية تزخر بأشعار الرجال في شتى المواضيع، دون أن تطلع للمرأة غير البيتين أو الثلاثة في الفصل الطويل، ولا يرجع ذلك غبن أو تقصير في جنب المرأة كما قد يتوهم فريق من الناس، بل لأن المؤلف يحرص على أن يختار لقرائه أنفس ما وقعتعلية عينيه من رائع الشعر، وبديع القول، والمرأة وأن أجادت في كثير من الأغراض فالرجل بلا شك أكثر منها إجادة، وأكمل توفيقاً، فالمؤلف إذن معذور مشكور. . .
والغزل بنوع خاص لم يظفر بنصيبه الذي يستحقه من المرأة بل كان عنصراً عزيز المنال، قد قامت دونه العوائق، وتكاثفت أمامه السدود، وذلك طبيعي للغاية إذا نظرنا إلى البيئة الشرقية التي ترعرعت فيها الفتاة العربيه، وعلمنا أن من الواجب الأكيد على الشاعرة أن تقف إزاء عواطفها القلبية صامتة مفحمة مهما اعتلج صدرها بالشوق، واستعر فؤادها بالحنين، وألا فنحن نرى من الفتيات من نظمن القلائد البديعة في مختلف أغراض الشعر ما عدا الغزل، فقد أمسكت حواء عنه، ولم تحلق بجناحها الشاعر في أجوائه الفسيحة. فهل كان ذلك عن عيّ أو قصور؟! أو أن الرقابة القاسية من الأهل قد أخرست الألسنة الشادية، وألجمت الطيور الصادحة، رغم ما نعرفه في المرأة من شعور دافق وإحساس مشبوب. . .
ونحن نعلم جيدا أن بثينة صاحبة جميل، وأميمة فاتنة ابن الدمينة، وليلى معبودة قيس، قد كن شاعرات مجيدات، فليت شعري أين ما نظمنه من الغزل الرقيق؟ مع ما يعترف به التاريخ من تفانيهن في العشق، وجنونهن في الحب، اللهم إلا أن تجد لكل واحدة مقطوعة ضئيلة لا تتناسب مع ما يتأجج في صدرها من لهيب!
وإذا كان ابن الأيكيجنح إلى الترنم في خلسة مواتية مهما نصبت حوله الشباك الوثيقة، وقامت في وجهه الموانع المتزاحمة فأن الأسفار الأدبية قد حفظت لنا جمرات مشبوبة من غزل المرأة الرائق وهي - على قلتها - تعطيك فكرة تامة عن القيمة العقلية للمرأة،
وتوقفك على كثير من الانفعالات النفسية التي تكابدهاالفتاة إذا احترقت في سعير الغرام
والواقع أن المرأة لم تلج باب الغزل صريحة سافرة بل تلثمت بكل ما ملكته من براقع وخمور، فكان غزلها في الغالب تلميحاً يهديك إلى الطريق ويجعلك تسير فيه وحدك دون أن يرافقك في خطواتك، وقد تجد من يسلبها الوجد رشادها الناصح، فتنطق بما يجيش في صدرها واضحاً سافراً دون أن تتلثم بلثام واحد ولها من شعورها الدافق، وغرامها المتقد ما يبرر لها الغزل والتشبيب
وصاحبة التلميح أريبة ذكيه ترف من أين تؤكل الكتف فقد استغلت عنصر الحنين إلى الوطن أثمر استغلال، فاعتمدت عليه في التنفيث عن صدرها، والتعبير عن خوالجها، لما تعلمه من الصلة الوثيقة بينه وبين الغزل، وهي بذلك قد أخمدت الفتنة الثائرة، وأغمضت العيون المتنمرة، ثم - هي في الوقت نفسه - قد أفهمت حبيبها كل شيء. فأدرك من حنينها الذائب ما يتقد في أحشائها من شوق، وهذا في الواقع مطلب عزيز، تبذل العاشقة جهدها في تحصيله، فلم لا تصل ليه من اقرب طريق؟؟ ونحن نعلم عاشقات مدنفات قد اشتهر في الملأ شوقهن العارم، فما احتمله قريب أو صديق. بل عمد كل والد إلى فتاة فحملها إلى وطن غريب، وعقد قرانها في بلد نازح، وهنا ترسل النائية حنينها إلى مسارح الصبا وملاعب الشباب، وأنت حين تقراه لا تجده غير غزل مقنع قد أهدى إلى الحبيب الأول ففهم منه كل شئ، ولك أن تعتبر من هذا النوع قول القائلة:
ألا أيها الركباليمانون عرجوا
…
علينا فقد أضحى هوانا يمانياً
نسائلكم هل سال نعمان بعدنا
…
وحب إلينا بطن نعمان واديا
فأن به ضلا ظليلا ومورداً
…
به نقع القلب الذي كان صاديا
فهل صحيح أن الشاعرة تقصد ماء نعمان، وظله الظليل ومورده الرائق؟! لو كان ذلك وحدة ما أحسست بهذه الحسرة المتأججة، واللهفة المشتعلة، وما اهتدت الشاعرة إلى قولها الرائع (به نقع (القلب) الذي كان صاديا!)
ونظائر هذه الأبيات لا تندرج تحت حصر، وهي تدلنا على فطنة المرأة، وذكائها اللماح، وتؤكد لنا أن الحب كالزهرة الناظرة، لابد أن يعبق أريجها في كل مكان تحل به وهل كان الحنين غير عبير فاتن ينعش الأفئدة ويهيج النفوس؟!
وكثيراً ما تفر المرأة من الحنين إلى الكناية والرمز، وهي في ذلك تقتدي بالرجل فتسير وراءه خطوة خطوة، ولكن أي رجل تتبع؟؟ إنها تعمد إلى شاعر سدت أمامه المسالك، وصلصلت في كفة القيود، فتتجه معه اتجاهه، مادامت ظروفه القاسية كملابساتها العنيدة، وإذا كانت المرأة تعتقد في قرارة نفسها أن الجل أحزم منها وأعقل، فأنها تسلك طريقه مطمئنة إلى السلامة واثقة بالنجاة. . .
ولعل أصدق مثال نقدمه للقارئ، هو حميد بن ثور الهلالي فقد كان ممن برح بهم العشق فأرسل قصائده الغزلية سافرة عارية ولكن الحاكم يقف في وجهه منذراً مهدداً، فيمنعه من التغريد الساحر، وهنا يلجأ الشاعر إلى الكناية المقبولة فيتغزل في السرحة مطنباً في محاسنها الفاتنة، ولعمري لقد وفق في اختياره فالسرحة ذات منظر جذاب، وثمر شهي، ونسيم منعش مريح وكل ذلك مما يذكر العاشق المدنف بمعبودته فيتمثلها أمام عينه إذ يقول:
أيا طيب رياها ويا حسن طعمها
…
إذا حان من شمس النهار شروق
وهل أنا إن عللت نفسي بسرحة
…
من السرح مسدود على طريق
ومهما يكن من شيء فقد نفث الشاعر عن صبره. ولم يجعل لأحد سلطاناً عليه، ثم هو قد فتح الباب على مصراعيه لعلية بنت المهدي شقيقة الرشيد. فقد علقت غلاماً لها يسمى طلا ونظمت فيه من الرقائق الأنيقة ما هو جدير بأمثالها من المثقفات الناعمات، ولكن هرون يقف أمامها وقفة تحدى بها الفن تحديا ًصارخاً، فلجأت إلى التغزل في السرحة مقتدية بحميد إذ تقول:
أيا سرحة البستان طال تشوقي
…
وما لي إلى ظل لديك سبيل
ثم تطلب في وصفها الساحر فتجلس على ناصية الإبداع والافتتان وذلك منها غير كثير. . .
وفي رأيي أن هذه الحيطة جميلة مقبولة تسير مع الأخلاق النبيلة مهيج واحد، وإن كان من الشاعرات السذج من تبالغ في الحذر والحيطة، فتعلن لك أنها تتقي الله عز وجل وتأتمر بأمر العفاف، ثم تعتقد أنها قد آمنت بذلك ما عسى ان يوجه إليها من ملامة أو نقد، فتصرح بما يثير حولها الشكوك، ويجعلها مضغة ملوكة في الأفواه، ودونك قول أم ضيغم البلوية
وبتنا خلاف الحي لا نحن منهمو
…
ولا نحن بالأعداء مختلطان
وبتنا يقينا ساقط البرد والندى
…
من الليل بردا يمنة عطران
نذود بذكر الله عنا من الصبا
…
إذا كان قلبانا بنا يجفان
ونصدر عن أمر العفاف وربما
…
نقعنا غليل القلب بالرشفان
وأنا لا ادري ماذا يفيدها ذكر الله بعد أن نقعت غليل القلب بالرشفان؟ وماذا يغني العفاف بعد أن باتا في مكان قاس خلاف الحي؟، اللهم إن هذا احتراس أدى إلى افتضاح ولكن فيه رائحة الطمأنينة على كل حال. . .
ومن العاشقات من تصرح للملأ بتقوى الله عز وجل واستحياء بعض العواقب، ولكنها تعتصم بالعقل فلا تتورط فيما تورطت فيه أم ضيغم، بل تسير في سبيلها المملوء بالشوك يقظة محاذرة، تتجنب العوائق، وتتجافى عن المزالق حتى تنتهي من المسير بسلام، والتفت معي إلى عاتكة المرية إذ تقول:
وما طعم ماء أي ماء تقوله
…
تحدر من غر طوال الذوائب
بمنعرج من بطن واد تقابلت
…
عليه رياح الصيف من كل جانب
نفى جريه الماء القذى عن متونه
…
فما إن به عيب يتاح لشارب
بأطيب ممن يقصر الطرف دونه
…
تقى الله واستحياء بعض العواقب
ثم صار حنى رأيك هل لاحظت عليها تورطاً وانزلاقاً كأم ضيغم أو وجدت في قولها ما تشم منها رائحة الريب الآثم، الحق أنها كانت لبقة ماهرة فيما نظمت، وأنا لا أدري لماذا تذكرني أبياتها بأبيات أخرى تتفق معها في الطريقة، وتخالفها في التفكير. ونحن لا يهمنا أن يكون الإطار من نوع مألوف بل نحرص على أن تكون الصورة جديدة والريشة بارعة كما جاء في قول ضاحية الهلالية:
وما وجد مسجون بصنعاء عضه
…
بساقيه من صنع القيون كبول
قليل الموالي مستهام مروع
…
له من بعد نومات العشى عويل
يقول له السجان أنت معذب
…
غداة غد أو مسلم فقتيل
بأكثر منى لوعة يوم راعني
…
فراق حبيب ما إليه سبيل
فأنت أن الطريقة الأولى هي الطريقة الثانية ولكن معنى عاتكة مكرر معاد أما أبيات ضاحية فذات تصوير مبتكر وأنت لا تستطيع أن ترجع بها إلى قائل متقدم، مهما أتعبت
نفسك في التنقيب، ثم هي تصور لك جزع المرأة من السجون ورهبتها من القيود، وليت شعري إذا لم نلمس إحساس المرأة من شعرها العاطفي فمن اى نبغ دافق نستقيه؟ أما قوة النسج فبارزة بوضوح في كلتا المقطوعتين.
محمد رجب البيومى
صور
للأستاذ أنور العطار
أنت دائي ما أنكرتك الجروح
…
لا ولا عقك الفؤاد الذبيح
طائف منك مر بالقلب هيما
…
ن، فجن الهوى وضجت قروح
وتعلمت منك كيف أنوح
أنت وهم حلو يلذ ويغرى
…
أنت كالخمر في الأضالع تسري
أنت سر الهوى تغنى بك القلـ
…
ب، وشعر أربى على كل شعر
وصلاة تروق قلبي وفكري
أنت دوح يموج بالأطياب
…
فتنة العين مطمح الآراب
يتغنى بك المشوق المعنى
…
ويناجيك بالأماني العذاب
وأغاريد قلبي المطراب
أنت طيف الهوى وأنغام حبي
…
ونصيري على اغتمامي وكربي
وسميري في وحدتي واعتزالي
…
وأليفي إذا تبدد صحبي
أنت راحي وأنت ريحان قلبي
أنت لحن جم المناغم بكر
…
ملؤه روعة وسحر وشعر
وسراب إذا تلفت أبغيـ
…
هـ انثنى ضائعاً وولى يفر
واعتراني عليه حزن وذعر
صور يغمر العيون سناها
…
وأماني لا يحد مداها
نغمات تظل تعزف في النفـ
…
س، ويبقى على الليالي صداها
هي من وحيها وفيض هواها
فلسطين رمز جهاد العرب
للأستاذ إبراهيم الوائلي
فلسطين لا زعزعتك الخطوب
…
ولا أرهقتك ثقال النوب
ولا أوهنتك عوادي الزمان
…
إذا ما دجا أفقها واضطرب
ولا فل عزمك طول الكفاح
…
فانك رمز جهاد العرب
وقفت ومثلك لا يستكين
…
مناضلة حين جد الطلب
وأزمعت ألا تري غاصباً
…
يجوس لديك خلال الرحب
ولا طامعاً أشعبي الرجاء
…
يظن بأن سينال الأرب
وكيف يكون - وفيك الأسود
…
غضاباً وواديك واد أشب
وخلفك جيش يخوض الدماء
…
ويسبح في موجها المصطخب
ودنيا سواء لديها النسيم
…
ندى الذيول، وحر اللهب
فلسطين ما كنت مأوى الدخيل
…
ولا طعمة الشره المغتصب!
ولست ملاذ الشريد الذليل
…
ولا مسرح اللاجئ المغترب!
غزاك من النفر الصاغرين
…
طريدون لم يجدوا مضطرب
عصائب قد أمنعوا بالنفاق
…
ونفث السموم وبث الريب
أرادوك ملجأ شذاذهم
…
على غير ما صلة أو سبب
فلسطين أين دماء الشباب
…
تذوب على سفحك المختضب؟
وأين الرؤوس تقود الضال
…
وتسحق من كبرياء الذنب؟
ومالك والدم يجرى بها
…
سجل يفاخر حتى الشهب
وتاريخك الناصع المستفيض
…
يطاول من قال أو من كتب
طويت السنين ثقال الخطى
…
وما كان حضك غير الوصب
وقمت بما يقتضيه الفخار
…
فإما الممات وإما الغلب
وما قدر حي يحب البقاء
…
ودنياه حافلة بالسغب
فلسطين يا صرخة الثائرين
…
على الظلم حين طغى واستتب
ويا غضبة رددتها العصور
…
لتعلم صهيون كيف الغضب
حملت اللواء على منكبيك
…
خضيباً وقلت: حذار الهرب
وكنت الدؤوب وهل فائز
…
بنيل الحقوق سوى من دأب
جهادك لحن بثغر الخلود
…
يرن صداه وراء الحقب
ودنياك محمرة الجانبين
…
من الدم كالشفق الملتهب
فلسطين جرحك ملء القلوب
…
وذكراك ماثلة عن كثب
فزعن لصوتك إذ تصرخين
…
وما هان أن تتعالى الندب
فنحن سواء بحمل الخطوب
…
ويجمعنا حولهن النسب. . .
جراح ولكنها في الصميم
…
وداء ولكنه في العصب
فساس على غير ما نبتغي
…
وندعو ولكن بمن لم يجب
ونزجي العتاب وهل نافع
…
مع المستبد سلاح العتب؟
وكم ذا تعللنا بالوفاء
…
عهود مبطنة بالكذب؟
فشأن السياسة نهب الشعوب
…
ونفي الجريمة عمن نهب
يقولون: في الكون حرية
…
وفجر تألق خلف الحجب!
وحرب أثيرت لنشر السلام
…
وذاك هو الأمل المرتقب
وما السلم إلا خيال يطوف
…
وحلم تباعد ثم اقترب. . .
وقد سخروا الذر حتى استجاب
…
وذل لهم كلما قد صعب
ولو صدقوا بالذي يدعون
…
لما بقيت جذوة في الحطب!
أفيقوا دعاة الخصام البغيض
…
ولا تبعثوا كامنات الريب
فللعرب موطن آبائهم
…
وللسامريين عجل الذهب
ديوان شعر
للأستاذ بدر شاكر السياب
ديوان شعر، ملؤه غزل
…
بين العذارى بات ينتقل
أنفاسي الحرى تهيم على
…
صفحاته؛ والحب والأمل
وستلتقي أنفاسهن بها
…
وتحوم في جنباته القبل
ديوان شعر ملؤه غزل
…
بين العذارى بات ينتقل. .
لما يعين النوح والشكوى
…
كل تقولي: من التي يهوى؟
وسترتمي نظراتهن على الـ
…
صفحات بين سطوره نشوى
ولسوف ترتج النهود أسى
…
ويثيرها ما فيه من بلوى
ولربما قرأته فاتتني
…
فمضت تقول: من التي يهوى؟
سيرين ما لاقيت في حبي
…
فيصحن: يا للعاشق الصب.!
ولقد تسيل دموعهن على
…
جنباته، موصولة السكب
يا ليت قلبي من قصائده
…
لترى الحسان الغيد ما قلبي
سيرين ما لاقيت في حبي
…
فيصحن: يا للعاشق الصب. .
ديوان شعري. رب عذراء
…
أذكرتها بحبيبها النائي
فتحسست شفة مقبلة
…
وشتيت أنفاس وأصداء
فطوتك فوق نهودها بيد
…
واسترسلت في شبه إغفاء
ديوان شعري. . رب عذراء
…
أذكرتها بحبيبها النائي
يا ليتني أصبحت ديواني،
…
أختال من صدر إلى ثان. .
قد بت من حسد أقول له:
…
يا ليت من تهواك تهواني!
آلك الكؤوس ولي ثمالتها
…
ولك الخلود وإنني فان؟
يا ليتني أصبحت ديواني،
…
أختال من صدر إلى ثان
كم غادة شاهدت مخدعها
…
ومضيت تسهر ليلها معها
قد هزها شوق لمعتسف
…
أمسى هواه يسيل أدمعها
فمضت تذيع إليك قصتها
…
وتبث هماً فل أضلعها. .
كم غادة شاهدت مخدعها
…
ومضيت تسهر ليلها معها!
ستعيش بين النور والعطر
…
وتفر من صدر إلى صدر
فترى الثغور تعيد، هامسة،
…
ما فيك من فتن ومن سحر
والنهد يرمي الظل فيك على
…
روض الخيال ومرقص الشعر
ستعيش بين النور والعطر
…
وتفر من صدر إلى صدر
يسمعن فيك أغاني الريف
…
مترنماً بحسانه الهيف. . .
الماء يشكو للجرار هوى
…
والنخل في صمت وتعزيف
والليل والأنسام عاطرة
…
والزورق الغافي المجاديف
تلقي مسامعها إلى الريف
…
يشكو غرام حسانه الهيف
سأبيت في نوح وتسهيد
…
وتبيت تحت وسائد الغيد
أو لست مني؟ إنني نكد
…
ما بال حظك غير منكود؟
زاحمت قلبي في محبته
…
وخرجت منها غير معمود
أأبيت في نوح وتسهيد
…
وتبيت تحت وسائد الغيد؟
ديوان شعر ملؤه غزل
…
بين العذارى بات ينتقل
أنفاسي الحرى تهيم على
…
صفحاته، والحب والأمل
وستلتقي أنفاسهن بها
…
وتحوم في جنباته القبل
ديوان شعر ملؤه غزل
…
بين العذارى بات ينتقل
من وراء المنظار
هكذا تكون الشرطة!. .
يا سيدي! بالباب عسكري يقول إنه يريد أن يسلمك محضراً!
بهذا النبأ المزعج دخل عليَّ الخادم في نحو الساعة الثامنة من مساء ليلة قريبة وأن جالس إلى مكتبي أفتش في المراجع دون أن أقع على طلبتي حتى ضاق صدري، فلم يسر عني ما بي إلا هذا النبأ البهيج! ووثبت من فوري أتلقى البشرى، فلقد والله زادني الخادم غيظاً على غيظي بابتسامته البلهاء التي شفع بها هذا الخبر الأسود كما لو أنه جاء ليبشرني بما تنبسط له نفسي!
ومشيت وأنا أسأل الخادم، أو على الأصح أصيح به محنقاً - فقد خيّلت إليّ أعصابي المكدودة أنه يشمت بي إذ يبتسم أو يظن بي خوفاً - أي محضر؟ ولم أخرج من داري نهاري كله ولا اذكر أني فعلت بالأمس ولا قبل الأمس شيئاً يستوجب المحضر، ولا أنا - ولله الحمد - ذو سيارة أدوس بها أحداً أو أخالف بها نظام مرور، ولست ممن يعودون إلى دورهم بعد منتصف الليل. . . ولا. . . ولا. . .
ومضيت إلى الباب الخارجي فما راعني إلا عُتلٌّ أبرز ما فيه شارباه وأنفه وطول قامته، حتى لقد ذكرني ذلك العملاق بتلك الصور الكاريكاتورية التي ترسمها بعض المجلات لبني جنسه، وأشهد والله بعد رؤيته ما فيها شئ مما كنت أظنه مبالغة!
- ماذا تريد يا شاويش؟ وليصدقني القارئ أني أتأدب حتى في خطاب من يسلمني محضراً
- معي محضر يا أفندي من فضلك وقع عليه بالاستلام!
- لمن هذا المحضر؟
- لا أعرف
- ما موضوعه؟
- لا أعرف
هذه والله - في غير تحريف - إجابة الشاويش الهمام لم أصنع بها شيئاً إلا أني عرّبتها! وحبست ضحكتي تأدباً علم الله وبنفسي أن أقهقه لولا أن لا أحب أن أسيء حتى إلى مثل هذا العتل وقلت: إذا كنت لا تعرف صاحب المحضر ولا موضوع المحضر. . . فلم
اخترت هذا البيت بالذات؟
- قالوا عند المزلقان. . .
ومددت يدي أتناول الورق منه، فدفعه إلي بعد تردد وحذر؛ وألقيت نظرة فإذا هو لفلان في بيته المرقوم بكيت ويقع كذلك عند مزلقان وهو بشأن سيارة لم يعنني أن أعرف موضوعها؛ وتبسمت وقلت للشرطي ليس المحضر لنا، ورحت أصف له موضع البيت المقصود، وأذكر له اسم الشخص المطلوب، وحسبت أنه سوف يحمد لي هذا الإرشاد؛ ولكني نظرت فإذا به يداعب شاربه ويرميني بنظرة اشتركت فيها عيناه وأنفه وغلظه وجهله، وإنه ليبتسم ابتسامة أسمج من هيكله، وكأنما يريد أن يذكرني أنه من رجال البوليس، وهل يضحك أحد او يمكر رجال البوليس ثم قال: وقع على الورق يا أفندم. . . ما فيش لزوم للزوغان!
ورأيت أني أكون أجهل منه لو ناقشته بعد ذلك، فهممت أن أوقع لمجرد التخلص منه، وليفهمه رؤساؤه بعد ذلك خطأه، ولكني عدت أؤكد له أني لست الشخص المطلوب، وهو ينظر إليّ ويصب عليّ سماجته كلها، حتى ضقت به فقلت لن أوقع، وإذ ذاك تراجع وطلب إليّ أن أدله على البيت المكتوب في الورق. . . فتنفست الصعداء وقلت:
- أتعرف بيت محمد باشا محمود؟
- محمد باشا محمود؟ ومين محمد باشا محمود ده؟ ومين يا أفندم اللي يعرفني بالكلام ده؟!
وجذبته من ذراعه وسرت معه خطوات حتى وقفت به في الشارع المجاور، وهو شارع الفلكي، وقلت له: أنت الآن تتجه (بحري) فأين يدك اليسرى؟ ومد إليّ يده اليسرى في سذاجة، فقلت: تظل ماشياً في هذا الشارع إلى أن تجد بيتاً كبيراً يقف ببابه، ويقع عن شمالك، عسكري مثلك، فاسأله أين البيت المطلوب. . . وانطلق العملاق يتمتم بكلمات ولعله كان يستنزل لعنة الله على من كلفوه ما لا يطيق؛ وعدت إلى مكتبي ومراجعي وأنا أقول لنفسي: هذا وأمثاله هم حفظة الأمن والنظام، وهذا وأمثاله من يستلم المرء محضراً حقاً إذا انتهرهم أو ضاق بهم فدفعهم من طريقه أو من مدخل داره. . . هذا وأمثاله ليسوا بالقليلين هم شرطتنا. . . ألا متى يفه القائمون بالأمر، حفظة الأمن الكبار، حفظهم الله، أن تغيير هذا الصنف كله بات من أوجب الواجبات؟
الخفيف
تعقيبات
الأصدقاء والأعداء
نشرت الجريدة الرسمية للحكومة البلجيكية قانون جمعية تألفت أخيراً باسم (جمعية الصداقة المصرية البلجيكية)، وقالت إن غرض هذه الجمعية (توثيق الروابط الثقافية والاقتصادية بين مصر وبلجيكا)، وذكرت أن من أعضائها (أحمد صديق باشا، وعزيز أباظة باشا، والمسيو هنري أردن مدير شركة ترم القاهرة، وحضرة سكرتير المفوضية المصرية ببروكسل). . . إلى آخر من ذكرت من ذلك الخليط. .
ومنذ أيام قليلة كانت لنا قضية أمام مجلس الأمن، هي قضية الحياة والحرية والكرامة، ووقفنا في المجال الدولي نتبين العدو من الصديق ونفتش عن أولئك الذين عاشوا طول الزمن يغترفون من فيض الكرم المصري ويقتاتون بدم الشعب الطيب الوديع، فهالنا أن نرى (بلجيكا) في صف الأعداء، تأبى علينا الحياة والحرية والكرامة، وتعلن على مطالبنا حرباً شعواء في غير خجل ولا حياء، وهي التي تكسب من مال مصر كل عام ما يقدر بنصف دخلها أو يزيد.
في الشدة عرفنا العدو من الصديق، وأصبح من الواضح أين نتوجه بعواطفنا وإلى من نبذل صاقتنا، وبالأمس حمدنا لأديب المصري أن ألقى بوسام فرنسي من صدره إنكاراً لدولة أنكرت علينا حقوقنا، ولكن يظهر أن عندنا جماعة من محترفي (الصداقات) وهم في هذا السبيل لا يبالون مصريتهم ولا يراعون عواطف الشعب الذي ينحدرون منه وينتسبون إليه!
يقول الفلاحون عندنا في أمثالهم: (ليس بعد حرق الزرع جيرة)، فماذا يكون بينا وبين بلجيكا من الروابط بعد الذي كان من وقف تلك الدولة تجاه قضيتنا، وتجاه حريتنا، وبعد أن كفرت بافضال مصر واستخفت بكرم المصريين وكرامتهم؟؟
كلا أيها السادة، إن الكرامة المصرية أصبحت لا تحتمل هذا التهافت ولا تطيق تلك (الصداقات الرخيصة) التي تجلب لأصحابها ما تجلب من (الأسهم والسندات) ولكن على حساب الأمة المسكينة والشعب المنكوب!!
لا زاريت. . والأزهر:
اذكرني الكلام الذي يجري الآن عن الحجر الصحي ووقاية البلاد من الأمراض الوافدة بكلمة لها صلة بهذا الموضوع.
ذلك أن جمهورية (فينسيا) كانت أول دولة أقامت محجراً صحياً ببلادها عام 1403م وأسمته (لازاريت)، ثم كان أن أخذت الدول الأوربية عنها هذا النظام.
ولما هجمت (الكوليرا) على مصر عام 1831م كان الوالي على مصر محمد علي باشا، فأمر ذلك المصلح الكبير بإدخال نظام (الكورنتينة) في مصر، فجمع قناصل الدول وألف من بينهم لجنة لوضع النظام الخاص بهذا الغرض، وفي عام 1832م بني أول محجر صحي في الشاطبي بالإسكندرية، وعرف هذا المكان باسم (مزريطة) أو (الأظاريطة) نسبة إلى كلمة (لازاريت) التي أطلقت على أول محجر صحي أنشأته جمهورية (فينسيا). .
ويقول (لاروس) في معجمه الكبير - مادة لازاريت - (إن بعض الإفرنج يرون أن كلمة لازاريت مأخوذة من كلمة الأزهرية لأن الأزهر في مصر ملجأ للعميان والشيوخ المتقاعدين)
ولست أدري هل هذا هو مبلغ العلم عند هؤلاء الإفرنج، أم هي روح التعصب والشنآن لا تفارقهم حتى في التحقيق العلمي، فإن كلمة (لازاريت) معروفة الأصل واضحة النسب، فهي كلمة لاتينية معناها (المجذوم)، وقد كانت الدولة الرومانية تبالغ كثيراً في الحجر على المجذومين، وكان عقاب المجذوم الذي يخرج من نطاق الحجر هو القتل السريع، وكان أن أطلقت هذه الكلمة على نظام الحجر الصحي الذي أخذت به الأمم فيما بعد. .
علي مبارك باشا:
أشار الدكتور زكي مبارك في مقال له بالبلاغ إشارة عابرة إلى علي مبارك باشا فقال: (والحقيقة أن علي مبارك باشا من مديرية الشرقية. . . وقد كان عظيماً، والذي يعرف تاريخه هو الدكتور إبراهيم سلامة، فقد نال بالحديث عن مذاهبه التعليمية إجازة الدكتوراه من باريس. . .).
وأنا رجل شرقاوي، وكان يهمني أن يكون ذلك الرجل العظيم من مفاخر إقليمي، ولكن الحقيقة أنه من الدقهلية، وقد قرر هو هذه الحقيقة في الترجمة التي كتبها لنفسه في الخطط
التوفيقية فقال: (إن قرية برنبال الجديدة هي مسقط رأسي، وبها نشأت، وكانت ولادتي سنة 1239هـ كما أخبرني بذلك أبي وأخي الأكبر، وأصل جدنا الأعلى من ناحية الكوم والخليج وهي قرية على بحر طناح. .) ومن المعروف أن قرية برنبال الجديدة تقع على البحر الصغير تجاه كفر علام بمديرية الدقهلية. .
ومما يذكر بهذه المناسبة أن علي باشا مبارك فر من قريته وهو صغير فأصيب بالكوليرا وسقط في الطريق، وكانت فاشية في مصر يومذاك، فحمله أحد الفلاحين إلى منزله وتولى علاجه والعناية به، وقد كتب الله له السلامة من ذلك الوباء اللعين. . .
وهناك مسألة يجب أن يتدبرها الذين يكتبون عن علي مبارك باشا، ويدرسون آثاره ويحكمون عليها، وهي أنه رحمه الله كان يصنع في مؤلفاته صنيع السيوطي من قبل، فكان يعتمد إلى حد بعيد على تلاميذه ومريديه وأصدقائه في وزارة المعارف، ويقولون إن للمغفور له عبد الله فكري باشا جهداً في (الخطط التوفيقية)، وقد استطاع علي مبارك باشا بهذه الطريقة أن يؤلف كثيراً حتى في الموضوعات التي لم تكن لها صلة بثقافته، وإن الكشف عن هذه الحقيقة ليجعلنا نتدبر كثيراً في الحكم على مؤلفات ذلك الرجل العظيم وما خلف من آراء وآثار.
هذه كلمة عابرة في الرد على إشارة عابرة ولعل الوقت يسمح لي بالكتابة عن ذلك الرجل فقد جمعت عنه من المعلومات الشيء الكثير. . .
إمارة الشعر:
لمناسبة ذكرى المغفور له شوقي بك عاد إخواننا الصحفيون يتحدثون عن إمارة الشعر، وفتحت مجلة (الهلال) في عددها الأخير باب الاستفتاء لقرائها فيمن هو أجدر بلقب الأمارة الآن؟
وكأني بإخواننا هؤلاء يحسبون أن إمارة الشعر يمكن أن تفتعل افتعالاً وتقترح اقتراحاً وأنه لابد للشعراء من أمير كما للصحفيين نقيب وللمحامين عميد وللعمال (كومانده) وللتجار (سرتجار). . .
وكأني بإخواننا هؤلاء يحسبون أن شوقي صار أميراً للشعراء لأن فريقاً من أدباء العربية احتفلوا به لهذا الغرض، ولأن حافظاً بايعه بالأمارة في ذلك الحفل، ولأن الصحف أخذت
تخلع عليه هذا اللقب في كل مناسبة. . .
كلا أيها الإخوان، إن شعر الشاعر وحده هو الذي ضمن له الأمارة، ويضمن له الخلود على الزمن وهو مرتبة أكبر من كل إمارة وما هو فرق الأمارة. . .
لقد كانت بدعة اقتضتها ظروف الحياة السياسية والاجتماعية في مصر منذ نصف قرن، فقد كان المصريون يرون الأتراك قد استأثروا دونهم بالألقاب الفخيمة والرتب العالية، فكان من مطالبهم أن يكون لهم نصيبهم من هذا، وكانت في نفوسهم لهفة على أن تكون أسماؤهم مقرونة بالألقاب والنعوت الكبيرة، وكان لهذه اللهفة صداها في دولة الأدب، ولما كان شوقي شاعر القصر في تلك الأيام فقد درجت الصحف يوم ذاك على تلقيبه بشاعر الأمير، ولما كان حافظ في الجهة المقابلة له فقد لقبوه بشاعر النيل، وهكذا شاعت الألقاب بين الشعراء والكتاب، فلقبوا الخليل بشاعر القطرين، وإسماعيل صبري بأستاذ الشعراء أو بشيخ الشعراء، وعبد المطلب بشاعر العروبة والبداوة، وولي الدين يكن بأمير الشعر والنثر، وجاء صديقنا الأستاذ أحمد رامي في عقاب ذلك ففاز من التركة (بشاعر الشباب) وهي الرتبة التي لا يزال يحملها إلى اليوم. . . وكان المرحوم الشاعر أحمد نسيم لا يجد من يخلع عليه اللقب المناسب فكان يرسل بقصائده إلى الصحف بعد أن يكتب لها مقدمة ثناء طويلة يخلع فيها على نفسه ما شاء من ألقاب، أقلها شاعر الوطن. . . ولما مات شوقي وحافظ وقف يقول:
ولو شئت كانت لي زعامة شعرهم
…
وكنت لمن يأثم خير إمام
شوارد تزري بالحطيئة هاجياً
…
وتعيي جريراً في مديح هشام
ولكن عهد حطيئة وجرير كان قد انقضى. . .
وكانت في نفس شوقي رحمه الله لهفة إلى نيل رتبة الباشوية، كما كان المتنبي يتلهف على الفوز بالولاية، ولكن الظروف لم تسعفه، فقد أبعد الخديوي عن مصر، وأبعد شوقي نفسه عن مصر، وتبدلت الأحوال والأوضاع، وخبأ أمله في تلك الرتبة، فأراد أن يعوض هذا على نفسه برتبة الأمارة في الشعر، فكانت الصحف التي تنطق باسمه تخلع عليه هذا اللقب دائماً، ثم كانت حفلة المبايعة المعروفة، وكان شوقي شاعراً كبيراً حقاً فضمن لنفسه هذه الأمارة، وضمن لنفسه الخلود وهو أكبر وأعظم من كل أمارة. . .
أمارة الشعر بدعة انتهت بانتهاء ظروفها. . . وليست هذه البدعة بالشيء المعروف في الأمم الأخرى. . . ولم يكن هذا بالأمر المألوف بين شعراء العربية من قبل. . فلم يبايع أحد البحتري بأمارة الشعر، ولم تقم له حفلة لذلك، ولكنه كما يقولون أخمل بشعره سبعين شاعراً في عصره فلم يذكرهم ذاكراً. .
(الجاحظ)
الأدب والفن في أسبوع
أدب القوة:
سأل مندوب (المسامرات) الدكتور عبد الوهاب عزام بك عما ينصح به الشباب في ميدان الأدب لمواجهة نهضة مصر الحديثة، فأجابه:
(أدعو الشباب إلى أدب القوة، والقوة النفسية التي تسمو بالإنسان عن الدنايا وتدعو إلى الإقدام فيمضي في هذه الحياة مجاهداً يشق طريقه إلى غايته، يذلل الصعاب ويقتحم العقبات. وأدعوهم إلى أدب النجدة والمواساة والإيثار الذي يحدوهم إلى العمل للجماعة وتأدية الواجب، والاغتباط بفعل الخير دون ابتغاء منفعة أو جاه أو سمعة.
وأحذرهم من الأدب الضعيف الداعر الذي يسف بالنفس إلى الدنايا، ويقعدها عن الجهاد، ويخيفها من كل مشقة ويجنح بها إلى الدعة والعكوف على اللذة والإخلاد إلى البطالة والتسكع)
وهذا الذي أجاب به الدكتور عبد الوهاب عزام، برنامج للأدب المنشود، موجز في كلماته، ولكنه واف في مراميه؛ فهو يدعو إلى أدب القوة في هذا الوقت الذي اقتنع الجميع فيه بضرورة القوة للحصول على الحياة الحرة الكريمة، وقد زأرت آساد العرب وتحركت نحو هذه الحياة في الطريق إلى فلسطين، ولاشك أن الخيول العربية الآن في جميع أقطار العروبة تعلك اللجم ويتحفز فرسانها للوثوب، وغايتهم القضاء على الدخلاء في جميع البلاد العربية بادئين بالصهيونيين. . .
وهنا أتخذ سمة الباحث في الأدب من حيث تفاعله مع الأحداث وروح العصر، فأقول أن الأدب لابد أن يستمد من هذه الروح ويدفع تلك الحركات، لأن وجان الأمة العربية يزخر بمشاعر القوة والنجدة، ووظيفة الأدب الأساسية أن يعبر عن الشعور ويستملي الوجدان.
ثم اتخذ سمة الباحث في الاجتماع فأقول إن الأمة تتكون من الأفراد، فلكي تكون قوية يلزم أن يكون أفرادها أقوياء؛ وقوة النفس هي أصل القوى، لأنها، كما قال الدكتور عزام، تسمو بالإنسان عن الدنايا وتدعو إلى الإقدام واقتحام العقبات، وتدعو إلى النجدة والإيثار والعمل للجماعة. والأدب يتفاعل مع كل هذا، فيتأثر به ويؤثر فيه، وبذلك يكون أدباً صادقاً.
والشباب مناط الآمال وذوو الأحاسيس المتوثبة والمشاعر الملتهبة، فلا يصح أن تستنفد
قواهم العواطف الخائرة، فلا تبقى بها أثار للقدرة على الكفاح للجماعة أو حتى للذات، فيدفع هذا الضعف إلى الدعة والكسل أو محاولة الوصول عن طرق هينة وإن كانت غير لائقة.
النشيد القومي للعرب:
وبعد فهذه الجيوش العربية تزحف إلى فلسطين، والآمال تسايرها، والقلوب تخفق لها، وإنك لتلمح بين سطور أنبائها في الصحف أبياتاً من الشعر يهتز لها فؤادك، وإن كانت لا تزال شاردة لم يقيدها وزن ولا قافية.
فمن لهذا الشعر ينظمه نشيداً للوطن العربي العام؟ نشيداً واحداً يتغنى به أولئك الأبطال الزاحفون في سيناء وفي صحراء العرب وبادية الشام وربى لبنان، وينشده الناشئون في معاهدهم وملاعبهم، ليقوي (عضلات) نفوسهم، وينفي عنها (الترهل)
فهيا فحول الشعر، ضعوا لنا ذلك النشيد.
ذكرى شوقي في نادي الخريجين:
أكتب هذا يوم الثلاثاء الرابع عشر من شهر أكتوبر، وهو اليوم الذي نعى في مثله الشاعر الخالد أحمد شوقي بك، وكانت الليلة الماضية ليلة ذكرى، لا في (الأوبرج) فقد أعلن أن حفلته أجلت إلى أجل غير مسمى نظراً للظروف الصحية الحاضرة! بل كانت الذكرى في شقة بالعمارة رقم 28 بشارع شريف باشا، حيث نادى الخريجين المصري.
وكان حفلاً صغيراً أقامه النادي في خجل من عدم استطاعته التوسع في البرنامج، ولكن تفرد هذا الحفل بمصر في ليلة ذكرى شوقي أمير شعرائها، وشعور هؤلاء الشبان الذين أقاموه بضآلة مجهودهم في هذا المقام الجليل، كل هذا يجعل لهذا الحفل معنى جليلاً هو معنى الوفاء الذي لا يغض منه جهد المقل
بدأت الحفل بكلمة للأستاذ مصطفى حبيب تحدث فيها عن ذكرى شوقي من حيث أثرها في النفوس، ومن حيث مكانة صاحبها الأدبية والوطنية، وتيمن لافتتاح الموسم الثقافي في النادي بهذه الذكرى. وتلاه الأستاذ محمد فتحي بك فقرأ من شعر شوقي قصيدة (يا نائح الطلح أشباه عوادينا) التي قالها وهو بالأندلس في الحنين إلى مصر، وقد ذكرتني قراءة
فتحي بك بما يقولون من ان أحد العمال بمطبعة الأهرام غيّر مرة في برنامج الإذاعة كلمة (يقرؤها فتحي بك) فجعلها (يغردها) ولم أكن أصدق هذا وكنت أرجح أن (يغردها) في أصل البرنامج، ولكني اقتنعت أمس بأنها فعلة ذلك العامل لأني وجدت فتحي بك لا يغرد وإنما يقرأ كما يقرأ الطالب في كتاب المطالعة بفارق واحد وهو أن فتحي بك قليل الخطأ في ضبط الكلمات. . ولكن لم اختار (نائح الطلح) وهو الطائر الذي ينوح في وادي الطلح؟ ألأن الطيور على أشكالها تقع؟
أعود من هذا الاستطراد إلى برنامج الحفل. غنى أحد الشبان أغنية (أنا أنطونيو) فأجاب وأطرب، ثم عرض مشهد من مسرحية (كليوباترا) لشوقي، مثله ثلاثة من الخريجين: آنسة وشابان أحدهما السيد حسن ابن المرحوم السيد مصطفى لطفي المنفلوطي، وقد أحسنوا أداء أدوارهم، وبرعت الآنسة وهي تمثل مناجاة كليوباترا لنفسها في المعبد بعد هزيمة جيوشها، إذ كانت تؤدي الشعر بنبرات تمثل معانيه أحسن تمثيل. وقد ألقى أحد الشبان قصيدة تدل على أنه مبتدئ في معالجة القريض، ولكن كان لابد منها لتنويع هذا يقتضي كلمة دراسية في شوقي وشعره، ولكن النادي لخريجي قسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب. وما يعرفونه عن شوقي قليل جداً بالنسبة لما يعرفونه عن شكسبير مثلاً!!!
ولا تذهب في هذا العجب. . . فقد قلت إنه جهد الوفاء ذو المعنى الكبير وإن كان قليلاً. وأكثر الله خيرهم على كل حال. . .
سجع الزعماء:
قرأت في مجلة (المصور) للكاتب الفكه الذي يطلق على نفسه (الملحوس) ما يلي: (من أضحك الأشياء ادعاها إلى السخرية في هذا البلد ذلك الأسلوب (المسخرة) الذي تحرر به الأحزاب والزعماء والقادة ببياناتهم الكبرى الخطيرة للشعب وللأمة. . . ذلك السجع الممقوت الكريه الثقيل الذي يملأ أعمدة وصفحات كاملة بأسرها في الجرائد!).
ومفهوم أن النثر العصري من كتابة وخطابة قد تحرر من السجع أو من التزامه، فقد يأتي بعض الكتاب بشيء منه لاقتضاء حال من تهكم أو دعابة وقد يجري به القلم لاتساق لفظ وانسجام جرس. وكل هذا بعيد كل البعد عن ما كان في العصور المتأخرة من التكلف الممقوت.
ولكن في السنوات الأخيرة جنح بعض الزعماء السياسيين إلى السجع وطول النفس فيه في خطبهم وكتاباتهم؛ ويبدو لي أن ذلك يرجع إلى ما يريدون أن يظهروا به من القدرة البيانية وما يرمون إليه من التأثير في نفوس الجماهير. . والحق أن كثيراً من هذا السجع محكم مجوَّد، ولكنه على أي حال ترقيش وتزويق في الكلام، يساير التهريج في السياسة، بل هو من أدواته. . والعمل الصالح كالجمال الطبيعي لا يحتاج إلى الأصباغ والأدهان!
أو كما قال (الملحوس) إن هذا السجع (موضة) بطلت، كما بطلت تلك الزعامات، وصار روح العصر شيئاً آخر. .
التعليم الجامعي والأدب:
كان موضوع المناقشة في (ندوة الهلال) هذا الشهر: (هل أخفق التعليم الجامعي؟) وانتهت المناقشة إلى (أن جامعتنا استطاعت أن تخرج فنيين ممتازين في مختلف ميادين الحياة. كما نجحت في تزويد المجتمع بخريجات كان لهن أثر كبير في تطور النهضة النسائية، ولكنها أخفقت في خلق الروح الجامعية في نفوس الطلبة، وأهملت في تربية نزعة الاستقلال في التفكير وحب الكشف والابتكار في خريجيها. ولم تعن بالنواحي الرياضية وتحبيب الطلبة في الدراسة الجامعية).
وقد لمست المناقش الناحية الأدبية لمساً خفيفاً، وذلك أن الأستاذ شفيق غربال بك لما سئل: هل أضافت الجامعة جديداً إلى الإنتاج العلمي والأدبي؟ أجاب: (إن الجامعة لا زالت في المهد بالنسبة لغيرها من الجامعات الأجنبية، ولكني أعتقد أن هناك تجديداً وإضافات في النواحي الأدبية، وأظن أن الكرداني بك يوافقني على هذا أيضاً في الناحية العلمية) فرد الكرداني بك (هل تعني أن الجامعة خرجت علماء لهم في ميادين الاكتشافات والاختراعات جولات؟) فقال شفيق بك: (لا. . إنني أقصد أن الجامعة خرجت (فنيين) ممتازين في كل الميادين. ولكنني لم أتكلم عن (العلماء).
ولا أدري أيقصد شفيق بك بهذا التفسير الناحيتين العلمية والأدبية، أم يخص به الناحية العلمية؟ على أن الخلاصة التي انتهى إليها النقاش تعمم هذا الحكم كما رأيت.
والذي نراه أن الجامعة - بعد الطبقة التي خرجتها الجامعة القديمة والتي رأسها الدكتور طه حسين - لم تخرج مبتكرين في الأدب، ولم ينتظم سلك إعلام الأدباء أحد خريجيها بعد،
وإن كان بين هؤلاء الخريجين أدباء يدخلون في (فنيين ممتازين).
القصة المصرية:
وجهت مجلة (المسامرات) إلى (لفيف من أعلام الفكر والرأي) السؤال التالي: هل نجحت القصة المصرية في تثقيف الشعب؟ فأجاب معظمهم بإثبات نجاحها، قال الأستاذ العقاد: والقصة المصرية على وجه العموم قد نجحت نجاحاً ملموساً وشقت طريقها إلى الجودة والكمال في كثير من الاتجاهات وإن كان هناك بعض الاتجاهات التي لم تقتحمها بعد، وكلي أمل في أن تصل قريباً إلى القمة مؤدية رسالتها على خير الوجوه) وقال الأستاذ المازني:(لقد نجحت نجاحاً كبيراً والدليل على ذلك كثرة الإقبال عليها وكثرة ما ينشر منها) وقال الأستاذ بيرم التونسي: (إن معظم القصص المصرية التي ظهرت حتى الآن في غاية الإتقان مما يبشر بمستقبل حسن للقصة المصرية) وقال الدكتور زكي مبارك: (لقد نجحت القصة المصرية بكل تأكيد لأنها فتحت آفاقاً من الخيال، وراضت الجمهور المصري على الذوق الفني، وأعطت المصريين فرصة للرحلات الفنية إلى الشرق، وخلقت أبواباً من الثروة الفكرية والعقلية عند فريق من الجماهير)
وخالفهم العشماوي باشا فقال: (لا توجد عندنا قصة مصرية بالمعنى المفهوم لتثقيف الشعب) وقال: (لقد لقيت الأمرين عندما كنت وزيراً للمعارف، إذ احتجنا إلى قصص مصرية قوية لتمثيلها في المدارس إو توزيعها على التلاميذ فكنت أكثر من عمل المسابقات لعلها تغري على الاهتمام بهذا النوع من التأليف. ولكن لم يكن يصلنا في كل مسابقة إلا القصص التافهة البعيدة كل البعد عن الواقع).
وأقول إن ما نراه من القصص الضعيفة أو المنتوشة من القصص الغربية، لا ينبغي أن تطغى النظرة إليه على النتاج القصصي القيم الذي يدل على تقدم فن القصة عندنا في العصر الحديث تقدماً تلمسه فيما نشر من القصص في الصحف والمجلات والكتب الخاصة، ولقد قامت (الرواية) التي أدغمت في (الرسالة) بمجهود كبير في هذا السبيل، والرجوع إلى مجموعاتها يقفك أو يذكرك بذلك المجهود، وإنك لترى فيها إلى جانب المترجمات قصصاً مصرية تعد من ثروتنا في هذا الفن الحديث، كيوميات نائب في الأرياف التي كان يكتبها بالرواية تباعاً الأستاذ توفيق الحكيم والتي جمعها بعد ذلك في
كتاب.
أما ما ذكره سعادة العشماوي باشا من أنه لم تقدم إلى المسابقة وزارة المعارف إلا القصص التافهة البعيدة كل البعد عن الواقع، فمرجعه أن كتاب القصة الناضجين يتجنبون النزول إلى مثل هذا التسابق، إما استكباراً، أو لأنهم يتوسمون أن فنهم الطليق لا يرضي الهيئات التعليمية التي تتوخى الوقار والتزمت فيما يقدم إلى الطلاب، ومنهم من يسيء الظن بالمحكمين، على أن وزارة المعارف اتجهت أخيراً إلى الاختيار مما في السوق في مثل هذا بدلاً من تلك المسابقات.
(العباسي)
البريد الأدبي
1 -
بيان:
قد يكره الكاتب رجلاً، فيستغل المناسبات لهجوه والتسميع به، وقد ينكر الكاتب رأياً فيكتب في رده، وينال بالضرورة من صاحبه، أي إن من النقد ما يراد به هجاء شخص بعينه، ومنه ما يراد به رفع فرية في العلم ورد أذى عن الناس. وأنا ما كتبت الذي كتبته لأنال من الشيخ أمين الخولي (الأستاذ في كلية الآداب) وما بيني وبينه صلة ولا معرفة ولم أر وجهه إلا مرة واحدة منذ أسبوع، فلا يقل أن يكون قصدي تحقيره هو بالذات أو ذمه والقدح به، فإذا فهم أحد من الذي كتبته أنني أرمي إلى هذا فأرجو أن يصحح فهمه، وأن يعلم أني لا أبخس عالماً قدره ولا أجحد فاضلاً فضله.
ولكن قصدي مما كتبت الدفاع عن الدين والعلم وقد وقفت على هذا قلمي ولساني، وإن كان في الدنيا من يخطر على باله أنه يستطيع أن يكفني عنه، أو يمنعني منه بشكوى أو دعوى أو بترغيب أو ترهيب أو بافتراء أو ببذاء، فإنه يمني نفسه المحال.
2 -
تعليق:
أصاب أستاذنا (السهمي) بقوله في مقالة (فعلاء)، (هؤلاء جلهم أئمة) ولم يقل، كلهم. وفيهم ابن طولون (محمد بن علي) الدمشقي الصالحاني، وهو مؤرخ دمشق في القرن العاشر الهجري وله المصنفات القيمة وله تاريخ الصالحية المخطوط في المكتبة الظاهرية في دمشق، ولكنه (كما يبدو من أسلوبه) عامي العبارة، ركيك الأسلوب، ليس من البلاغة في شئ، ولا استئناس في كلامه بله أن يحتج في اللغة به، أو يشار إليه
ولعل الأستاذ السهمي ظن القراء كلهم من (بني سهم)، وحسبهم يجارونه في العلم، ويماشونه في الفهم، فأشار إشارة العالم ولم يشرح شرح المعلم، حين قال:
(وكما أملي الخليل على خريجه أو بصر، فقيد (أبو بشر) ذلك بالكتاب في (الكتاب). . . قال (عمرو). . .) وهل في القراء من يعرف أن اسم سيبويه عمرو بن عثمان ابن قنبر، وأن كنيته أبو بشر أو أبو الحسن، وأن كتابه هو المقصود أن أطلق (الكتاب) وأنه معقود بلفظ الخليل وإملائه، أو بدلالته وإرشاده.
ودعوى الأستاذ (في فعلاء) صحيحة، وإن لم يجيء عليها (في مقالته) بالبنية الشرعية
علي الطنطاوي
خبر:
جاءنا بيان طويل خلاصته: أن الاتحاد العام للهيئات الإسلامية
(وفيه جماعة الإخوان المسلمين، وجبهة علماء الأزهر،
وجمعية الشبان المسلمين، وشباب محمد، وأنصار السنة،
والجمعية الشرعية، وجمعية مكارم الأخلاق وغيرها). قرر
مجلسه الأعلى في اجتماعه في 11101947 في دار جمعية
الشبان المسلمين. ما نصه:
(رفع التماس إلى حضرة صاحب الجلالة الملك، ودولة رئيس الوزراء، وزير المعارف، ومدير الجامعة، وكلية الآداب، ومشيخة الأزهر رجاء إجراء تحقيق عاجل مع المدعو محمد خلف الله المعيد بكلية الآداب وأستاذه أمين الخولي عما نسب إليهما من الطعن في القرآن في الرسالة المقدمة من الأول وتأييد الثاني له فيها وتقديمهما إلى المحاكمة إن صحت التهمة)
ورفع الكتاب وفدهم ورفع الكتاب وفدهم إلى السدّة الملكية والمراجع المسؤولة، ورفع علماء الأزهر كتاباً مثله
خشية الالتباس:
إن محمد أفندي أحمد خلف الله المعيد بكلية آداب القاهرة وصاحب بحث (الفن القصصي في القرآن) الذي تناولته (الرسالة) بالنقد والتنفيذ شخص آخر غير محمد خلف الله أحمد أستاذ الأدب العربي بجامعة فاروق الأول بالإسكندرية، وخريج دار العلوم وجامعة لندن، وصاحب الكتب والبحوث المعروفة في الدراسات النفسية والأدبية والنقدية!
إن هذا التشابه في الاسمين قد اضطرني أن أنبه إليه مراراً في الصحف اليومية في
مناسبات سابقة، ولكنه في الموقف الحاضر يوشك أن يشوه بعض ما يعرف القراء عني من التزام لجادة الحق والعلم والدين في كتبي ومقالاتي
محمد خلف الله أحمد
رئيس قسم اللغة العربية بكلية الآداب بجامعة الإسكندرية
تكذيب خبر:
جاء في كتاب (المستشرقون) لنجيب العقيقي في طبعته الثانية (ص89) أن المستشرق ا. ج. أبري (عاون في كتاب داود شلبي في الطبخ الذي كتب سنة 625 هجرية). إن هذا الخبر مغلوط من عدة جهات. فإن اسم الكتاب المذكور هو كتاب الطبيخ لا الطبخ، وليس من تأليفي، ولم يكتب سنة 625هـ، إنما هو تأليف محمد بن الحسن بن محمد بن الكريم الكاتب البغدادي ألفه قبل استيلاء هولاكو على بغداد بـ33 سنة أي سنة 623 بحث فيه عن الأطعمة التي كانت مستعملة ببغداد. وجدت نسخته الخطية في خزانة كتب أيا صوفيا باستنبول وكان فيها أغلاط فصححتها وعلقت عليها حواشي ونشرتها سنة 353هـ=سنة 1934م بالموصل. ولم يعنّي في تصحيحها أحد قط. واسم المستشرق المذكور هو أربري وليس أبري. ولم أكن أسمع به إلا بعد طبع كتابي بثلاث سنوات إذ تلقيت منه كتاباً يطلب فيه مني إذناً بترجمة الكتاب إلى الإنكليزية وكتابه محفوظ عندي (وهو مؤرخ بـ18 - 11 - 1937 وصادر من المكتب الهندي بلندن).
فعسى أن يصحح العقيقي كل هذه الأغلاط إذا تيسر له طبع كتابه طبعة ثالثة إن شاء الله.
(الموصل)
دكتور داود الجلبي
بوابة المتولي:
قرأت في ما نشر بالعدد 742 من الرسالة الزاهرة، تعليقاً على مقال بمجلة مسامرات الجيب عن بوابة المتولي، وتعقيباً عليه أقول إن هذه البوابة شيدها (بدر الجمالي) مكان بوابتين، شيدتهما إحدى قبائل البربر، وهي قبيلة زويلة، وهذا سر شهرة البوابة باسم (باب
زويلة).
أما سبب تسميتها (بوابة المتولي) فلأن متولي حسبة القاهرة كان مقره عند مدخل هذه البوابة.
القاهرة
عيسى متولي
عدد سكان العالم ومذاهبهم:
يستفاد من إحصاء قام به (مكتب الأنباء الكاثوليكية) أن سكان العالم يقدرون الآن بمليارين ومائة واثنين وعشرين مليوناً، وهم موزعون على الوجه التالي: 399 مليوناً من الكاثوليك و393 مليوناً من الكونفوشيين و296 مليوناً من المسلمين و000ر460ر252 من الهندوكيين و000ر200ر211 من البروتستانت و000ر805ر161 من الأرثوذكس و000ر828ر115 من الروحانيين و000ر891ر16 من اليهود
تصحيح:
جاء في قصيدة (رنين الذكرى) المنشورة في العدد 424 في بيت:
ذكرتك حيث النيل غضبان ثائر
…
يجيش بآداب ويطغى بآمال
والصواب. (آراء) بالراء.
جاء في افتتاحية العدد 744 من الرسالة:
(وأقبلت الجيرة على العزاء فيه) والصواب: للعزاء فيه
وجاء في الصفحة نفسها: (ولها كل بيت بصغيره عن كبيره) والصواب: ولهي كل بيت الخ فإن الفعل لهي بالياء معناه سلا وأضرب والفعل لها بالألف معناه لعب. وقد نبه إلى هذا التطبيع الأديب محمد أبو سريع حسين بمعهد القاهرة فله الشكر
نشر في هذا العدد في ص1149 مقال (الجيل الملهم)، وصوبه كما هو واضح:(الجبل الملهم)
القصص
أسطورة من الصين:
ملك الموت!
للكاتب الإنكليزي فيليب بنيث
بقلم الأديب يوسف يعقوب حداد
كان يعيش في مدينة (جيستيان) من أعمال الصين، رجل يدعى (يوآن - كوانلو) وكان (يوآن) هذا رجلاً فقيراً معدماً، وكان فقره يحول بينه وبين الزواج من امرأة تقاسمه حلو الحياة ومرها. . .
وشاءت الظروف أن يعرف ابنة جار له، وأن يحبها وتحبه، وكان والدها من أثرياء البلدة ووجهائها فلم يكد يعرف ما بين ابنته وبين الفقير من حب وهيام، حتى ثار وغضب، ومنع ابنته عن الاتصال بحبيبها. فقالت الفتاة إنه لا يريدها على حرام، إنما يريد الزواج منها على سنة الله، فلم يزدد الأب إلا غضباً وثورة، إذ لم يكن يرغب في أن يزوج ابنته من رجل فقير ينغص حياتها ويشقيها، ومن كأس البؤس والحرمان يسقيها.
وصدمت الفتاة في حبها صدمة عنيفة، وطُعن قلبها الرقيق طعنة قاتلة، فأصابها السقام، ولم تلبث طويلاً حتى قضت نحبها.
ولم يكن حبيبها بأقل تأثراً منها بالصدمة، ولكنه كان أكثر احتمالاً لها، فظل هائماً على وجهه، مضطرب المشاعر، شارد اللب، شاخص البصر إلى الأفق كأنه ينتظر أن تعود حبيبته إليه!
وفي ساعة متأخرة من بعض الليالي، كان (يوآن) خارج منزله، ينظر بعينين حالمتين إلى بدر التم كأنما يسأله عن حبيبته، وطالت وقفته حتى كلت عيناه من النظر إلى القمر، وتعبت ساقاه من كثرة الوقوف، فدار على عقبيه ليعود إلى منزله. وبينما هو يدور في منعطف الطريق، رأى رجلاً غريب المنظر، عجيب المظهر يحمل في إحدى يديه منجلاً حاد الشفرة، وفي الأخرى قنينة محكمة السداد، ولأول وهلة عرف فيه يوآن ملك الموت الذي يقبض الأرواح ويحصدها بمنجله. فارتاع قلبه وارتعدت فرائصه، ولكنه تمالك وتقدم
من ملك الموت، وقال له بلهجة الصديق والودود:
- أظنك يا صاحب السعادة قد تأخرت في العمل وتعبت، والليلة باردة جداً، وبيتي على خطوات من هنا، فهلا جئت معي إليه؛ لتشرب شراباً ساخناً يعيد الدفء إليك؟
فنظر ملك الموت إلى (يوآن) بعينيه الغائرتين نظرة فاحصة ثم سار معه إلى بيته دون أن ينبس ببنت شفة.
وسخن يوآن شيئاً من الخمر، وقدمها إليه، فجرعها ملك الموت في دفعة واحدة، وطلب المزيد، تقدم إليه يوآن كأساً أخرى فشربها دفعة واحدة أيضاً، وهكذا ظل يطلب المزيد، ويوآن لا يستطيع أن يخالف له أمراً، أويرفض له طلباً، حتى ثمل، وأثقل السكر جفنيه، فانطرح على الأرض وغرق في سبات عميق
فقام (يوآن) بعد أن تأكد من استغراق ملك الموت في النوم إلى القنينة، وعالج سدادها حتى تمكن من فتحه، وكم كانت دهشته عظيمة وفرحته أعظم، حين خرجت روح حبيبته منها!
قالت له روح حبيبته: كبله يا حبيبي بالقيود حتى لا يتمكن منا ويحصد روحينا مرة أخرى.
فأسرع يوآن إلى ملك الموت بالسلاسل حتى شله عن كل حركة، وأسرعا بالفرار.
وظل العاشقان زمناً يعيشان معاً ويتناجيان، إلا أن يوآن ما كان ليستطيع رؤية حبيبته إلا كما يرى الإنسان ظله على الأرض وما كان ليستطيع أن يضمها إلى صدره إلا كما يضم الإنسان قبضة يده على الهواء. لهذا لم يستطع أن يطفئ جذوة الحب المتقدة بين جوانحه، أو يروي غليله بالضم والعناق.
وفي ذات يوم - قالت له روح حبيبته:
- آه لو ملكت جسداً، فأية سعادة كنت أتمتع بها إلى جانبك وبين ذراعيك. . . آه لو كنت أملك جسداً، لكنا تزوجنا، فأكون لك نعم الزوجة المخلصة، والحبيبة الوفية.
ثم قالت بعد تفكير طويل، والسعادة تملأ نبرات صوتها:
- اسمع يا حبيبي. في المدينة المجاورة بنت جميلة من بنات الأمراء، مطروحة على فراش الموت. إنني أراها الآن وروحها تحشرج في صدرها وأهلها من حولها وقد ملأ الحزن قلوبهم، ستموت هذه الفتاة الجميلة بعد ساعات. فلو استطعت أن تأتيني بجسدها لاستطعنا أن نحقق أحلامنا وأمانينا ونقهر ملك الموت، سنتزوج وسنعيش في غنى وجاه
وسعادة.
أسرع يوآن إلى بيت الفتاة، فوجدها قد ماتت منذ هنيهة. وأهلها لفرط حزنهم عليها يكادون أن يقتلوا أنفسهم، فانتهز يوآن هذه الفرصة، وتقدم من والد الفتاة، وقال له:
- في مقدوري يا سيدي أن أعيد الحياة إلى ابنتك.
فصاح الوالد بدهشة: وكيف تستطيع ذلك؟!
فقال يوآن:
- لا تسألني كيف. . . ولكنك إذا رضيت بالشرط الوحيد الذي أشرطه عليك، رددت الحياة إلى ابنتك.
فقال الأب متلهفاً: قل بالله عليك، ما هو هذا الشرط؟
فقال يوآن:
- هو أن تزوجني منها.
فقال الأب بفرح عظيم: هي لك فأحيها.
عندئذ نادى يوآن روح حبيبته، فجاءت وانسلت إليها من إحدى أذنيها، ففتحت الفتاة عينيها كأنها مستيقظة من النوم لا من الموت.
وزفت إليه في الحال، وانقلب المأتم إلى حفلة عرس بهيجة ويوآن يكاد يطير لشدة فرحه وسعادته بحبيبته وزوجته!
(البصرة - العراق)
يوسف يعقوب حداد