الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 749
- بتاريخ: 10 - 11 - 1947
حرية الرأي وتبعة الرأي
للأستاذ عباس محمود العقاد
حرية الرأي مكفولة لكل إنسان.
ولكن لا حرية بغير تبعة. فكل ذي رأي مسئول وحدة عن رأيه، وعليه وحده أن يحمل جميع تبعاته، وليس له أن يلقى هذه التبعات على غيره. لأن حريته تنتهي عند انتهاء التبعة التي يحملها باختياره. . . فلا اختيار له في حريات الآخرين.
وذلك عن الحد الفاصل بين الرأي الذي يسأل عنه الباحث أو الكاتب وحده، وبين الرأي الذي يشرط فيه غيره.
فمن حقه بلا نراع أن ما يشاء في حدود القانون ولكن ليس من حقه أن يحمل غيره على تزكية رأيه وترويجه أو الأذن بأجازته ونشره، ولا سيما إذ يكون ذلك (الغير) هيئة رسمية مفروضة بقوة الدولة على جميع أبناء الأمة، كالجامعة المصرية وما جرى مجراها.
فالجامعة المصرية جامعة حكومة، ومعنى أنها جامعة حكومة أن إلزامها لطلابها هو إلزام يقوم به القانون، وتحميه الدولة، وليس فيه للطالب أو لولى أمره خيار كالذي يملكه الطلاب وأولياء الأمور في الجامعات الأهلية. فهم لا يملكون أن ينتقلوا منها إلى غيرها إذا لم توافقهم دروسها، وليس في وسعهم أن يستغنوا عن شهاداتها وإجازاتها، لأن مستقبلهم في الوظائف أو المزاولات العلمية مرتبط بها. فليس لأحد أن يطلب من هذه الجامعة أن تجيز دروساً تحتاج إلى احتمال تبعة، وليس له أن يلقى عليها تبعاته وينتظر منها أن تقرها وتزكيها، وهم يزعم أنه حر فيما يصنع، وأنها هي المقيدة أمامه فلا حرية لها في رفض هذا الصنيع من شاء أن يقدر حريته فليقدر تبعته قبل تقديره لحريته. ومن تقدير التبعة أن يفهم ما يجوز له عرضه للإقرار والإجازة، وما ينفرد به أو يشرك فيه سواه. فإن لم يفهم ذلك فليس هو بأهل لتقدير الحريات ولا لتقدير التبعات.
وقد سبقتنا إلى النظام الجامعي أمم كثيرة، وسبقتنا إلى حرية الرأي أمم كثيرة، وترجع تقاليد الجامعات في بعض هذه الأمم إلى مئات السنين، وكلها تدين بهذا المبدأ فيما يعرض عليها من الرسائل للإجازة والاقرار، ولم يقل أحد أنها تصادر حرية الآراء، أو تحجر على مباحث المفكرين.
فلم نسمع قط أن أحداً تقدم إلى جامعة السوربون ببحث في تدوين الأناجيل هل هي من كتابة الرسل أو كتابة أناس آخرين مجهولين أو معلومين.
والجامعات الإنجليزية تدرس تواريخ الأديان وتدرس المقابلة بينها، فلم نسمع قط أن دراستها هذه أجازت لصاحب رأى أن يطلب منها إقرار قول من الأقوال، يخالف ما تلتزمه أمام جميع المتعلمين كذلك تدرس الجامعات الإنجليزية، كما تدرس الجامعات الفرنسية، علوماً شتى في نظم الدول، وقواعد الدساتير. فلم نسمع قط أن طالباً فرنسياً عرض على جامعة فرنسية بحثاً في إنكار النظام الجمهوري. وتفضيل النظام الملكي عليه، ولا أن طالباً إنجليزياً عرض على جامعة إنجليزية بحثاً في ترجيح النظام الجمهوري على نظام الدولة الملكية. لأن المسألة ليست مسألة حرية وكفى، بل هي مسألة حرية مقرونة بتعبه. فينبغي التفرقة بين ما تكتبه باسمك على تبعة نفسك، وبين ما تكتبه ثم تلقى بتبعاته كلها أو بعضها، على مؤسسات تحميها الدولة وتلقى دروسها على جميع أبناء الأمة، وهم أحرار أيضاً فيما يقبلون وفيما يرفضون.
فلا خلاف على حرية الرأي كائنا ما كان في حدود القانون وإنما الخلاف في احتمال التبعة وتقديرها، وفي موضع التبعة وتمييزه، وليس بأهل لحرية الرأي ولا بقادر على أمانته من يفوته هذا التمييز.
وكاتب هذه السطور يحرص على حرية الرأي، ويعتقد أن الحرية الشخصية هي غاية كل تقدم وارتقاء في تاريخ بني الإنسان، وأن مقاومة الرأي إنما تكون برأي مثله، ومقابلة البرهان إنما تكون ببرهان على قياسه، وأن المصادرة بالقوة عمل لا يليق بأصحاب الآراء ولا يحسن بهم أن يهيبوا بالحكومة إلى اتخاذه، إلا أن يكون في الرأي إخلال بالآداب متفق على تحريمه.
لكننا لا نعطي حرية الرأي كل هذا الحق إلا لأننا ندين بأنه حق ينتهي عند حده ولا يجوز أن يتعداه.
فليقل من شاء ما شاء ما دام هو صاحب التبعة الوحيد في كل ما يقول:
ولكن هل هو صاحب التبعة الوحيد فيما يلقيه إلى الجامعات الرسمية لتقره باسم الدولة، واسم الأمة بأسرها من وراء الدولة؟ هنا محل التقدير والتمييز.
وليس بعالم ولا مستحق لأمانة العلم من لا يقدر ولا يميز، ولا يفرق بين ما يقرره باسمه، وما يطلب من المشرفين على التعليم في الأمة أن يقرروه.
وقلما يعنيني هنا أمة رسالة بعينها أو بحث بعينه، وإنما يعنيني توضيح الحد الفاصل في مسألة الحرية، ومسألة التبعة الفكرية، وهو حد منسىُّ على ما نرى في حسبان بعض المبتدئين، بل بعض الأدباء المعدودين.
ولو لم يكن هذا الحد محتاجاً إلى التذكير في مرحلتنا هذه من الحياة الفكرية لما رأينا رجلا كصديقنا الأستاذ توفيق الحكيم ينساه وهو ينتقد الجامعة المصرية لأنها رافضة تبعةً تلقى عليها، وليس من حقها أن تقبلها باسم الدولة، وليس من مقتضى رفضها أن تحول بين طالب من الطلاب، أو مدرس من المدرسين، وبين إعلان ما يراه بغير واسطتها إذ شاء.
على أننا نهنئ صديقنا الحكيم ولا نقصر القول كله على الأسف لنسيانه أو تناسيه.
نهنئه لأن حرية الرأي كانت رخيصة عنده يوم كان ينعى على الديمقراطية ويشيد بمآثر الدكتاتورية. فإذا عاد يغليها بعد إرتخاص فإنه بالتهنئة من هذه الناحية لجدير.
أما (التقدميون) الذين حنقوا على الجامعة المصرية لالتزامها حدود حقها وواجبها، فحسبهم من التذكير أن نطلب منهم سطراً واحداً يكتب في روسيا اليوم نقداً لعقيدتهم في التفسير المادي للتاريخ، وهي بعد لم تتجاوز عندهم أن تكون رأي إنسان!. . . فكيف بما يعتقد المؤمنون به أن من عند الله، خالق كل إنسان، وخالق جميع الأكوان؟
عباس محمود العقاد
12 - رحلة إلى الهند
للدكتور عبد الوهاب عزام بك
عميد كلية الآداب
نظام الدين أوليا وأمير خسرو
وإلى القرب من المقبرة التي بها ضريح همايون مقبرة أخرى بها قباب منثورة أعظمها مكانة عند الناس وأجملها هندسة قبة نظام الدين أوليا.
وهو أعظم صوفية الهند في زمانه، وأكبر أوليائها حرمة عند الناس حتى اليوم؛ اسمه محمد بن أحمد بن علي البخاري، وفد أجداده من بخارى إلى الهند فاستقروا في إقليم بدايون حيث ولد هو سنة 636هـ.
وأخذ العلوم العربية عن علاء الدين الأصولي. ثم رحل إلى دهلى فتلمذ للشيخ الملك والشيخ كمال الدين الزاهد.
وسنة 655 لحق بالشيخ الصوفي فريد الدين كنج شكر (كنز السكر) المتوفى سنة 664هـ فصار من مريديه المقرّبين واختاره الشيخ خليفة له سنة 656هـ فرجع نظام الدين إلى دهلى إلى أن توفى سنة 725هـ.
وقد ذاع صيته، وعظمت مكانته؛ فجاءه المريدون من كل صوب، واجتمع حوله العلماء والأدباء والموسيقيون، وعظمه المسلمون وغير المسلمين.
وكتب في التصوف والتفسير والحديث ونظم بالفارسية شعراً صوفياً، ومزاره اليوم يقصد من أرجاء الهند، ويعدّه الناس أعظم الأولياء أو من أعظمهم ويسمونه: سلطان الأولياء.
قصدنا إلى مزار نظام الدين فنزلنا في محلة تزدحم فيها القبور والمنازل، ومررنا خلال قبور تختلف مظاهرها ضخامة وصغراً، وأبهة وحقارة ومعرفة ونكراً وتتفق على المعنى الذي انطوت عليه؛ بل اللفظ الذي تنطق به؛ حتى جئنا حجرة عالية مصنّعة بالرخام والحديد والنحاس سقفها مستطيل مبطّن بالصوف في أشكال جميلة، والحجرة في جملتها هندسة جميلة أو شعر بليغ. هنا قبر الشاعر الكبير المعروف في الأدب الفارسي والأدب الأردي؛ الذي يعدّ أول ناظم باللغة الأردية، وهو أمير خسرو الدهاوي المتوفى سنة
725هـ.
وكان مروري بقبر الأمير خسرو سروراً مفاجئاً، ونعمة غير مرتقبة. فوقفت على قبره وقفة تمنيت أنها طالت وكُرْرت.
أقف بالقارئ وقفة قصيرة على تاريخ هذا الرجل الكبير قبل أن نزور نظام الدين أوليا:
هو الأمي أبو الحسن بن الأمير سيف الدين الشمسي ولد في الهند سنة 651هـ وكان أبوه تركياً هاجر من نواحي بلخ إلى الهند أيام جنكيز خان وتزوج بنت عماد الدين أحد أعيان الدولة في دهلى، ومات وابنه خسرو في التاسعة من عمره فكفله جدّه لأمه.
وكان خسروا ذكياً شغوفاً بالتعلم. فنشأ محبوباً مقرْباً عند سلاطين دهلى، وحظي برعاية سبعة سلاطين متتابعين؛ من السلطان محمد بن غياث الدين (664هـ - 686) إلى السلطان محمد الثاني بن تفلق (725 - 752هـ).
ونبغ في الشعر فنظم منظومات كثيرة منها ديوانه وسبع منظومات قصصية حاكى فيها الشاعر المعروف نظامي الكنجوي منها قصة ليلى والمجنون، وقصة خسرو وشيرين.
وقد قسّم ديوانه على سني عمره، وسمى كل قسم اسماً يلائمه:
تحفة الصغر: وهي القصائد التي نظمها من سن 15 إلى 19.
وسط الحياة: وهي القصائد التي نظمها من سن 20 إلى 34.
غرّة الكمال: وهي القصائد التي نظمها من سن 34 إلى 43.
البقّية النقَّية: وهي مختارات من شعر الشيخوخة.
وقد ألف من الكتب والرسائل ما يقارب المائة، ويقال إن أشعاره تبلغ أربعمائة ألف بيت، والمجموع منها زهاء مائة وعشرين ألفاً جمعها السلطان الأديب بالسنقر من بني تيمور، وكان من المعجبين بالشاعر، وقد فضّل منظوماته الخمس على (خمسة نظامي)، وجرت بينه وبين الأمير التيموري ألُغ بك مناظرات كثيرة في هذا التفضيل.
وكان خسرو من مريدي الشيخ نظام الدين يبالغ في حبّه وإعظامه، ويروى أنه بينما كان خسرو في صحبة السلطان غياث الدين تفلق شاه في سفره إلى بنغالة جاء نعى شيخ فأسرع راجعاً إلى دهلى، واعتزل خدمة السلطان، وتصدّق بأمواله، وأقام على مقربة من قبر شيخه حتى مات بعد ستة أشهر، ودفن بجوار الشيخ الذي أحبه وصحبه في حياته، وزهد في
العيش بعد مماته. فكان في تجاوز القبرين لمن يعرف سيرة الرجلين قصيدة صوفية بليغة.
وزرنا ضريح نظام الدين وهو حجرة واحدة حولها سياج من الرخام الأبيض المخرّم في دقة وإتقان وعليها قبة جميلة، وعلى جدران الحجرة وعلى المقصورة من بدائع الصنع، والتحلْية ما يشغل بصر الزائر حتى في هذا المقام الجليل المهيب، ورأينا هناك حلية مهداة من نظام حيدر أباد.
ورأينا أبياتاً فارسية أرّخ فيها موت الشيخ بكلمة (شهنشاه دين) =725.
وكذلك قرأت عند قبر أمير خسرو أبياتاً فيها تاريخ وفاته بكلمات فارسية (طوطي شكر مقال)، وكلمتين عربيتين (عديم المثل) وكلتا العبارتين يدلان على سنة 725هـ.
ورأينا على مقربة من هذه الحجرة قبة كبيرة على قاعة واسعة يقال إن السلطان علاء الدين بناها ليدفن فيها الشيخ فأبى الشيخ أن يكون فيها قبره، واتخذها مسجداً.
وفي جواز الشيخ قبور لأمراء الدولة التيمورية وأميراتها، عائذاتٌ بهذا الجوار الكريم. كل قبر حوله سياج من الرخام أظهرت فيه الصنعة قدرتها وإبداعها كأنما هذا الحجر كان شمعاً في يد الصانع أو عجيناً.
وشدّ ما أثر في نفسي بين هذه القبور قبر جهان آرا (زينة الدنيا) بنت السلطان شاه جهان، وقد بلغ منى بيت بالفارسية منقوش على لوح من الرخام هناك:
بغير سبزه نبو شد كسى مزاريرا
…
كه قبر بوسن غريبان همين كياه بس است
لا يكسُ أحد قبراً بغير خضرة النبات العشب
…
فكسوة قبور الغرباء هذا العشب وكفى
وبعد هذا البيت باللغة العربية:
الفقيرة الفانية جهان آرا مريدة خواجكان (أي الشيخ نظام الدين) بنت شاه جهان بادشاه غازي أنار الله برهانه سنة 1092 وما فصلنا من هذا العالم عالم الأخرى، وفي النفس ملؤها من ذكريات الدنيا أوينا إلى قاعة فاسترحنا وشربنا الشاي في ضيافة الشيخ حسن نظامي من ذرية الشيخ.
وقرأت على الجدار أشعاراً صوفية بالفارسية من مأثورات نظام الدين أوليا.
(للكلام صلة)
عبد الوهاب عزام
أسئلة!
للأستاذ علي الطنطاوي
كان حديث الناس في الأسبوع الذي مضى، وحديث الصحف. هذه الـ (أربعون ألف جنيه) التي تبرع بها البدراوي باشا وشهد عليه بها الشهود، وجاءته عليها رسائل الشكر وبرقيات التهاني، حتى إذا شبع من الثناء، وروى من المدح، وانتشى من الفخر، ونال ما كان يريده من تبرعه، ولم يبق وراءه غنم يناله، ما بقى إلا الغرم بالـ (أربعون ألف جنيه) عاد فجحد قوله، وأنكر هبته، وطعن على الشهود، وكذب الناقلين، فعاد المهنئون له يعزون، والمادحون إياه يهجونه، وانطلقت الألسنة بالوقيعة فيه، والنيل منه، وأذهب هذا القدح لذة المدح الأول، واشتاق إليه لما فقده، ولكن عزّ عليه أن يشتريه بـ (أربعين ألف جنيه)، وأن يؤديها كاملة فيكذب نفسه، ويثبت قول من شهد عليه، فاقتادها بعشرة آلاف رفعها إلى السدة الملكية، فردتها عليه، ولم تقبلها منه. وقالوا، إنه سيدعى الشعب إلى اكتتاب عام يشترك فيه الغني والفقير، يحقق به ما كان التبرع له، وهو إنشاء ويقطع الأعناق، ويودي بالأسر.
انتهيت من قراءة هذا الخير، فنشأت في نفسي أسئلة كثيرة، أحببت إذاعتها لأني أتمنى أن أجد مجيباً عليها:
أولها: السؤال عن هذا التفاوت العجيب بين الناس الذي صار شعار الحياة المصرية، وآيتها. . . من أين جاء؟ وكيف تركه العلماء والمصلحون وأصحاب الرأي، وذوو السلطان، ينمو ويمتد حتى يصير كالدوحة العظيمة، ولم يقطعوه وهو بعد غصن طري؟ وكيف انتهت الحال إلى أن يكون في مصر نفر من المصريين دون الأجانب فرغت أيديهم من كل شيء.
وكيف امتد هذا التفاوت إلى غير المال؛ فكان في مصر نفر هم أكابر أدباء العربية، ونفرهم أئمة علماء الإسلام، ونفر هم أعلام الفلسفة والحقوق وعلوم الطبيعة، وجماهير لا تحصى، (إلا في دفاتر الإحصاء عند الحكومة)، لا تعرف من العربية ولا من الإسلام ولا من هذه العلوم شيئاً، بل هي لا تعرف القراءة ولا الكتابة، وصارت مصر بحيث لو ذهب منها مائتا رجل فقط، من عشرين مليوناً، صارت زعامة مصر الثقافية، بين الأقطار العربية، خبراً بعد عين.
وكان في مصر، بل في القاهرة نفسها العمارة التي تشتمل على خمس عشرة طبقة، والأكواخ التي لا شباك لها ولا ماء فيها ولا مرحاض، وفيها أفخم السيارات تسير بجانب عربات الكارو، تحمل أهل القاهرة من حي إلى حي، وفيها شارع فؤاد وشارع سليمان، وفيها الزمالك وجاردن سيتي، وفيها مقابل ذلك زين العابدين والدراسة وبولاق، وفيها فندق شبرد ووراء حديقته أزقة مسدودة لا تراها الشمس، ولا يمر منها الهواء، ولا ينيرها الكهرباء، ولا تعرف الطريق إليها مصلحة التنظيم. . .
إن الناس يتفاوتون في بلدنا، وفي بلاد الناس كلها، ففيهم الغني والفقير، والعالم والجاهل، وعندنا العمارات الكبيرة، والدور الحقيرة، ولكن المسافة بين عالينا ونازلنا قصيرة متحملة فليس في دمشق كلها عمارة كالـ (ايموبليا) ولا كنصفها، أن أعلى عمارة فيها في ست طبقات. ولكن ليس في دمشق أيضاً، بيوت كبيوت مصر القديمة أو عشش الترجمان. . .
وعندنا فقراء، ولكن فقراءنا لهم ثياب نظيفة تسترهم، وأحذية تحملهم، وبيوت تكنهم، وعندنا مالكون للأرض، ولكن الناس يملكون معهم، ليسوا عبيداً لهم، ولا إجراء عندهم، ما عندنا هذه (الإقطاعية. . .) إلا في حماة وأمثالها، وهي مناطق محدودة، وسائر الأرض مقسمة بين الناس، يملك الواحد منهم ربع الفدان فما فوقه، ولا يرى نفسه دون مالك الآلاف، ولا يذل له ولا يرى له عليه فضلا.
لذلك يعجب الشاي عندما يقدم مصر، ويرى هذا التفاوت فيها، ويسأل من أين جاء؟
وثانيهما: السؤال عن الكتاب والعلماء، لماذا لا يدعون إلى تخليص البلد من هذا الداء العياء، وتعديل كفتى الميزان وتحقيق طبيعة العرب في المساواة، ومقصد الإسلام في العدالة لا أريد المساواة المطلقة التي لا تبقى غنياً ولا فقيراً، فهذا ما لا يكون ولا ترضاه سنن الكون، ولا طبائع الأشياء. لا يكون إلا في أذهان الفلاسفة والشعراء، وأصحاب الأغراض من الدعاة، يشعبذون به على ألا، ويتخذونه سلما إلى غاياتهم، ووسيلة إلى أغراضهم، ولكن أريد المساواة المعقولة، التي لا ينزل بها إنسان إلى منزلة البهيمية في طعامه وشرابه ومسكنه، ولا يرتقى إنسان إلى منزلة الألوهية، يدعيها كذباً وبهتاناً كما ادعاها فرعون من قبل، وأن يكفل لكل مصري (مهما كانت مهنته، وكان عمله) طعامه وشرابه وكسوته ومسكنه، كما يليق بالإنسان أن يأكل ويشرب ويلبس ويسكن، كما يليق
بالإنسان أن يأكل ويشرب ويلبس ويسكن، وأن لا يترك في مصر رجل واحد، يعيش كما تعيش السائمة، يأكل قريباً من طعامها، وينام مثل منامها، في الطرقات، والحقول، وعلى الأرصفة، وفي الأكواخ؛ وأناس يطعمون كلابهم الشكولاته، وينفقون أموالهم في المراقص، ويذيبون ذهبهم في الكؤوس.
فماذا يصنع العلماء والكتاب؟
وثالثهما: السؤال. . . إذا كان يجوز لمثلى السؤال، عن الحكومة ما لها تقر هذه الحال، أولا، في كثير من قوانينها وأنظمتها، فتجعل المدارس الأولية متفاوتة الدرجات، ولا تسوق ابن المغني وابن الفقير بعصا واحدة، وتحشرهم في مدرسة واحدة، كما تفعل وزارة معارفنا في الشام؛ وما لها تعنى بالمشروعات الضخمة الكمالية، قبل إتمام الضروري، كأن القصد تنويع الحلوى للأغنياء، قبل تقديم الخبر للفقراء؟!
وما لها لا تضع، ثانياً، القوانين التي تؤدي إلى إبطال هذا التفاوت، وإلى رفع المنخفض وخفض المرتفع، حتى تقترب الدرجتان، وتتدانى الكفتان، فتعمل بالإسلام في أخذ الزكاة من الأغنياء، وردها على الفقراء، وحينئذ تأخذ هذه الـ (أربعين ألف جنيه) قسراً بلا رجاء ولا شكر، أو تعمل عمل الأمم الغربية، فتكثر الضرائب على الدخل وعلى المواريث وتشرف على المعامل والشركات والمصارف، ويكون لها الرأي في كل ما يمس المصلحة العامة - وهذه (اشتراكية) ليست من مبادئ الإسلام، ولكنه لا يمنعها إن دعت إليه ضرورة، والضرورات لها أحكام، وتعريف الضرورة وأحكامها، مبيّن في كتب الفقه ليس هذا موضع بيانه.
ورابعها: سؤال عقلاء مصر وقادتها، ألا تخافون أن تأتيكم هذه الحال بالشيوعية؟ ألا ترون بوادرها؟ ألا تعرفون أخطارها؟ ألا تقدرون أضرارها؟ فلماذا تلبثون نائمين ولهيب النار يقترب من منازلكم، فلا يلبث أن يشعلها عليكم، فيجعلكم فيها كالمحبوس في الجحيم؟
إن الناس لا يقبلون على الشيوعية عن معرفة بها، ولا عن حب لها، ولكن دعاتها رأوا ما هم فيه، وعلموا أنهم يتمنون أن يجدوا الخلاص منه ولو على يد الشيطان فأوهموم أن الشيوعية هي سبيل الخلاص، وأنها طريق السعادة وأنهم إن كانوا دعاتها ملكوا بها قصور الأغنياء، وحقولهم وسيارتهم، فلذلك تعصبوا لها ولا يدرون ماذا فيها، فهم منها كما قال عبد
الله بن عمر، لمن لامه على ترك مؤازرة ابن الزبير في دعوته إلى الإصلاح: أرأيت بغلات معاوية الشهب اللائي يحج عليهن؟
قال: نعم. قال: ذلك ما يريد ابن الزبير!
إنهم يئسوا منكم ومن دينكم، فأروهم أنكم معنّيون بهم، وأن دينكم لا يرضى ما هم فيه، إن الإسلام دين العدالة، دين المساواة، دين الخير، أفيرضى أن يستعبد بعض الناس بعضاً في قرن العشرين الميلادي، وقد أنكر ذلك عمر في القرن الأول الهجري؟
فلماذا لا تأتونهم بحق الإسلام، لتخلصوهم به من باطل الشيوعية؟
أما والله إذا صار هذا البلد (لا سمح الله ولن يسمح) شيوعياً فأنتم يا أيها العقلاء، ويا قادة الرأي، المذنبون، لا العامة ولا الدهماء ولا الأغرار من الشباب!
وخامسها: سؤال المصريين جميعاً، ألم يروا هؤلاء الأجانب، أصحاب المتاجر والمعامل والمصارف لم تمتد يد منهم بقرش لرد هذا الوباء، ومساعدة المنكوبين به، ورفع البيوت التي هدمها، وإطعام الأطفال التي يتمها، والنساء اللاتي إيّمها؟ ألم يأن لهم أن يتنبهوا إلى أنهم أحق بخيرات بلادهم؟ لا النهب والسلب والثورة أخذ المال من أصحابه، لا ما ذلك أردت، ولا يريد هذا عاقل، بل بأن تطرحوا عنكم ثوب الكسل، وتشمروا عن ساق العمل، وتنزلوا للميدان؛ وتتعلموا حب المال، والرغبة في الأسفار، وتتقنوا فن الاقتصاد، وصيد الدراهم، والتعاون على الكسب. بذلك تخلص إخوانكم الشاميين من سيطرة الأجانب، وأنقذوا بلادهم منهم، ثم ذهبوا فغزوهم في بلادهم، وانتزعوا أموالهم من أكفهم، وزاحموهم، في مانشستر ونيويورك وبوينس أيرس والكونغو وبومباي وطوكيو، وكل بلد في الدنيا، ما خلت مدينة من تجار الشام.
إن بعض العراقيين يقولون مازحين: إن الشاميين يهود العرب!
يهود العرب. . . طيب والله!. . . وهل تقاوم اليهود إلا بهذا؟ بارك الله في تجار الشام - وإن كن (أشهد الله) أكرههم، لما رأيت من طمعهم وجشع نفوسهم. وأتمنى أن أشد أصابعي على أغنياء الحرب منهم، ولكن الحق أحق أن يقال، ولا تنجح أمة إلا بأمثال هؤلاء التجار.
هؤلاء الذين يشيدون مجدها، ويثبتون بناءها، ويحفظون مالها. فمتى يكون المصريون مثل
هؤلاء؟ ومتى أجئ مصر، فلا أرى فيها إلا لوحة عربية، باسم عربي، على مؤسسة عربية؟! يا مصر، هذا هو الطريق! وهذا والله كلام صديق!
(القاهرة)
علي الطنطاوي
النظرية الحديثة في تفسير الأحلام
للأستاذ عبد العزيز جادو
إن آداب كل أمة توضح بجلاء رغبة الرجل الملحَّة، المستديمة، في تعليق بعض الأهمية على أحلامه وإلباسها بعض المعاني. فمن فجز التاريخ إلى بداية هذا القرن كانت الأحلام تعتبر في بعض الأحيان كأصوات للالهية الباطنية، وجولات للذات النجومية، وزيارات للروح، وتنبؤات بالمستقبل، أو نتيجة اضطرابات جسمية باطنية.
وفي عام 1900 حوّل الأستاذ سيجموند فرويد ما اعتبروه خرافات وأوهاماً خاطئة في تعليل الأحلام إلى (دراسة علمية). فلقد وجد، ككل العلماء، أن الالتجاء إلى الحدس والتخمين عمل محفوف بالمكارة.
وإن رجالاً من أمثال جوليان هكسلي، وهـ. ج. ويلز، وهافلوك أليس، ليدفعون إتاوة لفرويد. كما أن العالم أجمع يقدره حق قدره ويعده من أنبغ النابغين في جيله.
للأحلام وجهان:
لا يخفى أن لكل قطعة من العملة وجهين، لا نرى منهما إذا وضعت القطعة على نضد إلا الجانب الفوقي. كذلك لكل حلم وجهان؛ فالحلم الذي نعيه عند الاستيقاظ هو الرأس أو الوجه، ويعرف في الاصطلاح الفني بالمحتوى الظاهر؛ أما الحلم الحقيقي، الذي لا يفسره التحليل أو يوضحه فهو (الخلفي) أو المحتوى الباطن. ومشكلة تحليل الحلم هي أن نرجع إلى الحلم الحقيقي، وأي المادة المستترة.
ولكن لم هذه الضرورة لحلم حقيقي وحلم غير حقيقي؟
إن حلماً كهذا الذي تذكره عند استيقاظك من النوم إن هو إلا شيء باطل ملفق، وتمويه مطبق. وإنه لوسيلة لإخفاء القصة الحقيقية. قد تسأل:(لم هذا الإخفاء؛) ونحن لا يسعنا إلا أن ندلي برأينا كاشفين عن السر القناع.
إن للعقل (جزئين) كما هو معروف؛ الواعي والباطن. الأول كتاب قانون للجماعة، وهكذا نسميه، لأنه يحوي جميع النواهي وكل الأوامر، كما يحوي على قواعد حسن السير والسلوك. وإنه بمثابة مجموع أو حاصل لمبلغ تربيتنا وتهذيبنا من عهد الطفولة وما بعدها.
أما العقل الباطن فإنه يحتوي على نواة الرغبة. ويتبع نظام حفظ الأوراق بالترتيب مع
الذات الفيزيقية، على نسق فهرس، يشتمل على فكر وتصورات في غاية الهمجية - تصورات تدل على الطبيعة الفجة (الخام).
ويمكنك أن ترى بين العقلين خلافاً جوهرياً؛ أحدهما يريد، والآخر لا يريد. . . أحدهما ذو الطبيعة الهمجية يلتقى بحاجيات الطبيعة؛ والأخر إنسان متمدن يوفق بين طلبات المدنية.
ومن تعارض هذين العقلين تنشأ الأحلام.
الحوار الداخلي:
قد يتوقع المرء أن يؤثر الحوار الداخلي في الفرد فيوقظه، ولكن آلية الحلم جعلت هذا الجدال الداخلي محرفاً في معناه، ومشوهاً في شكله، لكي يكون النوم باقياً مستمراً ومحفوظاً. والحلم إذ نذكره - أي في حالة المحتوى الظاهر - إنما يستخدم غرضاً واحداً، هو قيامه بمثابة حارس للنوم. وإنه ليلجأ إلى أنواع التزويق والخداع لكي يصادف هذا الغرض.
والمحتوى الكامن أو الباطن للحلم، أي الحلم الحقيقي، يخدم غاية تختلف تمام الاختلاف عما سبق. فهو يرضى رغبة عقلية داخلية، تحرك عاطفة خاصة وتحثها لإنشاء تحوّل كيمي وفزيقي، أو أصوات متعددة ذات وتيرة واحدة منسجية أي إنها تسبب قيام غدد معينة بالإفراز وتحدث تغيرات كيمائية مختلفة، أكثر مما لو كان الشخص قد تناول علاجاً منعشاً عند النوم. وإلى هذا يرجع السبب في شعور المرء بالراحة عند استيقاظه.
الآن وقد كونا فكرة صحيحة بل صورة ذهنية حية لهذين العقلين المتناقضين، نستعرضهما وكأنهما غرفتان متلاصقتان ونتخيل حارساً يقف عند المدخل كديدبان ولنسمه (الرقيب). وهذا مهمته كمهمة الرقباء أثناء الحرب سواء بسواء - يصرحون بنشر أخبار معينة ويمنعون من النشر أخرى. وهذا الرقيب هو الذي جعل للحلم وجهين بطائفة من الحيل كالرمزية، والتحريف، والتكاثف، والعواطف المزيفة، والاستبدال. وكل هذه، بطبيعة الحال، معلومات فنية عالية، وهي مع ذلك يمكن شرحها بسهولة.
إن المرء لفي حاجة ماسة للتعرف على كيفية عمل الرقيب، وإنا لذلك سنمضي في متابعة الطرائق المختلفة، ونعرض أحلاماً رمزية بطريقة التصوير.
الرموز:
الرمز عبارة عن علامة تعني شيئاً ما. فالدوائر الثلاث المتداخلة معناها التضامن أو التعاون. والبولدوج رمز للمتانة أو التشبث. كما أن الأسد رمز للشجاعة والإقدام. والثعلب رمز للمكر والدهاء. وهذا قليل من كثير لا حصر له ولا عد. وثمة شيء غريب آخر عن الرموز، هو أنها تحرك العواطف وتستفز الشعور على الفور بأسرع ما يمكن. يقول الشارع أو الناثر أو الخطيب (زمجر كالأسد). كم يكون وقع هذه الجملة في السامع! وكم تكون حيويتها وتأثيرها! أليست أشد وقعاً في النفس مما لو قال (زمجر عالياً!). . . ومن ذا الذي لا تهزه الأريحية ولا تأخذه النخوة عند سماع النشيد القومي أو السلام الملكي!
ثم أليس هناك آلاف ممن جندوا أنفسهم واستعدوا للدخول في غمار المهالك، واستنفاد آخر قطرة من دمائهم من أجل حقوق قطعة من قماش مصبوغة باللون الأخضر ومرسوم عليها هلال وثلاثة أنجم؟ لا لأنها تقوم على نصرة المملكة المصرية فحسب، ولكن لأنها رمز يحرك العواطف ويذكيها حماسة.
وعلى ذلك يمكننا أن نرى أن الرمز ليس إلا مؤثراً آلياً أو ميكانيكياً في الأحلام لا يقدّر بثمن، لأنه يحرك العاطفة لسعادة جسمية.
أما رموز الأحلام فهي غالباً ما تكون سرية (أو خاصة بالحالم ذاته) ومن ثم فإنك، أنت نفسك، عندما تستيقظ من النوم، ولا تفهم شيئاً من معاني ما رأيت في حلمك.
دراسة الأحلام:
إن الرموز التي أسلفنا القول فيها هي في الواقع معروفة وليس هناك من يجهلها. ولكن لرموز الأحلام ميزة الخصوصية والسرية. فمن ذا الذي يعرف تلك الرموز؟
الخبرة في تحليل الحلم تعرفنا بالقليل من معاني الرموز، ولكن أفضل طريقة لدراستها هي دراسة الحالم. والطريقة المتبعة في ذلك من السهولة بمكان، وهي أن تستقصي ما يذكر بالأشياء. مثال ذلك أني حلمت بامرأة ذات أسمال بالية تقوم بعمل أشياء مختلفة، فتساءلت عما يذكرنيه امرأة ذات ثوب خلق. وذكرت أني منذ سنين قليلة كنت في حفلة رقص تنكرية حيث كانت فتاة ترتدي ثوباً خلقاً ممثلة الفاقة. فكان من الواضح إذن أن الفتاة التي رأيتها في الحلم تعني الفاقة. بيد أني لم أحلم بالفاقة، لأن هذا قد لا أستسيغه فيزعجني
ويوقظني من النوم. فيتكرم (الرقيب) مشكوراً ويريني تلك الفتاة الجميلة، الرشيقة، بهيئة مريضة، ليستدرجني في دروبه كيف شاء له الهوى تاركا إياي أغط في نوم عميق مريح.
ولنأت بحلم رمزي بسيط:
كان الحالم طفلا في الثامنة من عمره. رأى أن كلباً وقطاً يتشاجران. كان الكلب أسمر اللون، وكان القط أحمر اللون. ورأى فجأة أن الكلب والقط قد دخل كلاهما في الآخر وتكون منهما حيوان فرد فيه شبه من القط، وفيه شبه من الكلب، فاستيقظ من نومه باسماً. ولما سئل عن أقرب شجار شاهده أمامه كانت النتيجة أن أمه وأباه كانا يتشاجران دائماً شجار الكلاب والقطط. وفي ذلك اليوم على الأخص كان عراكهما فظيعاً. وكانت هذه آخر معركة رآها قل ان يرى في الحلم كلباً وقطاً يتشاجران. . .
لقد كان أبوه أسمر اللون، وكانت أمه شقراء. فمن الواضح أن الكلب كان أباه، وكانت القطة أمه. ولقد كان انزعاجه من رؤية حيوانين يتشاجران لا يقاس بجانب انزعاجه من عراك والديه. إنه يريد أن يقف عراكهما عند حد، وأن يتصافيا، لأنه تصورهما وقد امتزجا معاً وصارا واحدة. وإن هذا ليسره فيستيقظ باسماً. وهكذا نرى أن تفسير الحلم بسيط غاية البساطة. ولكني أرجو أن تدرك تماماً أيها القارئ العزيز أن الحلم لا يوضح ولا يشير إلى ما سوف يفعله أناسه أو ما قد يفعلونه، ولكنه يبين ما يفكر الطفل فيه. بيد أن هناك ما هو جدير بكل اعتبار ألا وهو أنه ما من حلم إلا ويبين اتجاه الحالم نفسه لا اتجاه أحد غيره. وعلى كل من اشتغل بدراسة الأحلام أن يذكر أن هذه النقطة من الأهمية بمكان.
وبما أنه لا يجود للان أي حلم يبين بوضوح لأي شخص تركيباً آليا، بل تراكيب من مختلف الأساليب، فإننا نخطو إلى أحلام أكثر تعقيداً. وقبل أن نقدم على هذا، علينا أن نتعرف السبب الذي يجعل الأحلام أو فيها شيء من التعقيد. ذلك لأنها ذات تحريم جنسي.
التحريمات الجنسية:
لقد هاجم رجال الدين فرويد بسبب اعتماد على الجنس. فرد عليهم مازحاً، ولكنه أظهر الناس على بعض الحقائق السافرة وأظهر بالتحليل تسلط الجنس على النفس الداخلية، وأزال كثيراً من أوهام المتصوفين.
على أن فرويد لم يقل أن كل الأحلام جنسية، أو إنها يجب أن تكون جنسية، وكل ما في الأمر أنه دون في بيانات صحيحة وأن السواد الأعظم ذو طبيعة جنسية. وقبلما نحاول تحريم أو نبذ هذه النظرية التي تحاول الكشف عن الطبيعة الجنسية في الناس يستحسن أن نرفع النقاب عن المعلومات الجنسية. ولنكن صرحاء للغاية القصوى بدل أن نخفي أنفسنا على طريقة النعامة، إذ نضع رؤوسنا في رمال الزمن المرتحل.
إن البيولوجيا تبين بوضوح وجلاء أن هدف الحياة ما هو إلا حفظ الحياة والتكاثر فيها. فبدون النشاط الجنسي، وبدون الحافز للحياة، يموت كل شيء، ولا يبقى شيء.
وإذا كان هذا هو أهم شيء في العالم، وهو بالفعل كذلك، فلم ندعى أنه يقوم بدور بسيط تافه لا يعتد به في ذواتنا الفيزيقية؟
إن الحقائق الجنسية أصعب من أن تواجه في حالة طبيعية. فهي اختيار قاس. ولا داعي لبيان أهمية الجنس ولا للتعريف بأنه أعظم شيء في الحياة، إذ أن كثيراً من العقول المفكرة قد أقامت البرهان القاطع على أنها نواة كل سلوك.
عبد العزيز جادو
حول جدل في الجامعة
للأستاذ عبد الفتاح بدوي
منذ نشرت مجلة (الرسالة) تقرير الأستاذ أحمد أمين بك عن (الفن القصصي في القرآن)، والأستاذ محمد خلف الله يبعث بالمقال تلو المقال تارة يستجدي وتارة يستعدي، وليس العلم تناصراً ولا استصراخاً فليعلم أن الناس جميعاً علماءهم وفنانيهم لن يغنوا عنه من الحق شيئاً ولا من وقع الحجة وأصابتها مقتله فتيلا وليست شتائمه أساتذته أوةأوبيسبتيسمنبتيسبمنتيسبمنيستأبيسنبتيسكمنبتيساو غير أساتذته ولا خوضه في مقاماتهم بالكلم الخبيث ما نعته من صولة البرهان.
ولقد وجهنا إليه في مقالنا السابق تهمة أولى أنه يجهل المقررات المنطقية التي تجمع عليها العقول؛ فهل هو مجيب عن هذه التهمة؟
ووجهنا إليه في مقالنا السابق تهمة الكذب على الأستاذ الإمام محمد عبدة أنه يجري في تفسيره على اعتبار أن ما في القرآن من قصص لا يدل على أحداث وقعت وأقمنا البرهان على كذبه هذا بما نقلنا من نص عبارة المنار.
واليوم نقول للأستاذ خلف الله أنه جهل فهم كلام الأستاذ محمد عبدة في الفقرة التي نقلها في مقاله المنشور في ص1068 من مجلة (الرسالة) الغراء، وأنه جهل المنهج الذي يدرس عليه القرآن الكريم.
يدرس القرآن الكريم على منهجين: الأول منهج (الباطنية) وهم فرقة من الملاحدة يعطلون ألفاظ القرآن عن مدلولاتها، ويسلكون بها سبيلا تخيلية وهمية توصلا بذلك إلى تعطيل الشريعة الغراء فهم يدعون للألفاظ أو للجمل مراداً عاماً لا ينبني على أسس علمية وهؤلاء كفار والجري على طريقتهم كفر وجهالة.
لأن مذهبهم هذا مجرد دعاوى لا تنبني على شيء من العلم. فهم يقولون مثلا في تفسير قوله تعالى: (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين) استقيموا لله وطهروا أنفسكم بالأخلاق الحسنة وكنوا خاضعين، وليست هناك صلاة شرعية ولا زكاة شرعية ولا سجود ولا ركوع.
والمنهج الثاني: في دراسة القرآن الكريم منهج المسلمين، وهو منهج العلم والعقل الذي تقوم
عليه نواحي الحياة كلها وليس خاصاً بالقرآن الكريم وحده؛ ذلك أن الكلام يجب أن يكون لألفاظه مدلولات حقيقية تنصرف إليها تلك الألفاظ ولا يعدل عنها إلا إذا وجدت قرينة تمنع من إرادة تلك المدلولات الحقيقة فإنما هو في غير القرآن خبل وجهالة وإذا ادعى شيء من ذلك في مقام القرآن الكريم فهو خبل وجهالة وزندقة يخرج بها صاحبها من عداد المسلمين لأنها تعطيل لكلام الله تعالى الذي أنزل لهداية البشر أجمعين.
ومن المسلمين من يقف في تفسير القرآن الكريم عند هذا الحد لا يتعداه؛ بل يحمل الكلام على الحقيقة من أمكن ذلك ثم على المجاز الذي تدل عليه القرينة عند وجودها، ولا يقولون إن القرآن يشير من وراء هذه الحقيقة أو هذا المجاز إلى شيء من باب الإشارة والإيماء لأن هذه الإشارة وهذا الإيماء لا تدل الألفاظ عليه.
ويقول الصوفيون من المسلمين إن في القرآن إشارات وأسماء من وراء تلك الدلائل الحقيقية، وهذه الدلائل الإشارية الإيمائية ملحوظة عند هؤلاء الصوفيين مرعية لديهم حق رعايتها.
فمذهب الصوفية يخالف مذهب الباطنية كل المخالفة لأن الباطنية يعطلون الألفاظ عن مدلولاتها. فهم لا يعتبرون آدم شخصاً ولا الملائكة موجودات، ولا الجنة شيئاً، ولا لإبليس حقيقة؛ إنما يقولون في ذلك كله مل يقول الأستاذ خلف الله إن القرآن في ذلك لم يتشبث بالواقع، أما الصوفية فيقولون بأن كل هذه الألفاظ لها مدلولاتها الحقيقية ثم يشير مجموع القصة إلى أمور أخر كالتي ذكرها الأستاذ الإمام في قوله: وتقرير التمثيل في القصة على هذا المذهب هكذا: (إن إخبار الله الملائكة بجعل الإنسان خلفة في الأرض هو عبارة عن تهيئة الأرض وقوى هذا العالم وأرواحه إلى آخر ما قال. فمحال أن يكون الإمام قد قصد إلى تعطيل الألفاظ والذهاب مذهب الباطنية.
وإني ناقل هنا عبارة الأستاذ الألوسي إذ تشرح هذا المنهج وترى الأستاذ خلف الله أنه كان على جهل حين زعم أن من المسلمين من يرى أن القصص القرآني لا يتصل بالواقع وكان على خطأ لم يفهم به كلام الأستاذ محمد عبدة؛ قال الألوسي: وأما كلام السادة الصوفية في القرآن فهو من باب الإشارات إلى دقائق تنكشف على أرباب السلوك، ويمكن التطبيق بينها وبين الظواهر المرادة، وذلك من كمال الإيمان ومحض العرفان لا أنهم اعتقدوا أن الظاهر
غير مراد أصلا وإنما المراد الباطن فقط إذ ذاك اعتقاد الباطنية الملاحدة توصلوا به إلى نفي الشريعة بالكلية، وحاشا سادتنا من ذلك؛ كيف وقد حضوا على حفظ التفسير الظاهر وقالوا: لا بد منه أولاً إذ لا يطمع في الوصول إلى الباطن قبل إحكام الظاهر، ومن ادعى فهم أسرار القرآن قبل أحكام التفسير الظاهر فهو كمن ادعى البلوغ إلى صدر البيت قبل أن يجاوز الباب.
والألوسي في تفسيره ينهج هذا المنهج أبداً فهو يفسر الأسلوب القرآني على حقائقه اللغوية فإن قامت قرينة على غير الحقائق انصرف إلى المجاز الذي تدل عليه اللغة؛ ثم يعقب على ذلك كله بتفسير الصوفية فيقول: ومن باب الإشارة. . . ويذكر الإشارات الصوفية في ذلك المقام.
والأستاذ محمد عبدة نهج هذا المنهج نفسه، واختار لنفسه في المتشابه منهج السلف والأخذ برأي الخلف فيه عند الإمكان وعند الداعية إليه في فهم الكلام ثم يذكر مذهب الصوفية وهم من الخلف ويقرر مذهبهم الإشاري كذلك ويصرح في كثير من كلامه بكلمة الإشارة وبكلمة الإيماء؛ فقال في ص269 من الجزء الأول من المنار: فإذا صح الجري على هذا التفسير فلا يستبعد أن تكون (الإشارة) في الآية إلى أن الله تعالى لما خلق الأرض ودبرها بما شاء من القوى الروحانية التي بها قوامها ونظامها؛ وجعل كل صنف من القوى مخصوصاً بنوع من أنواع المخلوقات لا يتعداه ولا يتعدى ما حدد له من الأثر الذي خص به خلق بعد ذلك الإنسان وأعطاه قوة يكون بها مستعداً للتصرف بجميع هذه القوى. . .
وقال صاحب المنار في تلك الصفحة نفسها: (وأقول إن غرض الأستاذ من هذا التأويل الذي عبر عنه بالإيماء وبالإشارة إقناع منكري الملائكة بوجودهم. وكان مساق هذا الكلام كله بعد عبارة طويلة نقلها من كلام الغزالي في الإحياء. فهو إذن بيان لمذهب الصوفيين.
فمن الافتيات على الأستاذ محمد عبدة افتياتاً جريئاً فيه عدم الاستحياء من الحق ما قاله الأستاذ محمد خلف الله عن الإمام محمد عبدة إذ ينسب إليه أنه يرى أن القصص القرآني لا يلتزم الواقع أو أنه جرى مع أحد هذا المجرى وذهب معه هذا المذهب الذي يدعيه.
ولقد حاولت أن ألتمس للأستاذ خلف الله بعض المعاذير، ولو أوهاها في التورط فيما تورط فيه فمنعني سلوكه، وحالت بيني وبين ذلك خلائقه؛ ذلك أنني وجدته مدلساً في النقل خائناً
للأمانة العلمية فهو يكذب في النقل أو يبتر المنقول ولا يتمه بل يخفي منه ما يبين المراد تمويهاً للحقيقة وإلباساً على الناس.
لقد قال في ص1122 من مجلة (الرسالة) الغراء: ويؤكد الرازي هذا المر في مناسبات أخرى حين يجعل أحياناً كلمة (بالحق) التي ترد كثيراً في القرآن بعد القصص وصفاً لما في القصة من توجيهات دينية فهو مثلا يقول عند تفسيره لقوله تعالى: (وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين) ما يأتي: (أما الحق فهو إشارة إلى البراهين الدالة على التوحيد والعدل والنبوة).
وإني ناقل عبارة الفخر الرازي بنصها شاهداً على تدليس الأستاذ محمد خلف اله فيما ينقل من عبارات العلماء قال الفخر قوله تعالى: (وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين) اعلم أنه تعالى لما ذكر القصص الكثيرة في هذه السورة ذكر في هذه الآية نوعين من الفائدة أولهما تثبيت الفؤاد على أداء الرسالة وعلى الصبر واحتمال الأذى، وذلك أن الإنسان إذا ابتلي بمحنة وبلية، فإذا رأى له فيه مشاركا خف ذلك على قلبه كما يقال المصيبة إذا عمت خفت، فإذا سمع الرسول هذه القصص وعلم أن حال جميع الأنبياء صلوات الله عليهم مع أتباعهم هكذا سهل عليه تتحمل الأذى من قومه وأمكنه الصبر عليه. والفائدة الثانية قوله: وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين. وفي قوله (في هذه) وجوه أحدها في هذه السورة. وثانيهما في هذه الآية. وثالثها في هذه الدنيا، وهذا بعيد غير لائق بهذا الموضع، واعلم أنه لا يلزم من تخصيص هذه السورة بمجيء الحق فيها أن يكون حال سائر السور بخلاف ذلك لاحتمال أن يكون الحق المذكور في هذه السورة أكمل حالا مما ذكر في سائر السور، ولو لم يكن فيها إلا قوله تعالى فاستقم كما أمرت لكان الأمر كما ذكرنا، ثم إنه تعالى بين أنه جاء في هذه السورة أمور ثلاثة: الحق والموعظة والذكرى.
أما الحق، فهو إشارة إلى البراهين الدالة على التوحيد والعدل والنبوة؛ وأما الذكرى فهي إشارة إلى الإرشاد إلى الأعمال الباقية الصالحة؛ وأما الموعظة فهي إشارة إلى التنفير عن الدنيا. . . اهـ.
فالفخر الرازي ليس فيه شيء مطلقاً لا من قريب ولا من بعيد مما نسبه إليه الأستاذ محمد
خلف الله فرية واختلاقاً، فالفخر يجعل اسم الإشارة راجعاً إلى السورة، يعنى سورة هود، ويجعل الحق الذي فيها هو الدلائل الدالة على التوحيد، ولعل عند الأستاذ خلف الله، أو الذي كان يشرف معه على رسالته نسخة خطية خاصة من كتاب الفخر الرازي عملت لهما فقط وخط لهما فيها ما يشاءان؟ ما هذا يا أستاذ؟ وما هذه الخيانة في العلم؟!
ومثال البتر في النقل ما قاله الأستاذ خلف الله في نفس الصفحة إذ نقل قول الفخر الرازي عند تفسير قوله تعالى (بل كذبوا بما لم يحيطوا بعمله ولما يأتهم تأويله) الأول أنهم كلما سمعوا شيئاً من القصص قالوا ليس في هذا الكتاب إلا أساطير الأولين ولم يعرفوا أن المقصود منها ليس هو نفس الحكاية بل أمور أخرى مغايرة لها).
والفخر الرازي قال ذلك ولكنه أتم كلامه فقال في شرح تلك الأمور (فأولها بيان قدرة الله تعالى على التصرف في هذا العالم. وثانيهما أنها تدل على العبرة. . . وثالثهما أنه (ص) لما ذكر قصص الأولين من غير تحريف ولا تغيير مع أنه لم يتعلم ولم يتتلمذ دل ذلك على أنه بوحي من الله. . . الخ.
فكلام الرازي صريح في أن القرآن لا يذكر القصة لأنه كتاب تاريخ بل يذكرها لما في ذكرها من الفوائد التي ذكرها وكلام الفخر الرازي صريح في أن القرآن لم يحرف في القصص ولم يغير وكان ذلك دليلا على أنه بوحي من الله.
أما دعوى الأستاذ خلف الله فهي أن القصص القرآني لا يتشبث بالواقع وإذن فلا بد له من التدليس في النقل ليتوهم القارئ أن الكلام الذي يقوله الأستاذ خلف الله أصلا في كلام السابقين صارت الصفات التي يتمتع بها الأستاذ خلف الله في مقاليه في الرسالة ثلاث صفات الجهل والكذب والخيانة.
وإذا كان للكانون عند العرب ثلاث أثافي فإن كانون الأستاذ خلف الله له أربع أثافي تلك الثلاث التي مضت وسنرميه بالرابعة.
ولقد كان يمكننا أن نرميه بها بادئ ذي بدء بعد أن حصلنا على ما حصلنا عليه ولكنا آثرنا أن تقدم بين يدي ذلك جهله وكذبه وخيانته، ثم نقيم عليه الحجة والدعوى معاً.
لقد وقعت الرسالة في أيدينا وقرأناها كما قرأها سوانا ولكم الويل مما تصفون. لكم الويل فانتظروه في الأعداد القوادم وفي ساحات القضاء.
عبد الفتاح بدوي
كلية اللغة العربية
الصدق في الأدب
للأستاذ مهدي القزاز
في بعض الأوقات تكون قلوبنا عامرة بالعواطف، مثقلة بالاحساسات، تتدفق بألوان الشعور، وتحيا بفيض من الإشراق وتنبض بمختلف الأماني والأحلام. . . تحاول الانطلاق في أجواء فاتنة تضج بالأنغام والأضواء والشذى والعطر، لتنغمر في الوجود الذي يهيئ لها الإبداع والخلق والابتكار، إذا كان لها نصيب من حسن الذوق وبراعة الإنتاج. . .
يشعر القلب في مثل هذه الفترة أن الحياة تتفجر نوراً وجمالا وتتضوع أريجاً مسكراً، فيختلج ليلهم الأديب الفنان والشاعر الملهم والكاتب الموهوب أروع الصور الذهنية ويضفي على إنتاجهم روعة الصدق وحرارة الإخلاص وسمو العاطفة، فيحيا في كل أعمالهم وما يفكرون وينتجون ويبدعون، فيكون لأدبهم وكتاباتهم أثر في كل نفس وصدى في كل روح لأنها نتيجة شعور صادق وإيمان عميق بما يكتبون ويفكرون. . .
وفي بعض الأحيان قلوبنا وينتابها التبلد والخمول وتتيه في ظلمة قاسية من الجفاف والخواء ترقد فيها العواطف وتشيع الكآبة في النفس ويرين الحزن على القلب فلا يشعر بالنور ولا تتلاشى فيه الأضواء وتنعدم الأخيلة، فيحس أن الحياة مغمورة بالضباب فلا ترى العين ولا ينفذ الفكر ولا يومض الذهن وفي مثل هذا العدم يتوقف القلب عن الإيحاء الصادق ولا يوحي إلا بالتافه من الأمور والضحل من الأفكار.
في مثل هذه الحالات يجب على الأديب الصادق الذي يكتب بعاطفة وشعور يستمدهما من قلبه أن يريح قلمه إلى حين وإلا بدا عليه الإسفاف ظاهراً والاجترار ملموسا والتكلف واضحاً لأن نبضات قلبه يجب أن تبرز دائماً في كل عمل من أعماله الأدبية وإنتاجه الذهني فإذا فقدها خلت كتاباته من عنصرها الأساسي وهو (روح الكاتب).
يقول الأستاذ (توفيق الحكيم) في كتابه (زهرة العمر): (إن تربية ملكة العقل وحدها لا تكفي عند رجل الأدب والفن إن لم يصحبها إيحاء القلب وإلهام العاطفة وملكة التذوق. . .
وهو يشترط اشتراك القلب ووحيه في كل عمل من الأعمال الذهنية والإنتاج الفكري).
فالقلب ينبوع العواطف والأحاسيس منه تنبعث أحلى الأنغام وأسطع الأضواء وأعذب الألحان وأعمق الأفكار. وفيه تحيا كل القوى التي تسيطر على حياتنا واجعلها مشرقة
ومضيئة حيناً وقاتمة مظلمة حيناً آخر. أما العقل فهو القوة التي تنظم ما يجول في القلب من تيارات وينبض فيه من عواطف وأحاسيس، وعمله كعمل الفنان أو المصور الذي يضفي بريشته وألوانه على الصور والألحان ما يزيدها عذوبة وجمالا ويعطيها جاذبية وإيحاء يكسبها الخلود.
يحسب بعض الناس أن الأدب لا يعدو كونه صناعة من الصناعات لا يحتاج إلى فهمه والنبوغ فيه كبير مشققة وعناء إلا ما يحتاجه صاحب المهنة لإتقان إحدى الصناعات اليدوية والبروز فيها والتفنن في إظهارها للناس بالمظهر الذي يجعلها أكثر اتقاناً وإغراء للشارين. كما يحسبه بعضهم تجارة تخضع لقاعدة العرض والطلب فيفهمون الأديب الناجح بمقدار ثروته وما تدر عليه كتاباته من مال وثراء فإذا أخفق في جلب الثروة ولم يتمكن من الربح المادي عدوه فاشلاً ونظروا إلى كتاباته نظرة عدم اهتمام كما ينظرون إلى بضاعة من البضاعات كسدت ولم يبق لها شار في السوق.
وبعضهم يرى الأديب الناجح من كثر إنتاجه وتعددت الصحف التي يكتب فيها والتي تنشر اسمه وتنوه بكتبه وآثاره غاضين النظر عن قيمة هذه الكتب والآثار الأدبية من وجهة الجمال والفن والإبداع، وما في أفكار صاحبها من ابتذال وفسولة.
وهؤلاء الذين فهموا الأدب والأديب هذا الفهم الخاطئ معذورون لأنهم لم يتوصلوا إلى فهم الحياة أو يتذوقوا ما في الوجود من أسرار وجمال وعواطف. لأنهم يكتبون ويفكرون ويحكمون، بعقولهم فقط تاركين قلوبهم هملاً لا تحيا في أعمالهم الأدبية وما يصدرونه من أحكام. كالآلات الميكانيكية تعمل وتنتج في كل وقت وفق خطة مرسومة لا تحيد عنها قيد شعرة.
وبسبب هذا الفهم المغلوط وانتشاره في الأدب العربي والأدباء العرب نشاهد كثيراً من الذين يكتبون ويؤلفون تبدو آثار الصنعة والتقليد وبرودة الموت في إنتاجهم لأنهم يكتبون بدون عاطفة وإحساس بهذا الخارق العظيم في الحياة وهو القلب ولزوم اشتراكه أو ظهوره في إنتاجهم وكل أعمالهم. وذلك لأنهم تعلموا الأدب ودرسوه كصنعة من الصناعات ومهنة من المهن لذلك جمد إحساسهم وماتت عواطفهم فجاء أدبهم صورة تنطق بالفقر من الإحساس والتصوير والابتكار.
وإني أطالع أحياناً ما يكتبه الكاتبون والأدباء، وخاصة في الأدب الوجداني، فأرى في آثارهم صدق الإحساس وحرارة التعبير وشبوب العاطفة، وهذه هي صفات الأدب الصادر في صدقه وحرارته وشبوبه عن وجدان حساس تهزه العاطفة فينتفض وتمسه الأزمة فيرتعش. وأطالع أحياناً أخرى آثار بعض الأحباء الآخرين فأرى التكلف فيها واضحاً والاجترار ملموساً والصنعة ظاهرة وهذه هي صفات أدب التصنع الذي لا يثير في النفس إحساساً ولا يحرك عاطفة ولا يعالج عقدة، وذلك لأنهم يكتبون كتابة آلية لا تدعوهم إليها دواعي الوجدان أو تثيرهم إحدى الأزمات النفسية فتلهب عواطفهم وتحرك قلوبهم.
وإني امرؤ أقرأ الأدب بقلبي وعاطفتي وأحكم على صدقه بما يثيره في نفسي من اهتزازات وأحاسيس تجعلني أشارك كاتبه في الشعور والإحساس رغماً عني لأنه صادر عن قلب حساس يتألم أو ينتشي، ويصور بصدق ما ينتفض في القلب من اختلاجات وما يجول في الذهن من أماني وآراء. أما الأدب الكاذب فهو الذي لا يثير أدنى شعور ولا يحرك خلجة فؤاد لأنه صادر عن عقل جامد صدئ يتصنع الشعور ويتكلف الإحساس.
إن القلب يجب أن يحيا في كل ما يكتبه الكاتب والأديب وإلا جاء إنتاجه ممسوخاً وخالياً من كل شعور أو إحساس، لأنه يكتشف بذلك عوالم مليئة بالجمال حافة بالمتع والمباهج. حتى الألم عنده له لذة غريبة تكسب أدبه جمالاً فنياً رائعاً كجمال تماثيل الفواجع الخالدة. وعندها يكون تفكيره وإنتاجه صادقاُ ينقل الصور ويسجل الحوادث ويزيد في ذخيرة الأدب لوناً يكسبه الخلود. . .
لذلك يجب على الأديب الحق الذي يحاول أن يكون في أدبه خالقاً وفي آرائه مبدعاً وفي تفكيره ناضجاً، أن تكون هناك صلة وثيقة دائمة بين عقله وقلبه وقلمه وبما يفكر ويكتب ويصور، لن جميع الأعمال الأدبية والفنية لا يكتب لها الخلود إلا إذا كانت صادرة من قلب ينبض وعقل ينظم وقلم يكتب ويصور.
أما هؤلاء الذين نراهم، في كل يوم، يسودون الورق بهزيل الأفكار وتنميق الألفاظ وبهرجة العبارات بدون أن يكون لإنتاجهم صدى يبعث فينا الروعة التي نشعر بها أو نحسها عندما نطالع أثراً أدبياً أو نرى عملا فنياً اشترك فيه القلب العقل. أما هؤلاء فسيظلون على الهامش وستذهب كتاباتهم مع الريح.
(بغداد)
مهدي القزاز
من صور الطريق
للأستاذ مهدي السامرائي
هذا الطريق المرصوف بالحجارة والقار، كم تطأه من الأقدام وكم تمر عليه من الأجسام وكم تسير فيه من النفوس، كل مهتم بشأنه كل سابح في عالمه وأحلامه وكل لاه بأمره عن أخيه الذي يسير بجنبه ويعيش وإياه في بلد واحد ووطن واحد.
يكاد يكون هذا الطريق كتاباً مفتوحاً تقرأ فيه تاريخ البشرية من أقدم عصورها حتى أرقى ما وصلت إليه من حضارة وتقدم، وفيه يشاهد المتأمل كثيراً من الصور الآدمية تعكس له حياة المجتمع الذي نعيش فيه وما به من فوضى واضطراب وما هو عليه من تناقض وتباين.
في بدء هذا الطريق الذي أسلكه كل يوم صورة من تلك الصور التي رسمتها يد الحياة الجائرة بريشة من شقاء وبألوان من فقر وجوع ومرض؛ صورة لا أبالغ إذا ما قلت رسمها فنان وهو في ثورة جنونية فجاءت فنية رائعة تمثل لنا شقاء البشرية في القرن العشرين.
كان لا يتجاوز العاشرة من عمره كفيف البصر؛ ذهب المرض بكلتى عينيه فأفقده نور الحياة وتركه يتعذب ويحيا في عالم من الظلام الحالك ويتخبط في ديجور من الفاقة والذل، ولكنه كان يشعر ويحس ويرى بعقله ما لا يراه كثير ممن أوتوا نعمة النظر؛ أولئك الذين ينعمون في حياتهم، ويسعدون بأحلامهم وآمالهم لاهين عن أمثاله من بني الإنسان ممن ظلمهم نظام اجتماعي فاسد وفوضى اقتصادية ضاربة إطنابها في طول البلاد وعرضها. كان يحس ويشعر لأنه دقيق الإحساس رقيق العاطفة أوتي من الذكاء حظاً وافراً، ومن الفطنة قدراً كبيراً فكأنه أوتي حكمة الشيوخ وهو لم يقرأ كتاباً واحداً. اتخذ من قنطرة بالقرب من (دارهم) ملجأ يلجأ إليه، وكان يسميها دارنا مفتخراً ولكنها لم تكن في الحقيقة سوى زريبة حيوانات لا تتعدى مساحتها العشرين متراً تضمه هو وأمه وأخوته الخمسة الصغار يضاف لذلك عدد كبير من الدجاج وحمار كان يربط في ساحة الدار.
عند هذه القنطرة كان يرابط كفلنا من الساعة الثامنة صباحاً حتى الثامنة مساء يؤدي واجبه دون ما كلل أو عناء يؤدي واجبه الذي فرضه عليه أبوه المريض وأمه الجائعة يؤديه بنفس معذبة وروح متألمة لأنه واجب بغيض لهذه النفس الأبية وتلك الروح الحساسة. وطريقته
في تأدية هذا الواجب كانت غريبة في بابها وبأسلوب مبتكر عجيب لم أشاهد مثله عند مئات بل آلاف أمثاله من المستجدين أولئك الذين يملئون الشوارع والأزقة ويتغنون في أساليب الشحاذة والاستجداء كان إذا سمع وقع أقدام تمر بجانبه قام متثاقلا من جلسته المؤلمة التي يتمثل فيها ظلم الإنسان لأخيه الإنسان قام وهو يردد جملتين بلغة إنكليزية ركيكة مؤداهما (أنا فقير)(اعطني درهماً).
كانت هذه طريقته في الاستجداء وطلب المال وكثيراً ما تندربه الصحاب والمارة وأذاقوه من نطاتهم ما يبعث الألم إلى نفسه والعذاب لروحه وكثيراً ما نهره جفاتهم بطريقة تستنزل الدموع من عينيه البيضاوين لأنه يستجدي بلغة الإنكليز لغة الأجانب لغة المستعمرين والمسكين يظن أن استجداءه بهذه اللغة يجلب له عطف المارة ويستدر القروش من جيوبهم ولكنه لا يعلم بأن استجداءه بهذه اللغة يثير فيهم كوامن الحقد ويذكرهم بظلم طال أمده وقيود صدأ حديدها. هو لا يدري أن هذه اللغة تذكرهم بالمذكرات التي كتبها السير هنري مكماهون والتي تعهد بها للعرب ما تعهد ولكنه وقومه لم يبروا بوعودهم ونكثوا بعهودهم وصوروا لنا أبشع صورة من صور أطماعهم. هو لا يدري أن أصحاب هذه اللغة هم الذين وقعوا معاهدة سايكس بيكو تلك الوثيقة المشينة وليدة الأطماع والتي رافقها الريبة بل كانت مثالا بارزاً للختل والخداع والغدر. هو لا يدري أن هذه اللغة تذكرهم بوعد بلفور المشئوم ذلك الوعد الجائر الذي عبد الطريق للصهيونية لكي تغزو فلسطين العزيزة، هو لا يدري بكل ذلك بل حتى ولا يدري بأن هناك شعباً على ضفاف النيل يئن من ظلم أصحاب هذه اللغة ويعمل ليل نهار للتخلص من تدخلهم في شؤونه وفرض سيطرتهم عليه.
قلت: تعالى يا صغيري فلي معك حديث قصير. قال: وهل أنا ممن يحذقون الأحاديث يا سيدي ألا أعطيتني قرشاً فأنا فقير؟ قلت: من علمك هذه اللغة الإنكليزية فكأنك تحسنها؟
قال: تعلمتها منهم أنفسهم عندما كانت جنودهم تحط رحالها بالقرب من دارنا ليستريحوا قليلا ثم يستقلوا القطار إلى حيث لا أعلم. . .
قلت وهل هم أنفسهم قالوا لك بأنك فقير؟
قال: هم علموني كلمة فقير ولكني أعلم بأني فقير وفقير حقاً ولو لم أكن فقيراً لم طلبت منك ومن غيرك القرش أو القرشين كي أسد بهما رمقي ورمق أخوتي ثم سكت سكوتاً
عميقاً ولكني بأسارير وجهه تصرخ وتصيح فقير. . . فقير كلمة كم تحمل حروفها من ويلات وكم تضم تحتها من شقاء وكم يتعذب بها من بشر وهل هو وحده ممن عضهم هذا الوحش بنابه فمثله الآلاف بل الملايين من الفقراء يضنيهم الجوع ويؤلمهم العوز وتمرضهم الفاقة والفقر هذا الشبح المرعب هذا الحيوان المفترس ينشب أظفاره في أجسامهم فيمزقها ويتركها منهوكة القوى ويخلي عقولهم من العلم فيتركها خاوية خالية تعيش في جهالة القرون الماضية ويسري في دمائهم كالميكروب القاتل يميت المئات منهم دون ما رحمة أو عطف ولكن (آه من لكن هذه) ولكن هل هناك من يشعر بوجودهم وعذابهم أو يناضل ويكافح باسمهم لأجلهم؟ هل هناك من تضطرم في نفسه عواطف النبل الإنساني ليسعى في تخفيف الضنك الذي يكتنف حياتهم؟ هل هناك من يعمل باسم الإنسانية لدفع الحيف اللاحق بهم غير طامع في اسم أو جاه أو مركز أو سلطان؟. . .
هم ضحايا الطمع والجشع هم قرابين ذوي الكروش المنتفخة والخزائن الممتلئة، عم أكباش الفداء للمحتكرين والمستعمرين الذين يحترمهم العالم باسم القانون.
أثار في نفسي منظر هذا الطفل ثورة كانت مكبوتة ونيراناً كانت تتأجج كلما رأيت أمثاله من المساكين ممن أصيبوا بعاهة أقعدتهم عن العمل والكفاح أوصدت في وجوههم أبواب الرزق فالتجئوا لطريق الاستجداء راضين أو مكرهين.
قلت لنفسي ما ذنب هذا الطفل البائس وأمثاله ما جريرتهم وما الذي جنوه ليكون هذا حظهم من الحياة وأي إثم اقترفوه ليجزوا بمثل هذا الجزاء، وهذا الأعمى الصغير أي حياة حالكة سيقضيها وأي مستقبل ينتظره بل أي عذاب دائم مستمر سيلاقيه في هذا المستقبل المظلم؟ وقد أنستني تأملاتي هذه ذلك الطفل وما كان يطلب ولكنني تنبهت أخيراً على صوته وهو يردد بتلك اللغة الإنكليزية الركيكة (أنا فقير)(اعطني درهماً) فأخرجت من جيبي مبلغاً زهيداً وضعته في يده ولكني كنت في قرارة نفسي متأكداً أن هذا المبلغ الزهيد أو أي مبلغ ضئيل آخر يعطيه له أمثالي سيزيد من عذابه وألمه وسوف لا يحل مشكلته هو وأصحابه ما لم يعمل الناس جميعاً والحكومة معهم عملا جديداً لتحسين وضعهم الاجتماعي والاقتصادي وما لم يعمل الشعب كله والحكومة معه على محاربة المستعمر حرباً عواناً لا هوادة فيها أو وهن.
(العراق)
مهدي السامرائي
ساعة مع الحاج أمين
للأديب صبحي إبراهيم الصالح
في اليوم العاشر من ذي الحجة سنة 1365 (الخامس من نوفمبر سنة 1946) كنت من فرحي في عيدين: عيد الأضحى المبارك، وعيد مقابلتي لسماحة المفتي الأكبر!
كانت المقابلة في ساعة الأصيل، وكنت أقول بيني وبين نفسي:
(يا ليتني أستطيع أن أجلس إليه وحدي، أو ليت زملائي الطلاب الفلسطينيين الأزهريين - الذين قدمت معهم لزيارة سماحته - يدخلون مَوْحَد موحد، ليتيسر لي أن أنفرد معه فأفضي إليه بكل ما في قلبي، هذا القلب الذي لم ينطو لحظة إلا على حب العروبة والرغبة في الدفاع عن كل شبر من أراضيها، والحماسة في كره خصومها.
وأذنوا لنا بالمقابلة، فخفق قلبي - ونحن نَجوزُ الحديقة في طريقنا إلى قاعة الاستقبال - فأدركت أني سأقابل عظيما، أني ما عهدت قلبي يخفق لمقابلة إنسان، مثل ذلك الخفقان.
ولم يكن بين زملائي من هو أصغر مني سناً، فتركتهم يتقدمونني ويسلمون على سماحة المفتي ثم يجلس كل واحد منهم حيث ينتهي به المجلس. حتى إذا جاء دوري انحنيت محاولاً لثم اليد الطاهرة، فسحبها بلطف. ونظرت حولي فلم أجد إلا مقعداً خالياً عن يمين مقعد سماحته قد تهيب الجميع الجلوس عليه، فتهيبت مثلهم لولا أن المفتي أشار إليه بنفسه، قال بصوت يسيل رقة وعذوبة:
- (اجلس هنا. . . أهلاً وسهلاً بكن جميعاً).
ولا تسل عن سروري بهذه الجلسة المجاورة التي مكنتني من إطالة النظر إلى ذلك الرجل الربعة القامة، والمعتدل الهامة، الصبوح الوجه، المتلألئ الجبين، ذي العينين الزرقاوين البراقتين اللتين ما وقع بصري على أصفى منهما، ولا أصرح منهما، ولا أشد تعبيراً منهما، والأنف المستقيم، والشفتين المنفرجتين عن ابتسامة مشرقة، واللحية الكستنائية التي وخطها المشيب فأضفى عليها مهابة على مهابة، ثم زاده في نظري جمالاً - وما فيه إلا جميل - بلك العمة على رأسه كأنها تاج - وإنها لأكرم من التيجان - وهذه الجبة تكسو بدنه كأنها لباس الملوك - وإنها لأعز من لباسهم - فتمثل في كل ما فيه أصدق صورة للرجل العربي الفخور بزيه، المعتز به.
وكتمت أنفاسي لألتقط الكلمة الأولى التي كنت أرجو أن تطرب لها أذني ذلك اليوم كله - بل عمري كله - وكنت أنتظر بأن يجلجل في القاعة صوت جَهْوَري رنان، فإذا بي أنصت لصوت خافت كأنه الوسوسة، وحديث هادئ موزون لا تخرج من بين شفتي سماحته كلمة من كلماته إلا بعد أن يتأكد أنه لا يعطي ما يريد معناها إلا هِيَهْ، مستعيناً على إيضاح فكرته بحركات من يد محكمة، وإشارات ناعمة: فعلمت أن سماحته يؤثر أن يكون هادئ الحديث، خافت الصوت، قليل الحركات بحكمة الرجل الرشيد، على أن يكون وَحِيَّ الحديث، جهير الصوت، كثير الحركات، بتهور لا يغني، وحماسة لا تفيد.
تساءل سماحته عن كل فرد منا، وعن الكلية التي ينتسب إليها، والسنة التي أصبح فيها، والعلوم التي ندرسها، ثم أحب أن يتعرض لقلة المدارس العربية في فلسطين، وأن يستنهض الهمم إلى المطالبة بجعل المعارف في أيدي العرب فقال:
- (إن قلة مدارسنا العالية من ويلات الاستعمار ولعناته، فما يريد لنا خصومنا أن نحيا أحراراً كما يحيا الناس، وأن نكون متعلمين كما يتعلمون، وأن نكون متسلحين كما يتسلحون.
كنا في بلادنا قُرحْاناً قليلا ما يصيبنا داء، أصحاء نادراً ما يدهمنا وباء: فإذا اعتللنا عرفنا كيف نتناول بأنفسنا الدواء. . ثم ما أصابنا الداء إلا من جراثيم اليهود، ولا دهمنا الوباء إلا من عدوى الإنكليز، ولا عافت أنفسنا الدواء إلا لأنهم أرادوا أن يَدُفوه بأيديهم وقد كنا ما نزال لا نقبل من الدواء إلا ما كان مدوفاً بأيدينا؛ لأن مناعتنا أبداً بِحِمْيتنا، ولأن قوتنا في كل حين بالاستغناء عن الآخرين).
ولعلك تحسب أن سماحة المفتي الأكبر كان - وهو يلقي هذه الكلمات التي أشعلت صدورنا ناراً - يعمد إلى الخطابة والبيان، فيرتفع صوته، ويبدو الانفعال عليه. كلا. . . وإنما كان يتحدث هذا الحديث الخطير، بصوت أنعم من الحرير، حتى أصبحت أومن بأن الإنسان العظيم يستطيع في آن أن يكون في رشاقة الغزال وقوة الأسد الهصور.
ورأيت إلى يدي سماحته فإذا هما كحرير الورد، وأخذت أطيل إليه النظر من جديد لأرى أين تكمن تلك القوة الهائلة التي جعلته يَلقَى العقبات الكأداء فيذللها، وتعترضه الصّعاب فيقتحمها، فقاد الثورة الفلسطينية، وهاجر إلى لبنان ثم إلى العراق ثم إلى إيران ثم إلى
ألمانيا ثم إلى فرنسا ثم لجأ إلى مصر بلد الفاروق. . . ألا كيف تكمن القوة في طي الوداعة، وأنى تختبئ الشدة وراء المسالمة؟ حقاً إنها قوة الروح! وما أدراك ما قوة الروح!
وكأنما استفزت كلمات الحاج أمين أكبرَ زملائي الفلسطينيين سناً، فألقى كلمة كان يهتز معها جسده تأثراً، وتقشعر جلودنا لسماعها حماسةً، فكان مما قاله:
- (يا سماحة المفتي الأكبر! إن قلوب المغتصبين اليبيسة، تريد أن تُبقي أفكارنا حبيسة! لكن لنا أرواحاً لن يمنعها من الوثوب، توالي المصائب والخطوب. فسماحتكم رمزنا الذي نلتف حوله، ونعتصم به؛ وإنا لنتضرع إلى الله أن يعيدك إلى وطنك مظفراً منصوراً، لتدخله دخول الفاتحين، فتجمع الكلمة، وتضم الشتات، وتسوي الصفوف؛ ويومئذ لا تذر على أرض فلسطين من الصهاينة دياراً: فليعيشوا إن شاءوا في أدوية مهلكة أو مدائن عامرة، وفي مفازة موحشة أو في ناطحات السحاب، فلن نسمح لهم بالتوهين والكيد فيما بيننا ونحن ساهرون، ولا بالتقريد والخداع ونحن أيقاظ مفتحو العيون.
عُد إلى موطنك فلسطين - يا سماحة المفتي الأكبر - ولا تخشَ في الله لومة اللائمين).
فقال سماحته على الفور:
- (حاش لله - يا أبنائي - أن أعتبر فلسطين وحدها موطناً لي، فإن الوطن العربي قطعة واحدة، وما من بلد ينطق أهله بالضاد إلا وهو موطني، وموطن كل عربي.
ألا وإن الدول الكبرى التي تستطيع أن تستغني - لو أرادت بثرواتها وقواها، واستعداداتها ومواردها - قد أدركت فائدة التعاون، فانضم بعضها إلى بعض، وخطب بعضها ود بعض، وحالف بعضها بعضاَ؛ ألا وأننا أشد منهم حاجة إلى التعاون، وأقرب منهم سبيلا إلى التفاهم: لأن شعورنا واحد، وآلامنا واحدة، وآمالنا واحدة.
وإن العروبة - لتعلق عليكم - يا شبابها الأبرار - أملاً كبيراً في أن تعملوا أنتم في الحقل الدراسي وفي الحقل الاجتماعي على توحيد الصفوف، وتكتيل القوى، حتى لا يمر عربي بفلسطين فيبكي دماً حين يرى المزرعة القَراح ليس عليها بناء ولا فيها شجر فيؤكدون له أنها ليست ملك اليهود، ويرى المستعمرة المنظمة عليها البناء وفيها الشجر فيؤكدون له أنها من صنع اليهود.
تخصصوا جيداً في شؤون دراستكم، فإن العلم أقوى سلاح في هذا العالم بعد الإيمان
بالعقيدة والوثوق بسمو الفكرة).
ولاحظنا بعض الزائرين يريدون الدخول، فرأينا أن نقنع بسماع هذه النصائح القيمة، فقام أكبرنا سناً فقمنا، ودنا من سماحة المفتي فدنونا، واستأذن بالانصراف فاستأذن الجميع، فقام الحاج أمين - من لطفه - يودعنا إلى الباب، ويصافح كلا منا وهو يدعو لنا بالتوفيق.
لقد خرجت من حضرته - وإن صورته ماثلة في عيني وفي أعماق قلبي - شاعراً بأني أريد أن أقبل على خدمة بلادي بفؤاد مخلص إخلاص فؤاده، وبضمير نقي نقاء ضميره.
(طرابلس الشام)
صبحي إبراهيم الصالح
خريج كلية أصول الدين بالأزهر
صوت من الريف المريض:
وباء الكوليرا
للشيخ محمد رجب البيومي
(كانت الكفر الجديد من قرى الدقهلية الحزينة التي داهمها الوباء فقد ثكلت مائة نفس في أسبوع واحد، وهي لا تزيد عن ثلاثة آلاف، وقد شاهدت محنتها القاسية، فكان الصراخ الفاجع يشرد نومي، وقد كنت أتحدث مع الرجل ثم يجيئني نعيه بعد ساعة واحدة من حديثه، وما زلنا ننتظر رحمة السماء).
شبت تحت الضلوع يعصف بالجسم
…
كما يعصف اللظى بالهشيم
ذعر الناس فاستهلت دموع
…
كانهمار الغيوث تحت الغيوم
وأفاق الشعب الجريح كما استيقظ
…
جفن على صراخ أليم
زأر الرعب في القلوب فجاش الحز - ن يغلي بها كغلي الحميم
الصبور الشجاع غير صبور
…
والحليم الرزين غير حليم
جزعت أنفس وطارت عقول
…
قد دهاها الردى بخطب جسيم
سلمت أمرها إلى الله لكن
…
هل يرد القضاء بالتسليم
خطر هب يمحق الناس محقا
…
كرجوم تهوى وراء رجوم
كلما قد قرأت عنه حديثاً
…
شب في أضلعي لهيب الجحيم
قيل لي أنت خالك فتطعم
…
أي خير يكون في تطعيمي
أنا أمشي وبين طيات قلبي
…
خيفة منه رعدة المحموم
ينفث السم كالأفاعي مجداً
…
ويبيد الجسوم تلو الجسوم
الشديد القوي صريع لديه
…
والسليم الصحيح غير سليم
جثث ترتمي كساحة حرب
…
أسفرت عن فناء جيش عظيم
جنت الأرض فهي تغفر فاها
…
طمعاً في ابتلاع عظم رميم
أكلت أهلها ولم تبق شيئاً
…
ما صنيعي في الآكل المنهوم؟
طفت بالريف اجتليه صباحاً
…
وهو دنيا لذاذتي ونعيمي
كان يبدو لناظري وسيماً
…
كيف أضحى الغداة غير وسيم
لا الأزاهير ذات عرف شذى
…
لا النواعير ذات صوت رخيم
لا الغواني الصباح يخطرن في الس - هل ولا الطير بارع الترنيم
إنظر الحقل فالطبيعة فيه
…
كبنى الإنس أسرفت في الوجوم
هي والله ذات فكر حصيف
…
قد هداها فشاركت في الهموم
النخيل الوفي يخفض عطفيه
…
كئيباً كبائس محروم
وعلى القطن غبرة سودته
…
بعد ما لاح ساطعاً النجوم
والغراب العجيب يرسل نحوي
…
نظرات كالفيلسوف الحكيم
خطر هدد الجميع فكل
…
صارخ من مصيره المحتوم
إن دها منزلا رأيت ذويه
…
بين فانٍ يمضي وحي سقيم
يهجر الوالد ابنه ثم يعدو
…
خيفة من أذاه عدو الظليم
وحنان الأم الرءوم توارى
…
فهي عند المصاب غير رءوم
ترك الزوج زوجه تتلظى
…
في جحيم يفوق كل جحيم
فر منها وكان يخشى عليها
…
قبل هذا الوباء مر النسيم
فادخل البيت لست تبصر فيه
…
غير أم ثكلى وطفل يتيم
فتح القبر فاطمأنت جنوب
…
غرقت في سكونها المستديم
مرض يملأ الخواطر بالوهم
…
فيالي من خاطري الموهوم
أنا منه مكبل بقيود
…
قذفت بي إلى عذاب أليم
حرموا الماء الفواكه ظلماً
…
من مجيري من ذلك التحريم
قيل لي إن في المياه سموماً
…
فكرهت المياه ذات السموم
وكذاك الفواكه الحلوة الطعم
…
مجال لكل داء وخيم
عجباً أبغض الرحيق المصفى
…
وأعاف الجنان ذات الكروم
قيل لي لا تسر جوار صديق
…
واعتزل في الأنام كل نديم
أحذر العدوى أن تصيبك من
…
خل وفيّ أو من عدو خصيم
فاجتنبت الورى وعشت وحيداً
…
وتوغلت في ضلالي القديم
ليت شعري من أصطفيه لنفسي
…
إن تخوفت من صديقي الحميم
عشت حتى غدوت مثل المعري
…
ألزم الدار غارقاً في همومي
يا لحمي تفرى لحوم البرايا
…
أو ما أتخمت بتلك اللحوم
مهدها الكنج مذ بدت فلماذا
…
تطعن (النيل) ويحها في الصميم
نزلت في الوادي كشمطاء لاحت
…
لعيون الورى بوجه دميم
وأتتنا مع العدو كما تسعى
…
الأفاعي مع الظلام البهيم
ليتها أهلكته أبشع هلك
…
ورمته بكل داء عقيم
هكذا الإنجليز جرثومة الشـ - ر ونار مشبوبة اليحموم
رب من للضعيف هاجمه الخط - ب وما يستطيع صد الهجوم
يكظم الغيظ في الحياة إلى أن
…
يتلقى الردى بغيظ كظيم
المناحات لا تزال بسمعي
…
كدوي الرعود ذات الهزيم
والثكالى يسرن خلف الثكالى
…
ساهمات وقبت شر السهوم
كلما صاحت الديوك توهمت
…
صداها صراخ عان كليم
إرحم الناس يا إلهي واكشف
…
كل سوء فأنت خير رحيم
محمد رجب البيومي
من وراء المنظار
حمار آخر. . .!
الترام الجاهد يسير محملاً ليس فيه ركن أو ممر أو مدخل أو شبر على السلم إلا ويشغله الراكبون متلاصقين متضاغطين كأنما لم يأتهم نبأ هذا الوباء الذي خوف الناس بعضهم من بعض. . .
وأنا في مقعدي أسأل نفسي متعجباً كيف ينزل من يريد أن ينزل فضلاً عن أن يركب من يريد أن يركب! ودقت باب الدرجة الأولى بد وحاولت فتحه ولكنه لم يفتح لأن شخصاً كان يسند ظهره إليه، وهو لا يستطيع أن يتحرك من موضعه إلا أن يتحرك من يقف أمامه، ولن يستطيع هذا أن يفعل إلا أن يمكنه من يليه. . . واشتد طرق الباب فتضاغط الواقفون، وانفتح الباب ودخل هذه الحجرة المكتظة فتاتان عجبت وعجب الراكبون كيف خلصتا من الزحام حتى دخلتا الحجرة، وما أحسبهما إلا استحالتا هواء فنفذتا من بين الأرجل أو من فوق الرؤوس حتى بلغتا حيث وقفتا بين الواقفين.
ووقف الترام فنزل اثنان من الواقفين وقد شقا طريقهما في جهد من جهة السائق ولم يركب أحد، ثم وقف ونزل ثلاثة ولم يركب أحد، وبقيت الفتاتان فاستندت إحداهما إلى باب والثانية إلى الآخر.
وكانت إحداهما على جانب عظيم من الملاحة والسحر تحدث أثرها في النفوس بنظراتها وبما يبدو من براعة ذوقها في اختيار ألوانها وأشياء زينتها، وكانت الثانية كأنما تصحبها لتزيد جمالها أو لتنبه عليه فقد كانت بحيث أن انتماءها إلى جنسها مما يجعل أحياناً نعته باللطف نوعاً من السخرية. . .
وصوبت الحسناء نظرة إلى شاب كان في سمت بصرها فكأنما نفذت نظرتها إلى قلبه وكأنما أراد أن يبرهن لها على أنه جدير منها بهذه النظرة، فنهض واقفاً ودعا الفتاة إلى الجلوس في موضعه وإنه ليتظرف ويتأنق ويستلين في إشارته وحركته ويلطف في نبرته وعبارته حتى لقد أوشك أن يكون ما ينعت به جنسه من الخشونة ضرباً من التعسف. . .
ونظرت الفتاة وقد استقرت في مقعدها إلى صاحبتها مزهوة دون أن تشكر هذا المتظرف المتلطف بكلمة، وضحكت وقالت عبارة لا هي عربية ولا فرنسية ولا إنجليزية؛ وضحكت
الثانية وأظهرها ضحكها برهاناً آخر على مبلغ ما يكون بين جنسها وبين اللطف من بعد الشقة. . . واحمر وجه الفتى حتى كاد أن يقطر منه الدم، وأشار بيده إلى التي سحرته فتخلى لها عن مكانه إشارة مَن نسي شيئاً على المقعد فلم تكد تقف حتى انفعل فعاد إلى مكانه وجلس وهو يقول لها في غيظ ابحثي عن حمار غيري فلست حماراً!
وأصفر وجه الفتاة بقدر ما أحمر وجه الفتى الظريف الناعم إلى من حوله وهو يدق يداً بيد ويقول إنها تقول لصاحبتها انتظري ريثما يقف حمار آخر فاجلسي؛ فيكون جزائي على إنسانيتي أن أكون عندها حماراً وأن يكون هذا مبلغ شكرها لي!
وكان حقاً أن نغضب جميعاً وأن يحاول كل منا أن ينفصل من حماريته بكل ما في طاقته، فقال كهل من الجالسين يخاطب الفتى: (ليس هذا جزائك على إنسانيتك وإنما هو جزاؤك على مصريتك وإنا في الواقع لسنا كرماء لضيوفنا بل نحن عبيد لهم.
أفْهِمْ أن تنهض لتجلس مريضة أو عجوزاً أو أماً بين ذراعيها طفلها أما أن تقف لهذه. . . أرأيت أجنبياً ينهض لمصرية قط؟ متى نفهم هؤلاء الأجانب أننا سادة في بلادنا وإذا كنا لا نستطيع الآن أن نفهمهم ذلك بأخذ ما في أيديهم مما بنوه في غفلتنا فلا أقل من أن يعلموا أننا صحونا. لا أقل من أن يفهموا أننا لم نعد بعد حميراً).
ونظر هذا الثائر الكهل إلى الفتاة المسيئة وقال لها في مثل شراسة النمر (أنزلي من هنا روحي في داهية). . . وتنمرت الملعونة كأنما تذكرت أيام الامتيازات ورأيتها بجوار الباب كالقطة وجدت نفسها في مأزق فعولت على أن تعض بأسنانها وتخمش بمخالبها. . .
ولكن النمر الغضب جذبها من ذراعها، ونادى السائق فوقف، وصرخت القطة صرخة جمعت علينا الركاب من العربة الأخرى وأقسم الرجل إن لم تنزل في وصاحبتها على أرجلهما فسوف يلقي بهما من النافذة. . .
وتساءل الناس وتألموا مما علموا وأجبرت الفتاتان على النزول وفي نظرنا أن كلا منهما تنتمي إلى اللطف ظلما، هذه بوقاحتها، وتلك بقبحها.
وخجل الشاب الذي استرد إنسانيته حتى ما يستطيع أن ينظر طويلا في وجه ذلك النمر الغضب. . .
وضحك أحد الجالسين يريد أن يذهب عنا الغضب، وقال أحب أن أعرف منذا يرضى بعد
هذا في الترام أو في السيارة أو في المتجر أو في المصنع أو في السينما أو في الشارع أو يكون الـ (حمار الآخر)؟ وضحكنا وضحك حتى النمر الهائج.
الخفيف
الأدب والفن في أسبوع
الثقافة والسياسة في السودان:
اتصل حديث الثقافة المصرية في السودان بحديث السياسة هناك، وأخذ هذا الحديث المتصل مكانه في الصدارة من المسائل العامة التي تهتم بها الدولة والرأي العام في هذه الأيام، فلم تكتف حكومة السودان الإنجليزية بمنع البعثة الثقافية المصرية ومراقب التعليم المصري من الدخول إلى السودان، بل أرادت إبعاد مدرس مصري في مدرسة الملك فاروق بالخرطوم لأنه أرسل برقية إلى رئيس الوزراء تضمنت كلمة (الجهاد)! وقالت الأنباء الأخيرة إن المسألة سويت بعد أن تعهد المدرس بعدم الاشتغال بالسياسة.
ولن يستطيع هذا المدرس ولا أي مدرس مصري آخر في السودان أن يتجنب الاشتغال بالسياسة. . السياسة التي تقلق بال الإنجليز في السودان، وهي العمل على وحدة الوادي وإبراز الروابط بين شماله وجنوبه وإحكامها، ولا يوثق هذا الربط مثل الثقافة العربية الإسلامية التي يشعر سكان الوادي جميعاً بأنهم يرضعونها من ثدي واحد.
والأساتذة المصريون الذين يذهبون إلى السودان هم رسل هذه الثقافة، ولذلك يجزع منهم المحتلون ويترقبون الفرص للتخلص منهم.
ولكن ألا يحسن تجنب السياسة التي يستطاع إمساكها بأطراف الأصابع، أو بعبارة أخرى الأمور التي تؤول بأنها سياسة والتي تفتح منها الأبواب إلى المؤاخذة والتعنت؟ وفي المهمة الثقافية مجال لخدمة الوطن، حتى إذا أراد المتعنت بعد ذلك شيئاً كان تعنته أظهر، مع كسبنا بالعمل المجدي في الحقل المخصب، ومع كسب ثقة المخدوعين لإصلاحهم وهدايتهم للسير في ركب الوادي الموحد.
الغزل السياسي:
نشرت (الأهرام) أبياتاً للأستاذ محمد الأسمر تحت عنوان (الغزل السياسي - إليها) قال فيها:
ما للمليحة غضبى وهي ظالمة
…
لا تعرف العدل في فعل ولا كلم
أبعدما سلبتني كل ما ملكت
…
يدي أكون لديها موضع التهم
وقال:
قل للمليحة جاوزت المدى فكفى
…
أين الوعود، وما غلظت من قسم
كوني كما شئت لا أشكو إلى حد
…
الله يحكم بين اللؤم والكرم
ولا شك أن هذه المليحة ليست فتاة ممن يتغزل في مثلها الشعراء، لأن الغزل هنا سياسي، وما أظن الشاعر يحب فتاة سياسية ولو كانت خيالية كجاسوسة (المصور) الحسناء. . على أنه يصفها باللؤم، مما لا يليق بالمحبوب. وما أظن تلك المليحة الدرجة الرابعة التي أخلفته في التنسيق، فليس الوصف بمنطبق عليها ولا هي من السياسة في شيء.
فماذا عسى أن تكون تلك المليحة؟
أتكون إنجلترا؟ لابد أنها هي، فهي الغضبى الظالمة التي لا تعرف العدل في قول ولا عمل، وهي التي سلبتنا ما نملك وأكلت لحمنا وشربت دمنا ثم اتهمتنا بالتجني عليها، وهي التي أقسمت على الود أيام شدتها، ثم تنكرت لمن كان يألفها في الموطن الخشن، فبلغت غاية اللؤم.
ولكن كيف يقول إنها مليحة، وكيف يضعها موضع الحبيب الذي يتغزل فيه؟ وما هي - من وجهة نظرنا على الأقل - إلا عجوز شوهاء شمطاء. ولم يكن بيننا وبينها حب لأنها معتدية علينا منذ خمس وستين سنة ولا تزال في اعتدائها.
والشاعر - بطبيعة الحال - يريد التهكم، ولكنه بعد عن هذا الغرض بما أسرف فيه من عبارات الحب.
العربية تزحف:
أذاعت وكالة الأنباء العربية من (كراتشي) أن جلالة الملك فاروق يبدي عناية بالعة بنشاط جمعية أدبية ثقافية جديدة أنشئت أخيراً في (الباكستان) ترمي إلى جعل العالم الإسلامي على مر الأيام وحدة ثقافية سياسية دينية.
وأذيع أن هذه الجماعة بدأت عملها في هذا السبيل بالعمل على تشر اللغة العربية، وقد أنشأت لذلك كلية في كراتشي أقبل عليها كثير من الكبار في جملتهم محافظ المدينة.
وكانت الصحف قد رددت أن البابا في روما أخذ يتعلم اللغة العربية.
وقرأت في مجلة (الأديب) أنه قد تأسس في الأرجنتين (معهد التبادل الثقافي الأرجنتيني العربي) للعمل على تعزيز التبادل بين الثقافتين العربية والأرجنتينية، وقد أنشأ هذا المعهد
مكتبة حافلة بالمؤلفات الثقافية النافعة وأعد برنامجاً لإلقاء المحاضرات في شتى المواضيع ذات الصلة المتينة بهاتين الثقافتين، ولترجمة الكتب العربية إلى اللغة الأرجنتينية كي يطلع الشعب الأرجنتيني على ألوان الثقافة العربية والأدب العربي في شتى عصوره.
ومما يثير العجب والأسف أنه بينما تزحف اللغة العربية هكذا في آسيا وأوروبا وأمريكا إذ تقرأ في أخبارنا المحلية أن إحدى المصالح الحكومية (بدأت) في تطبيق قانون اللغة العربية فعولت على ألا تقبل ما يكتب إليها بغير اللغة العربية إلا إذا كان مصحوباً بترجمة عربية.
ولا نزال جارين على مقتضيات (كرم الضيافة) التي منها التيسير على الأجانب بالمخاطبة بلغاتهم، وإراحتهم بذلك عن عناء تعلم اللغة العربية. . . ومن المناظر المخزية منظر المصري يتحدث إلى (الخواجة) الذي يعرف العربية بلغة أجنبية! والمصريون هم - وحدهم - الذين يشجعون على عدم تعلم لغتهم. . .
وتحيتي إلى أسلافنا في العصور العربية، الذين كان يفد إليهم الفارسي والرومي وغيرهما، فيصبح، بعد قليل، من شعراء العربية وكتابها. . .
تمثال نهضة مصر:
وجهت مجلة (الهلال) إلى طائفة من الأعلام والفنانين هذا السؤال: هل نهدم تمثال نهضة مصر؟ وقالت إنه (سؤال خطير الغرض منه حفز الهمم لمسايرة التطور الذي انتقلت إليه نهضتنا الوطنية، فإن التمثال الحالي مع قيمته وبراعة صانعه الفنان الخالد محمود مختار لم يعد يصلح - في رأي البعض - للتعبير عن هذه النهضة إلا في مرحلتها الأولى).
وقد أجاب محمد علي علوبة باشا بأنه لا يرى هذا التمثال منذ صنع يمثل الفكرة الوطنية وليس صالحاً ليكون رمزاً لنهضة مصر الوطنية وثورتها على الاحتلال وقيود الذل والاستعباد، وهو لا يمثل إلا فلاحة ساكنة لا حركة فيها وأسداً متكاسلا لا يكاد ينهض! ورأى أن يقوم تمثال آخر في أحد ميادين القاهرة الكبرى يمثل مصرياً وسودانياً قد تكاتفا في النهوض والوثب وهما يحملان مشعلاً أو سيفاً وقد تقدما إلى الأمام في عزم وقوة هاتفين بالحرية والجلاء والاستقلال.
وقال أحمد راسم بك: (لو أن تمثال نهضة مصر، كان قد استنفد أغراضه أو أصبح غير ذي موضوع كما يقال لكان من الواجب أن نبقى عليه لقيمته الفنية الخالصة، على أن نقيم
لتخليد فكرتنا الجديدة ما نشاء من التماثيل غيره).
وأجاب آخرون بما لا يخرج في مجموعه عن وجوب الإبقاء على التمثال الحالي، على أن يقام تمثال آخر يعبر عن النهضة القومية المتوثبة.
والتمثال الحالي الماثل في ميدان المحطة بالقاهرة يرمز إلى (سكون) مصر ممثلة في قروية، إلى مجدها القديم ممثلاً في أبي الهول!
فإذا كانت المسألة هي اعتماد مصر على مجدها القديم فإن هذا التمثال يصلح رمزاً لها في كل العصور وفي جملتها عهود الضعف والاستكانة، أما النهوض فهو شيء آخر قد يصاحب المجد القديم وقد لا يصاحبه.
والملاحظ أن أغلب الذين دافعوا عن (تمثال نهضة مصر) عللوا دفاعهم بأنه صنيعة مثالنا الخالد مختار، ولم يبينوا لنا مدى تعبيره عن نهضة مصر.
وأنا أخالف الجميع فأرى إزالة التمثال الحالي من مكانه والاحتفاظ به في أحد المتاحف باعتباره نتاج مثالنا الخالد (إن كان لابد من هذا الاعتبار) وذلك لأنه لا يصح أبداً أن يكون مظهر نهضتنا الاعتماد على المجد القديم، بل ينبغي ألا يذكر هذا المجد إذا كان كل الغرض منه الوقوف إلى جانبه والركون إليه.
أما التمثال الجديد فليكن كما اقترح علوبة باشا، أو ليكن على أي هيئة أخرى حسبما يرى الفنانون، على أن يمثل مصر المتوثبة التي أصرت على أن تعيش حرة كريمة، وعلى أن يحقق الغرض الأساسي منه وهو أن يبعث في المصري الذي يمر به في غدوه ورواحه شعور العزة بالقومية المصرية.
الفنانون الشرقيون:
جاء في أخبار (آخر ساعة) ما يلي: (ترفض وزارة الداخلية الآن الترخيص لأي فنان شرقي بالإقامة في مصر إلا إذا تعهد كتابةً بالا يتعدى الغناء الذي اشتهر به في بلاده. . . وهذا نتيجة لشكوى بعض الفنانين والفنانات المصريين.
وهذا أمر عجيب لعدة أسباب منها:
1 -
أنه يخالف اتجاه الوحدة العربية وما تقتضيه من تعاون وتواد.
2 -
الفن المصري يغمر البلاد العربية، وهي ترحب به، ولم تمنع إحداها فناناً مصرياً من
الاشتغال بها، تعدى الذي اشتهر به في بلاده أم لم يتعد.
3 -
الحيلولة دون تفاعل عناصر الفن العربية المختلفة ما ينشأ عن هذا التفاعل من الرقي والتقارب.
4 -
السبب أعجب العجب، وهو شكوى الفنانين والفنانات المصريين من المنافسة، لأن هذه الشكوى غير لائقة ولم يكن يصح أن تسمع.
5 -
لو فرضنا أن الفنان الشرقي الذي تعهد بالا يتعدى الغناء الذي اشتهر به في بلاده - (تأقلم) وتأثرت نفسه بالإيحاءات المصرية فستجاب لها وغنى غناء مصرياً - فهل يقبض عليه متهماً بهذه الجريمة ويطرد من مصر جزاء وفاقاً. .؟
المسرح أداة ثقافة:
كانت منظمة التعاون الثقافي لهيئة الأمم المتحدة قد عقدت في شهر يوليو الماضي بباريس مؤتمراً لخبراء المسرح. وقد تلقت الجهات المصرية المختصة التوصيات التي قررها هذا المؤتمر، ويؤخذ منها أنه تقرر اعتبار المسرح جزءاً من الفن كالأدب والموسيقى وسائر الفنون الجميلة، أي أنه أداة ثقافية لا وسيلة للتسلية والترفيه وحسب.
كذلك تقرر إنشاء معهد مسرحي عالمي، وتأليف جمعية دولية من المسرحيين النظريين الفنيين والمسرحيين العاملين، على أن تكون مهمة هاتين المؤسستين النهوض بالمسرح باعتباره أداة ثقافية رفيعة، مع كفالة أسباب التعاون بين رجال المسرح في العالم، وأن يكون إعداد الرواية المسرحية على أسس إنسانية، والمحافظة على هذا الفن العالمي القديم من طغيان السينما عليه، والعمل على وقف حركة الخروج من ميدانه إلى ميدان السينما.
وفن المسرح جدير بالجهود العالية وتعاونها على النهوض به، والواقع أنه ليس فناً من الفنون فحسب، بل هو مجمع الفنون، ففيه الأدب ممثلاً في القصة، ومن أدواته الموسيقى والغناء وباقي الفنون الجميلة، وهو بحكم أنه فن أداة ثقافة، وهذه هي الحقيقة التي ننشدها في مصر ويعيينا نشدانها، فالفن عندنا يتخذ أكثر ما يتخذ أداة لهو وتسلية، وتسميته فناً تسمية إدعائية، لن العمل الفني لا يستوي إلا على موضوع، ولابد أن يكون له هدف، يرمي إليه إلى جانب التسلية والترفيه.
وقد تفشت طريقة التسلية الخالية من الموضوع، وانتقلت من المواطن الموبوءة إلى ميدان
الكتابة، حتى لنرى بعض الأدباء يكتبون لمجرد التسلية!
وبعد فالمأمول من الجهات الفنية في مصر أن تشارك في ذلك المجهود العالمي، لتساير النهضة المسرحية العالمية، ولتجني بلادنا ثمراتها.
(العباس)
تعقيبات
أم كلثوم ونهج البردة:
نهج البردة للمغفور له أحمد شوقي بك قصيدة معروفة مشهورة قالها في التوسل ومدح النبي صلوات الله عليه عندما قصد الخديوي عباس الثاني إلى الحج عام 1909م، وعارض بها قصيدة البردة - أو البرءة - للشاعر شرف الدين محمد بن سعيد الأبوصيري، وقصيدة البردة هذه أشهر من كل تعريف، فما رزقت قصيدة في الأدب العربي ما رزقت من الذيوع في ألسنة الناس، حتى إنها في القرى لتعتبر نشيد الوداع الذي يردده (الفقهاء) في أذن الميت وهو في طريقه إلى القبر. .
أما قصيدة نهج البردة فلها قصة، فقد نظمها شوقي في مناسبة حج الخديوي كما قلنا؛ وكان يرجو أن تكون هذه المناسبة إلى جانب الاتجاه الديني في القصيدة مما يضمن لها الذيوع بين الناس كما ذاعت البردة، وطبع يوم ذاك شرح لتلك القصيدة قيل إنه من عمل المغفور له الشيخ سليم البشري - وهو في مقامه الديني ما هو - ليضفي عليها القداسة، ولكن أهل الخبرة يؤكدون أن ذلك الشرح كان من عمل نجله المرحوم الشيخ عبد العزيز البشري، وإن كان الشيخ عبد العزيز ظل ينفي هذه التهمة إلى آخر أيامه، عليه رحمة الله. .
ومهما يكن من شيء فإن نهج البردة لم تبلغ مبلغ البردة وغنتها كما سمع الناس، أقول غنتها والصحيح أن أقول إنها ألقتها، أو أنشدتها، لن أم كلثوم لم توفق في غناء القصيدة كما هو شرط الفن وشرط الغناء، وذلك يرجع إلى عدة أسباب:
أولاً: لأنهم اختاروا للمطربة ثلاثين بيتاً من القصيدة، ومهما يكن المطرب من قوة الحنجرة وبراعة الصناعة وحسن التصرف فإنه لا يستطيع أن ينهض بهذا المقدار في الغناء دفعة واحدة وخاصة في الشعر القوي الرصين.
ثانياً: لأنهم لم يراعوا في الاختيار درجة صوت أم كلثوم في مقاماته الفنية، ومن المعروف أن كل شعر لا يصلح لكل لحن، وأن كل لحن لا يلائم كل صوت. .
ثالثاً: جعلوا الغناء محدوداً بمدة من الزمن، ولهذا عمد الملحن إلى إخراجها دفعة واحدة، ولم يتمكن من خلق فترات موسيقية لاستراحة المطربة إلا مرة واحدة.
وعلى أي حال فإن الملحن لم يكن موفقاً، لأنه جرى على نغمة واحدة رتيبة، وهي النغمة
التي آثرها الموسيقار رياض السنباطي في تلحين قصيدة (سلوا قلبي) وقصيدة (السودان) ولهذا شعر الناس بأن أم كلثوم لم تأت بجديد في قصيدة نهج البردة، وقد سمعوها وكأنهم كانوا يسمعون شيئاً معاداً في آذانهم وأكثر من ذلك فإن اللحن كان يتخلى عن المعنى في كثير من الأحيان.
شيخنا الجارم:
وشيخنا علي الجارم بك لم يكن موفقاً في ذلك الشرح الذي قدم به الأبيات التي غنتها أم كلثوم إلى السامعين، فقد جرى في ذلك على ما ألف من الطريقة المدرسية وهي طريقة عقيمة لا تجدي في فهم الشعر وإظهار جماله، فقد عمد إلى شرح الكلمات اللغوية على ما هو وارد في القاموس، ثم أخذ يورد المعنى على مقتضى هذا التفسير، فهو مثلا يشرح قول شوقي:
لما رنا حدثتني النفس قائلة
…
يا ويح جنبك بالسهم المصيب رمى
فيقول: رنا إليه: أطال النظر. . . الخ. . كلا. ثم كلا. فإن إطالة النظر هنا تهدم قوة البيت وتقلل من جماله. .
وعجيب من شيخنا الجارم أن يذكر معارضة البارودي للأبصيري، ويذكر مطلع تلك المعارضة، ولكنه لم يذكر بيتاً واحداً للأبصيري، وهو الأصل والأساس الذي قام عليه كل هذا البنيان.
ويقول شوقي:
يا رب هبت شعوب من منيتها
…
واستيقظت أمم من رقدة العدم
رأى قضاؤك فينا رأى حكمته=أكرم بوجهك من قاض ومنتقم
وكان شوقي رحمه الله يشير بكلمة (منتقم) إلى معنى مقصود فقد قال قصيدته في أعقاب حادثة دنشواي التي أدمت قلوب المصريين، وكانت مصر في ذلك الوقت تسام الضيم والهوان من أساليب الاستعمار، وكان الخديوي في ضيق من هذا ما بعده ضيق، فتوسل شوقي إلى الله في (الانتقام) من هؤلاء الظالمين المستبدين، وجمجم بذلك ولم يستطع الإبانة نظراً لصلته الرسمية يوم ذاك بالقصر، فجاء الجارم بك بعد طول تلك السنين وجمجم كذلك في شرح هذا المعنى.
لقد كنت أعتقد أن غناء أم كلثوم لهذه القطعة من نهج البردة إنما هو لإثارة عواطف الشعب بهذا المعنى لمناسبة ما هو قائم اليوم بيننا وبين الإنجليز وكنت أعتقد أن الجارم سيعمد إلى الكشف عن هذه الحقيقة، ولكنه لم يحوم على ذلك أبداً، ولست أدري إذن لأية مناسبة كان اختيار هذه القطعة وتلحينها وغنائها وشرحها ذلك الشرح الجارمي.
البصائر للتوحيدي:
أبو حيان التوحيدي شيخ من شيوخ الأدب العربي، فهو تلميذ الجاحظ غير مدافع، من بحره اغترف، وفي طريقه درج، ولكنه في آخر حياته ضاق بالناس وبالدنيا لطول ما لقي من عنت الناس وقسوة الحياة، فجمع كل مؤلفاته وقدمها طعمة للنار، حتى لا تكون وشيجة بينه وبين الناس بعد مماته، وحتى يريح عظامه في القبر من جهل العيابين كما قال. .
ولكن المنقبون من العلماء عثروا على مخطوطات لبعض مؤلفات هذا الأديب الثائر فعمدوا إلى تحقيقها ونشرها، فمن قبل أخرجت له مطبعة بولاق كتاب (الصداقة والصديق) كما طبعت له رسالة صغيرة في (العلوم) ثم نشر الأستاذ حسن السندوبي له كتاب (المقابسات) وهو من أمتع مؤلفاته، ومنذ أعوام أخرج الأستاذ أحمد أمين بك والأستاذ الشاعر أحمد الزين كتاب (الإمتاع والمؤانسة) مصححاً محققاً، وقد حدثني الأستاذ أحمد الزين منذ سنوات أنه أعد العدة مع الأستاذ أحمد أمين لنشر كتاب (بصائر القدماء وسرائر الحكماء) للتوحيدي، وأنهما جمعا له كل ما يمكن من الأصول، وبذلا لتحقيقه وتصحيحه غاية الجهد حتى يخرج على أتم ما يكون. .
أقول هذا بمناسبة ما جاء أخيراً في بريد سورية من أن الأستاذ إبراهيم الكيلاني قد قدم الكتاب للطبع بعد أن حققه وعلق عليه، فلعل الأستاذ الكيلاني - ما دام لم يمض في الطبع - يرجع إلى الأستاذ أحمد أمين فيما حقق من أصول هذا الكتاب وجمع من مصادره ومخطوطاته ولا بأس أن يكون الجهد مشتركاً حتى يخرج الكتاب كاملاً في التصحيح والتحقيق، ولا معنى لأن يطبع الكتاب طبعة في الشام وأخرى في مصر وتكون كل منهما تكمل الأخرى.
اللغة العربية والجنسية الإسلامية:
من أنباء الباكستان، الدولة الإسلامية الجديدة في الهند، أن الرجال المسئولين والهيئات الثقافية هناك قد أخذت تهتم بتعليم اللغة العربية وتوسيع الدائرة في دراستها نظراً لما يقتضيه وضع الباكستان الجديد من توطيد الصلات بالعالم الإسلامي.
واللغة العربية لا شك دعامة قوية في بناء الجنسية الإسلامية فما ربط المسلمين ولا أمسك بوحدتهم وبقوميتهم على طول السنين وعلى رغم الحوادث والكوارث مثل اللغة العربية التي توحدت في كتاب الله عز وجل كما توحدت في مظاهر العبادة الإسلامية وأدائها، وليس هناك ما يبعث الروعة ويهز المشاعر مثل نداء المسلمين جميعاً وهم يدخلون الصلاة هاتفين: الله أكبر.
والمسلمون في الهند أهل غيرة على دينهم، وهم معرفون من قديم بمواقفهم المشهورة في جانب الوحدة الإسلامية ولا أظن أن هناك من يجهل جهاد المغفور له محمد علي وشقيقه شوكت علي، ولا أظن أن هناك من يجهل جهاد الهنود المسلمين للإبقاء على الخلافة الإسلامية حتى تكون تاجاً للوحدة ودعامة من دعائمها.
فهذا الاتجاه الذي تتجه إليه الباكستان اليوم، وهي في أول عهدها بالوضع الجديد، مما يدعو إلى توطيد صلتها بالعالم الإسلامي، والواجب على الجامعة العربية أن تشجع فيها هذا الاتجاه، وواجب على مصر خاصة أن تساعدها في هذا، وأن تمدها بالمدرسين للغة العربية، وإنه لأل ما يجب على مصر في هذا السبيل.
حيا الله (الباكستان) في عهدها الجديد ووقاها شر الدسائس الاستعمارية، وصانها مما يحيطها من الزلازل والقلاقل.
(الجاحظ)
البريد الأدبي
الشيخ محمد عبدة والطير الأبابيل:
أقول (تعليقاً على المقال القيم (القرآن النظريات العلمية) للأستاذ الكبير العقاد): إن الأستاذ المرحوم الشيخ محمد عبدة لم يقل بأن الطير الأبابيل هي جراثيم الأمراض التي اكتشفت على يد (باستور) وما هذا إلا رأي شاعت نسبته إلى الشيخ محمد عبدة منذ أن هاجمه جماعة من العلماء وعدوا له زلات من جملتها هذا الرأي الذي نسبوه إليه في تفسير سورة الفيل وأخذوا عليه فيه أنه قد ابتدع في التفسير آراء خرج بها على معاني العربية وأساليبها التي نزل بها القرآن ويفهمه بها العرب الخ. ثم عزا الكثيرون هذا الرأي في تفسير الطير الأبابيل إلى الشيخ محمد عبدة دون رجوع إلى كلام الشيخ نفسه رحمه الله في تفسيره لجزء عم الذي هو مرجع القضية.
والواقع أنه رحمه الله بعد أن نقل بعض الروايات التفسيرية غير الثابتة في بيان طريقة انهزام أصحاب الفيل بالطير الأبابيل، وقول بعضهم إن الطير كانت تلقي الحجارة الصغيرة كالعدس فتقع الواحدة على رأس الرجل من جيش أبرهة فتخرج من دبره قال الشيخ محمد عبدة رحمه الله ما خلاصته أن الشيء المروي في التاريخ هو أن جيش أبرهة تفشى فيه مرض الجدري وقضى على معظمه وبدده وتلك الروايات المغربة غير ثابتة، والقرآن في غنى عن تفسيره بها، فالمنهج السديد أن يجمع بين القدر الذي حكاه القرآن من الخوارق وبين الروايات التاريخية، بعد أن تبين أن مرض الجدري وغيره من الأمراض السارية ينشأ عن عوامل حية هي الجراثيم المسماة بالميكروبات.
وإذا علمنا أيضاً أن الطير في اللغة كل ما يطير بجناحيه كبيراً كان أو صغيراً كالذباب والزنابير فإن المناسب في تفسير السورة أن يقال: إن الله تعالى أرسل على جيش أبرهة نوعاً من الطيور تحمل حجارة صغيرة ملوثة بجراثيم حمى الجدري من مكان موبوء بها هدى الله هذه الطير إليه فكانت تلقيها على الجيش فتفشى فيه الجدري من هذه الحجارة الموبوءة بجراثيم المرض.
وبذلك يجمع بين ما حكاه القرآن العظيم وبين الواقع التاريخي، ويكفي لبيان قدرة الله تعالى ونقمته مع التعليل بسبب طبيعي معقول.
فالشيخ رحمه الله لم يفسر الطير الأبابيل بالجراثيم، وإنما أفاد أن الحجارة التي حملتها الطير كانت ملوثة بالجراثيم، أما الطير فطير بالمعنى اللغوي غير أنها لا يعرف نوعها.
وبهذه المناسبة أذكر أن من جملة ما يشاع الآن من آراء عن الشيخ محمد عبدة رحمه الله أنه ينكر وجود الجن الذين جاء القرآن معلناً وجودهم، أو أنه يؤولهم بالجراثيم وغير ذلك، وكثير من الطاعنين يأخذون هذا من الألسنة ثم يناقشون به مع حملهم إياه على الشيخ رحمه الله على أنه رأي صريح له في تفسير سورة الناس كما ينسب إليه اليوم لغرض ما أنه يرى ويقول بأن قصص الأمم الغابرة التي حكاها القرآن إنما هي تمثيل فني مخترع للعظة ولا تدل على واقع تاريخي!!
وقد اشتملتني وبعض هؤلاء قديماً مناقشة حول الشيخ رحمه الله ولما قلت لهم إنه لا يفسر الطير الأبابيل بالجراثيم المرضية ولا ينكر وجود الجن عدوا هذا الزعم مني مخالفاً للحس الظاهر أو دفاعاً غير مشروع حتى أتيتهم بتفسير جزء عم الذي يستندون إليه فقرؤوا بأنفسهم تفسير الشيخ رحمه الله لسورتي الفيل والناس فهتوا وقد كانوا زعموا أنهم إنما يتكلمون عن اطلاع على كلامه، فلم يسعهم بعد ذلك إلا أن يقولوا أنهم لم يفهموا كلامه، وإنما وهموا من نظرة فيه سريعة غير منعمة.
على أنه لا ينبغي أن يتوهم من كلامي إنني أعد الأستاذ الكبير العقاد من هذه الفئة، فهو في نظري - كما هو في الواقع - ذلك المحقق المجلي الذي لا يشق له غبار ولا نزال ننتفع وستنتفع الأجيال من قلمه، ولكن لعله اعتمد في قضية الطير الأبابيل على رواية أحد نسب ذلك إلى الشيخ محمد عبدة أخذاً مما أشيع عنه واشتهر.
مصطفى أحمد الزرقا
الفرق بين سنة وعام:
جاء في مقال الأستاذ علي الطنطاوي (من شوارد الشواهد) المنشور في عدد الرسالة 746 الصادر في 20 أكتوبر سنة 1947 - السنة الخامسة عشرة، صفحة 1144 ما أعيد نقله هنا بالحرف الواحد وهو (يخلط الناس في الاستعمال بين العام والسنة، وهما مترادفتان ولكن ليس في اللغة كلمتان بمعنى واحد - انظر في كتاب الصاحبي وكتاب الفروق اللغوية
- ولا بد من اختصاص كل لفظة بشيء لا تدل عليه الأخرى.
فالسنة في الأصل للشدة والقحط والعام لليسر والرخاء - اقرأ آيات سورة يوسف - والسنة عند العرب مرادفة الشدة والبلاء تقول أصيبوا بالسنين وأصابتهم السنة ومن تتبع كلام العرب وجد ذلك مستفيضاً وقد نبه عليه شيخنا المغربي في الرسالة من أمد بعيد). انتهى كلام الأستاذ الطنطاوي ومن تتبع الكتب يجد
1 -
إن السنة لأي يوم عددته إلى مثله فقد يدخل فيه نصف الشتاء ونصف الصيف. وأما العام فلا يكون إلا صيفاً وشتاء - ذيل الفصيح ص4.
2 -
وقد نقل محمد عبد الجواد ذلك في الصفحة 21 من كتابه البحاثة اللغوية.
3 -
الفرق بين العام والسنة أن العام كالسنة لكن كثيراً ما نستعمل السنة في الحول الذي يكون فيه الشدة والجدب. ولهذا يعبر عن الجدب بالسنة، والعام لما فيه الرخاء والخصب.
وقيل سمي السنة عاماً لعوم الشمس في جميع بروجها والعوم السباحة. ويدل قوله تعالى وكل في فلك يسبحون. ص161 فروق حقي.
4 -
العام أربعة فصول من السنة كاملة متوالية. يبدأ من أول أحدها ويدوم إلى مثله من القابل. وأما السنة فتبدأ من أي يوم اتفق إلى مثله من القابل فربما بدأت من بعض الفصول لا من أوله. وعلى هذا فالعام أخص من السنة فكل عام سنة وليس كل سنة عاماً. مجلة الضياء لليازجي 7 ص353.
5 -
وبعبارة أخرى أن العام هو السنة كاملة تبدأ من أول فصل من فصولها. فإن لم تبدأ من أحد الفصول فلا تسمى عاماً بل سنة وحولا كتاب مغلط الكتاب للأب جرجي جنن البولسي. هذا ما يحضرني الآن من فوارق بين السنة والعام.
عمان
أحمد الظاهر
القاضي في محكمة الاستئناف
إلى الأستاذ (خلف الله):
في مقال لك في (الرسالة) طلبت إلى القراء وكل ذي رأي الاشتراك في موضوع الجدال
حول رسالتك (الفن القصصي في القرآن) ولما كانت الرسالة - أعني رسالتك - محجوزة في يد الحاجزين للنظر، فقد صار من اللازم الحتم - لإشراك القراء معك - جوابك على هذين السؤالين، وهما:
1 -
هل تعتبر القصة القرآنية (فناً) من الفنون كالقصص الفنية في هذا الزمان؟
2 -
هل تنكر (واقعية) القصص في القرآن، وأنها - كما قال الأولون - من أساطير الأولين؟
وبجوابك على السؤالين يصح النقاش، وينحسم - من بعد - الجدال، ولا جدال.
(الزيتون)
عدنان أسعد
إنجلترا في مرآة حافظ:
تحية فقد اطلعت في العدد رقم 747 من مجلتكم الغراء على
مقال (إنجلترا في مرآة حافظ) وفيه يشيد الأستاذ الكاتب
بوطنية حافظ الصادقة، وعدائه للمحتل البريطاني وعميد
البريطانيين في مصر بما أورده من شعر حافظ، ولست أدري
إذا ما كان الأستاذ البيومي قد اطلع على ما كتبه الأستاذ
محمود محمد شاكر بعنوان: (أوطان) بمجلة الكتاب وفيه يقطع
بأن حافظاً إنما كان يمالئ البريطانيين وعميدهم وأنه لم يكن
وطنياً صادقاً في شعره.
وإذن فلا مناص من أن يبين لنا كل من الأستاذين وهما من كتاب (الرسالة) وجهة نظرهما الصادقة في هذا الموضوع. ونحن في الانتظار، والسلام عليكم ورحمة الله،
أحمد محمد حلمي
إلى رحمة الله:
نُعي إلى الرسالة، وهي على المطبعة الشاعر العالم الرواية البليغ الشيخ أحمد الزين.
ولئن عقدت روعة المفاجأة اللسان، وحبست لوعة الرزية القلم، وضاق المجال اليوم عن قيام الرسالة بواجب الوفاء للصديق، والتأريخ للأديب، فلن تضيق صفحاتها غداً إن شاء الله.
رحم الله الفقيد، وعوض على الأدب ما خسر بفقده، وعلى البيان ما خسر بمعناه.
القصص
طريق الدوفر
بقلم الأديب عبد الكريم محمود
(طريق الدوفر) كوميدية مسرحية، ليست بذات الحوادث المعقدة، بل هي مسرحية بسيطة غاية البساطة تعالج مشكلة من أهم المشكلات. . . مشكلة الزواج بأسلوب تهكمي ساخر. وقد لاقت نجاحاً عظيماً عندما مثلت على أحد مسارح لندن. . . وهو لعمري نجاح تستحقه المسرحية ويستحقه كاتبها. أما مؤلفها فكاتب إنكليزي يدعى وهو ما يزال حياً يرزق.
المستر (لاتيمر) كهل أعزب له هواية غريبة حقاً. أنه يسعى إلى أن يحل مشاكل الزواج التي تعترض الشبان.
وعلى باب بيته على طريق الدوفر الذي سكنه على هذا الأساس. . . أساس صيد العازمين على الزواج قبل فرارهم - عن هذه الطريق - إلى فرنسا حيث الزواج وشهر العسل. . . على باب بيته يقف اثنان، شاب وشابة. . . ليونارد وآن.
إن مجيئهما ليس عن طريق الصدفة بحال من الأحوال بل هو أمر محكم التدبير؛ فقد رشى المستر (لاتيمر) سائق سيارتهما طالباً منه تعطيل السيارة أو التظاهر بأنها عطلت أمام منزله.
إن ليونارد يطرق الباب الآن. وها هو الخادم (دومينيك) يفتحه له. فيقول ليونارد (أهذا فندق؟) فيجيبه دومينيك بالإيجاب.
يدخل الاثنان. وبعد أن يستقرا نستطيع بكل سهولة أن نفهم من حديثهما أن (ليونارد) شخص ترك زوجته (يوستاسيا) ليهرب مع الفتاة (آن) التي تركت هي بدورها أباها.
يستقبلهما المستر لاتيمر - صاحب المنزل أو الفندق كما ظناه - بعد ذلك، فيظهر هذا لنا بمظهر من يفهم السبب الذي قاما من أجله برحلتهما. ثم يبدأ يسأل آن عما تنتويه وتريد فعله ملقياً بعد الأسئلة درساً في فائدة الأناة والتفكير في تصرف المرأة فقبل أن تقدم على عمل بعد من أخطر الأعمال بالنسبة إليها بل هو - أي هذا العمل - حياتها كلها وغرضها الأسمى الذي خلقت من أجله.
هنا نفهم عقلية ليونارد جيداً. . . إننا نراه يفقد أعصابه بسرعة فلا يستطيع أن يحكمها
ويتملكها، ونراه يحاول أن يسحب فتاته آن ليخرجا من هذه الدار التي كرهها. لكن المستر (لاتيمر) يكشف أوراقه عندما يبلغ الأمر هذا الحد، فيصارحهما بأن أمر مجيئهما كان نتيجة لخطة دبرها هو فاحكم تدبيرها ثم تراه يطلب منهما بعد ذلك أن يمكثا أسبوعاً. . . أسبوعاً واحداً فقط يختبر فيه أحدهما الآخر ويمتحنه لكيلا يكون اتصالهما بعد ذلك عرضة للانفصال.
تذهب آن بعد هذا الاقتراح إلى الغرفة التي أعدت لها لتنام ويبقى المستر لاتيمر مع ليونارد ليكون الأخير مادة جيدة لتهكم الأول وسخريته بعد أن عرف هذا جيداً أخلاق ليونارد. ولكن ليونارد يضطرب وينزعج كعادته فيترك لاتيمر متجهاً إلى غرفة نومه.
وما يهل صباح اليوم التالي حتى يصاب ليونارد بالبرد. . . وتبدأ آن بعد هذا تشعر بأن الحياة مع فتاها ليونارد لن تكون دائماً بساطاً مفروشاً بالورود؛ كما أنها تعلم في الوقت نفسه من حديث يجري بين المستر لاتيمر والخادم دومينيك أمامها أنها وليونارد ليسا الشخصين الوحيدين في هذا المنزل العتيد.
والواقع أن هناك شخصين آخرين غير ليونارد وآن على أهبة أن ينتهيا من (أسبوع التجربة) كما يسميه المستر (لاتيمر). ولكن الذي أدهش ليونارد هو أن ذينك الشخصين لم يكونا إلا (يوستاسيا) زوجته وعاشقها (نيكولاس).
إن منزل المستر لاتيمر يؤدي رسالته بالنسبة لهذين الشخصين الأخيرين؛ لأن الأسبوع ما يكاد يمضي حتى يبرم نيكولاس بيوستاسيا أشد البرم، ذلك لأنها ذات عادة قبيحة مستحكمة فيها، يثير النفرة والابتعاد عنها: إن تلك العادة مزيج من الإلحاح والعناية الكثيرة غير المستحبة بمن يعيش معها تحت سقف واحد. إن يوستاسيا خير مثال لإمرأة تفيض منها (غريزة الأمومة) فيضاً.
يبرم نيكولاس بها إذن ولما ينتهي بعد أسبوع التجربة، ولكنه لا يستطيع أن يتركها وحدها ليرحل فذلك مما تمنعه قوانين منزل المستر لاتيمر الخالد.
هذا إلى أن يوستاسيا ونيكولاس يعلمان في هذه الأثناء بوجود الشخصين الآخرين في المنزل.
ولهذا فإن يوستاسيا ما تكاد تعلم بأن زوجها قد أصيب بالزكام حتى تهرع إليه - بعد ما
لقيت من أعراض عاشقها - لترضي عادتها غير المستحبة تلك. . . وهي إلى هذا تنسى كل شيء عن نيكولاس خلال انغمارها في تحضير الدواء لزوجها.
أما نيكولاس فيبدأ بعد هذا يعجب بـ (آن) التي شعرت بخيبة أمل بعد ما رأت من انصراف يوستاسيا إلى العناية بليونارد. ولهذا نظن نيكولاس أنها في بداية ميل جديد نحوه. إلا أن أمله يخيب هو الآخر عند ما يعلم أن آن لم تمل إليه إلا لرغبتها في استدانة نفوذ تكفيها للعود إلى منزلها. . . وإلى أبيها ذلك الذي تركته هاربة.
هنا يصبح نيكولاس في حالة غضب شديد فيصمم على الهرب من هاتين المرأتين اللتين آذته وأزعجته أولاهما وخيبت أمله ثانيتهما فيتشاور مع ليونارد الذي تعدى المرحلة النهائية لمرضه الخطير. . . الزكام!!! وهنا نراهما وكل منهما يبث الآخر أحزانه وآلامه. وفيما عما على هذه الحال إذ تخطر لكليهما فكرة. . . فكرة الهرب. فيصمم الاثنان على الهرب إلى فرنسا لقضاء عطلة تريحهما من عناء المرأتين وخصوصاً ليونارد هذا الذي أرهقته زوجته بعنايتها الكثيرة ومحاولتها التسرية عنه بقراءة كتب صعبة الأسلوب جافة البحث ككتاب (جيبون) عن انهيار الإمبراطورية الرومانية.
ولكن عقبة واحدة تقف أمامها. . . عقبة بغيضة. . . ذلك أن ليونارد متأكد تمام التأكيد من أن يوستاسيا - مالم نجد شخصاً آخر غيره ترضى عن طريقة غريزتها - ستحاول أن تتبعه أينما سار.
ها هما يحاولان نتيجة لعزمهما على الهرب إقناع المستر لاتيمر بأن يدعي أنه مريض لتنصرف يوستاسيا إليه تعنى بأمره، لكنه يرفض. وها هما يتحولان عنه إلى الخادم دومينيك فيرفض هو الآخر. غير أن طيبة قلب المستر لاتيمر تدفعه - بعد أن رفض - إلى قبول اقتراحهما لولا أن الخادم دومينيك يخبره بأن الخادم الآخر جوزيف. . . ذلك البطل الملاكم. . . مريض.
ستجد يوستاسيا إذن من ترضى غريزتها عن طريق العناية به.
والفرضة - إذن - سنحت. يتسلل ليونارد ونيكولاس بحذر محاولين الابتعاد ليقضيا في فرنسا عطلة جميلة.
من بقي في الدار بعدهما؟ المستر لاتيمر وخدمه. . . آن ويوستاسيا. وهنا نرى المستر
لاتيمير ذلك الرجل الذي كرس حياته لمساعدة الغير وحل مشاكل الزواج. وذلك الرجل الذي ظل بطل القصة حتى النهاية. . . نراه يصارح آن بحبه ويقع ضحية لخطة دبرها هو، لكن الفتاة الرزينة العاقلة - والتي إن عد المستر لاتيمر بطل القصة فلابد أن نقول أنها البطلة - تبين له أنها ما زالت تعامله وتحبه. . . ليس ذلك الحب الجامح العنيف بل تعامله وتحبه كما لو كان أباها.
وهاهي ذي بعد هذا تأخذ حقيبتها لتقول للمستر لاتيمر. . . وداعاً.
إن المستر لاتيمر الآن أمام المرآة يتبين ما عملته يد السنين في وجهه وتقاطيعه، فيرى أنه قدر لنفسه عمراً أقل من الواقع والحقيقة.
يدخل الخادم دومينيك ليرى سيده في هذه الحال فيبتسم الاثنان. . . وفي لحظة نراهما صديقين كأحسن ما يكون الأصدقاء لا رجلين أحدهما سيد والآخر مسود.
طرق على الباب. شخصا جديدان يقفان أمام المنزل. المستر لاتيمر ودومينيك يزاولان المهنة مرة أخرى.
(بغداد - دار المعلمين العالية)
عبد الكريم محمود