الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 748
- بتاريخ: 03 - 11 - 1947
يا أغنيائنا! قولوا أسلمنا ولا تقولوا آمنا
لا أزال معجبا بالحديث الديني الذي نشرته الأهرام منذ أسبوعين
لصاحب السمو الملكي أمير الأمراء محمد علي بلغه الله انفس العمر.
واشد ما حرك إعجابي به، واثلج صدري منه، قول الأمير عن نفسه:
(إني اشهد الله على أن كل توفيق أصبته وكل خير نلته منذ نشأتي
إلى اليوم، كان مرجعه إلى ائتماري بأوامر الدين وانتهائي بنواهيه)
وقوله عن مصر وأخواتها: (إنهن لو رجعن إلى الماضي العظيم لعلمن
أننا لم نأت بخير ولم نظفر بسؤدد إلا برعاية الدين).
جميل من سمو الولي أن يعتقد الدين ويعمل به ويتعصب له ويدعو إليه في وقت نسى الناس فيه الله، فعبد الأمراء الشهوة، واله الأغنياء المال، واتبع الزعماء الهوى، واستجد الفقراء الحظ. ولكن - وما (لكن) إلا حرف جرئ ملعون يستدرك على كل موجود ما خلا الله - لماذا اقتصر أمير الأمراء من فضائل الإسلام على (المحبة والسلام والصلاة والصيام والعمل والصبر والطهارة) وقد كنا نطمع في صدق إيمانه وسمو بيانه أن يذكر كذلك الزكاة والإحسان والبر والتعاون، ليعلم أولئك الأمراء الذين اسلموا ولم يؤمنوا، وهؤلاء الذين أساءوا ولم يحسنوا، إن الدين عمل ومعاملة، وتثقيف وتكليف، وإيثار وتضحية؟ نعم كنا نطمع في سمو الأمير وهو القدوة الحسنى في قول الحق وعمل المعروف إن يدعو إلى الجهة العملية من الدين عسى أن يستجيب له أولئك الذوات المدللون المرفهون الذين ميزهم الوطن كرها على بنيه، وآثرهم الشعب جهلا على نفسه، فيؤتوا حق الله في أموالهم لتقوى الحكومة على أن تدفع عنهم الوباء، ويشجع الفقراء على أن يشغلوا عنهم الموت. وحق الله الذي يشبع الجائع ويكسو العاري ويداوي المريض ويكفن الميت، ضئيل بجانب حق الشيطان الذي يولم الولائم الفاجرة، ويقيم السهرات الداعرة، ويجود على انجلترة الخؤون من غير مطلب، وينفق على تركية العقوق من غير حساب، ولكن حق الله على ضآلته ثقيل لأنه ينفق على العامل والفلاح، وحق الشيطان على ضخامته خفيف لأنه ينفق في الميسر والراح!
إن اكثر الكبراء عقام أو أعزاب، فلا عمال يكلفون في الحياة، ولا أعقاب يرثون بعد الموت. فليت شعري لم لا يتبنون هذا الشعب الكريم وهو الذي وضعهم في ركب الحياة على كاهله، فأقدامه تحفى من الكلال وهم دعة، وجسمه يضوي من الإقلال وهم سعة، ونفسه تضطرب من الأهوال وهم في أمن؟ انهم إلا يفعلوا يندموا، فان من المشكوك فيه إن يتسع حلم الشعب طويلا لهذا التفريط في جنبه. وان من الصعب أن يغمض عن كزازة أغنيائه وهم يرون وباء الهيضة يقطع السبل ويشل الأيدي ويصد الأنفس فلا يبسطون لسانا بمعروف، ولا يمدون يدا بمعونة!.
إن السيادة لا تكفي للسعادة، وان المال لا يجزى عن الشرف، وان الدنيا لا تغني عن الآخرة.
(المنصورة)
احمد حسن الزيات
إنصاف البيت المظلوم
شباب قنع لا خير فيهم
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
- 1 -
شباب قنع لا خير فيهم
…
وبورك في الشباب الطامحينا
قال هذا البيت (احمد شوقي) رحمه الله! في قصيدته الشهيرة (توت عنخ آمون) وقبله:
فغالى في بنيك الصيد غالى
…
فقد حب الغلو إلى بنينا
والبيتان فيهما مدح عظيم لبني مصر ولشبابها محبي الغلو الطامحين. . .
فكيف رآه الأديب (محمود) صاحب (كلمات) في (البلاغ) يوم السبت - ذما؟
وكيف يكون شاعر مصر والعرب كلهم أجمعين قد هجا شباب مصر وهو يغالي في بيتيه في مدحهم؟
إن البيت الأول يوضح الثاني، والثاني يوضح الأول، وإذا فهم البيتان جيدا استيقن أن هناك مدحا عظيما. وقد قالوا: إذا أردت إعراب بيت فافهم معناه، وإذا أردت فهم معناه فأعربه، فتعال إلى إعراب (شباب قنع لا خير فيهم)(شباب) مبتدأ و (قنع) نعت، وجملة (لا خير فيهم) خبر إلى المبتدأ.
فان قلت. قد جاءني الإشكال لأني أعربت (شباب) خبر المبتدأ محذوف تقديره هم، قيل لك: البيت الأول والشطر الثاني من البيت الثاني يظاهران إعرابنا هذا، ويثبتان إن البيت مدح، مدح كبير. . . . . .
- 2 -
من اصعب الأشياء في الدنيا توضيح الواضح.
قلت: إن بيت شوقي مدح، وقلت ليفهم البيتان جيدا، وجئت بما جئت به. فبقى الأديب (محمود) حيث تركناه لم يتخلخل، ووجدناه يقول:(بل القول ذم، وكان معنى البيتين هو: فغالى في بنيك الصيد غالى فقد حب الغلو إلى بنينا الذين هم شباب قنع لا خير فيهم، وبورك في الشباب الطامحين).
فقد حب الغلو إلى بنينا الذين هم شباب قنع لا خير فيهم ما هذه المسلطة؟ هل لغا شوقي بما حكيت، هل نظم ما نثرت، وهل هذا من كتاب (الوشى المرقوم في حل المنظوم) لابن الأثير؟. . .
الذي قلته في كلمتي السابقة هو كاف شاف ولكن هذا الأديب، حال تسال زيادة، فله ما يريد:
1 -
ليس المقام في قول شوقي مقام ذم، ولكل مقام مقال، وقد جاء البيت يعزز الذي قبله، وهو بيت حكيم أرسله شوقي مثلا كدأب المتنبي في حكمه وأمثاله التي تؤيد مقاصده في أقواله.
2 -
كيف يصف شوقي شباب مصر انهم مغالون وأنهم قانعون وكيف يقنع المغالى، وكيف يغالي القانع؟
دع ميزان الذوق واللغة و (الإعراب) وخذ ميزان العقل وزن. . . .
3 -
رأى الأديب محمود إن البيت ذم إذ يدعو إلى حب الغلو، وقال في كلمته:(وكانت العرب تقول وهي تذم (ما عنده من المعالي إلا الرمي بالمغالي) أي الغلو والادعاء والتجاوز عن الحد).
وقد فهم الناقد السجعة كما فهم بيتي شوقي والمعنى الصحيح هو (ما عنده من المعالي إلا الرمي بالسهام) والمغالى جمع مغلاة وهى السهم يغلى به أي يرمى به لا (الغلو والادعاء والتجاوز عن الحد).
والقول الذي نسبه إلى العرب هو للزمخشري، وهو من سجعات الأساس، وقد جاء في هذا الكتاب:(غلا بسهمه وغالى به وتغالينا بالسهام، وترامينا بالمغالى، وتقول: ما عنده من المعالي إلا الرمي بالمغالى، وتقول: أنا لا احب الغلو في الدين والغلاء في السعر، والغلاء في الرمي).
ثم إن الغلو صفة ذم في موطن وصفة مدح في موطن، والقائل هنا هو القائل في (أمين الرافعي) رحمة الله عليهما:
قيل: (غال) في الرأي قلت هبوه
…
وقد يكون (الغلو) رأياً أصيلا
وقديماً بنى (الغلو) نفوسا
…
وقديماً بنى (الغلو) عقولا
والسرف صفة ذم وقد تجدها في أقوال مدحاً: (قيل للحسن ابن سهل: لا خير في السرف، فقال: لا سرف في الخير).
وهل الغلو في التخلص من الاستعباد مذموم؟ ونحن معشر المصريين مغالون وحالنا مع هؤلاء الإنجليز منذ اثنتين وخمسين سنة معلوم، فكيف لو كنا من المقتصدين المعتدلين المتسامحين.
كان فاضل معروف من أدباء مدينتنا هذه قال منذ سبع سنين مثل قولك في ذلك البيت (ما أشبه الليلة بالبارحة) ونشر نقده في جريدة، وليم كما تلام الفضلاء الكرام، وقيل له: أخطأت، وقد رأينا ذلك الفاضل بعد أن جاء هذا الظلام وفقد الأقوام (الناطق عن خواطرهم) يبكي (أبا علي) في قصائده طويلاً، ويصيح أين شوقي، أين شاعر الإسلام؟!
وإذا طال المراء في الشيء الثابت وأراد المجادل أن (يطين عين الشمس) جاء قول شوقي:
ومن الرأي ما يكون نفاقا
…
أو يكون اتجاهه التضليلا
ومن النقد والجدال كلام
…
يشبه البغي والخنى والفضولا
والفتى لا يضع منه رجوعه إلى الحق، وهو بعد العودة (محمود) والعود أحمد.
محمد إسعاف النشاشيبي
بلبلة
للأستاذ محمود محمد شاكر
لست امرءاً قانطاً ولا متشائماً ولا يائساً من خير الأمة العربية، بل لعلني أشد إيماناً بحقيقة جوهرها وطيب عنصرها وكرم غرائزها، بل لعلني أشد إيغالا في الإيمان بأنها صائرة إلى السؤدد الأعظم والشرف السري والغلبة الظاهرة إن شاء الله، وأنها الأمة التي أرصدها بارئ النسم لرد العقل على هذه الإنسانية المجنونة في هذه الحضارة الهوجاء. فالعرب مذ كانوا هم الجوهرة التي أطبقت عليها صحراء الجزيرة، فما زالت تكتمهم في ضميرها وتحنوا عليهم وتمنعهم من كل فساد داخل حتى صفا ملئوهم ورف شبابهم وأضاءوا من جميع نواحيهم. فلما جاءهم محمد ابن عبد الله بشيراً ونذيراً وهادياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، صار كل رجل من صحابته نجما يهتدي به الضال ويأتم به المسدد. ويومئذ تمت المعجزة الكبرى في تاريخ العالم، فانطلقت هذه الفئة الصالحة من عباد الله كأنها السيل المتدفع، وكانها الرياح العاصفة، وكأنها الأشعة المتلألئة، وكأنها قدر الله، فدكت حصون الروم، وثلت عروش الفرس، ودوخت جبابرة الأمم، حتى ورثوا أرض الله وأقاموا فيها الحق والعدل بالميزان والقسط، وجاءت سلالتهم فجددت حضارة الدنيا، وإذا الذين كانوا بالأمس بداة جفاة غلاضاً فيما يرى الناس من أهل الحضارات السالفة، هم الناس وهم العلم وهم أصحاب الإمرة في كل فن وعلم وسياسة وتدبير ملك. إنها لمعجزة لم يوفها مؤرخ حقها من المجد والقوة والظهور.
فهذا الجيل من عباد الله مطوي على صلاح كثير وخير عميم وقوة خارقة، لا أظن أن الزمن قد ذهب بها ومحقها، فلذلك أراني وملء قلبي الإيمان بأنه سوف ينتهي إلى الغاية التي كتبت له التاريخ هذه الإنسانية. وعسى أن يكون زمن ذلك كله قد أتى وأظل، فإني أسمع نشيش الحياة وهي تتخلق في مرجل الوجود وقد أحاطت به النيران المجنونة المتضرمة من كل مكان. ولكن لابد من عمل يتولاه رجال من هذه الامة، فينفخون في الضرم حتى تستعر النار الخالدة لتنفي عن هذا الجيل كل خبث ألم به من أدران الحضارة التي يعيش فيها عالمنا اليوم غير أني أخشى أن يكون الإهمال والعجلة وقلة المبالاة واخذ الأمور بالاستخفاف، مما يفضي إلى فوات الفرصة التي أمكنت، ويقضي على هذا الأمل
الذي يضئ لنا من بعيد ينادينا إلى ما فيه خيرنا وخير هذا الناس.
ويخيل إلي أننا نعيش اليوم في عصر بلبلة واختلاط، وهذا شئ قد أصاب أمما كثيرة من قبلنا، فلم يعقها ذلك عن إدراك الغايات التي حرصت على السعي إليها وعلى بلوغها. بيد أن لابد لأمة أرادت أن تخلص من هذه البلبلة أن يتجرد من رجالها ونسائها فئة لا ترهب في الحق سطوة ولا بطشاً ولا اضطهاداً ولا تدخر دون مطلبها جهداً ولا عزيمة، ولا يثنيها إخفاق، ولا تلفتها فتنة، ولا يصفها الفرح بقليل تناله عن الكدح في سبيل ما ينبغي أن تناله.
وقد أراد الله بمصر أن تكون في هذا العصر قدوة العرب ومجتمع أمرهم وكعبة قصادهم، وهذه البلبلة في مصر اشد ظهورا وغلبة منها في غيرها من بلاد العرب، فأخوف مخافة أن تظل مصر غافلة عن شر هذه البلبلة فتعدى سائر العرب بالأسوة والقدوة، فينتشر الأمر انتشاراً يعجز المخلصين أن يلموه. فبين ظهر أنينا اليوم ألوف من الطلاب العرب قد جاءوا من كل قطر لينهلوا من علم مصر، ويعودوا إلى بلادهم يجاهدوا في سبيلها، فإذا أعدتهم هذه البلبلة فسوف يحملونها معهم إلى بلادهم فيفرقوا المجتمع من كلمة أممهم، ويرتكز الأمر حتى يصبح ولا علاج له هذا، وأنت لا تعدم صدى البلبلة في الصحف والكتب والمجلات المصرية التي أخذت تزداد انتشارا واتساعا، فكيف لا يخشى أن يعم هذا البلاء كل بلاد العرب ويتغلغل في نواحيها؟ ويومئذ نصبح طعما للأمم الضارية التي تحيط بنا من كل مكان، وتحد لنا أنياباً عصلا تنهشنا بها يوم يتاح لها أن تنقض على هذه الفريسة التي لا تدفع عن نفسها.
فمن شر هذه البلبلة، ما نرى من سوء تدمير الأحزاب السياسية المصرية، فهي قائمة على نزاع دائم في سبيل الحكم، بكيد بعضها لبعض، ويأكل بعضها بعضا، ولا يرى أحد لأحد حرمة. وتنشئ هذه الأحزاب صحافة يكون هم محرريها التشهير بمن يخالفهم في الرأي والمذهب، فيدلسون الحقائق، ويكتمون الحق، ويفترون على الناس الكذب، ويلون ألسنتهم بالحديث ويحرفون أعمال من يعادونهم تحريفا لئيما مستهجناً، كل ذلك ابتغاء مرضاة رؤساء الأحزاب وأصحاب الأمر فيها. هذا على أن هذه الأحزاب قد نشأت أو أنشئت بغير أهداف مبينة للناس تعاهدهم على أن تسعى إليها، وبغير برنامج لإصلاح هذه الأمة التي لم
تجد لها نصيرا من أبنائها، وبغير نظام ينفي عن الحزب الدخلاء والملوثين وذوي الأغراض الخبيثة.
ثم يأتي بعد ذلك نوع من الصحافة يتلبس بالورع، ويتظاهر بالتقوى، ويتخشع بالبراءة من التعصب، ويبدي للناس انه طالب خير للناس، وانه يريد النفع هذه الأمة وعامل على ترقيتها وتهذيبها وهو في خلال ذلك يدس لها سما زعافاً ومنية قاتلة، شيئاً فشيئاً ورويداً رويداً وساعة بعد ساعة حتى لا تمجه الألسنة لأول مذاق، ثم إذا بان طعمه شيئا لم تستنكره، ثم يستمر حتى إذا دام قليلا الفتح وربت عليه، ثم إذا زادته شيئا لم يكن إلا طيبا مستساغاً، ثم إذا الناس يطالبونه أو يخيل إليهم انهم يطلبونه لأنه مما يتصل بأدنأ الغرائز الحيوانية والشهوات البهيمية، ويجند لكل هذا الخبث جمع من الكتاب الذين ظلوا عن حقيقة أنفسهم وطائفة من الشباب الذين أفسدتهم المدارس الأجنبية والجامعات الغربية عن هذه الأمة، وهذا الطرف من الصحافة الخبيثة هو البلاء المستطير الذي لم يجد إلى اليوم من يكشف عن طواياه الخبيثة وأساليبه القاتلة، وعن دبيب رأي هذه الأمة العربية دبيب الضلالة في قلب الغرير المفتون.
ثم يأتي بعد ذلك كتاب وعلماء ورجال من أصحاب الرأي، ليس في قلب أحد منهم تقوى لله ولا خشية للاثم ولا محبة للحق، فيرى أحدهم الرأي الفطير فلا يلبث أن يمسك القلم فيجري السواد على بياض الورق، فإذا هي مقالة أو كتاب أو رأي اخبث منه صاحبه والناطق به، فيأخذه المبتدئ المتطلع، فيعتقده كأنه لقطة نفيسة بغير تحقيق ولا تمحيص، فإذا سمع رأي يخالف ما قرا لهذا الكتاب البليغ أو الأستاذ الكبير أو الفيلسوف القدير، أنكره وأدبر عنه، فيزيده هذا الإنكار لجاجة، وتزيده اللجاجة عنادا، ويملئوه العناد كبرا، فيعما عن الحق وهو بين، ولا يزال يهوى في العناد حتى يصير ذلك عادة في مسألة بعد مسألة ورأي بعد رأي، وإذا هو عند نفسه أكبر من أن يأخذ عن فلان لأنه يخالفه في الرأي.
وتزيد الدولة هذا الأمر ضراوة واستعاراً، فتولى الأمور غير اهلها، وتضع الناس في غير منازلهم وتكرم فلان بإلحاقه بوظيفة كذا لأنه من أشياع الحزب الذي يتولى الحكم، فإذا خافت عليه أن ينزع من مكانه إذا جاءت وزارة أخرى، ألحقته بعمل لا يقبل العزل. فإذا جاء وزير للمعارف مثلا وله أصحاب من شيعته ممن عرفوا بشيء من الأدب ألحقه
بالمجمع اللغوي مثلا تكريما له، فيريد هذا الرجل أن يحقق معنى هذا التكريم على ما خيلت، فينبري لإبداء الرأي فيما لا يحسن، ويكشف عن عورة من الجهل لا تستر. وليتها كانت رأياً بدا له فكان صاحبه الأول كلا، بل هو يعمد إلى آراء أماتها الذي أمات الخرافات والأساطير فيخيل إليه انه وهو الأديب المؤلف الكاتب مستطيع أن يحيى هذه الرمم البالية برأيه وحجته وحسن معرضه، فكيف تكون مغبة هذا الجهل على شاب ناشئ يقرا ملفقات السخف المدلس، وليس عنده قدرة على تمحيصه.
ويأتي آخر يلقيه صديق مثلا على كرسي الجامعة ليدرس العلم لطلاب العلم، فإذا هو عازم على أن ينشئ علماً جديداً لطلابه، فيبحث في تحاريب عقله عن أشياء يخيل إليه أنها فن جديد وبلاغة جديدة وعلم لم يصل إلى إدراكه سابق ولن يناله لاحق إلا بالتلقي عته والوقوف بين يديه. ويخرج هذا الأستاذ جيلا من مساكين الطلاب لا يحسنون شيئا إلا التعصب له والتسمي باسمه والتشبه به في فساد الرأي وقلة العلم وضعف الملكة. ويجتمع منهم ومن شيخهم فئة تهجم على العلم بغير علم، فإذا أراد أحد أن يقف في سبيلها تناعقت باسم حرية الرأي وحرمة الجامعة. فكيف تكون العاقبة إذا خرج مثل هؤلاء الشباب الناشئين بأمثال آرائهم المقيتة الجاهلة، وعلى رأس كل منهم تاج مكتوب عليه (دكتور في الآداب) أو (دكتور في الفلسفة) أو (دكتور في التاريخ)؟ وكيف يسلط هؤلاء على عقول ناشئة العرب، يفتنونهم بالألقاب والأسماء، وبتعاون هذه الفئة المضللة على نصرة بعضهم لبعض؟ فإذا بقى الأمر على ما ترى في أمر زعمائنا، وفي أمر سياستنا، وفي أمر اجتماعنا، وفي أمر أدبنا، وفي أمر صحافتنا، وفي أمر مدارسنا وجامعاتنا: فكيف نرجو أن نصل إلى غاياتنا؟ وكيف يتاح لهذه الشعوب العربية الكريمة أن تتأهب للمعركة الفاصلة في تاريخ العرب على بلوغ الهدف الأعظم، وهو هدف يرمي إلى إنقاذ الإنسانية كلها من ردغة الخبال التي ألقت بها حضارة ضخمة، ولكنها قد حشيت شراً كثيراً وخبثاً؟
ولو شئنا أن نتقصى ظواهر هذه البلبلة في أشياء كثيرة مما يتعرض لها الشعب مرغماً أو مريداً أو مخدوعاً لأطلنا، فما من شئ إلا وقد اختلط فيه الأمر على غير هدى. وإذا شئت أن تقدر سوء ما جنينا من شرها، فجالس من شئت من طوائف الشباب وجاذبهم الحديث، واستدرجهم إلى المناقشة في رأي أو علم أو فن، تسمع العجب العاجب من الخلل في
موازين الأشياء المطبقة في تقدير ما يقع تحت أبصارهم وأسماعهم، والعجز المضطرب عن ضبط الرأي، والضعف المطلق عن القيام بحق العقل والإدراك واكبر من ذلك كله انهم اصبحوا لا يرون صاحب رأي إلا وهو دونهم، فلا يسلم من انتقاصهم ونقدهم، فإذا صححت لهم وأردت أن تقيمهم على الطريق استكبروا واعرضوا، فكيف تأتي أنت فتعلم حامل شهادة الحقوق أو الطب أو الأدب أو الفلسفة شيئا يستيقن هو في نفسه انه قد فرغ منه وعلمه علما ليس بعده إلا العروج إلى سماء الخلود.
وكذلك الأمر في طبقات أخرى من العلماء إلى الأدباء إلى رجال القلم إلى أصحاب الصناعات إلى عامة الناس. وهذا شيء مخوف مدمر للجهود الذي بذلتها طائفة من السلف القريب في تسديد خطى هذا الشعب وترقيته وتهذيبه وتطهيره من الجهل والبلادة والغفلة. وإذا طال ذلك ولم نعالجه في مدارسنا وجامعاتنا وصحافتنا، وفي دور التسلية، وفي أندية المجتمع، فالعاقبة الوخيمة بالمرصاد لمن أهمل وأضاع وترك الأشياء تمضي في غير عنان وعلى غير هدى. ونحن الآن أحوج ما نكون إلى صحافة جديدة حرة لا تخاف شيئا ولا تخشى، تدل على مواطن العيب لا الطعن والتشهير وسب هذه الأمة، بل لعلاجها والدفاع عنها ونصرتها على نفسها. ونحن الآن أحوج ما نكون إلى شباب من الكتاب وشيوخ من المحنكين يخلصون الرأي لهذه الأمة، فلا يدعون الفرصة تفوت ويحملون الشعلة الجديدة إلى الجيل الجديد الذي لم يلوثه العناد والكبرياء واللجاجة والمراء. ونحن الآن أحوج ما نكون إلى طائفة ممن خبروا الحياة وعرفوها ليكونوا شهداء على مدارسنا وجامعاتنا وصحافتنا، تستعين بهم الدولة على نهج جديد يمنع عن جماهير الشباب وطوائف الأمة كل ما يزيد هذه البلبلة إيغالا وضراوة.
إن الزمن يمضي مضاء حثيثا كالنار في الهشيم، فان شئنا أن نحيي وان نستعد للذي أعدنا الله له من الظهور في الارض، واصلاح ما اختل من شئونها. فعلى كل قادر أن يجمع أمره، وأن يدعوا أصحابه، وان يلم الشعث المتفرق ممن يظن فيهم خيرا، لكي يتعاونوا جميعا على رد هذا البلاء بالرفق في مواضع الرفق، وبالبأس في مواضع البأس، وبالبتر حيث لا يجدي شئ إلا البتر بلا هوادة ولا رحمة. . . . .
محمود محمد شاكر
11 - رحلة إلى الهند
للدكتور عبد الوهاب عزام بك
عميد كلية الآداب
ضريح همايون
إلى الغرب والشمال من دلهي تقوم أبنية كثيرة هي بقايا الأحداث والغير من مقابر الملوك التيموريين. وأعظمهم تمثال المجد المائل على ضريح نصر الدين همايون.
همايون الملك الثاني من هذه الأسرة المجيدة العظيمة التي سيطرت على الهند قرونا. وهي سيرة عجيبة من الهمة التي تحقر الصعاب، والعزم الذي ينكر الاهوال، والامل الذي يكفر بالمستحيل.
أبوه ظهير الدين بابر ورث إمارة في سمرقند وفرغانة وهو صبي في الثانية عشرة. فلما غلب عليهما مد خطوب طويلة، وجه همته إلى أفغانستان ففتحها واستولى على بدخشان ثم كابل وقنهار ومدن أخرى. واستعاض عن الإمارة الصغيرة التي فقدها إمارة اعظم. وأحال الهزيمة انتصارا، وزوال الملك وسيلة إلى ملك اكبر، واليأس من سمرقند يقينا بفتح كابل. ثم وجه أمله وهمته وعزمه وعقله وعبقريته في السياسة والحرب، إلى الهند فلم يثبت لجيشه جيش، ولم يقم لدهائه دهاء، ولم يصد تدبيره تدبير. فامتد به الفتح شمالا وجنوبا.
ومات بابر بعد خمس سنوات من انتصاره الهائل في معركة باني بات التي فتحت له أبواب الهند، وما رسخت قواعد الملك، ولا اطأدت أساطين الدولة، بل ما قر نجاح الحروب، ولا فارق الأسماع صدى السلاح. فورث ملكه ابنه همايون وسنه تسع عشرة سنة. فاستأنف فتوح ابيه، ولكن شير شاه أمير بهار استطاع أن يصد السيل ثم يرده صوب الغرب شيئاً فشيئاً حتى اضطر همايون إلى السند. ثم أخرجه إلى إيران مغلوبا قد فقد ملك أبيه كله فعاذ بملوك الدولة الصفوية وبقى همايون خمس عشر سنة لاجئا لا ملك له ولا وطن.
ولكن العزيمة التي سخر بها بابر أفغانستان والهند ليفتحها ويسترد ملكه كأنه لم يغلب عليه، ولم يطرد منه، ولم يلبث خمسة عشر عاما بعيد عنه في حماية ملوك إيران، ففتح دهلى
سنة 962 بعد ثلاثين عاما من فتح بابر إياها. وبعد سنة مات همايون وسنه خمس وأربعون سنة.
بنى خزانة كتب عظيمة وصعد عليها يوما فزلت قدمه فسقط فمات. ومن العجيب أن تاريخ وفاته في هذه الجملة: (الملك همايون سقط من السطح)(همايون بادشاه آزبام أمتاد).
حزنت زوجه حميدة بانو بيكمم على زوجها بل ولهت فخرجت إلى الحج ورجعت مستصحبة مهرة البنائين والصناع لتبني لهمايون ضريحا يكافئ عظمته، ويمثل مكانته في قلبها، ويخلد ذكراه على الأرض. وبنت هذا الأثر الرائع. وهو أول نموذج لمقابر الملوك المغول التي افتتنوا فيما بعد حتى بلغ ذروته في تاج محل.
وفي جانب حديقة المقبرة دار خربه تسمى عرب سراي (دار العرب) يقال إنها كانت دار الصناع الذين قدموا مع السيدة من البلاد العربية.
كان هذا أول قبر على هذا الأسلوب في الهند. وأما بابر أبو همايون فلم يدفن في الهند بل قبره في كابل.
وقد حدثني الأديب الكبير سرور كويا أستاذ الأدب الفارسي في جامعة كابل - وقد سعدت بلقائه في إيران قبل ثلاث عشرة سنة وفي الهند هذا العام قال كنت في صحبة الشاعر العظيم الفيلسوف محمد إقبال حينما زار قبر بابر في كابل. فالتفت إلى قائلاً يا سرور أكتب وأملي علي هذين البيتين بالفارسية:
خوشا نصيب كه خاك تو آرسيد اينجا
…
كه اين زمين ز طلسم فرنك آزاد ست
هزار مرتبه كابل خوش است ازدلي
…
كه ابن عجوزة عروس هزار دامادست
وترجمتها:
طوبى لك إذ استراح ترابك هنا
…
فهذه الأرض منزهة عن سحر الفرنج
إن كابل خير من دهلى ألف مرة
…
فتلك العجوز عروس لألف زوج
والشطر الأخير شطر معروف لحافظ الشيرازي في وصف الدنيا.
ورحم الله إقبالا! كأنه رأى بظهر الغيب غدر هذه العجوز بالمسلمين. فهي اليوم تطردهم وتفتك بهم ولا ترعى عهدهم وقد سيطر عليها سلطان المسلمين ثمانية قرون عدلوا فيها واحسنوا ورحموا رعاياهم وتركوهم أحرارا فيما يدينون. فبقيت الكثرة لغير المسلمين في
دار الملك الإسلامي حتى زالت دولتهم.
تدخل حديقة واسعة جدا في وسطها بناء تفضي إليه طرق أربعة مبلطة فيها قنوات وأحواض. وكل طريق يمتد بين باب للحديقة وهذا البناء. سرنا من المدخل في إحدى هذه الطرق إلى دكة رقينا إليها ست درجات. وفوقها دكة أخرى عظيمة عالية مربعة في كل ضلع منها خمسة عشر عقدا أوسطها يفضي إلى خمس وعشرين درجة تصعد إلى القبة الحانية على الضريح - كما يرى في الصورة.
وعلى الدكة العالية بناء مربع الجوانب وسطه قبة شامخة من الرخام الأبيض تحيط بها حجرات متواصلة في هندسة محكمة جميلة. وفي هذه الحجرات قبور قيل لي أنها ست وخمسون لأمراء الدولة وأعيانها.
ودخلت فإذا قطعة من المرمر جاثمة في الوسط تحتها رفات همايون وفوقها قبة تقوم على ثمانية عقود. ولا تبدوا القبة عالية من الداخل لأنها قبة مزدوجة أي قبتان إحداهما فوق الأخرى. وهي أول قبة من هذا النوع في الهند. وقد رأيت في مسجد الشاه بأصفهان قبة عظيمة فوق القبلة مزدوجة يتردد صدى الصوت تحتها عشر مرات او اكثر، ولكن قبة همايون لا تردد الصدى كأنما أخرسها جلال الموت، أو هيبة الملك.
خلعت نعلي وخطوت خطوات إلى القبر فوقفت واجما خاشعا حينا ورافعا بصري إلى القبة حينا. فقلت: قبر عظيم ولكن ذكرى همايون اعظم. إن عزمك الماضي أيها الملك الهمام، وهمتك العالية طويتا في هذا اللحد. لا بل هما ملئ التاريخ.
قرأت الفاتحة خاشعا وخرجت.
ثم صعدت إلى السطح المحيط بالقبة فإذا هذا التناسق الكامل الذي يميز لبنية السلاطين التيموريين كلها. في كل جانب قباب يصعد إليها درج. وفي الزوايا قباب اصغر منها في تناظر تام وتناسب لا يتسع المجال لتفصيله.
نزلت وخرجت مع الرفاق والتاريخ يمر أمامي سريعا فأرى همايون فاتحا، وهمايون دفينا، وارى الأحداث تتوالى فتشمل الدولة أرجاء الهند كلها ويجمع البلاد سلطان واحد لأول مرة في تاريخها ثم يجزر البحر فتضعف الدولة ويتسلط الإنكليز.
وتتوالى الخطوب حتى أرى بهادر شاه آخر السلاطين من ذرية همايون يحتمي بحرم جده،
بهذه المقبرة وهو يحارب الإنكليز قبل تسعين عاما فيؤسر وينفى. ويؤخذ من هذا الحرم بنوه الثلاثة مغل وخضر وأبو بكر فيقتلون صبرا على مشهد من الناس.
قلت: ما دفن هنا همايون وحده ولكن دفن كل تاريخ الدولة التيمورية. فيا لك أول ضريح للدولة العظيمة في الهند وآخر ضريح.
(للكلام صلة)
عبد الوهاب عزام
الفضاء والعدم
للأستاذ نقولا الحداد
أستأذن الكاتب الكبير الأستاذ العقاد بان اقفي على مقاله (أساطين الآخرين) في 13 أكتوبر الحالي من الرسالة بكلمة في موضوع العدم والفضاء.
العدم اسم لغير مسمى. اعني انه لا يوجد في الوجود شئ أو كائن يصح أن يسمى (عدما) هو في غير لغتنا (لا شئ) وفي نفسنا هو لا شئ أيضا. واللاشئ ليس ذاتية حتى يعرف أو يوصف أو (تفسر له ماهية)
أما الفضاء فهو الحيز الذي تشغله أو تشغل بعضه مادة ذات حدود. وأما الخلاء فهو الفراغ بين مادة ومادة. والمادة تحده ولهذا يمكن أن يقاس بمقياس.
يستحيل علينا أن نتصور الفضاء مطلقا خلوا من مادة مهما أمعنا في التصور
لولا وجود المادة لما كان فضاء البتة. هل تستطيع أن تتصور فضاء فارغا لا شئ فيه. تصور وقل لي ماذا تتصور.
المادة كثيفة كانت أو لطيفة قضت بوجود الفضاء (الحيز) انف المادة ينتف الفضاء. هذا هو العدم - اللاشيء،
فهذا الحيز الذي نسميه فضاء لا بد أن يكون مشغولا بمادة حتما. المادة نوعان: كثيفة وهي الأجرام الفلكية التي نحس بوجودها بالحس البصري. ولطيفة هي الأشعة الموجبة الكهرطيسية (الكهربائية المغنطيسية) التي نحس بها بالبصر كالنور أو بالآلات الرصدية المختلفة كأمواج اللاسلكي غير المنظورة أما النور وكل درجة من درجات الكهرطيسية كالأشعة السينية وأشعة ما فوق البنفسجي وتحت الأحمر هي أمواج أو تموج فحقيقة لا شك فيها لان العمليات الامتحانية العديدة لاكتشاف طبيعة النور وحركة اللاسلكي في الفضاء أثبتت بوضوح إن هذه الأشعة الكهرطيسية هي موجات في الفضاء.
فلذلك تساءل العلماء فيما بينهم: ما هو هذا الشيء المتموج؟
لم يستطيعوا جوابا على السؤال إلا بفرض الأثير. وهو في نظرهم مادة متناهية في اللطف تملا هذا الفضاء. وذرات المادة أو ذريراتها السابحة في الفضاء الثائرة الحركة فيه تصدم هذا البحر الأثيري فيتموج وأمواجه تصدم مشاعرنا البصرية والعصبية فنحس بوجود تلك
المواد الثائرة. فالكهرطيسية في نظرهم هي تلك الأمواج الأثيرية. وهي ما يسمونه بالإشعاع
ولكن هذا التعليل الكهرطيسية (التي منها النور) لم يكشف لهم أسرار الوجود. فقد رأى العلماء في سياق أبحاثهم أن هذا الإشعاع ليس مجرد صدم المادة أو ذراتها لبحر الأثير بل هو أيضا انتثار ذريرات من الجسم المادي في هذا البحر (ويسميها العلماء فوتونات) وهي من ضرب ذربرات الأثير بعينها. وبعض العلماء يعتقدون أن مادة الأكوان مؤلفة من فوتونات الأثير. أي إن الأثير هو اصل المادة - هو الهيولي.
ولهذا وجد العلماء أنفسهم أمام نظريتين مختلفتين بشان النور وكل إشعاع كهروطيسي: الأول أمواج أثيرية يحدثها اصطدام ذرات المادة ببحر الأثير. والثانية تدفق فوتونات المادة في هذا البحر انحلت إليها ذرات المادة، فجرت فيه كما يتدفق ماء المطر في البحر فيجري فيه. وهذا سمى تجايمس تجينز هذا الإشعاع الكهرطيسي مشتقة من وبغية جمع النظريتين في نظرية واحدة.
أعود إلى مظنة الزهاوي إن الله الأثير
والظاهر أن الزهاوي بقوله هذا يريد أن يعرفنا بحقيقة الله في الطبيعة فخاب قصدا. لان المفهوم من معنى الألوهية عند الكتابين أن الله روح غير منظور سرمدي (أبدي أزلي) خالق كل شئ وقادر على كل شئ وموجود في كل مكان وكل زمان وهذا الوصف لا ينطبق على طبيعة الأثير في كل شئ لا ينطبق عليه في أن الأثير خالق كل شئ بل كل المادة الكونية مؤلفة منه ولكنه لم يؤلفها هذا في رأي علماء هذا العصر. وليس الأثير قادر على كل شئ أو ليس له قدرة ولا قوة بحد ذاته وإنما هو الوسط الذي تتحرك فيه مادة الأكوان.
ولو قال إن قوة الجاذبية هي الله أو أنها الأداة التي في يد الله وبها يحرك الله الأكوان جميعا، وكل حركة كلية أو جزئية صادرة من قوة الجاذبية لربما اقترب من الحقيقة لان الجاذبية قوة سرمدية موجودة في كل زمان ومكان وبها تتحرك جميع الأكوان عظيمها وصغيرها من أدق الحركات الكونية إلى اعظم حركات الأجرام الفلكية. والله اعلم
نقولا حداد
الأسطورة والإعجاز القرآني
للأستاذ محمد احمد خلف الله
قلنا في مقالنا السابق إن الأقدمين من المفسرين قد فهموا من الأسطورة أنها ما سطره الأولون من قصصهم وأحاديثهم ونقلنا عن كتبهم من النصوص ما يثبت ذلك. ولعلنا لم ننس بعد ما ذهب إليه الطبري في آخر عبارته من القول بان المشركين ما كانوا يقصدون من وراء كل هذا إلا القول بان هذه الأساطير من عند محمد لم يجئه بها الوحي ولم تنزل عليه من السماء.
وقلنا في نفس المقال أن الرازي قد فطن إلى الصنيع الأدبي في بعض القصص القرآني حين فرق بين جسم القصة وما فيها من توجيهات دينية هي قصد القرآن من قصصه. ولعلنا لم ننس بعد ما ذهب إليه الرازي من أن الأمر الأول هو الذي ادخل الشبهة على عقول المشركين وعلى قلوبهم وانهم من اجل هذا قالوا بان ما يجئ به محمد ليس إلا أساطير الأولين. ومعنى ذلك أيضا انهم ينكرون أن يكون قد جاء بها الوحي أو نزلت عليه من السماء.
واليوم نريد أن ندرس مع القراء موقف القرآن نفسه من هذه الأساطير.
وموقف القرآن يتلخص في الإجابة عن هذا السؤال. هل نفى القرآن عن نفسه بناءه بعض القصص على الأساطير؟.
هذه هي الآيات التي تعرضت لهذه المسالة من القران الكريم:
(1)
قال الله تعالى (ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وان يروا كل آية لا يؤمنوا بها حتى إذا جاءوك يجادلونه يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين) أنعام 25.
(2)
وقال تعالى (وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين وإذا قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب اليم) الأنفال 31، 32.
(3)
وقال تعالى (وإذا قيل لهم ماذا انزل ربكم قالوا أساطير الأولين) النحل 24
(4)
وقال (بل قالوا مثل ما قال الأولون قالوا أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون لقد
وعدنا نحن وآبائنا هذا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين) المؤمنون 81، 83
(5)
وقال (وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا قل أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض انه كان غفورا رحيما) الفرقان 5، 6
(6)
وقال (وقال الذين كفروا أئذا كنا ترابا وآباؤنا أئنا لمخرجون لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين) النمل 67، 68
(7)
وقال (والذي قال لوالديه أف لكما أتعدانني أن اخرج وقد خلت القرون من قبلي وهما يستغيثان الله ويلك آمن إن وعد الله حق فيقول ما هذا إلا أساطير الأولين) الأحقاف 17
(8)
وقال (ولا تطع كل حلاف مهين هماز مشاء بنميم مناع للخير معتد أثيم عتل بعد ذلك زنيم إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين) القلم 10، 15
(9)
وقال (ويل يومئذ للمكذبين الذين يكذبون بيوم الدين وما يكذب به إلا كل معتد أثيم إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين) المطففين 10، 13
هذه هي الآيات التي صور القران فيها هذه العقيدة فلننظر لنرى ماذا فيها من حديث؟.
أول الأشياء أنها جميعا من القرآن المكي حتى ما نزل فيها من سورة الأنفال المدنية إذ نص القدماء واعتمد ذلك المصحف المكي على أن الآيات من 30 - 36 من سورة الأنفال مكية. ومعنى ذلك أن هذا القول إنما كان من المشركين من أهل مكة وانه اختفى بانتقال النبي إلى المدينة ولذلك سر سنقف عليه بعد حين.
وثاني الأشياء أن القائلين لهذا القول هم في الغالب الذين ينكرون البعث ولا يؤمنون بالآخرة ولك واضح كل الوضوح من آيات سور. المؤمنون، النمل، الأحقاف، المطففين، ذلك لان الحديث معهم في هذه المسالة بالذات.
ثم هو متصل بسبب قوي بالحديث عن الحياة الآخرة في آيات سور الأنعام والنحل.
ومعنى ذلك فيما نرى انهم كانوا يعتبرون الأقاصيص التي تجسم عملية الإحياء بعد الإماتة والتي تمثلها للناس على أنها قد وقعت. من الأساطير.
وإذا ما ضممنا إلى هذا أمرا آخر هو أن تلك الأقاصيص القرآنية التي يذهب المستشرقون إلى إنها من الأساطير كقصة أهل الكهف تلك التي يسمونها أسطورة السبعة النيام وقصة الذي مر على قرية وهي خاوية (أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال
أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوماً أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال اعلم أن الله على كل شئ قدير) كان موضوعها البعث وأنها تجسم عملية الإحياء بعد الإماتة وتمثيلها للناس على أنها قد وقعت. تبين لنا أن الشبهة قد دخلت على أولئك من الباب الذي دخلت منه على هؤلاء.
ومعنى ذلك أن هيكل القصة لا ما فيها من توجيهات دينية كان العامل القوي في الذهاب إلى هذا القول من أولئك وهؤلاء.
ومن الصدف الغريبة ان المحدثين من المفسرين يرون أن هذه القصة الأخيرة قصة الذي مر على قرية وهي خاوية قد يكون القصد منها التمثيل. فقد جاء في المنار ج3 ص49 بعد تفسيره لتلك القصة ما يأتي (ويحتمل أن تكون القصة من قبيل التمثيل).
إن الأمر كما قلت في مقالي السابق يحتاج إلى النظرة الدقيقة الفاحصة. نظرة العلماء الذين يقفون على أسرار الصناعة الأدبية ويفقهون المسائل القرآنية ويواجهون الحقائق مواجهة العلماء. أما أولئك الذين يفزعون ويهرعون إلى وهمهم كلما تحدث متحدث ليقذفوه بالكفر ويرموه بالإلحاد فأولى للقرآن ثم أولى لهم أن يختفوا من الميدان.
إن قوة عقيدة المشركين وسعة أفق المستشرقين يضطراننا إلى أن نتناول المسالة كما يجب أن يتناولها العلماء.
لنستعرض سويا هذه الآيات ولننظر فسنرى:
في سورة الأنعام يذهب المشركون إلى النبي يستمعون إلى القرآن لكنهم بعد الاستماع يجادلونه ويقولون له ما هذا إلا أساطير الأولين. ونعتقد انهم لم يقولوا هذا القول في مواجهته وأمام سمعه وبصره إلا وهم يعتقدون أن ما يقولونه الحق وما يرونه الصواب. ومعنى ذلك أن الشبهة عندهم قوية جارفة.
وفي سورة الأنفال يذهبون ويستمعون وبعد هذا وذاك يقولون قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين ولا يكتفون في هذا الموطن بهذا القول وإنما يذهبون إلى ابعد من هذا في التحدي ويقولون. اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا
حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب اليم.
وإذا كنا نعتقد بصدق القرآن في تصوير احساساتهم كان لا بد لنا من التسليم بان هذه العقيدة قوية جارفة وتقوم على أساس يطمئن إليه المشركون ذلك هو ورود بعض الأساطير في القرآن الكريم.
وفي الأحقاف يقف ولد هو فيما يروى المفسرون ابن أبي بكر من والديه هذا الموقف القاسي العنيف (والذي قال لوالديه أف لكما أتعدانني أن اخرج وقد خلت القرون من قبلي وهما يستغيثان الله ويلك آمن إن وعد الله حق فيقول ما هذا إلا أساطير الأولين).
وإذا كنا نعتقد بصدق القرآن في تصويره لخلجات الأنفس فان الأمر الذي لا بد لنا منه هو الاعتراف بان هذا الشخص الذي يضجر من والديه ويتأفف من قولهما ويشك في عودته إلى الحياة مرة ثانية ويقيم في هذا الشك على ملاحظته لظاهرة من الظواهر هي أن القرون قد خلت من قبله ولم يعد إلى الحياة أحد كان قوي العقيدة شديد اليقين في أن ما يروى له من الأساطير.
وهكذا نلحظ إن الشبهة قوية عنيفة وأن القرآن يصورها تصوير الصادق الأمين. ونحس نحن من تصوير القرآن لها أن القوم كانوا صادقين في التعبير عما يحسون ويشعرون به نحو ما يتلى عليهم من أي القران الكريم.
والمسالة عقلا لا تحتمل اكثر من فرضين.
الأول أن القوم يقولون هذا القول كذبا وادعاء لتضليل الناس وصرفهم عما يتلو عليهم محمد من آي الذكر الحكيم.
الثاني أن القوم كانوا يعبرون التعبير الصادق عما يدور في خلدهم من إحساسهم بان فيما يتلى عليهم بعض الأساطير.
ونرجح نحن الغرض الثاني ولكن نكتفي في ترجيحنا له على القول السابق من صدق القرآن في تصوير إحساسهم من أن الذي يتلى عليهم فيه بعض الأساطير. وإنما سنعمد إلى شئ آخر يدل على صدق عقيدتهم هو موقف القرآن الكريم.
لنستعرض الآيات مرة أخرى فسنرى.
1 -
اكتفى القرآن بوصف هذا الصنيع من المشركين في آيات سور الأنفال والمؤمنون
والنمل والأحقاف.
2 -
اكتفى القرآن بتهديد القوم في آيات سور الأنعام والقلم والمطففين. وهو تهديد يقوم على إنكارهم ليوم البعث أو على صدهم الناس من اتباع النبي وليس منه التهديد على قولهم بان الأساطير قد وردت في القرآن الكريم.
3 -
ومرة واحدة رد القرآن عليهم قولهم وهي المرة التي ترد في سورة الفرقان وهذه هي الآيات. قال تعالى (وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا قل أنزله الذي يعلم سر السموات والأرض انه كان غفوراً رحيماً).
وهو رد لا ينفي كما نرى ورود الأساطير في القرآن وإنما ينفي أنها من عند محمد يكتبها وتملى عليه، ويثبت أنها من عند الله. قل أنزله الذي يعلم السر. . . . الخ.
ويحسن بنا أن نثبت هنا نصاً للرازي في هذه المسالة فقد قال رحمه الله في ج6 ص 354 ما يأتي (البحث الأول في بيان أن هذا كيف يصلح أن يكون جواباً عن تلك الشبهة وتقريره ما قدمنا من انه عليه السلام تحداهم بالمعارضة وظهر عجزهم عنها ولو كان عليه السلام أتى بالقرآن بان استعان بأحد لكان من الواجب عليهم أيضاً أن يستعينوا بأحد فيأتوا بمثل هذا القرآن فلما عجزوا عنه ثبت انه وحي الله وكلامه فلهذا قال (قل أنزله الذي يعلم السر. . . . . .) انتهى.
والذي يحسن بنا ان نلتفت إليه هنا إن الرازي يسال عن كيفية أن يكون قوله تعالى: قل أنزله الذي يعلم السر. . . . . . . الخ إجابة عن قولهم وقالوا أساطير الأولين. . . الخ. ذلك لان الرد الذي كان يتوقعه الرازي إنما يكون بنفي الأسطورية عن القرآن ومن هنا حاول ما حاول ليجعل القرآن ملاقية للشبهة.
واعتقد إن الرازي لم يفطن إلى الصواب فإجابة القرآن هي الإجابة الطبيعية وهي الإجابة التي لا محيد عنها في هذا الميدان ذلك لان مدار الحوار بين القران والمشركين لم يكن عن ورود الأساطير في القرآن وإنما كان على اتخاذهم ورود الأساطير دليلا على إن القرآن من عند محمد لم يجئه به الوحي ولم ينزل علية من السماء. ومن هنا كانت الإجابة في محلها وكانت إثبات أن القرآن من عند الله (قل أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض). ولم تكن الإجابة نفي ورود القصص الأسطوري في القرآن. وهذا هو الذي
نص عليه الطبري فيما نقلنا منه من حديث في مقالنا السابق. وهذا هو الذي يدل عليه ما ذكره القران من قبلهم (وإذا قيل لهم ماذا انزل ربكم قالوا أساطير الأولين).
ذلك لأنهم كانوا يستبعدون أن يصدر مثل هذا القصص الأسطوري عن الله. ومن هنا وقفوا موقفهم من النبي وقالوا عنه وعن القران ما قالوا.
والآن نستطيع أن نلتفت قليلا إلى الوراء.
لقد رصدنا في مقالنا السابق ما نجنيه من الفوائد وقلنا إن أهمها تخليص القران من مطاعن الملاحدة والمستشرقين. والآن نعود إلى رصد شئ آخر هو اعز علينا واثر عندنا من كل ماعداه ذلك لأنه سر قوى من أسرار الإعجاز القرآن الكريم.
لقد كان هذا الصنيع الأدبي من القرآن - وهو بناءه بعض قصصه الدينية على أساس من الأساطير القديمة - تجديدا في الحياة الأدبية عند العرب المكيين. وكان تجديدا لم يعرفه القوم من قبل لبعدهم عن الكتب السماوية ومن هنا أنكروه وقالوا ما قالوا عن النبي وعن القرآن الكريم.
ولقد كان هذا الصنيع الأدبي مما ألفه القوم من المدنيين خاصة أهل الكتاب ذلك الصنيع الذي جرت علية التوراة وجاء به الإنجيل ومن هنا لم ينكروه ولم يقولوا فيه مثل ما قال الأولون من المكيين. ولا يزال هذا الصنيع حتى اليوم من عمل الأدباء المجيدين ولا بدع في ان يكون صنيع القرآن وهو في أعلى ما عرفت العربية من طبقات البلاغة وأدب القائلين.
وهذا ما نحسب انه السر الذي أشرنا إليه في أول هذا المقال من وجود هذه العقيدة بمكة واختفائها بانتقال النبي إلى المدينة لمعرفة الآخرين لذلك الصنيع.
تلك هي نظرة القرآن في موقفه من حديث القوم عن الأساطير ألممت بها وشرحتها كما فهمتها وأرجو أن أكون في هذا الفهم من الموفقين.
والآن أفلا يزال الأحمدان الفاضلان عند رأيهما من أنا نستحق أن نتهم بالكفر ونرمى بالزندقة ونوصم بالإلحاد.
اللهم إنك لتعلم أنا نحرص على فقه كتابك المعجز ووحيك العربي المبين.
واللهم إنك لتعلم أنا قلنا ما قلنا طلباً للفهم الدقيق لآياتك وحباً في الوقوف على سر من
أسرار إعجازك.
واللهم إنك لتعلم أنا نؤمن إيماناً قوياً جازماً بصدق قولك المنزل على نبيك المرسل (ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون فتول عنهم حتى حين وأبصرهم فسوف يبصرون).
ولقد صدقت يا الله فانتصر الحق وآمن بالرأي من لم يؤمن به من قبل، والسلام.
محمد أحمد خلف الله
كلية الآداب - جامعة فؤاد
بين السياسة والأدب:
إنجلترا في مرآة حافظ
للشيخ محمد رجب البيومي
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
ونعود ثانية إلى حافظ، فنذكر انه استقبل السير غورست خليفة اللورد كرومر بقصيدة حافلة، نطق فيها بآلام الشعب وآماله وعاوده السخط على العميد الراحل، فسلقه بلسان حاد قاتل، ثم انتقل به الحديث إلى عدو اللغة العربية (دنلوب) وما ارتكبته في دار المعارف من حماقة ونزق، فقال.
رمى دارة المعارف بالرزايا
…
وجاء بكل جبار عنيد
يدل بحوله ويتيه تيها
…
ويعبث بالنهى عبث الوليد
فبدد شملها وأدال منها
…
وصاح سبيلك أن تبيدي
فليت كرومرا قد دام فينا
…
يطوق بالسلاسل كل جيد
لننزع هذه الأكفان عنا
…
ونبعث في العوالم من جديد
وقد كان شاعر النيل صادقاً حين عبر في هذه القصيدة عما يضمره المصريون للمحتلين من غضب وغيظ. وكيف نغرت في النفوس جراح دامية لا تكاد تندمل حتى يهيجها الشر مرة أخرى فتنفث ما بها من قيح وصديد، اسمعه إذ يقول:
جراح في النفوس نغرن نغرا
…
وكن قد اندملن على صديد
إذا ما هاجهن أسى جديد
…
هتكن سرائر القلب الجليد
فتح غضاضة التاميز عنا
…
كفانا سائغ النيل السعيد
أرى أحداثكم ملكوا علينا
…
بمصر موارد العيش الرغيد
أكل موظف منكم قدير
…
على التشريع في ظل العميد
إذ يقونا الرجاء فقد ظمئنا
…
بعهد المصلحين إلى الورود
وإذا كان اللورد السابق قد ارتكب جرائمه في وضح النهار فإن السير غورست قد تقنع بالمكر والخديعة فأظهر كثيراً من البشر والابتسام، بينما أخذ ينفث سمومه القاتلة في دامس
الظلام ففرق بين العنصرين الوطنين، وأعاد النعرة الطائفية جذعة، ثم اتفق مع أولياء الأمر على محاربة المخلصين من أشياع الحزب الوطني وما لبث المصريون أن عرفوا نيته الخبيثة، فقام حافظ يندد بهذه الملاينة الماكرة، وصاح في ذكرى مصطفى كامل يقول:
وللسياسة فينا كل آونة
…
لون جديد ورأي ليس يحترم
بينا ترى جمرها تخشى ملامسه
…
إذا به عند لمس المصطلى فحم
تصغي لأصواتنا طوراً لتخدعنا
…
وتارة يزدهيها الكبر والصمم
فمن ملاينة أستارها خدع
…
إلى مصالبة أستارها وهم
إذا سكتنا تناجوا تلك عادتهم
…
وإن نطقنا تنادوا: فتنة عمم
ماذا يريدون لا قرت عيونهم
…
إن الكنانة لا يطوى لها علم
قالوا لقد ظلموا بالحق أنفسهم
…
والله يعلم أن الظالمين هم
وأنت ترى شاعر النيل في أبياته المتقدمة غير قاس في هجومه وله العذر في ذلك، فقد كان قانون المطبوعات قد بعث من مرقده إبان ذلك، فقيد حرية الرأي والكتابة، وعملت وزارة بطرس غالي باشا - بإيعاز من غورست - على محاربة الكرام الكاتبين والشعراء النابهين من أبناء الوطن المخلصين، ولم تفلح الضجة الكبيرة التي قام بها الشعب في وجه هذا المشروع الخطير، فأضطر حافظ إلى الملاينة قليلاً بعد أن أصبح القانون ضربة لازب، وبعد أن حاربه في جد وصرامة فقال.
كانت تواسينا على آلامنا
…
صحف إذا نزل البلاء وأطبقا
فإذا دعوت الدمع فاستعصى بكت
…
عنا أسى حتى تفض وتشرقا
كانت لنا يوم الشدائد أسهماً
…
نرمي بها وسوابقاً عند اللقا
مالي أنوح على الصحافة جازعاً
…
ماذا ألم بها وماذا أحدقا
قصوا حواشيها وظنوا أنهم
…
أمنوا صواعقها فكانت أحذقا
كانت صماماً للنفوس إذا غلت
…
فيها الهموم وأوشكت أن تزهقا
كم نفست عن صدر حر واجد
…
لولا الصمام من الأسى لتمزقا
وفي النهاية قد لجأ حافظ إلى الصراحة التامة في موقفه بعد أن عيل صبره، فحذر المصريين من بسمات خورست وندد بوعوده الكاذبة، وأرتاب في ملاينة هذا الثعلب الماكر
فهو يقول في شأنه.
فكم ضحك العميد على لحانا
…
وغر سراتنا منه ابتسام
فلا تتقوا بوعد القوم يوماً
…
فإن سحاب سادتهم جهام
وخافوهم إذا لانوا فإني
…
أرى السواس ليس لهم ذمام
فما سادوا بمعجزة علينا
…
ولكن في صفوفهم انضمام
وقد أراد الله لمصر بعض الخير فمات السير خورست واستراح الشعب من حبائله الصائدة، ولكن حافظاً لم ينتظر في دنيا الحرية كثيراً بعده حتى يواصل حملاته العادلة، بل انتقل إلى العمل في دار الكتب المصرية، وللوظيفة قيود تكبل بها الألسنة الصارخة لا سيما إذا كان صاحبها ذا ضرورة إلى ما تدره عليه من أجر، فألجم الشاعر فاه عن السياسة، وحطم قيثارته الشادية، وتلك خسارة فادحة غرمها حافظ أكبر غرم، كما قابلها عشاق أدبه الرفيع بهم زائد وأسف وجيع.
وقد يقول قائل: لماذا أمسك حافظ عن النظم السياسي كموظف في الحكومة؟ مع إن زملاءه الموظفين من الشعراء النابهين كعبد الحليم المصري، وأحمد نسيم، ومحمد الهراوي، وعبد المطلب قد واصلوا العزف على أوتارهم السياسية، دون أن يقف في طريقهم واقف؟! وأنا أقول عن الرقابة كانت موجهة إليه أكثر من غيره لما يغرفه أولوا الأمر من تأثيره القوي في الجمهور، وإلا فهل كان من المعقول أن تندلع الثورة المصرية، وينفى الزعماء، ويعتقل الشباب، وتنشق الكلمة وتختلف الأحزاب؛ وشاعر النيل ساكت عن ذلك كله بإرادته ومشيئته! كلا ثم كلا! بل إنه نظم قصائد حية، ونشرها غفلاً من إمضائه كما وزعت بعض المنشورات السياسية تحمل قلائده اللامعة، وجميع ما قاله في هذه الآونة لم ينشر على الناس عامة إلا بعد استقرار الحالة في مصر، وقد أشار إلى ذلك ديوانه في مفتتح بعض القصائد، كما أنه كان ينتهز الظروف التي تحميه من العقاب فينفض ما في وعائه، واقرأ قصيدته التي قالها في تهنئة سعد زغلول بنجاته سنة 1924 فستجده يقول.
لا تقرب التاميز وأحذر ماءه
…
مهما بدا لك أنه معسول
الكيد ممزوج بأصفى مائه
…
والختل فيه مذوب مصقول
كم وارد يا سعد قبلك ماءه
…
قد عاد منه وفي الفؤاد غليل
القوم قد ملكوا عنان زمانهم
…
ولهم روايات به وفصول
ولهم أحاييل إذا ألقوا بها
…
قنصوا النهى فأسيرهم مخبول
ولكل لفظ في المعاجم عندهم
…
معنى يقال بأنه معقول
نصلت سياستهم وحال صباغها
…
ولكل كاذبة الخضاب نصول
جمعوا عقاقير الدواء وركبوا
…
ما ركبوه وعندك التحليل
وهذه نفثة حارة ترى لها نظائر عديدة في مرائيه الخالدة لزعماء النهضة المصرية، وهي - على كل - قد أفصحت عن لواعجه الكظيمة، وإن لم تكن الغرض الأول الذي قصد إليه الشاعر، وإنما مهد لها فاحسن التمهيد.
هكذا وقد مكث حافظ في منصبه الحكومي عشرين عاماً خسر فيها الشعر السياسي كثيراً من دوره، ثم أحيل إلى المعاش قبل وفاته بأربعة أشهر فقط، وما كاد يستنشق نسيم الحرية حتى نظم في هذه الأيام المعدودة قصائد عامرة من قوله البليغ، ندد فيها بأساليب الدخلاء، وصنائعهم من المصريين، وقد بلغت إحدى قصائده مائتي بيت!! ولو مد الله في أجله لبل الصدى ونقع الغليل على أنه رحمه الله لم يتعمل مطلقاً في شعره الأخير، بل كان ينظمه في سرعة تشبه الارتجال، كقوله في مخاطبة المندوب السامي.
ألم تر في الطريق إلى كياد
…
تصيد البط بؤس العالمينا
ألم تلمح دموع الناس تجري
…
من البلوى ألم تسمع أنينا
ألم تخبر بني التاميز عنا
…
وقد بعثوك مندوباً أمينا
بأنا قد لمسنا الغدر لمسا
…
وأصبح ظننا فيكم يقينا
كشفنا عن نواياكم فلستم
…
وإن برح الخفاء محايدينا
ضربتم حول قادتنا نطاقاً
…
من النيران يعيي الدارعينا
على رغم المروءة قد ظفرتم
…
ولكن بالأسور مصفدينا
ولعل القارئ قد نظر من وراء هذه الأبيات الحزينة روح قائلها اليائس، ولا جرم فهي زفرة حارة صعدت من صدر ضيق يشعر أنه في عهده الأخير.
ولا نختم هذه البحث دون أن نشير إلى الأبيات التي مدح بها حافظ أخلاق الإنجليز أثناء قيام الحرب العالمية الأولى فقد خدع رحمه الله وكان طيب القلب - بما كانوا يصفون به
أنفسهم من دفاع عن الحرية، وتضحية في سبيل المبادئ الإنسانية، فقال يخاطب السلطان حسين كامل.
ووال القوم انهموا كرام
…
ميامين النقيبة أين حلوا
وليس كقومهم في الغرب قوم
…
من الخلاق قد نهلوا وعلوا
فما درهم حبال الود وأنهض
…
بنا فقيادنا للخير سهل
وما لبث الشاعر أن أدرك خطأه الواضح. حيث صدق دعايتهم الجوفاء، فانبرى يشهد بأخلاقهم مستغفراً عن ذنبه السالف وآخر ما قاله في ذلك.
لا تذكروا الأخلاق بعد حيادكم
…
فمصابكم ومصابنا سيان
جاربتمو أخلاقكم لتحاربوا
…
أخلاقنا فتألم الشعبان
ثم استسلم رحمه الله إلى نومه الطويل
(وبعد) فقد كان الأولون من المؤرخين، يذكرون الحادث السياسي مشفوعاً بما قاله الشعراء فيه، وقد رأينا كثيراً ممن أرخوا فترة الاحتلال الداجية قد تنكبوا عن هذا الطريق، فلم يسجلوا ما ذاع به الشعراء في هذه المحنة القاسية، على ما فيه من ترويح للباحث، وإمتاع لروحه الملول، ولك أن تقدر سرور القارئ حين يرى بجانب تاريخ كرومر نفثة حارة لشاعر قومي كمحمد حافظ إبراهيم.
(الكفر الجديد)
مولد شاعر
للآنسة نعمت فؤاد
أرى خلل الرماد وميض نار
…
وأخشى أن يكون لها ضرام
فإن لم يطفها عقلاء قوم
…
يكون وقودها جثث وهام
أقول من التعجب ليت شعري
…
أأيقاظ أمية أم نيام
فإن كانوا لحينهموا نياماً
…
فقل قوموا فقد حان القيام
بهذه الأبيات سار كتاب نصر بن سيار والي خراسان إلى مولاه أمير المؤمنين مروان بن محمد. وكانت الدعوة للرضا من (آل محمد) تسير بنجاح في أنحاء دولة العروبة لاسيما في خراسان موطن الفرس الذين تغلي صدورهم حقداً على بني أمية. ألم يدعوهم (الموالي) إدلالاً عليهم بالسيادة العربية؟ ألم يقصوهم عن المناصب الرفيعة ضناً بها على غير العرب؟ لينتقم الفرس إذن وليهتبلوا الفرصة وهاهي تي قد حانت. إن العرب منقسمون على أنفسهم إلى هاشميين وأمويين كما انقسموا في السقيفة إلى مكيين ومدنيين فليضربوا هؤلاء بهؤلاء عسى أن يذهبوا فينفسح الطريق لعودة المجد السليب.
بث الفرس الدعوة لبني هاشم عساهم إن آل الملك إليهم عرفوا لهم صنيعهم وأثابوهم عليه نفوذاً حرموه، وجاهاً ولى حين آذن القدر شمسهم بالمغيب.
وأنضم إلى الفرس ربيعة واليمن ولم يبق مع بني أمية إلا المضربون. وكان مروان خليقاً بالقضاء على الثورة والانتصار عليها كما انتصر معاوية على أبطال صفين لولا أنها اندلعت في كل مكان فهي تمور.
إذن حان القيام كما قال نصر بن سيار فأرسل الخليفة الجيوش إلى أطراف الدولة لتطفئ الفتنة وتقر السلام.
وسار الجيش الرئيسي إلى خوزستان جيش لهام لا تتبين العين جنوده من العثير المثار. وما إن دخل الأهواز عاصمة خوزستان حتى ألقى الرعب في القلوب قبل أن تقتضي السيوف وتفوق السهام وتشرع الرماح.
وسر الخليفة إذ اطمأن على هيبته وسلطانه في ملكه وفرح الجنود إذ كفاهم الله القتال. ورجع القائد بجيشه بعد أن ترك قوة تقمع من تحدثه نفسه بالوثوب.
وكان (هاني) ممن بقي في الأهواز من الجنود. وتاقت نفسه يوماً إلى الخلوة في ناحية من المدينة يتملى الذكريات ويحيا في الشام بفكره ساعة أو بعض ساعة يستجلي مغازل صباه، ومغاني هواه، وتربة آبائه وأجداده على الذكرى تفيض على قلبه سلاماً بهدهد حنينه ويفثأ لوعته.
وأطاعت (هاني) قدماه حتى انتهى إلى النهير الذي تقع عليه مدينة الأهواز والذي يصب في شط العرب. فرآه أبيض الصفحة صافياً تتهامس مويجاته ويميل النسيم بأغصان الشجر عليها فتخالها تسترق السمع.
ويسير (هاني) مع النهر في اتجاهه مأخوذاً بسحره، طروباً من الأغنية الرائعة التي تتألف من هسيس النهر، وهفهفة النسيم، ومغامسة الشجر.
وسار (هاني) بضع خطوات ثم وقف فجأة مبهوتاً أو كالمبهوت أي فتاة هذه التي راعته هذه الروعة؟
إنها فارسية صغيرة لم تتجاوز بعد عامها العشرين قد أخذت مكانها تحت شجرة فينانة على شاطئ النهر. وكانت بنت الفرس تتألق في ثوب أرجواني جميل قد أرخت غدائر نصف منحلة كليل امرئ القيس إذ كانت تتهدل على كتفيها تارة ويلقي بها النسيم على صدرها تارة أخرى في حركة تشبه موج البحر.
ورجعت الفتاة إلى قريتها (استانة أتار) ومعناها بالفارسية باب النهار وصاحبنا في إثرها لا يلوي على شيء وهناك عرف أن اسم فتاته (جلبان) ومعناها بلغة قومها (غصن الورد).
لكأنما وضع لها هذا الاسم الجميل بعد ما تفتحت من كمها فهذه القامة الفارعة أشبه شيء بالغصن الريان، وهذا الوجه المشرق الذي يتورد إلى كل من لاقاه هو في جمال الورد يجذب إليه الفراش من كل لون.
ولم يمض على زواج (هاني) من جلبان شهور حتى دعي إلى الانضمام إلى الجيش المحارب.
ولبى الفتى العربي داعي الوطن وداعي العصبية التي طالما فخرت على الفرس.
والتقى الجيشان عند نهر الزاب وكان قتال. . . قتال رهيب يحضأ في ناره الفرس الذين هزمهم العرب في القادسية واليرموك فأرادوه ثأراً يبرئ النفوس التي تتمزع من الغيظ،
ويغسل العار.
وعثر جد أمية لما أراد الله أن يذهب بدولتهم وطاحت الحرب بمروان ورجع جنود الأمير عندما أصبحت المقاومة عديمة الجدوى وآب هانئ إلى عروسه كاسف البال تعس النفس لهزيمة العرب فوجدها جذلة لظفر الفرس فخورة بنصرهم.
ولما كان القلب لا يعرف الجنس في هواه فقد عاش الزوجان في سعادة لا يرنق صفوها كدر.
وولد لهما في دولة العباس ابنهما (الحسن) الذي عرفته قصور الرشيد والأمين نديماً شاعراً، وعرفته بغداد طائرها الغرد الذي طالما شدا بحضارتها وشاد بمجدها وصور نعيمها، وغنى مجالس انسها. وعرفته البصرة شادياً للعلم والأدب والشعر في مسجدها ومربدها ثم عالماً شاعراً، وعرفته مصر شاعراً فحلاً يفد عليها مادحاً للخسيب مدحته البلقاء التي مطلعها:
أجارة بيتينا أبوك غيور
…
وميسور ما يرجى لديك عسير
تلك القصيدة التي عارضها شاعرنا البارودي بقصيدته التي مطلعها هذا البيت الرقيق الشجي:
تلاهيت إلا ما يجن ضمير
…
وداريت إلا ما يتم زفير
هذا هو الحسن بن هانئ الذي كنى نفسه أو حمله أستاذه خلف الأحمر على التكني بكنى اليمن فتكنى أبا نؤاس.
نعمت فؤاد
من وراء المنظار
عجول وأناسي. . .!
- يا شيخ. . . يا معلم. . . صلي عا النبي!
- أصلي عا النبي إيه. . . اسكت يا عم خليك في حالك. . .!
صاح بالعبارة الأولى رجل في المدخل الشمالي لميدان السيدة زينب، ينادي بها فظاً غليظ القلب من بني آدم كان بالليل يسوق أمامه عدداً من العجول الصغيرة قد سلكها جميعاً في حبل، وصار يدفعها بإحدى يديه في غير هوادة إلى حيث تذبح، ويهوي على أجسامها لا يبالي أين يقع ضربه بحبل غليظ معقد كلما أبطأت، أو على الأصح كلما جهدت وتقطعت أنفاسها فاضطرها الإعياء والكلال إلى الإبطاء. . .
ورد ذلك اللفظ في غلظة ووحشية يطلب إلى من يسأله الرفق أن يبقى في حاله فلا يتدخل في شأنه؛ وما ملك هذا إلا أن يحوقل ويستغفر الله ويستعيذ به، ويركن بعد لسانه إلى أضعف الإيمان!
ونظرت فإذا بذلك الغليظ اللفظ يزيد الضرب بحبله على أجسام هاتيك العجول الجاهدة ويزيدها دفعاً ولكماً؛ ووقع أحدها على الأرض فجذب الصف كله وجذبه الصف فانقلب على ظهره وزعق زعقة مثلت لي ألمه بصورة لم يكن ليمثلها في كلامه لو أنه تكلم!. . . زعقة أشبه بزعقة الآدمي يبتعثها منه الألم وفمه مزموم، فهي بين حنجرته وخيشومه. . . وكأنما يقول العجل الصغير آه. . . وخيل إلي كأنما يدعو العجل ضاربه أن يصلي على النبي! وأهوى الغليظ الجلف بحبله المعقد على العجل المسكين وحده، وقد تمدد على جنبيه وهو يحاول أن يضع صدغه على الأرض فتجذبه العجول وقد أضطرب نظامها، وإن جسده كله لينتفخ ويهبط في سرعة من فرط ما يلهث، وإنه ليحاول النهوض من ألم الضرب فما يزيد على أن يبسط أرجله ويثنيها في الهواء تارة، وعلى الإسفلت الجامد جمود قلب هذا الغليظ تارة أخرى. . . ثم جذبه من إحدى أذنيه ومن ذيله جذبة قوية وركله ركلة شديدة، فوقف على رجليه يلهث، ومشى مع بقية العجول، وصاحبه الفظ يمسك بذيله مخافة أن يقع ثانية على الأرض. . .!
وتحرك قلبي لما رأيت، ولكني لم استطع أن أصنع شيئاً، ولا يعيبن القارئ على أضعف
الإيمان، فالرجل غليظ وحبله أغلظ، وما تعلمت الملاكمة، أو كانت لي حتى بمخاطبة الغلاظ الجهال طاقة. . . ولم يكن على مقربة مني شرطي استعينه. . . شرطي؟ والله لو وجد لسخر مني أن أدعوه إلى مؤاخذة الرجل على صنعه، ولظن بعقلي الظنون. . .
وأعيذك أيها القارئ أن تعجب أن يتحرك قلبي لمثل هذا المنظر، فما أحب إلا أن تكون رفيقاً، وإذا أنت ترفقت بالعجول كنت حرياً أن تترفق ببني آدم. . . ولقد تداعى لهذا المنظر الأليم في ذهني معنى. . . بل معان. . . فكم من الآدميين من يرتبطون هكذا على خسف ويسقطون من كلال وإعياء، وعلى جنوبهم وظهورهم تهوي أيد خفية بما هو أقسى من الحبل المعقد الغليظ. . . أجل كم من آدمي في الأصفاد والأغلال وإن لم تعض بساقيه سلسلة، أو يخنق عنقه غل. . . كم من البشر من يساقون كما تساق هذه العجول ليكدحوا في لظى الصيف وفي زمهرير الشتاء كي يسعد فريق مثلهم من بني آدم بطيبات الحياة، وأي فرق لعمري بين هذا وبين الرق؟!
آه لقلبي. . . وأف لمنظاري. . . يا عجباً! ما أسرع ما تمثل لي هذا المعنى الذي طاف بخاطري، فإذا هو صورة مجسدة تدب على الأرض، فهاهو ذا عسكري غليظ شديد يسوق أمامه رهطاً من الغلمان، قد ربط ذيل هذا في ذيل ذاك، أو يد هذا في يد جاره، إن لم يكن لهما ذيلان يربطان، وقد التقطهم جميعاً من الشارع، وكان ذلك في نفس الميدان من مدخله الجنوبي، ولا بد أن قطيع العجول قد مر برهط الصبية قبل أن تقع عيني عليهم بدقيقتين أو ثلاث!
وأخذ العسكري الغليظ الفظيع يهوي بكفه الثقيلة المعقدة بما يتحلى به من خواتم غليظة على قفا هذا الصبي الهزيل مرة، وعلى قفا ذاك المريض النحيل مرة، والويل لمن يلتفت وراءه من الصبية؛ وكان هؤلاء المساكين كلما سمعوا وقع الكف الثقيلة المعقدة على قفا أحدهم، رفعوا أكتافهم ونزلوا برؤوسهم ليخفوا أقفيتهم، والرعب ملء جسومهم، وحسبهم ما هم فيه من جوع وعري ومرض وشقاء. . .
ولم أطق صبراً فدنوت من هذا العسكري العاتي، فليس في يده حبل أخاف منه، وإنه لحري أن يغره تدخلي وجرأتي فيحسبني من رجال النيابة مثلاً أو من أولي الجاه على أي حال وقلت في لهجة الآمر لا في لهجة المستفهم (لا تضرب هؤلاء المساكين يا شاويش).
وصدق ظني فقد رفع العسكري يده إلى رأسه بالتحية، وراح يفهمني أن هؤلاء هم سارقو الجيوب وخاطفو الحلي. . . و. . . و. . . فقاطعته وأنا أوهمه أني أحفظ رقمه قائلاً (لا تضربهم مرة ثانية) ونظر إلى هؤلاء المساكين وقرأت في كل وجه من وجوههم الشاحبة معنى أسمى من أن أصفه بالشكر. . . ووقعت نظراتهم من نفسي موقعاً لن ينهض لتصويره أبلغ الكلام. . .
وتدخل شاب حاسر الرأس عليه حلة أنيقة وتحت إبطه مجلات وكتب فخاطب الشرطي في عنف قائلاً: (ألك أولاد يا شاويش؟ أترضى أن يعامل أولادك هذه المعاملة؟) ثم أدار إلي الحديث قائلاً (ومع ذلك فنحن كما نزعم أمة متمدنة. . . في أي بلد متمدن يوجد مثل هؤلاء المساكين في الشوارع على هذه الصورة؟ وأين ما نسمع عنه من أسماء المبرات وجمعيات الإحسان والخير؟. . لقد مر بي منذ لحظة قطيع من العجول يدفعه فلاح عات كما يدفع هذا الشرطي الصبية فاشمازت نفسي لذلك المنظر وتكدر خاطري، ثم ما لبثت أن رأيت هؤلاء المساكين. . . ألا إن بيننا وبين الرقي أجيالاً وأجيالا وإنما تخدعنا العمارات الضخمة والسيارات الفخمة والعواصم الكبيرة).
وانطلق الشاب وقد غاب عن بصره وبصري الشرطي والغلمان، وقلت لنفسي ما أوسع الفرق بين مصير العجول ومصير الصبية، فإنما تساق هذه العجول إلى حيث تريحها سكين الجزار، ويساق هؤلاء الصبية إلى حيث ينتظرهم العذاب الأليم!
الخفيف
رسائل حائرة:
الرسالة الثالثة. . .
للأستاذ إبراهيم محمد نجا
حسبتك تعرفين دواء روحي
…
وخلتك تعطفين على جروحي
ولكني وجدتك لم تبالي
…
بما يلقى أخو القلب الطليح!
بثثتك ما ألاقي من زماني
…
وبحت بما لدي؛ لكي تبوحي
فكان الصمت والإعراض رداً
…
أقض مضاجعي، وأمض روحي
عرفتك. . . فأذهبي أو كفاك أني
…
من الآلام كالعاني الطريح
سأحيا طول أيامي وحيداً
…
على الحرمان، واليأس المريح
سأجعل هذه الأيام تهوى
…
هوى الصخر من فوق السفوح
وأعزف للغناء نشيد روحي
…
ليحملها إلى الأفق الفسيح!
فإن حمل الغناء حطام روحي
…
فلا تبكي عليَّ، ولا تنوحي
وإن وارى الثرى ذرات جسمي
…
فقري عند ذلك، واستريحي
ولا تضعي ورودك فوق رمسي
…
ولا تبكي هناك على ضريحي
فأنت قتلت آمالي جميعاً
…
وبعثرت الشباب بكل ريح!
وأنت جرحتني في القلب جرحاً
…
أراه غير مندمل القروح
ولو أني وصفتك في قصيدي
…
بما تدرين من وصف فصيح
لقالوا إنني إياك أعني
…
فمن باغ عليك، ومن نصيح
ولكني سأكتم ما بنفسي
…
وأمنعها من القول الصريح
واحفظ في حنايا القلب شيئاً
…
بعثت به من الوطن الجريح!
رسالتك التي صورت فيها
…
تعارفنا على رغم النزوح!
وما أنا قد نسيت جراح قلبي
…
ولا أنا عن جفائك بالصفوح
ولكني أرق لكل أنثى
…
وإن جارت على الأمل الطموح!
وأدفع عن صباها كل سوء
…
وأحمله بقلب مستريح
سأنسى أنني أفضيت يوماً
…
بأسراري إلى قلب جموح
سأنسى أنني منيت قلبي
…
بأن يروى من النبع الشحيح!
سأنسى. . . ثم أذكر أن يوماً
…
سيأتي قد تطيب به جروحي
إبراهيم محمد نجا
صوت من الشمال. . .
للأديب أحمد هيكل
أشقاءنا هذي لٌحون من الخلد
…
وشعر كأنفاس الأزاهير والورد
وليست لحوني رجع ناي وإنما
…
صدى نبض مصر بالمحبة والود
وما هو شعر بل قلوب تجمعت
…
أكاليل من آل الشمال لكم عندي
تحايا أشقاء تناهى حنينهم
…
فأضحوا على شوق وباتوا على سهد
تحايا ظماء رَيِّهٌم أن يقبلوا
…
أشقاءهم ألفاً على الثغر والخد
تحايا الملايين الذين قلوبهم
…
تكن لكم حباً هو النار في الزند
تحايا الوفيين الذين رجاؤهم
…
تفيؤكم ظل الزفاهة والسعد
وآمالهم أن تبقوا - الدهر - إخوة
…
وغاياتهم أن تبلغوا ذروة المجد
أشقاءنا يا من بلادي بلادكم
…
وخالكم خالي وجدكم جدي
ويا من رآنا الدهر شعباً موحداً
…
على حين كان الدهر يلعب في المهد
ويا من توحدنا: دماء وألسناً
…
وديناً نهينا فيه عن فرقة تردي
ويا من سقانا النيل ماء ووحدة
…
ستبقى على رغم الدسائس والكيد
فهيهات أن يقووا على فصم عروة
…
تناهت بها عقدا يد الأحد الفرد
أشقاءنا أنا على العهد لم نزل
…
وإيماننا أن الجنوب على العهد
فنحن وأنتم مثل جسم وروحه
…
يواريهما التفريق في ظلمة اللحد
ونحن وأنتم كالعيون بياضها
…
بغير سواد ليس يبصر أو يهدي
أشقاءنا إن الأفاعي توافدت
…
علينا من (التاميز) سافرة القصد
خذوا حذركم فاللدغ منها سجية
…
وإن خادعت باللين فيء لمس الجلد
خذوا حذركم لا تتركوها سلاسلاً
…
مسممة حول الرقاب وفي الأيدي
خذوا حذركم لا تتركوها مقارضاً
…
فتشطرنا شطرين كالقوم في الهند
خذوا حذركم لا يقرب النيل سمها
…
ليبقى على الأحقاب أحلى من الشهد
فترشف من السلسل العذب اخوة
…
يظللنا تاج على مفرق المجد
أحمد هيكل
البنفسج
للأستاذ محمود عماد
لك يا بنفسج زرقة
…
عيني إليها تستريح
من زرقة البحر استعير
…
ت أو من الجو الفسيح
أو من عيون الراهبا
…
ت الشقر ترنو للمسيح
كم قلت رغم لسانك المعقو
…
د من قول فصيح
وأريجك الوسنان ما
…
أحناه في صدري الجريح
مالي إذا أستافه
…
يعتادني خدر مريح
يسري بروحي بين أو
…
دية من الأحلام فسيح
فأخالني البدويَّ طا
…
لع مرج قيصوم وشيح
أو راوحته من حمى
…
ليلاه عند الفجر ريح
تدري بسري يا بنف
…
سج من صباي وما تبوح
كنت الهدية والتحي
…
ة في الدنو وفي النزوح
إني كبرت ولم تزل
…
بشبابك الغض الصبيح
تهواك كل مليحة
…
وشذى هواك بها يفوح
وبصدرها العالي تح
…
لك حين تغدو أو تروح
إذ أنت فوق الصدر ريحا
…
ن وطي الصدر روح
عجيباً تصبيت المل
…
يح وما تصباك المليح
سيماك تشعر بالوقا
…
ر الجم والعقل الرجيح
يا راهب الزهر الوقو
…
ر عليه قائمة المسوح
في ديره يرعى عذا
…
رى الورد دامية الجروح
هات اسقني من خمر دير
…
ك في الغبوق وفي الصبوح
محمود عماد
الأدب والفن في أسبوع
الناصر:
مسرحية شعرية وضعها الأستاذ عزيز أباظه باشا، وأخرجها الأستاذ زكي طليمات، وافتتحت بها الفرقة المصرية موسم التمثيل بالشتاء على مسرح الأوبرا الملكية.
تتكون المسرحية من أربعة فصول، يظهر على المسرح في الفصل الأول عبد الرحمن الناصر الخليفة الأموي بالأندلس، وقد عقد مجلساً حضره الوزراء والقواد والعلماء والأمراء والشعراء، لاستقبال الوفود التي بعث بها إليه ملوك البلاد الأوربية، ليخطبوا وده ويؤكدوا حسن علاقاتهم به، ولبعضهم إلى هذا مطالب كإيفاد طبيب معالج أو قائد مدرب يشبه ما يقال له اليوم (البعثة العسكرية) أو (الخبراء العسكريون).
وتتلخص حوادث الفصول الثلاثة الأخر، في علاقة حب بين (الحكم) ولي عهد الناصر وولده الأكبر وبين فتاة من نسل أحد ملوك أسبانيا الذين تغلب عليهم الناصر، وهي تعيش في كنف الخليفة كابنة له وتدعى (شفق) وتحاول جارية أخرى اسمها (منى) من بني جلدتها أن توغر صدرها على الدولة العربية لتشاركها في العمل لصالح قومهما بالتجسس ونقل أنباء جيش الناصر إليهم، فمرة تنصاع لها، ومرة تغلب جانب الوفاء لحبيبها ولي العهد وأبيه الخليفة الذي يتبناها ويرعاها.
وفي خلال ذلك تظهر منافسة بين ولدي الناصر: الحكم وعبد الله، لأن الثاني ينفس على أخيه إيثار أبيه إياه وتقديمه عليه، فلا يجد وسيلة لنقل ولاية العهد إليه إلا الاتصال بدعاة الفاطميين في الأندلس الذين يغشون القصر لملاقاة عبد الله، فتكشف أمرهم الزهراء الجارية التي فتنت الناصر وملكت هواه، فتحاول إصلاح عبد الله، ويبلغ الأمر مسمع الخليفة فيأمر بقتله. أما الجاريتان شفق ومنى فيجري الأمر بينهما على ما تقدم، حتى يبلغ (الزهراء) أن أخبار الجيش تتسرب إلى الأعداء، فتبلغ عبد الناصر، فيهم باتهام ولده الحكم ولي العهد وقائد الجيش، ولكن تسرع شفق فتعترف بأنها الخائنة التي استغلت حب الحكم في انتزاع الأسرار منه وإيصالها إلى الأعداء، فيوبخها الناصر، ويبكتها الحكم، ثم يتركانها تبكي وتنتحب. . . فتأتي إليها منى، ويحتدم الجدل بينهما، شفق تبدي الندم على الخيانة، ومنى تحاول أن تغير شعورها، ولكنها تيأس منها فتطعنها بخنجر وتتركها تتلوى وتهوى.
فيقبل الحكم ويبدي جزعه، ويأتي الناصر، ويستحث الحكم على النهوض للسير بالجيش المعبأ إلى ميدان القتال، فيتثاقل، فيؤنبه الناصر ويبدي استعداده لقيادة الجيش بنفسه وهو في الشيخوخة، فينهض الحكم من جوار جثة حبيبته، ليذهب إلى ملاقاة الأعداء. وتلتقي الستارتان.
فترى من حوادث المسرحية أن الخيط الذي ينتظمها واهن وهذا الخيط هو حب الحكم لشفق، والظاهر أن الهدف عرض صفحة مشرقة من التاريخ العربي الإسلامي في الأندلس، فيمكن أن يقال غن مسرحية (الناصر) هي مجموعة من المناظر المتخيلة في عصر عبد الرحمن الناصر، ويكون هذا القول أدق من أن تكون قصة أو رواية ذات حبكة، ولها محور تدور عليه الوقائع التي تعبر عن الغرض منها، فهي من هذه الناحية تختلف عن مسرحيتي (قيس ولبنى) و (العباسة) اللتين وضعهما المؤلف من قبل.
وكذلك تختلف مسرحية الناصر عن المسرحيتين السابقتين في أسلوب الحوار، فقد عدل الشاعر في هذه المرة عن الأسلوب الخطابي المطول إلى المخاطبة بالقدر الطبيعي المعقول وإلى اللباقة وبراعة اللفتة، مما بعث الحياة في الحركة على المسرح. وقد تجلت إنسانيته في المواقف التي أنطق فيها أشخاصه بالألم من ألوان في الحياة يبدو في ظاهرها النعيم، كحياة الخصي في القصور الخالية من الزوجة والأبناء، وكعيش الجواري في ظلال النعمة السابغة، محرومات من الحرية والكرامة. . . وسمت شاعريته على لسان شفق وهي تتذكر معاهد صباها في ديار قومها وتقارنها بحياة الذل والإسار في ديار الغالبين، وأجادت أمينة رزق في تمثيل ذلك كل الإجادة.
والمسرحية جيدة من حيث هي شعر، وقد نجحت بعض النجاح في تحقيق الغرض منها، وهو إظهار صفحة مشرقة من مجد العرب بالأندلس، ولم أقل بتمام نجاحها في هذا، لأنها لم تستكمل عرض عناصر ذلك المجد، فقد كان عصر عبد الرحمن الناصر العصر العربي الذهبي بالأندلس الذي يماثل عصر الرشيد بالمشرق، ولم تقم (ذهبية) ذلك العصر على القوة العسكرية فحسب بل قامت، إلى جانبها، على التقدم في العلوم والفنون والآداب، والحديث عن شغف الناصر بها وارتقائها على يديه مأثور مستفيض. ولكن مسرحية (الناصر) قليلة الحظ من هذه العناصر، وبعض هذا القصور يرجع إلى الإخراج وبعضه
إلى التأليف، فقد كان يمكن أن يعرض شيء من النقوش والتماثيل التي كانت يتحلى بها قصر الزهراء والقصر الكبير في قرطبة، والتي أفاض المؤرخون في الحديث عنها والإشادة بفخامتها ورقائق صنعها. وقلت الموسيقى، وأهمل الغناء كل الإهمال، وقد قدمت إحدى الجواري المهداة إلى الخليفة ووصفت بأنها تجيد الضرب على الطريقة العربية، وكانت الزهراء مغنية، ولكنا لم نسمع من الزهراء ولا من تلك الجارية شيئاً. . . هذا واسم الفرقة التي تقدم المسرحية (الفرقة المصرية للتمثيل والموسيقى والغناء!).
وقد أثر عن عبد الرحمن الناصر الشغف بالعلوم والولع باقتناء الكتب، ولكنك تراه على مسرح الأوبرا يتلقى هدية من ملك الروم هي كتاب في النبات، ولا يظهر من الاهتمام أكثر مما تظهر وأنت تساوم أحد الباعة الطائفين بالكتب على المقاهي.
وقد وقع المؤلف أو المخرج، لا أدري أيهما، في أمر شائع في التمثيل المسرحي والسينمي عندنا، وهو تهيئة (أدوار) لبعض الممثلين والممثلات اشتهروا بها وعرفوا بالظهور فيها، (والدور) هنا أعد لأمينة رزق، أعد لها لكي تبكي وتصرخ وتنتحب. . ندماً على الإثم الذي اقترفته. وقد بالغت في ذلك حتى جاوزت الحد.
وقد نقل إلينا التاريخ من وصف عبد الله بن عبد الرحمن الناصر، انه كان تقياً ورعاً، ولكنا رأيناه على مسرح الأوبرا على خلاف ذلك، رأيناه يغازل الزهراء جارية أبيه مغازلة جريئة حتى اضطرت إلى زجره والعنف في مخاطبته، ورأيناه يغاضب أخاه ويعارض في ولايته للعهد، ويخرج عن طاعة أبيه، دون أسباب تتفق ووصف المؤرخين له. . ويبدو لي أن المؤلف كان هنا في مأزق، لأنه مضطر بحكم الغرض أن يظهر شأن الناصر في مظهر حسن، وهذا المظهر لا يتفق مع إيراد أسباب معقولة للخروج عليه، فضحى بعبد الله!
وقد رأيت آخر حوادث المسرحية اعتراف (شفق) بجريمتها وهي نقل أسرار الدولة غلى الأعداء، فلم يقبض عليها، ولم يحقق أمرها، ولم يبحث عمن تتصل بهم، بل وبخها الخليفة وانصرف وعاتبها ولي العهد ومضى. . ثم طعنت بخنجر وأقبل ولي العهد، فجعل يتوجع لها ويتفجع، ويطيل في التعبير عن ألمه وعاطفته بصوت جامد لا تخالطه نبرة حزن. . وكل ذلك دون أن يسألها عمن طعنها ودون أن يبحث عن القاتل الأثيم، ويقبل الناصر ويرى القتيل ولا يسأل أيضاً ولا يبحث عن اليد الخفية المتصلة بالأعداء وتلتقي الستارتان.
غزل علية:
قرأت في العدد الأسبق من الرسالة مقال الشيخ محمد رجب البيومي الذي عنوانه (الغزل في شعر المرأة) وهو المقال الأول في هذا الموضوع الجدير بالبحث، ويدل بدء تناوله للموضوع على ما يرجى من التوفيق في السير فيه.
وقد وقفت في هذا المقال عندما عرض لغزل علية بنت المهدي إذ قال إنها افتدت بحميد بن ثور الهلالي في التجائه إلى الكناية في الغزل عندما تعذر عليه، كما تعذر عليها، الغزل الصريح، ولذلك تغزلت، كما تغزل، في السرحة، قال الشيخ رجب فقد علقت (علية) غلاماً لها يسمى طلا ونظمت فيه من الرقائق الأنيقة ما هو جدير بأمثالها من المثقفات الناعمات، ولكن هرون يقف أمامها وقفة تحدى بها الفن تحدياص صارخاً، فلجأت إلى التغزل في المسرحة مقتدية بحميد إذ تقول
أيا سرحة البستان طال تشوقي
…
ومالي إلى ظل لديك سبيل
فالشيخ رجب يرى أن علية تكنى بالسرحة عن وطل، وليس الأمر كذلك، إنما صحفت (طل) بنقط الطاء فصار (ظل) وتشوقت إليه تحت السرحة، قال أبو الفرج في الأغاني:
(حجب طل عن علية فقالت وصحفت اسمه في أول بيت:
أيا سروة البستان طال تشوقي
…
فهل لي إلى الظل لديك سبيل)
ومن صنيع علية في مثل هذا أنها كانت تقول الشعر في غلام آخر يقال له (رشأ) وتكنى عنه بزينب. . . ومن قولها فيه.
وجد الفؤاد بزينباً
…
وجداً شديداً متعبا
أصبحت من كلفي بها
…
أدعى سقيماً منصبا
ولقد كنيت عن اسمها
…
عمداً لكي لا تغضبا
وجعلت زينب سترة
…
وكتمت أمراً معجبا
وقالت في موضع آخر:
خبأت في شعري اسم الذي
…
أردته كالخبء في الجيب
سفير الفن المصري:
أرسلك إحدى شركات السينما نسخة من الفلم المصري (سفير جهنم) إلى نيويورك لكي يعرض هناك. وهذا حسن لأنه خطوة في سبيل ما يرجى للفلم المصري من الرواج في البلاد الأجنبية وأخذ مكانه في فن السينما العالمي.
ولكن قال النبأ: وعرض (سفير جهنم) على الرقابة الأمريكية لكي تجيز عرضه. وجلس الرقيب يشاهد الفلم، من جاء منظر ترقص فيه هاجر حمدي، فإذا الرقيب يصيح: قف. ثم يأخذ رقم المنظر. ويمضي العرض. . ومرة أخرى يصيح الرقيب: قف. ثم يأخذ رقم منظر آخر. ثم يأمر بقص المنظرين ويقول في تقريره عن المنظر الأول (يحذف منظر الفتاة التي ترتدي ملابس الرقص وترقص بطريقة فاضحة) ويقول عن المنظر الثاني (تحذف الحركات التي تأتيها الفتاة بجسمها في أثناء الرقصة)
وتحذف الرقابة الأمريكية المنظرين الفاضحين المخلين بالآداب واللذين مرت بهما رقابة الأفلام بالقاهرة مر الكرام. .
ورقابة الأفلام المصرية لم تخص سفير جهنم بالكرم والتسامح، وإنما يعم فضلها سائر الأفلام. وليس الأمر مؤسفاً من ناحية الآداب العامة فحسب، وإنما هو مؤسف أيضاً من الناحية الفنية. . ذلك أن القوم عندنا يسترون العجز في الفن بالاستثارة المخزية والإضحاك الفارغ، وإنك لتراهم يعلنون فيقولون شركة كذا تقدم فلاناً وفلانة في فلم كذا. . فالمقصود فلان الذي يضحك (الطوب) وفلانة التي. . .
أما الفلم وقيمته الفنية فشيء يأتي في المرتبة الثانية على أحسن تقدير.
ولا أنسى منظر إحدى الملهيات وقد قامت في الحفل تؤدي مهمتها، وأمر ما لم تكن في تلك الليلة (متحلية) فأعدى جمودها الجمهور، فران عليه الفتور. . . وما أن حركت الفتاة جسمها فتثنت وهزت ما برز منها، حتى صحا النائم وتنبه الغافل. وشارك الرقص التصفيق (على الوحدة!)
فهذه الفتاة لما لم تستطع التأثير بالفن لجأت إلى غير الفن مثلها في ذلك مثل كبير من الأفلام!
وأنظر. . . لقد كنا ندعو إلى عدم محاكاة الأجانب في استهتارهم وتبذلهم، فإذا نحن نسبقهم حتى يخشوا على أخلاقهم منا! وإذا نحن وهم كما قال أبو نؤاس:
وكنت فتى من جند إبليس فارتمى
…
بي الحال حتى صار إبليس من جندي
الراجع في هبته:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: الراجع في هبته كالراجع في قيئه.
وهذا التشبيه من روائع البلاغة النبوية، ومساقه هنا الآن لمناسبة رجوع البدراوي باشا عن تبرعه بأربعين ألف جنيه لإنشاء معمل أمصال الكوليرا.
(العباس)
الكتب
أنات غريب
تأليف الأستاذ حبيب الزحلاوي
يجمع صديقنا الأستاذ حبيب الزحلاوي بين موهبتين، موهبة النقد، وموهبة القصة، والأولى عنده أقوى وأعنف، ولهذا نجده في قصصه كثيراً ما ينسى أشخاصه ويقف هو ليتكلم فينصح ويرشد، ويوجه اللوم والنقد، ويصف ويمعن في الوصف ويستخلص لك العبرة والحكمة، وهو في هذا أشبه بالأستاذ ميخائيل نعيمة، وكل منهما ناقد، وكل منهما قاص. . . .
وهذا اللون من القصص لا يقف بالقارئ عند طرافة الحكاية والسرد القصصي ولكنه يقدم له زاداً موفوراً من المعلومات التاريخية، والتجارب الخاصة، والأوصاف التي تتعلق بالطبائع الإنسانية ومظاهر الحياة، والنقد للأوضاع السائدة بين الناس، فإذا ما تناول القارئ قصة من هذا اللون فإنه يخرج منها وهو يفكر فيما تضمنته من هذا أكثر مما يفكر في طرافتها القصصية ورشاقتها في السرد والحكاية. . . .
وهذه المجموعة (أنات غريب) للأستاذ الفاضل تشتمل على ثماني قصص، وكلها أو أكثرها من هذا اللون الزاخر بالذكرى والمعرفة، فقصة (الدميم) إنما هي درس في القصة، وقصة (ذكريات) إنما هي صفحة من تاريخ الثورة السورية وتصوير لذلك النضال المر الذي قام به شباب سورية لتحرير بلادهم من الاستعمار الفرنسي. وهكذا نجده في قصصه يصعد بك إلى مرافئ لبنان وينحدر معك إلى ربوع مصر، ويطوح بك في مطارح الغربة بأمريكا فيعطيك في هذا كله صوراً دقيقة محشوة بالأوصاف والمناظر والسمات، وهو يمزج هذا كله بمواضع الألم في قلبه، ومن هنا كانت قصصه (أنات) صادقة، ولكن صديقنا الزحلاوي يبدو في هذه الناحية قاسياً كل القسوة على قرائه، ففي كل قصة من قصصه فجيعة تحطم القلب وتهز الكيان. . . وجماع القول في هذه المجموعة القصصية أنها ليست من القصص الذي يقرأ بالتسلية وقتل الوقت، ولكنها تقرأ فتترك أثرها في نفس القارئ، وتبقى فيعود إليها مرة. . . ومرات. . .
2 -
روح وجسد
تأليف الأستاذ عبد المعطي المسيري
وهذه المجموعة (روح وجسد) لصديقنا الأستاذ عبد المعطي المسيري، وهي تشتمل على اثنتي عشرة قصة وقد أسماها باسم القصة الأولى منها ما هو مألوف عند كتاب القصة.
والأستاذ المسيري شاب وهبته الطبيعة أكثر مما وهبه الدرس، وأخذ عن الحياة أكثر مما أخذه عن المدرس، وهو يبدو كآلة موسيقية مشدودة الأوتار، كلما نقرت عليها حادثة من الحوادث، أو هبت عليها تجربة قاسية مع الناس والحياة، رددت ذلك في نغمة مشبوبة بالأسى والشجن، وهكذا نجد القصة عند الأستاذ المسيري، فهو في قصصه شاعر، يهتز لكل ما يجري حوله، ويقع عليه بصره، وتبدو عاطفته مرسومة في تعبيراته وانفعالاته، وهذا النوع من الكتاب إذا لم ينفعل لم يستطع أن يكتب. لا تجد عند الأستاذ المسيري الحادثة الضخمة، ولا الواقعة المروعة، ولكنها حوادث ووقائع يراها الكثيرون فلا يفطنون إليها، وإنما يفطن إليها الفنان، وتهتز بها الأوتار المرهفة المشدودة فإذا هي أنغام تتردد في الآذان وتؤثر في كل نفس، وهذا هو موقع الفارق بين الفنان وغبر الفنان. على أنه يتميز إلى جانب هذه الحساسية الفنية بروح صوفية شفافة، وهذا مما يزيد في توثيق الصلة بينه وبين القارئ، فأنت إذا ما تناولت هذه المجموعة القصصية فأنك لا تضم ضفتيها إلا إذا أتيت عليها كلها، وكأنك تقرأ قصة متسلسلة الفصول متصلة الحلقات. وستجد في كل قصة من قصصها مهما كان موضوعها ولونها روحاً وجسداً يتقاتلان.
محمد فهمي عبد اللطيف
- 1 - فهارس المكتبة العربية في الخافقين
تأليف الأستاذ يوسف أسعد داغر
كتاب وضعه أو - جمعه إن شئت - الأستاذ يوسف داغر أمين دار الكتب اللبنانية. تكلم فيه على فهارس الكتب العربية في الشرق عن المطبوعات والمخطوطات، وعلى فهارس المخطوطات في البلاد العربية وشمال إفريقية والهند. وعلى مجموعات المخطوطات في الخزائن الخاصة الموجودة في سوريا وفلسطين والعراق وإيران ومصر. وعلى تزويق
المخطوطات وتهذيبها، وعلى فهارس الكتب العربية في أوروبا والولايات المتحدة وفهارس المجلات الاستشراقية والصحافين المستشرقين. وغير ذلك.
والمؤلف يشكر على اهتمامه بهذه الموضوعات التي جمعها ودل عليها. ويبدو أنه بذل في سبيل ذلك جهداً محموداً غير أنه يؤخذ على الكتاب أمور.
1 -
الفوضى وعدم الترتيب. فالذي شعرت به أن الأستاذ داغر سرد كل ما في قصاصاته (فيشه) دون أن ينقح أو يرتب أو يهذب.
2 -
النقل بلا ذكر المصادر. فقد لاحظت أنه ينقل فصولاً برمتها من كتب معروفة، ولا يذكر أنه نقلها منها وهذا مناف للأمانة العلمية. ففصل المجلات الاستشراقية مثلاً منقول من كتاب سوفاجه حرفاً حرفا. ومع ذلك فلم يشر إلى المصدر، ولم يشر إلى كتاب رائد التراث العربي، - وهو اقتباس كتاب سوفاجه باللغة العربية - أيضاً.
3 -
أغفل الأستاذ داغر كثيراً من الكتب المخطوطة التي تكلم كثيرون عليها. وقد لاحظت أنه نقل كل ما جاء في مجلة المجمع العلمي من وصف للمخطوطات. وأغفل كثيراً من المخطوطات التي وصفت في الرسالة أو المقتطف أو غيرهما.
4 -
في الكتاب أخطاء كثيرة في أسماء المخطوطات، أو في أسماء الكتب. وهذا يدل على عدم اطلاع الأستاذ داغر غليها، وقد أورد الأستاذ عمر كحاله في نقده هذه الكتاب في مجلة المجمع العلمي عدداً من هذه الأخطاء.
وأياً كان أمر الكتاب. فإننا نشكر للأستاذ داغر جهده ودأبه على العمل. كما نشكر له تخصيصه ريع الكتاب لصندوق إنقاذ الأراضي في فلسطين.
- 2 - مرايا
تأليف الأستاذ عبد اللطيف الضاشوالي
الأستاذ الضاشوالي فنان سوري بارع. برع في الرسم الكاريكاتوري الذي يعبر فيه عن خصائص الرجال وطباعهم، فهو يبين بخطوط قليلة خفايا نفوس كثيرة. وقد أصدر كتابه الذي أسماه مرايا وكتب عليه:
تريك المرايا الخلق فيهن ماثلا
…
وهذي تريك الخلق والنفس والطبعا
وهذا البيت يدل تماماً على ما في الكتاب، فالرسوم التي توجد فيه، رسوم ذات شأن. يعجبك منها براعتها وصدقها، ويعجبك فيها هذا الوضوح الذي تراه، وتلك الخفايا النفسية التي يظهرها. لقد أظهر كل رجل كما هو. فهذا بخيل، وهذا بطل، وهذا يحلم بالمجلس النيابي. . . إلى غير ذلك.
ذيل المؤلف كل رسم بيت من الشعر أو جملة تفسران الرسم وقد كان موفقاً في هذا التذييل إلى حد بعيد. وإن كان أخطأ في بعضها.
وقد أثبت الأستاذ الضاشوالي إنه عالم نفسي أيضاً إلى جانب كونه رساماً ماهراً.
وشأن آخر للكتاب هو كونه يجمع عدداً من الرسوم لأعظم رجالات سورية. وسيكون هذا الكتاب يوماً مرجعاً يرجع إليه لدراسة هؤلاء الرجال.
(دمشق)
صلاح الدين المنجد
البريد الأدبي
تقدير كريم لكتاب قيم
من التقاريظ التي تفضل بها بعض من رفع لهم محمود بك
نصير كتابه أبطال الفتح الإسلامي من العرب والتركز كتاب
ورد له من حضرة صاحب العزة الكاتب الفاضل والأديب
الممتاز والإداري المصلح حسين بك رأفت مدير الدقهلية.
حضرة صاحب العزة العالم المؤرخ محمد نصير بك السلام عليكم ورحمة الله.
وبعد - في هذه الساعات الحاسمة من تاريخ الشرق، التي تنبه فيها وعيه ودبت فيها روح اليقظة والنهوض، في هذه الساعات التي هب فيها العرب - موحدة أهدافهم، متضافرة جهودهم - للعمل على استخلاص حقوقهم واسترداد أمجادهم.
في هذه الساعات فقد بدا المسلمون يشعرون بأسباب ضعفهم ومدى تخلفهم عن ركب الحياة ويلتمسون السبيل إلى عزتهم وقوتهم.
في هذه الساعات الحاسمة الحالكة ظهر سفرك القيم - أبطال الفتح الإسلامي من العرب والترك - فأضاء المهجة وهدى النجدين قدمت فيه للناس مثلاً عليا يقتدى بها في الهمة والشجاعة والإقدام، ونماذج حية تحتذى في إنكار الذات والإيثار والثناء في العقيدة وإعلاء كلمة الله.
بينت لهم إن علة تأخرهم أنهم نسوا الله فأنساهم أنفسهم - كما أعلنت لهم أنكم (إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم) - (ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز).
ورسمت لهم كيف أن الرعيل الأول من الخلفاء والقادة والفئة القليلة من الجنود المؤمنين تمكنوا من بسط راية الإسلام على إمبراطورية مترامية الأطراف في أقل من قرن من الزمان فبهروا العالم وأتوا بالعجب العجاب.
وإني لأرجو أن تكون هذه الأمثال التي ضربتها للناس نبراساً لهم في ليل الحوادث - وأن يجعلهم الله من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه. إنه هو الهادي ومنه المنة.
وأخصك بشكر عاطر على تفضلك بإهدائي نسخة من هذا الكتاب النافع وأزجي لك تحية كريمة مقرونة ببالغ التقدير والاحترام.
حسين رأفت
مدير الدقهلية
الدكتور قاسم غني سفير إيران في مصر:
قدم القاهرة منذ أسبوعين الدكتور قاسم غني سفير الدولة الإيرانية، فرحب به كثير من الناس على أنه سفير دولة إسلامية كبيرة بيننا وبينها كثير من صلات الماضي والحاضر ولكن قليلاً من الناس في مصر يعرفون أن الدكتور قاسم طبيب له في الطب مؤلفات وأدب كبير له في اللغة الفارسية كتب تقر بفضله وتشهد بمكانته بين الأدباء في إيران وكل الدارسين للأدب الفارسي خاصة، والآداب الإسلامية عامة، في أقطار الشرق والغرب.
وقد سمعت بلقائه حين قدم القاهرة منذ سنين فعرفت من حديثه اطلاعه الواسع، وتعمقه في الأدب الفارسي وحبه للأدب العربي وإلمامه بتاريخه.
ثم جاءت كتبه تترى معرفة بفضله، شاهدة بعلمه فلقيت اهتماماً وإعجاباً من القائمين على درس الآداب الشرقية في جامعتنا.
وكان الدكتور قاسم حين لقيته مهتماً بأحكام الأواصر بين مصر وإيران، راغباً في تبادل الأساتذة بين المملكتين وزيادة التعارف بين المثقفين في القطرين.
على أن الدكتور الفاضل نشأ طبيباً وتولى تدريس الطب في إيران وله في تاريخ الطب كتاب قيم. ولكن الأدب غلب عليه فكثر بحثه فيه وتأليفه.
وفيما يلي كلمة موجزة في سيرته وتأليفاته:
ولد الدكتور قاسم غني من أسرة علوية شريفة في مدينة سبردار من أعمال خراسان، وسبردار هي مدينة بيهن القديمة المعروفة في تاريخ الحضارة الإسلامية.
ثم رحل إلى طهران للدرس، ثم سافر إلى بيروت حيث لبث سبع سنوات حتى أكمل دراسة الطب في الجامعة الأمريكية، ثم أمضى أربع سنوات في فرنسا للاستزادة من العلوم الطبية.
ولما رجع إلى بلاده مارس الطب في خراسان سنين، ثم دخل المجلس النيابي نائباً عن مدينة مشهد، وبقي نائباً مدة طويلة.
وكان حين إقامته بطهران يدرس العلوم الطبية بكلية الطب، كما كان يدرس علم النفس في مدرسة سيهالار التي تسمى (كلية العقول والنقول).
وانتخب للمجمع اللغوي الإيراني حينئذ
قد اشترك في الوزارة الإيرانية منذ خمس سنوات فكان وزيراً للصحة ثم للمعارف وعام 1945 أوفدنه الحكومة الإيرانية ليمثلها في مؤتمر سان فرانسيسكو في أمريكا فبقى عامين ونصف عام يمثل إيران في الجمعية العمومية لهيئة الأمم المتحدة وفي لجنة حقوق افنسان واللجنة الطبية.
ثم عين وهو في أمريكا سفيراً لإيران في مصر فرجع إلى إيران ثم قدم مصر منذ أسبوعين. وقد لقيته منذ قدم مرتين فسمعت في أحاديثه ما عرفت من قبل من علم وأدب، واهتمام بالتقريب بين الأمم الشرقية وإخلاص في العمل لإسعادها وإعلاء شأنها ومن مؤلفاته
1 -
رسالة عن ابن سينا وفلسفته وطبه وعلمه وهي الرسالة التي قبل بها عضواً في المجمع اللغوي الإيراني.
2 -
تاريخ علم الطب، وفيه بحث مسهب عن الطب الإسلامي.
3 -
حقوق الطبيب وواجباته (الأخلاق والطب).
4 -
محاضرات في علم النفس.
5 -
ترجمة بعض مؤلفات أناطول فرنس.
6 -
مقالات من أناطول فرنس والمقارنة بينه وبين بعض أدباء إيران القدماء.
7 -
عصر حافظ الشيرازي - وهو بحث واسع في أحوال إيران في القرن الثامن الهجري، القرن الذي عاش فيه هذا الشاعر الفارس العظيم.
8 -
تاريخ التصوف في الإسلام وهو الجزء الثاني من كتابه عن حافظ الشيرازي بين فيه تاريخ التصوف ومذاهب الصوفية المسلمين إلى عصر حافظ. وهو كتاب جليل في هذا الموضوع ينبغي أن يترجم إلى العربية.
9 -
واشترك مع الأديب الكبير العلامة محمد بن عبد الوهاب القزويني في نشر ديوان حافظ بعد تصحيحه ومقارنة بين نسخه، وكتابة مقدمة للديوان مفصلة وافية.
10 -
واشترك مع الدكتور على أكبر فياض في نشر التاريخ المسعودي لأبي الفضل البيهقي.
وقد حدثني السفير الجليل برغبته في أن يجد بين الحين والحين فراغاً للانتفاع بخزائن الكتب في القاهرة ومواصلة بحثه في هذه المدينة العظيمة.
وإنا لنرحب بالسفير العالم الأديب الدكتور قاسم كل الترحيب أملين أن يجد في القاهرة أهلاً بأهل وأخواناً بإخوان، وأن تتاح له الفرص للبحث في مكتبات القاهرة ومواصلة سيرته الجليلة في الدرس والتأليف.
عبد الوهاب عزام
الكلمة الأخيرة:
كتب سكرتير الأزهر إلى عميد كلية الآداب الدكتور عزام يسأله عن حقيقة ما قيل عن رسالة (القصص الفني في القرآن) فأجاب العميد بكتاب نشر في الصحف، وأذيع في الناس، قال فيه: (وحقيقة الأمر أن طالباً قدم رسالة عن القصص في القراَن لينال بها درجة دكتور فردتها لجنة الفحص، فهي رسالة بين طالب وأستاذته عرض عليهم رأيه فعرفوه خطأه، كما يسأل التلميذ لأستاذه أو يعرض عليهم ما بدا له في مسألة مسترشداً. . .
(إلى أن قال) وكاتب الرسالة فيما أعرف عنه وكما يبدو من كتابته شاب مسلم قصد أن يدفع عن القراَن بعض شبه الملاحدة أو رجال الأديان الأخرى فجار به رأيه عن القصد وحاد به اجتهاده عن سواء السبيل.
(إلى أن قال) وأرى أن الأمر لا يعدو أن يكون غلطة تلميذ اجتهد وأحسن النية فرد عليه رأيه ولم يؤذن له أن ينشر هذا الرأي أو يتقدم بهذا الكتاب إلى الامتحان).
(قلت) جزى الله صديقنا الجليل الدكتور عزام خيراً، فقد هون الخطب علينا حين عرفنا أن صاحب الرسالة ليس إلا تلميذاً مخطئاً، وكنا قد سمعنا من قبل أنه مدرس في الكلية، فكبر علينا أن يكون في الجامعة التي نرسل إليها أبنائنا، يقطعون البر والبحر ليردوا معين
علمها، مدرس غاية جهده مثل هذه الرسالة التي أمتزج فيها الدين المتين. . . بالمنطق السديد. . . بالعلم الفياض. . . بالبيان العذب. . . حتى كانت معجزة العصر، ونادرة الدهر!
ولكني أريد أن أسأل الدكتور عن قوله (وكاتب الرسالة فيما أعرف عنه، وكما يبدو من كتابته شاب مسلم) - هل قرأ كتابته في رسالته فرآه يبدو منها شاباً مسلماً؟ أما أنا فقد قرأت الرسالة، (وصلت إلي كما وصل إلي تقرير الأستاذ أحمد أمين الذي نشرته في الرسالة) ونقلت منها صفحات بحروفها.
وأنا أؤكد القول أن ما نقلته منها، لو قاله معتقداً به أبو بكر وعمر، لكفر به أبو بكر وعمر، وصار به أبا جهل وأبا لهب، وأنا قاض شرعي أدري إذا تكلمت عن الكفر والإيمان ماذا أقول، وأثبته بالدلائل وأؤيده بالنصوص وأناظر فيه من شاء من أهل العلم أن يناظرني؛ لست كالأستاذ توفيق الحكيم الذي لمس الجبة فجأة ولاث العمة، وتصدر للفتوى في. . . (أخبار اليوم! (
وعلى ذكر مقالة الأستاذ توفيق الحكيم هذه، أقول أني سألت الشيخين الجليلين عبد المجيد سليم ومحمود شلتوت عن صحة ما نسب إليهما في (أخبار اليوم) عن تبرئة الرسالة وصاحبها من الكفر، فقال لي الأستاذ الأكبر الشيخ عبد المجيد سليم حفظه الله (إنه ما اطلع على الرسالة، وإنما قرأ تقرير الأستاذ احمد أمين عنها، ولاشك عنده أن الأقوال التي عزها في التقرير إلى الرسالة كفر وأن معتقدها كافر) وأذن لي أن أنشر ذلك على لسانه.
وقال لي الأستاذ الشيخ محمود شلتوت أنه إنما سأل عن المكفرات ما هي فقال فيها ما قاله الفقهاء ولم يفت في الرسالة بشيء، ثم قرأت له بياناً في الصحف هذا معناه.
فما دام صاحب الرسالة ليس إلا تلميذاً مخطئاً لا مدرساً ولا معيداً، وما دامت الرسالة قد ردت وأسقطت، وعلماء الزهر وأساتذة الجامعة قد اتفقوا على القول بمخالفتها للإسلام، وإدارة الكلية منعت (كما قال العميد) نشرها، فلا داعي عندي لإعادة القول فيها، وتسخير صحف المجلات، وأقلام الكاتبين، وأذهان القارئين، لإجابة شهوة الشهرة، وحب الظهور، في نفس هذا التلميذ المخطئ.
ورأيي أن خبر دواء له الإعراض عن ذكره!
علي الطنطاوي
إلى الأستاذ السهمي:
قرأت في العدد (745) من الرسالة الغراء تحت عنوان (فعلاء) كلمة للأستاذ الجليل (السهمي) عن جميع صيغتي (أفعل وفعلاء) على (فعل) مثل أحمر وحمر وحمراء وحمر، ونقل ذلك عن (عمرو) في (البحر) وكتب الأستاذ السهمي في الحاشية تعليقاً وتكميلاً للعبارة المنقولة ما لفظه:(وقال وأما الأصغر والأكبر فإنه يكسر على أفاعل، ألا ترى أنك لا تصف به كما تصف بأحمر نحوه. . . فلما لم يتمكن هذا في الصفة كتمكن أحمر أجرى مجرى أجدل وأنكل كما قالوا: الأباطح والأساود حيث استعمل استعمال الأسماء).
ومعنى ذلك أن (الأكبر والأصغر) إنما لم يجمعا تكسيراً على فعل كما يجمع (الأحمر) لأنهما لم يتمكنا في معنى الصفة بل يستعملان استعمال الأسماء فلذا جمعا على أفاعل فقيل فيهما أكابر وأصاغر كما يقال أباطح في جمع أبطح.
والذي أراه أن الأكبر والأصغر ليسا من الموضوع المبحوث فيه لأن الموضوع هو جمع أفعل الذي مؤثثه فعلاه فهو الذي يجمع على (فعل) كأحمر وحمر، فأما الأكبر والأصغر فهما في الأصل من قبيل أفعل التفضيل، وأنثاه فعلى على وزن (حبلى) فقياس جمعه في الأصل أفاعل نحو أكابر واصاغر وأفاضل وأكارم وأماجد وأعاظم في جمع أكبر وأصغر وأفضل وأكرم وأمجد وأعظم، وليس جمعه كذلك من قبيل الخروج على قاعدة (أحمر وحمر) لسبب استعماله استعمال الأسماء.
فما رأى الأستاذ السهمي في ذلك؟
مصطفى أحمد الزرقا
لفظة لازاربت:
قال الأستاذ الجاحظ في العدد الماضي من الرسالة إن بعض الغربيين زعم إن كلمة لازريت الفرنسية. (ومعناها المعتزل أو المحجر الصحي) مشتقة من كلمة (الأزهر)(لأن الأزهر في مصر ملجأ للعميان والشيوخ والمتقاعدين)
وبعدما أنحى الجاحظ باللائمة على أولئك المتعجلين من االباحثين لتورطهم في أخطاء
الاشتقاق، وقال إن الأصل اللاتيني لكلمة لازاريت معناه المجذوم وأن الصلة بين الحجر الصحي والمجذوم اقري وأكثر جلاء منها بين لفظتي الأزهر ولازاريت
ويخيل غلي أن الاشتقاق - إذا كان هناك اشتقاق - مستمد من اسم (لعازر) وهو رجل فقير أخذت جميع الأمراض بتلابيبه - ومنها الجذام - وكان طريح الأرض عند باب ثري يريد أن يشبع بطنه الفتات الساقط من مائدة ذاك السري. وقد روى قصة هذا الفقير السيد المسيح كما جاء في إنجيل لوقا إصحاح 16 عدد 19 - وقال إن كلا من الفقير والغني مات فكان جزاء الأول أن ينعم في حضن إبراهيم وكان جزاء الثاني هاوية العذاب يشتهي حتى أن يبل لعازر طرف إصبعه بماء ويبرد به لسانه.
وأحسب أن هذه القصة بسبب كثرة تداولها وشيوعها بجميع اللغات ولا سيما اللاتينية واشتقاقاتها، كانت السبب الأول في أن يقترن اسم لعازار بالبلايا والأمراض والفقر وتلك هي عين المعاني التي ترمز إليها ترمز كلمة الفرنسية ومنها اشتقت كلمة لازاريت
هذا في ظني مصدر الاشتقاق، وإذا كان عند المليمين شيء فليطلعونا عليه للنفع العام.
وديع فلسطين
المحرر بالمقطم - القاهرة
القصص
من مذكرات سجين
للقصصي الكبير فرانسوا كوبيه
بقلم الأديب عبد اللطيف حسين الأرناؤوط
في صباح الغد، ينقضي أمد ستة الأشهر التي حكم علي بقضائها في السجن لسرقتي ألفي فرنك من خزانة المحل الذي كنت موظفاً فيه. وفي صباح الغد أكون قد كفرت عن خطيئتي وقضيت ما علي من دين للمجتمع الإنساني.
في صباح الغد في الساعة الثامنة سيطرق السجان باب سجني ومعه ثيابي التي خلعتها قبل دخولي السجن. وإني لأذكر تلك الثياب، فإنها كانت جديدة متقنة الصنع على أحدث طراز وسأرتديها غداً وأخرج إلى الطرقات. فمن يظن وأنا في مثل هذه البزة أني خارج من أعماق السجون! سأخرج في الساعة الثامنة وأرى مرغريت كوعدها تنتظرني في عربة أمام باب السجن. . .
بين مساء اليوم وصباح الغد سأصير حراً طليقاً وسأكون سعيداً لو أردت، فمرغريت التي ارتكبت من أجلها هذه السرقة تقسم لي في خطاب الأمس إنها ما زالت حافظة لعهدي متمسكة بودي، وإنها ستعيش معي حتى الموت، إذن فسنعيش آمنين بين أحضان باريس العظيمة التي وسعت كل عار وسترت كل ذنبن ومن كان في نشاطي لم يعجزه مرتزق بعيش من وراءه هو وحبيبته. . . ولكن لندع عمل المستقبل للمستقبل، ولا نفكر الآن إلا في الغد، وما سيتبلج عنه صبحه، إن مرغريت ستنتظرني في عربة فعندما أرى هذه العربة أمام السجن، أجري إليها، فألمح مرغريت منزوية في ركن منها، فاخذ مكاني بجانبها وآمر السائق باحتثاث السير، وبعد ذلك امسك يد مرغريت وانظر إليها فتهتاش المسكينة شوقاً، وترتمي على صدري باكية. . .
ما أعذب القبلة التي تعقب ذلك. وتكون العربة أثناء ذلك قد أوصلتنا إلى منزلنا فنصعد إلى غرفتنا في الطابق الرابع، التي تشرف نافذتها على حدائق اللوكسمبورج. ونعد مائدة إفطارنا أمام النافذة حيث تداعب أشعة شمس الصباح أنينها فتبدو لامعة كأنها تبتسم
لملاقاتي، وبعد أن نتناول طعامنا بين حديث ولعب، تجيء مرغريت بالقهوة، فأجلس أحتسيها، وتجلس هي بجانبي وتسند رأسها إلى كتفي، فأستنشق عبيرها، وأستروح أنفاسها، ثم أقبلها قبلة طويلة.
هذا ما يعده لي صباح الغد، وهذا ما سألقاه فيه من حرية وسعادة وحب. . .
ولكن كل هذا لن يكون. . . فسأنتحر بعد قليل. . ريثما يسود وجه الصحيفة التي اكتتبت عليها هذه الكلمات. فالحبل الذي أعددته من غطائي متين والقضبان الحديدية في النافذة سميكة!
يجب أن لا أخرج صباح الغد من قبري هذا إلى الحياة. إذ لو خرجت لارتكبت آثاماً أخرى. فإني لا أقوى على رؤية مرغريت واقفة أمام حانوت الجوهري تلتهب نظراتها إلى أساور من ذهب أو تصعد زفراتها وراء قرط من جوهر، أو تنظر إلى خاتم من ماس ثم ترجع النظر حاسراً إلى أصابعها العاطلة. عند ذلك أقسم بالله أني أعود فأسرق لأجيء لها بما يرضي نظرتها ويهدأ زفرتها ويحقق رغبتها. . . يالله. هل انا مجرم من أكبر الناس إجراماً؟ أم أنا مجنون ضل عني رشادي؟ لا أعلم غير أمر واحد، هو أني أعود فأسرق لرضى مرغريت. . .
يا لها من امرأة. ويا لعظيم حبي لها ووجدي بها منذ أول يوم رأيتها. إني لأذكر ذلك اليوم وأذكر أني كنت مع صديقين دعياني للذهاب معهما إلى (مونمارتر) حيث كانت حفلات العيد قائمة واللهو رخيص ثمنه، سهل مناله. وكنت متعباً ذاك المساء فرفضت دعوتهما أولاً ولكنهما الحا علي فقبلت أخيراً. . .
وجئنا (مونمارتر) فكانت مساحاته تموج بآلاف من الخلق فوقفنا أمام احد مراقصه فوجدنا فتاتين ترقصان، فحادثاهما أحد صديقي وجلسنا معهما. وكان مجلسي بجانب إحدى الفتاتين وكانت شقراء الشعر جميلة الوجه محتشمة الحديث فقيرة الهيئة. وحادثتهما فكان صوتها جذاباً كعينيها وقال لها أحد صاحبي كلمة غليظة خلال الحديث فلم تجبه إلا بابتسامة مغتصبة تدل على أدب الفتاة وأنها غير راضية لما هي فيه من حال، ودعوتها لمنزلي، وقصت على الفتاة باكية - وإني لأحس حرارة دموعها حتى اليوم - قصة مجيئها إلى هذه الحياة من أحد أبوابها المظلمة وطفولتها البائسة وفقرها المؤلم وإيصاد كل باب رزق دونها
وتشريدها آناء الليل في شوارع باريس الباردة المظلمة. ثم زلتها الأولى، واندفاعها في ذلك التيار الذي طالما حمل في سيره ضحايا لا عداد لها، فبكيت رحمة لبكائها، وعرضت عليها أن تجيء فتعيش معي عيشة الفضل والعفاف فقبلت راضية وسرني رضاها وأظنني أتيت أمراً لا طاقة لي به غذ ذاك، فإن ما أتقاضاه من مرتب ما كان يسمح لي بمعاشرة امرأة اللهم إلا إذا كانت امرأة مقتصدة تقنع بالقليل ولا تطلب الكثير ومرغريت با للأسف ليست كذلك. فقد كانت تختبئ في قرارة نفسها الفتاة الباريسية التي تشارف في غدوها ورواحها حوانيت الحلي والحلل، وتلامس في سيرها وركوبها السيدات اللائي رزقن الغنى بثمين اللباس وغالي الزخرف وكنت أرجع من عملي ظهر كل يوم فأراها ملازمة لسريرها لا تفكر فيما يقتضيه المنزل من عمل فحاولت أن أصلح من أمرها وأقوم من خلقها فأجابتني بقسوة ماذا تريد؟ هكذا خلقت فدعني وابحث عن سواي، فلن تصلحني مهما حاولت فلم ادر كيف أجيبها على قولها، فإنها لا تبالي بي. وأصبحت لا أستطيع عنها فراقاً ففكرت في أن أضحي قليلاً من راحة فؤادي وأقطع ما بيني وبينها من صلة. ولكني فكرت أيضاً في أنها لن تكاد تفارق بابي حتى تعود سيرتها الأولى؟ من حياة يملؤها العار، ومن ليل بؤس ليس له نهار، فعدلت عن فكرتي رحمة بها وحباً لها، ثم كيف أهجرها وقد تغلغل حبها في صميم فؤادي وأصبحت أرى ليالي الطويلة الباردة عامرة بمن يسلي وحدتي ويزيل وحشتي، أأهجرها وأنا أحبها أكثر من أمس وأقل من غد؟ أأهجرها وهي أول امرأة خفق لها فؤادي وأول من غرام مشت ناره بين أضلاعي!
واشتريت لها كل ما وسعته ثروتي من لوازم النساء وصحبتها إلى كل مسارح اللهو ومراتع السرور خشية أن تمل مكثها في المنزل وهي ابنة اللهو والسرور. وضاقت يدي ذات يوم عن قضاء حاجة لها فاستدنت وكان أول ما استدنت. . فأهمني أمره وأرقني وقره. . . ولم أنج به لمرغريت. . . وعلام وأنا أتوقع ردها، وماذا تريد أن أفعل لك، دعني وشأني!. . ولنفصل أحدنا عن الآخر ثم استدنت مرة أخرى. وأنا لا أبوح لها بما في نفسي من خوف مؤلم من المستقبل المظلم.
وإني أقول ما سأقول الآن وأنا واثق من صحته. ذلك أن كل الرجال الذين رمت بهم يد الغرام أو يد المرأة إلى مثل موقفي هذا يحاولون خلاصاً من هذا الموقف بغشيانهم ما
يسمونه طريق الحظ أو السعد فيقصدون بيوت القمار. أو ساحات السباق. . وذلك أن أحد رفقائي في عمل كان يغشاها وطالما أسعده الحظ بأن ربح. وكان جالساً أمام مكتبه باسطاً صحيفة تدل لقرائها بما تراه في أمر الخيل وأيها السابق وأيها المصلي. وأخذ ينافس آخر في أمر جواد معلوم، يرى أنه ولا شك السابق. وأنه لا شك مراهن عليه.
فقلت إذ ذاك ولم لا أعمل مثل صديقي فربما أسعدني الدهر فربحت فأسعدت نفسي ومرغريت وضربت بيدي إلى حبيبي فوجدت فيه دراهم معدودة. فطرحت فكرة القمار مرغماً.
وذات ليلة ونحن في طريقنا إلى الملهى وقفت مرغريت أمام حانوت جوهري ونظرت إلى أساور من ذهب وماس وقالت لي: ما ثمن هذه الحلية؟
فقلت إنها تساوي أربعين جنيهاً!
فقالت: إن مثل هذه الأشياء جعلت للأغنياء ولا أدري لم لم يجعلني الله من عبادهم. . . ونظرت غلى دمعة تترقرق في مآقي عينيها. فكدت أبكي لها ولنفسي. وفجأة طرقت رأسي فكرة القمار في سباق الخيل، وفكرة الجواد السابق، ولكن أين لي المال لأراهن عليه؟. . . ولكن المال كثير في خزانة المحل وأنا الأمين عليه. وما دام الكسب مضموناً مع هذا الجواد، فلم لا أمد يدي إلى ألفي فرنك أرمي بها في سوق القمار ثم أربح وأعيدها إلى مكانها الأول واحفظ الربح لنفسي؟ هذا خير رأي، وأصوب فكر. ولكن ما العمل إذا خسرت؟ قلت ذلك لنفسي. ونظرت نظرة غضبى إلى مرغريت وهي عالقة بذراعي. ولكن احمد الله فإنها كانت ملتفتة إلى ناحية أخرى تنظر إلى معروضات المخازن. إذ لو رأت نظرتي لارتاعت ذعراً. . إذا خسرت؟ نعم إذا خسرت لا شيء غير أن يجيء رجل أو اثنان من الشرطة فيقبضان علي باسم القانون، وأجلس محني الظهر على مقعد المتهمين في محكمة الجنايات، ثم أفضي بعد ذلك جزءاً غير قصير من عمري في غياهب السجن، ذلك إذا خسرت؟ ولكن أكون بعملي هذا قد قدمت إلى مرغريت برهاناً قويا ودليلاً قاطعاً على حبي لها؟ وربما أحبتني إذ ذاك لعلمها أني أتيت ما أتيت مرضاة لها.
ولكن لماذا هذا الخلط في الحديث فالساعة أزفت. ولا فائدة من أن أُثقل على قارئ هذه الصفحات بتفاصيل ما ارتكبت ولم أقص عليه كيف ارتكبت السرقة، ولا كيف وقفت
تتنازعني العوامل المختلفة من خوف إلى حزن، إلى ندم، إلى أمل إلى فرح، وأنا في ميدان السباق. ولا كيف خسر الجواد وجاء مجلياً، ولا كيف اكتشفت سرقتي، والقبض علي، ومحاكمتي ثم سجني. . .
الوداع يا مرغريت. إني أحبك، وأغفر لك وأعفو عنك. فلربما سالت دمعة من عينيك عندما تقرئين هذه الصفحات المملوءة يذكرك، كوني فخورة أمام عاشقك الجديد بأن هناك رجلاً انتحر لأجلك. . .
ها هو ذا نصف الليل لقد دقت الساعة، وأنا قد أحكمت الحبل إلى النافذة فلأتشجع ولأنهي الأمر!. . .
(دمشق)
عبد اللطيف حسين الأرناؤوط