المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 75 - بتاريخ: 10 - 12 - 1934 - مجلة الرسالة - جـ ٧٥

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 75

- بتاريخ: 10 - 12 - 1934

ص: -1

‌إلى القرية يا بك.

. .

أهلاً وسهلاً بعلي بك!. . . كيف حالك؟. . . آنست هنا وأوحشت هناك!. . منذ كم سنة لم أرك؟. . . نعم أكثر من ست سنين!. . .

وكان هذا اللقاء المفاجئ في ميدان إبراهيم أمام (النيوبار)، فمال بنا الشيخ في حماسة الشوق ودهشة المفاجأة إلى مجلس من مجالس هذا المقهى الحاشد، ثم أخذ يسألني عن أمري حتى نقع نفسه ونضح وده. فلما طال بنا نفس الحديث عطفته مترفقاً إلى عمره المفقود، فذاكرته عهود القرية أيام الشمل جامع والحبل واصل والدار نادية! فكانت إرسال هذه الذكر - وا أسفاه - ترتد عن شعوره الأصم ارتداد الأمواج عن صخور الساحل! لقد خفت الماضي في ذاكرته خفوت المحتضر؛ فرجعه البعيد لا يكاد يبين إلا في نظرة قصيرة من عينه المنتفخة، أو نفثة طويلة من نرجيلته المكركرة.

لشد ما صنعت المدينة بهذا الرجل! كان مكتنز اللحم فترهل، ومشبوب

اللون فانكفأ، وخفيف الحركة فثقلته الأملاح، وطليق المشية فقيدته

العلل؛ ثم كان يعقد مجلسه في القرية فيكون في جلالته ديوان عرش،

وفي مهابته جلسة محكمة! يلقي النظرة مثقلة بالدلائل فتأخذها العيون

وعداً لا يخلف، أو وعيداً لا يشفق، أو عاطفة لا تكذب، ويرسل الكلمة

موقرة بالمعاني فتلقفُها الآذان أمراً لا يرد، وقانوناً لا يخالف، ورأياً لا

ينقض، فأصبح في زحمة القاهرة قطعة من الوجود المتطفل، يتسكع في

الطريق، أو يتقمع في القهوة، أو يتمطى في البيت، وليس له رأي في

أمور الناس، ولا أثر في جهاد العيش، ولا شأن في طبقات المجتمع؛

وكان بليل اللسان حافل الخاطر إذا تحدث إلى الفلاحين في شؤون

الفلاحة، فلما حاول مناقلة المدنيين أحاديث السياسة والأدب والاجتماع،

قعد به الجهل عن مجاوراتهم، فغلب الوجوم على نفسه، وختم العي

على فمه!

ص: 1

تخاذل حديث (البك) واسترخي حتى انقلب إلى أنة موجعة وشكوى أليمة! قال وهو يطلب من الغلام جمرة ترسل النار في النرجيلة الخامدة: منذ حبَّب إليَّ أبنائي - وهم في المدارس كما تعلم - أن أنقل البيت من القرية إلى الحاضرة، انقلب وجودي رأساً على عقب! فأنا أحيا كالغريب، وأعْمَه كالشريد، وأمشي كالتائه. نقصت غلة الأرض لإتكائي في زرعها على الناس، وزادت أكلاف العيش لاعتمادي في الوجاهة على الشرف، وفدحتني أعباء الديون فأنا من شواغلها في غصة لا تساغ وكربة لا تنسلي، وفسدت على سياسة الأسرة، فالبنون لا يريدون العمل في غير الحكومة، والبنات لا يرغبن الزواج في غير المدينة، والزوجة تأبى إلا

أن تكون كزوجة فلان باشا: لها في كل يوم ملهى، وفي كل أسبوع وليمة، وفي كل شهر (مودة)، وفي كل عام مصيف. فأنا يا صديقي مذبذب العيش بين هنا وهناك، لم أستفد من مزايا الحضر من أتساق الأمر واطراد الحياة، ولم أستعد محامد الريف من سعادة النفس وبساطة العيش وخلوص الفطرة وصحة الدين وسلامة الثروة؛ فهل تطمئن على هذا الحال نفس. وهل تشرق في هذا الوجود سعادة؟ فقلت له وقد تمثل في خاطري ما دهى القرية وأصاب الأمة من أمثال هذا الرجل:

لو أن سراة الريف استقبلوا من أمرك ما استدبرت لما كانوا على أنفسهم شراً وعلى قراهم جنابة. فانك لو بقيت في قريتك، وقمت كما كنت تقوم على تدبير ثروتك، وعاد بنوك من الكلية فاستثمروا علمهم فيها، ونشروا مدينته وثقافتهم بين ربوعها وأهليها، ورجع بناتك من المدرسة فبثثن في نسائها النظام والتدبير والذوق بالإرشاد والقدوة، ثم فعل غيرك ما فعلت، إذن لوفر فيها الرزق، وورف عليها الأمن، وانتقل إليها العلم، وتذوق أهلها المساكين جمال الحضارة ونعيم الصحة ولذة المعرفة، وشعرت أنت في هذه البيئة شعور الغبطة والرضا، لأنك أعنت فريقاً من ضعاف الناس على أن ينعموا بحياتهم ويقوموا بواجباتهم على الوجه الأكمل.

ولكن أكثر القرويين متى ارتجع كثيراً من المال، أو شدا قليلاً من العلم، أغلق (المضيفة)، وخرب (الدوار)، وخلف القرية للفاقة والجهالة والمرض. فلولا أشعة من نور الأزهر الخالد تنتشر في هذه القرى فتدعو إلى الله، وتهدي إلى الحق، لظل الريف وساكنوه على الحال

ص: 2

التي عثر فيها بطلائع الإنسان.

أنت لا تزال عميد أسرة مجيدة، لها في سياسة الأمة صحائف مشرقة، وفي ثروة البلاد جهود موفقة، فافزع إلى ماضيك، واستصرخ عزيمة الجنس فيك، واستعد سلطانك على أهلك وبنيك، ثم عد إلى مسقط رأسك ومهبط نفسك ومنبت عواطفك ومنشأ هواك ومرتع صباك وموطن مجدك ومدفن جدودك!

عد إلى القرية يا بك!!

احمد حسن الزيات

ص: 3

‌شهرٌ للثورة.

. .

فلسفة الصيام

للأستاذ مصطفى صادق الرافعي

لم أقرأ لأحد قولاً شافياً في فلسفة الصوم وحكمته؛ أما منفعته للجسم وأنه نوع من الطب له، وباب من السياسة في تدبيره، فقد فرغ الأطباء من تحقيق القول في ذلك؛ وكأن أيام هذا الشهر المبارك إن هي إلا ثلاثين حبة تؤخذ في كل سنة لتقوية المعدة وتصفية الدم وحياطة أنسجة الجسم؛ ولكنا الآن لسنا بصدد من هذا، وإنما نستوحي تلك الحقيقة الإسلامية الكبرى التي شرعت هذا الشرع لسياسة الحقائق الأرضية الصغيرة، عاملة على استمرار الفكرة الإنسانية فيها، كي لا تتبدل النفس على تغير الحوادث وتبدلها، ولكيلا تجهل الدنيا معاني الترقيع إذا أتت على هذه الدنيا معاني التمزيق.

من معجزات القرآن الكريم أنه يدخر في الألفاظ المعروفة في كل زمن حقائق غير معروفة لكل زمن، فيجليها لوقتها حين يضج الزمان العلمي في متاهته وحيرته، فيشْغَبُ على التاريخ وأهله مستخفاً بالأديان، ويذهب يتتبع الحقائق ويستقصي في فنون المعرفة، ليستخلص من بين كفر وإيمان ديناً طبيعياً سائغاً، يتناول الحياة أول ما يتناول فيضبطها بأسرار العلم، ويوجهها بالعلم إلى غايته الصحيحة، ويضاعف قواها بأساليبه الطبيعية، ليحقق في إنسانية العالم هذه الشيئية المجهولة التي تتوهمها المذاهب الاجتماعية، ولم يهتد إليها مذهب منها ولا قاربَها؛ فما برحت سعادة الاجتماع كالتجربة العلمية بين أيدي علمائها لم يحققوها ولم ييأسوا منها، وبقيت تلك المذاهب كعقارب الساعة في دورتها، تبدأ من حيث تبدأ ثم لا تنتهي إلا إلى حيثُ تبدأ.

يضطرب الاشتراكيون في أوربا، وقد عجزوا عجز من يحاول تغيير الإنسان بزيادة ونقص في أعصابه؛ ولا يزال مذهبهم في الدنيا مذهب كتب ورسائل. ولو أنهم تدبروا حكمة الصوم في الإسلام، لرأوا هذا الشهر نظاماً عملياً من أقوى وأبدع الأنظمة الاشتراكية الصحيحة؛ فهذا الصوم فقرٌ إجباريٌ تفرضه الشريعة على الناس فرضاً ليتساوى الجميع في بواطنهم، سواء منهم من ملك المليون من الدنانير، ومن ملك القرش الواحد، ومن لم يملك شيئاً؛ كما يتساوى الناس جميعاً في ذهاب كبريائهم الإنسانية بالصلاة التي يفرضها الإسلام

ص: 4

على كل مسلم؛ وفي ذهاب تفاوتهم الاجتماعي بالحج الذي يفرضه على من استطاع.

فقرٌ إجباريٌ يراد به أشعار النفس الإنسانية بطريقة عمليةٍ واضحةٍ كل الوضوح أن الحياة الصحيحة وراء الحياة لا فيها، وأنها إنما تكون على أتمها حين يتساوى الناس في الشعور لا حين يختلفون، وحين يتعاطفون بإحساس الألم الواحد لا حين يتنازعون بإحساس الأهواء المتعددة.

ولو حقَّقْتَ رأيت الناس لا يختلفون في الإنسانية بعقولهم، ولا بأنسابهم، ولا بمراتبهم، ولا بما ملكوا؛ وإنما يختلفون ببطونهم وأحكام هذه البطون على العقل والعاطفة؛ فمن البطن نكبة الإنسانية، وهو العقل العملي على الأرض؛ وإذا اختلف البطن والدماغ في ضرورة مد البطن مده من قُوى الهضم فلم يُبقِ ولم يَذَرْ. ومن ههنا يتناوله الصوم بالتهذيب والتأديب والتدريب، ويجعل الناس فيه سواءً ليس بجميعهم إلا شعور واحد وحس واحد وطبيعة واحدة، ويحكم الأمر فيحول بين هذا البطن وبين المادة، ويبالغ في إحكامه فيمسك حَواشيَه العصبيةَ في الجسم كله يمنعها تغذيتها ولذتها حتى نفثةً من دخينة. وبهذا يضع الإنسانية كلها في حالة نفسية واحدة تتلبس بها النفس في مشارق الأرض ومغاربها، ويطلق في هذه الإنسانية كلها صوت الروح يعلم الرحمة ويدعو إليها، فيشبع فيها بهذا الجوع فكرة معينة هي كل ما في مذهب الاشتراكية من الحق، وهي تلك الفكرة التي يكون عنها مساواة الغني للفقير من طبيعته، واطمئنان الفقير إلى الغني بطبيعته؛ ومن هذين:(الاطمئنان والمساواة) يكون هدوء الحياة بهدوء النفسين اللتين هما السلب والإيجاب في هذا الاجتماع الإنساني. وإذا أنت نزعت هذه الفكرة من الاشتراكية بقى هذا المذهب كلُّه عبثاً من العبث في محاولة جعْل التاريخ الإنساني تاريخاً لا طبيعة له.

من قواعد النفس أن الرحمة تنشأ عن الألم، وهذا بعض السر الاجتماعي العظيم في الصوم، إذ يبالغ أشد المبالغة، ويدقق كل التدقيق، في منع الغداء وشبه الغذاء عن البطن وحواشيه مدة آخرها الطاقة. فهذه طريقة عملية لتربية الرحمة في النفس، ولا طريقة غيرها إلا النكبات والكوارث، فهما طريقتان كما ترى: مبصرةٌ وعمياء، وخاصةٌ وعامة، وعلى نظامٍ وعلى فجأة ومتى تحققت رحمة الجائع الغني للجائع الفقير، أصبح للكلمة الإنسانية الداخلية سلطانها النافذ، وحكم الوازع النفسي على المادة؛ فيسمع الغني في ضميره

ص: 5

صوت الفقير يقول: (أعطني.) ثم لا يسمع منه طلباً من الرجاء، بل طلباً من الأمر لا مفر من تلبيته والاستجابة لمعانيه كما يواسي المبتلى من كل في مثل بلائه.

أية معجزة إصلاحية أعجب من هذه المعجزة الإسلامية التي تقضي أن يحذف من الإنسانية كلها تاريخ البطن ثلاثين يوماً في كل سنة، ليحل في محله تاريخ النفس؟ وأنا مستيقن أن هناك نسبة رياضية هي الحكمة في جعل هذا الصوم شهراً كاملاً من كل اثني عشر شهراً، وأن هذه النسبة متحققة في أعمال الجسم للنفس؛ كأنه الشهر الصحي الذي يفرضه الطب في كل سنة للراحة والاستجمام وتغيير المعيشة، لأحداث الترميم العصبي في الجسم؛ ولعل ذلك آتٍ من العلاقة بين دورة الدم في الجسم الإنساني وبين القمر منذ يكون هلالاً إلى يدخل في المحاق؛ إذ تنفتح العروق وتربو في النصف الأول من الشهر كأنها في (مدّ) من نور القمر ما دام هذا النور إلى زيادة، ثم يراجعها (الجَزْرُ) في النصف الثاني حتى كأن للدم إضاءةً وظلاما. وإذا ثبت أن القمر أثراً في الأمراض العصبية، وفي مدّ الدم وجزْره، فهذا من أعجب الحكمة في أن يكون الصيام شهراً قمرياً دون غيره.

وفي تَرَائي الهلالِ ووجوبِ الصوم لرؤيته معنى دقيقٌ آخر، وهو - مع إثبات رؤية الهلال وإعلانُها - إثبات الإرادة وإعلانُها، كأنما انبعث أولُ الشعاع السماوي في التنبه الإنساني العام لفروض الرحمة والإنسانية والبِر.

وهنا حكمة كبيرة من حِكَم الصوم، وهي عمله في تربية الإرادة وتقويتها بهذا الأسلوب العملي الذي يدرب الصائم على أن يمتنع باختياره من شهواته ولذة حيوانيته. ويبقيه مصراً على الامتناع متهيئاً له بعزيمته، صابراً عليه بأخلاق الصبر، مزاولاً في كل ذلك أفضل طريقةٍ نفسية لاكتساب الفكرة الثابتة ترسخ لا تتغير ولا تتحول، ولا تعدو عليها عوادي الغريزة. وإدراك هذه القوة من الإرادة العملية منزلة اجتماعية سامية هي في الإنسانية فوق منزلة الذكاء والعلم؛ ففي هذين تعرض الفكرة مارةً مرورها، ولكنها في الإرادة تعرض لتستقر وتتحقق. فانظر في أي قانون من القوانين، وفي أية أمة من الأمم، تجد ثلاثين يوماً من كل سنة قد فُرِضت فرضاً لتربية إدارة الشعب ومزاولته فكرة نفسية واحدة بخصائصها ومُلابساتها حتى تستقر وترسخ وتعود جزءاً من عمل الإنسان، لا خيالاً يمر برأسه مراً؟

أليست هذه هي إتاحة الفرصة العملية التي جعلوها أساساً في تكوين الإرادة؟ وهل تبلغ

ص: 6

الإرادة فيما تبلغ، أعلى من منزلتها حين تجعل شهوات المرء مذعنةً لفكره، منقادة للوازع النفسي فيه، مصرفة بالحس الديني المسيطر على النفس ومشاعرها؟

أما والله لو عم الصوم الإسلامي أهل الأرض جميعاً لآل معناه أن يكون إجماعاً من الإنسانية كلها على إعلان الثورة شهراً كاملاً في السنة، لتطهير العالم من رذائله وفساده، ومحق الأثرة والبخل فيه، وطرح المسألة النفسية ليتدارسها أهل الأرض دراسة عمليةً مدة هذا الشهر بطوله، فيهبط كل رجل وكل امرأة إلى أعماق نفسه ومكامنها ليختبر في مصنع فكره معنى الحاجة ومعنى الفقر، وليفهم في طبيعة جسمه - لا في الكتب - معاني الصبر والثبات والإرادة، وليبلغ من ذلك وذلك درجات الإنسانية والمواساة والإحسان؛ فيحقق بهذه وتلك معاني الإخاء والحرية والمساواة.

شهر هو أيام قلبية في الزمن، متى أشرفت على الدنيا قال الزمن لأهله:(هذه أيام من أنفسكم لا من أيامي، ومن طبيعتكم لا من طبيعتي) فيقبل العالم كله على حالة نفسية بالغة السمو يتعهد فيها النفس برياضتها على معالي الأمور ومكارم الأخلاق، ويفهم الحياة على وجه آخر غير وجهها الكالح، ويراها كأنما أجيعت من طعامها اليومي كما جاع هو، وكأنما أفرغت من خسائسها وشهواتها كما فرغ هو، وكأنما ألزمت معاني التقوى كما ألزمها هو. وما أجمل وأبدع أن تظهر الحياة في العالم كله - ولو يوماً واحداً - حاملة في يدها السبحة. . .! فكيف بها على ذلك شهراً من كل سنة؟ أنها والله طريقة عملية لرسوخ فكرة الخير والحق في النفس؛ وتطهير الاجتماع من خسائس العقل المادي؛ ورد هذه الطبيعة الحيوانية المحكومة في ظاهرها بالقوانين، والمحررة من قوانين في باطنها - إلى قانون من باطنها نفسه يطهر مشاعرها، ويسمو بإحساسها، ويصرفها إلى معاني إنسانيتها، ويهذب من زيادتها، ويحذف كثيراً من

فضولها، حتى يرجع بها إلى نحو من براءة الطفولة، فيجعلها صافية مشرقة بما يجتذب إليها من معاني الخير والصفاء والإشراق. إذ كان من عمل الفكرة الثابتة في النفس أن تدعو إليها ما يلائمها ويتصل بطبيعتها من الفكر الأخرى. والنفس في هذا الشهر محتسبة في فكرة الخير وحدها، فهي تبني بنائها من ذلك ما استطاعت.

هذا على الحقيقة ليس شهراً من الأشهر، بل هو فصل نفساني كفصول الطبيعة في

ص: 7

دورانها. ولهو والله أشبه بفصل الشتاء في حلوله على الدنيا بالجو الذي من طبيعته السحب والغيث، ومن عمله إمداد الحياة بوسائل لها ما بعدها إلى آخر السنة، ومن رياضته أن يكسبها الصلابة والانكماش والخفة، ومن غايته إعداد الطبيعة للتفتح عن جمال باطنها في الربيع الذي يتلوه.

عجيب جداً أن هذا الشهر الذي يدخر فيه الجسم من قواه

المعنوية فيودعها مصرف روحانيته ليجد منها عند الشدائد مدد

الصبر والثبات والعزم والجلد والخشونة - عجيب جداً أن هذا

الشهر الاقتصادي هو من السنة كفائدة 8 و31 في المائة. . .

فكأنه يسجل في الأعصاب المؤمن حساب قوته وربحه، فله في

كل سنة زيادة 8 و31 من قوته المعنوية الروحانية.

وسحر العظائم في هذه الدنيا إنما يكون في الأمة التي تعرف كيف تدخر هذه القوة وتوفرها لتستمد عند الحاجة، وذلك هو سر أسلافنا الأولين الذين كانوا يجدون على الفقر في دمائهم وأعصابهم ما تجد الجيوش العظمى اليوم في مخازن العتاد والأسلحة والذخيرة.

كل ما ذكرته في هذا المقال من فلسفة الصوم فإنما استخرجته من هذه الآية الكريمة: (كتِبَ عليكم الصيامُ كما كُتِبَ على الذين مِن قَبْلِكم، لعلكم تَتَّقُون.) وقد فهمها العلماء جميعاً على أنها معنى (التقوى) أما أنا فأولتها من (الاتقِّاء) فبالصوم يتقي المرء على نفسه أن يكون كالحيوان الذي شريعته معدته، وألا يعامل الدنيا إلا بمواد هذه الشريعة؛ ويتقي المجتمع على إنسانيته وطبيعته مثل ذلك، فلا يكون إنسان مع إنسان كحمار مع إنسان يبيعه القوة كلها بالقليل من العلف. وبالصوم يتقي هذا وهذا ما بين يديه وما خلفه، فان ما بين يديه هو الحاضر من طباعه وأخلاقه، وما خلفه هو الجيل الذي سيرث من هذا الطباع والأخلاق، فيعمل بنفسه في الحاضر، ويعمل بالحاضر في الآتي.

وكل ما شرحناه فهو اتقاء ضرر لجلب منفعة، واتقاء رذيلة لجلب فضيلة، وبهذا التأويل تتوجه الآية الكريمة جهةً فلسفية عالية لا يأتي البيان ولا العلم ولا الفلسفة بأوجز ولا أكمل

ص: 8

من لفظها؛ ويتوجه الصيام على أن شريعة اجتماعية إنسانية عامة، يتقي بها الاجتماع شرور نفسه، ولن يتهذب العالم إلا إذا كان له من القوانين النافذة هذا القانون العام الذي أسمه الصوم ومعناه (قانون البطن). . . .

ألا ما أعظمك يا شهر رمضان! لو عرفك العالم حق معرفتك لسماك (مدرسة الثلاثين يوماً).

طنطا مصطفى صادق الرافعي

ص: 9

‌نظرية الاستقلال القومي وتطبيقها على التاريخ

‌المصري

للأستاذ محمد عبد الله عنان

أشارت إحدى الصحف الإنكليزية الكبرى أثناء حديثها أخيراً عن الشؤون المصرية، إلى نظرية تاريخية قديمة ترددها ألسنة الاستعمار في كل مناسبة، وهي أن مصر لم تكن مستقلة في أي عصر من عصور تاريخها. وترمي ألسنة الاستعمار بترويج هذه النظرية إلى غرض واضح، وهو أن مصر التي لم تتمتع خلال هذه الآماد الطويلة من تاريخها بنعمة الاستقلال والحرية، ليست جديرة بأن تتخذ مكانها بين الأمم المستقلة، وأن حكم التاريخ يقضي عليها بأن تكون دائماً مسودة دائماً لغيرها من الأمم القوية؛ فلماذا لا تكون إنكلترا هي الدولة التي تنفذ على مصر حكم التاريخ الخالد؟ ولماذا تحاول مصر أن تغالب قدرها، وطبيعتها كأمة استعبدت مدى الأحقاب تنافي طبائع الحرية والاستقلال؟

وهذه نظرية باطلة بلا ريب، يهدمها حكم التاريخ النزيه الحق؛ ولكنها أيضاً نظرية خطرة؛ وترويجها في العالم المتمدن يضر بالقضية المصرية ضرراً بليغاً، ويسيء إلى تراث مصر التاريخي، وإلى سمعتها كأمة ناهضة تطمح إلى تحقيق استقلالها. ومن الأسف أن هذا القول الباطل في تصوير التاريخ المصري، يروج لها في مصر ذاتها، ويتأثر به الكثير ممن يطغي على أذهانهم وعواطفهم سيل الثقافة الأجنبية، ولا يعرفون شيئاً من تاريخ بلادهم. بل من الأسف أن هذه النظرية الاستعمارية الخطرة، ما زالت تمثل في تعليم التاريخ في بلادنا وفي معاهدنا، لأن برامج التعليم الرسمية ما زالت بعيدة عن التحرر من أغلال المؤثرات الأجنبية، بعيدة عن رعاية النواحي القومية.

ولهذا نرى أن نعرض بهذه المناسبة إلى بحث هذه النظرية لنرى حظها من التطبيق على عصور التاريخ المصري. وأول ما يلفت النظر ذلك التصوير الخاطئ الذي يصور به تعاقب العصور والدول على مصر؛ فمصر حسبما تقول النظرية، قد غادرت منذ أيام الفراعنة عهد الحريات القومية إلى الأبد، وتعاقبت عليها الدول الغالبة تباعاً، فافتتحها الفرس، ثم اليونان، ثم الرومان، ثم العرب في سلسلة متصلة من السيادة الأجنبية، وتعاقبت عليها بعد ذلك دول إسلامية أجنبية من الشرق والغرب ودول المماليك المختلفة حتى كان

ص: 10

الفتح التركي، فاستمرت تحت السيادة التركية حتى كان الفتح الفرنسي وظهور محمد علي؛ ولم يطل أمد استقلالها عندئذ، حتى عادت فوقعت في قبضة الإنكليز، واتصلت بذلك حلقات استعبادها الطويل.

وتصوير أدوار التاريخ المصري على هذا النحو تصوير خاطئ من الوجهة العلمية، وتصوير مغرض وضعه الكتاب الغربيون منذ أوائل القرن الماضي - وهم أول من كتب عن تاريخ مصر في العصر الحديث - ومعظمهم متأثر بنزعة الغرب إلى استعمار الشرق، وتبرير هذه النزعة بالعوامل التاريخية والاقتصادية ونشر المدينة الحديثة. وقد كان لدعواهم أثر كبير في معظم ما كتب عن مصر؛ بل لقد تأثر بها الكتاب المصريون أنفسهم، وتأثرت بها دراسة التاريخ في مصر وبرامجه الرسمية؛ وأضحى واجباً علينا أن نحارب هذه النظرية الخطرة في كل مناسبة، وأن نبين خطأها من الناحية العلمية.

لقد توالت على مصر حقاً عصور طويلة من الغلبة والاستعباد، ولكنها تمتعت أيضاً بعصور طويلة من الحرية والاستقلال والسؤدد القومي. وقد قطعت مصر أيام الفراعنة آماداً بعيدة في ظل الحريات القومية والاستقلال المطلق، وكانت سيدة إمبراطورية مصرية تمتد من قلب السودان إلى الشام؛ وكان لها في تلك العصور من القوة والعظمة والمدنية الزاهرة، ما لم تتمتع به أية أمة من الأمم الغابرة. وإذا كانت مصر قد سقطت في عصور الانحلال فريسة النير الأجنبي، واستمرت ترزح نحو الف وخمسمائة عام تحت نير الهكسوس والفرس واليونان والرومان، فقد تمتعت بحرياتها واستقلالها قبل ذلك آلاف السنين.

ويبدو خطأ نظرية الكتاب الغربيين بنوع خاص في الحكم على تاريخ مصر منذ الفتح الإسلامي، فهم لا يكتفون باعتبار هذا الفتح بدء عصر جديد من الاستعباد بالنسبة لمصر، بل يرون أن مصر كانت طوال الدول الإسلامية التي تعاقبت عليها، أمة مسودة خاضعة لنير الحكم الأجنبي، ويعتبرون هذه الدول كلها، دولا غازية سيدة؛ وهو خطأ كبير في فهم الحقائق التاريخية وفي تصويرها. ويجب أن نذكر أولاً أن الأمة المصرية لبثت أيام الفرس واليونان والرومان تحتفظ بطابعها الفرعوني القديم، وأن هذه الدول الغازية لم تستطع أن تجعل من الأمة المصرية المغلوبة وحدة من وحداتها الاجتماعية، وأن كانت مصر قد

ص: 11

تأثرت بلا ريب بنفوذ هذه الدول وحضارتها؛ وعلى هذا فقد كانت مصر في هذه العصور أمة مغلوبة حقاً، ولكن تحتفظ باستقلالها كوحدة اجتماعية. بل لقد استطاعت مصر أن تحتفظ بهذا الاستقلال الاجتماعي، حتى بعد أن أرغمت على اعتناق النصرانية، ولم تندمج قط في الإمبراطورية الرومانية، كما اندمجت أمم وشعوب أخرى. ولكن الأمة المصرية شهدت منذ الفتح الإسلامي تطوراً جوهرياً في تكوينها الاجتماعي؛ فقد استطاع العرب في أقل من قرن أن ينشئوا منها أمة إسلامية، وأن يجعلوا منها وحدة اجتماعية من وحدات الإمبراطورية الإسلامية الكبرى؛

واندمج الغالب والمغلوب في أمة جديدة موحدة تدين بالإسلام وشرائعه، وتتكلم بلغته، وتضطرم بروحه؛ ولم يأت القرن الثالث من الهجرة حتى أضحى التمييز عسيراً بين السلالة العربية النازحة، وبين السلالة المصرية المسلمة. وكانت مصر حتى منتصف القرن الثالث ولاية من ولايات الخلافة؛ ولكنها استطاعت من ذلك الحين أن تنزع إلى الاستقلال في ظل الدولة الإسلامية الكبرى، على يد بعض الحكام والقادة الخارجين على الخلافة؛ وبدأت من ذلك الحين سلسلة الدول الإسلامية المستقلة في مصر.

وهنا تعرض النقطة الجوهرية. هل كانت مصر سيدة أم مسودة في ظل هذه الدول؟ وهل كانت مصر الفاطمية والأيوبية، ومصر في عهد أسر المماليك المختلفة حتى الفتح العثماني، أمة مستقلة أم كانت ترزح تحت النير الأجنبي؟ وجوابنا مصر كانت في تلك العصور أمة مستقلة تتمتع بكامل حرياتها القومية، وكانت أمة سيدة لا مسودة، تسير في ميدان الحرب والسلام من ظفر إلى ظفر. أما هذه الدول الأجنبية المسلمة التي كانت تتبوأ السلطان والحكم، فلم تكن أكثر من أسر نازحة أو مستقرة تبوأت الرياسة لأصولها الملوكية أو لمؤهلاتها الخاصة؛ ولم تكن تتولى هذه الرياسة لحسابها الخاص، وإنما كانت تتولاها لحساب الأمة المصرية، وتعمل باسمها وبتأييدها، فكانت تغدو بعد استقرارها أسراً مصرية خالصة ليس لها مركز للرياسة غير مصر، وليست لها أمة أخرى تمثلها غير مصر؛ وحتى الدولة الفاطمية التي دخلت مصر غازية، لم تشذ بعد استقرارها عن هذه القاعدة، فكانت مصر هي مركز الدولة الفاطمية ومستقرها، وغدت الخلافة الفاطمية مصرية بعد أن كانت مغربية؛ ومنذ الدولة الأيوبية حتى الفتح العثماني تظهر الأسر السلطانية في مصر ذاتها،

ص: 12

بين القادة والأمراء النابهين؛ ولم تكن تلك العروش والأسر التي قادت الأمة المصرية منذ الدولة الفاطمية إلى الظفر في ميادين الحرب، وإلى مراتب العظمة والهناء في ميادين السلام والحضارة، سوى عروش وأسر مصرية أو متمصرة، تعمل جميعاً لمصر وباسمها، ولم تكن تلك الجيوش الباسلة التي لبثت أكثر من قرنين تتلقى ضربات الحملات الصليبية في مصر والشام، وتبث أعمالها وانتصاراتها الروع في أمم الغرب، سوى جيوش مصرية تقودها تلك الأسر التي ارتضتها لزعامتها؛ على أن تلك الأسر الملوكية ذاتها لم تلبت غير بعيد أن فقدت زعامتها السياسية، وأصبحت خاضعة في التعيين والعزل لرأي الأمة المصرية ممثلة في زعامتها الدينية والفكرية؛ وأنه لمن التعسف أن تخرج من حظيرة الأمة المصرية أسراً نبهت فيها، وتولت زعامتها بحكم تراثها الموروث آماداً، وعملت لمصر ولم تعمل لسواها، ولم يبق لها من صبغتها الأجنبية سوى ذكريات المنشأ والماضي.

كانت مصر الإسلامية إذا، مذ تقلص عنها ظل الخلافة، أمة مستقلة، وكانت مصر الإسلامية أمة مستقلة حين غزاها الترك العثمانيين وحطموا بها صرح حضارة إسلامية زاهرة تكدست على مر العصور؛ ولقد كان الفتح العثماني عملاً همجياً، كما كانت فتوح القبائل البربرية لرومة وأقطار الدولة الرومانية؛ ولم يكن عملاً إنشائياً، كما كان الفتح الإسلامي؛ على أن مصر استطاعت في ظل أولئك الوندال أن تسترد غير بعيد كثيراً من مظاهر استقلالها المحلي؛ ولم يأت القرن الثامن عشر حتى أصبحت السيادة العثمانية على مصر سيادة اسمية، كل ما يهم الحكام الترك منها أن يستدروا بعض الموارد والأموال من الشعب المحكوم.

ولا حاجة بنا للقول بأن مصر استردت كامل استقلالها في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وأن كانت قد عادت فانضوت تحت لواء أسرة جديدة.

مما تقدم يبدو تصوير النظرية الغربية لعصور التاريخ المصري بأنها سيادات أجنبية متعاقبة، واستعباد متصل للأمة المصرية، تعسفاً لا يؤيده منطق الحقائق التاريخية؛ ولو طبقناً هذه النظرية الخاطئة على التاريخ القومي لبعض الأمم الأوربية العريقة في الاستقلال والحرية لا نهينا في شأنها إلى مثل ما ينتهي الكتاب الغربيون في شأن مصر. ولنتخذ فرنسا مثلاً، فقد نزحت إليها عقب انهيار الدولة الرومانية قبائل غازية من الشمال،

ص: 13

وأقام بها (الميروفنجية) على يد زعيمهم كلوفيس، منذ القرن السادس مملكة جديدة هي مملكة الفرنج، ولما انحلت أسرة الميروفنجية، قامت بأمر الفرنج الأسرة (الكارلية) القوية، وانتزعت عرش الفرنج، واستمرت في زعامة فرنسا حتى أواخر القرن التاسع، ونبغ فيها أميران من أعظم أمراء النصرانية هما كارل مارتل الذي رد العرب في بلاط الشهداء (سنة 732م) وكارل الأكبر (شارلمان) أعظم ملوك الغرب في عصره؛ وكان الميروفنجية والكارلية كلاهما من القبائل الألمانية الشمالية، فهل نعتبر أن فرنسا كانت في هذه العصور أمة مستعبدة ترزح تحت حكم النير الأجنبي، لأن أسراً أجنبية نزحت إليها، واستقرت بها، وتولت زعامتها، وعملت لحسابها وباسمها؟ وهل نعتبر نابليون (وهو إيطالي الجنس والأصل) فاتحاً لفرنسا مغتصباً لعرشها وزعامتها، ونعتبر أن فرنسا كانت في عصره خاضعة للحكم الأجنبي؟ ونستطيع أن نلاحظ بهذه المناسبة أيضاً أن أدولف هتلر زعيم ألمانيا وسيد مصيرها اليوم، إنما هو أجنبي نمساوي المولد والنشأة؛ ومن المعروف أن الأسرة التي تتولى عرش إنكلترا اليوم، إنما ترجع إلى أصل ألماني، وأن معظم الأسر الملوكية الأوربية ترجع إلى أصول أجنبية، وإذا كانت هذه الأسر اليوم لا تتمتع بمثل ما كنت تتمتع به أسر السلاطين من السلطة المطلقة، فذلك لأن روح العصر قد تطورت، وغاضت روح العصور الوسطى، وانتهت الأمم بأن جعلت من العروش رمزاً قومياً ليس غير.

وإذا كانت مصر قد رزحت تحت نير الحكم الأجنبي في بعض أدوار تاريخها، فهي لم تشذ في ذلك عن معظم الأمم الغربية التي تتمتع اليوم بكامل حريتها واستقلالها، ولنضرب لذلك مثلاً بأمة عظيمة هي إيطاليا، التي لم تتمتع باستقلالها إلا منذ أواخر القرن الماضي، والتي لبثت طوال العصور الوسطى والحديثة مسرحاً لمطامع الدول والعروش الأجنبية، ولم تستقل فيها سوى البندقية وبعض الجمهوريات الصغيرة. ولنضرب مثلاً آخر باليونان، وقد لبثت زهاء ألفي عام ترزح تحت نير الحكم الأجنبي، منذ الرومان فالبنادقة فالترك، ولم تنل حريتها القومية إلا منذ قرن فقط، ولم تنلها إلا بمؤازرة أوربا النصرانية؛ وهناك غير إيطاليا واليونان؛ وهناك هولندا والبلجيك، وهناك بولونيا التي لبثت ثلاثمائة عام ممزقة بين دول ثلاث من جيرانها، وهنالك رومانيا والمجر، وتشيكوسلوفاكيا، فهذه كلها أمم حديثة في

ص: 14

الاستقلال والحريات القومية، ولم يقل إنسان إنها من أجل ذلك تستحق أن يسلب استقلالها وأن تسكن إلى نير المتغلب إلى الأبد. والخلاصة أننا كلما تأملنا هذه النظرية الاستعمارية في تصوير أدوار التاريخ المصري، كلما بدا بطلانها وتعسفها وما يحفزها من الغرض والهوى.

فليستعرض الشباب المصري على تاريخ بلاده، كلما طرقت آذانه هذه النغمة الغادرة. فتاريخ مصر، كتاريخ الأمم العظيمة، حافل بمواطن الفخار والمجد، وعصور الحرية والاستقلال.

محمد عبد الله عنان المحامي

ص: 15

‌جزيرة العرب

صفحة مجيدة من تاريخها القديم

بقلم الأستاذ رزوق عيسى

كلمة عرب وأصل معناها. المكتشفات الحديثة. الكتابات الأثرية. ملكة سبأ والسبئيون. معين والمعينيون. اكتشاف أسماء 32 ملكاً. التجارة القديمة وطرق المواصلات. اللبان والأطياب. المعارف والعلوم في الجاهلية. التقاليد والروايات القديمة. الإله أونيس. الأنباط. وطن الساميين الأول. الحروف الهجائية العربية أقدم من الحروف الفينيقية. شهادة من التواريخ القديمة العهد.

ذهب اللغويون والمؤرخون في معنى كلمة عرب مذاهب متعددة، فمنهم من قال إنهم تسموا باسم جدهم يعرب بن قحطان، وذهب فريق إلى أن العرب مشتقة من (عربا) وهي مفقودة في العربية إلا أنها موجودة في العبرية والآرامية بمعنى البادية والصحراء، ومنهم من زعم أن كلمة (عرباء) وردت في العربية بمعنى خالص في قولهم العرب العرباء أي العرب الخلص، وهم أهل البادية؛ وقال آخرون إن اسم العرب وبلادهم التي تدعى جزيرة العرب مشتق من لفظة (عربة) وهي أرض بتهامة دعيت بذلك أخذاً من يعرب بن قحطان جد العرب الأولين، وفي فلسطين موضع يسمى عربة أيضاً كما جاء مراصد الاطلاع.

والأقرب إلى الصواب أن لفظة عرب مشتقة من (أوربي) الشمرية بمعنى سكان الخيام، فأن كلمة أور - أو - أورو التي أصبحت في عصر البابليين والآشوريين بمعنى مدينة كان يراد بها في عهد الشمريين الخيمة، ثم أطلقت على الدار من باب التوسع. وهذا الاشتقاق ليس ببعيد، لأن العرب من أعرق الشعوب في القدم، وقد عاصروا جميع الأمم المعروفة في التاريخ كالشمريين والآكديين، والبابليين، والكلدان، والآشوريين، والميتانيين، والحثيين، والمصريين، والفرس، واليونان، والرومان. وكانت بلاد العرب تعرف عند الآشوريين باسم أريبي وأهلها أوربي أو أوروبي، ومعناها ديار ساكني الخيام.

جزيرة العرب قديمة جداً، ولا تفوقها في القدم ديار مصر وبابل، وقد جاء في كتاب مصادر البشر لمؤلفه صموئيل لينغ الإنكليزي ما نصه: (عثرنا مؤخراً في أصقاع عربية على أنباء آثار وكتابات ربما ضارعت في قدمها أنباء بلاد مصر والكلدان، فقد كانت بلاد العرب، ولم

ص: 16

تزل، من الأقطار المجهولة الوعرة، ولا سيما في الأزمنة المتأخرة حينما أصبحت مقدسة في نظر أصحابها، ولا يجوز للرواد والرحالين الأجانب أن يطئوا أرضها، قصد الاكتشاف والتنقيب في طلولها الدوارس).

وقد توفق نفر من السياح الأوربيين وعلمائهم إلى التوغل في بلاد العرب، بعد أن خاطروا بحياتهم وقاسوا من المشاق والأهوال ما لا يوصف، بيد أنهم نالوا مبتغاهم أخيراً، واكتشفوا مواقع المدن القديمة، ونسخوا كتابات عديدة وجدوها مطمورة في الأنقاض ومسطورة على الجدران المتداعية. وفي متاحف أوربا ودور كتبها آثار البلاد العربية المنقوشة على الحجر، وعلى ألواح نحاسية، وعددها يبلغ اليوم نحو ثلاثة آلاف عادية. ومن العلماء الذين جاهدوا جهاد الأبطال في الوقوف على مجاهل هذه البلاد الدكتور غلازر فأنه راد الديار العربية الجنوبية ثلاث مرات، ونسخ في خلالها من الصور والكتابات التي عثر عليها في رحلاته 1031 صورة حملها معه إلى مسقط رأسه، وبينها آثار نفسية، ولأكثرها فائدة تاريخية عظيمة، إذ وقفت علماء الآثار على ما كانوا يجهلونه من تاريخ هذه البلاد ومدينتها في جاهليتها.

لقد استفاد الباحثون المدققون فوائد شتى من أنباء تلك الكتابات ومن غيرها أيضاً، حتى تسنى لهم أن يكشفوا النقاب عن أصل السكان القدماء، ويزيلوا الغموض والإبهام عن تاريخهم ويستقصوا أخبار الأمم الغابرة، وما كانت عليه البلاد العربية من الحضارة والتجارة في العصور العريقة في القدم، واليك ما قاله الأستاذ سايس:(إن ماضي تاريخ شبه جزيرة العرب المظلم قد انبثق فجره بغتة فسطعت أشعته وأنارت وجه المسكونة، فقد وجدنا أن البلاد العربية كانت قبل عصر صاحب الشريعة الإسلامية بزمن مديد أرض الثقافة والأدب والحكمة، وكانت موقع ممالك ودول قوية بلغت شأواً بعيداً في تاريخ العالم القديم، وانتشرت في ربوعها تجارة واسعة) إلى آخر ذلك المقال البديع.

إن زيارة ملكة سبأ أورشليم ومثولها بين يدي سليمان ملك إسرائيل تعد من اللمع الأولى الواردة في الأخبار القديمة، وقد جاء ذكرها في سفر الملوك من التوراة، وكانت تلك الملكة العربية، ويظهر أنها قدمت من ديار كانت لها حضارة عريقة في القدم، ولها سطوة عظيمة بين الأمم، والهدايا التي قدمتها إلى سليمانتدل على أنها جلبت من حاصلات قطر اشتهر

ص: 17

بلبانه وأطايبه، وهذا القطر واقع في جنوب بلاد العرب، وقد عرف باسم سبأ أو شبأ في تاريخ العالم القديم.

انتشرت تجارة هذه المملكة القديمة العهد في أقطار العالم، امتدت إلى بلاد الحبشة والصومال حتى ساحل أفريقيا الشرقي، والكتابات الآشورية تؤكد ذلك، فقد ورد فيها أن سبأ كانت مملكة عظيمة في القرن الثامن قبل الميلاد، وكانت تخومها تحاد تخوم مملكة نينوى من جهة الشمال في عصر (ثغلث فلاسر) وسرجون الثالث، فيستفاد من هذا النبأ وغيره أن بلاد العرب كانت مملكة قديمة جداً، وقد تدرج الحكم فيها من الملوك الكهنة وحكومات المدن المستقلة ودويلات وإمارات إلى اتحاد مملكة عظيمة واسعة الأطراف فسيحة الأرجاء كالتطور السياسي الذي نشأ في مصر وفي بلاد الكلدان. وكان الملوك الكهنة يعرفون باسم (مكارب) كما جاء في بعض الآثار، وواحدهم (مكرب) ويراد به رئيس كهنة السبئيين. وتدل هذه الكلمة على أن الحكم الأول كان عبارة عن دولة تحت رياسة الله (طقراسيه)، هذا ولفظة سبأ اسم آله أطلق على بقعة في بلاد عربية، كما أطلقت كلمة أشور على صقع في بين النهرين وتفيد معنى الآله.

ورد في بعض العاديات أن مملكة سبأ القديمة تأسست على أنقاض دولة أقدم منها عهداً نشأت في هذا الاقليم وعرفت باسم معين، فقد عثر الباحثون المنقبون على أسماء 32 ملكاً من السبئيين والمعينيين، وهذا عدد كبير لا يستهان به، بالنسبة إلى قلة المكتشفات الأثرية في تلك الأصقاع. وجاء في بعض الكتابات أن سلطة بعض الملوك المعينيين لم تكن محصورة في المنطقة الجنوبية بل منتشرة في كل بلاد العرب حتى تخوم سورية ومصر؛ ويؤيد ذلك كل التأييد عثور المنقبين على ثلاثة أسماء من أولئك الملوك في أطلال تيماء الوارد ذكرها في العهد القديم من التوراة في الطريق المؤيدة إلى بلاد الشام وسيناء. وفي البلاد العربية الجنوبية وجدت صحيفة نذر جاء فيها أن أصحابها يشكرون الآله (اطار) على نجاتهم من الحرب الناشبة بين حاكم الجنوب وبين حاكم الشمال، وخلاصهم من القتال الواقع بين مظة ومصر، ويحمدون الآله على عودتهم سالمين إلى مسقط رأسهم مدينة قوران؛ وأصحاب هذه الكتابة يصرحون بأنهم كانوا تابعين لملك معين المدعو (رابي - يدعى - ياثي) وهو أحد حكام بلاد تسار وأشور ووراء ضفة النهر.

ص: 18

لقد ورد اسم تسار مراراً عديدة في الآثار المصرية كحصن قائم في جهة الحدود العربية، وموقعه يمثل اليوم طرفاً من قناة السويس. هذا وكتابة أخرى تشير إلى غزة، ويظهر من مضمونها أن سلطة الحكام المعينيين امتدت إلى أردم فبلغت فلسطين وما جاورها من البقاع، والقبائل القاطنة فيها خضعت لسلطانهم. وقد أسست المعاقل في البراري والقفار للمحافظة على طرق المواصلات، وأنشئت المدن العظيمة في تلك الأصقاع النائية لتوسيع نطاق التجارة والعمران منذ القدم، لأن سيل التجارة بين الشرق والغرب كان متدفقاً بعضه يجري بطريق البحر الأحمر وبطريق خليج فارس، ومن أطراف هذه المياه الشرقية ينتقل إلى البحر المتوسط، وبعضه يسير في طريق القوافل مجتازاً آسيا.

وكان الاستيلاء على أحدها هذه الطرق يعد طريقة ناجحة في ترويج التجارة وباباً للمواصلات مع ممالك عديدة، فان سليمان ملك إسرائيل لما عقد معاهدة مع مدينة صور أخذت تجارة مملكته تنتشر انتشاراً مطرداً حتى بلغت شأناً عظيماً، ونالت شهرة واسعة، فقصدها التجار الأجانب من كل فج وناحية، والحروب التي وقعت بين المصريين والآشوريين والحثيين والعيلاميين والبابليين كان منشؤها السيطرة على طرق المواصلات، ليتسنى للدولة القابضة على أزمة تلك المسالك أن تروج تجارة بلادها أولاً ثم تفرض الضريبة على البضائع والأموال التي تمر في أراضيها، وبهذه الوسيلة يزداد إيرادها وتقوى شوكتها.

كان للبلاد العربية موقع تجاري مهم، وكانت مركز اتصال بين الشرق والغرب تحميه الصحاري الرملية الوعرة من هجوم الأعداء وتوغلهم في قلب الجزيرة، وتكتنفه البحور فتدفع عنه غارات الدول؛ وكان للأصقاع الجنوبية تجارة واسعة وشهرة عظيمة، فان اللبان والأطايب كانت تصدر بمقادير كبيرة تنفق في أسواق العالم المعروف في ذلك الزمن القديم، وكانت توقد في الهياكل والمذابح والمعابد في قصور الملوك والأمراء وفي دور الأغنياء، ولم يمكن الاستغناء عنها بوجه من الوجوه، لأنها كانت مفروضة في الديانات القديمة كالقرابين والذبائح. فإذا تناولنا مثلاً هيكل سليمان نجد أن فيه كانت تقرب الذبائح ويوقد البخور لتستعطف (يهوه) رب الجنود، ومثل ذلك كان يجري في ألوف من الهياكل والمعابد المنبثة في أطراف آسيا، وكان يجلب معظم اللبان والأطياب المستهلكة في الأماكن

ص: 19

المقدسة من بلاد العرب.

وقد ذهب الكاتب المحقق صموئيل لينغ أن سبب رواج تجارة اللبان والأطياب في الشرق كان لتعطير هواء الهياكل والمذابح والمعابد حيث يكثر فيها ذبح الذبائح وإهراق دماء الكبوش والعجول وتنتشر في أطرافها غازات فينتن المكان ويفسد الهواء؛ ومما لا ريب فيه أن أحسن اللبان وأنفسه كان يجلب من بلاد العرب. وقد عثر أحد المنقبين على صفيحة جاء فيها (إن الروائح العطرية والأطياب السبئية يفوح شذا عبيرها في السواحل العربية الميمونة).

أن للمكتشفات الأثرية في بلاد العرب فوائد جمة لأنها وقفت طائفة من العلماء البارزين على كثير من أنباء هذه الأمصار وعادات أهلها وأسباب اتساع التجارة التي كانوا يتعاطونها مع الديار الدانية والقاصية. وقد أرشدتنا كتابات العاديات إلى أن بلاد العرب عريقة في القدم، ومن ربوعها نزح طوائف من الناس ومصروا دياراً أخر. وكان للبلاد العربية حضارة وعلم وأدب، ولكتابها حروف هجاء خاصة بهم، وأسلوب كتاباتهم يرتقي إلى عهد الكتابة المصرية القديمة وإلى الخط المسماري؛ وقد سبقت بأزمنة طويلة أقدم صور الكتابات بالحروف الفينيقية. وفي عام 1810 اكتشف سيتزن أول كتابة عربية فنسخها ونظمها وصفها حسب الحروف الحميرية المنسوبة إلى حمير. وقد قال العلماء إن لغة تلك الكتابة كانت سامية، وحروف هجائها تماثل الحروف الحبشية، ويظهر أنها معدلة على الحروف الفينيقية وهي مكتوبة بصورة عمودية بدلاً من الأفقية.

وقد أدت مكتشفات وأبحاث الدكتور غلازر إلى أن الكتابة الحميرية قائمة على نوعين أو مجموعتين من الكتابة: فالأولى كانت أقدم من الثانية، وتتضمن حركات أصلية وصور وأشكالاً نحوية وقد عهدها المستشرقون كتابة معينية، بينما قالوا عن الكتابة الثانية إنها سبئية، لأن لهجتها وصورة كتابتها تدل على أنها أحدث عهداً من شقيقتها. وظهر ظهوراً بيناً أن قواعد الصرف والنحو وأنواع العلوم والآداب العلمية المعينية سبقت آداب وعلوم السبئيين بزمن وافٍ بحيث أصبحت الأخيرة قابلة لتغيرات عديدة طرأت على مفردات لهجتها ومحصت صرفها ونحوها من الشوائب والزوائد، وليس في هذا التبدل العجيب يد أجنبية فعلت فعلها الأدبي في فتوحها هذه البلاد، بل يرى جمهور المحققين أن القبائل

ص: 20

العربية تطورت أحوالها بجهودها وانتقلت من منزلة إلى أخرى بفعل تدرج عناصرها في سلم النشوء والارتقاء حسب سنة الطبيعة.

أن مملكة السبئيين يرجع عهد تاريخ حضارتها إلى عصر سليمان ملك إسرائيل، أي قبل الميلاد بألف سنة؛ وقد كانت موجودة قبل هذا الزمن بقرون عديدة، لأن جدول أسماء أثنين وثلاثين ملكاً من المعينيين والسبئيين يدل دلالة واضحة على رسوخ قدم هذه الديار في الحضارة والعمران. ومن المرجح أن المكتشفات المقبلة ستقف أبناء هذا العصر على كثير من الأمور التي كان يجهلها أسلافهم. نعم أن أقدم الكتابات المكتشفة تشير إلى حضارة وتجارة وعلم وأدب بزغت أنوارها في ديار قيدار وسالع قبل عهد التاريخ، وعليه قال أحد الأثريين: يجب أن تصف بلاد العرب في مصاف ديار مصر والكلدان لأنها إحدى الممالك القديمة التي ظهر فيها جماعات من القبائل أبلغوها إلى ذروة الحضارة والسؤدد منذ العصور المتوغلة في القدم، وقد نطقت بعض العاديات شهادة صادقة، وهي أن جنوب بلاد العرب يرتقي عهد مدنيته إلى عصر سرجون وإلى منيس.

تشير روايات قديمة وتنبئ أسانيد أثرية عند بلاد العرب الجنوبية أو عن البلاد المتصلة بساحل أفريقية من جهة الشمال الشرقي بأنها كانت مصدر الحضارات الأخرى، فقد جاء في أساطير البابليين أن الآله (أونيس) وهو إله الثقافة عندهم كان يخرج من الخليج الأرثري أي خليج فارس ويهذب الكلدان القدماء، وهو أول من علمهم العلوم ولقنهم الفنون وشهد قدماء الفينيقيين، وقالوا أن منشأهم كان من جزر البحرين الواقعة في الخليج المشار إليه. هذا والمصريون كانوا ينظرون إلى البنط بكل احترام، ويجلون قدرهم ويرفعون منزلتهم فوق الأمم الأخرى. ومن المؤكد الثابت أن موقع هذه الديار كان يمثل بلاد العرب السعيدة وأرض السومال. وقد ذهب أهل مصر في ذلك العهد إلى أن مصدر ثقافتهم وينبوع آدابهم ومعارفهم ومدنيتهم لم يكن في مصر العليا والسفلى بل في مصر الوسطى في أبيدوس حيث حكم توت وأوزيريس، وهناك مضيق يفصل النيل عن البحر الأحمر، وهذه الشقة الضيقة من الأرض كانت من أهم وأعظم طرق المواصلات التجارية بين البلاد العربية ومصر.

كانت أواصر الألفة والاتحاد متينة بين المصريين والبنطيين منذ الأزمنة القديمة، وهذه

ص: 21

قضية تؤيدها الكتابات المصرية القديمة العهد، فان ما دون في بطون الأسفار عن حسن الجوار بين هاتين المملكتين يخالف ما جاء مسطوراً على الحجر من عبارات النفور والكراهية الموجهة إلى سائر الأمم المجاورة لمصر كالحيثيين والليبيين والزنوج وغيرهم؛ فأن المصريين كانوا يلقبونهم بالبرابرة، والوحوش الضارية، والأوغاد والأنذال، وهذه شهادة ناطقة ثبت ما كان للعرب القدماء من الشهامة وعزت النفس وإغاثة الملهوفين.

وقد جاء منقوراً في بعض الآثار أن طائفة من السفن التجارية أبحرت إلى ديار البنط في عصر الملكة العظيمة (هتسو) وهي إحدى ملكات الدولة التاسعة عشرة، وكانت الغاية من تلك السفرة مبادلة البضائع بين القطرين دلالة على الولاء والصفاء. وعادت تلك السفن إلى مصر مشحونة بالسلع النفيسة، حتى أن ملك تلك الديار وزوجه رافقا ذلك الأسطول التجاري، وحملا معهما هدايا لا نظير لها إلى فرعون مصر. ويظهر أن محالفة تجارية كانت معقودة بين البلادين، وأن سفن هاتين الدولتين تمخر في البحر الأحمر وفي سواحل أفريقية منذ القدم.

أن رسوم رؤساء البنط الطبيعية المنقورة على الأنصاب المصرية تشبه كل الشبه الرسوم الطبقة المالكة في ديار مصر في عصورها الأولى، وجميع الأدلة تحملنا على الاعتقاد أن وطن الساميين الأول كان في الجنوب الغربي من آسيا. وقد ذهب جماعة من المؤرخين إلى أن جزيرة العرب كانت مهد الأقوام السامية قبل عصر التاريخ، فأن الباحث يرى أثارهم ظاهرة في كل صقع كشعب مهاجر أو فاتح أو غاز سكان بلاد أخرى أقدم منهم عهداً ويختلفون عنهم في اللسان والعادات والعنصر؛ غير أن الأمر لم يكن كذلك في بلاد العرب، فأن أهاليها كانوا أصليين فيها. فإذا أخذنا مثلاً ديار الكلدان والآشوريين نراها تمثل أقواماً وشعوباً وأمماً جاء عنهم في الأسانيد القديمة وفي الروايات المأثورة أنهم كانوا قد وفدوا على بين النهرين من الجنوب عن طريق خليج فارس، وعلى طريق بادية الشام من بلاد العرب، فأخذ هؤلاء النازحون شيئاً فشيئاً يتحدون بالشعب الشمري والأكدي بالمصاهرة؛ وبعد مرور أجيال عديدة تغلب العنصر السامي العربي على سائر العناصر، وأصبح سيد هذه الديار، وأسس حضارة جديدة في عصر

حمورابي ملك بابل العظيم الممدود أول من جمع وسن الشرائع في العالم القديم. بيد أن

ص: 22

العنصر السامي لم يؤثر في حضارة المصريين القدماء، لأن الساميين لم يحتلوا بلادهم احتلالاً طويلاً، بل كانوا يحملون عليهم حملات متواصلة؛ وقبل أن ترسخ أقدامهم في تلك الربوع كانوا يردون على أعقابهم مدحورين. أما في سورية وفلسطين فكان الفينيقيون والكنعانيون والعبريون، وهؤلاء الأقوام لم يكونوا بالسكان الأولين، لأنهم حينما احتلوا هذه البقاع وجدوا فيها عناصر أخرى كل كالأموريين والحيثيين واليبوسيين، وأصل هذه الشعوب يرجع إلى السكان الأصليين المنتمين إلى طائفة من القبائل المنقرضة المعروفة في التاريخ القديم باسم زاموميم، ومن هؤلاء من وفد إلى هذه الديار من خليج فارس ومنهم من تخوم بلاد العرب. يجد المنقب في بلاد العرب العنصر السامي سائداً منذ الأزمنة القديمة، ولا يجد له أثراً في صقع آخر في ذلك العهد العهيد، فقد انتشرت لغته وسارت عاداته وعمت الديار المجاورة لبلاده، ثم تدرجت حضارته السابقة لمملكة المعينيين العريقة في القدم وذلك في أواخر العصر الحجري وأوائل عصر النحاس. وهنا يشاهد الباحث العصريين مشتبكين متلازمين؛ فقد أنتقل القناصون والسماكون من عصر الانحطاط إلى عصر التجدد، فبلغوا مستوى ثقافة حديثة وحياة اجتماعية عالية، إذ أصبحوا فلاحين وزارعين ورعاة غنم وتجاراً وصناعاً.

لنرجع من تلك الحضارة القديمة ولنعد النظر في اكتشاف الكتابة المعينية التي تدلنا على وجود حروف هجائية أقدم عهداً من الحروف الفينيقية التي اشتهرت في العالم القيم بأنها الحروف الأولى التي استنبطت لغاية تدوين الأفكار وصيانتها من الاندثار والطموس. وقد أجمع أهل التحقيق والتدقيق على أن حروف الهجاء اليونانية والرومانية وسائر حروف هجاء الأمم الحديثة مقتبسة كلها أما رأساً أو بوسيلة من الوسائل من مخترعيها الفينيقيين، غير أن كتابة المعينيين كشفت اللثام عن صور كتابة أقدم عهداً من جميع الكتابات التي ظهرت وانتشرت في ذلك الحين، ومن ثم فقد ذهب بعض العلماء الواقفين على أصل اللغة وتركيبها وتاريخها إلى أن الحروف الفينيقية مشتقة من الحروف المعينية.

لا شك في أن اللغة المعينية وحروفها أقدم عهداً بكثير من لغة الساميين وكتاباتهم، ومن المحتمل أن العناصر السامية اختارت تلك الحروف بعد أن عدلتها وهذبتها حسب طبيعتها وميلها. وكان للمقتبسين علاقات تجارية ومواصلات بريدية مستمرة تحمل على ظهور

ص: 23

الجمال فتخترق القوافل صحاري بلاد العرب وتعود حاملة لبانها وطيوبها وأفاويهها وآدابها ومعارفها، ولا يعقل أن تلك الأقوام استمرت جاهلة استعمال حروف الهجاء حتى اقتبستها فينيقية من مصر ونشرتها في أطراف المعمور. وقد أيد الأستاذ سايس هذا الرأي بقوله (أنه إذا ذهبنا إلى أن مصدر الحروف ومنشأها كان في بلاد العرب يكون أحسن حل لهذه المعضلة) لأن أسماء صور الحروف الفينيقية ليس فيها أدنى شبه في كثير من الأحوال للرموز والإشارات التي تدل عليها، فأن تناولنا - مثلاً - الحرف الأول وهو ألف (ثور) فأن رسم الألف يشابه كل المشابهة رأس ذلك الحيوان في الكتابة المعينيية، هذا وإن أمعنا النظر في الحروف الهيروغليفية وهي الحروف المصرية القديمة فلا نجد شبهاً لذلك الحرف.

أن المكتشفات واللقي المقبلة في بلاد العرب ستوقفنا على أنباء الشعوب التي سكنت تلك الأصقاع ومصرتها قبل عصر التاريخ، فقد كانت بلاد الكنعانيين متحضرة قبل حملة الإسرائيليين عليها وتدويخها، وكان لهم حروف هجاء وآداب خاصة بهم تعد أقدم عهداً من الكتابة الفينيقية وآدابها. وهذا التنقيب في ديار العرب وفلسطين سيكشف النقاب عن وقائع وأنباء لا تزال مطمورة في أنقاض المدن القديمة التي تضارع بل ربما تفوق في قدمها بلاد مصر والكلدان، وهي تنتظر بفروغ صبر معاول المنقبين لتنبشها من مدافنها وتنشرها في عالم الظهور لكي ترى نور الشمس الساطعة، بعد أن احتجبت عنها قروناً عديدة.

بغداد

رزوق عيسى

ص: 24

‌عقوبة الإعدام

رأي الفريد روكو وزير حقانية إيطاليا

للأستاذ محمود خيرت

في سنة 1851 ساق بعض الحراس الفرنسيين شاباً في العقد الثالث من عمره إلى المقصلة تنفيذاً للحكم الصادر عليه. وما كاد يقترب منها وتقع عليها عيناه حتى اضطرب وجن، فوقف وكأنه تسمر في الأرض، وأخذ الحراس يدفعونه إليها دفعاً، وهو يقاومهم مقاومة الجبار اليائس، وكان وافر الجسم مفتول الساعدين قوي العضلات.

وكان الناس من حولهم ينظرون إلى هذا الصراع بين قوتين غير متعادلتين تريد إحداهما للأخرى الموت، وتريد هذه لنفسها الحياة. حتى إذا مضت على ذلك نحو ساعة والحراس كلما تقدموا به نحو المقصلة خطوة رجع هو بهم إلى الوراء خطوتين، خارت قواهم ولم يجدوا خيراً من أن يعودوا أدراجهم به، والناس يظنون أن الأمر وقف عند هذا الحد، وكأن كابوساً أرتفع عن صدورهم بعد ما رأوه من هول الموقف، وما كان إلا صراعاً عنيفاً بين حياة وموت. ولكن الجنود عادوا به في المساء بعد أن ضاعفوا عددهم، وبعد أن أحكموا وثاقه حيث نفذوا الحكم فيه. وكان من بين من حضروا هذا المشهد المثير شارل هوجو، وكان من أنصار إلغاء عقوبة الإعدام، فوصف ما رآه وأفاض في شناعته في جريدة الحادث ولكن النائب العام وجه إليه هو ومدير الجريدة تهمة تعمد احتقار القانون.

أما شارل فقد كان الذي تولى الدفاع عنه أبوه فكتور هوجو الكاتب الكبير، وإذا ذكرنا فكتور هوجو فقد ذكرنا قوة الجنان، وسحر البيان، وذلاقة اللسان، ولا سيما أنه إنما كان يدافع عن ولده وفلذة كبده، حتى أنه قال في بعض ما تناول دفاعه:(أنا المجرم دون ولدي، لأني أنا الذي وقفته هذا الموقف، وكنت من خمس وعشرين سنة لا آلو جهداً في محاربة عقوبة الإعدام. وقد عز علي أن لا أكون نصيراً للحياة البشرية أطلب احترامها والإبقاء عليها، منادياً ذلك في كل وقت وعند كل مقام بأعلى صوتي وبملء فمي، لأن عقوبة الإعدام بقية من بقايا الدم بالدم شريعة الوحشية الأولى).

وقد كان هناك غير فكتور هوجو كثيرون من أنصار هذه العقيدة، وأكبر حججهم في شناعة هذه العقوبة إن إعدام المجرمين فوق أنه مناف لقواعد الرحمة، وأن العقوبة يجب أن

ص: 25

يراعي فيها الإصلاح لا الانتقام، فان منظره يقسي قلوب الناس، ويبذر فيها بذور الغلظة والتوحش. ولكن كيف نسى هؤلاء المفكرون أن الثورة الفرنسية نفسها التي قررت حقوق الإنسان، والتي يشيد بذكرها فكتور هوجو وغيره لم تقم إلا على الدم، وكيف يريدون أن تشمل السفاكين رحمة القانون وقد وطئوا بأقدامهم هذه الرحمة وهم يقتلون. ألا أن شريعة الدم بالدم، لم تكن أثراً من آثار الوحشية الأولى، وإنما كانت سبباً شريفاً من أسباب العدل، وأثراً محموداً من آثار الرحمة لا بالمجرمين ولكن بالناس أجمعين. إن طبيعة الحياة نفسها تقضي ببتر العضو الفاسد من الجسد حتى لا يتعدى فساده إليه، فكيف نقبل هذا في الجسم الواحد ولا نقبله في جسم المجتمع كله، بل أن قواعد الفهم تربأ بنا أن نسلم إفلات المجرم من حكم القانون لا يشجعه على السير في شروره وقد استمر أطعم العدوان وأمن غوائل العقوبة.

وعلى كل حال فأن عقوبة الإعدام برغم محاولة هؤلاء الأنصار لا تزال قائمة، مع أنها أبطلت في فرنسا مرة، وفي إيطاليا بعدها مرة أخرى. (ومن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم. . . ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب). ومع ذلك فهذا رأي المسيو الأفريد روكو بصدد هذا البحث، وحسبنا أنه من أئمة التشريع في إيطاليا، وهو وزير حقانيتها قال: (لما أن كانت إيطاليا من أندر الدول التي ألغيت عقوبة الإعدام سألني كثيرون عما إذا كان إلغاؤها عاد بالفائدة على مجتمعنا؟ وقبل أن أخوض في الرد على السائلين أسجل هذا الحادث الغريب، وهو أننا أخذنا هذا التشريع عن الفرنسيين برغم أنهم بعد أن جربوه عدلوا عنه للنتائج الخطيرة التي ترتبت عليه. أخذناه عنهم على سبيل التجربة نحن أيضاً، وكان ذلك في عهد لم يكن يخطر ببالنا قيام نظام الفاشستية فيما بعد، وعلى كل حال فأن هذا الإصلاح الذي فكر الشارع الإيطالي في إدخاله على قوانيننا الجنائية لم يجرنا إلى الفشل الذي أصاب جيراننا من إدخاله على قوانينهم.

ولكن يلاحظ أن هبوط نسبة الجرائم بعد هذا التعديل لا يمكن في الواقع إرجاعه إلى مجرد إلغاء هذه العقوبة ونحن نرى انخفاضها في كثير من البلدان التي جرت قوانينها على إعدام القتلة. على أننا مع ذلك غير آسفين لسن تشريع كهذا هو مما لا شك فيه اتجاه محمود نحو الرفق بالإنسانية. بل أن أنصاره عندنا لم يحذوا حذو روبسبيير الذي أرسل كما نعلم آلاف

ص: 26

الأبرياء إلى المقصلة، وهو الذي كان يشيد بذكره ويعتبر بقاء عقوبة الإعدام ضرباً من ضروب الوحشية.

وقد دل إحصاء عدد الجرائم التي كانت تستوجب هذه العقوبة بعد الحرب الكبرى على اطراد في هبوط النسبة التي أشرنا إليها، فأن عدد حوادث القتل من سنة 1919 إلى 1920 ينيف إلى ستة آلاف حادثة، ولكن هذا العدد هبط في السنة الأخيرة إلى أكثر بقليل من ألفين، إلا أن جزءاً كبيراً من هذا العدد الأخير يتعلق بالجرائم التي لا يمكن لأية عقوبة مهما كانت من الشدة أن تحول دون وقوعها كالجرائم التي أساسها الشهوات الثائرة وما يترتب عليها كما يسميها الفرنسيون، لأنها بطبيعتها لا مناص من وقوعها؛ فالرجال والنساء إذا لدغتهم الغيرة أو خدعوا في حب وجدوا كل شيء تقع عيونهم عليه مصبوغاً بالدم، فلا يلبثون أن يندفعوا إلى الأثم مهما وقفت بينه وبينهم كل عقوبات الدنيا، حتى أن محلّفي محاكم البلدان اللاتينية أصبحوا على اعتقاد ثابت بأن هذه الجرائم لا يمكن تجنبها؛ ولذلك فهم يقضون في الغالب لبراءة من يساقون إلى ارتكابها. على أنني كنت أميل إلى هذا الاتجاه - لأن هذه الجرائم لا تخلو دائماً من ظروف مخففة تحيط بها - إلا أنني أرى أن تعليل هذه الأحكام دائماً باضطراب الحواس عند ارتكابها فيه كثير من التطرف. ذلك لأن لكل عقوبة بشرية دائماً وجهين يجب ملاحظتها فإذا ما نظرنا إلى الجريمة من حيث الفرد الذي أقدم عليها في ذاته كان ما ذهب إليه لمبروزو من عدم قيام المسؤولية الجنائية بسبب ما يحيط به مقبولاً، لأنه وإن كان حراً فيما فعل إلا أنه ما كان في مقدوره أن يفلت من تأثير الأسباب الباطنة الراسخة فيه. وفي هذا الموقف يجب اعتبار العقوبة كوسيلة من وسائل إصلاحه لا كعقوبة يراعى أن يتساوى أثرها مع أثر الجرم الذي أقدم عليه. وفي الواقع كيف يسوغ لك أن تعدم شخصاً كان في جرم تحت سلطان قانون الوراثة، أو تأثير البيئة، أو كانت نفسه فقيرة من أسباب التهذيب والتربية، بغير أن تكون قاسياً عليه بعيداً عن إنصافه؟

أما إذا اعتبرناه عضواً في جسم المجتمع الذي يعيش فيه، فمؤاخذته على هذا الاعتبار يجب أن يكون لها صفة العقوبة التي يستحقها وأن كانت صارمة.

وإذا سألتني الآن رأيي في ضرورة عقوبة الإعدام، أجبتك بأنها يمكن أن تكون كذلك في

ص: 27

أغلب الأحوال. بل إنني لأعلم أن كثيراً من الجرائم الوحشية التي تستحق الإعدام كان يمكن ألا تقع لو أن هذه العقوبة الشديدة قائمة كالجرائم التي تقع من الفوضويين.

وقد ذكرني هذا البحث بحادثة ضمنها القصصي الفرنسي جول فيرن في أحد كتبه تتلخص في أن بعض المهاجرين كادوا يغرقون على مقربة من إحدى جزر المحيط الهادي، ولم يكن على ظهرها غير فيلسوف فوضوي نفر من العالم وفر منه إليها. فلما أقبلوا عليه أكرمهم ودعاهم إلى اعتناق مذهبه. ولكن أسباب الحياة تغيرت بعد قليل ودب الخلاف فيما بينهم، فلم ير لنشر السلام بينهم إلا أن يفرض عليهم إرادته فرضاً فكان مثله فيهم كمثل الحاكم المستبد (ديكتاتور). وهذه الغاية لا تبعد عن نظريتي في العقوبة كثيراً، فالأحكام التي يقررها قانوننا الجنائي أشبه بهذا الحاكم، بغيرها لا يكون هناك أمن على الحياة، وإنما تكون الفوضى. .)

محمود خيرت

بقلم قضايا المالية

ص: 28

‌مقتل شاعر

للأستاذ علي الطنطاوي

أفاق (هُدْبَة بن خَشْرَمَ) وما يدري أصبح أم مساء، وما يعلم من أمر الحياة شيئاً. . ولقد غبر عليه سبعة أعوام ما رأى فيها وضح النهار، ولا اجتلى صفحة السماء. كأنما هو نصف حي، وكأن حياته (مختصر حياة). . فالسنوات السبع بنعيمها وبؤسها، وليلها ونهارها، ليلة واحدة، طالت وامتدت، ثم لا يكون صبحها إلا الموت. . والدنيا على ربحها وسعتها، وجمالها وجلالها، غرفة ضيقة فيها أكثر معاني القبر. . . وما بعدها إلا القبر!

ونظر يميناً، ونظر شمالاً، وجعل ينفض المكان بعينه، فلا يبصر إلا الظلام، وحاول النهوض فجذبته إلى الأرض سلاسل غليظة، شدوه بها إلى حلقةٍ متينة. . .

سمع صَلصَلة الحديد في عنقه ويديه، فعاد إلى نفسه يذكر ما كان من أمره، ويستعيد قصته كلها، ويرى كيف. . . دخلت عليه أخته فاطمة، وبيدها المِجْمَر، فقال لها:

- ويحك ما هذا؟

- هذا لك! قم أستجمر، إنما أنت من النساء

- وما ذاك لا أمّ لك؟

- فقالت: أنت قابع في كسر الخيمة كما تقبع العجوز، وهذا زيادة يتغزل في أختك، ويرسل فيها الشعر يفضحها به في العرب

- ماذا؟ زيادة؟

- زيادة! نعم. زيادة يهتك نسائك، ويفري عرضك. . .

فوثب هُدبة يقول: زيادة يهتك نسائي ويفري عرضي؟. . والله لأجأنَّه بهذا السيف. فقامت إليه تعنفه وتلومه:

- والله ما علمت أنكمجنون إلا الساعة! أتعمد إلى ابن عمك فتقتله، فتحقق ما قاله فيّ، وتنصرف بسبّة الدهر؟ قلْ في أخته (أم قاسم) مثل ما قال الخبيث في أختك، فإذا بدأك بالشر، جزيته به شراً

- إذاً لأجعلنها والله أحدوثة الأبد

- شأنك بها يومئذ. . .

ص: 29

وكان ما ظنت فاطمة قبيّت زيادة هدبه وأهل بيته، وهم عنه غافلون، فضرب هدبه على ساعده، وشج أباه خرشماً. وانصرف يقول:

شججنا خرشماً في الرأس عشراً

ووقفنا هديبةً إذ أتانا

فثارت ثائرة هدبة، فتقلد سيفه وأنصرف لا يلوى على شيء، حتى وجد زيادة فجلله به فقتله. ولما سكت عنه الغضب، ورأى انه قتل رجلاً مسلماً ندم وجعل يلوم نفسه ويقرعها:

- ويل لي! ماذا صنعت اعتمدت إلى أبن عمي فقتلته، ومن قتل نفساً مؤمنة فكأنما قتل الناس جميعاً. فعلتها من أجل هفوة لا تقدم ولا تؤخر: يا نفسُ ما أضلك وأشقاك! ألم يردعك دين؟ ألم يحجزك إيمان؟ ألم تُنَهْنِه من عزمك جهنم؟ ماذا تقولين لربك غداً؟ وانطلق يقول لها هذا وشبهه حتى طلع الفجر. . .

وكان الغد، فإذا عبد الرحمن (أخو زيادة) عند أمير المدينة سعيد بن العاص يشكو إليه قتل أخيه. وأحضر سعيد هُدبَة، فلم ينكر ولم يكذب. . . وكره سعيد أن يقتل هدبة، وهو الشاعر المتقدم، لسان بادية الحجاز، وهو أخو ثلاثة كلهم شاعر: حوط وسيحان والواسع. . . وهو الفارس الكريم المحبوب. . ولم يكن يستطيع أن يعفو أو يغير حكم الله. فبعث بهما سعيد إلى (معاوية)

وكان معاوية ظنيناً بهذا الشاعر أن يعرضه على القتل، ولكن حكم الله فوق هوى أمير المؤمنين. . . فلما مثلا بين يديه، قال عبد الرحمن:

- أشكو إليك يا أمير المؤمنين مظلمتي، وقتلي أخي، وترويع نسوتي!

فقال معاوية:

- يا هُدبَة! قُلْ

- فقال هدبة (مرتجلاً):

ألا يا لقومي للنوائب والدهر

وللمرء يردي نفسه وهو لا يدري

وللأرض كم من صالح قد

تلمأت عليه فوارته بلماعة قفر

فلا تتقي ذا هيبة لجلاله

ولا ذا ضياع هن يتركن للفقر

حتى قال:

رُمينا فرامينا فصادف رمينا

منايا رجال في كتاب وفي قدر

ص: 30

فلما رأينا إنما هي ضربة من

السيف أو إغضاء عين على وتر

عمدنا إلى أمر لا يعير والدي

خزايته ولا يُسب به قبري

وأنت أمير المؤمنين فما لنا

ورائك من معدى ولا عنك من قصر

فان تك من أموالنا لم نضق

بها ذراعاً، وإن صبر فنصبر للصبر

فقال معاوية:

- أراك أقررت بقتلك صاحبهم

وكره أن يقتله، وما كان له أن يعفو، ففكر ثم قال لعبد الرحمن:

- هل لزيادة ولد؟

- قال: نعم، المسور، وهو غلام صغير لم يبلغ، وأنا عمه وولي دم أبيه

- قال: أنك لا تؤمَنُ على أخذ الدية أو قتل الرجل بغير حق. والمسوّر أحق بدم أبيه، فليرد هدبة إلى المدينة، فليجلس بها حتى يرشد المسور فيكون له حكمه في القاتل

وتنبه هُدْبة وسمع مرة ثانية صَلصَلة الحديد، وأحس بدنو الساعة التي يقف فيها على شفير الهاوية فأما إلى الموت، وإما إلى حياة. فجزع واضطرب، ثم أدركه من نعمة الإيمان ما يدرك كل مؤمن حاق به الخطر، فسكن وأطمئن، وراح يهدئ نفسه ويسكنها. . . ويقول:

عسى الكرب الذي أمسيت

فيه يكون وراءه فرج قريب

فيأمن خائف، ويفك عان

ويأبى أهله النائي الغريب

فلما كان صباح تلك الليلة، لم يسمع في المدينة إلا نبأ واحد، يجري على كل لسان، ويلج كل أذن:

- اليوم يوم هُدبة - اليوم يسلم إلى المسوّر بن زيادة ليحكم فيه - إنه سيقتله - بل سيعفو - لن يعفو عنه - لن يقتله. . . .

وخرج الناس أرسالاً إلى الحرّة، فلم ير مثله من يوم، خلت فيه المدينة إلا من شيخ فانٍ أو امرأة عاجزة، وانتقلت بأهلها إلى الحرّة. . . .

وما هي حتى جيء بالرجل وهو مثقل بالحديد، وقد صدئ عليه وحجزه في جسمه، وبليت من دونه ثيابه. فماج الناس وإزدحموا بالمناكب، واشرأبت الأعناق، وارتاع النساء وأجفلن وعرتهن رعدة. . . ثم قاضت منهم العيون شفقة ورحمة

ص: 31

ثم انتهى به إلى الحرة، وقد جلس فيها الأمير سعيد بن العاص ووجهاء المدينة، وأقيم المسوّر ليقول كلمته. وقام إليه رسول معاوية فعرض عليه عشر ديات من خالص مال أمير المؤمنين، فأباها، فعرض عليه سعيد ووجهاء المدينة أضعافها فأبى إلا قتل هُدبة. . .

فاصفرت وجوه الناس، وودوا لو حالوا بالقوة بين هُدبة وبين القتل، ولكن حجزهم احترام الحق، ومنعتهم هيبة الدين فلبثوا صامتين كأن على رؤوسهم الطير، ونظروا إلى هُدبة. فرفع رأسه وأنشد بصوت شجي رائع:

ألا عللاني قبل نوح النوائح

وقبل ارتقاء النفس فوق الجوانح

وقبل غد يا لهف قلبي من غد

إذا راح أصحابي ولست برائح

إذا راح أصحابي تفيض نفسي

وغودرت في لحدٍ على صفائحي

يقولون هل أصلحتم لأخيكم وما

القبر في الأرض الفضاء بصالح

فضج النسوة بالبكاء، وماج الناس، فأشار إليهم فأسكتهم، وخاطب امرأته وكانت من أجمل النساء وكان أجدع:

أقلّي على اللوم يا أم بوزعا

ولا تجزعي مما أصاب فأوجعا

ولا تنكحي أن فرّق الدهر بيننا

أغمم القفا والوجه ليس بأنزعا

ضروباً بلحييه على عظم زوره

إذا الناس هشوا للفعال تقنعاً

وحلى بذي أكرومة وحمية

وصبر إذا ما الدهر عضّ فأسرعا

وعَرَى الناس صمت عميق، وأقبلوا ينظرون بماذا تجيب هذه المرأة: أتفي وهي الشابة الجميلة الفاتنة لرجل أجدع هو الساعة ميت، وتقيم علي عهده، وتحرم على نفسها من أجله الرجال، أم هي تعده وتمنيه، حتى إذا مات انطلقت فتزوجت؟ وجعلوا يتهامسون، ويتقولون. . .

أما هي، فلم يكن منها إلا أن مالت إلى رجل، فسألته شيئاً، ثم أرسلت ملحفتها على وجهها هُنية، ثم عادت فإذا. . . فإذا هي قد جدعت أنفها، وقطعت شفتيها. . .

وقالت: يا هُدبة! أتراني متزوجة بعد ما ترى؟. . فقال: لا، الآن طاب الموت، ثم أستأذن في ركعتين فصلاهما وخفف، ثم التفت إلى من حضر، وقال: والله لولا أن يظن بي الجزع لأطلتها، فقد كنت محتاجاً إلى إطالتهما

ص: 32

ثم تقدم من المسوّر وقال: أثبت قدميك، وأجد الضربة، فإني قد أيتمتك صغيراً وأرملت أمك شابة. . .

علي الطنطاوي

ص: 33

‌بين فن التاريخ وفن الحرب

11 -

خالد بن الوليد في حروب الردة

للفريق طه باشا الهاشمي

رئيس أركان الجيش العراقي

(لقد شهدت مائة زحف أو زهاءها وما في بدني شبر إلا وفيه ضربة أو طعنة، وهأنذا أموت على فراشي كما يموت البعير! فلا نامت أعين الجبناء).

خالد بن الوليد

فوصلت المقدمة مساء إلى القرب من ثنية اليمامة ولقيت مفرزة من بني حنيفة نياماً في أسفل العقبة فباغتهم وأسرتهم؛ وكانت هذه المفرزة مؤلفة من ستين رجلاً بقيادة مجاعة بن مرارة أحد رؤساء بني حنيفة

والروايات جميعاً متفقة على أن مجاعة خرج من اليمامة على رأس سرية يطلب بثأر له في بني عامر وبني تميم، لأن بني عامر منعوه من أن يتزوج خولة بنت جعفر. وبعد أن باغت بني عامر عاد بخولة ووقف في أسفل العقبة مع رجاله ليبيت ليلته هناك وإذا المسلمون يباغتونه ويقودونه مع رجال أسرى إلى خالد

والذي يلوح لنا أن مجاعة كان يراقب مجيء جيش المسلمين من الثنية - أي عقبة الحيسية -. ويظهر أن قوة المسلمين باغتته دون أن يستطيع التملص منها، فلما وقف أمام خالد زعم أنه خرج للثأر

وتزعم الروايات أن خالداً قتل رجال مجاعة لتأكده كفرهم، واستبقى مجاعة ليستفيد منه في حركاته على مسيلمة. فيما ترى هل تواطأ مجاعة مع خالد على مسيلمة، أو أنه تأكد نصر المسلمين فأراد أن يسوخ موقفه أمامهم فعرض الخدمة على خالد؟ أو أنه خرج برجاله ليلتحق بجيش المسلمين فيدلهم على عورات أعداهم؟ ذلك ما لا نعلمه العلم الأكيد. والمحقق أن مجاعة ظل محجوراً عليه في معسكر خالد وقام بالواسطة بين خالد وبني حنيفة لعقد الصلح بعد انكسار جيشهم في عقرباء، فأفاد الفريقين بتلك الوساطة. ولا بد أن خالداً استجوب مجاعة فاستقى منه جميع الأخبار الموثوق بها عن مسيلمة وجيشه، فعلم منه أن

ص: 34

مسيلمة ينتظر وروده في عقرباء.

المعركة

في رواية تقلها ابن حبيش أن خالداً لما تثبت من عسكرة جيش مسيلمة في عقرباء شاور أصحابه في الأمر فأشاروا عليه جميعهم أن يتقدم نحو عقرباء. وكانت الأخبار تنم على أن طليعة الحنفيين يقودها الرحال، وهو من رؤساء بني حنيفة، فتقدم خالد حينئذ بجيشه نحو العدو. فجعل أبا حذيفة على الميمنة وشجاع ابن وهب على الميسرة، وكان زيد بن الخطاب يحمل راية المهاجرين، وثابت بن قيس يحمل راية الأنصار. وعزل خالد براً بن مالك من قيادة الخيالة وأحل من محله أسامة بن زيد

أما جيش بن مسيلمة فكان موالياً وجهه شطر الشمال الغربي ومترتباً في سهل عقرباء بين جبل صلبوخ ووادي حنيفة. فيستدل من ذلك على أن الأرض كانت صالحة لاتخاذ نظام القتال ولحركة الخيالة، وتنم الروايات على أن ريحاً جنوبية مغبرة هبت في وجه المسلمين وزحزحتهم عن مكانهم في القتال - أي أن جبهة المسلمين كانت موجهة نحو الجنوب الشرقي. ويظهر أن قوة الرحال انسحبت لما رأت المسلمين قادمين نحوها. وكان جيش مسيلمة مرتباً على الأسلوب الشائع ومنقسماً إلى ثلاثة أقسام: الميمنة والميسرة والقلب - ولم يكن الضعن خلفه لأن قرى بن حنيفة كانت في الخلف على ما نعلم

وكان محكم بن طفيل - وهو من أجل رؤساء بني حنيفة شأناً على الميمنة، وعلى الميسرة، وشرحبيل بن مسيلمة يقود القلب. فكان مسيلمة وراء القلب يراقب مجرى القتال. وبعد أن قضى المسلمين ليلتهم في عقبة الحيسية - أي ثنية اليمامة - واستوثق خالد من أمر مجاعة، تحرك الجيش صباحاً وكانت الشقة بينه وبين عقرباء مسير يوم. وفي رواية نقلها الطبري أن الموقع الذي باغت المسلمين فيه مجاعة بن مرارة يبعد عن عسكر مسيلمة مسير ليلة. والحقيقة أن المسافة بين العقبة وعقرباء لا تزيد عن خمسة وعشرين ميلاً - أي مسير يوم من ذلك الزمن والظاهر أن خالداً قضى ليلته التي سبقت يوم المعركة قريباً من جيش مسيلمة، لأن المعركة بدأت صباحاً واستمرت إلى العصر. وكان الموقع الذي أختاره كثيباً مشرفاً على اليمامة كما ينقله الطبري. وسبق أن رأينا من وصف فلبي لرابية الأبكين أنها تشرف على وادي حنيفة وتتسلط على الأرض الممتدة إلى الجنوب. فالأرض

ص: 35

في الشمال تتسلط على الأرض في الجنوب، وكان لوضع الأرض على هذه الصورة فائدة لجيش المسلمين

وليس لدينا معلومات عن تعبئة المسلمين في ميدان القتال، وتدل الأخبار على أن أبا حذيفة كان يقود الميمنة وشجاعا الميسرة ويزيد بن الخطاب القلب وأسامة بن زيد الخيالة. فهل كان كل من المهاجرين والأنصار على مجنبة من المجنبتين، وكانت القبائل في القلب؟ أو أن المهاجرين والأنصار كانوا في القلب وكانت القبائل في المجنبتين؟ أو أن المهاجرين كانوا في القلب مع قبائل الحجاز، وكان الأنصار على إحدى المجنبتين وكانت قبائل البادية في المجنبة الأخرى؟

هذه أسئلة يصعب الإجابة عنها. والواضح من مجرى القتال أن إحدى المجنبتين (ولعلها الميسرة) انهزمت فتلاها القلب ووصل إلى الخيام في الضعن. وأن أهل القرى - المهاجرين والأنصار وأهل الحجاز - عزوا هذه الهزيمة التي كادت تقضي على المسلمين إلى أهل البادية. فلنا من ذلك أن أهل البادية كانوا في الميسرة، وكان المهاجرون مع بعض قبائل الحي في الميمنة، والأنصار مع البعض الآخر من قبائل الحجاز في القلب. ويظهر أن الخيالة كانت في الأمام فانسحبت إلى الميسرة لتراقب الوادي، وكان الضعن وراء القلب وفيه الخيام والنساء. ووقف خالد بن الوليد وراء القلب يراقب سير القتال.

صفحات القتال

نشبت المعركة صباحاً واستمرت إلى العصر. فبذل الفريقان قصاراهما لتغلب أحدهما على الآخر واقتتلا اقتتالاً شديداً. وكما يقول الطبري كانت الحرب لم يلق المسلمون مثلها قط. وجرى القتال في ثلاث صفحات: تغلب الحنفيون في الصفحة الأولى على المسلمين وأزاحوهم إلى الضعن وكادوا ينتصرون عليهم. وفي الصفحة الثانية كر المسلمون راجعين فتغلبوا على أعدائهم فأزاحوهم من المحل الذي وصلوا إليه. وبعد أن تضافرت جهودهم استطاعوا أن يهزموا الحنفيين. وفي الصفحة الثالثة اعتصم الحنفيون في الحديقة فحاصرها المسلمون من كل صوب ودخلوها عنوة وقضوا على البقية الباقية من الحنفيين. ونذكر فيما يلي مجرى القتال في كل صفحة من الصفحات الثلاث:

الصفحة الأولى

ص: 36

بدأ القتال صباحاً بتحميس القواد رجالهم بالكلمات المأثورة والخطب الحماسية. فنادى شرحبيل بن مسيلمة في رجاله قائلاً: (يا بني حنيفة اليوم يوم الغيرة، إن هزمتم تستردف النساء سبيات وينكحن غير حظيات. قاتلوا عن أحسابكم وامنعوا نساءكم)

وكان أول القتال براز بين الفريقين كما جرت عليه عادة العرب، فقتل في هذا البراز الرحال بم عنفوة الذي كان في طليعة الحنفيين قبل القتال. وكان على الميسرة قتلة زيد بن الخطاب، ويظهر رؤساء آخرين من بني حنيفة قتلوا في البراز مما حمل الطبري على القول:(قتل الرحال وأهل البصائر من بني حنيفة) وبدلاً من أن يوهن هذا القتل عزائم بني حنيفة شدد عزيمتهم فتذامروا وحمل كل قوم في ناحية. ويلوح من مجرى القتال أن الضربة كانت قوية من الجانب الأيمن على ميسرة المسلمين فزحزحتها من محلها وتراجعت منكسرة لا تلوي عن شيء. فأثر ذلك في موقف القلب فرجع متقهقراً وبنو حنيفة يطاردونه إلى أن وصلوا إلى المعسكر فقطعوا إطناب الخيام

ومن الروايات ما يزعم أن ريحاً جنوبية مغبرة هبت في وجوه المسلمين فضعضعت صفوفهم، فاستفاد بنو حنيفة منها فهزموا المسلمين حتى أزاحوهم من محلهم وطاردوهم إلى المعسكر فدخلوا في الفسطاط فرعبلوه بالسيوف

والروايات متفقة على أن بعض الأعداء دخل خيمة خالد بن الوليد وكان فيها مجاعة مكبلاً بالحديد قيد مراقبة أم تميم التي تزوجها خالد بعد قتله مالك بن نويرة. فأراد الحنفيون إنقاذ مجاعة فهموا بقتل أم تميم إلا أنه منعهم من ذلك. فقال لهم: (لا تتشاغلوا في المعسكر، ودونكم الرجال) ففي مثل هذا الموقف الحرج برز خالد إلى الميدان شاهراً حسامه تشجيعاً للمسلمين ومنادياً بشعار (يا محمدآه!). ويكاد المؤرخون جميعاً يتفقون على أن خالداً بفراسته وبطولته أنقذ الموقف. ولولا قيادة خالد وجلادة الصحابة الذين لقوا حتفهم بعد أن أظهروا للمسلمين أمثلة حسنة، لدارت الدائرة على المسلمين ولا ريب.

الصفحة الثانية

تبدأ الصفحة الثانية بدعوة الرؤساء من المسلمين إلى الثبات في محلهم والكر بعد ذلك على الأعداء

ص: 37

فثابت بن قيس الذي كان يقود الأنصار كان ينادي الأنصار قائلاً: (بئسما عودتم أنفسكم يا معشر المسلمين، هكذا عني حتى أريكم الجلاد) وقال زيد بن الخطاب الذي كان يقود القلب حين انكشف الناس عن رحالهم - أي المعسكر -: (لا تحوز بعد الرحال) وقام البراء أخو أنس بن مالك ينادي قائلاً (أنا البراء ابن مالك. هلم إلي) أما أبو حذيفة الذي كان يقود الميمنة فكان ينادي قائلاً: (يا أهل القرآن! زينوا القرآن بالفعال). وفي مثل هذا الوقت العصيب تدبر خالد الموقف ففكر في حيلة يعيد بها نخوة المسلمين، ويزيد حماستهم، ولا سيما لما رأى أهل القرى يحينون أهل البادية وهؤلاء يحينون أهل القرى

وتكاد الروايات جميعاً تتفق على أن القبائل من أهل البادية انهزموا أول مرة فألقوا الوهن في صفوف المسلمين. والظاهر من نتائج المعركة أن أهل القرى ثبتوا (فاستحر بهم القتل) كما يذكر الطبري. وكان التدبير الذي توصل إليهخالد لينقذ الموقف ويتغلب على عدوه منحصراً في أمرين:

أولاً - فصل أهل القرية عن أهل القبائل، ووضع كل فريق منهم في جانب. فكان الأنصار والمهاجرين وأهل القرى الآخرون في جانب، والقبائل في جانب آخر. لأن انهزام المسلمين أوقع الخلل في تركيب المعركة، فاختلطت الميسرة بالقلب، والقلب بالميمنة، وتخلى الناس عن رؤسائهم

ثانياً - طلب من كل جانب أن يمتاز، وذلك لما رأى أهل لقرى يعزون سبب الخيبة إلى القبائل، والقبائل تعزو الخيبة إلى أهل القرى. وفي هذا تناحر لدى الفريقين، وإذا ما اشتد التناحر يؤدي إلى التقاعس

فصرخ في المسلمين طالباً منهم أن يمتازوا ليتبين من أين يأتي الخلل. وكان يريد بذلك أن تبرز الفرق فلا ينسب إليها ذلة الانكسار. ونال بذلك ما أراد. فأمتاز أهل القرى والبوادي؛ وامتازت القبائل من أهل البادية، فوقف بنو كل أب على رايتهم كما يذكر الطبري. فتولى خالد بنفسه قيادة صفوف أهل القرى، فقاموا جميعاً قومة واحدة فقاتلوا قتال الأبطال. وكان خالد في أول الصف يشجع المسلمين ببطولته ولا يقابله أحد إلا قتله. وكان يفتش عن مسيلمة ليقتله، لأنه عرف أن الحرب لا تركد إلا موته، وأن بني حنيفة لا تحفل إلا بقتله. وكان من أمر ذلك أن تشجع المسلمون فصدوا العدو

ص: 38

ويذكر الواقدي أن زيد بن الخطاب كان يحمل راية المسلمين فلما رأى أصحابه ينصرفون من أطرافه قال: (والله لا أتكلم اليوم حتى نهزمهم أو ألقى الله فأكلمه بحجتي؛ عضوا على أضراسكم أيها الناس! واضربوا في عدوكم وامضوا قدماً) ولم يزل يشجع أصحابه إلى أن قتل والراية في يده، فأخذها أبو حذيفة، فجادل بسيفه حتى قتل فنادى في قومه (العزة لله ولرسوله ولأحزابه. أروني كما أريكم) ثم جلد في الأعداء وقاتل حتى قتل. وتسلم راية المسلمين سالم مولى أبي حذيفة، وظل يناضل عنها إلى أن قتل، فتسلمها آخرون وقتلوا

وإزاء هذه الجهود المتضافرة والأمثلة المشجعة تمكن المسلمون من أن يزحزحوا الأعداء من مكانهم حتى أزاحوهم تماماً، فأخذوا يطاردونهم. وفي مثل هذا الحين أخذ محكم بن الطفل المدعو بحكم اليمامة يشجع بني حنيفة منادياً:(يا معشر بني حنيفة الآن والله ستحقب الكرائم غير رضيات، وينكحن غير حصينات، فما عندكم من حسب فأخرجوه). فقاتل قتالاً شديداً

أما أهل اليمامة فلما رأوا المسلمين يركبونهم صرخوا في وجه مسيلمة قائلين له: (أينما كنت تعدنا؟) فأجابهم قائلاً: (قاتلوا عن أحسابكم)، ولما رأى المحكم أن الدائرة دارت على بني حنيفة صاح فيهم: الحديقة! الحديقة! يريد بذلك أن يتحصنوا فيها ويقاوموا المسلمين. فانسحبوا إلى الحديقة واعتصموا بها. ويظهر أن المحكم لم يتمكن من الوصول إليها لأن عبد الرحمن أبن أبي بكر رماه بسهم فقتله.

يتبع

طه الهاشمي

ص: 39

‌3 - محاولات أفلاطون

معذرة سقراط

ترجمة الأستاذ زكي نجيب محمود

- لعلك يا صديقي مليتس تريد أناكسجوراس بهذا الاتهام. ويظهر أنك تسيء الظن بالقضاة، فتحسبهم بلغوا من الجهالة حداً لا يعرفون معه أن تلك آراء مسطورة في كتب أناكسوجراس الكلازوميني، وهي مليئة بمثلها. وتلك التعاليم هي التي يقال أن سقراط قد أوحى بها إلى الشبان، والواقع أنهم عرفوها من المسرح الذي كثيراً ما يعرضها، وأجر المسرح لا يزيد على دراخمة واحدة، ففي مقدور الناس جميعاً أن يشهدوها بهذا الأجر الزهيد، ثم يهزئون من سقراط كلما نسب إلى نفسه تلك الأعاجيب، ولكن حدثني يا مليتس، أفتظن حقاً أني لا أومن باله ما؟

- أقسم بزفس أنك لا تؤمن بكائن من كان

- أنت كاذب يا مليتس، ولا تستطيع أنت نفسك أن تصدق هذا القول، ولست أشك أيها الأثينيون في أن مليتس هذا مستهتر وقح، كتب هذه الدعوى بروح من الحقد والطيش والغرور، ألم يبتكر هذه الألعوبة ابتكاراً ليقدمني بها إلى المحاكمة؟ كأنما قال لنفسه: سأرى هل يستطيع هذا الحكيم سقراط أن يكشف عن هذا التناقض المحبوك، أم أني خادعه كما سأخدع بقية الناس؟ فهو كما أرى يناقض نفسه بنفسه في الدعوى فكأنه يقول قد أجرم سقراط لأنه كافر بالآلهة، ولأنه مؤمن بهم، وتلك مهزلة ولا ريب

أيها الأثينيون! أنه متناقض لا تستقيم روايته، وأحب أن نتعاون جميعاً على تحقيقها، وعليك يا مليتس أن تجيب - وأعيد الرجاء ألا تقاطعوني إذا تكلمت بأسلوبي المعهود -

يا ملتيس! هل جاز لإنسان مرة أن يعتقد بوجود ما يتصل بالبشر من أشياء، دون أن يعتقد بوجود البشر أنفسهم؟ أني أحب منهم - أيها الأثينيون - أن يجيب، وألا يعمد دائماً إلى المقاطعة. هل أعتقد إنسان مرة وجود صفات الجياد دون الجياد نفسها؟ أو وجود نغمات القيثارة دون العزف عليها؟ أن كنت تأبى أن تجيب بنفسك يا صديقي، فسأجيب لك وللمحكمة. كلا! لم يفعل ذلك إنسان. والآن، هل لك أن تجيب على هذا السؤال الثاني: أيستطيع إنسان أن يؤمن برسول روحي إلهي، ولا يؤمن بالأرواح نفسها أو بأشباه الآلهة؟

ص: 40

- أنه لا يستطيع

- يسرني أن أحصل منك بعون المحكمة على هذا الجواب، ولكنك قد أقسمت في دعواك أنني أثق وأعتقد في رسل روحية إلهية وسواءً أكانت تلك الرسل قديمة أم محدثة، فأنا على أية حال أومن بها كما قلت وأقسمت في صحيفة الدعوة. ولكن إذا كنت أعتقد بموجودات آلهية، أفلا يلزم أن أعتقد بالأرواح وأشباه الآلهة التي بحثها؟ أليس هذا حقاً؟ ما لي أراك صامتاً؟ أن الصمت معناه الرضى. فما هذه الأرواح وأشباه الآلهة؟ أنها أما أن تكون آلهة، أو أبناء آلهة، أليس كذلك؟

- نعم هو كذلك

- وإذن فهذا موضوع التناقض المحبوك الذي أشرت إليه، فأشباه الآلهة أو الأرواح هي آلهة، وقد زعمت عني أول الأمر أني كافر بالآلهة، ثم هاأنت ذا تضيف أني مؤمن بها، لأني مؤمن بأشباها. ولا يضيرنا أن تكون هذه الأشباه أبناء للآلهة غير شرعيين، فسواء أعقبتها الآلهة من الشياطين أو من أمهات أخريات كما يظن، فوجودها يتضمن بالضرورة - كما ترون جميعاً - وجود آبائها، وإلا كنت كمن يثبت وجود البغال وينكر وجود الجياد والحمير. لا يمكن أن يكون هذا الهراء يا مليتس إلا تدبيراً منك لتبلوني به، ولقد سقته في دعواك لأنك لم تجد حقاً تتهمني به. ولكن لن يجوز على من يملك ذرة من فهم، قولك هذا بأن رجلاً يعتقد في أشياء إلهية، هي فوق مستوى البشر، ولا يؤمن في الوقت نفسه بأن هناك آلهة وأشباه آلهة وأبطالاً. حسبي ما قلته رداً لدعوى مليتس، فلا حاجة لي إلى دفاع قوي بعد هذا، ولكني كما ذكرت من قبل لابد أن يكون لي أعداء كثيرون وسيكون ذلك دافعي إلى الموت لو قضى علي به، لست أشكو في هذا، فليس الأمر قاصراً على مليتس وأنتيس، ولكنه الحقد الذي يأكل القلوب، ويغري الناس بتشويه السمعة، فكثيراً ما أدى ذلك برجال إلى الموت، وكثيراً ما سيقضي بالموت على رجال، فلست بحمد الله أخر هؤلاء

سيقول أحدكم: إلا تخجل يا سقراط من حياة تؤدي بك إلى موت مباغت، وعلى ذلك أجيب في رفق: أنت مخطئ يا هذا، فإذا كان الرجل خيراً في أي ناحية منه، فلا ينبغي أن يتدبر أمر حياته أو موته، ولا يجوز أن يهتم إلا بأمر واحد، وذلك أن يرى هل هو فيما يعمل مخطأ أم مصيب، وهل يقدم في حياته خيراً أم شراً. أترى أذن أن الأبطال الذين سقطوا في

ص: 41

طروادة لم يحسنوا صنعاً؛ فذلك أبن ثيتس الذي أستصغر الخطر وأزدراه حينما قرنه بما يثلم الشرف. ولما قالت له أمه الآلهة، وهو يتحفز لقتل هكتور بأنه لو قتله أنتقاماً لصاحبه باتروكلس، فسيدركه هو نفسه الموت. ثم قالت:(أن القدر يترصدك بعد هكتور) فلما سمع هذا، أحتقر الخطر احتقارا، ولم يخشاهما كما يخشى أن يحيا الحياة يدنسها العار دون أن ينتقم لصديقه، فأجاب:(ذريني أموت بعد موته، فأنتقم من عدوي، فذلك خير من الحياة فوق هذه السفن، فأظل عاراً على جبين الدهر تنوء بحمله الأرض) هل فكر أخيل في الموت أو الخطر؟ فمهما يكن موقف الرجل، سواء اختار لنفسه ذلك الموضع أم أقامه فيه قائده، فلا بد أن يلزمه ساعة الخطر، ولا يجوز أن يفكر في الموت أو في أي شيء أخر غير دنس العار. إن هذا أيها الأثينيون لقول حق

بني أثينا! كم كان سلوكي عجيباً، لو أني عصيت الله فيما يأمرني به - كما أعتقد - بأن أؤدي رسالة الفلسفة بدراسة نفسي ودراسة الناس، وفررت بما كلفني به خشية الموت أو ما شئت من هول، وأنا الذي حين أمرني القواد الذين اخترتموهم للقيادة في بوتيديا، وأمفيبوليس ودليوم، لزمت موضعي، كأي رجل آخر، أواجه الموت. ما كان أعجب ذلك، وما كان أحقني بأن أساق إلى المحكمة بتهمة الكفر بالآلهة، وكم كنت عندئذ أكون بعيداً عن المحكمة، مدعياً إياها خاطئاً، لو أنني عصيت الراعية خوفاً من الموت؟ فلست خشية الموت من الحكمة الصحيحة في شيء، بل هي في الواقع إدعاء بها، لأنه تظاهر بمعرفة ما تستحيل معرفته، فما يدريك ألا يكون الموت خيراً عظيماً، ذلك الذي يلقاه الناس بالجزع كأنه أعظم الشرور؟ أليس ذلك توهماً بالعلم، وهو ضرب من الجهل الشائن؟ وهنا أراني أسمى مقاماً من مستوى البشر، وربما ظننت أني في هذا الأمر أحكم الناس جميعاً - فما دمت لا أعلم عن هذه الحياة إلا قليلاً، فلا أفرض في نفسي العلم، وإنما أعلم علم اليقين أن من ظلم من هو أرفع منه أو عصاه، سواء أكان ذلك إنساناً أم آلها، فقد أرتكب إثماً وعاراً، ويستحيل علي أن أتحاشى ما يجوز أن يكون فيه الخير وأخشاه، لأقدم على شر مؤكد؛ ولهذا لو أنكم أطلقتم الآن سراحي، ورفضتم نصح أنيتس، الذي قال بوجوب إعدامي بعد إذ وجه إلي الاتهام، لأني لو أفلت فسيصيب الفساد والدمار أبنائكم باستماعهم لما أقول. لو قلتم لي يا سقراط، أننا سنطلق سراحك هذه المرة ولن نأبه لأنتيس، على شرط واحد، وذلك أن

ص: 42

تقف البحث والتفكير فلا تعود إليهما مرة أخرى، ولو شاهدناك تفعل ذلك أنزلنا بك الموت، إن كان هذا الشرط إخلاء سبيلي أجبت بما يأتي: أيها الأثينيون! أنا أحبكم وأمجدكم، ولكني لابد أن أطيع الله أكثر مما أطيعكم، فلن أمسك عن اتخاذ الفلسفة وتعليمها ما دامت حياً قوياً، أسائل بطريقتي أياً صادفت بأسلوبي، وأهيب به قائلاً: ما لي أراك يا صاح تعني ما وسعتك العناية بجمع المال، وصيانة الشرف، وذيوع الصوت، ولا تنشد من الحكمة والحق وتهذيب النفس إلا أقلها، فهي لا تصادف من عنايتك قليلاً ولا تزن عندك فتيلاً، وأنت ابن أثينا، مدينة العظمة والقوة والحكمة؟ ألا يخجلك ذلك؟ فأن أجاب محدثي قائلاً: بلى، ولكني معني بها، فلن أخلي سبيله ليمضي من فوره، بل أسائله وأناقشه وأعيد معه النقاش، فان رأيته خلواً من الفضيلة، وأنه يقف منها عند الحد القول والادعاء، أخذت في تأنيبه، لأنه يحقر ما هو جليل، ويسمو بما هو دنئ وضيع؛ سأقول لذلك لكل من صادفه، سواء أكان شاباً أم كان شيخاً، غريباً أم كان من الوطن، لكني سأخص بعنايتي بني وطني، لأنهم أخواني، تلك كلمة الله فاعلموها. ولا أحسب الدولة قد ظفرت من الخير بأكثر مما قمت به ابتغاء مرضاة الله، وما فعلت إلا أن أهبت بكم جميعاً، شيباً وشباناً، أن انصرفوا إلى أنفسكم وما تملكون، وبادروا أولاً بتهذيب أنفسكم تهذيباً كاملاً، وهاأنذا أعلنكم أن الفضيلة لا تشترى بالمال، ولكنها هي المعين الذي يتدفق منه المال ويفيض بالخير جميعاً، سواء في ذلك خير الفرد وخير المجموع. ذلك مذهبي، فان كان هذا فاسداً للشبان، فاللهم إني مود بالشباب إلى الدمار! أما أن زعم أحدكم أن ليس مذهبي هو ذاك، فهو إنما يزعم باطلاً. أيها الأثينيون! سواء لدي أصدعتم بما يأمركم به أنيتس أم فعلتم بغير ما يشير، وسواء أأصبت عندكم البراءة أم لم أصبها، فاعلموا أني لن أبدل من أمري شيئاً، ولو قضيتم علي بالموت مراراً

أيها الأثينيون! لا تقاطعوني وأصغوا إلى قولي، فقد عودتموني أن تسمعوا الحديث حتى ختامه، وإن لكم لفيه خيراً. أحب أن أفيض لكم بما عندي، فان بعثكم على البكاء فارجوا ألا تفعلوا. أريد أن أصارحكم أن لو قضيتم على بالموت فسيصيبكم من الضر أكثر مما يصيبني. إن مليتس وأنيتس لن يؤذياني، لأنهما لا يستطيعان، فليس من طبائع الأشياء أن يؤذي فاسد من هو أصلح منه، نعم، ربما استطاع له موتاً أو نفياً أو تجريداً من حقوقه

ص: 43

المدنية، وقد يبدو له كما يبدو للناس جميعاً، أنه يكون بذلك قد أنزل به أفدح البلاء، ولكني لا أرى ذلك الرأي، فأهول به مصاباً هذا الشر الذي يقدم عليه أنيتس - بأن يقضي على حياة إنسان بغير حق. لست أكلمكم الآن - أيها الأثينيون - من أجل نفسي كما قد تظنون، ولكني من أجلكم، حتى لا تسيئوا إلى الله، أو تكفروا بنعمته بحكمكم علي، فليس يسيراً أن تجدوا لي ضريباً إذا قضيتم علي بالموت، وإن جاز أن أسوق إليكم هذا التشبيه المضحك، لقلت أني ضرب من الذباب الخبيث، أنزله الله على الأمة، التي هي بمثابة جواد لنبيل عظيم، ثقيل الحركة لضخامته، ولا بد له في حياته من حافز. أنا تلك الذبابة الخبيثة التي أرسلها الله إلى الأمة، فلا شاغل لي متى كنت وأنى كنت، إلا أن أثير نفوسكم بالإقناع والتأنيب، ولما كان من العسير أن تجدوا لي ضريباً فنصيحتي لكم أن تدخروا حياتي. نعم قد أكون مزعجكم كلما باغتكم فأيقظتكم من نعاسكم العميق، ولكم أن تأملوا، إذا ما صفعتموني صفعة الموت، كما ينصح أنيتس، - وما أهون ذلك عليكم - أن يهدأ لكم الرقاد لكم حياتكم، ما لم يبعث الله لكم ذبابة أخرى، إشفاقاً عليكم. إنما أنني جئتكم من عند الله فهذه آيته: لو كنت نكرة من الناس لما رضيت مطمئناً، بإهمال شؤون عيشي إهمالاً طوال تلك السنين، لأخصص نفسي لكم، فقد جئتكم واحداً فواحداً، شأن الوالد أو الأخ الأكبر، فأحملكم على الفضيلة حملاً، وليس ذلك ما عهدناه في طبيعة البشر. ولو كنت قد أفدت من ذلك أجراً أو جزاء لكان لذلك مدلول آخر، ولكن هل تجرؤ وقاحة المدعين أن تدعي أني قد أخذت أجراً أو سعيت إليه؟ أنهم لم يفعلوا، لأنهم لن يجدوا لذلك دليلاً. أما أنا فعندي ما يؤيد صحة ما أقول. وحسني بالفقر دليلاً.

يتبع

زكي نجيب محمود

ص: 44

‌3 - مصطفى كمال

سيرة حياته

للكاتب الإنجليزي أرمسترونج

تلخيص وتعليق حنفي غالي

وعاش مصطفى كمال مع أمه في سالونيك بعد وفاة زوجها الذي كان يعضه وينفر منه، وهناك حاول أن ينشئ مع زملائه من صغار الضباط فرعاً لجمعية الوطن، فأخفق لأنهم كانوا في ريبة من أمره، فلم يؤيده ولم يعارضوه، كأنما كانوا يريدون أن يقفوا على حقيقته ويتبينوا أمره قبل أن يتوصلوا به ويتعاونوا معه في أمثال هذه المغامرات. وأخيراً أرسل إليه أحدهم أن بسالونيك جمعية ثورية كبيرة تدعى جمعية الاتحاد والترقي، يجتمع أعضاؤها في منازل بعض اليهود من رعايا إيطاليا، فيستطيعون أن يدبروا الخطط، ويتشاوروا في أمرهم بمأمن من بطش الحكومة، ومنجاة من عيون الخليفة، وبعد أن اختبرت الجمعية إخلاص بطلنا، وأنست منه نفساً ثائرة وقلباً قلقاً، دعته إلى الانضمام إليها فتم لها ما تريد. وانخرط مصطفى في سلك أعضائها، فألفى نفسه في جو لا يلائمه ولا يتفق وميوله، إذ رأى من حوله أشخاصاً يتحدثون في أمور لا تعنيه ولا تتصل بتركيا التي يحبها ويفني في سبيلها، فما يهمه من متاعب اليهود وما يلاقونه من اضطهاد في روسيا، فهو تركي قبل كل شيء، وهو معتز بتركيته تياه بها، ولا غرض له سوى إنقاذ تركيا من استبداد الخليفة ومطامع الدول الأجنبية، وفضلا عن ذلك فهو ما زال في الجمعية (أخاً) صغيراً، عليه أن يتلقى الأوامر بالطاعة والإذعان، وعليه أن ينفذها بأمانة ونشاط. وهذا ما لا يرضى بطلنا الذي خلق ليأمر ويسود لا ليأتمر ويخضع، فبرم بالجمعية وسخط عليها، وأخذ ينقدها نقداً حاداً قارصاً غير متلطف فيه ولا متهاون قائلاً: إنه يسمع مناقشات بيزنطية لا يعززها عمل حاسم، وهو يريد خطة محكمة دقيقة، ينفذها بكل ما وسعه من جهد، وكل ما في نفسه من حرارة الأيمان والوطنية، ولم يكن يرعى للرؤساء حرمة أو مقاماً، فمن هم أولئك الذين يستأثرون بالنفوذ ويستبدون بالأمر دونه؟ أأنور ذلك المجازف المتهور، أم جمال ذلك المظلم العقل المضطرب الذهن، أم داود ذلك اليهودي الدنيء الذي

ص: 45

أنقلب مسلماً، أم نيازي ذلك الألباني فاقد التوازن، أم طلعت ذلك الموظف المصلحي والدب البطيء، فهكذا كان يراهم بطلنا، ويرى نفسه فوقهم أجمعين، وهكذا نرى العظماء شديدي الأنانية عظام الثقة بأنفسهم، وهي صفة لابد منها لمن يتطلعون إلى مسابح الأفلاك. أما من ضعفت ثقته بنفسه، وتنحني عن نفسه لغيره، فليقنع أذن بمدارج الأسماك. وكان يخاطبهم مخاطبة الأستاذ لتلميذه، وحدث ذات مرة أن كانوا يتحدثون عن جمال ويمتدحون وطنيته فقاطعهم مصطفى كمال متهكماً بهم، وأخذ يلقي عليهم درساً عن العظمة الحقيقية. فلما التقى بجمال في اليوم التالي صارحه برأيه فيه قائلاً له أنه طالب شهرة، وألقي عليه ما ألقي على زملائه بالأمس. وقد كان زملائه الضباط يبغضونه لاعتداده بنفسه واستصغاره لشأنهم وسخرهم منهم، كما كان اليهود لا يثقون به، فلم يرتقي إلى مراكز الماسونية العليا وظل بعيداً عن مركز القيادة أو مبعداً عنه

ولم يكن في البيت أيسر نفساً ولا ألين جانباً، ولم يكن يسمح لأحد غير أمه أن ينتقده، وكان مع ذلك يأبى عليها التدخل في عمله أو المساس بكبريائه. وقد اجتمع في يوم من الأيام ببعض زملائه بالمنزل، فأخذ الخدم يتسمعون حديثهم من وراء الأبواب وأخبروا أمه، فعارضت فكرته، فحاول أن يقنعها بصوابها، فركبت رأسها وأصرت على رأيها، وما كان الاثنان ليتفقا، فقد كانت هي امرأة صادقة الإيمان وثيقة الإخلاص لقديمها، بينما أبنها لم يكن يؤمن بشيء أو يجل شيئاً على الإطلاق؛ وأخيراً سايرت الأم الرؤوم ولدها العزيز في طريقه برغم اعتقادها في خطئه، خشية أن يهجر المنزل فيشق عليها فراقه، ولكنها ظلت تحذره سوء المنقلب وظلام المصير، قائلة: أن من الحمق التآمر بالخليفة والدين

وقد سئم بطلنا الحياة المنزلية بما يثقلها من ثرثرة الأقارب، وتجسس النساء، وفضول الخدم، إذ لم يكن أبغض إليه من الحد من حريته، فهم يريد أن يكون سيد نفسه مهما كلفه ذلك من مشقة وثمن، فهجر المنزل، ولكن ظل حبل الود متصلاً بينه وبين أمه، فكان يزورها ويصغي إليها. وكان ينفق بياض النهار مكباً على عمله، كما كان ينفق معظم لياليه في المقاهي حيث يجتمع بزملائه أحياناً أو يذهبون إلى مكان خفي بعيد، حيث يشربون ويدخنون ويدبرون الخطط للثورة المقبلة. على أن بطلنا لم يكن ليرضى أن يكون جندياً خاملاً مغموراً، بل يريد أن يكون قائداً له شرف النصر وفخار الغلبة والقهر، ولم يكن يحب

ص: 46

الرؤساء أن يقربوه منهم، فقل على توالي الأيام اتصاله بالجمعية واشتراكه في أعمالها، وأصبح أكثر ميلاً للعزلة والصمت. وبينما كان بطلنا في بعده وعزلته إذا بالثورة تثب من غير إنذار، فسار نيازي على رأس فئة قليلة من الثائرين إلى جبال مقدونيا الجنوبية متحدياً الحكومة، وحذا حذوه أنور، وأصدر في الحال منشوراً يعلن فيه الثورة

أما بطلنا فظل في سكونه وعزلته، وأبى أن يشاركهم، إذ لم يكن من طبعه المغامرة في مشروع إلا إذا كان متين الأساس مقدراً له بعض النجاح؛ ولكن هذه المغامرة الجنونية نجحت بأعجوبة، وساعد على ذلك سخط رجال الجيش على الحكومة لتأخر مرتباتهم، فأبى بعضهم أن يحارب بني وطنهم، وأنضم آخرون إلى الثوار فسقطت حكومة الظلم كما تسقط أوراق الشجر أمام الريح الضعيفة، وقبل عبد الحميد الحكم الدستوري قائلاً: أنه كان يعمل لهذه الغاية من عهد بعيد!! انحنى باللائمة على مستشاريه، وألقى عليهم تبعت الماضي الفاسد. وألغي الجاسوسية، ورحب بالثوار وعاد نيازي وأنور، وقد أسكرتهم نشوة الانتصار، وتوجت رؤوسهم أكاليل الغار، فأستقبلهم الشعب بحماسة فائقة تجل عن الوصف، وقد لقيهما مصطفى برفقة بعض زملائه، وقف الجميع في شرفة أحد فنادق سالونيك، وأعلن أنور منها الدستور على الشعب الذي يرمقه بعين الإعجاب والإجلال، ووقف من خلفه مصطفى وأن ما به من الهم والحسد ليكاد يقطع قلبه ويذهب بنفسه. وقد عاد إلى الأستانة جميع من نفاهم عبد الحميد، وأخذوا يتنازعون السلطة والحكم، وأرسل أنور ملحقاً حربياً في سفارة برلين، أما نيازي فعاد إلى ألبانيا حيث اغتيل، أما مصطفى كمال فأرسل على رأس بعثة ليتفقد حال حامية طرابلس، ويكتب عنها تقريراً لحكومة الأستانة

وقد خشيت دول أوربا أن يستعيد الأتراك قوتهم، فانتهزت فرصة هذه الفتنة الداخلية لتصفى مع الأتراك حسابها، فاستولت النمسا على البوسنة والهرسك، احتلت اليونان كريد، وأعلنت بلغاريا استقلالها تظاهرها لروسيا

أما في داخل الإمبراطورية فقد شبت الثورة ببلاد العرب وألبانيا، وأحتدم النزاع بين والمسلمين والمسيحيين اشرأبت الرجعية بعمقها تريد استعادة سلطانها البائد، فلجأت إلى الجيش والشعب لأثارته على أولئك اليهود والملاحدة الذين يريدون هدم الدين، وتقويض

ص: 47

خلافة المسلمين، ونجحت هذه الدعاية الخداعة البراقة، وثار الجنود في الأستانة، وقتلوا ضباطهم أو سجنوهم، وأعلنوا إخلاصهم للدين وولاءهم لأمير المؤمنين، واستولوا على الأستانة وطردوا منها أعضاء الجمعية، فلجئوا إلى محمود شوكت قائد الجيش بمقدونيا فتردد بادئ الأمر لأنه كان من المقربين إلى عبد الحميد، ولكنهم وفقوا أخيراً إلى إغرائه بمساعدتهم والعمل معهم فسير أنور - وكان قد عاد مسرعاً من برلين - على رأس فرقة من الفرسان كما ناط بمصطفى - وكان قد عاد من طرابلس - رئاسة أركان الحرب، وتقدم الجميع نحو الآستانة فقضوا على الثورة الداخلية، وقبضوا على عبد الحميد ووضعوه في (فيلا) صغيرة بسالونيك تحت رقابة الضابط فتحي المقدوني وأعادوا الجمعية إلى الحكم

وكان أنور إبان هذه الحوادث، الشخصية الفذة، والبطل البارز، ترمقه العيون بالإعجاب والحب، لأنه كان جندياً مقداماً جريئاً، كثير الاتجاه إلى الجمهورية، فأتته الشهرة وسعت أليه، بينما ذهب مصطفى كمال في غمار النسيان والإهمال، إذ لم يحظ بإعجاب الشعب لتردده، ولم يكسب رضاء الرؤساء لصلفه، حتى قالوا عنه (أنه ذو كفاية ممتازة، ولكنه جامد النسيم، كثير التمرد على كل أمر، قارص النقد لكل شخص، شديد الغرور، لا يميل إليه أحد، وهو كثير الاعتداد برأيه، لا يشرف معه أحداً في الأمر)

وأبعدوه عن الحكم وأبقوه في منصبه، فأكب على واجبه يؤديه بهمة ونشاط، وأخذ يدرس تاريخ نابليون وفون ملتكه. ثم رقي في سنة 1911 إلى رياسة أركان حرب القسم الثالث من الجيش بمقدونيا

وقد أرسل في بعثه حربية إلى باريس تحت أشراف الجنرال علي رضا، وأعجب رئيسه به وأثنى عليه. ولما عاد أنيط به الإشراف على مدرسة الضباط بسالونيك، وبرغم كون بطلنا جندياً بفطرته فقد كان يتطلع بنظره إلى السياسة دائماً، ويحاول أن يجرب طالعه فيها، فلم يرضه هذا المنصب، وأخذ ينقد زعماء جمعية الاتحاد والترقي نقداً لاذعاً في غير تحفظ ولا خشية قائلاً أنهم ليسوا جديرين بالحكم، وأن الدول أخذ طمعها يشتد ويدها تطول عن ذي قبل، ولا سيما ألمانيا التي قبضت على مرافق البلاد الحيوية وسيطرت على سكة حديد بغداد. أما في الداخل فلا يزال السخط عاماً والفقر والبؤس مخيمين، ويجب القيام بعمل حاسم لإصلاح الحال. وأخذ الضباط يصغون إليه ويستمعون له ويلتفون حوله

ص: 48

فأرضى هذا كبريائه، وأصبح يشعر أنه ذو مكانة وخطر، وأنه يقترب رويداً رويدا من قيادة حركة ذات شأن، ونمى هذا إلى سمع محمود شوكت، وكان يعرف بطلنا ويقدر خطره، لاسيما في البلقان مصدر كل فتنة ومهد كل حركة، فنقله إلى منصب أخر، وكان شوكت في تصرفه هذا كالمستجير من الرمضاء بالنار، فقد سهل المنصب الجديد بطلنا بلوغ دعوته إلى أنصار أكثر من ذي قبل، ولم يخفه تهديد شوكت ووعيده، وظل في مهاجمته للرجال الجمعية وحملته عليهم غير خائف ولا متحفظ، كما أخذ يستحث أنصاره على طرد الأجانب لتصبح (تركيا للأتراك)

ولقد عظم خطر بطلنا حتى كتب أعوان الحكومة إليها ينذرونها ويحذرونها منه ويستحثونها على تدارك الأمر، وطلبت الجمعية معاقبته، فبعث إليه شوكت يتهمه بأنه يحرض الجنود على الثورة، فرد عليه رداً لم يكف في نظر شوكت لدحض التهمة ونفيها عنه، كذلك لم يجد شوكت أدلة قوية تثبت إدانته فنقله إلى المكتب الحربي في الآستانة ليبعده عن البلقان مستودع البارود ومنبع الخطر وليستطيع ومراقبة حركاته ويتبع خطواته، فلم يرده هذا عن خطته، وأخذ يتقرب من بعض سياسي الجمعية الذين كانوا يبغضون الألمان ويمقتون سفيرهم صديق أنور الذي أخذ يعمل بنشاط وكياسة بجعل تركيا آلة في يد ألمانيا، وأخذوهم يشجعونه بعض الشيء، إذا رأوا إمكان استخدامه ضد أنور عند الحاجة، ولكنه مع ذلك لم يستغيث ولم يقربوه كل القرب لذهابه بنفسه، فحز ذلك في نفسه وألمه أشد الألم

وبينما هو يجاهد خصومه ويجاهدونه إذا بإيطاليا تنزل جنودها في طرابلس وتحتل الساحل.

حنفي غالي

ص: 49

‌الشمس في الطلوع

للشاعر الفيلسوف جميل صدقي الزهاوي

الشمس قد طلعت بوجه أروع

فوقفت مبهوتاً لحسن المطلع

وجه كما تهوى الطبيعة سافر

ماإنْ عليه سوى السَّني من برقع

في موكب فخم يزيد جلاله

لمع الأشعة في الفضاء الأوسع

هي في علاية أوْجها وشعاعها

في كل ما تبدو له من موقع

بيضاء لولا ما بها من وخزة

لذَّاعةٍ من حسنها لم أشبع

إني أدين بحسنها لا كالذي

أملي عليه جهلُه ألاَّ يعي

مرت تعاورها الدهور وحسنها

أبداً جديد بالشباب الممتع

أنظر إليها فهي تحكي غادةً

ترنو إليك من المحل الأرفع

ولقد بدت في خليعٍ من ضوئها

أحسن بها لما بدت في الخليع

تجري بلا تعب إلى الغايات

في صمم على لقم الطريق المَهْيع

لا تحرم الأرض الضياء فان جلت

عن موضع منها بدت في موضع

تمتد من شغفٍ لها الأنظار من

حَسْرى تكل من العياء وضُلَّع

ظهرت على متن السحاب كأنها

نارٌ تُشب على كثيبٍ أسفع

ولقد عَلَتها وهي تبرح أُفقها

وَطْفاءُ حانيةٌ حُنُوَّ المُرضع

ودنا يطوف بها الغمام كمُصْطلٍ

با النار يُذكى جمرها أو مُزمع

قد كان في القرصُ أحمر فاتحاً

حتى أختفى في العارض المتجمّع

أما الغيوم فتلك بعد تراكم

أخذته بين صدورها والأذرع

صورٌ محببّةٌ وليس بمنكرٍ

حِوجُ الحياة إلى الجمال الأرْوع

الشمس في طول النهار نجيَّتي

والشمس حيث ذهبتُ ذاهبةٌ معي

وكأنما بيني وبين شعاعها

نسبٌ قديمُ ما لأوّله أعي

ما ذرَّ قرنُ الشمس إلاَّ أهتزّ من

فرح فؤادٌ تحتويه أضلعي

الصبح لما أبيضَّ من أنورها

أخنى على ضوء النجوم اللُمّع

والصبح بعد الليل يحكي ضوؤه

أملاً لذيلاً بعد يأس موجع

ص: 50

ولقد تيقضت العيونُ من الكرى

ولفظن أحلام النفوس الهُجّع

قد كان ليلاً قد تضاعف دَجْوه

والليلُ يُذكى الحزن في المتفجَّع

ثم انجلى متأخراً عما له

قد كان في طغيانه من موقع

وبدت عليه ذِلَّةٌ فكأنما

صفعته كفُّ الصبح فوق الأخدع

لا تحزني مما لقيت من الأذى

ما أنت مني يا نجوم بأضْيع

أما الحياة فأنها لجميلة بك يا

(ذُكاء) وأن أقضَّت مضجعي

يا حبذا لو أنني من بعد ما

أرْدَى يكون إليك يوماً مرجعي

أني لأرجو أن تُطلِّى من علٍ

حتى تَرَى عند النهاية مصرعي

لا َضْيَر أن أبكَى الدجى عيني فقد

مسح ابتسامُكِ في النهاية أدمعي

أقلعتُ عن حبِّ الحسان جميعها

إلاّ هواكِ فلستُ عنه بِمُقْلِع

بالشمس في الأفق البعيد تغزّلي

لا بالعقيق ورامتين ولَعْلَع

جميل صدقي الزهاوي

ص: 51

‌عمرو بن العاص والزعيم المصري

للشاعر الاسكندري عبد اللطيف النشار

حدثونا أن عمراً

حينما أخضع مصرا

عاهدوا الأقباط عهداً

حفظوه فاستمرا

وكذا المصريُّ إن قا

ل وإن عاهد برا

غير من شذ، ومن شذ

فلا ينقض أمرا

شذ عن أقباط مصرٍ

رجلاً ناوأ عَمرا

ألب الروم عليه

وأثار الحرب غدرا

وقضى الله لعمرو

فأباد الجيش ذعرا

فمولون وقتلى

وفلول الجيش أسرى

وأتى الخائن في الأس

ري وقد أحرج صدرا

أي عذر ينفع الي

وم إذا ما رام عذرا؟

ورأى عمرو حليفاً

خانه بغياً وكفرا

وأستشار الصحب فيه

فقضوا بالقتل صبرا

قال أدهى الناس عمرو

قولة ترفع عمرا:

بل ستحيا فأبغ ما شئ

ت بنا سراً وجهرا

بأمثال الألي جئ

ت بهم فائت بأسرى

وما مضى الخائن في ذل

وقد شاهد كبرا

ليس كل البطش بطشاً

ليس كل الصبر صبرا

ص: 52

‌حسب قلبي

بقلم فريد عين شوكة

هات ما شئت من جفاكَ وهجرِك

أن في القلب ما يقوم بعذرك

وشح يا حبيبُ - وجهك - عني

حين تهفو عيناي فيه لسحرك

وأغمر السكون بالحبور مع الغير

وعبس إذا استرحتُ لبشرك

وأستهِنْ بالهوى وضق بيَ ذرعا

حين أشكو إليك، يا ضيقَ صدرك!

ضاع قلبي لديك، يا لفؤادي

منك لما نبذته خلف ظهرك!

هان شأني عليك رغم سُموِّي

واعتزازي مدى الحياة بقدرك

وأن البلبل الذي بك غنَّى

والنسيم الذي يَضُوع بعطرك

يا نجىَّ الضمير حتى لدى الرَّو

ع أما آن أن أمرَّ بفكرك؟

يا كثير العقوق للعاشق المُضْ

ني أرحني فقد عييتُ بهجرك

قد ترشفتُ حلو عطفك عاماً

وتجرعت بعدهكأس مُرِّك

وتربعت في رضاك مريعاً

ثم شردت في مهامه قفرك

صارخاً في الدجى البهيم وغيري

يستشف الآمال في ضوء فجرك

وإذا أنت مستريح لغيري

وفؤادي ما يستريح لغيرك!

أيهذا الحبيب عذرك أني

لم أزل رغم ثورتي طوع أمرك

أنا كالطائر السجين فمهما

هاجني الوحيد لم أزل رهن سرك

حسب قلبي في ذلك الغضب القات

ل ما مرَّ من رضاك وبرِّك

ص: 53

‌نجوم السينما

للأستاذ فخري أبو السعود

عوِّذ فؤادك من بوادر فتنةٍ

مجلُوةٍ في مَعرِضَ الأشباحِ

ما القلبُ إلا بضعةٌ لو قُسَّمت

لم تكفِ أسرابَ الْمَها يا صاحٍ

أو تُوفِ ما بالمشهد الخلاَّب من

فتنٍ ومن غُررٍ ومن أوضاح

ماذا تُبين الشّاشةُ البيضاء من

سحرٍ وراَء سرابٍها اللمَّاح؟

تجلو خيالات الجمال كأنها

أطياف أحلامٍ يراها الصَّاحي

تُبدي لعينكَ كلَّ أغيَد شادنٍ

سابٍ وكلَّ مُغرِّدٍ صدَّاح

جمعت ملاحات الشعوب جميعها

كالطير من مُتفرِّقِ الأدواح

من بضةٍ تزري بكل خميصة

وخميصةٍ تُزري بكلِّ رداح

وغضيضةٍ تُصبي بساجي طرفها

ولبيقةٍ تُغري بثغرِ أقاح

وقسيمةٍ تسبي بوحفٍ فاحمٍ

داجٍ وفجرٍ دونه مُنصاح

ووضيئةٍ شقراء تقنعُ كلَّ ذي

بصر بأنَّ الحُسن شعرٌ ضاح

إن الطبيعة ما تزال سخية

بالحسن تُوليه عطاء سماح

أبداً مُوكلةٌ بهاتيك الدًّمى

تشتقُّها من حُسنِها الوضّاح

هذى حَوَاريَّاتُ كل مدينة

للناظرين تجمعَّت في ساح

خَلَعت عليهنَّ الطبيعةُ حُسنها

بأناملٍ في البَذل غير شِحاح

وسَخت عليهن الحضارةُ بالحُلي

فَرَفلْنَ في الوضّاء والفيّاح

دوماً تبدَّلُ حالةً من حالةٍ

ما بين جدّ تارةً ومزاح

بينا تُرى في ثوب زوجٍ ناشزٍ

يخشى أذاها الناظرون وَقاح

حتى تكون غداً بتولاً أقبلت

في طُهر أرادنٍ وَسمْتِ صلاح

وتجود أحياناً - وغيرُ فؤادها

عرَف الأسى - بالمدمع السَّحَّاح

من مثلُ هاتيك النجوم تزوَّداً

من بهجة الدنيا بكل صُراح؟

حاكَينَ أقمارَ السماء تعدُّداً

وبَذَذْنَها في الحسْنِ والإصْباح

وتَخِذْنَ هذا العمر يوم رياضةٍ

ومتاع ألبابٍ وصرف مِراح

ص: 54

وتركن في جهلاتها وضلالها

دُنيا تلاحٍ دائمٍ وكفاح

من لاعنٍ للشَّرِ وهو مُثيرُه

ومُدجَّجٍ يدعو لنزع سلاح

بين الحياة وبين تمثيلٍ لها

لا تثقُلُ الدنيا على الأرْواحِ

ص: 55

‌طفت بالحمراء

للأديب حسين شوقي

طفت بالحمراء والقلب كليم

أسأل الحمراء عن سادتها

قلت: يا حمراء لم زهر النجوم

لا تضيء اليوم في هالاتها

قالت الحمراء: دع هذه الذكر

لا تذكرني بما مرَّ وفات

أفل الأقمارُ عني واندثرْ

زمَنَ العز ودهرُ المكرمات

ص: 56

‌إلى مؤتمر الفردوسي

1 -

بين القاهرة وطوس

للدكتور عبد الوهاب عزام

أطوى حديث السفر بين القاهرة وبغداد، فقد وصفت هذه المراحل من قبل في الكلام عن سفرتي إلى مدينة العباسين، وليس في هذه المراحل من جديد إلا السيارات الضخام التي تعبر بادية الشام بين المدينتين الخالدتين: دمشق وبغداد. أعدت شركات عربية، وأخرى أوربية، سيارات كباراً تسع واحدتها أكثر من عشرين راكباً في مقاعد وثيرة، تريح المسافر صاحياً وتمكنه من الإغفاء حتى يغلبه النوم. ركبنا إحدى هذه السيارات، ففصلنا من دمشق صبيحة الثلاثاء سادس عشر جمادى الآخرة سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة وألف من الهجرة (الخامس والعشرين من سبتمبر سنة 1934) وبلغنا بغداد والساعة تسع من صباح الأربعاء بعد سفر ستة وعشرين ساعة

فهذه بغداد العظيمة في جمالها وكبريائها، تزدحم فيها حادثات التاريخ أكثر من ازدحام أهلها، وتزخر فيها ذكرى الماضي أعظم من زخور دجلتها. والله بغداد، ما يستقر بها فكر زائرها حتى يحلق في أرجاء العصور، وثنايا التاريخ أمداً بعيداً. فما يفتأ البصر يترامى بين الرصافة والكرخ، يبتغي أن يقع على موكب من مواكب الخلفاء، أو مجلس من مجالس العلماء، أو حفل للأدباء والشعراء. ففي كل نظرة ذكرى خليفة، وفي كل فكرة حديث فيلسوف أو عالم أو شاعر

ثم يقع الفكر وقوع الطائر بعد طول التدويم، فيستريح من بغداد الحاضرة إلى أمة قد أخذت للمجد أهبتها، وأعدت للعظائم عدتها، وعرفت بين الأمم غايتها، وشقت بين الخطوب سبيلها. فسارت في مواقع من الهمة القعساء، والعزة الشماء. تحدوها عزة إسلامية، وأنفة عربية. قد آلت لتسيرن سيرتها حتى تبلغ غايتها. وسير الله يمينها، ويعنو الزمان لأمرها.

وما جهد هذا الدهر إلا هزيمة

إذا نازلت عزم الكرام كتائبه

ذلكم ماضٍ مجيد يمد حاضراً مجيداً، ذلكم تاريخ يتدفق من قمم المجد الشاهقة في مجرى العزمات الماضية، إلى المستقبل الوضاء. ومن ذا يصد السيل إذا هدر، أو من ذا يرد على الله القدر؟ بل من يسلسل البحر بأمواجه، ويرد الحر الأبي عن منهاجه؟ سلام يا دار

ص: 57

السلام! رعاك الله في كل خطوة، وخار لك في كل عزمة.

دار السلام لا عداك المجد

وارفة ظلاله تمتد

ولا حدا نجمك إلا السعد

موصولة الآجال بالآجال

لابسةمجددالقرون

أن حديث بغداد لا ينفد، وحبها في القلوب لا يحد. وإنك أيها القلم لأعجز من أن تخط الزمان الماجد، والتاريخ الخالد، والخطوب والعبر، والقضاء والقدر، في هذه الأسطر. فحدث عن الرحلة إلى طوس؛ وحسبك أن تحمل (الرسالة) هذه الرسالة

لبثنا ببغداد من صبح الأربعاء إلى عشية السبت، في حفارة إخوان كرام، وسرور بدار السلام. ويوم السبت ركبنا نحن والوفود التي قدمت إلى بغداد في طريقها إلى طهران، قطار الليل نؤمّ خانقين. والمسافة بين خانقين وبغداد زهاء مائة ميل، ولكن قطار خانقين المتمهل يقطعها في عشر ساعات، فيمكن المسافر أن ينام ملء جفونه حتى يصبح. برحنا بغداد والساعة ست مساء، وودعنا على المحطة القائم بأعمال المفوضية المصرية حافظ بك عامر، ووزير إيران في بغداد. وسافر معنا الأديب الفاضل أحمد حامد الصراف مندوب العراق إلى مؤتمر الفردوسي. وكان المندوب الثاني الشاعر الكبير الزهاوي، قد سبقنا إلى خانقين في سيارة. وصحبنا في القطار إلى منتصف الطريق الأخ الهمام إبراهيم الواعظ المحامي، وكان ذاهبا إلى كركوك، فما زلنا في إكرامه واحتفائه حتى افترقنا؛ أهدي إلى وإلى الأستاذ العبادي ديوان السيد محمد سعيد الحبوبي النجفي، فكان خير زاد للمسافر. ولما وقف بنا القطار على محطة باب الشيخ ببغداد اشترى لنا قلة بغدادية روينا بها في سفرنا. وقلل بغداد نقية الطينة، سريعة التبريد، تمنيت أن أحمل بعضها إلى مصر فلم يتيسر لي، وهي أمنية أعجزت الأستاذ الزيات من قبل

بلغنا خانقين والساعة أربع من الصباح، فبقينا في القطار حتى أسفر النهار، فنزلنا وحملنا أمتعتنا إلى حجرة من حجرات المحطة، استبد بها الأستاذ الصراف فشاركناه فيها. ولبثنا ننتظر قدوم مندوبي الحكومة الإيرانية حتى جاء القنصل الإيراني، وآقاي روشن المهماندار، الذي كان طليعة ركبنا في رحلتنا كلها. وعلمنا حينئذ أن موعد السفر غد، أول أكتوبر فتفرقنا. ذهب جماعة إلى دار القنصل، وآخرون إلى المنازل أخرى. ودعنا صديقنا

ص: 58

الصراف إلى دار صديقه عبد القادر صالح، معاون جمرك خانقين، وكلمه بالتلفون، فأرسل سيارته، فذهبنا إلى الدار فإذا فتى نبيل من فتيان العراق، وكم في العراق من فتى نبيل! فلبثنا في ضيافته إلى صبيحة يوم الثاني، وسعدنا بصحبة موظفي خانقين الكرام، واحمدنا هذا التأخر الذي أتاح لنا هذه السعادة

وخانقين مدينة صغيرة على حدود العراق، وعلى طريق خراسان، يمر بها نهر حلوان (حلوان جاي) ويسمى نهر ألوند، وهو فرع من نهر ديالى أحد روافد دجلة. وعند المدينة قنطرة كبيرة من أثار الساسانيين. وقد وصفها ياقوت في المعجم. وكانت المدينة في العصور الإسلامية الأولى معروفة بالتمر والغلة، ولا تزال كثيرة التمر. وقد مدح أبن المعتز نبيذها. وقال عتبة بن الوعل التغلبي:

ويوم ببا جسري كيوم مقيلة إذا

ما اشتهى الغازي الشراب وهجرا

ويوم بأعلى خانقين شربته

وحلوان حلوان الجبال وتسترا

وفي خانقين حبس كسرى برويز النعمان بن المنذر حتى مات. ويوم الاثنين أجتمع المندوبين عند محطة خانقين، وجاء آخرون من بغداد منهم أستاذي سيردنسن روس، والشاعر الإنكليزي درنكووتر، وعبد الكريم أفندي الحسيني، والدكتور نظام الدين مندوبا حيدر أياد. وتقسمنا السيارات فركبت أنا والأستاذ العبادي والأديب الصراف معاً، وكانت صحبة الصراف فألا سعيداً في هذه السفرة، فقد نعمنا بحديثه وإنشاده من الشعر العربي والفارسي وتغنيه بالأغاني المصرية. كنا كما تمادى بنا السير وماطلنا المدى، قلنا هات يا صراف، فانطلق ينشد من محفوظه الذي لا ينفد، فيدوي صوته على الجبال الشاهقة، وفي السهول الفسيحة، فننشط له نشاط الإبل للحداء. وسنذكر بعد طرفا من حديث الصراف. سرنا إلى الحدود في طريق معبدة مقيرة، فوقفنا قليلاً؛ وجاء إلينا رسول إيراني فرحب بنا وأعطانا دليلاً مكتوباً بالفارسية والفرنسية، فيه طرف من أخبار البلاد التي نمر بها بين خانقين وطوس. وهناك تركت الرفيقين الكريمين، وركبت مع صديقي عبد الكريم الحسيني مندوب حيدر أياد، إذ كان في سيارة وحده فأردنا أن نؤنسه في السفر

بلغنا قصر شيرين بعد نصف ساعة، فتوقفنا لشرب الشاي على الطريق. وقصر شيرين مدينة صغيرة على طريق خراسان، وعلى نهر حلوان، سميت باسم القصر الذي بناه

ص: 59

كسرى برويز (590 - 628م) لامرأته شيرين

ولا تزال أطلال قصور كسرى قائمة إلى الشمال والشرق من المدينة. وقد وصفها ياقوت فقال: (وفيه أبنية عظيمة شاهقة يكل الطرف عن تحديدها، ويضيق الفكر عن الإحاطة بها؛ وهي أيونات كثيرة متصلة، وخلوات وخزائن، وقصور وعقود، ومنتزهات ومستشرفات، وأروقة وميادين، ومصايد وحجرات، تدل على طول وقوة). ولا تزال ذكرى كسرى وشيرين وعاشقها فرهاد الزائر، والمغني بلهبذ تطيف بها الخرابات، وأساطيرهم تسمع في هذه الأرجاء

وحلوان المدينة القديمة المذكورة في الأخبار والأشعار قريبة من قصر شيرين. وكانت مدينة كبيرة عامرة ثم خربت منذ القرن الثامن، فلم يبقى منها إلا أطلال دراسة، ونخلتا حلوان وقصصهما وما قيل فيهما من الأشعار من الأحاديث الذائعة.

يتبع

عبد الوهاب عزام

ص: 60

‌فصول ملخصة في الفلسفة الألمانية

1 -

تطور الحركة الفلسفة في ألمانيا

للأستاذ خليل هنداوي

فصول لم نرد بها التحدث عن الفلسفة للفلسفة، ولكنا أردنا بها أن تبدي تأثير الفلسفة في تطوير الأدب الألماني، وما كان لأصحاب الفلسفة من فضل عميم على هذا التطور الذي أصاب جميع حقوله الأدبية.

الكاتب

تمهيد

الفلسفة الألمانية قبل (كانت)

كانت تستمد ألمانيا مادة فلسفتها وأدبها من فرنسا طيلة القرن السابع عشر، والفلسفة الديكارتية هي الفلسفة التي كانت تتطارحها الجامعات الألمانية، (وليبنيز)(1646 - 1716) هو أول فيلسوف استطاع أن يبث الحياة في عروق الفلسفة الألمانية ويذهب بها في مضمار التقدم شوطاً بعيداً، كتب الفلسفة باللغة اللاتينية طوراً، وطوراً بالفرنسية، وهما اللغتان السائدتان يومئذ، ولعل شيوعهما واستئثارهما بالكتابات الفلسفية كان يقرب كثيراً بين المفكرين والأدباء حتى يغدو هذا التقريب أحد الأسباب العاملة على تشييد صرح اللغة وتزينه وتجميله بما يستطيع فكر ناهض أن يضعه؛ ولكن علة (ليبنيز) أنه كان يتناول المسائل الفلسفية كمادة فنية تلهو بها نفسه، وهو خلال ذلك قد يعالج المسائل الكبرى، كمسألة الحياة والوجود، وقد يوفق في الإجابة عنها توفيقاً كبيراً، ولكنه كان واحداً من كثيرين ممن يعالجون الفلسفة، ولا يعملون على لم أفكارهم حتى تكون مذهباً خاصاً يضم منها الآراء الناضجة وفكرتهم الخاصة في الحياة؛ وجل ما وصل إليه في فلسفته أن عالج الجبر والاختبار، ومعرفة الله وعلمه بالمستقبل، والعناية الإلهية ووجود الشر، وألف مذهبه في الذي يرضى عن الوجود ويحبب الوجود إلى الإنسان، هذا المذهب الذي سخر منه (فولتير) في مقطوعته زلزال (ليزبونة) وفي روايته (كانديد)، وخير كتب ليبنيز الخالدة كتابه وفي هذا الكتاب يعلن انفصاله عن المذاهب المتقدمة ومروقه من مذهب ديكارت

ص: 61

الذي جعل من الكون جزأين: أحدهما عالم الأرواح والآخر عالم الأجساد، فجاء ليبنيز ونقض هذا المذهب، وأحل محله مذهب (الجزء الفرد الذي لا يتجزأ ولا يفنى، وشأنه في مذهبه هذا كشأنه في غيره يفتقر إلى ترتيب وتوفيق وتوحيد

وهذا العمل الذي كانت تفتقر إليه آثار (ليبنيز) إنما أتمَّه وشذَّبه من بعده الفيلسوف الصارم (وولف) الذي نزع عن فلسفة ليبنيز الخيال والشعر وشد وثاقها بالحقيقة، ونفي عنها شيئاً وزاد عليها شيئاً حتى غدت أجزاؤها متآلفة متداخلة كأنها أعضاء في جسد واحد. وقد كان له تأثيره العظيم في الأدب الألماني والفلسفة الألمانية بشهادة الفيلسوف (كانت)، لأنه هو الذي خلق في الألمانية لغةً للفلسفة خاصة، وهو الذي فتح آفاقاً واسعة في التعبير والأداء لمن بعده، فهان على هؤلاء أن يجلوا وأن يحلقوا ما استطاعوا؛ ومن هؤلاء (كانت) نفسه، الذي كانت له صفحات خاصة تشدو بالمزايا التي أسداها (وولف) إلى الأدب وإلى الفلسفة

على أن الأندية الفلسفية قد تغض بصرها عن كل ما شاد هؤلاء في صرح الفلسفة، وتعتقد أن الفلسفة الألمانية إنما كانت قبل (كانت) غيهباً ممدوداً، وأن الذي محا هذا الغيهب وبعث النور في خلاله هو الفيلسوف العظيم (كانت) الذي تزعزعت له الأندية الفلسفية والأدبية، وكانت له فيهما جولات يعزى إليها كل ما غمر الحقل الأدبي والفلسفي - في ألمانيا - من خصب ومن إنتاج.

كانت 1724 - 1804 حياته: فلسفته: تأثيره

حياته

كان (كانت) في التاسعة من عمره حين فقد والده، فكفلته أمه ونشأته تنشئة عالية، فدرس في بدء عهد اللاهوت، كما هو العهد في دراسات تلك العصور، ثم درس الرياضيات، ثم الفلسفة، حتى إذا أتم عهد الدراسة عرض له هم المعيشة، الهم الذي كان يوقر ظهره في جميع أدوار حياته، فرضى بأن يدرس في مواطن خاصة، وهو خلال ذلك يتفرغ إلى الدرس، ويلم بجميع العلوم التي توائم الفلسفة. وفي عام (1770) أُسند إليه كرسي خاص لتدريس الفلسفة، وقد عاد أمره إلى الضيق، وحريته إلى الإرهاق في عهد فردريك غليوم، إذ تدافعت عليه الوشايات يخلقها حسد القوم؛ ولكنه ظل مثابراً على العمل حتى عام

ص: 62

(1797)

. وقد كان لعهده هذا التأثير بليغ في نفوس طلابه الذين جالت براعاتهم من بعده في صحف الأدب والفلسفة، وهو الذي يوصي زملاءه في إحدى محاضراته:(بأن يحذروا كل الحذر من أن يلقوا في نفوس طلابهم أن العلم بالغ أوج الكمال، أو أن يعلموهم ما هي ماهية الفلسفة، وإنما ينبغي لهم أن يلقونهم كيف يتفلسفون، وأن يساعدوهم - لا أن يحملونهم على ظهورهم - إذا أرادوا أن يعلموهم الدروج على الأقدام). والحق يقال أن (كانت) لم يخلق إلا ليعيش فيلسوفاً، ولم يلاق منه مذهبه إلا قريناً يحيا به ومعه، ناهيك ببعض مآثر رواها عنه القوم، تدل على ما أتصف به كانت من حب العمل والنظام والتوقيت ومواصلة الجهود الجبارة في سبيل دراساته المتتالية، فقد كان الرجل موفقاً كل التوفيق بين مذهبه وسلوكه؛ قد سن لكل شيء نظاماً، وأتبع هذا النظام كأنه الرسول يأمر وهو أول من يأتمر

وكان آخر كلمة له هذه الكلمة حين لقي حتفه عام 1804: (أنه حسن!) كأنما يريد أن يقول (لقد عشت كما كنت أود أن أعيش)

فلسفته

بدأت فلسفة (كانت) تنمو شيئاً فشيئاً شأن كل فلسفة، وإنما تميزت من غيرها بطابع الاستقلال الذي انتحى بها ناحية جديدة، فقد تأثر كانت بمن تقدمه من الفلاسفة وأتخذ غذاءه العقلي منه، وما كاد ينشأ ويترعرع ويشتد ساعده حتى أعلن انفصاله عنه ونهج منهجاً جديداً أختطه لنفسه. وفي كتابه (آراء في التقويم الحقيقي للقوات الحية) حيث أراد أن يوفق في الفلسفة الطبيعية بين لبينيز وديكارت يقول:(قد أتمثل أن هنالك لحظات لا يقنع الإنسان فيها أن يعتمد على قوته، أن هذا الاعتماد ليولد فينا جهوداً متواصلة ويمنحها سبيلاً يفيدها في سعيها نحو الحقيقة، وجميل بنا أن ننخدع ألف مرة، لأن الضال المنخدع ليعمل على خدعة العلم أكثر ممن لا يسلك ألا السبيل المطروقة. . . أنني هنالك سأطأ. . . ولقد سلكت السبيل التي أردت أن أتبعها. . . سأسلكها ولم يقف سيري أحد)

أن هذه الثقة المطلقة بالنفس بدأ يظهر فضل إنتاجها في فلسفة (كانت) لأنها فرضت عليه أن يخط سبيلاً جديدة، ويطلع على الناس بمدرسة للفلسفة جديدة، وهل كان العصاميون ألا أبناء اعتمادهم على نفسهم؟ وقد ظهر أول إنتاجه في كتابه (تاريخ الطبيعة العالمي، ومنهج

ص: 63

السماء العام وتجربة على الأصل الميكانيكي للعالم حسب قوانين نيوتن)، فكتابه هذا هو تجربة ميكانيكية سماوية مؤسسة على علم الطبيعة. فالعالم نيوتن لم يسن إلا قانون الحركات السماوية. وعندما أتى على درس أصل هذه الحركات ناط الأصل بالإرادة الإلهية التي يعن لها كل شيء، ولكن (كانت) أدرك أن القانون الذي أفاد في تعين مذهب الوجود، ينبغي له أن يحلل مركباته، وأن القوات التي تحفظ الوجود ينبغي ألا تختلف عن القوات التي أبدعت الوجود. وأخيراً يفترض في بيان أصل الوجود أن مادة متشابهة مؤلفة من أجزاء متشابهة تقودها حركة دائرة، وهي تتشكل وتتنوع بحسب ما يحتوي باطنها من قوة وفاعلية، ثم يصف الخلاء (أو الفراغ)، وقد استحال جواً غائماً، وشموساً وسيارات وأقماراً، ولكنه في الحقيقة لم يزد شيئاً، إلا أنه سار بالمسألة التي وقف نيوتن عليها، وهذه المسألة المبهمة هي عديمة الحل في ذاتها، إذا ليست الحياة إلا العمل الدائم نقبله على وضعه؛ وفصول أخرى جاءت في الكتاب تغمرها أنفاس شعرية تبدي لنا (كانت) في عهد كان لا يفر من عاطفته، وقد تراه في بعض صفحاته يسوق إليك نظريات قد أستغلها (لابلاس) نفسه بعد خمسين عاماً. كانت العلوم الطبيعية هي شغل (كانت) في جميع أدوار حياته، وهذه العلوم هي التي فتحت لنفسه أفقاً جديداً تركها لا يقنعها مدى الأفق الضيق الذي تخلقه المدرسة، حتى إذا مرت عليه أعوام عاد إليه حنينه إلى الفلسفة المقصودة بذاتها، فحارب المذاهب الهندسية التي تعنى بالبراهين المنطقية ولا تعنى بالبراهين العملية، وقد وضع كتاباً خاصاً ناضل به أصحاب العلم النظري

يستشهد (كانت) بكلمة لأرسطو (ترانا حين نكون شيوخاً نعيش سواء في هذا العالم نفسه، ولكننا عندما نسترسل في الأحلام والأوهام كل منا له عالمه. . . ثم يقول: (وحين يبني الناس دعائم الوجود كل بحسب رغبته، فليأذنوا لنا بأن نقول: أن هؤلاء الناس يحلمون! ولكن هل يدفعنا هذا إلى القول: أن كل علم نظري فاسد؟ لا. لأن العلم النظري قد يسد حاجة من حاجات عقلنا، ولكنه لم يكن ناجحاً مفيداً إلا إذا كان موثقاً بحبال معرفتنا. ويقول كانت: أن العلم النظري له عملان: يجيبنا في الأول على أسئلة كثيرة يخلقها العقل الطامح إلى كشف أسرار الوجود، وهاهنا يكثر انخداعنا بنتائج تأتينا على غير ما نتوقع؛ وفي العمل الثاني يبين لنا ماهية المسألة التي نعالجها وموضوعها من حدود إدراكاتنا، وإمكان

ص: 64

اتصالها أو استحالته بتجاربنا ومعارفنا. وعلى هذا نرى العلم النظري إنما هو معرفة لحدود العقل البشري، وهو كل البيت الصغير ترى حدوده دائماً كثيرة، وإنما ينبغي لهذا العلم أن يكون أكثر شغفاً بالمعرفة، وأشد صيانة لما يملكه، لأن ذلك أجدى عليه من إنتصارات جديدة يركض ورائها ركضاً أعمى لا يغنيه شيئاً

هذا هو رأي كانت في العلم النظري، وهذا الرأي نفسه هو الذي خلق كتابه (نقد العقل الخالص) هذا الكتاب الذي أظهر مزية (كانت) وعلو كعبه في الفلسفة، وكان له التأثير العميق في فلسفة أوربا الحديثة.

خليل هنداوي

ص: 65

‌العلوم

في تاريخ الرياضيات

للأستاذ محمد محمد السيد

للأستاذ قدري طوقان آثار مشكورة في الإبانة عن فضل العرب في الرياضيات والعلوم، ومقاله الأخير في الرسالة يكشف عن بعض آثر العرب في تلك الناحية. إلا أنه يلوح لي أن حرصه على إنصاف العرب يكاد يدفع به إلى إسناد الفضل لغير أهله، خذ مثلاً حساب التفاضل والتكامل. فالمعروف في تاريخ الرياضيات أن يودكسوس (حوالي 400ق م) وأرشميدس (حوالي 250ق م) وغيرهما كانوا سباقين في استعمال طرق تقرب من طرق التكامل في إيجاد المساحات والحجوم. فأرشميدس مثلاً أعطى مساحة أي قطعة من قطع مكافئ وأوجد مركز الثقل لصفائح ذات أشكال مختلفة. . الخ وفي كتابه نسب إلى ديمقراطيس (حوالي 450ق م) بأنه أول رياضي قرر المعادلة الصحيحة لحجم الهرم أو المخروط بتقسيم كل إلى شرائح صغيرة

فإذا كان بعض مؤلفي العرب قد نسجوا على منوال رياضي اليونان في حل مسائل عن المساحات والحجوم، فهم لا يستحقون لذلك فضل المبتكر. لو أن فضلهم في الدرس والمثابرة مشكور غير منكور على كل حال

ومثل ذلك يقال عن دوران الأرض. فقد أبان الأستاذ بحق أن الفكرة قديمة. فقد تنازعها كثيرون من أعلام اليونان تأييداً وتفنيداً. فإذا ظهر من العرب من يأخذ بها أو من ينكرها، ففضله في ذلك لا يعدو فضل الحكم يختار من بين الآراء المختلفة أحدهما بدون أن يأتي بجديد من الحيثيات مؤيداً أو مفنداً

جاء في تاريخ الرياضيات لبول أن أحد كتاب العرب في الأندلس ويدعى (؟)(عاش في طليطلة حوالي 1080م) قال بحركة الكواكب في قطع ناقص. ولكن معاصريه أنكروا قوله لمخالفته لبطليموس. ومن المعلوم أن يوحنا كبلر هو الذي توطد على يديه هذا الرأي حوالي 1600م، ولكنه لم يشهر رأيه ولم يقتنع به ولم يدافع عنه إلا بعد مشاهدات وأبحاث استغرقت أعواماً عديدة. ولا شك أن فضل كشف هذه الحقيقة يجب أن يستأثر به كبلر وحده دون غيره. في الرأي نفسه عار عما يعززه، لا يقدم ولا يؤخر في العلم. ولكن

ص: 66

المشاهدات والأدلة هي التي يقوم عليها الاقتناع والإقناع

ومن المشهور في كتب الرياضيات والعلوم أن جهد اليونان ثم العرب في العلوم الرياضية كان مقصوراً على الجانب النظري. ولم يكن للتجربة والمشاهدة أثر فعال في كسب المعلومات إلا بعد عصر الأحياء في أواسط أوربا. صحيح أن آثر العرب لا ينكر في الكيمياء والطب. ولكن تجاربهم في الفيزياء والرياضة التطبيقية نادرة. وحتى هذا النادر مختف في طيات الكتب القديمة ينتظر كولمبس جديداً لكشفه

ولذلك قرأت بشغف ما كتبه الأستاذ خاصاً بالجاذبية، ومن أن العرب أخذوا فكرة الجذب عن اليونان (وزادوا عليها ووضعوا بعض القوانين بسقوط الأجسام)، فإذا كان العرب قد وضعوا حقاً بعض القوانين لسقوط الأجسام، فمعنى هذا أنهم سبقوا في ذلك غاليلو وتجربته الشهيرة التي أجراها من برج بيزا. والتي يقول علماء التاريخ بأهميتها في القضاء نهائياً على ما قال به اليونان من اختلاف سرعة سقوط الأجسام الثقيلة عن الخفيفة. فإذا كانت هناك تجارب في هذا الشأن أجراها علماء العرب فتفصيلها يضيف زيادة ذات بال إلى المعروف المشهور عن فضلهم على العلوم والمعارف. ولعل الأستاذ يدلي بما وصل إليه علمه في هذا الشأن ومثل ذلك يقال عما جاء في مقال الأستاذ عن (أبن حمزة المغربي) واستعماله في بحوثه عن المتواليات الهندسية طرقاً تقرب من اللوغارتمات فمن المفيد نشر فضل هذا الباحث وآثاره في هذه الناحية بالتفصيل خدمة التاريخ.

في المقال النفيس الذي ظهر في العدد التالي من الرسالة فصل الأستاذ المبارك آثر العرب في الرياضيات، ولكن فضل العرب في الجبر يحتاج بعض الإبانة

فقد ذكر الأستاذ أن العرب لم يستعملوا رموزاً حرفية في معادلاتهم الجبرية، وإنما استعملوا كلمات بأجمعها دون اختصار، ولعل الأستاذ قصد الخوارزمي دون غيره في هذه الفقرة. وإلا فمن المؤلفين العرب من استعمل الرموز كما تستعمل في الجبر اليوم. ففي مؤلف للقاصدي (توفي سنة 1486م أو 1477م). عنوانه (كشف الستار عن علم الغبار) كان يستعمل في المعادلات الجبرية الرمز (س) للمجهول (أول كلمة شيء) والرمز (م)(لربما كان أول كلمة مال) لمربعه، والرمز (ربما كان الكاف أي مثل) لعلامة التساوي. فمثلاً المعادلة

ص: 67

63 يقصد بها 3س2=12س + 63

كذلك جاء في هذا المؤلف أيضاً استعمال الرمز (جـ)(أول كلمة جذر) علامة الجذر التربيعي فكان يكتب ويقصد بها الجذر التربيعي للعدد 48

ولا شك أن هذا الاستعمال، إن صح، يعزز الأصل العربي للاصطلاح المذكور وهو ما ينكره الأستاذ المبارك

أما حل العرب لمعادلات الدرجة الثانية جبرياً فلا فضل لهم فيه، فقد سبقهم فقد سبقهم ديوفانتس والهنود في ذلك. ولكن يرجح أنهم اقتبسوا حلهم من الهنود. إذ لم تكن أعمال ديوفانتس قد وصلت إلى علمهم بعد

ولكن العرب أضافوا حلولاً هندسية لمعادلات الدرجة الثانية من ابتكارهم. كذلك فعلوا في معادلات الدرجة الثالثة إذ أعطى كل من المهني (؟) وأبي جعفر الخازن وأبي الجود وعمر الخيام حلولاً هندسية لمعادلات الدرجة الثالثة وقد حل عمر الخيام معادلات من الدرجة الثالثة من الصور الآتية

س3 + ب2 س=ب2 جـ

، س3 + أس2=جـ3

، س3 + أس2 + ب2 س=ب2 جـ حيث أ، ب، جـ أعداد صحيحة موجبة.

وحل أيضاً المعادلة من الدرجة الرابعة الآتية

(100 - س2)(10 - س) 2=8100

وكذلك أعطى ثابت بن قرة حلاً هندسياً لبعض صور معادلات الدرجة الثالثة (وهو في هذا يسبق عمر الخيام)

وقد يكون من المفيد أن ألفت نظر الأستاذ فيما يختص بإشارة الناقص التي تستعمل للطرح إلى أصل محتمل لها وهو (النقطة التي كان يستعملها الهنود ويضعونها فوق الكميات المطروحة. وقد تكون علامة ناقص من الشرطة التي كانت توضع فوق الكتابات القديمة دليل ضياع أحرف منها. . .).

طنطا

محمد محمد السيد مدرس

ص: 68

‌البريد الأدبي

الأدب البلغاري

الأدب البلغاري من الآداب الأوربية الفتية التي نشأت وازدهرت بسرعة مدهشة؛ فالأدب البلغاري الحديث يرجع إلى نحو ثلث القرن فقط، أي إلى عهد الاستقلال القومي، ومع ذلك فقد سارت هذه النهضة الأدبية واستكملت عناصر النضج بسرعة. وقد نشر الكاتب البلغاري نيكولاي دونتشيف أخيراً كتاباً بالفرنسية عنوانه (المؤثرات الأجنبية في الأدب البلغاري) استعرض فيه مراحل الحركة الفكرية في بلغاريا وخواصها؛ وملخص بحثه أن هذه الحركة على فتوتها قد استطاعت أن تستكمل عناصر ثقافة تامة؛ ومن الطبيعي أن تتجه قبل كل شيء نحو المثل والأماني السلافية، على أنها لم تهمل الاقتباس من مختلف الآداب الأوربية التي تستطيع الانتفاع بها؛ وقد ألفت الحركة لسانها وروحها في الوطن البلغاري، ولم تتدخلالمؤثرات الأجنبية إلا لتصوغ أو توجه هذه المادة القوية الأصيلة، ولكنها لك تحولها قط عن طرافتها وتقدمها الطبيعي

وقد استطاعت الحركة الفكرية البلغارية في مبادلاتها مع آداب الأمم الأخرى أن تنفذ إلى جميع نواحي الشعر والنثر والخواص النفسية، وجميع مظاهر التفكير البشري؛ ويشرح دونتشيف في كتابه مختلف التيارات التي اندمجت في المجرى القوي الذي أوحى به الاستقلال القومي، ويبين كيف أن هذا الأدب الفتي الذي أستعاد كل ثروته اللغوية، قد تحول إلى مادة غنية تضم كل ما وهبته الأمم المجاورة أو كل ما بثته فيها

والأدب البلغاري لا يزال بلغارياً في روحه وجوهره، وذلك رغم تأثره بالآداب الروسية والفرنسية والألمانية، مما يدل على قوته وحيويته؛ فهو لم يخضع قط لهذه المؤثرات خضوع العبد المساق، وهو ليس مقلداً ولا ناقلاً فقط؛ وكل ما هنالك أنه كالتلميذ الذي يستقي من أستاذه، ليصوغ ما يأخذه في معدن عبقريته المستقيلة، وهو لا يقتبس إلا ما يفيد في تغذية قلبه وروحه، ويرفض كل ما هو سطحي أو مصطنع؛ وكل ما يخرجه يتميز بطابعه الخاص، بحيث لا يطغي عليه أي طابع آخر، وهذا الازدهار نتيجة طبيعية لحركة لا تدور حول نفسها عبثاً، ولكنها تفتح صدورها لكل الرياح التي تهب عليها من كل مكان يتفتح فيه الذهن البشري، فتزداد في ذلك نماء وخصباً

ص: 70

ولم يبق الأدب البلغاري مجهولاً بعد في أوربا الوسطى والغربية. فقد ترجم الكثير من الآثار البلغارية، إلى الألمانية والإنكليزية؛ وظهرت قطع مسرحية بلغارية في أثوابها المترجمة على الكثير من المسارح الأوربية.

في الأكاديمية الفرنسية

خلت منذ حين أربعة كراسي في الأكاديمية الفرنسية على أثر وفاة المسيو بوانكاريه ومسيو بارتو، ومن قبلها مسيو كاميل جوليان المؤرخ، والماريشال ليوثي، وقد أنتخب أخيراً مكان كاميل جوليان المسيو ليون بيرار السياسي والخطيب الأشهر، وانتخب مكان الماريشال ليوثيزميله الماريشال فرانش دسبريه. وأما كرسي المسيو بارتو، فأنهم يرشحون له مسيو دومرج رئيس الجمهورية الأسبق ورئيس الوزارة السابق؛ وهنالك إجماع على انتخابه فيما لو قدم ترشيحه، غير أنه لم يعرف رأيه في ذلك الاقتراح بعد

وستعقد الأكاديمية جلستها التالية في يوم 20 ديسمبر الحالي؛ ويلقي مسيو بول فاليري خطاب الافتتاح وتوزع بعض الجوائز الأدبية.

مؤلف جديد عن نابليون

صدرت كتب عديدة جامعة بمختلف اللغات عن نابليون بونابرت وعن عصره؛ وصدر أخيراً مؤلف جديد بقلم المؤرخ الفرنسي الكبير (لوي مادلان) عنوانه (نابليون) ويدرس مسيو لوي مادلان نابليون من ناحية جديدة، هي ناحية (المنشئ على الطريقة الرومانية). وكان من أشهر الدراسات التي صدرت عن نابليون في العهد الأخير دراسة لأميل لودفيج الكاتب الألماني يدرس فيها نابليون من نواحيه الشخصية والإنسانية، ولكن دراسة لودفيج يغلب عليها الطابع المسرحي، وهو الذي يغلب على معظم كتابات لودفيج، أما بحث لوي مادلان، فيغلب عليه الطابع النفسي والعلمي. وهو يرى في نابليون (لاتينياً) وارثاً للإمبراطور شارلمان؛ ويراه إمبراطوراً من طراز روماني، نام منذ عصر ماركوس أورلويس، ثم نهض فرأى العالم حوله أنقاضاً وأطلالاً؛ ولكنه بدلاً من أن يتخذ رومة مركزاً لبنائه أتخذ باريس وجزيرة فرنسا في نظره نواة مركزية لاتحاد أوربي جامع، ولكنه لم يكن يرمي إلى طبع أوربا بالطابع الفرنسي، بل كان يرى في حريات الشعوب التي تتألف منها

ص: 71

الإمبراطورية الشاسعة ما كان يراها الرومان

ثم هل كان نابليون فرنسياً؟ لقد كان يشعر أنه فرنسي؛ ولم يكن في قوله: (إني أريد أن أثوي على ضفاف السين إلى جانب أولئك الفرنسيين الذين شد ما أحببتهم) ما يدل على شعوره بأنه أجنبي؛ وإنما كان شعوره أنه (روماني). وقد جاء هذا الروماني في أواخر القرن الثامن عشر، والعالم من حوله أطلال ممزقة، فأراد أن يوحي نوعاً من (العالم الروماني) الذي يعتقد أنه ما زال حياً يمكن إنقاذه.

أكاديمية الأدب الفكاهي

لعل من الشائق أن يعرف القراء أنه توجد في باريس جمعية أدبية تسمى (أكاديمية الأدب الفكاهي) وأن هذه الجمعية تتزعم حركة الكتابة الفكاهية، وتمنح الكتاب الفكهين جوائز أدبية، وتشجع بذلك على إنشاء الأدب الفكاهي ونهضته، وقد وضعت هذه الجمعية أخيراً مكافأة قدرها خمسمائة فرنك (سبعة جنيهات) لمن يضع أحسن قصة فكاهية لا تزيد على ثلاثمائة سطر، ولا تقل على ثلاثمائة سطر، ولا تقل عن مائتين وخمسين، (وستعنى الجمعية بنشرها في صفيحة باريسية كبرى)، وتشمل هذه الجمعية أيضاً برعايتها أصحاب الفن الفكاهي مصوري الصور الهزلية (الكاريكاتير)، ومن إليهم الفنانين.

الشفاليير ديون

ظهر أخيراً كتاب الكاتب الفرنسي جان جاك بروسون عنوانه (الشفاليير ديون) ، ويتناول هذا الكتاب موضوعاً مدهشاً لا زال لغزاً من ألغاز التاريخ والمجتمع، هو شخصية لم يتفق المؤرخون على جنسها؛ هل كان الشفالييه ديون رجلاً أم امرأة؟ ويجب أن تعرف أن هذا الشخص المشكل قد عاش في عصر لويس الخامس عشر، وكان يتبوأ مركزاً هاماً في البلاط وفي سياسة الدولة

وقد عرف الشفالييه ديون أولا بأنه رجل، وتولى بهذه الصفة بعض المناصب، ولكنه كان فتى ناعماً خلاباً يضارع في الحسن ورقة المحيا والتقاطيع أجمل فتاة، وكان إذا مثل في الحفلات الراقصة يرتدي دائماً ثياباً نسوية فيبدو كأنه امرأة فاتنة؛ وكان في أحيان كثيرة يرتدي هذه الثياب ويؤثر الظهور بها؛ وكان يتسلل بهذا الزي إلى أعمق المجتمعات

ص: 72

الرفيعة، وإلى غرف الأميرات والملكات؛ ولما وقف لويس الخامس عشر على مسلكه قضى بأن يعتبر امرأة، وأن يرتدي الثياب النسوية دائماً؛ ثم خشي لويس الخامس عشر من دسائسه فأمر بسجنه في قلعة؛ ولما أطلق سراحه فر إلى إنكلترا، وأحترف تدريس المبارزة، وظهر في المجتمع اللندني بأنه أستاذ بارع في الفن؛ ولما توفي فحصه بعض الأطباء، فيقال أنهم وجدوه رجلاً كامل الأعضاء والرجولة ولكن شخصية الشفالييه ما زالت غامضة. هذه هي القصة التي يعالجها المسيو بروسون في مؤلفه الشائق، ويفضل مسيو بروسون أن يعتبر الشفالييه امرأة ذات خواص غير عادية، وأن صفة الأنوثة هي الأصيلة فيه. ويورد في كتابه كثيراً من السير العجيبة عن هذه الحياة المدهشة التي لبثت تثير دهشة المجتمع الفرنسي مدى حين.

الإذاعة اللاسلكية العربية

إن محطات الإذاعة التي تذيع باللغة العربية اليوم هي:

المحطة المصرية وموجتها وقوتها ومواعيدها معروفة

ومحطة الجزائر وموجتها 318 ، 8 متر وقوتها 12 ، 5 ك ووتذيع باللغة العربية يومي الاثنين والأربعاء من الساعة 20 إلى الساعة 20 ، 45 ويوم الثلاثاء من الساعة 24 إلى الساعة 4 ، 45، ويوم الخميس من الساعة 23. 5 بحساب الزمن في مصر

ومحطة الرباط بالمغرب وموجتها 499. 1 وقوتها 6. 5 ك ووتذيع بالعربية ساعة في كل يوم من الأيام الأحد والثلاثاء والخميس والجمعة من الساعة 21

ومحطة باري بإيطاليا وموجتها 283. 3 م وقوتها 20 ك ووتذيع بالعربية ربع ساعة في كل يوم من أيام السبت والثلاثاء والخميس من الساعة 20. 30 ولا تذيع إلا الأخبار فقط وتلاحظ مجلة العالم الأدبي التونسية التي ننقل عنها هذا البيان أن محطة الإذاعة المصرية إنما قصرت عن مجاراة المحطات العالمية الأخرى لعاملين اثنين أولهما ضعف قوتها، فقد جعلوها 20 ك ووالعالم العربي منتشر من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، والأمة ذات اللسان المنتشر لن تكتفي بأقل من (60 ك و)؛ وثانيهما أن موجتها ذات مقياس مشترك لعاصمة البلجيك، وذلك ولا شك يؤثر في قوتها ويزيد من اضطرابها وهما ملاحظتان جديرتان بالنظر.

ص: 73

‌القصص

من الفن القصصي الحديث

حقيبة القدر

للقصصي الألماني: لدفج باور

كان جورج شاباً هادئ الطبع فاضل الخلق، لم يكد يخرج من أزمة بسيطة انتابته حتى استقل القطار قاصداً بلدة صغيرة يشغل فيها وظيفة متواضعة وكان كل شئ يبدو لجورج عادياً لا خطر له، وقد مرت سنو عمره دون أن تتخللها مغامرة، أو يمتريها حادث خطير يهز حياته التي كانت أشبه بحياة أبناء الطبقة الوسطى، وعندما بلغ القطار عند منتصف الليل المكان الذي يقصده جورج أخذ حقيبته من الغرفة المكتظة التي كان يجلس فيها مولياً وجهه شطر حياته الجديدة.

وصل جورج إلى الفندق الصغير الذي عزم على الإقامة فيه، وعندما ذهب إلى سريره لينام نظر إلى الحقيبة، ولكنها لم تكن هي بذاتها على أن جورج خشي أن يكون مخطئاً في تقديره، فحاول أن يفتحها بالمفتاح الذي لديه ولكن عبثاً حاول. على أنه عندما ضاعف جهده انفتحت فجأة. وكانت أول نظرة ألقاها كافية أن تثبت أنه لم يكن مخطئاً. نعم كانت الحقيبة لشخص آخر

أما حقيبته الأصلية وما فيها من سقط المتاع وهو كل ما يملكه فقط كانت في ذلك الوقت تجوب الآفاق المجهولة حيث لا صاحب لها. ووجد جورج نفسه - وهو الذي لم يصادف في حياته يحتاج لحلها - عاجزاً منذ اللحظة الأولى على أن يجمع في ذهنه فكرتين أثناء ذهوله ودهشه. ما العمل الآن؟ كيف يستطيع الحصول على البذلة التي يرتديها أيام الآحاد وعلى زوج حذائه الثاني وسائر ملابسه؟ كان جورج يأمل أن يجد في محتويات الحقيبة بعض المعلومات عن مالكها الحقيقي الذي قد يكون هو الآخر مستاءً من استبدال حقيبته بأخرى، لذا شرع جورج يبحث أثناء تفتيشه في الملابس المتسخة عما يدله على الشخص الذي أخذ حقيبته وشعر تحت يديه برزمة من الأوراق، فلما جذبها وجدها سلسلة من الخطابات والرسائل البرقية، وأفلتت هذه الرزمة من يد جورج فانتشرت على أرض الغرفة

ص: 75

رزمة من الأوراق المالية من كل نوع

لم يعرف جورج من هذه الأوراق الغريبة المتعددة الألوان إلا عددا ضئيلاً. وجمع جورج الأوراق المالية واستمر في البحث، فاكتشف في قاع الحقيبة المفروشة بالورق ما يشبه وسادة منتفخة من الأوراق المالية المختلفة. ونظر جورج حواليه وقد انتابه العجب منتظراً شخصاً يأتي إليه من ذلك الحلم اللذيذ المخيف في وقت واحد. على أنه لم يأت أحد وبقيت الأوراق في موضعها دون أن تختفي، كما لو كان الأمر حلماً من الأحلام. لم يكن جورج قد رأى من قبل مثل هذا القدر من المال. أخذ يعده وكان حبه للنظام يجعله يضع كل نوع من الأوراق على حده، دون أن يعرف بالضبط قيمة كل منها، على أنه بعد بعض دقائق أن ما أمامه مقدراً بالعملة الذهبية، يتراوح بين مليون ونصف ومليونين. وكان يستطيع حينئذ أن يقول لنفسه إن محتويات حقيبته قد دفع لها ثمن أكثر من الثمن الذي تساويه. على أن هذه الفكرة لم تخطر بباله. وكل ما كان يضايقه فكرة الاتصال بصاحب هذه الكنوز، واستبدال كل من الحقيبتين بالأخرى. فقال لنفسه:

- لعل من الخطابات ما يدل على اسم صاحب الحقيبة وعنوانه.

كان جورج شاباً ذا خلق قويم، لذا كانت فكرة البحث في الخطابات التي تكتب إليه تضايقه وتؤلمه. على أنه في هذا الظرف كانت الضرورة ومصلحة كل من الطرفين تحتمان عليه أن يفعل ذلك. لذا شرع يقرأ.

قرأ جورج الخطابات فعرف من القراءة أشياء كثيرة لم يعرفها طوال الثلاثة والعشرين عاماً التي قضاها في هذا العالم: أشياء لم تكن تخطر له ببال. لم يستطع جورج أن يفهم جيداً هذه الخطابات فقد شرع منذ ابتدأ في خطاباته بالتلميحات والكلمات السرية والمصطلحات. على أنه استطاع أن يدرك أن هذه الأوراق المالية هي ملك أحد لصوص الفنادق ذو النفوذ الواسع، وكان تصل إليه من شركائه ومن صديقة عزيزة كل أنواع المعلومات والإرشادات. ولمعت أمام عيني جورج أسماء كثير من الأماكن والبلدان الأجنبية التي تمتاز بغناها ورفاهيتها، وفي بلدة (كان) على الخصوص استطاع ذلك اللص الخطير أن يلعب دوراً رائعاً مع السائحين الأمريكيين. وفهم جورج من آخر خطاب أرسلته صديقة ذلك اللص إليه أنه يريد أن يضع حداً لمقامراته ويلجأ إلى الراحة والعزلة. فقد كان الاثنان

ص: 76

يملكان ثروة كافية وكانا يستطيعان أن يعيشا من الآن حتى آخر العمر عيشة مدنية مريحة، فقد كانت الحلي قد بيعت بثمن ضخم، ولم يبق إلا قفل من الزمرد كان يمكن أن يباع بخمسين ألف فرنك لولا أنه كان من المحتم أن تنتهي عملية البيع خفية وبأسرع ما يمكن. ولذلك بيع بثمن غير مناسب. وعرف جورج أثناء قراءته أن كل شئ قد أعد وأن السعادة الأكيدة كانت تنتظر الصديقين بعد محن عديدة وأخطار لا عدد لها أمكن التغلب عليها بمهارة وشجاعة.

ووضع جورج رأسه في الماء البارد. كان من اللازم أن يتخذ قراراً. فقد كان واثقاً على الأقل أن صاحب الحقيبة سوف لا يأتي إليه ليستبدل حقيبته بالأخرى لأنه لا يحب أن يقبض عليه، كان أكثر الأمور احتمالاً إذن أن يلوذ اللص هارباً ببذلة جورج وحذائه وملابسه التي منها عدد من القمصان الجديدة كان يحبها جورج ويفتخر بها. وأن يقع العبء كله على كتفي جورج وحده. فهذه الحقيبة التي لديه تجعله هو الذي اخترق الجدران والأسطح، وهو الذي تسلح بالليل البهيم والمسدس في قبضته ليدخل الفنادق الفاخرة فيحطم صناديق الجواهر الموضوعة إلى جانب أصدقاءها السابحين في نومهم. على أن هذا اللص كان أيضاً بالنسبة لجورج المحسن المجهول، فقد ترك له ثمرة حياته الإجرامية المفعمة بالمغامرات، فبعد أن أراد ختام هذه الحياة والفراغ من هذه المهمة وبعد أن وثق من الغد ورقد في القطار يستريح مجهوداً مكدوداً، أخذ جورج حقيبته دون أن يدري ولا بد أن ذلك اللص الخطير قد ثار في تلك اللحظة غاضباً يسخط حيناً ويقسم حيناً آخر لا يعرف إلى من يشكو لاعناً ذلك السائح الخطير الذي خدعه وانتزع منه قائمة أعماله كلها. تلك القائمة التي ضحى من أجلها كثيراً ولاقى في سبيلها الأهوال على أن هذا السارق القدير ليس في الواقع إلا شاباً من أسرة متوسطة فاضل الخلق طاهر الذيل، لم يكد يقع في هذه المشكلة الخطيرة حتى أحس في عقله البسيط رعباً فضيعاً وعذاباً مضنياً.

واتخذ جورج قراراً سريعاً وقام لفوره وأغلق الحقيبة وتقدم نحو باب الغرفة متجهاً إلى مركز البوليس ليعرض مسألته: وقد أحس وهو يفعل ذلك بالهم والحسرة، ولكنه كان يعزي نفسه في المكافأة التي يمكن أن يحصل عليها بسبب تبليغه ومساعدته في القبض على ذلك اللص الخطير. وأخذ يحسب ما سوف يناله من المال لو كانت هذه المكافأة خمسة أو ستة

ص: 77

في المائة.

وجد جورج نفسه أمام دائرة البوليس، ونظر إلى الجرس متأملاً مفكراً، ولم يكد يضع إصبعه على الزر حتى تبدد حلمه في الغنى والجاه. على أنه بالرغم من ذلك سوف يدخن - عندما يقبض المكافأة - نوعاً من السجائر أغلى ثمناً من النوع الذي يدخنه، وتذكر - وهو يدق الجرس - والديه الكريمين المتوفيين، وتذكر معهما تلك الدروس القيمة التي كان يتلقاها منهما؛ وتذكر أيضاً تلك العبارة (أن المال المكتسب عن طريق غير شريف لا يأتي بفائدة). وكان يقول لنفسه أيضاً: أن البوليس سوف يعثر عليه يوماً من الأيام. لقد دفعه كل ذلك إلى أن يدق الجرس بغير قوة ولا عزم، ولكنه دق الجرس والسلام. وأنتظر. . . ولكن لم يجبه أحد. ودق للمرة الثانية وأستمر واضعاً إصبعه على الزر انبعث صوت شخص نائم يسأله ماذا يريد، طالباً منه أن يعود في اليوم التالي، لأن دائرة البوليس لا تفتح أثناء الليل. وسمع في ذلك الوقت صوتاً صارخاً هو صوت نافذة تقفل بعنف.

عندما رجع جورج إلى الفندق بدا له فجأةً أن مشيئة علوية هي التي أرادت ألا تسلم الحقيقة إلى دائرة البوليس. فقد فعل كل ما يستطيع حتى أنه عرض نفسه للخطر ولكن الله لم يشأ، لذا ترك جورج كل فكرة في الذهاب إلى دائرة البوليس وأعتقد أنه يجب أن يكون أكثر شجاعة وجرأة. ومرة واحدة وجد نفسه عازماً على الاحتفاظ بالمال. ولم لا؟ ليس هو الذي سرقه، كما أنه ليس من الأجرام أن يأخذ الإنسان من لص خطير مالاً حصل عليه بطريقة غير شرعية. وأحس جورج دفعة واحدة بإحساس جديد وأكتشف في قلبه راحة خفية كانت ولا شك نتيجة شعوره بأنه غني. وفكر جورج في كل تفاصيل حياته المستقبلة. سوف لا يرجع مطلقاً إلى منزله. كذلك من البديهي أن لا يبقى في تلك البلدة الصغيرة، فسينتاب أهلها العجب والرعب حين يرون التغيرات الكبيرة في عاداته ومعيشته على أن جورج لم يكن يعرف في الواقع ما سوف يفعله بكل تلك الثروة الهائلة، فهذا شيء جديد لم يتعلمه من قبل ولم يهيئ نفسه له. وهو الآن يريد أن يستعد لتلك الحياة الجديدة ويتخذ لها أهبتها بعد أن أختاره الحظ الزاهر يتمتع ذلك اللص الخطير الذي ولد ليكون طول حياته سيئ الحظ منكود الطالع.

وعندما بلغ جورج المحطة ليستقل القطار فكر في ذلك المحسن المجهول تبدو عليه عاطفة

ص: 78

الاعتراف بالجميل. بل كان يغمره سرور من يلتذ بإيلام الغير.

وبعد أشهر كان جورج يسكن قصراً على ساحل الريفييرا، وكان يرتدي أفخر الملابس وأنقها، وقد أصبح الجاه عنده أمراً طبيعياً جداً على أنه في داخل نفسه كان يشعر بالضيق. وكان كلما فكر في أمره وجد نفسه ليس أكثر سعادة من ذي قبل وفي ذلك اليوم عندما أوشكت عينه أن تغمض سمع وقع أقدام وضجة في ردهة القصر. ما الذي يحدث؟ لبس جورج بيجامته الحريرية وخرج من الغرفة. لم يحدث شيء غير عادي، فقد قبض على أحد لصوص الفنادق في اللحظة التي كان يفتح فيها باب غرفة نوم جورج. ورأى جورج وجه الرجل الذي كان رجال البوليس السري والخدم يمسكونه بقسوة ويسوقونه أمامهم. وبدأ لجورج أنه رأى ذلك الوجه. ولكن أين؟ وسرعان ما تذكر وقد ملأه الوجل: أنه الشخص الذي كان يحتل المعقد المقابل له في القطار يوم وقع حادث الحقيبة الشهير

وأبتسم جورج ابتسامة صفراء وألقى بنفسه ثانية على سريره، على نومه طول تلك الليلة كان قلقاً مضطرباً.

علي كامل

ص: 79

‌بعض الكتب الجديدة

(الأدب العربي وتأريخه في العصر الجاهلي) للأستاذ محمد

هاشم عطية

(شهيرات التونسيات) للأستاذ حسن حسني عبد الوهاب

(أيام بغداد) للأستاذ أمين سعيد

ألف الكتاب الأول الأستاذ محمد فاضل عطية المدرس بدار العلوم، لينتفع به طلاب هذه المدرسة وطلاب كلية اللغة العربية بالجامعة الأزهرية وقد جعله قسمين يقعان معاً في نحو أربعمائة صفحة كبيرة. ففي القسم الأول تكلم الأستاذ أولاً عن معنى كلمة الأدب ومنشأها، ثم حدد العصر الجاهلي وأنتقل إلى أقوال العلماء في الأدب الجاهلي، فأورد طرفاً منها في معرض التدليل على صلاحية هذا الأدب ليكون مرآة للحياة الجاهلية، ثم تكلم عن تاريخ الأدب والمراد منه وفائدته وعلاقته بالتاريخ العام، ودرس جزيرة العرب وأصل العرب وطبقاتهم، ونشأت اللغة عامة والعربية خاصة وخصائص اللغة العربية، ومعارف العرب في الجاهلية، والنثر الجاهلي والشعر الجاهلي وخواصهما؛ ثم درس المعلقات درساً مفصلاً. وأما القسم الثاني من الكتاب فقد جعله للتراجم بعد أن مهد له بفصل ممتع في النقد الأدبي وتاريخه وأصوله، وترجمة فيه لامرئ القيس والنابغة وزهير والأعشى ولبيد وطرفة وعبيد أبن الأبرص وأوس بن حجر وأمية أبن أبي الصلت

فالكتاب كما ترى من وصفه حسن الترتيب حافل بالمعلومات التي لابد منها لطالب الأدب، وهو في شكله المدرسي هذا كفيل بأن يفيد جمهور المثقفين من غير الطلاب؛ بيد أن هذا الشكل أو هذا الوضع المراعي فيه مناهج الدراسة قد حال بين الأستاذ على رغم ما يبدو من متانته وضلاعته وسعة إطلاعه، وبينما كان يتطلبه الكثير من الموضوعات من البسط والاستيعاب، ومن أمثلة تلك الموضوعات مسألة الانتحال والرواية والحياة الاجتماعية للعرب، فهما موضوعان أساسيان في مثل هذا الكتاب وكثيراً ما يحول التقيد بالبرنامج بين المؤلف وبين ما يريد، فيجعل بحثه خاصاً أكثر منه عاماً إلى إيراد المعلومات المتنوعة أقرب منه إلى التحليل والاستقصاء والاستدلال، ولا سيما في المسائل العامة التي يبني

ص: 80

عليها فهم الأدب فهماً صحيحاً، وهذا واضح في القسم الأول من الكتاب، أما في القسم الثاني حيث سمح المنهاج للأستاذ بالتحليل والدرس الدقيق، فقد تجلت براعته وأصالته وحسن ذوقه. فإذا نحن نقدنا الكتاب في شكله الحالي ككتاب مدرسي لا يسعنا إلا أن نضعه في عداد الكتب المدرسية الممتازة، كما لا يفوتنا أن نرجو الأستاذ الفاضل أن يستغل عامه ومقدرته في بسط ما أجمل في رسالة أخرى تنفع المتأدبين عامة.

أنتقل بالقارئ بعد ذلك إلى البحث الطريف، الذي أضطلع به الأستاذ العالم التونسي الفاضل حسن حسني عبد الوهاب، وهو بحث تاريخي أدبي في حياة النساء النوابغ بالقطر التونسي من الفتح الإسلامي إلى الزمان الحاضر. ذكر الأستاذ في مقدمة كتابه أن ما دعاه إلى وضعه ما جرى من حديث بينه وبين صديق له حول الكتاب المسمى (الدر المنثور في طبقات ربات الخدور) وقد أشار عليه صديقه أن يضع كتاباً في شهيرات التونسيات، فهزته إلى هذا العمل عاطفة قوية كان ثمرتها هذا الكتاب الذي أحدثك عنه. فقد تكلم فيه الأستاذ عن نابغات النساء في تونس في الدور العربي، والدور الأغلبي، والدور العبيدي والدور الصنهاجي، والدور الحفصي، والدور التركي، والدور الحسيني، وترجم في هذه الأدوار جميعاً لعدد من كرائم السيدات، مبيناً مآثرهن وأدبهم في حديث طلي وعبارة قوية. ولن تقف أهمية هذا الكتاب عند الترجمة لهؤلاء الأوانس، بل أنك لتجد المؤلف الفاضل يربط الموضوع بالتاريخ في مهارة وكياسة، فتجد في كل دور من هذه الأدوار التي مر ذكرها ظلاً للعصر الذي يقع فيه، وتطالع ألواناً مختلفة من الألوان الحياة الاجتماعية، ومألوف العادات والتقاليد، هذا فضلاً عما كان يبثه المؤلف في ثنايا الكتاب من الحكمة والأدب والموعظة الحسنة، والطرف الأدبية، مما هو جدير بمن كان له مثل أريحيته وأدبيته، وإني إذ أقدم هذا المؤلف الطريف للجمهور القراء في العالم العربي أمل أن يحذو حذوه المؤلفون في الشرق، فما أحوجنا في نهضتنا الحديثة إلى المثل العليا في عالم المرأة، وما أجدرنا أن ندفع عنها تلك الاتهامات القاسية التي توجه إلى المرأة الشرقية في غير تحرج ولا استحياء، وفي كثير من الجهل والإدعاء.

أما أيام بغداد فهو كما يعرفه الأستاذ المؤلف أمين سعيد، وصف شامل لنهضة العراق الحديثة ولمعالمه التاريخية، والقارئ يذكر أن الرسالة قد قدمت إلى قارئها منذ وقت قريب

ص: 81

كتاباً كبيراً للأستاذ المؤلف هو (الثورة العربية الكبرى). ومن هذين الكتابين تدرك مقدار اهتمام الأستاذ أمين بالشرق العربي ومدى حماسته له. أما هذا الكتاب فيقع في نحو مائتين وخمسين صفحة، جيد الطبع متين الورق، وكسائر كتب الرحلات يجمع بين اللذة والفائدة ولا سيما أن موضوعه العراق، ذلك القطر الفذ في تاريخه. أفتتحه المؤلف الفاضل بفصل في النقد في بلاد العرب، ثم بأخر في سكة حديد فلسطين والاستعمار الصهيوني، وبعد ذلك تبتدأ رحلته في فصل عنوانه إلى بغداد، فينتزعك من وسطك ويسير بك إلى تلك البلاد، فإذا أنت معه على ضريح المغفور له الملك فيصل، ثم إذا بك كأنك ترى حفلة التأبين الكبرى، فوصف الأستاذ دقيق، والموضوع ذاته يستهويك ويحيطك بجو خيالي ملئ بالصور. وقد حافظ الأستاذ على هذه الدقة في وصف جميع الأماكن التي زارها والحفلات التي حضرها، ثم أنه لم يقتصر على الوصف وعلى إيراد ما رأى، بل تراه يحدثك عن بعض المسائل الهامة في العراق كالعمران في بغداد والمدرسة العسكرية في الكرادة ونهضة التعليم في تلك الديار؛ وما هو أهم من ذلك كمدى نفوذ الإنكليز هناك ومعسكراتهم ومطارداتهم، وأخيراً تراه يحدثك عن الآشوريين وأحوالهم حديث من رآهم وخبرهم بنفسه

وأنا وأن لم أرى العراق أحس أنني قد استفدت من هذا الوصف، ووقفت به على كثير من المسائل التي كنت أجهلها والتي كانت تشغل ذهني كما أني استمتعت به كما لو كنت أرى هاتيك الصور على الشاشة البيضاء، إما من حيث مطابقة ما ذكر الأستاذ للواقع ومقدار إحاطته بضروب الإصلاح والتعمير في العراق، فأمر في ذلك متروك للقارئ العراقي ولمن زار العراق من أبناء وأهل الأقطار العربية.

الخفيف

1

ص: 82