المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 747 - بتاريخ: 27 - 10 - 1947 - مجلة الرسالة - جـ ٧٤٧

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 747

- بتاريخ: 27 - 10 - 1947

ص: -1

‌القرآن والنظريات العلمية

للأستاذ عباس محمود العقاد

(السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد، إن الأستاذ مصطفى صادق الرافعي يرحمه الله، يقول في الطبعة الثانية من كتابه إعجاز القرآن في هامش صفحة 132 تعليقاً على الآية القرآنية: ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين. . .

(فجاءت العبارة في الآية الكريمة كأنها سلالة من علم تتسع لمذهب القائلين بالنشوء، ولمذهب القائلين بالخلق، ولمذهب القائلين بانتقال الحياة إلى هذه الأرض في سلالة من عالم آخر. . .).

فإن كانت نظرية دارون صحيحة فإني أريد أن اعرف رأيكم في الكيفية التي يقبل بها القرآن الكريم أن يكون الإنسان من سلالة القردة، وأرجو أن أقرأ ردكم على صفحات الرسالة الغراء، ولكم جزيل شكري والسلام). (مخلص)

والذي نلاحظه (أولاً) أن رواية مذهب دارون على هذا الوجه غير صحيحة. فإن دارون لا يقول بتسلسل الإنسان من القرد، ولا يلزم من مذهبه أن يكون كل إنسان منحدراً من القردة في أصله القديم.

وكل ما يلزم من مذهبه أن الإنسان والقردة العليا تلتقي في جذر واحد، وأن بين الإنسان والقردة العليا حلقة مفقودة لم توجد إلى الآن.

أما الآية القرآنية فهي لا تثبت المذهب ولاتنفيه، ومن الخطأ البين في اعتقادنا أن نجعل تفسير القرآن تابعاً للنظريات العلمية التي تنقض اليوم ما تثبته بالأمس، والتي يجري عليها الجدل بين المدارس العلمية - أو الفلسفية - على أسس شتى لم يتفق عليها العلماء.

ومن أمثلة ذلك ما ذهب إليه بعض المجتهدين المحدثين في التوفيق بين القرآن الكريم ومبادئ مذهب النشوء والارتقاء.

فالنشوئيون يقولون بتنازع البقاء، وهو مطابق للآية القرآنية:(ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض).

ويقولون ببقاء الأصلح، وهو مطابق للآية القرآنية:(فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض).

ص: 1

ومن المشاهدات التي سجلها النشوئيون ما هو صحيح لا ريب فيه، ولكن المذهب يشتمل على نتائج وتخريجات كما يشتمل على مبادئ ومشاهدات، وكل ما جاء فيه من قبيل النتائج والتخريجات فهو في حكم الفروض التي تحتمل النقض والإثبات، ولا يصح أن نفسر القرآن الكريم وفقاً لها وهي لا تزال في طور التدليل والترجيح.

والنظرية السديمية مثل آخر من هذه الأمثلة في محاولات التوفيق بين القرآن الكريم والفروض العلمية.

فمن علماء الطبيعة - والفلك خاصة - من يرى أن المنظومات الفلكية نشأت كلها من السديم الملتهب. وأن هذا السديم تختلف فيه الحرارة فيشقق، أو ينفصل بعضه عن بعض من أثر التمدد فيه، فتدور الأجرام الصغيرة منه حول الأجرام الكبيرة، وتنشأ المنظومات الشمسية وما شابهها من هذا التشقق وهذا الدوران.

فإذا ببعض المجتهدين المعاصرين يعتبر هذا القول فصل الخطاب في نشأة الأجرام السماوية، ويقول أنه هو المقصود بالآية القرآنية:(أو لم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقاً ففتقتاهما وجعلنا من الماء كل شئٍ حي أفلا يؤمنون).

ولكن النظرية السديمية لم تنته بعد بين علماء الطبيعة إلى قرار متفق عليه.

فهل كان الفضاء كله خلواً من الحرارة، وكانت الحرارة الكونية كلها مركزة في السدم وما إليها؟

ومن أين جاءت الحرارة للسدم دون غيرها من موجودات هذا الفضاء؟ ألا يجوز أن يظهر في المستقبل مذهب يرجع بالحرارة إلى الفضاء في حالة من حالاته؟ أليس خلو الفضاء من الحرارة - إذا صح هذا الخلو - عجباً يحتاج إلى تفسير؟ أليس انحصار الحرارة في السدم دون غيرها أحوج من ذلك إلى التفسير؟

فالقول المأمون في تفسير الآية القرآنية أن السماوات والأرض كانت رتقاً فانفتقت في زمن من الأزمان. إما أن يكون المرجع في ذلك إلى النظرية السديمية فهو المجازفة بالرأي في غير علم وفي غير حيطة وبغير دليل.

واظهر من هذا وذاك جدالهم القديم حول دوران الأرض وثبوتها، أو حول استدارة الأرض وتسطيحها.

ص: 2

فقد تعسف بعضهم في تفسير آي القران الكريم فجزم بكفر القائلين باستدارتها ودورانها، وجعل القول بثبوتها وتسطيحها حكماً قاطعاً من أحكام الدين.

فما قول هؤلاء الآن وقد أصبحت استدارة الأرض مشاهدة من مشاهدات العيان؟

وما قولهم وقد اصبح دورانها مسالة من مسائل الحساب الذي يحصي كل حركة لها كما تحصى حركات كل قطار؟

وهكذا يخطئون في النفي كما يخطئون في الإثبات كلما علقوا آيات القران بهذه النظرية العلمية، أو الفروض الفلسفية التي تختلف الأقوال فيها باختلاف الأزمنة أو اختلاف الأفكار.

وقد تكون محاولات التوفيق مأمونة معقولة كقول الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده رحمه الله في تفسير الطير الأبابيل بجراثيم الأمراض التي تسمى بالميكروبات.

فالميكروبات موجودة لاشك فيها والإصابة بها محققة كذلك في مشاهدات مجربة لا تقبل الجدال. فإذا قال المفسر كما قال الأستاذ الإمام أن هزيمة أصحاب الفيل ربما كانت من فعل هذه الجراثيم

فذلك قول مأمون على الجواز والترجيح، ولكنه غير مأمون على الجزم والتوكيد، لان الحفريات التاريخية قد تكشف لنا غداً عن حجارة من سجيل أصيب بها أصحاب الفيل فجعلتهم كعصف مأكول. ومهما يكن من فروض العلماء في مختلف الأزمنة فان القران الكريم لا يطلب منه أن بتابع هذه الفروض كلما ظهر منها فرض جديد، وكلما يطلب منه أن يفتح باب البحث لمن يؤمنون به فلا يصدهم عن طلب الحقيقة حيثما سنحت لها بادرة مرجوة، وقد توافر ذلك في آيات القران الكريم كما لم يتوافر قط في كتاب ديني تؤمن به الأمم، فليس اكثر من الحث فيه على التفكير والاعتبار وطاب الحقائق من آيات خلق الله في الأرض والسماء:(إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض، ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار).

وحسب المسلم أن يعمل بما علمه كتابه في هذه الآية وما جرى مجراها ليعطي العلم حقه ويطلب الحقيقة من حيث يطلبها الفكر الإنساني في عجائب خلق الله بين الأرض والسماء.

ص: 3

أما مدلول الآية كما أشار إليه الرافعي فهو يتسع - كما قال - لجميع المذاهب في خلق الإنسان. وسواء قطعنا الصلة بين الإنسان وسار الأحياء العليا أو ربطناها فذلك لا ينفي أنه في اصله من سلالة من طين. وقد جاء في القران الكريم (وجعلنا من الماء كل شئ حي) ولم يقل أحد أن خلق الأحياء جميعاً من الماء يمنع تسلسل الإنسان من مادة الطين، فان الأصل لا ينعدم إذا خرجت منه الفروع على التسلسل والتدريج، أو خرجت منه دفعة واحدة بغير تسلسل ولا تدريج. وحذار أن نقف في هذه المسألة كما وقف المجادلون من قبل في مسألة الأرض واستدارتها ودورانها فانهم يدعون لأنفسهم ما لا يجوز لأحد أن يدعيه باسم العلم أو باسم الدين، وفوق كل ذي علم عليم.

عباس محمود العقاد

ص: 4

‌لو أقر المجمع!.

.

للأستاذ علي الطنطاوي

أديت أمس حسابي في المطعم وتهيأت للخروج، فسمعت من ورائي لهجة غريبة. . . فتلفت فرأيت على مائدة قريبة مني عراقي بسدارة، ومعه شامي بعمامة مطرزة، ونادل المطعم قائم أمامهما، والعراقي يقول له:

- ماعون باجيلا على تمن، وصمونه.

- إيه؟! إيه؟!

فيقول الشامي: العمى! شو ما بتفهم عربي؟ بدّو ماعون ما بتعرف الماعون؟ يعني طبق غسيل، وصابونه

- النادل: ليه بأه؟

- الشامي: ليش؟! بركي بدو يتغسل!

(ويضحك من نكتته)

- النادل: يتغسل! بعيد الشر، عاوز تؤول يتشطف.

- الشامي (مغرقاً في الضحك): يشّطّف! يا عيب الشوم، شو ما بستحي انته؟

- العراقي: والله، ما دا أفتهم، حشي غريب هوايه، يابه، ما تحشي عربي؟!

- النادل: ما تحكي عربي، يا خويا؟!

- الشامي: لكان عم يحكي ارنأؤوطي؟! هذا عربي!

- النادل: أمّال بأوول ايه؟

- الشامي: بؤول بدو كوسة محشى ومهوايه، يعني مروحة.

ولم استطع أن أتقاعس أكثر من ذلك، وخفت أن يفضحني الضحك، فخرجت وأنا أسأل نفسي: ماذا يكون لو أقر مجمع اللغة (العربية. . .) اقتراح الأستاذ فريد أبو حديد بك، الذي يدرسه الآن أعضاءه؟ والذي يقول فيه (فلو كانت العامية لا تزيد على أنها استخدمت أداة للتعامل في الأسواق والحياة اليومية لكان أمرها هيناً، ولكنها منذ برهنت على إصلاحها للتعبير الأدبي صار من الممكن أن تنطلق في سبيلها متباعدة عن الفصحى حتى ينتهي بها الأمر إلى الاستغناء عنها، بل إن جمال أساليب التعبير العامي إذا بلغ مداه كان أجدر أن

ص: 5

يسترق القلوب لان تلك الأساليب اقرب إلى النفوس والإفهام من الفصحى لشدة اتصالها بحياة الكافة ولقد كان من أكبر ما عمل على تقويض أركان اللاتينية ظهور كتاب مبدعين في اللغات القومية الأوربية، وقد كانت تلك اللغات في وقت من الأوقات بالنسبة للغة اللاتينية، فقد ظهر دانتي في إيطاليا وكتب روائع قومه بلغته (إلى أن قال) ولكنا لا نخشى إلى العربية الفصحى أن يكون مآلها هو مآل اللاتينية لعدة أسباب:

1 -

إن العامية لم تستطع إلى الآن (تأمل) أن تتسامى إلى آفاق الفكر العليا، فإن لم تزد بعد (تأمل) على أن تكون وسيلة للتعبير الساذج والأحاسيس الابتدائية ولم يظهر فيها بعد (تأمل) أمثال النوابغ الذين أنتجوا روائعهم الخالدة بلغاتهم الأوربية الحديثة الدارجة.

2 -

إن الفارق بين العامية والفصحى لم يبلغ شيئاً يقرب من الفارق بين اللغات الأوربية الدارجة وبين اللاتينية، فما زال التفاهم ممكناً في سهولة بين المثقف وغير المثقف بلغة سليمة بسيطة فصحى.

غير أننا لا ينبغي أن تجاهل الخطر الماثل لباقة اللغة العامية، وصلاحيتها كأداة للتعبير الأدبي فهو إن كان اليوم محدوداً فقد يكون غداً أقوى وقد تصبح أقدر على الأداء الأدبي السامي من الفصحى إذا فتن الشباب المثقف بالإنتاج الفكري باللغة العامية، وعملت الأجيال منهم على الارتفاع بها إلى المستوى الأدبي الذي يجعلها لغة فكر وتعبير صحيح.

وأفكر ماذا يكون لو فتن الشباب هذه الفتنه (نعوذ بالله من الفتن، ما ظهر منها وما بطن)، وصار في الدنيا لغة شامية ولغة مصرية ولغة عراقية، ونشا في كل واحد منها أدباء وشعراء، كما هي الحال في الفرنسية والإيطالية والإسبانية وان بقيت اللغة الفصحى (كما يريد الأستاذ) لغة القران والعلماء والمساجد والمعاهد العالية، وماذا يصنع إذاً صاحب المطعم الذي كنت آكل فيه آنفاً؟ إنه لا بد له من ترجمان، عارف بهذه اللغات، واقف عليها، متخصص فيها! عالم بدقائقها وسنن أهلها في كلامهم، ليفهم النادل أن الماعون في بغداد هو الطبق في مصر، والصحن في الشام، وأن التشطيف في مصر غسل الوجه واليدين، ولكنه في الشام غسل الـ. . . أعني الاستنجاء، وأن الصمونة في بغداد هي رغيف الخبز الإفرنجي، ويسمى في دمشق الأفرنجوني، والباجيلا الفول والتمن الرز، وأن الـ (هوايه) في العراق، صفه للشيء الكثير، وهي في غوطة دمشق الصفعة على الوجه، وانك إذا

ص: 6

(بسطت) رجلا في الشام ومصر فقد سررته، وإذا (بسطته) في العراق فقد ضربته، والمبسوط المضروب (علقة)، وهي في الشام (فلقة)، والتقليع في الشام الطرد من الدار ونحوها وفي مصر نزع الثياب وأن التقفيل في مصر إغلاق الباب وله في الشام معنى هو اخبث من أن يشار إليه، و (هون) في الشام هنا، وفي العراق (هنانا)، والهون في مصر هو الهاوون الذي يدق به واسمه في الشام الهاون، هذا عدا الكنايات السائرة المجازاة المشتهرة، وهي كثيرة في كل بلد لا يعرفها إلا أهله يلحنون بها في أحاديثهم، ويسخرون بها من الغريب، وعدا عن اختلاف النطق وما ينشأ عنه من اختلاف المعنى، فمن المصريين من يميل بالسين إلى مخرج الزاي، ومن هنا سارت النكتة في دمشق عن مدرس مصري جئ به إلى مدرسة بنات، فقال لإحداهن مؤنباً:

- إيه الأسباب التي منعتك من إعداد الدرس؟

وفي العراق يجعلون القاف جيماً معطشة، وقد سالت حوذياً يوم وصلت بغداد، أن يخذني إلى ضاحية نزهة، فقال:

تروح باب شرجي؟

فكدت أبطش به، وما يريد إلا (الباب الشرقي) وهو من متنزهات بغداد.

وليس يجئ هذا الترجمان إلا من مدرسة، فلا بد لنا إن أقر المجمع اللغوي هذا الاقتراح من أن ندرس هذه اللغات الشرقية الحية في مدارسنا الثانوية، وننشئ لها قسماً في كليه الآداب، أو أقساماً لأن اللسان الشامي سيكون فيه لغات متعددات، فلغة دمشق ليست لغة حلب، وهي تخالفها في معاني المفردات، وفي تركيب الجمل، وفي طريق النطق، ولغة حلب غير لغة حمص، ولغة حمص غير لغة حماة، وكلها تخالف لغة دير الزور، وهذه تخالف لغة البادية، فصار عندنا في الشام لغات في كل منها لهجات، ولهجة هؤلاء ليست لهجة جبل القلمون، وفي القلمون عشرون لهجة تختلف اختلافا بيناً، وفي كل منها شعر. . . وأدب. . . أي والله وموسيقى وقس على ذلك السنة لبنان وفلسطين والعراق ومصر والسودان والحجاز واليمن وطرابلس وتونس والجزائر ومراكش، واجمع هذه الألسنة بما فيها من اللغات واللهجات، تجدها تحتاج إلى عشرة أساتذة لهم كراسي في الجامعة، وتحتمل عشرة دبلومات، يكتب صاحبها على بطاقته (فلان، دبلوم اللغات العراقية) أو (دبلوم اللهجات

ص: 7

اللبنانية). . . ودبلوم في أصول هذه اللغات ومصادرها، ودبلوم في نحوها وصرفها المقارن.

وعند إذ يكون شكوكو من أمراء الشعر الذين تدرس آثارهم في الجامعة، وإسماعيل ياسين من أمراء النثر، ويكون من تعبيرات النقد الجديد، أن نقول للكاتب المعقد الذي لا يفهم (إنه يكتب بالعربي) كما يقال في أوربة عن الكاتب الفرنسي المحدث إذا أغرب وعقد، أنه يكتب باللاتيني.

وعندئذ ينشا في كل لسان، تراجمه يترجمون إليه الآثار العربية لتحفظ في المدارس، ويربي بها النشء على البلاغة كما ترجمت إلى الفرنسية آثار دانتي وفرجيل، فنحفظ الطلاب في دمشق قول المتنبي، مترجماً، هكذا:

على أدّ أهل العزم بتجي العزايم

وبتجي على أد الكرام المكارم

وقول شوقي في الأزهر، يصير:

أوم بتمّ الدنيِه وسلم ع الأزهر

ورش على ادن الزمان الجوهر

بدلاً من:

على قدر أهل العزم تأتي العزائم

وتأتي على قدر الكرام المكارم

و:

قم في فم الدنيا وحيي الأزهرا

وانثر على سمع الزمان الجوهرا

ولا شك أن هذه الترجمة (أجدر أن تسترق القلوب) - كما قال الأستاذ أبو حديد بك في تقريره.

وعندئذ تطبع الرسالة أربعة آلاف فقط، وأخبار اليوم عشرة الاف، وينشا في كل بلدة جريدة صغيرة تنطق بلسان أهلها، ولا يبعد أن تشتد الحماسة لهذه اللغات كما اشتدت بتركيا الجديدة الحماسة للسانها، فيؤذن بها على المنائر، ويخطب بها على المنابر، ويترجم القرآن إلى كل واحدة منها. وعندئذ لا تستطيع الدولة العربية أن تجتمع في جامعة، ولا أن تتحد في شعور، ولا أن تسوق جيوشها إلى فلسطين موحدة القيادة، لان الصلة الوحيدة بينها هي هذه اللغة العربية، فان انقطعت لم يصل بينها شي، ولا الدين، لأنها إن ذهبت العربية ذهب معها القران فلم يبقى دين.

ص: 8

وبعد فلن يكون شئ من هذا، ولو قال به المجمع (ولن يفعل) لما سمع منه احد، لمكان القران لهذه العربية ولان الله تكفل بحفظ القران، وكنا أردنا أن نسلي القراء في أيام العيد السعيد التي لا عمل فيها يشغلهم كما أراد الأستاذ أبو حديد أن يسلي أعضاء المجمع، الذين جعل الله أيامهم كلها. . . أعياد. . .

(القاهرة) علي الطنطاوي

ص: 9

‌بين السياسة والأدب

إنجلترا في مرآة حافظ

للشيخ محمد رجب البيومي

كشر الشر عن أنيابه، وبدت بريطانيا للعالم أجمع في صورة مخزية منكرة، فهي تهدر على الملأ حقوق الإنسان، وتئد الحرية القومية بما تستطيع من قوة وجبروت، ولولا أن وجدت مصر من مجلس الأمن منبراً تذيع عليه فضائع الاستعمار، وشنائع الاحتلال، لالتبس الحق بالباطل الصراح ولوجد في الناس من يغتر بتمويه إنجلترا الكاذب، ويصدق ما تخلعه عن نفسها من حلل النزاهة والوفاء.

ولقد مددت يدي إلى ديوان حافظ إبراهيم لأطالع في هذه الآونة الحرجة ما سبق أن هتف به شاعر النيل في أذن هذه الدولة الصماء، ولأشهد في مرآة شعره صورتها الصادقة التي رسمها الشاعر الكبير، ومما حمدت الله عليه أن وجدت هذه العجوز الشوهاء قد بدت كالحة عابسة تبعث في النفس اشمئزازاً وفي الصدر انقباظاً حتى إنك لا تستطيع - مهما تجلدت - أن تديم النظر إليها بضع لحظات متتاليات!!

والحق أن شاعر النيل كان ذا سلاح باتر ضرب به رقبة إنجلترا ضربات متلاحقة، وشهرة في وجه الاستعمار مبارزاً مصاولاً، وما زال يواصل سلاحه الدائب، ونضاله المستميت، حتى تيقظ الشعور الهاجع، وتنبه الإحساس الغافل، فهبت مصر جميعها تثور للكرامة الذبيحة، وتثار للحرية الجريحة، وهاهي ذي تواصل ثوراتها الصاخبة في قوة وإيمان حتى تنقشع السحب وتتبدد الظلمات.

أما كيف استطاع الشاعر أن يؤدي رسالته على وجهها الصحيح، فهذا ما سأبسط أسبابه للقراء في جلاء ووضوح. . .

نشأ حافظ رحمه الله تواقاً للأدب، حريصا على التحليق في أجوائه الشاسعة. وكان البارودي قد نال من نباهة الذكر، وبعد الصيت ما جعل شاعر النيل يتخذه مثلاً أعلى في الحياة، ولئن كان سامي قد ركز بناء مجده على البلاغة والفروسية، فإن حافظ يستطيع أن يملك زمام البيان باطلاعه المتواصل كما يقدر على الالتحاق بالمدرسة الحربية ليكون فارس الحومة، وقائد الكتيبة، ومن هنا ترك الشاعر المحاماة، والتحق بالمدرسة الحربية،

ص: 10

وإن أمله ليصور إليه أنه سيكون في يوم من الأيام خليفة لرب السيف والقلم محمود سامي البارودي!!

ظن حافظ أنه سيستفيد من المدرسة الجديدة استفادة يخدم بها وطنه المريض، ولكن صدره قد انقبض في حسرة وغيض إذ رأى بعينيه أن المستر براين الإنكليزي قد صفد المدرسة بأغلال وثيقة من الذل والعبودية، فلا يدرس فيها غير التمرينات الآلية التي لا تنشئ جيشاً، ولا ترفع أمة، أضف إلى ذلك ما كان يبديه القائم بأعمال المدرسة من ازدراء بالغ للعقلية المصرية واحتقار شديد للطلبة المنتسبين، مما جعل الشاعر يؤمن في قرارة نفسه - عن مشاهدة حقيقية - أن الإنكليز جميعاً من هذا الطراز الدخيل، فهم يضمرون السوء للشعب، ويهوون به إلى اسفل درجات الانحطاط.

خرج حافظ من المدرسة بعد انتهاء سنواتها التعليمية ثائراً ناقما، وما ظنك بشاعر مرهف الإحساس، يرى أعداءه الألداء يتحكمون في أمته أبشع تحكم، والشعب سادر في غفلته فلا يكاد يفكر في إزالة الكابوس الجاثم فوق صدره؛ وكان الظروف التي جمعت حافظا بفريق من المستعمرين في المدرسة الحربية قد هيأت له أن يعيش في جوهم المريض مرة ثانية، فقد سافر إلى السودان في الحملة العسكرية التي ذهبت من مصر بقيادة اللورد كتشنر لاسترجاعه من أيدي الثائرين، وكان في النهاية ما خاف حافظ أن يكون، فقد اهتبلت إنجلترا الفرصة، ورفعت علمها الإنكليزي مع العلم المصري على مدينة الخرطوم، ومن ثم بدا الشاعر يخط الصحيفة الأولى في كتاب نضاله السياسي فقد أرسل اللحن الأول من قيثارته الحزينة، يندد بخيانة الإنجليز وينبه الشعب المصري إلى ما يهدده من الخطر الداهم بعد استلاب السودان، وذلك إذ يقول:

رويدك حتى يخفق العلمان

وننظر ما يجري به الفتيان

فما مصر كالسودان لقمة جائع

ولكنها مرهونة لأوان

أرى مصر والسودان والهند واحداً

بها اللورد والفيكنت يستبقان

واكبر ظني أن يوم جلائهم

ويوم نشور الخلق مقتربان

وطبيعي أن يبث الشعور الوطني في زملائه الضباط، فيؤلف منهم زمرة تناوئ الغاصبين، وتتمرد على قيادتهم الغاشمة. ولم يلبث كتشنر أن وقف على حركته الوطنية، فتربص به

ص: 11

الدوائر، ونصب له المكايد الخاتلة، وإذ ذاك لجا الشاعر إلى أستاذه الإمام، فكتب إليه من خطاب طويل (ولقد قعدت همة النجمين، وقصرت يد الجديدين، عن إزالة ما في نفس ذلك الجبار العنيد (يريد كتشنر) فقد نما ضب ضغنه عليّ، وبدرت بوادر السوء منه إلي فأصبحت كما سر العدو وساء الحميم. . .) وكأن الله عز وجل قد أراد الخلاص للشاعر من أقرب طريق فأحيل إلى الاستيداع، وغادر الخرطوم إلى القاهرة، بعد أن ثكل وضيفته الحكومية وضاقت سبل العيش في وجهه، ولم ير غير الشعر صديقا وفياً، يبثه نجواه، ويستطلعه خبيئة سره إذ يقول:

سعيت إلى أن كدت أنتعل الدما

وعدت وما أعقبت إلا التندما

لحا الله عهد القاسطين الذي به

تهدم من بنياننا ما تهدما

إذا شئت أن تلقي السعادة بينهم

فلا تك مصرياً ولا تك مسلما

سلام على الدنيا سلام مودع

رأى في ظلام القبر أنساً ومغنما

وواضح أن اختلاط الشاعر بالمحتلين فترتين متعاقبتين قد حول صدره أتوناً ملتهباً يشتعل بالغيض، فهو وحدة بين شعرائنا السياسيين، قد لمس عن كثب شنائع الاحتلال، ولكنه اضطر مرغما أن يكبت عواطفه - وقتاماً - غب قدومه إلى القاهرة كيلا يقف المعتمد البريطاني في وجهه وهو يبحث عن عمل حكومي يرتزق منه؛ وأنى للشاعر أن يصبر على الضيم والذلة، والشعب في شر حاله، تنهب امواله، وتغتصب خيراته، فلا أقل إذن أن يواسيه بعزاء دامع يفصح عن إحساسه، وينطق عن شعوره، كأن يقول:

أيشتكي الفقر غادينا ورائحنا

ونحن نمشي على أرض من الذهب

والقوم في مصر كالإسفنج قد ظفرت

بالماء لم يتركوا ضرعاً لمحتلب

فقد غدت مصر في حال إذا ذكرت

جادت جفوني لها باللؤلؤ الرطب

إذا نطقت فقاع السجن متكأ

وإن سكت فإن النفس لم تطب

وقد رأى حافظ أن يتوجه في محنته إلى الخديوي، فيخلع عليه بروداً ضافية من مديحه الرائع عسى أن ينقذه من وهدة التعطل والبطالة، ولكن مدائحه الرنانة قد تلاشت في مهب الريح، ومضى الشاعر يطرق أبواب العمل باباً باباً، والأيام تمر ثقيلة بطيئة في غير طائل، والحاجة ماسة والحظ شحيح!! ويشاء الله أن ييأس من العمل الحكومي ياساً تاماً،

ص: 12

فينقلب إلى ثائر هائج، يحارب الاستعمار بما في يراعه من قوة وبيان، وهنا تئن القيثارة الحزينة، فتهز الأوتار هزاً عنيفاً، وتخرج الصحف على الشعب ملتهبة بزفرات حافظ، فلا تكاد تمر بها الأعين القارئة، حتى تشعل جمر الغضب في الصدور، وينظر القراء فيجدون مشاعرهم الكظيمة مبسوطة في شعر حافظ السياسي، فيتغنون به في مجالسهم، وينشدونه في الغدو والرواح حتى أيقظ الهمم الغافية، وأضاء العقول الدامسة، فهب الشعب يؤدي واجبه الوطني - إزاء الغاصبين - بقدر ما يستطيع.

على أن حافظا كان يلمح بصيص الأمل يلوح له بالاعتصام بحبل الدولة العثمانية، فهي المملكة الإسلامية التي تتجه إليها أنظار المخلصين من أبناء العقيدة المحمدية، ومهما قيل عن بغي الخلفاء فهم أهون من أعداء اللغة والدين والوطن، لذلك كان الشاعر يمدح سلاطين تركيا بوازع من دينه وعقيدته، ويسيد بتاريخهم المديد كيلا ينخدع الشعب بدعاية بريطانيا الجوفاء ثم هو في مديحه لآل عثمان يقصد دائما إلى هدفه الاصيل، فينبه الخليفة إلى أفاعي الغرب الخاتلة، ويحذر الشرق من الاستكانة والخنوع، كأن يقول في عيد تأسيس الدولة العلية:

فيا شرق إن الغرب إن لان أو قسا

ففيه من الصهباء طبع مذوب

فخف بأسها في الرأس والرأس تصطلي

وخف ضعفها في الكأس والكأس تطرب

ويا غرب إن الدهر يطفو بأهله

ويطويه تيار القضاء فيرسب

أراك مقر الطامعين كأنما

على كل عرش من عروشك أشعب

وإذا كان مصطفى كامل قد اتخذ من حادثة دنشواي دليلاً قوياً يستند إليه في كفاحه خارج مصر، فإن شاعر النيل قد شهر هذا السلاح بعينه ليحارب به الأعداء في الداخل. فقد نظم قصائد عديدة مال فيها إلى السلاسة والوضوح. ليفهمها الشعب المصري عن بكرة ابيه، وقد مثل فيها المأساة الدامية تمثيلا يستدر الدموع ويشعل الأفئدة، ودونك بعض ما يقول:

حسبوا النفوس من الحمام بديلة=فتسابقوا في صيدهن وصوبوا

والمستشار مفاخراً برجاله=ومعاجز ومناجز ومخرب

يختال في أنحائها متبسماً=والدمع حول ركابه يتصبب

رفقاً عميد الدولتين بأمة=ضاق الرجاء بها وعز المطلب

ص: 13

إن أرهقوا صيادكم فلعلهم=للقوت لا للمسلمين تعصبوا

جلدوا ولو منيتهم لتعلقوا=بحبال من جلدوا ولم يتهيبوا

شنقوا ولو منحوا الخيار لأهلوا=بلظى سياط الجالدين ورحبوا

أو كلما باح الحزين بأنة=أمست إلى معنى التعصب تنسب

طاحوا بأربعة فأردوا خامساً=هو خير ما يرجو العميد ويطلب

حب يحاول غرسه في أنفس=يجنى بمغرسها الثناء الطيب

ولقد كان لهذه القصيدة دوى هائل في المجتمع المصري، فقد عارضها كثير من الشعراء، وبرزت المقالات السياسية مشتعلة بزفرات من أبياتها الدامعة، مما شجع شاعر النيل على المضي في سبيله، فوقف لكرومر الطاغية بالمرصاد يحاسب الحساب العسير في قواف تصرخ من الألم والرعب، وما كاد اللورد يصدر تقريره الخادع عما قدمه للأمة المصرية من إصلاح ورفاهية، ليبدو في صورة المنظم البريء حتى هجم الشاعر على هرائه الكاذب، ففنده بأسلوبه الرائع وصاح في وجهه يقول:

تمن علينا اليوم أن أخصب الثرى

وأن أصبح المصري حراً منعما

إذا أخصبت الأرض وأجدب أهلها

فلا أطلعت نبتاً ولا جادها السما

عملتم على عز الجماد وذلنا

فأغليتمو طيناً وأرخصتمو دما

تهش إلى الدينار حتى إذا مشى

به ربه في السوق ألفاه درهما

لقد كان فينا الظلم فوضى فهذبت

حواشيه حتى صار ظلماً منظما

وبعد لأي رأت الحكومة البريطانية أن تدهن الشعب المصري فاستدعت جبارها العنيد إلى غير رجعة، وهب حافظ يشيعه بقصيدة فاضحة، فصلت آثامه المخزية واحدة وراء واحدة حتى ليجوز للمؤرخ المصنف أن يذكرها وحدها كسجل حافل بآثام المعتمد البريطاني، فقد تعرض فيها الشاعر إلى مواقف كرومر العدائية في الدين الإسلامي، ومناصرته للحركة التبشيرية المسيحية، ثم دلف إلى الشركات الأجنبية التي بثها اللورد في مختلف الجهات الأجنبية، تمتص الدماء، وتستنزف القوى، وندد بمجلس الشورى الذي أراد كرومر تكوينه من الأجانب والمصريين معاً، ولم يفته أن يعرج على الأصنام المصرية التي اتخذها العميد وزراء للدولة فكانت رهن إشارته وقيد رغبته، كما بكى اللغة العربية التي طعنها اللورد في

ص: 14

الصميم حين قرر دراسة العلوم المدرسية بلغته الدخيلة، وقد عرف كيف يتهكم بالفرعون الغاشم حيث قال في وداعه:

فلم لا نرى الأهرام يا نيل ميّداً

وفرعون عن واديك مرتحل غدا

فودع لنا الطود الذي كان شامخاً

وشيع لنا البحر الذي كان مزبدا

لقد حان توديع العميد وإنه

حقيق بتشييع المحبين والعدا

سنطوي أياديك التي قد أفضتها

علينا فلسنا أمة تجحد اليدا

وفي رأيي أن هذه القصيدة التاريخية قد فاقت قصيدة شوقي في وداع العميد، لأن شاعر القصر لم ينطق عن شعور وطني دفاق وإنما غضب لولي نعمته حين هاجمه اللورد في حفلة وداعه، فنحت أبياته نحتاً، وأنت تقرأ ما نسجه أمير الشعراء فلا تحس بهذه اللوعة المتأججة في شعر حافظ، بل تجد شاعر القصر قد نسى الغرض الأصيل من القصيدة، فلم يطنب فيه إطناب شاعر النيل وإنما حرص كل الحرص على أن يندد في مطلع كلامه بما اقترفه اللورد في حفلة الوداع فقال:

أوسعتنا يوم الوداع إهانة

أدب لعمرك لا يصيب مثيلا

في ملعب للمضحكات مشيد

مثلت فيه المبكيات فصولا

شهد الحسين عليه لعن أصوله

وتصدر الأعمى به تطفيلا

هلا بدا لك أن تجامل بعدما

صاغ الرئيس لك الثنا إكليلا

ومهما يكن من شئ فإن نشأة شوقي الأولى قد باعدت كثيراً بينه وبين واجبه الأقدس. بل قد ورطته أسوء توريط فيما ينبغي أن يبتعد عنه؛ فقد هجا زعيم الثورة العرابية المفترى عليه لحاجة في نفسه، وأحجم عن رثاء أستاذه البارودي، كما لاذ بالصمت المريب إزاء فجيعة دنشواي، مع أنها زلزلت العالم أجمع بدويها الرنان، والأبيات القليلة المذكورة في الجزء الأول من الشوقيات عن هذه المأساة، قد قيلت بعد رحيل اللورد كرومر، وانقضاء عام كامل، جفت فيه الدماء، وانقطع الدوي، وتحدث الناس جميعاً بأن أمير الشعراء مقصر كل التقصير!!

(البقية في العدد القادم) محمد رجب البيومي

مدى الثقة في هيئة الأمم المتحدة:

ص: 15

‌4 - مدى الثقة في هيئة الأمم المتحدة:

بوليس الأمن الدولي

تثور مشكلة الجزاء بوجه عام في دراسة القانون بفروعه المختلفة، ولكنها تتخذ صورة خاصة دقيقة إذا ما نظرنا إليها من ناحية القانون الدولي العام حيث تنافرت الآراء حول وجود جزاء له أو عدم وجوده ويتبع ذلك إنكار الصفة القانونية على هذا القانون أو إثباتها له. . . غير أن أغلب الفقهاء يعتقدون بحق أن القانون الدولي له كل مقومات القوانين ومميزاتها وإن كان لا يزال ضعيف الجزاء.

وقبل أن يولد ميثاق سان فرنسيسكو. . كانت أقصى مرحلة من التهذيب وصلتها الجزاءات الدولية - وذلك غير الحرب طبعاً - ما نصت عليه المادة السادسة عشرة من عهد عصبة الأمم البائدة، وهي قائمة بمفردها تتناول في أغلبها الجزاءات الاقتصادية وتشير إلى الجزاءات العسكرية باقتضاب دون تفصيل أو إيضاح.

ويعزو بعض الكتاب انهيار العصبة إلى عدم الالتفات جيداً إلى اللون العسكري من الجزاءات وهذا النقص الأخير قد تداركه ميثاق هيئة الأمم المتحدة وفصله تفصيلاً في أكثر من مادة.

لقد قلنا إن لمجلس الأمن اختصاصين: الأول منهما يتعلق بحفظ السلم والأمن الدولي ويختص الثاني بالأحوال التي يقع فيها تهديد للسلم أو إخلال به أو حصول عدوان معين وهذه الأحوال التي تدخل في الاختصاص الثاني ليس لها صفات معينة أو حدود تقف عندها، بل إن مجلس الأمن له مطلق الحرية في تقرير هذه الحالات الخطيرة (انظر المادة 39) وترتيب الجزاءات لها.

ويمكن القول بأن الجزاءات المنصوص عليها في الميثاق تتفاوت في الشدة والطبيعة فهناك ما يسمى بالتدابير المؤقتة (المادة 40) ويوضحها الميثاق بقوله: إنه منعاً لتفاقم الموقف، لمجلس الأمن قبل تقديم توصيات أو اتخاذ التدابير المنصوص عنها في المادة التاسعة والثلاثين. . . أن يدعو المتنازعين للأخذ بما يراه ضرورياً أو مستحسناً من تدابير مؤقتة، ولا تخلو هذه التدابير المؤقتة بحقوق المتنازعين ومطالبهم أو بمركزهم، وعلى مجلس الأمن أن يحسب لعدم أخذ المتنازعين بهذه التدابير المؤقتة حسابه.

ص: 17

وهناك الجزاءات غير العسكرية (المادة 41) وعندها يقرر مجلس الأمن ما يجب اتخاذه من التدابير التي لا تتطلب استخدام القوات المسلحة لتنفيذ قراراته وله أن يطلب إلى أعضاء الأمم المتحدة تطبيق هذه التدابير ويجوز أن يكون من بينها وقف الصلات الاقتصادية والمواصلات الحديدية والبحرية والجوية والبريدية والبرقية واللاسلكية وغيرها من المواصلات وقفاً جزئياً أو كلياً كما تقطع العلاقات الدبلوماسية.

وأما الجزاءات العسكرية (م42) فقد نص عليها الميثاق بأنه إذا رأى مجلس الأمن أن الجزاءات غير العسكرية لا تفي بالغرض أو ثبت أنها لم تف به جاز له أن يتخذ بطريق القوات الجوية والبحرية والبرية من الأعمال ما يلزم لحفظ السلم والأمن الدولي أو إعادته إلى نصابه، ويجوز أن تتناول هذه الأعمال المظاهرات والحصر والعمليات الأخرى بطريق القوات البرية والجوية والبحرية التابعة لأعضاء هيئة الأمم المتحدة وهذا القوات هي (بوليس الأمن الدولي)

وأما تكوين بوليس الأمن وتنظيمه فقد فصل ذلك الميثاق (م43) بأنه في سبيل المساهمة في حفظ السلم والأمن الدولي يتعهد جميع أعضاء هيئة الأمم المتحدة بأن يضعوا تحت تصرف مجلس الأمن بناء على طلبه وطبقاً لاتفاقات خاصة ما يلزم من القوات المسلحة والمساعدات والتسهيلات اللازمة لحفظ السلم والأمن الدولي وتحدد تلك الاتفاقات عدد هذه القوات وأنواعها ومدى استعدادها وأماكنها عموماً ونوع التسهيلات والمساعدات التي تقدم. كما قضى (م47) بتشكيل لجنة من أركان الحرب تكون مهمتها أن تسدي المشورة والمعونة إلى مجلس الأمن وتعاونه في جميع المسائل المتصلة بما يلزمه من حاجات حربية واستخدام القوات الموضوعة تحت تصرفه وقيادتها. . .

ولما كان هذا التنظيم يستغرق وقتاً طويلاً لكي يوجد. فقد نص الميثاق (م106) على أن الدول الخمس الكبرى تقوم بالنيابة عن الهيئة بالأعمال المشتركة التي قد تلزم لحفظ السلم والأمن الدولي في فترة الانتقال أي إلى أن يتولى مجلس الأمن تبعاته. . .

لقد قدمنا أن حق الاعتراض هو السائد في جميع أعمال مجلس الأمن بنوعيها، ورأينا كيف استعملته الكتلتان: الشرقية والغربية أسوأ استعمال متوخية مصالحها وشهواتها في كل ما يدخل في الاختصاص الأول المتعلق بحفظ السلم والأمن الدولي وناقشا اقتراح مارشال

ص: 18

الذي كان بمثابة رد فعل لهذا الاستعمال السيئ. . والآن يستطيع القارئ أن يستنتج مصير الاختصاص الثاني للمجلس الذي لن يكون أحسن حالاً من سابقه مادام هناك (الفيتو) وسوء تطبيقه. . . ويمكننا أن نقول بملء الفم أن النصوص التي تقتطع جانباً خطيراً من الميثاق والتي تتعلق بمسألة الجزاءات. . قد حكم عليها بالعدم والموت. ففي فترة الانتقال هذه لم تتفق كلمة الدول الخمس الكبرى على فض أي نزاع أو عدوان يخل بالأمن الدولي. وليس ذلك راجعاً لندرة العدوان أو التهديدات الدولية بل يرجع قبل كل شئ إلى الخلاف الناشب بين المعسكرين المعروفين. والمثل البارز لذلك في مسألتي البلقان وإندونيسيا. .

ولندع فترة الانتقال وننظر فيما بعدها. . هل نظمت هيئة الأمم حقاً قواتها؟ وهل عقدت تلك الاتفاقات التي تحدد هذا التنظيم؟ ثم ما حال لجنة أركان الحرب الدولية. . أين هي؟.

والجواب عن كل ذلك حاضر يبعث على الأسف: لم يحدث شئ، ولن يكون شئ مادام هذا النزاع المصلحي قائماً بين الدول

يدعي كل فريق أن حق الاعتراض عقبة كبيرة في سبيل التنفيذ، ولكن الحقيقة أن الأهواء والشهوات هي أصل الداء، فهي التي جرت إلى إساءة استعمال هذا الحق بل هي التي خلقته ودفعته إلى الوجود وما كنا في حاجة لمثله. .

إن بوليس الأمن الدولي جيش فوق الجيوش، وقوة عظيمة تجب جميع القوى وكان أمل الشعوب الصغيرة فيه كبيراً، لأنه سندها ودرعها في نضالها ضد اضطهاد الدول المستعمرة الظالمة، وليس غريباً أن تنشر الصحف نبأ النصيحة التي قدمها مسيو تريجف لي سكرتير هيئة الأمم لرئيس وزراء مصر حين تقرر نهائياً عرض القضية على مجلس الأمن. . فقد ذكرت أنه أشار عليه بالتريث حتى تتكون قوة بوليس الأمن الدولي.

على أية حال ليس أمامنا سوى الأسف العميق نقابل به مثل هذه الأمور المحزنة ولعله من المفيد أن نذكر شيئاً عن مشروع أمريكي للدفاع المشترك قيل أنه يغني مؤقتاً عن البوليس الدولي. فقد روت الأنباء أن وفد أمريكا في الجمعية العمومية لهيئة الأمم المتحدة قد أعد مشروعاً بمعاهدة للدفاع المتبادل تسندها قوات الدول الموقعة وسيعرض الوفد هذا المشروع على الجمعية العمومية. وهذه المعاهدة المقترحة يمكن أن تتمخض عن إنشاء قوة بوليس دولية لحماية اليونان في القريب العاجل من اعتداء يوغوسلافيا وألبانيا وبلغاريا عليها كما

ص: 19

أنها تتمشى مع الميثاق وتخضع لمادة معينة منه (م51) تشير إلى أن للدول الحق في الدفاع الفردي أو الجماعي إذا وقع هجوم مسلح على دولة من أعضاء هيئة الأمم وذلك إلى أن يتسنى لمجلس الأمن اتخاذ التدابير الضرورية للمحافظة على السلام والأمن الدوليين، ومن شروط هذا الاقتراح الأمريكي أن هذه المعاهدة مفتوحة لكل دولة من أعضاء هيئة الأمم تريد توقيعها بما في ذلك روسيا ولكنها تصبح نافذة في القريب العاجل سواء وقعتها روسيا والدول المرتبطة بها أو لم توقعها، ولن يكون تنفيذ هذه المعاهدة بما في ذلك استخدام القوات المسلحة للدول الموقعة موضوعاً خاضعاً لحق الدول الكبرى في الاعتراض - الفيتو - وتقول المصادر الأمريكية أن هذه المعاهدة تهدف إلى التغلب على عقبتين في سبيل المحافظة على السلام في اليونان وغيرها:

أولاً: استخدام روسيا لحقها في الاعتراض على أية محاولة لحماية اليونان من عدوان جيرانها في الشمال.

وثانياً: العوائق التي يضعها الوفد السوفيتي في سبيل إتمام اتفاقات حربية بين هيئة الأمم المتحدة والدول الأعضاء بينما كان المأمول أن تنشأ قوة بوليس دولية لتنفيذ قرارات هيئة الأمم.

ويشبه مشروع هذه المعاهدة بروتوكول جنيف في سنة 924 الذي كان يهدف إلى تقوية عصبة الأمم ويبرز العمل الجماعي ضد العدوان تمشياً مع روح ميثاق العصبة.

هذا هو المشروع الأمريكي الذي لم يطرح بعد على بساط البحث، ورأينا فيه أنه - كما هو واضح - موجه ضد الكتلة الشرقية وقد أملته روح التحدي والعداء وكان الأجدر بأمريكا أن تتمسك بنصوص الميثاق بدلاً من أن تهدرها وتستبدل بها مشروعات أخرى لن تكون خيراً منها أو أكثر اتساقاً مع الغرض من قيامها ثم إن هذه المعاهدة الدفاعية تدعو للتساؤل: فهي دفاعية ضد من؟ لابد لوجود الدفاع من هجوم. . فضد من يوجه هذا الدفاع. . . إن كانت دول العالم أجمع ستنضم إلى المعاهدة؟

والظاهر أن الكتلة الغربية تعلم مقدماً أن مشروعها لن يجوز رضاً من الكتلة الشرقية، ولهذا جعلت المعاهدة مفتوحة للانضمام، والغالب أن الدول الموقعة ستكون سياستها موافقة لأهواء الكتلة الأولى ومناهضة للثانية الأمر الذي يؤكد في الذهن أن هذا المشروع ليس

ص: 20

وليد الإيمان الخالص بخير الإنسانية وتقديس المعاني السامية لذاتها. . . وقد نفذت الولايات المتحدة مشروعها المقترح تنفيذاً جزئياً في نصف الكرة الغربي حين عقدت معاهدة الدفاع المشترك بين دول الأمريكيتين في الأسابيع القليلة الماضية. وبعد: فإن حق الاعتراض يجب أن يلغى، وأن تزيد الثقة المتبادلة بين الدول، وتعود للمثل العليا قيمتها واعتبارها، وأن نؤمن من جديد بالعدالة والحرية والمساواة. .

يجب أن تختفي من السطور كلمات الحرب والحياد، فالجراح التي خلفتها الحرب لم تلتئم، والمداد الذي كتب به الميثاق لم يجف بعد. . .

إننا نخشى على مولود سان فرنسيسكو أن يلحق بفقيد الأطلنطي. .!!

عبد الحميد عثمان عبد المجيد كلية الحقوق

ص: 21

‌مبادئ مالية في الإسلام

للأستاذ لبيب السعيد

1 -

الإسلام دين ودولة، فهو إذ يشرع لأهله ما يبلغهم السعادة الأخروية، يعنى كذلك بمصالحهم الدنيوية، ويقرر لها نظماً يهدف بها إلى إتاحة الرفاهية قدر المستطاع لكل منهم، وتحقيق القوة والسيادة لمجموعتهم.

2 -

والمال عصب الحياة، والشريعة الإسلامية واقعية، ولذلك أقامت للمال موازين: عرفت كيف زين للناس حبه، فتكاثروا به، وتقاتلوا في سبيله، فالتفتت إلى المطامنة من هذا الحب، وأخذت من فضل هذا لتعالج عدم ذاك، محققة لكليهما الخير المعنوي والمادي وعرفت أن القوة والمنعة والأمن لا تقوم إلا على دعامة من المال، فجعلت لولي الأمر حقاً معلوماً في مال كل ذي مال لتقيم به هذه الدعامة.

فرضت الشريعة على الفرد عدة واجبات مالية ليس من همنا الآن تناولها بالبيان الوافي، ولكننا نعرض فحسب ما يتعلق بها من مبادئ رئيسية، غير مقتحمين ما للفقهاء فيها من تفاصيل.

3 -

التزم الإسلام العدل الأوفى في فرض هذه الواجبات

فهو في وضع الخراج مثلاً يوجب مراعاة وجود الأرض واختلاف أنواع زرعها وما تسقى به.

وهو ينظر من أعسر بخراجه

والجزية التي يفرضها على أهل الذمة هي من الاعتدال بحيث لا تبلغ إلا سبع ما كان يفرضه الرومان مثلاً على الأمم التي أخضعوها. وفوق هذا، فهو يرعى حال من تفرض إليه الجزية إذا كان موسراً أو وسطاً أو فقير معتملاً. ويميز بين أرباب المهن المختلفة، فالصيرفي والبزاز وصاحب الصنعة والتاجر والطبيب وما إليهم غير الخياط والصباغ والجزار والإسكافي ومن أشبههم. . .

وهو لا يوجب الجزية على امرأة ولا صبي، كما يعفى منهما الأعمى والزمن والمفلوج والشيخ الكبير الفاني ولو كانوا موسرين ويضعها عن أصحاب الصوامع إلا إذا كانوا من الأغنياء.

ص: 22

والمبدأ المقرر لدى فقهاء المسلمين أنه (لا يضرب أحد من أهل الذمة في استيدائهم الجزية، ولا يقامون في الشمس ولا غيرها ولا يجعل عليهم في أبدانهم شئ من المكاره، ولكن ريفق بهم ويحبسون حتى يؤدوا ما عليهم.

والإسلام يشترط للزكاة نصاباً معيناً في كل نصف وجبت فيه، وهو ينظر إلى ناقص الملك نظرة خاصة رحيمة، ويسقط - على الأرجح - الزكاة عن المديان.

وهو ينكر على الفرد أن يأتي بما يملك فيقول هذه صدقة، ثم يقعد يتكفف الناس؛ يمدح القرآن أناساً فيقول:(والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما)

ونبي الإسلام يقدر ما يحيط بالمالك من ظروف لها اعتبارها عند تقدير الزكاة المطلوبة، فهو يقول للعمال الذين ولاهم على خرص الثمار - وهو الحرز والتخمين لتقدير زكاة قبل الإثمار ولأمن من الخيانة من رب المال - يقول لهم:(خففوا الخرص، فإن في المال الوصية (أي ما يوصي به أربابها بعد الوفاة) والعرية (أي ما يعرى للصلات في الحياة) والواطئة (أي ما تأكله السابلة منه، سموا واطئة لوطئهم الأرض) والنائبة (أي ما ينوب الثمار من الجوائح)).

وكذلك في شأن الخراج، تذهب الشريعة إلى أن لا يستقصي في وضعه غاية ما تحتمله الأرض لتجعل لأربابها بقية يجبرون بها النوائب والجوائح.

4 -

ويقترن بذلك العدل حزم (في التنفيذ لا هوادة فيه، ودقة في القواعد لا تدع سبيلاً إلى العبث أو التحايل.

فمن مطل بالخراج، مع يساره، حبس، إلا أن يكون له مال فيباع عليه في خراجه كالديون.

والأرض التي يمكن زرعها يؤخذ عنها الخراج وإن لم تزرع، وإذا عجز رب الأرض عن عمارتها طلب إليه أن يؤجرها أو يرفع يده عنها ليتولاها من يقوم بعمارتها. ونذكر على سبيل الاستطراد أن الشريعة تأبى ترك الأرض على خرابها وإن دفع خراجها

ومن منع الزكاة فلوالي الصدقات أن يقاتله كما قاتل أبو بكر مانعي الزكاة، بل لقد ذهبت طائفة إلى تكفيره

والكتاب والسنة ينصان على فداحة إثم مانع الزكاة، وقد تبرأ منه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله في سياق حديث:(لا أملك لك من الله شيئاً)، وذلك - كما يقول ابن حجر -

ص: 23

مؤذن بانقطاع رجائه ثم الشريعة تثني على مؤتي المال على حبه، وترغبه في ذلك ما وسعها الترغيب، وتعده في الدنيا والآخرة أحسن الوعود وأبعدها مدى في نفسه.

وإذا مات من عليه الزكاة بعد وجوبها عليه فإنها تخرج من رأس ماله

ومن باع ثمرة طابت فعليه زكاتها، ومن جز زرعه فراراً من الزكاة لم تسقط.

والتمليك ركن من الزكاة، فلا يجوز صرفها في بناء مسجد أو حج أو إصلاح طرق أو نحو ذلك.

وقد ذهب بعض الفقهاء إلى وجوب زكاة الفطر على كل مسلم ولو كان جنيناً في بطن أمه، وإلى وجوب تزكية السيد عن رقيقه مؤمناً كان أو كافراً لتجارة أو لغير تجارة.

والشريعة توجب الإنفاق من الطيبات وتنهى عن تيمم الخبيث قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض، ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه، واعلموا أن الله غني حميد) ويقول: (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون)

5 -

والأموال التي تدفع يقصد بها دائماً الصالح الأعلى للأمة، والإسلام يتحرى مصارف هذه الأموال أشد التحري:

فالصلة التي لا تعود بمصلحة على الأمة لا تكون من مالها، بل تكون من المال الخاص لمن يدفعها؛ قال الماوردي: وكان مما نقمه الناس على عثمان أن جعل الصلات من مال الفيء ولم ير الفرق بين الأمرين.

ولا يصح أن يدفع المرء زكاته إلى من تجب عليه نفقته، ولو أن دفعها ف غيرهم من الأرحام أفضل لأنها تكون صدقة وصلة.

ويستحب الفقهاء أن لا تنقل الصدقة من بلد المزكي إلى بلد آخر، لأن (أعين المساكين في كل بلدة تمتد إلى أموالها، هذا، مع عدم رؤية الفقهاء بأساً من الصرف على الغرباء في البلدة).

والعشور - وهي شبيهة بما نسميه الآن الضرائب الجمركية - مقصور بها صالح الأمة الإسلامية ذاتها، فللإمام - على مذهب الشافعي - أن يزيد في المأخوذ عن العشر أو أن ينقص عنه إلى نصف العشر أو أن يرفع العشور كلها عن البضاعة إذا رأى المصلحة في

ص: 24

شئ غير ذلك. والإسلام يقدر أن فرض العشور قد ينقص من واردات بلاد المسلمين فيضارون ولذلك رأى أن لا يزيد أخذ العشور من كل قادم بالتجارة على مرة واحدة في كل سنة ولو تكرر قدومه إلا أن يقع التراضي على غير ذلك.

6 -

والشريعة الإسلامية مع تدقيقها في استيداء حقوقها المالية على الأفراد، تحفل بضمائرهم، وتدعو ولي الأمر إلى الثقة بهم:

فليس لوالي الصدقات أن يسأل أو يبحث عن شئ ليس تحت نظره، وإنما عليه أن يأخذ مما يجد، مما تجب فيه الصدقة.

ويلزم رب المال فيما بينه وبين الله سبحانه بإخراج ما أسقطه من أصل الزكاة أو ما تركه الوالي من زيادة.

7 -

والإسلام لا يجب أن يجد السلطان باسم الشرع ذريعة لإغرام أي فرد مالاً بغير حق، فيقول الرسول صراحة:(إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام)، فعلم أنه لا يحل إغرام مسلم شيئاً بغير نقص صحيح.

8 -

والإسلام يصون لمستحقي الزكاة كرامتهم وإنسانيتهم ويأبى أن تذل نفوسهم، فهو يرغب في صدقة السر، ويقرر بطلان الصدقات التي يعقبها المن والأذى، يقول تعالى في الصدقات (وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم)، ويقول سبحانه:(لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى)، ويقول نبي الإسلام:(لا يقبل الله صدقة منان).

وهو فضلاً عن هذا يعتبر من يأخذ الزكاة صاحب حق في مال الغني، وصاحب الحق إذا تقاضى حقه تقاضاه غير مغض نظره ولا حانياً عوده؛ قال تعالى:(وفي أموالهم حق للسائل والمحروم).

9 -

الشريعة تعين للزكاة مصرفاً يجمع سائر الأبواب التي يتعين الإنفاق فيها لصالح الفرد والجماعة والدولة والدين، والتي يستريح للإنفاق فيها ضمير المزكي. قال تعالى:(إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل).

وهذه الأبواب جميعاً ظاهرة الحكمة، وفيها تكافل وتعاطف ناصعان، وفيها تأييد عملي حازم لمبادئ الحرية والإخاء والمساواة، وفيها رفق عال وتقدير للمجاهدين وحفظ لمجد الدولة.

ص: 25

وربما كان جديراً بالذكر أن الغزالي يحبب أن يطلب المتصدق لصدقته من تزكو بهم الصدقة، وهم عنده المتجردون للآخرة، وأهل العلم، والصادقون في تقواهم، والمخفون حاجتهم، والمعيلون أو المحبوسون بمرض وذوو الأرحام.

10 -

وتختط الشريعة في محاربة الفقر مذهباً وسطاً، لا يضار منه الغني ولا تفوت بسببه المصلحة على فقير، فهو يحدد مقادير الزكاة تحديداً معقولاً، ولا يفرض على الأغنياء أكثر منها إلا أن تحدث أمور توجب المواساة والإعطاء كأن يوجد جائع مضطر أو عار مضطر أو ميت ليس له من يكفنه ولا من يدفنه.

ولقد ذهب أبو ذر إلى عدم جواز ادخار الذهب والفضة، وروى أبو هريرة أن النبي (ص) لم يحب لنفسه أن يكون له ذهب، ولكن الرد على هذا أن النبي قدر الواجب من الزكاة في الذهب والفضة، فلو كان إخراج الكل واجباً لما كان للتقدير وجه، وقد في الصحابة ذوو يسار ظاهر مثل عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف، وعلم النبي ذلك منهم فلم يأمرهم بإخراج الجميع.

11 -

والإسلام يفرض الجهاد بالمال مثلما يفرضه بالنفس قال تعالى: (. . . إن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم. . .)، وجهاد المرء بماله يكون بإنفاقه في إعداد ما يلزمه للجهاد من العدة بمختلف أنواعها، ويكون أيضاً بإنفاقه على غيره من المجاهدين وإمداده بالزاد والعدة. والشريعة تعنف أشد التعنيف كل من نكل من الجهاد.

12 -

وهي تفرض على الحجاج الهدايا يوزعون لحومها على الفقراء، وتوجب على الموسرين نحر الضحايا وإعطاء الفقراء أيضاً منها.

وكذلك كفارات الرُّخَص في العبادات وكفارات كثير من الأخطاء واجبات مالية ينتفع بها الفقراء الذين لا تبرح الشريعة تنظر في مصالحهم.

13 -

ومن المبادئ الإسلامية البالغة الأهمية والتي تُغني عن التطلع إلى النظم الوضعية أن الشريعة تقتضي الأغنياء من أهل كل بلد أن يقوموا بفقرائهم وأن يجبرهم السلطان على ذلك إن لم تقم الزكوات بينهم:

فيقام للفقراء بما يأكلون من القوت الذي لابد منه، وباللباس للشتاء، والصيف بمثل ذلك، وبمسكن يكنهم من المطر والصيف والشمس وعيون المارة.

ص: 26

بل لقد ذهب أبو محمد بن حزم إلى رأي لا نحسبه معروفاً جيداً لجمهرة المسلمين قال: (ولا يحل لمسلم اضطر أن يأكل ميتة أو لحم خنزير، وهو يجد طعاماً فيه فضل عن صاحبه لمسلم أو لذمي، لأن فرضاً على صاحب الطعام إطعام الجائع، فإذا كان ذلك كذلك، فليس بمضطر إلى الميتة ولا إلى لحم الخنزير).

ويمضي أبو محمد فيقول: (وله - يقصد المسلم المضطر - أن يقاتل عن ذلك، فإن قتل فعلى قاتله القود، وإن قتل المانع، فإلى لعنة الله لأنه منع حقاً، وهو طائفة باغية، قال تعالى: (فإن بغتْ إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله) ومانع الحق باغ على أخيه الذي له حق، وبهذا قاتل أبو بكر الصديق رضي الله عنه مانع الزكاة، بالله تعالى التوفيق).

وبعد، فهل يسع المنصف أن لا يقرر أن المذاهب والمشروعات الاجتماعية الحديثة مع ما في بعضها من آراء تستحق التقدير، وتحمل على بعض الأمل في أن تطب لأدواء الفقر، لا تتسامى إلى المبادئ الإسلامية في دقتها وشمولها وعملها المنظم على موازنة الثروات، والتقريب بين الطبقات، وإقامة التكامل الاجتماعي، واحترام الإنسانية، وتمكين الأمة من حفظ قوتها وشوكتها.

لبيب السعيد

ص: 27

‌حول الجدل في الجامعة

للأستاذ عبد الفتاح بدوي

نشر الأستاذ (العباس) مقالاً في (الرسالة) عنوانه (جدل في الجامعة) وموضوعه رسالة قدمت في كلية الآداب بجامعة فؤاد الأول لنيل درجة الدكتوراه.

ونشر الأستاذ (محمد خاف الله) مقالاً بعده ينفي فيه أن يكون الأستاذ (أحمد أمين) قد عاب الرسالة لضعف في منهجها أو لإنكار ما فيها من حقائق وعلمية ويقول: إن كل ما صنعه الأستاذ أحمد أمين أنه لفت ذهن الجامعة إلى أن مناقشة الرسالة قد تثير ضجيجاً لما فيها من أفكار وآراء.

وليس يعنينا ضعف منهج الرسالة فليس الناس ولا أهل العلم خاصة قوامين بالقسط على الرسائل التي تقدم في الجامعة فذلك شأن الممتحنين من دون الناس جميعاً

ولكن الذي لنا وللعلماء خاصة هو القيامة على الحقائق العلمية وعلى الحقائق الدينية ننفي عنهما الخبث وندافع عنهما كل من يحاول عليها العدوان.

ولقد دلنا الأستاذ (خلف الله) بمقاله على أن في الرسالة التي تقدم بها إلى الجامعة أحداثاً خطيرة في العلم وفي الدين، ودعاني مقاله هذا إلى البحث عن غير ذلك التقرير، ومادمنا نملك هذا المقال فإننا نملك باباً وسيعاً من المناقشة والحساب في مسائل علمية ودينية لها أكبر الخطر ويترتب عليها أعظم النتائج العلمية والأدبية والاجتماعية والقانونية إلى أن نحصل على أشياء أخر غير المقال.

يقول الأستاذ (خلف الله): ومن المعروف دينياً ألا نستنتج من نص قرآني أمراً لم يقصد إليه القرآن. . . وهذه الدعوى هكذا تهجم عارم على العلم وعلى القرآن جميعاً، ودلالة صريحة على أن من يدعي هذه الدعوى يستبيح للناس أن يقولوا عنه أنه لا يعرف شيئاً من المنطق؛ والمنطق ميزان القول، وهو لا يعرف قواعد اللغة، ولا يتكلم بكلام الناس، ولا يصح أن تكون له رسالة يتقدم بها إلى الجامعة أو إلى سواها لأنه ليس من أهل العلم في شئ.

أليس القرآن الكريم كاملاً له الدلالات المنطقية الثلاث المطابقية والتضمينية والالتزامية التي لكل كلام سواء في ذلك كل أنواع الكلام؟ فإذا قال القرآن الكريم: (إن أول بيت وضع

ص: 28

للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين) ألا تفهم منه أن هناك بلداً اسمه (بكة) وأن في هذا البلد بيتاً، وأنه وضع للناس، ثم نفهم الأمر الديني فوق هذا وهو أن هذا البيت مبارك وهدى للعالمين؟ أليس لنا ذلك ونحن لا نستطيع أن نفهم هذا الأمر الديني إلا مع فهم تلك الدلالات؟ بل أجمع العلماء على أن القرآن الكريم فوق هذه الدلالات الثلاث التي تجمع عليها عقول البشر لكل كلام دلالة أخرى سامية هي دلالة الفحوى التي يكون مثلها للنثر الفني أو الشعر البليغ، وأجمعوا على أن هذه الدلالة مرعية قطعاً وإن اختلفوا في أنه هل تقوم على هذه الدلالة أحكام شرعية أم لا؛ إننا إذا حرمنا القرآن الكريم دلالاته الالتزامية وهي التي تستنتج من الكلام فقد حرمناه أخص المزايا العقلية لكل كلام وليس يملك هذا الحرمان أحد، إنما يدعيه من حرم قواعد العقل وخرج من ميدان التفكير، وإذا كانت الحقائق العلمية التي بنى عليها الأستاذ (خلف الله) رسالته من مثل مقاله هذا فويل للعلم وويل للعلماء

ويدعي الأستاذ (خلف الله) أن الأستاذ (محمد عبده) قد قال بهذا القول فأي قول هو هذا الذي قال به الأستاذ الإمام؟ أن كلام الأستاذ محمد عبده مثل كلام كل العلماء أن القرآن الكريم ليس كتاباً أنزل للتأريخ وضبط الوقائع وترتيب الحوادث التاريخية بعضها على بعض ولكنه بالإجماع يستخدم التاريخ ويقص من هذا التاريخ حقائق واقعة ثابتة مرتباً بعضها على بعض ترتيباً لا استنساخ فيه كما يستنتج المؤرخ ولكن ترتيب الحق والواقع وينزل بذلك الواقع المرتب ترتيب الحقائق لهداية الناس وإرشادهم إلى الخير والفلاح

فالقرآن يخالف كتب التاريخ في أمور ويوافقها في أمور؛ فالمؤرخ قديري من واجبه أن يتتبع تفاصيل الواقعة: من الأسماء والزمان والمكان والأحداث وتفاصيلها لأن هذا كله قد يعينه على استنتاج الحكم التاريخي الذي يحكم به على الواقعة أو يشبع به نهم العواطف الكثيرة المختلفة من قراءة التاريخي؛ أما القرآن الكريم فقد لا يعنيه بعض هذا لأنه لا يستنتج الأحكام التاريخية ولكنه الحكم الفيصل فيها؛ فقد لا تعنيه الأسماء مثلاً فيقول: (قتل أصحاب الأخدود) لأن العبرة التي تترتب على القصة أي الحكم التاريخي لا يتوقف على أسماء هؤلاء الناس، وليس له بأسمائهم صلة، وقد لا يهتم القرآن الكريم بالزمان فيذكر قصة (يوسف) عليه السلام وفيها اسم يوسف والمكان الذي كانت فيه القصة ولا يذكر

ص: 29

زمانها؛ وقد لا يظهر بالمكان فيذكر قصة لوط فيبين اسمه وأنه معاصر لإبراهيم ويذكر الحوادث ولا يذكر المكان؛ وقد لا يهتم القرآن الكريم بالتفاصيل فيذكر قصة يونس عليه السلام وأنه (ساهم فكان من المدحضين) دون أن يدل على تفاصيل المساهمة ولا على نوعها ولا على المساهمين، ذلك كله لأن القرآن يخالف المؤرخ فالمؤرخ قد يتتبع ليستنتج، أما القرآن فهو منزل بالواقع، والحكم التاريخي فيه حكم العالم بالحقيقة فهو لا يستنتج ولكن يقرر الواقع ويذكر من الأسماء والأزمان والأمكنة والأحداث ما يعيننا على فهم ذلك الحكم التاريخي وتلقيه بالقبول، ويتفق التاريخ والقرآن في أن كلاً منهما يرتب الحكم التاريخي على المقدمات التي يذكرها وإن كانا يختلفان في طريقة ذلك الترتيب، فالمؤرخ يرتب المقدمات ترتيباً ظنياً خاضعاً لآلاف الفروض وأنواع الحدس والتخمين، فإذا ذكر المؤرخ أسباب سقوط الدولة الأموية وقيام الدولة العباسية كان كل سبب مما يذكر موضع نقاش طويل في جميع مراحله؛ أما القرآن الكريم فيرتب المقدمات ترتيباً يقينياً لاشك فيه؛ فإذا قرأنا قوله تعالى (ضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون) رأينا المقدمات يقينية الوقوع والحكم الذي ترتب عليها هو عين اليقين؛ فالقرآن مصدر من مصادر التاريخ وليس كتاباً من التاريخ والفرق بينهما واضح كل الوضوح، وليس في المسلمين من يقول بغير هذا.

ويقول الأستاذ (خلف الله): على أن هذه المسألة قديمة ومن أجلها عد الأصوليون القصص القرآني من المتشابه ولقد نتج عن ذلك طريقتان. طريقة السلف وطريقة الخلف أما الأولون فيذهبون إلى أن كل ما ورد في القصص القرآني من أحداث قد وقع. وأما الآخرون فلا يلتزمون هذا وعلى طريقتهم جرى الأستاذ الإمام. . .

وهذا الذي يقوله الأستاذ خلف الله جرأة أخرى على الأصوليين ولا أحداً من المسلمين يعتبر القصص القرآني متشابهاً ولا نعرف أحداً من الأصوليين ولا من المسلمين لا يقول بأن ما ورد في القرآن إنما هو أحداث وقعت وحوادث هي خلاصة الحقيقة التي وقعت في سوالف الأزمان يسوقها القرآن عبرة وهدى للعالمين؛ وليدلنا الأستاذ على أصولي لا يقول بهذا أو على مسلم لا يقول بهذا

ص: 30

وكلام الأستاذ خلف الله افتراء على الأستاذ الإمام يكذبه قول الإمام ومنهجه الذي اختطه لنفسه في صراحة لا شية فيها ولا اختلاط؛ ونورد هنا نص عبارة المنار وهي على أتم وضوح ليتبين للناس مقدار تهجم الأستاذ خلف الله على العلم وعلى رجال العلم ولنبين له كيف أراد أن يلبس على الناس بأقواله في مقاله ويقول ما ليس بحق.

قال في المنار عند تفسير قوله تعالى (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء): تمهيد للقصة ومذهب الخلف والسلف في المتشابهات: أن أمر الخلقة وكيفية التكوين من الشئون الإلهية التي يعز الوقوف عليها كما هي وقد قص الله علينا في هذه الآيات خبر النشأة الإنسانية على نحو ما يؤثر عن أهل الكتاب من قبلنا ومثل لنا المعاني في صور محسوسة وأبرز لنا الحكم والأسرار بأسلوب المناظرة والحوار كما هي سنته في مناظرة الخلق وبيان الحق وقد ذهب الأستاذ إلى أن هذه الآيات من المتشابهات التي لا يمكن حملها على ظاهرها لأنها بحسب قانون التخاطب إما استشارة وذلك محال على الله تعالى وإما إخبار منه سبحانه للملائكة واعتراض منهم ومحاجة وجدال وذلك لا يليق بالله تعالى أيضاً ولا بملائكته ولا يجامع ما جاء به الدين من وصف الملائكة بكونهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون وقد أورد الأستاذ (يعني محمد عبده) مقدمة تمهيدية لفهم القصة فقال، ما مثاله: أجمعت الأمة الإسلامية على أن الله تعالى منزه عن مشابهة المخلوقات وقد قام البرهان العقلي والبرهان النقلي على هذه العقيدة فكانت هي الأصل المحكم الاعتقاد الذي يجب أن يرد إليه غيره وهو التنزيه فإذا جاء في نصوص الكتاب أو السنة شئ ينافي ظاهره التنزيه فللمسلمين فيه طريقتان أحدهما طريقة السلف وهي التنزيه الذي أيد العمل فيه النقل كقوله تعالى ليس كمثله شئ وقوله عز وجل سبحان ربك رب العزة عما يصفون وتقويض الأمر إلى الله تعالى في فهم حقيقة ذلك مع العلم بأن الله يعلمنا بمضمون كلامه ما نستفيد به في أخلاقنا وأعمالنا وأحوالنا ويأتينا في ذلك بما يقرب المعاني من عقولنا ويصورها لمخيلتنا والثانية طريقة الخلف وهي التأويل يقولون: إن قواعد الدين الإسلامي وضعت على أساس العقل فلا يخرج شئ منها عن المعقول فإذا جزم العقل بشيء وورد في النقل خلافه يكون الحكم العقلي القاطع قرينة على أن النقل لا يراد به ظاهره ولابد من معنى موافق يحمل عليه فينبغي طلبه بالتأويل:

ص: 31

قال الأستاذ (محمد عبده) وأنا على طريقة السلف في وجوب التسليم والتفويض فيما يتعلق بالله تعالى وصفاته وعالم الغيب وأننا نسير في فهم الآيات على كلتا الطريقتين لأنه لابد للكلام من فائدة يحمل عليها لأن الله عز وجل لم يخاطبنا بما لا نستفيد منه معنى

قال صاحب المنار: وأقول أنا مؤلف هذا التفسير. إنني ولله الحمد على طريقة السلف وهديهم، عليها أحيا وعليها أموت إن شاء الله تعالى.

فالأستاذ الإمام لم يقل إن القصص من المتشابه ولم يقل بذلك مسلم قبله أو بعده والأستاذ الإمام يقول: إن الآيات في قصة الخليقة في الأرض من المتشابه وفسر ذلك التشابه بأنها لا تحمل على ظاهرها وفسر ذلك الظاهر الذي لا تحمل عليه بأن فيها حواراً وجدلاً بين الله تعالى والملائكة والجدل والحوار على ظاهرهما لا يليقان بالله تعالى ولا بالملائكة فيجب تأويل ذلك الجدل والحوار وحملهما على (خلاف مقتضى الظاهر) وبين التأويل الذي يراه لهذا الحوار ولهذا الجدل في ص254 من تفسير المنار لنفس هذه الآيات فقال: وأم الفائدة فيما وراء البحث في حقيقة الملائكة وكيفية الخطاب بينهم وبين الله تعالى فهي من وجوه أحدهما أن الله تعالى في عظمته وجلاله يرضى لعبيده أن يسألوه عن حكمته في صنعه الخ ثانيها إذا كان من أسرار الله تعالى وحكمته ما يخفي على الملائكة فنحن أولى بأن تخفى علينا ثالثها أن الله تعالى هدى الملائكة في حيرتهم بعد الإرشاد إلى الخضوع والتسليم رابعها تسلية النبي صلى الله عليه وسلم عن تكذيب الناس الخ فأين ما ادعاه الأستاذ خلف الله على الأصوليين وعلى الإمام. إن هذا إلا اختلاق.

حسب الرسالة اليوم هذا فإن الحساب بيننا وبين الأستاذ خلف سيطول.

عبد الفتاح بدوي المدرس في كلية اللغة العربية

ص: 32

‌إلى رجال التعليم:

التلميذ مرآة أستاذه

للأستاذ علي العماري

ذكرت في عدد سابق من الرسالة الغراء بعض الأسباب التي أدت إلى ضعف المتعلمين في العلوم عامة، وفي اللغة العربية خاصة، وما سلكت غير سبيل الحق، ولا نهجت إلا منهج الصراحة فإني أعلم أن المداورة والمجاملة وغض الطرف عن العيوب كلها أدواء فتاكة، تغطي وجه الحق، وتمكن للداء أن يستشري، وإذا كان هذا سبيلي فإني قائل اليوم قولاً أراه مراً جارحاً، ولكني لا أجد منه بداً، وإني أعلم أنه سيغضب الكثيرين، وسيدع غير قليل من رجال التعليم يزمون شفاههم، ويقطبون أسارير وجوههم، ويهزون أكتافهم، ويقولون: كذب ورب الكعبة، ولكنه - أيها الإخوان - الحق الصراح، والحق مر، والقول الخالص، والناس لا يظمئون إلا إلى الآسن العكر، حين يعذبه النفاق، ويسيغه في الحلوق الثناء الكاذب، والمداهنة البغيضة.

ولست متجنياً، ولا بعيداً عن الصواب حين أقرر أن من أهم أسباب الضعف في مدارسنا ومعاهدنا إسناد مهنة التعليم إلى قوم لا يحبون العلم، ولا يسعون إليه، ومن خطأ الرأي أن يظن أني أقصد جميع الأساتذة والمدرسين، فأنا إنما أشير إلى عدد غير قليل منهم، ومادام المدرس ضحلاً في مادته، تافهاً في معلوماته، ناقصاً في عقله ورأيه، فكيف نطلب من التلميذ أن يكون نابغة في علم، أو عبقرياً في فن، بل كيف نطلب منه أن يقرأ قراءة صحيحة وأستاذه غير مستطيع، وفاقد الشيء لا يعطيه كما يقولون. .

كان المعلمون في الماضي يسهرون الليالي الطوال في إعداد دروسهم، ويرجعون إلى شتى المصادر في مادتهم، ويعملون آراءهم وعقولهم في تفهم ما يلقونه إلى الطلاب، فكان في معاهد التعليم المجد المحصل، والذكي النابغة، ولكننا اليوم نرى مدرسين (على أحدث طراز) لا يعنى أحدهم بدرس، ولا يتعب نفسه في المراجعة، وحسبه أن يدخل على تلاميذه فيلقي إليهم ما سطر في الكتاب المقرر، فإذا سئل أعاد (الأسطوانة)، ونرى آخرين لا يحسنون النطق بالعربية، وإنما أخذوها من أفواه العامة فهي تطغي على ألسنتهم، وتشيع في أساليبهم، ولأن تكلف أحدهم أن يزحزح رضوي عن موضعه أهون عليه من أن تكلفه أن

ص: 33

يلقي درساً بالعربية، ولو كان يدرس البلاغة أو آداب اللغة العربية، وليست هذه الحال مقصورة على معهد من معاهد التعليم دون معهد، وإنما تجدها في الجامعة المصرية، كما تجدها في الأزهر الشريف، كما تجدها في المدارس على مختلف أنواعها، ونوادر المدرسين في هذا الضعف يخطئها العد وينوء بها الحصر.

دخل أحد المفتشين على أستاذ يدرس آداب اللغة العربية في فرقة عالية فوجده يدرس لهم الخط العربي، ويقول عن بعض أنواعه (وقطته أربع وعشرون شعرة من شعرات البرذون) فسأله المفتش ما معنى هذا، فأعاد الدرس من أوله، ومر سريعاً على هذه الكلمة، فسئل مرة أخرى فصنع صنيعه الأول، ولم يزد، فقال له المفتش في أي كتاب راجعت مادتك؟ فسكت ولم يحر جواباً، فقال له: فإذا أردت أنا أن أراجعها ففي أي كتاب؟ فسكت أيضاً.؟

وحدثني كبير في الأزهر قال أن بعض المفتشين في وزارة المعارف دخل على معلمة تدرس اللغة العربية فسمعها تقرأ قول الله تعالى (إنا أعطيناك الكوثر) فتضم الكاف، وتميت الواو.

وقد سئل أحد المدرسين في الأقسام الثانوية بالأزهر عن إعراب هذه الكلمة: لي مسألة لدى علي، فلما وصل إلى حرف لدى قال إنه فعل ماض، وأصر على ذلك.

ولعل أغرب ما سمعنا في هذا الباب أن مدرساً في كلية عالية قال إن قول الله تعالى (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل) نزل على أبي بكر رضي الله عنه، فراجعه الله فتريث قليلاً، وترك جدالهم، فلما جاء في اليوم التالي قال لهم اسمعوا. إن الرجوع إلى الحق فضيلة، وإني أطلت الليلة النظر، وراجعت كثيراً من الكتب، وبعد البحث والتنقيب ظهر لي أن هذه الآية نزلت على محمد صلى الله عليه وسلم!!!

صدقني - أيها القارئ - واعلم أني - والله الذي لا إله غيره - أجد ولا أتندر، وأن كثيرين ممن كانوا في هذه الفرقة لا يزالون في أول عهدهم بالحياة، وأن الأستاذ المدرس لا يزال منتفخ الأوداج، عالي الهامة، يغدو ويروح على كليته، ويأخذ الكثير من المال على جهله وغباوته!!

وقل لي بربك، كيف يخرج الأستاذ نابغة في البلاغة وهو لا يكاد يبين؟ وكيف يصنع تلميذاً

ص: 34

يفخر به وهو يجهل البديهيات الأولية في العلم؟ ومتى استطاع مدرس أن يقرر أن قصص القرآن من الأساطير، أن يخرج تلميذاً له في العلم نصيب. .؟

هذا عن جهل المدرس، فإذا أخذنا ندون ما نعرف من إهمال بعض المدرسين وتهاونهم طال بنا القول، واستفاض الحديث، على أننا سنجتزئ بقليل من كثير مما نعرف، ومع ذلك فلسنا نسلم من الألسنة

هذا مدرس لا عمل له طوال العام الدراسي ألا أن يتحدث عن نفسه، فلا يلقى فرقة من الفرق ألا أسرف معها في التمدح بأخلاقه، والفخر بآثاره وأعماله، والحديث عن آبائه وأجداده حتى إذا بقي من الزمن خمس دقائق قال اسمعوا سنقول في العلم، ويمضي يتحدث عن العلم ولكنه لا يفتح باب العلم إلا ليدخل منه إلى الحديث نفسه. .

وهذا آخر تثقل عليه الدراسة، حتى أن كل يوم منها عنده مثل (سبت الكتاب) فهو يحاول جاهداً أن يميل بالطلاب عن طريق الجد، فلا يسمع نبأة إلا حدث بها، وتحدث عنها، وأطال الحديث، وهو يوحي بذلك إلى الطلاب أن دعوا العلم والعلماء فإن الوطن يناديكم، ومطالب الحياة تستصرخكم، وما فائدة الدرس إذا لم ينتفع منه الدارس؟ فإن لم يقل ذلك تصريحاً قاله تلميحاً، ولا عجب بعد ذلك إذا رأينا بعض الأساتذة يفرحون ويطربون حين يرون الطلاب منصرفين عن دروسهم، ويغتنمون أشد الغنم إذا رأوهم مقبلين على هذه الدروس.

وهكذا نجد ضروباً وأصنافاً وكلها تتلاقى عند نقطة واحدة، تتلاقى عند الإهمال الذي لا يليق بمن يأخذ على نفسه تبعة تربية النشء، ولسنا هنا نتحدث عما تبذره مثل هذه الأعمال في نفوس الناشئين من الأخلاق الذميمة، وإن كان ذلك عظيماً، ولكنا بصدد الحديث عن ضعف المتعلمين الذي كان من أكبر أسبابه ضعف بعض المعلمين، وإهمالهم وتهاونهم.

ولكن العجب كل العجب من الرؤساء الذين يعرفون كل ذلك، وما هو أدهى وأمر من ذلك، ولكنهم حين يملكون الغنيمة لا يوزعونها بالقسطاس المستقيم، ولا يقصدون بها الجادين العاملين، وإنما يقصدون المقربين منهم والملتفين حولهم، وجمهرة هؤلاء من الصف الأخير الذين يريدون أن يكونوا في الصف الأول بتقربهم من الرؤساء، والسير في ركابهم، ولذلك يكسل المجد، ويتهاون العامل، ويسكن المتحرك، وتخور عزيمة السباق، ولقد قر في

ص: 35

الأذهان - من طول ما لقي المجدون - أن الحظ لا يواتي النابه المخلص، وقديماً، قال المتنبي:

وما الجمع بين الماء والنار في يدي

بأيسر من أجمع الحظ والفهما

وقال بعض شعرائنا المحدثين، وقد أخطئه الحظ، في توزيع الدرجات الأخيرة،:

أين الكفاءة لا كفا

ءة غير ما يملي الهوى

والعلم والإخلاص والتـ

بريز دون المستوى

من رام ربّاً عندهم

فالجهل أعذب مرتوى

وإذا المحكم في مها

وي الرأي والظلم هوى

فشهادة الحرمان أعـ

دل يوم تختبر القوى

ولا سبيل إلى النهوض باللغة العربية، وبالتعليم على وجه العموم إلا إذا أخلص ولاة الأمور، وتنبهوا لما قدمنا لهم في مقالنا السابق، وفي هذا المقال من علل وأدواء، وعملوا - جاهدين مخلصين - على علاجها والقضاء عليها.

علي العماري المدرس بالأزهر

ص: 36

‌أُمي

للأستاذ فريد عين شوكة

لا تلمني على بكائي وغمي

أيُّ صبرٍ يُعين في فقد أمي

أي كنز فقدته في نواها

أي خُسر أصابني، أيُّ غُرم

أين مني حنانها يُسعد الرو

ح، وينفي عن خاطري كل هم؟

أين مني داؤها بركاتٍ

تتوالى من السماء، وتهْمي؟

أين مني سؤالها عن طعامي

وشرابي، وعن قيامي ونومي؟

أين مني حنينها للقائها

إن تغيبتُ ساعةً دون عِلمِ؟

أين مني وداعها في رحيلي

بالأماني التي تجدد عزمي؟

أين مني لقاؤها في إيابي

بالتهاليل، حين أهتف باسمي؟

وهي تسعى إليَّ دون اقتدار

بمحيّا كأنه بدرُ تِمِّ!

وعيونٍ تألّقَ البشر فيها

كائتلاق السَّنَى بأسطع نجم

وفَمٍ ينظم التهانيَ حمداً

أنني عُدتُ في أمانٍ وسَلْم

وتمدُّ اليمين منها فأُطفي

حرَّ قلبي المشوق في فيض لثمي

ذكرياتٌ في خاطري تتهادى

كحبيب الرُّؤى بأروع حُلم!

أين مني صدق الفداء، إذا ما

مسني في الحياة أيسرُ سُقم؟

تسهر الليلَ وهي حوليَ ولهى

تذرِف الدمع في خفاء وكتم!

فإذا ما انتبهتُ فهي تُلاقيـ

ني بوجهٍ مستبشرٍ غيرِ جهم

وتروي جوانحي بأمانيَّ

عذابٍ، تنفي ظنوني ووهمي

وتصومُ النهار عن كل زادٍ

غيرَ ما يمسك الذِّماء ويَحمي

ومُناها لو أنها تفتديني

بالذي يبتغي الفداء وترمي!

أين مني نفسٌ أسرُّ إليها

فرحتي، أو شكايتي من مُلِمِّ؟

فترى السعد في هنائي، وترجو

ليَ في النُّعْمَيات أوفر قسم

أو تسرِّي عني الهمومَ، فأرضى

بالذي كان من قضاء وحكم

ثم تمضي الأحداث، والسر خافٍ

فكأني ألقيتُه في خِضَمِّ

ص: 37

هيهِ يا أخوتي. . . ونحن جميعاً

في أسىً لافح اللَّظى مُدلَهِمِّ

كلُّنا في فجيعة الأم يطوي

جانبيه على سهامٍ وكلْم!

كلنا مُترعٌ بما غمرته

من رضاء ومن هناء وغنم

لم يكن بيننا أثيرٌ، ولكن

متساوون في الحنان الأعمِّ

وإذا آثرَتْ شقيقاً بعطفٍ

فلسقم، أو غربةٍ، أو عُدمِ

نظمَتْنا عِقداً، وكانت له الخيـ

ط، فلم يبدُ مرةً دون نَظم

لا يرانا الزمان إلا أحبَّا

َء، تلاقوا على ولاء ورُحم

شركاءً في السعد والبؤس، أعوا

ناً على العيش في نضال وحزم

كشديد البنيان كنا، وكانت

أمُّنا للبناء أثبتَ دعم

نبتغي عندها الرضاء، ونحيا

طوْع إرشادَها على غير رغم

يا إلهي! هوَتْ دعامتنا الكبـ

رى، فهل نستقر من غير هدم؟

يا إلهي! ندَّ القِراب عن السيـ

ف، فكيف احتماله دون ثَلْم؟

يا ذوي قربتي! عزاءً جميلاً

في مصاب دهى الظهور بقصم

قد حُرمتم نفساً أبرَّ وأحنى

من شقيق لكم وخالٍ وعم

كم أتيتم رحابها، فلقيتم

كرماً لا يزال كالبحر يَطمي

وحناناً من عندها وزكاةً

في خفاء وفي حياء وبسم

وتبثُّون ما بكم. . . فتلاقو

نَ لديها عوْناً على كل ظلم

ويحَ للجارة الوفية! تبكي

كلما أقبلت فلم تلقَ أمي!

فقدتْ بعدها الوداد المصفّى

والغياث المرجوَّ في كل أزْم

والفؤاد العَطوف يحنو ويأسو

إن رماها كفُّ الزمان بسهم

واللسانَ العفيف لا يلفظ السو

َء، ولا يتطيل يوماً بِشتم!

والحديث اللطيف يقطر كالشهـ

دِ، بريئاً من اغتياب وذمِّ!

يالها من فجيعة رزأتها

في سجايا عظيمةٍ أيَّ عُظم!

أيها الحزن! لا عدمتُك حتى

تسحق النار في أتونِك عظمي!

أيها الدمع! لا هجرتك حتى

يستوي في جوار أمي جسمي!

ص: 38

لا أُطيقُ الحياة بعد نواها

آهِ، يا ليت يومها كان يومي

يا عوادي الرَّدى فقدتُ رجائي

فهلمِّي خذي الحياة. . . هلمي!

(منوف) فريد عين شوكة

ص: 39

‌من وراء المنظار

زهرة وزهرة. . .!

جلست أنتظر في حجرة مدير المكتب حتى يأتي دوري فيؤذن لي بالدخول على كبير من أصحاب الديوان في إحدى الوزارات؛ وكانت الحجرة ملأى بالمنتظرين مثلي؛ وكلما رن الجرس وأسرع المدير إلى الحجرة المهيبة وخرج منها، تأهب كل امرئ يحسب أن الإذن له، فيشير المدير إلى من يعرف، وينادي اسم من لا يعرف، فيصلح الداخل حلته ويزرها ويعدل رباط رقبته، وقد ينزع طربوشه ويمسحه بمنديله أو بطرف ردنه، ويضعه على رأسه في اهتمام، ويدق الباب في احتشام، ويدخل ثم يخرج بعد حين وعلى وجهه غبَرَةٌ أو ابتسامة. . . وكان يقطع منظاري على هؤلاء، وأنا أحمد الله أن لم تكن بي حاجة إلى هذا الكبير، فما جئت لأقدم إليه (كتابي). . .

ودخل أكثر من بالحجرة وخرجوا، وبقيت سيدة على أحد المقاعد، حيث وقع نظري عليها منذ دخلت هذه الحجرة. . . سيدة هي الحزن نفسه تمثل إنسية في ثياب الحداد!. . .

كنت أنظر إلى وجهها الضارع فتغمز على قلبي وعلى كبدي هذه اللوعة الناطقة فيه، وكانت تدور طرحة سوداء بهذا الوجه، وهو في لون العاج المصفار، فتزيد بياض صفحته وتبرز معنى الثكل فيه. . . وكانت هذه السيدة الحزينة تنظر دائماً إلى الأرض، فلا تكاد ترفع بصرها حتى ترده إلى حيث كان في ضراعة وتخشع، وكم كان يحزن نفسي ما أراه من حمرة في جفونها كلما التقى بصري بعينيها الواسعتين الهادئتين، اللتين أطفأ الحزن والسقم ما كان فيهما من بريق!

وكانت هذه الزهرة الذابلة رائعة الحسن على الرغم من لوعتها وضراعتها، تروعك ملامح وجهها بقدر ما يروعك حزنها. . . وهكذا جعل الحزن روعتها روعتين، وجعل ما يحسه القلب حيالها من لوعة كأنما يذوقها مرتين!

وكانت شابة لا تزيد على الثلاثين فيما أحسب، وفهمت أنها أرملة كبير من أصحاب هذا الديوان، فعجبت كيف يدعها موظفو المكتب حيث هي فلا يعينونها على ما جاءت له من أمر، ولو لم يكن زوجها من أصحاب هذا الديوان من قبل، لكان لها من هذا الحزن الضارع أكبر شفيع. . . بل لكان لها من مجيئها ولم تخلع ثوب الحداد بعد، ما هو خليق أن يلين لها

ص: 40

القلوب ولو كانت من الصخر. . .

ولكن. . . فيم العجب، ولو أن زوجها نفسه أحيل على المعاش، كما يقول أصحاب الديوان، وجاء بعد يوم واحد إلى نفس الديوان، لتنكر له من كانوا من قبل يرجون مودته، ولحياه من يحييه، وكأنما يريد أن يفهمه أنه يتفضل عليه بهذه التحية، فكيف وقد طواه الموت؟!

بهذا حدثتني نفسي وأنا أنظر إلى هذه التي يغطي السواد جسدها كلها، فلا يُرى إلا وجهها ويداها، والتي كنت أتخيل أن ما يطرأ على خاطري من هذه المعاني هو عين ما كان يطرأ على خاطرها في تلك اللحظة. . .

ودخلت بعد حين غانية أخرى في زينتها ودلها وألوانها، تخطو خطوات رشيقة سريعة وتتثنى وتتخلج كأنما تمشي لا برجليها وحدهما، وإنما بهيكلها كله، وقد فاح في الحجرة عطورها، وارتفع بالتحية صوتها، وهي تقول إنها تريد أن تقابل سعادة البك. . .

. . . وجلست هذه الزهرة الناضرة، وقد هش لها مدير المكتب، وأقبل عليها يحدثها حتى ما كان يعي تحيات القادمين ولا نداء الموظفين، ولا يفطن إلى ما يلقونه إليه من أوراق!. . . حتى الجرس نفسه - جرس الرئيس المهيب - كان يتوانى في إجابته، ثم يهرول ليعود بعد لحظة يصور لمحدثه مبلغ ما لدى رئيسه من أوراق ينظر فيها، وذلك كي يجعل له عليها فضل الحصول لها على الإذن. . .

ودخل الحجرة بعض الخبثاء من الموظفين يتظاهرون أنهم قدموا لعمل. . . فكانت تناديهم بأسمائهم فيسرعون إليها فتسأل الواحد منهم عما تم في مسألتها. . . فيحدثها في تظرف واهتمام، ويصف لها مقدار ما يبذل من جهد وعناية في هذا الأمر، وهي تخرج الكلام من فمها تارة ومن أنفها تارة، ولا تكاد تستقر في موضعها وتهددهم ضاحكة أنها سوف تشكوهم إلى سعادة البك وأنهم ليؤكدون لها في ميوعة وخبث أنهم (في الخدمة)، وأن (الهانم) لن تعود بعد يومين إلا وقد انتهى كل شئ. . . وتنظر إلى هذا فتقول: يا لئيم! وإلى ذاك فتقول: يا نصاب! وإلى ثالثهم فتقول: يا مكير! وتغمز بعينيها وتضحك. . . ويتكلمون بالإحداق، أو يتغامزون بالأيدي، وينصرفون ليقولوا خارج الحجرة ما يشاءون!

وتنظر المحزونة إليها فيتضاعف حزنها، وإن صاحب القلب المحزون ليعرف أقصى حزنه حين يجد نفسه وحده بين قوم لاهين ضاحكين! وأنظر إلى هذه الثكلى لا يعنى بها أحد، ولا

ص: 41

يفكر في أمرها أحد، فتشمئز نفسي من لؤم هذه الحياة!

ورن الجرس، فخف المدير إلى حجرة رئيسه، ثم عاد يشير إلى صاحبته لتدخل، ومشت إلى الباب في خفة كأنما تريد أن تجري، ورائحة عطرها تملأ الخياشيم. . . ونظرت إلى تلك الزهرة التي لا يفوح منها عطر، فإذا حمرة تورّد هذا العاج المصفار في وجهتها هي حمرة الغضب، وإذا بجفونها المقروحة تتندى، وإذا بها تمسك دموعها في جهد!

وتمشي إلى مكتب المدير في أناة وخشوع، وتقول له في صوت مختنق متهدج. . . إنها تعتذر إذ لا تستطيع البقاء، فما يزيد على أن يقول لها في سماجة:(على كيفك يا ستي. . . الناس لسه منتظرين كلهم أهم. . . وأنا أعمل إيه؟)

وانصرفت المسكينة فما بلغت الباب حتى انهمرت دموعها، فمسحت عينيها بمنديلها، وما في الحجرة ممن ينتظرون الإذن إلا من تحرك قلبه شفقة عليها ورثاء لها!

ولا أريد أن أذكر للقارئ متى جاء دوري أنا (المؤلف الفاضل)، أحد حملة القلم المتواضعين الذي ما جئت أرجو في شئ، والذي يعرفني منذ سنوات هذا الكبير الذي لا تخلو من أمثاله وأمثال مديره أكثر الدواوين!

الخفيف

ص: 42

‌تعقيبات

بأية حال عدت يا عيد؟!

خرج شاعر العربية أبو الطيب المتنبي من مصر هارباً في سبيل آماله، فأتى عليه عيد الأضحى وهو شريد في الصحراء، تملأ نفسه الوحشة ويستبد به الحنين، فثارت شاعريته بتلك الصرخة الأليمة الخالدة:

عيد! بأية حال عدت يا عيد

بما مضى أم بأمر فيك تجديد؟!

واليوم، يأتي علينا عيد الضحية، ونحن في حال الشاعر الكبير، نشيدنا هو تلك الصرخة الأليمة التي هتف بها في أذن الزمن من قديم، فكلنا ضحية للمرض الغائل، والوهم القاتل، والهم الجاثم، وكلنا غريب تملأ نفسه الوحشة والفرقة ينشد قول أبي الطيب:

عيد بأية حال عدت يا عيد. .

إن الأمر لله من قبل ومن بعد، فيا بارئ الناس غوثك ورحمتك بالناس. . فاللهم اكشف الضر عن عبادك أجمعين، وارفع الشر عن جندك المسلمين، وأدرك بعنايتك الفياضة هذه الأمة الضارعة إليك فيعود عليها هذا العيد بالخير العام، والسرور والسلام. .

أدب. . الكوليرا:

في عام 1902 هجم وباء الكوليرا على مصر هجوماً عنيفاً فملأ نفوس الناس بالفزع، وملأ عواطف الشعراء بالتأثر، ففاضت قرائحهم بالقصائد في التنديد على ذلك الوافد الثقيل، وتطمين الخواطر للأقدار الجارية، مما لو جمع لكان ديواناً يمكن أن يسمى (ديوان الكوليرا).

أذكر من ذلك قصيدة للمرحوم الشاعر أحمد محرم تصور حال ذلك الوباء في تلك الأيام وشدة تأثيره على نفوس الناس، ويقول في مطلعها:

ضيف ولكن لا أقول سلام

ولرب ضيف ذم منه مقام

ريعت لطلعتك القلوب وهالها

هذا التوثب منك والإقدام

تسطو على سرب النفوس وإنما يسطو على سرب الحياة حمام

وتصول ما يثنيك عن آجالها

عذل تؤجج نارة وملام

لو كنت ذا قلب يرق لنادب

أمنت بلاءك هذه الأقوام

ص: 43

الله في أرواحها ونفوسها

إن كانت التقوى لديك تُرام

أوقدتها حرباً يشب ضرامها

فمتى يغيث الناس منك سلام

شر الضيوف ولا أخالك غيره

ضيف له نفس المضيف طعام

ثم يصف الشاعر موقفه في هذه الغمرة فيقول:

أتظن أن الخوف يملك منطقي؟

نظم القريض إذن علي حرام!

أم أنت تطمع أن يدين لحادث

قلم تدين لربه الأقلام؟

أسطو عليك به وأعلم أنه

قدر تطيش لهوله الأحلام

كف الوعيد فإن أنفاس الفتى

معدودة وكذلك الأيام

ولكل نفس مدة محدودة

ولكل شئ غاية وتمام

ثم يقول:

يا ضيفنا المكروه يومك بيننا

شهر وشهرك إن تقاصر عام

أنى حللت من المدائن والقرى

حل البلاء وزادت الآلام

يا ضيفنا لو لم تكن قذراً لما

ضربت على الأقذار منك خيام

إن اغتيالك ذا الخصاصة بيننا

عيب يجانبه الكريم وذام

أم الغني تخاف ويحك أم ترى

أن الغني من حقه الإعظام

وأخيراً يختم قصيدته بهذا البيت:

سر أو أقم إن المنون روائح

وبواكر ومن المحال دوام

والقصيدة طويلة، وقد اقتصرت منها على هذه النماذج ولو كان في المقام سعة لأوردت كثيراً من النماذج من قصائد الشعراء في التنديد بذلك الوباء ووصف نكبة الشعب في تلك الأيام

وفي هذه الآونة يهجم وباء الكوليرا على مصر، ويفعل أفاعيله بأرواحهم، وفي نفوسهم، وتتحرك الدنيا كلها لهول الخطب، ولكن أحداً من شعرائنا لم يتحرك أبداً، ولم يثر هذا في نفسه عاطفة الشعر كما تثيره حادثة غرام، أو ليلة وصل، أو هجر غانية تبيع قلبها وجسمها في كل سوق، أو صورة مبتذلة في مجلة ماجنة. . .

ألا رحمة الله، ثم رحمة الله، على شعرائنا الذين كان الشعب يجد نفسه في عواطفهم وفي

ص: 44

قصائدهم، ورحمة الله لشعراء هذه الأيام، شعراء القبلة الأولى، والليلة الحمراء. . .

الرسائل في الأدب العربي:

نشر الأديب أحمد محمد عيش في العدد الأخير من مجلة (الكاتب المصري) بعض الرسائل الأدبية التي تبادلها مع الشاعر العراقي الكبير المرحوم الأستاذ جميل صدقي الزهاوي، وقدم الأديب لذلك بمقدمة قال فيها:

(. . . هذا لون من ألوان الأدب الجديد - أدب الرسائل - استحدثناه، أو بعبارة أخرى نبشنا دفائنه وأحيينا مواته، ذلك لأن اللغة العربية لم تحظ بهذا اللون الجميل، اللهم إلا في النادر القليل، بعكس اللغات الأجنبية، فأنها مشحونة بهذا الضرب الرفيع بنماذجه الرائعة وأنماطه العذاب. . .).

ومسكين والله هذا الأدب العربي، كأن الله كتب عليه في هذه الآونة أن يكون هدفاً للدعوى من كل فارغ الرأس، ومقصداً للاتهام من كل جاهل، وأنا لا أحسب أن في نفوس هؤلاء الشبان ضغينة على الأدب العربي، ولكنهم العلة أنهم يحسبون أن الأدب العربي هو ما يقرؤونه في الصحف والمجلات، وما يدرسونه من النماذج الجامدة البالية في مقررات المدارس، فإذا ضممت إلى ذلك دعوى عريضة تمتلئ بها الرءوس الفارغة، وتلتوي بها الألسن المعوجة، وقفت من وراء ذلك على أصل العلة وموطن الداء. . . وإنه لداء تفشى بين شبان العصر، فليس أسهل على الواحد منهم من أن يحمل القلم، ويتنفخ بالدعوى العريضة، ويمد أنامله فيخط كلمات رشيقة رقيقة يطمس بها تاريخ الأدب العربي من بدايته إلى نهايته، وينكر أن يكون هذا الأدب أدباً. . .

عشت يا سيد عيش. . . (تستحدث في الأدب العربي) ما ليس فيه من (النماذج الرائعة والأنماط العذاب)، ولكن صدقني أيها الأخ أن الأدب العربي حافل بالرسائل التي من هذا اللون، بل إن الأدب العربي يمكن أن يسمى أدب الرسائل والمحاضرات والمطارحات، بل إن المؤلفات الأدبية والعلمية لم تكن إلا رسائل يقدمها أصحابها إلى الأصدقاء، أو يرفعونها إلى الرؤساء، وأنا على استعداد أن أضع يدك - إذا أردت - على ألف رسالة ورسالة من ذلك اللون الذي تريده في حديث الكتاب عن أنفسهم وعن صلتهم بالناس والحياة، ولكني أعتقد أنك لا تريد هذا أبداً حتى تظل على الاعتقاد بأنك قد (استحدثت) هذا اللون من

ص: 45

الأدب في الأدب العربي.

قد يكون للأديب (عيش) عذره فيما يقول، ولكن ما عذر أستاذنا الدكتور طه حسين الذي يشرف على تحرير (الكاتب المصري) في أن يحمل هذا الفضول على الأدب العربي. . . فإن كان الدكتور يرى هذا ويعتقده فإنني على استعداد لمناقشته في هذا الرأي. . .

(الجاحظ)

ص: 46

‌الأدب والفن في أسبوع

احتفاء صامت:

هو الاحتفاء بذكرى شوقي، ولم نفرغ بعد من هذه الذكرى، وما ينبغي أن نفرغ منها إلا بعد كثير. . وأعني بصمت الاحتفاء بها أنه جرى على الأقلام وبدا على صفحات الصحف والمجلات على نطاق واسع وفي منظر لم يكن معهوداً من قبل، على حين لم يقم لهذه الذكرى ما يناسبها من المحافل

لم بخل أكثر الصحف والمجلات في هذا الأسبوع من ذكر شوقي، كل

على طريقتها وحسب مزاج قرائها، فهذه فصول في دراسة شعر شوقي

من نواحيه المختلفة، وهذه معلومات وطرائف عن شوقي (لم تنشر)

وهذه روائع من شعره، وهذه صور لمنزل شوقي (كرمة ابن هانئ)

وغرفه وأبهائه وحديقته وأثاثه، فهذا سرير شوقي، وهذا مكتبه، وعلى

ذلك الكرسي الطويل كان يتمدد بعد الغداء، وكثيراً ما كان يهبط عليه

وحي الشعر على هذه الحال، وفي هذا الكوب كان يشرب، وهنا كتبه

المختارة وعلى هامش صفحاتها أبيات كانت تواتيه فيسرع في تدوينها

على أقرب شئ منه. وقد استصحبت عدسة (المصور) إلى كرمة ابن

هانئ الأستاذ أحمد رامي الذي وصفته بأنه شاعر الشباب في دولة

أمير الشعراء. وهو الآن بعد تلك الدولة (شاعر شباب القرن التاسع

عشر) وذلك ليدلها على معالم هناك تعاهدها في صحبة أمير الشعراء،

فأتى لها بطائفة من الصور ذات الموضوع.

وصف شوقي للكوليرا:

وهكذا افتنت صحفنا في الاحتفاء بذكرى شوقي، حتى أن إحداها، وهي مجلة الصباح، أتت

ص: 47

بأبيات في وصف وباء الكوليرا الذي كان بمصر سنة 1902 من قصيدة لشوقي يهنئ فيها الخديوي عباس بعودته من الخارج ويصف ذلك الوباء، قال شوقي:

الدهر جاءك باسط الأعذار

فاقبل فأمر الدهر للأقدار

هل كنت تدفع حاضراً أو غائباً

عن مصر حكم الواحد القهار

ذاقت نواك وروعت بثلاثة

بالداء بعد المحل بعد النار

ودهى الرعية ما دهى فتساءلوا

في كل ناد أين رب الدار

ذكروك والتفتوا لعلك مسعد

ذكر الصغير أباه في الأخطار

فأسى جراحهو وبل صداهمو

طيب الرسائل منك والأخبار

لهفى على مهج غوال غالها

خافي الدبيب محجب الأظفار

خمسون ألفاً في المدائن صادهم

شرك الردى في ليلة ونهار

ذهبوا فليت ذهابهم لعظيمة

مرموقة في العصر أو لفخار

فالموت عند ظلال (موشا) رائع

كالموت في ظل القنا الخطار

خلفاء شوقي:

وكتب الأستاذ سعيد العريان في جريدة النداء فصلاً بعنوان (خلفاء شوقي) بين فيه آثار حملات النقد التي وجهت إلى شعر شوقي فقال في هذه الحملات: (قد تركت أثراً في نفوس الشباب من القراء لذلك العهد، فنزل شوقي عند طائفة منهم دون منزلته، إذ زعم لهم من زعم أن للشعر مقاييس وأوزاناً فنية لا يقاس بها شعر شوقي ولا يوزن) إلى أن قال:

(وهكذا نشأ جيل من القراء لا يؤمن بشوقي ولا يعتده شاعراً من طبقة الأمراء، أو لعلي أستطيع أن أقول أن جيلاً من القراء قد نشأ غير مؤمن بالشعر في جملته، لأن الذين حطموا التمثال الجميل الذي كان هؤلاء القراء يتعبدون له - لم يستطيعوا أن يقيموا مكانه تمثالاً آخر قد جمع من عناصر الجمال والقوة على مقياسهم ما يحملهم على الإيمان به، إذ لم يبق في مكان التمثال المحطم إلا أشلاؤه المتناثرة)

والحق - الذي أراه - أن النقد الذي وجه إلى شوقي لو نفضنا عنه الغبار لوجدنا فيه كثيراً من العناصر الصالحة التي نبهت على كثير من الحقائق الأدبية التي انتفع بها الشعر العربي والأدب على العموم في هذا العصر

ص: 48

ومن الحق أيضاً أنه (لم يبق في مكان التمثال المحطم إلا أشلاؤه المتناثرة) فلم يملأ أحد مكان شوقي. وما ذلك - كما أرى - إلا لأن الذين ساروا في مذهبه تنقصهم أدواته، كما ينقصهم عصره، فقد صرنا إلى عصر غيره يتطلب جديداً، والفلك دوار. . ولأن الذي سلكوا غير مسلكه ينقص المجيد منهم الماء الذي يجعل العود أخضر. . . وكثيراً منهم يخبطون ويعتسفون.

الفن القصصي في القرآن:

كان لما بيناه من أمر رسالة (الفن القصصي في القرآن) التي قدمها الأستاذ محمد أحمد خلف الله للحصول على الدكتوراه من كلية الآداب - صدى كبير وخاصة في البيئات الدينية الإسلامية، لاحتوائها على ما يعد نفياً للصدق التاريخي في القرآن الكريم. وقد تلقينا كثيراً من الرسائل في هذا الموضوع، منها رسالة من (جبهة علماء الأزهر) مصحوبة بمذكرة مرفوعة إلى (حضرة صاحب الجلالة الملك ورجال دولته الأكرمين) وقد وقع عليها رئيس الجبهة الشيخ محمد الشربيني والأمين العام لها الشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني، وقد جاء في هذه المذكرة (ولقد مضى على نشر هذا النبأ وقت يسمح بتكذيبه لو كان كاذباً، لكن أحداً لم يكذبه، لا المؤلف ولا المشرف عليه، ولا عمادة كلية الآداب التي جاء في الخبر أنها تنتظر بالرسالة حتى ينعقد مجلس الكلية؛ وذلك يدلنا على أن الأمر خطير يجب الإسراع بعلاجه لأنه وباء جديد أشد فتكاً وأفظع أثراً من وباء الكوليرا في هذه الأيام فإنه يجني على الأرواح لا على الأشباح ويصيب الأمة في دينها وهو أعز عليها من حياتها)

وقد أرسل مقدم الرسالة إلى صحيفة (الإخوان المسلمون) يقول إنه مستعد لأن يشعل النار بيديه في رسالته على مشهد من الأساتذة والطلاب إن ثبت أن فيها ما يخالف الدين الذي استمدت أصوله من القرآن، ومستعد لمساجلة الأستاذ أحمد أمين بك على صفحات مجلة الرسالة التي نشرت تقريره. ولكن الإخوان عقبت على ذلك بقولها:(إذا ثبت أن ما نقل من فقرات عن رسالة (الفن القصصي في القرآن الكريم) قد ورد فيها كما نقل، فلا يكفي أن يحرقها مؤلفها بيديه أو بيدي غيره على مرأى ومشهد الأساتذة والطلاب، بل لابد أولاً أن يعلن رجوعه إلى الإسلام، وأن يحدد عقد نكاحه على زوجته إن كان متزوجاً) وقالت له إن حرق الرسالة لا ينفع (بل يجب قبل ذلك أن تحرق الشيطان الذي ملأ نفسك بهذا الهذيان

ص: 49

وأملاه عليك فإذا أحرقت هذا الشيطان فاعتزل كلية الآداب ودكتوراها والزم غرفة تنزوي فيها وتبكي على ما انخدعت به للشيطان وحزبه إلى أن يتوب الله عليك)

وقال لي صديق من الجامعة قد جاء في الحديث ذكر هذا الموضوع: - لقد فاتتكم نقطة هي أن الجامعة أرسلت من قبل كتاباً إلى خلف الله تقول فيه أنها موافقة على أن يعد رسالة في (الفن القصصي في القرآن) وألق بالك إلى كلمة (الفن) أفلا ترى في ذلك كأنها تكلفه أن يقول إن قصص القرآن (فن)؟

قلت للصديق الجامعي: ما كان أغنى الجامعة عن هذا الموضوع!. .

كوليرا الإذاعة:

رأيت غير مرة في برنامج الإذاعة ما يلي:

(برنامج خاص (الكوليرا) وانتظرت في المواعيد المحددة فلم أسمع (الكوليرا) وكانت آخر مرة مساء يوم الخميس الساعة الثامنة إلا ثلثاً، وقد سمعت بدلاً من (الكوليرا) تمثيلية (عذراء الربيع) وليس من القليل أن تقرأ في البرنامج شيئاً وتسمع من المذياع غيره! ولكن استرعى انتباهي تكرر وضع (البرنامج الخاص بالكوليرا) في برنامج الإذاعة مع عدم إذاعته وشغل وقته بأي شئ ولو (تقاسيم نهاوند)

فماذا يا ترى يمنع من إذاعة برنامج الكوليرا؟

دفعت هذا السؤال الأمامي. . . حتى وصلت إلى أن برنامج الكوليرا المذكور في (الحجر الصحي) ولوقوعه في هذا الحجر قصة:

وضع ذلك البرنامج الأديب المفتَن الأستاذ طاهر أبو فاشا وقدمه إلى محطة الإذاعة فأحالته إلى وزارة الصحة للموافقة على إذاعته، فقالت وزارة الصحة لابد أن يعتمده طبيب. . . وأخذه الأستاذ طاهر إلى أحد الأطباء، فأقره، وأعيد البرنامج إلى وزارة الصحة، فوافقت عليه، ثم تصرف في تنظيم عرضه مخرج الإذاعة، وأُعلن عنه، فطلبته وزارة الصحة ثم قالت ليس هذا هو البرنامج الذي أقره الطبيب، ولا يذاع إلا الأول. مع أن المعلومات الطبية هي هي في البرنامج قبل الإخراج وبعده.

قصة طويلة مملة رغم اجتهادي في اختصارها، ولا أدري ماذا تم فيها، ولكن مما يدعو إلى الأسف أن يحال دون الانتفاع بالفن، أو يؤخر، في بلاء واقع يشغل بال الجميع هو وباء

ص: 50

الكوليرا

والأكثر من ذلك استدعاء للأسف، هو تثبيط همم الأدباء الذين يرجى أن يقبلوا على الإنتاج للإذاعة، وحسبهم ما يلاقون من إدارة الإذاعة نفسها من سوء التقدير الأدبي والمادي، فالأديب الذي يضع عصارة نفسه وفكره فيما يقدم للإذاعة يعد لديها شخصاً ثانوياً بالنسبة للمخرج الذي قد لا يزيد عمله على الترتيب الشكلي، وإن زاد فلا يتعدى بعض التبديل والتغيير، فيهتف المذيع باسم المخرج في البلاء قائلاً:(فلان يقدم. . .) ثم يجبر خاطر المؤلف المسكين فيذكر بعد ذلك اسمه في صوت خافت

ولا أنكر أن كثيراً من المؤلفين للإذاعة جديرون بهذا الوضع. . وخاصة مؤلفي الأغاني التي يشكو الجميع من ضعفها وسخفها، ولكن يجب تهيئة الجو الصالح لكرام الأدباء، لأن الاستمرار على مثل هذه المعاملة يزيد في إعراضهم عن الإذاعة

أما التقدير المادي فحسبك أن تعلم من سوئه أن مؤلف التمثيلية أو البرنامج الخاص لا يزيد أجره على ثمانية جنيهات، وتصور كم قضى الأديب، وكم بذل من جهد، وكم استوحى مصادر فنه، في هذا النتاج؟ وقد يكون هذا مقبولاً وقد يطلب من الأدباء ألا ينظروا إلى الكسب المادي لولا أن محطة الإذاعة تغدق المال من جانب آخر على الموسيقيين والمطربين والمطربات فقد حسب ما يكسبه أحد الموسيقيين من الإذاعة فبلغ نحو أربعمائة جنيه في الشهر، وكيف يصح أن تقول أم كلثوم لمحطة الإذاعة:(أذنت لك في إذاعة ما لديك من مسجلاتي) فتنال على هذه الجملة آلافاً من الجنيهات. . ويبذل أديب نابغ كطاهر أبو فاشا ما يبذل في نتاج قيم، وتحقي قدماء بين محطة الإذاعة وبين وزارة الصحة، ليحصل على ثمانية جنيهات. .!

ليست آلاف الجنيهات كثيرة على أم كلثوم التي تهدي الطرب إلى القلوب. . . ولكنها جاءت في طريق المقابلة الذي دفعنا إليه سوء تقدير الأدباء بمحطة الإذاعة، الذي يحيق ضرره بها، من حيث قيمة ما تقدمه، أكثر مما يحيق بالأدباء، لأنهم يستطيعون أن يعتصموا بالرغبة عن الإذاعة للوقاية من تحيفها لهم.

مخطوطات أندلسية:

تلقت الإدارة الثقافية بالجامعة العربية من وزير أسبانيا المفوض في مصر ستة كتب من

ص: 51

المخطوطات العربية مصورة، هدية من مكتبة (الاسكريال) الأسبانية، وهي:

1 -

جزء من مسائل لصفي الدين الحلي (في الأغلاط الشائعة على الألسن) يبدأ بحرف (س)

2 -

(إصلاح المنطق) لابن السكيت.

3 -

(رسائل في المنطق والفلسفة والطب) لابن سينا.

4 -

ديوان أبي الحسن الششتري

5 -

من تراسيل ابن نباتة

6 -

الكامل للمبرد

وقد كان لهذه الهدية موقع حسن في قسم المخطوطات بالإدارة الثقافية بالجامعة العربية، لأنه يهتم بجميع المخطوطات العربية الثمينة المبعثرة في مكتبات الدول الأوربية أو على الأقل الاحتفاظ بصور لها.

وقد جاءت هذه الهدية الثمينة نتيجة لمسعى السنيور جارسيا جومز المستشرق الأسباني الذي قدم إلى مصر في العام الماضي وزار الأمانة العامة لجامعة الدول العربية، فتباحث معه الأستاذ أحمد أمين بك مدير الإدارة الثقافية في مسألة تصوير المخطوطات العربية الموجودة في أسبانيا، ورحاه حث الهيئات الثقافية في أسبانيا على مد الجامعة العربية بنسخ مصورة من هذه المخطوطات فأبدى المستشرق الأسباني روحاً طيباً ووعد بالاتصال بالهيئات الأسبانية المختصة.

(العباس)

ص: 52

‌البريد الأدبي

كرنكو وفعلاء والأدب انستاس:

أشرت في كلمتي (فعلاء) في الرسالة الغراء (745) إلى تخطئة الأستاذ كرنكو الأب انستاس في وصفه الجمع بذلك المفرد وقد رأيت أن أنقل تغليط المغلط وجواب المخطأ.

قال الأستاذ فريتس كرنكو: في مطالعتي مجلتكم (لغة العرب) بعض الأحيان تستعملون مفرد أفعل المؤنث أي فعلاء في مكان الجمع كما يفعل كتاب مصر، فقد جاء في لغة العرب (252: 6) الأشجار الخضراء في مكان الأشجار الخضر.

فرد عليه الأب انستاس ماري الكرملي قائلاً: (من مزايا لغتنا وصف المنعوت المجموع من غير العاقل بصفة مفردة مؤنثة ومنه في سورة الحاقة: قطوفها داينة أي دانيات. وقوله في الأيام الخالية أي الخاليات وفي سورة البقرة: إن تبدو الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم وهذا لا يحصى لغة العرب مج6 ص782)

وتخطئة الأستاذ كرنكو هي قول مفلت مجرد، ولا يعبأ بشيء في مثل هذه المعاني لا يصحبه نص يبرهن به عليه أو دليل قوي أو ضعيف.

وقد توهم فاضل كبير درج أن قول سيبويه وقول المبرد يؤيدان المقالة الكرنكوية فكان يحتج بهما في ردوده الكثيرة على مجادليه ومناظريه. والقولان - كما رأى قراء الرسالة - إنما يشرحان ويقرران أن أفعل وفعلاء يجمعان يكسران - إذا كانا صفتين - على فعل.

من المتقدمين الذين إذا وصفوا الجمع بمفرد الشاعر الأبيوردي قال في مرثية (الديوان ص8).

ولو أستطيل على الحمام بعزة

رفعت لها اليزنية السمراء

لتحدبت صيد الملوك على القنا

حيث القلوب تطيرها الهيجاء

والأبيوردي الأموي شاعر كبير وعالم نحرير، قال ابن خلكان كان من الأدباء المشاهير راوية نسابة شاعراً، نقل عنه الإثبات الحفاظ الثقات، قال أبو الفضل محمد بن طاهر المقدسي في حقه (في كتابه في الأنساب) كان أوحد زمانه في علوم عديدة، وأليق ما وصف به بيت أبي العلاء (وإني وإن كنت) قال ابن خلكان: وله تصانيف كثيرة مفيدة وله في اللغة مصنفات كثيرة لم يسبق إلى مثلها.

ص: 53

السهمي

حول الفن القصصي في القرآن الكريم:

(إلى الأستاذ محمد أحمد خلف الله)

سلام الله عليك وبعد، لقد طلبت المشاركة في البحث، وقدرت منذ اللحظة الأولى أنه من الجائز أن تكون أخطأت القصد أو ضللت السبيل، وهذه روح تذكر فتشكر وسأذكر لك ما أذكر مجادلاً بالتي هي أحسن.

وسأضع يدك أول الأمر على تناقض في مقالك؛ فإنك قد عنيت في أوله ببيان أن الأسطورة ليست الكذب والمين ولا الخرافات والأوهام، وإنه يجب ألا تزعجنا هذه اللفظة فنجري وراء الخيال ونعتقد أنها الأكذوبة أو الخرافة.

وأنت تريد بذلك طبعاً أن أساطير القرآن الكريم ليست كذباً ولا خرافة وإنما هي صدق وحق، فما رأيك في قولك:

(إن تمسكنا بالرأي الذي يقول: إن جسم القصة أو هيكل الحكاية حق ثابت، بعد أن ثبت لدى العلماء الدارسين أنها من الأساطير أمر بعرض القرآن لشر مستطير) فأنت بالمقابلة بين الأساطير والحق الثابت أردت بها غيره وما هو إلا الكذب والمين وبذلك وقع التناقض بين أول المقال وآخره.

بعد هذا أنتقل بك أيها الأخ إلى تفرقتك بين جسم القصة أو هيكل الحكاية وبين ما فيها من توجيه فأقول لك: إن صح هذا من الأفراد الذين يعن لهم المعنى فيريدون إيضاحه وبيانه فيتجسمونه ويمثلونه ويضعون له الأشخاص والحوار والأصباغ كما في قصة الأستاذ الخفيف التالية لمقالك (ذات صباح) - فلن يصح في قصص القرآن؛ إذ ليس فيه فاصل بين جسم القصة وتوجيهها، بل هما توأمان؛ ونحن نفهم في قصة الأستاذ الخفيف أن (بهيجة) شخصية خيالية للفتاة التي يضحي بها أهلها حين يزوجونها ممن يحبون وتكره؛ ولكنا لا نفهم في قصة يوسف عليه السلام أنه وامرأة العزيز شخصان خيالين رمز بالأول للعفة وبالثاني للاستهتار.

فالحوادث والأشخاص في القرآن الكريم ليسا رضعاً ولا خيالاً وإنما هما حق ثابت ولو كان

ص: 54

هناك شك فيهما ما خفي مئات السنين حتى ظهر الآن للعلماء الدارسين!!

وما كنت أحب أيها الأخ أن تقتضب كلام الإمام الجليل الفخر الرازي حين تستشهد بتفسيره فتكون كمن قال. . . لا تقربوا الصلاة وسكت. هلا ذكرت لنا - رحمك الله - قوله يفسر الأمور الأخرى:

(وثالثها) أنه صلى املله عليه وسلم لما ذكر قصص الأولين من غير تحريف ولا تغيير مع أنه لم يتعلم ولم يتلمذ دل ذلك على أنه بوحي من الله نهالى.

وهلا تأملت في قول الإمام الجليل من غير تحريف ولا تغيير وعلمت أنه يقصد جسم القصة وهيكل الحكاية وهو بذلك يرى رأي المسلمين قاطبة؟!

وأخيراً، لعلك أيها الأخ قصدت حين فرقت بين جسم القصة وما فيها من توجيه أن لا تكتفي برد عادية الملاحدة والمستشرقين عن القرآن الكريم بل بإقناعهم ليدخلوا في دين الله أفواجاً حين تبدد شبههم بهذا التخريج الجميل!!

هلا أدركت - عافاك الله - أنك تضم نصلاً إلى حرابهم حين تجعل القرآن عضين؟! كفاك الله شر المقتسمين، واعلم أن الملاحدة والمستشرقين مع القرآن الكريم:

كناطح صخرة يوماً ليوهنها

فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل

وأنك مهما بشرت لهم فلن يؤمنوا لك حتى تتبع ملتهم وما أظنك من الفاعلين. وسلام الله عليك.

إتياي البارود محمد علم الدين مفتش المعارف

بين الأزهر والجامعة:

أرسل صاحب الفضيلة السكرتير العام للجامع الأزهر والمعاهد الدينية كتاباً (رسمياً) إلى سعادة عميد كلية الآداب يسأل فيه عما تم في مسألة القصص الفني في القرآن: ويقول فيه:

(وإنه ليهمني أن أقف على حقيقة هذا الموضوع لأن من أخطر الأمور أن تتعرض قداسة القرآن، وكرامة العقائد لمثل هذه التخرصات).

ص: 55

‌القصص

قصة من الأدب الروسي:

حبة من القمح كبيضة الدجاج!

للفيلسوف الروسي ليو تولستوي

بقل الأستاذ مصطفى جميل مرسي

بينما الصبية في لهوهم يعبثون ذات يوم. . . عثر أحدهم في ثلمة في الأرض على شئ عجيب فيه مشابه من حبة القمح. . بيد أنه كبير في حجمه حتى كاد أن يداني بيضة الدجاجة!!.

ومر بهم - وقد استخفهم المرح وتملكهم الفرح بلقيتهم - مسافر من جوّابي البقاع. . فلما أبصر ذلك الشيء بين أناملهم، عوضهم عنه بفلس وحمله معه إلى المدينة. . حيث باعه للملك بمال كثير كعجيبة من العجائب التي تمخض عنها الزمن. . .

فدعا الملك إلى مجلسه أهل العلم وأولي الحكمة وأرادهم أن يأتوه بحقيقة ذلك الشيء. . . فانثنى العلماء إلى كتبهم يتفحصونها، وانقلب الحكماء إلى عقولهم يستحثونها. ولكنهم لم يحيروا لهذا الشيء معرفة لماهيته وإدراكاً لحقيقته!. . حتى كان اليوم الذي طارت فيه دجاجة إلى عتبة النافذة حيث ترك ذلك الشيء العجيب عليها. . فراحت تضرب فيه بمنقارها حتى خلفت ثقباً في جانب منه!. ويومها أدرك العلماء أن ذلك الشيء ليس إلا حبة من القمح!.

فلما حملوا إلى الملك ذلك النبأ. . اشتدت حيرته وتزايد عجبه وأمرهم بالبحث في أي يحن من الزمن وفي أي بقعة من الأرض. كان الناس يزرعون مثل هذا القمح!

فعاد العلماء إلى كتبهم يقلبونها وانثنى أهل الحكمة إلى عقولهم يتروون من جديد. . ولكنهم باءوا بمثل ما كان نصيبهم في المرة الأولى!. فذهب إلى الملك وفد منهم. . وقال له:

- ليس في قدرتنا الإجابة على ما تطلبه مولانا.! فما حوت كتبنا نبأ عنه. . ولا انتهت عقولنا إلى فهم له. . ولكن في مكنة مولانا أن يسأل الفلاحين لعل بعضهم يعلم عن آبائه. . في أي حين وفي أي بقعة كان القمح يزرع في مثل هذا الحجم.!.)

ص: 56

فأمر الملك أن ينبعث أعوانه في أرجاء البلاد وينتشروا في مختلف ربوعها. ويأتوه ببعض الفلاحين الذين بلغوا من العمر عتياً.

فلم يلبثوا بعد حين أن فازوا ببغيتهم. . فأحضروا إلى الملك رجل تقدمت به السنين فأحنى ظهره ثقلها. . فراح يتوكأ على دعامتينز معروق الوجه، شاحب اللون مهدل العارضين مغضن البشرة. .

فناوله الملك حبة القمح. . . بيد أن كفافة بصره قصرت به عن رؤيتها. . . فراح يتحسسها بين أنامله الجاسية. فسأله الملك:

(هل لك في أن تخبرنا. . . أيها العجوز عن المكان الذي كان يزرع فيه مثل هذه القمحة؟! ونبئنا إن كنت قد اشتريت أو زرعت شيئاً مثلها في حقولك؟!. . .)

كان بسمع الشيخ وقر جعله عاجزاً عن الإصغاء إلى ما قاله الملك. . . بيد أنه لم يلبث أن أدركه في مشقة وجهد. فقال بعد أن مكث حيناً لا ينبس:

- (كلا. . . إني لم أزرع ولم أحصد مثلها قط في حقلي. كما أني لم أشتر أبداً شيئاً يشبهها. . . وحينما كنا نتبايع القمح كانت حبوبه صغيرة في مثل حجمها اليوم. . . غير أنه يجمل بك أن تسأل أبي لعله سمعه قد وعى عن الفج الذي كانت تزرع فيه!)

فبعث الملك برجاله في طلب والد الشيخ. . . فعادوا به وهو يمشي معتمداً على عصا غليظة. . . فلما ناوله الملك حبة القمح. . . قلبها بين يديه، وراح يمعن فيها النظر، وقد عجز الكبر عن أن يذهب بحدته!. . . فسأله الملك:(أما في قدرتك أيها العجوز أن تخبرنا عن المكان الذي كان يزرع فيه مثل هذه القمحة؟! وهلا أنبأتنا إن كنت قد اشتريت أو زرعت مثلها في حقولك؟)

لم يذهب الثقل بمسمع الشيخ، بل ما زال سمعه خيراً من سمع ولده. . فأجاب الملك في صوت هادئ رزين:

- (كلا!. إني لم أزرع ولم أحصد مثلها في حقلي!. . كما أني لم أشتر شيئاً يشبهها!. فما كان للنقود تداول في أيامنا. . فكان كل امئ يزرع قمحة. . . وما زاد عن حاجته يهبه من في عوز!.

لست أدري أين كان يزرع مثل هذا القمح. . . ولكنني أعتقد أن القمح في عهدنا كان أكبر

ص: 57

حجماً وأكثر دقيقاً منه في أيامنا هذه. . . بيد أنه - مع ذلك - لم يبلغ حجم هذه القمحة. وأحسبك واجداً عند أبي فائدة وعلماً عنها! فسله)

فأرسل الملك من يأتي بوالد الشيخ. . فغابوا حيناً، ثم عادوا به إلى حضرة الملك!. . يسعى في سيره في خفة ونشاط له بصر ثاقب وسمع مرهف. . . ولسان ينطق في جلاء!. .

فلما مد الملك له يداً بحبة القمح. . . تناولها منه. . . وراح يقلبها في راحتيه. . . ويمعن فيها النظر. . ثم لم يلبث أن ارتفع صوته في هدوء (لم أر مثل هذه القمحة إلا منذ زمن سحيق. . سحيق جداً!.) وقضم شطراً من الحبة بثناياه، وأخذ يتذوقها بفمه!! واستطرد في قوله:

- (إنها نفس النوع!. . .) فسأله الملك:

- (ألا حدثنا أيها الجد الوقور. . . في أي مكان وفي أي زمان، كان الناس يزرعون هذا القمح. . . وهلا خبرتنا إن كنت قد ابتعت أو زرعت مثلها في حقولك؟!. .)

فأجابه الشيخ: -

. . . كان هذا القمح يزرع في كل البقاع في أيامي لقد طعمته في شبابي، وأطعمت غيري منه!. وطالما زرعناه في أراضينا. . وحصدناه. . . ودرسناه!!.)

فقال الملك وقد استبد به العجب وتملكه الفضول: -

(هل كنت تبتاعه؟! أم كنت تزرعه بيديك؟!)

فتريث الشيخ حيناً. . . كأنه يسبر غور الماضي، ويستعيد ذكراه - وقد ضرب النسيان عليها سجنه وأرخى دونها سندوله - ثم أجابه:(لم يكن ثمت واحد. . في أيامي. . يجسر على أن يأتي هذه الخطيئة. . أن يبيع أو يشتري الخبز. . ولم نكن ندري شيئاً عن هذه النقود التي تتداولونها الآن. . فكان لكل امرئ كفايته من القمح والزاد!.)

- بالله خبرني أين توجد أراضيك حيث كنت تزرع فيها ذلك القمح؟!.)

فتبسم الشيخ وأجابه في هدوء:

- (كان حقلي هو (أرض الله) الواسعة. . . أينما زرعت وحيثما غرست فهذا حقلي. . . فكانت الأرض مباحة طليقة بين الناس! وما كنت تجد واحداً يجرؤ على القول بأن هذه الأرض ملكه. . بل العمل هو وحده الذي كان ملكاً للناس):

ص: 58

- (هلا أجبتني أيها الجد الكريم. . إلى سؤالين آخرين؟ أولهما: لماذا كانت الأرض تنبت مثل هذا القمح، ثم لماذا كفت عن إخراجه الآن؟!!. .

وثانيهما: ما العلة في أن حفيدك لا يخطو إلا على دعامتين وابنك يتوكأ على عصا واحدة. أما أنت فلا تعتد على شئ؟! وما الذي جعلك ذا بصر ثاقب وسمع مرهف وصوت واضح جلي تهفو الأذن لسماعه؟!)

فهز الشيخ رأسه، وما زالت البسمة مرتسمة على شفتيه وقال:

- (لقد صار الأمر إلى هذا الحال. . لأن الناس كفوا عن العيش بما تعمله أيديهم، وراحوا يسخرون غيرهم لعمل ما تعوزهم الحاجة إليه!.

في أيامنا الخوالي. . كان الناس يعيشون حسب ما سنته لهم شريعة (الله). . (العامل بعمله)!. فلم تملأ الضغائن نفوسهم ولم تفسد الأحقاد قلوبهم. . ولم يكن بينهم من ينظر بعين الحسد إلى ما متع الله به بعضاً منهم!. .)

(طنطا) مصطفى جميل مرسي

ص: 59