المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 751 - بتاريخ: 24 - 11 - 1947 - مجلة الرسالة - جـ ٧٥١

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 751

- بتاريخ: 24 - 11 - 1947

ص: -1

‌أندريه جيد

صاحب جائزة نوبل هذا العام

للأستاذ عباس محمود العقاد

منذ أمد قصير قرأت للكاتب الفرنسي - أندريه جيد - فصلاً من كتابه (قوت الأرض) يفيض بنشوة الحياة، ويشع بنور الأمل، يوجه فيه الخطاب إلى ناشئ مجهول من ناشئة المستقبل يسميه (ناثنائيل) ويصوغ كلامه في ذلك الفصل بصيغة هي أقرب إلى تسبيح المؤمن منها إلى إنشاء الأديب.

يقول لصاحبها ناثنائيل: (ما الحيوان إلا حقيبة من الفرح: كل كائن يجب أن يوجد، وكل موجود يفرح بوجوده. . . إنه لهو الفرح الذي يمتلئ بالجزالة فيسمى الثمرة، ويترنم بالغناء فيسمى العصفور. والحق الحق أن الطبيعة كلها تنبئنا أن الإنسان مخلوق للسعادة، وأن النزوع إلى لذة الحس هو محيى نواة الشجرة ومالئ الخلية بالشهد، ومفعم قلب الإنسان بالحنان. .).

ويقول: (لن تكون الحياة أجمل مما يرتضيها الإنسان، وليست الحكمة في العقل بل في الحب. . . آه! إنني إلى اليوم قد عشت بأكثر مما ينبغي من الحزم والروية. وعلى الإنسان أن يكون بلا شريعة لكي يفتح أذنيه للشريعة الجديدة. أين أنت أيها الخلاص! أين أنت أيها الحرية. إنني لذاهب إلى حيث تمتد بي نوازع الرغبة. وأنت يا من أحب تعالى معي، فأنني لذاهب بعيداً، وسآخذك معي لعلك تذهب إلى أبعد. . .).

ثم انقضت فترة بعد ذلك فسمعت أن (أندريه جيد) في القاهرة، وأنه يأتي إليها منزوياً مستخفياً ليخلو بنفسه، أو يخلو بسآمته ويأسه، في جو بعيد عن ضجيج الحياة الاجتماعية وتكاليفها الممضة، وأنه لا يلقى أحداً ولا يحب أن يلقاه أحد. ولكني صادفته في الطريق فعرفته من صورته وقال لي صاحب المكتبة التي لقيته عندها: أنه جيد!. فتجاهلت ما قال، لأنني لم أشأ أن أزعج الرجل في عزلته، ولأنني لا أحس في نفسي الشوق إلى لقاء أحد ممن أقرأ لهم فيعجبني ما قرأت. عن عقيدة مستقرة عندي: أن الكاتب أحسن ما يكون في كتبه، وأن القارئ الذي تفوته حقيقة كاتب قرأه، فلما يعرف من محضره فوق ما عرف من مضامين كلامه.

ص: 1

رأيت وجهاً كاسفاً حزيناً في غير نقمة، منزوياً في غير جفوة مستسلماً لما به لا يبالي ما سيصير، لأنه قد بالى كثيراً بما قد صار.

قلت في نفسي لأول وهلة: أهذا هو جيد بشير الحياة؟ أيكتب اليوم ما كتبه في قوت الأرض قبل سبع وأربعين سنة؟

وأياً ما كان كلامه المنظور منه اليوم، فإن الرجل لم ينقض نفسه، ولم يخل في خواتيم القرن التاسع عشر من نظر إلى ما عسى أن يصير إليه في أنصاف القرن العشرين.

إنه لم ينس رحمة الموت يوم أشاد بنعمة الحياة، لأنه قال في ذلك الكتاب أن الموت يعودنا لقاءه كلما اقتربنا منه (وإنه يغطي يديه بقفاز ناعم حين يأتي إلينا، ولا يكظم أنفاسنا قبل أن يعودنا الكظيمة. والعالم الذي ينتزعنا منه يكون في موعد النزع قد أضاع وضاحته، ومأنسه، وقد أضاع من أجل ذلك حقيقته، وأصبح أمامنا ناصل اللون لا يبعث فراقه فينا ألماً ولا ندامة)

لقد عملت الخمس والسبعون عملها في بشير الحياة، وهو الآن يعيش في العالم الناصل، الذي نظر إليه من بعيد، وهو في الثامنة والعشرين.

ولكن السن وحدها فيما نعتقد لم تفعل كل هذه الأفاعيل.

فمثل أندريه جيد خليق أن يصطدم بالميئسات وهو في ريعان الشباب، لأنه يدين (بالعيشة الاعتباطية) أو العيشة بغير داع ولا مسوغ لعمل من الأعمال كما بشر بها في كتب صباه، ولأنه يدين مع ذلك بالصراحة التي لا تعرف الحدود، ولا تطيق ثقلة الرقابة الاجتماعية في شأن من شؤون الفكر، أو الفن، أو الأخلاق. فلا جرم تسلمه (العيشة الاعتباطية) والصراحة الجامحة، إلى الغم والخيبة، قبل نصول العالم في عينيه من ألوانه الزاهيات.

أي صراحة لا تحجم من السخط والحرمان، ولا تحجم مما هو أرهب للنفس من كل سخط وحرمان، وهما الخزي والسخرية.

وأعجب ما فيها أنها صراحة لا تنشد غرضاً من الأغراض، ولا تتجه إلى هدف من الأهداف، غير التبرم بالكتمان، والأنفة من تسليمه لسلطان لا يؤمن به ولا يرى ما يراه.

ذهب إلى مستعمرة (الكونغو) وعاد منها في سنة 1928 فكانت حملته على الاستعمار

ص: 2

الأوربي، وفي مقدمته الاستعمار الفرنسي

- أشد مما يكتبه زنوج (الكونغو) لو دافعوا عن أنفسهم في وجود سادتهم البيض.

وقد كان يحسب أن السادة البيض رسل حضارة إنسانية إلى القارة السوداء. فخاب حسبانه وعاد وهو يائس من هذه الرسالة المزعومة، ومن حاجة العالم الإنساني إليها، وشنها غارة شعواء لم تصمد لها الدول المستعمرة، ولم يسعها أن تدفعها بالتكذيب والمداورة، وأسفرت آخر الأمر عن (لجنة التحقيق) المشهورة التي أوشكت أن تؤيد كل ما قال.

وقيل يومئذ أن (جيد) قد انقلب إلى أحزاب الشمال، وقد انقلب فعلاً إلى أحزاب الشمال، وكفر بمذاهب المجتمع القائم جميعاً وهو يظن أن الأمل كله منعقد بنجاح الاشتراكية، بل الشيوعية، كما يبشر بها الماركسيون.

ولكن الشيوعية تأسست بعد ذلك في البلاد الروسية، ودعى (جيد) مع من دعتهم حكومة السوفييت إلى شهود آثارها في تلك البلاد، وعدتهم لا تقل عن مائة وخمسين من الأنصار والمعجبين. فخاب أمله، وتهدم يقينه، ولم يكتم ما خامره من الأسف والحسرة على ذلك الأمل الخائب واليقين المهدوم، وكتب رسالته الأولى عن هذه الرحلة ثم قفاها برسالة أخرى، يرد بها على ناقديه وثالبيه، ويؤيد ما قال في هذه المرة بالرقم والدليل.

على أن هذه الصراحة الجريئة كلها لا تبلغ من العجب مبلغ صراحته في المسألة الجنسية كما يعرض لها في بعض تمثيلياته وبعض أقاصيصه واعترافاته.

فهو يعلن في غير مواربة أن (الشذوذ الجنسي) طبيعة في بعض الناس كطبيعة الذكورة والأنوثة، وأن الحكم عليه حكم على بنية خاصة ومزاج خاص، ولا يصح أن نجعله حكماً على رذيلة أو معابة من معائب الأخلاق.

وتصدى له (هنري ماسي) من الحزب الكاثوليكي الوطني، فاغتنم هذه الفرصة لمهاجمة علم من أعلام البروتستانت الفرنسيين، - لأن (جيد) من أسرة بروتستانتية عريقة - وأنحى عليه بالتشهير والتجريس، ورماه بالحطة وإفساد الآداب. فكان جواب (جيد) عليه كتاب كوريدون الذي يقول فيه ما لم يقله من قبل، في شرح (الشذوذ الجنسي) ونفى أضراره من وجهة الصحة ووجهة الأخلاق، ووجهة المصالح الاجتماعية، فبلغ في صراحته هذه - كما أسلفنا - مبلغاً لا تقرن به صراحته في الهجوم على المذاهب أو

ص: 3

الهجوم على الحكومات.

وليست صراحة الرجل في الرأي مسألة فكر وحسب، أو مسألة كلام وكفى. لأن هذه الحرية تكلفه كثيراً من المال، وتجشمه كثيراً من العناء، وهو غني بما ورثه من أمه وبعض أقربائه، فلا يبخل بمال ينفقه على اللاجئين إلى باريس من المضطهدين في بلادهم، سواء كانوا من الألمان أو النمسويين أو الأسبان أو البلجيك، وبعضهم بكل ما استطاع من المعونة فوق معونة المال.

أما قيمة (جيد) الأدبية، فهي في بعض نواحيها مما تتفق عليه آراء النقاد، على صعوبة الاتفاق في هذه الآراء.

فناقدوه والمعجبون به متفقون على جمال أسلوبه، يقول بعض ناقديه قبل المعجبين به: أن مجرد المطالعة في جمل من عباراته ورسائله متعة فنية، تكفي وحدها للعودة إليه.

وليست لجيد براعة كبراعة (أناتول فرانس) في لباقة التعبير وسهولة الفكاهة. ولكنه يوازنه بما هو أفضل منه فيه، وهو جد الرأي وحماسة الروح.

وليست له قدرة بروست في الوصف والتحليل، ولكنه يعوض هذا الضعف بقدرته في الحوار والحركة، فيصل بك من طريقهما إلى المقصد الذي يتوخاه الكاتب بالوصف والتحليل.

وقد علق بالرمزية واللهجة الغنائية في أوائل حياته، ثم جنح إلى البساطة والوضوح فاتخذ له أسلوباً يلائمه، وينتقل بفحواه إلى اللغة التي يترجم إليها، وتقرأه مترجماً فلا تفوتك معالمه الشخصية من وراء الألفاظ والعبارات.

وقد ورث سليقة المعرفة من بيئته التي نشأ فيها، لأن أباه جان بول جيد هو علامة الاقتصاد المشهور، وعمه شارل كان أستاذاً من أساتذة (كوليج دي فرانس) الممتازين، وأسرته كلها من بيئة المثقفين والمطلعين، ولكنه مع هذا يحسب من ذوي السلائق والأذواق، ولا يحسب من ذوي الأذهان والأفكار، ونفوره من المدرسة الذهنية عرض من أعراض هذا الاستعداد.

ولا تقل ملكة النقد عند هذا الأديب عن ملكة الإنشاء والابتكار. فإن آراءه في دستيفسكي الروسي، وفي وتيمان الأمريكي، وفي مونتاني الفرنسي، وفي الآداب الإنجليزية والألمانية

ص: 4

على العموم، هي مثل في النقد الصائب والإنصاف المنزه عن الغاية، والتصرف في الجمع بين نماذج الفن في شتى الأمم، وشتى اللغات، وشتى العصور.

وقد مارس الكتابة مستتراً، ومارسها مصرحاً باسمه، ولكنه ظل عازفاً عن المظاهر والألقاب من شبابه إلى هرمه، وعرضت عليه العضوية في (الأكاديمية الفرنسية) فلم يخف إلى قبولها، وهي أشرف ما يتطلع إليه الكاتب الفرنسي من وراء الصيت والتقدير وهاهي لجنة (نوبل) تخصه هذا العام بجائزتها الأدبية وهو يجاوز الثامنة والسبعين، فلا تقع الغرابة في هذا الاختيار إلا من ناحية واحدة: وهي ناحية الإغضاء عن رأيه في المسائل الجنسية، ولعلها قدرت صراحته في الارتداد على مذاهب الهدم، وقدرت عطفه على الضعفاء والمخذولين، وقدرت ملكاته الفنية، وأقامت الميزان بين دواعي التنويه ودواعي الإهمال، فرجحت كفة الحسنات عندها على كفة السيئات.

عباس محمود العقاد

ص: 5

‌في منظار (الخفيف)

للأستاذ على الطنطاوي

لم يعلم أحد لِم لم يكتب الصديق النبيل الأستاذ محمود الخفيف في العدد الماضي من (الرسالة)، ولم يعلم هو من الأمر إلا أنه فقد منظاره فجأة، ثم وجده كما فقده فجأة، لم يدر أين ذهب ولا كيف أتى، ولم يعرف سر المسألة إلا أنا، لأني سرقت (المنظار) من جيبه لما زارني في (الرسالة) في الأسبوع الماضي، ورددته إلى جيبه لما مر بي أمس، وقد كان عرض علي أن يعيرنيه لما رأى رغبتي فيه، ولكني خشيت (وسوء الظن عصمة) أن يفسده أو يصنع به شيئاً يمنعني من الاستمتاع به، كيلا أعود إلى طلبه منه، فآثرت أن آخذه على حين غفلة منه لأستعمله صحيحاً غير فاسد، ثم أن السرقة أخت الاغتصاب؛ وقد نص (الشاعر) على أن:

من أطاق التماس شيء غلاباً

واغتصاباً لم يلتمسه سؤالا

والشعراء أئمة الأدب، ولا يستطيع (مقلد) مثلي مخالفة نصوص (الأئمة). . . لذلك

سرقت (المنظار)، ولكني لم أر مثل تلك الصور الفنية الكاملة التي كان يراها الأستاذ محمود، وإنما رأيت. . . اسمعوا ماذا رأيت:

وضعت (المنظار) على عيني، وخرجت به من الدار، وكنت على موعد مع الأستاذ نهاد القاسم لنزور جامع محمد علي، وسرت أنظر إلى بعيد، فلم أخط خطوات حتى أحسست برجة في جسدين وألم في ركبتي وقدمي، وإذا أنا قد سقطت في حفرة لم أنتبه لها.

وأقبل المارة يخرجونني ويسألونني كيف وقعت؟!

قلت: كما وقع الفلكي الذي كان ينظر في النجوم ومسالكها، ويدقق في حركاتها وسكناتها، ويعمى عما تحت قدميه، وكما (يسقط) الكاتب الذي يتكلم في الفلسفات العليا، ويغفل عن أدواء أمته وأمراضها، والشاعر الذي يحلق في سماوات الخيال، ويدع أمته تتمرغ في حضيض الشقاء. . .

وتركتهم يعجبون من هذا الكلام الذي حسبوه كلام مجنون. . . وسرت حذراً. . . أنظر حولي كيلا ألدغ مرتين من جحر واحد، فأكون شراً من الحمار، لأن الحمار إن سقط في حفرة مرة، يجتنبها فلا يسقط فيها أخرى، والإنسان (الذي يؤمن به أخونا الأستاذ خلاف)

ص: 6

يسقط في الحفرة الواحدة خمسين مرة، ثم لا يجتنبها ولا يبتعد عنها. . .

ونظرت في (المنظار) فلم أر في وجهي. . . إلا سوءات مكشوفة و (أوساخاً) ظاهرة؛ وبلايا من هذه البلايا. . . فكدت من غضبي أكسر هذا (المنظار) المسحور الذي ينظر فيه الأستاذ محمود فيرى (زهرتي) الوزارة، ويبصر غادة (الحمار الآخر)؛ وأنظر أنا فلا أرى إلا الأوساخ والسوءات، ورفعته عن عيني، وأنعمت النظر. . . فإذا الذي أراه حقيقة كنت أمر بها فلا أتنبه لها، لتعودي عليها، وتنبهت لها الآن لما ركبت على عيني (المنظار)، وهي أن الطريق الذي أسلكه كل يوم من داري إلى جسر الملك الصالح وأحسبه نزهاً جميلاً، قد فاض بالأقذار من الجانبين، فمن هنا هؤلاء الناس من الرجال: الشيب والشبان، والأولاد: البنات والصبيان، والنساء أحياناً. . . (حتى النساء!) يدعون جميعاً بيوت الطهارة وهي أمامهم: فيها الماء، وعليها الحارس، وفيها الستر والنظافة، و (يقضون حاجاتهم) على طول (الشط) أمام الناس، ومن هناك البنات المصريات في آخر الشارع، والأولاد المصريون في أولهن يدعون جميعاً المدارس المصرية الطاهرة النظيفة، ويقصدون هاتين المدرستين الإنكليزيتين، ويفتحون أدمغتهم للإنكليز وصنائعهم من أصحاب الأغراض والحاجات، ليحققوا فيها

أغراضهم، و (يقضوا حاجاتهم) ويجعلوا عشاً لكل وباء وكل مرض، يضعف الوطنية، ويؤذي الدين. وإذا طهر الشط من أقذاره الكناس، ورشاش (الدالين)، فلن يطهر البلد من أقذار هذه المدارس، إلا أن تكنسها الحكومة من أرض مصر، وتلقيها وأهلها في البحر. . .

وركبت الترام وأنا مغيظ مما رأيت محنق، فرأيت (المنظار) على عيني، ما سلاني وسرى عني، رأيت أمامي وجهاً حلواً، دقيق القسمات، نظيفاً لم تنزل ساحته الأصباغ، ولامسته يد التجميل، ولكن جمله ربه، وصبغه بصبغته. . . ومن أحسن من الله صبغة؟ فيه عينان زرقاوان، وفم متجمع مستدير ناضج الشفتين، فوق شعر أشقر، لا هو بالطويل المسترسل، ولا هو بالقصير المحلوق، وسوالف ليست مقطوعة كسوالف الرجال، ولا مطلقة كسوالف النساء، على جسم قد غطته سراويل سابغة، ورداء له أكمام طويلة، تبرز منها يد بضة ملفوفة، ما تعرف أهي يد بنت مدللة، أم يد غلام مترف، والعمر في نحو الخامسة عشرة، فجعلت أتساءل حائراً: هل هذا شاب أم فتاة؟ وحاولت أن أجد علامة دالة، أو أمارة ظاهرة،

ص: 7

فعدمت العلامات، وخفيت عني الأمارات، وطالت حيرتي حتى لقد هممت أن أمد يدي فأتلمس. . . ومنعني أن أفعل أني استحييت وخفت العواقب، وأن الشاب قام، أو أن الفتاة قامت، فنزل، أو نزلت، وكل راكب في الترام يتساءل مثل تساؤلي، ويحار مثل حيرتي!

وركب مكانها (أو مكانه)، امرأة فرنجية كأنها من لطافتها. . . (سيد قشطة) تجر وراءها ثلاثة: ولدين كالخنزيرين السمينين، لا يعرف طولهما من عرضهما إلا بالقياس، وعجيزة مثل كيس التبن. . . وصلت هي إلى المقعد، ولا تزال العجيزة تصعد السلم، ثم جلست بين الرجلين على طرف المقعد، وهي تلهث كأنها قاطرة حلوان. . . ثم اندفعت في المقعد فضغطت الرجلين، فأدخلت واحداً في الزاوية من هنا، وواحداً من هناك، وأقعدت الخنزيرين (أي الولدين) على الركبتين، وتنفست الصعداء بعد هذا الجهد، فكانت نفخة مفاجئة أطارت جريدة كانت في يد الراكب أمامها. . .

وأقبل الجابي (الكمساري) وهو رجل أسمر طويل، عبوس الوجه، متين البناء، له شاربان كساريتي مركب، فقال لها:

- فلوس!

فمدت إليه يدها بثمانية مليمات، كأنها تمدها إلى سائل، فقال لها:

- هنا بريمو، خمسة عشر مليماً.

فرفعت إليه هذه الكرة المفلطحة التي تسمى في جغرافية جسمها (رأساً)، ولوت شدقها، وصعرت خدها، ومدت شفتها، حتى صار وجهها مثل القرعة اليابسة، وقالت:

- أنا ما بياطي، أنا مش آهد كويس.

- خمسة عشر مليماً يا مدام.

فغضبت، وصاحت:

- أنتي مسريين ما بسير لتيف أبداً، بيتم متوهش!

فأسرعت أنزع (المنظار) لألعن أباها، ومن جاء بها إلى مصر، ولكني وجدت (الكمساري) قد سبقني إلى هذه المكرمة، ورأيته قد انقلبت عيناه في أم رأسه، واصفر وجهه حتى صار كقشرة الليمونة، وارتجفت شواربه، ولكنه تماسك وتثبت، وصفر فوقف الترام، وقال لها:

- لو كنت رجلاً لرأيت، ولكنك امرأة، ونحن لا نمد أيدينا إلى النساء، فقومي انزلي. . .

ص: 8

وأكبرت فعله، وقمت أهنئه وأصافحه، ولولا خشونة خده، وأنها لا تطيب قبلته، لوثبت عليه فقبلته، وتمنيت أن يكون كل مصري مثله، وحمدت للمنظار ما أرانيه، ولكن الفرصة لم تطل، فقد فتح الباب ودخل منه سائل كأنه في جسمه وفي عينيه بشار ابن برد، عليه ثياب لو أن للقذارة (جائزة) عالمية، لنال بها الجائزة، يغني بصوت تخاله - والعياذ بالله - صوت ثلاث حمير تنهق معاً، على نغمة (الجازبند) نهيقاً مقلوباً، كأنه صراخ الجن في الأودية المسحورة، أو نواح المردة في قعر الجحيم، أو كأنه الموسيقى الفرنجية. . . بشعر لا تفهم له وزناً ولا قافية ولا معنى ولا تجد فيه طرباً ولا متعة ولا لذة، فكأنه شعر بشر فارس. . .

فلما اقترب مني لم أجد أحسن من الفرار، فنزلت من الترام عند الشارع الذي كان اسمه أيام الاحتلال (شارع مستشفى اللادي كرومر)، وكنت أنا المصري الأصل، الدمشقي المولد والبلد، أتألم وأقول ماذا يكون لهذه التسمية من ألم في نفوس المصريين أصلاً ومولداً وبلداً، وهي تذكرهم بأعدى عدو لهم، وتمن عليهم بمستشفى أنشأته زوجته ببعض ما سرقت من مال مصر، مع ما أصيبت به مصر على يد زوجها وقومه، من ذهاب الأنفس والأموال، ومن ضياع الحرية وهي أعز على الأبي من النفس والمال، وأوثر أن نموت في العراء (إن لم يكن إلا هذا المستشفى)، على أن نشفى فيه، لأن شفاء أجسامنا فيه، يمرض وطنيتنا، بمحبة هذه (اللادي) وذكرها بالخير، وعرفان الجميل لها. فلما تنبهت مصر، وذهبت تخطب أهل الأرض من فوق منبر مجلس الأمن، تعرفهم ظلم الإنكليز إياها، وعدوانهم عليها، رفع الشباب هذه اللوحة ووضعوا مكانها لوحة سموه فيها (شارع دنشواي)، وأشهد لقد كانت تسمية عبقرية، وكان رداً بارعاً، وكان جواباً لا يصدر إلا عن إلهام. . .

ووجهت (المنظار) إلى هذه اللوحة الجديدة، أمتع بها روحي وأنعش نفسي، فلم أجدها، ووجدت اللوحة القديمة قد جددت، فمسحت (المنظار) ونظرت فلم أر غيرها، فرفعته عن عيني ونظرت، فإذا أنا أجد اللوحة القديمة قد جددت حقاً. . .

لماذا؟ هل عادت أيام الاحتلال؟!

ورفعت (المنظار) عن عيني لئلا أسقط في حفرة، أو أصدم أحداً، حتى دخلنا المسجد،

ص: 9

فقلت: أضعه لحظة، علّي أرى في المسجد ما يسر ويفرح بعد تلك المحزنات، وكانت الصلاة قد اقتربت، والمسجد لبعده، ولازدحام المساجد من حوله، كأنه خال فما فيه إلا أربعة صفوف، ونظرت فرأيت ثلاث فتيات سوافر كسائر نساء مصر، شعرهن يموج على أكتافهن، وأذرعهن بارزات كلها من الكم الياباني (الجابونيز) الذي يبدي ما تحت الإبط لكل ذي عينين، والسيقان مكشوفات لا جوارب تصعد لسترها، ولا ثوب ينزل لتغطيتها، ومعهن أمهن ترتدي هذه الملاءة ذات البرقع الذي لا يستر من الوجه إلا مداخل النفس من الأنف فقط، ويظهر الباقي كله. . . وأسرعت الأم وبناتها إلى حوض الماء يتوضأن، ويمددن أرجلهن لغسلها، فلا يبقى مستوراً إلا. . . الذي لم يكشف. . . ثم يقفن هكذا للصلاة. . . وفي المسجد مشايخ، رأوهن فلم يكلمهن أحد منهم، والخطيب رآهن فلم يعرض لهن، فنزعت (المنظار) وأغمضت عيني، وحاولت أن أنساهن وأتوجه إلى الصلاة، فلم أستطع، لأن صورتهن لا تزال (أقول الحق) أمام عيني. فإذا كن يلحقننا حتى إلى المسجد، فكيف نفر يا قوم منهن؟ وكيف يصنع الشاب العزب ليتقي إغراءهن؟

ألم يخطر على بال أحد من العلماء، والآباء، هذا السؤال؟!

ورجعنا و (المنظار) على عيني، ولكنه أخذ يكذب ويشوه الحقائق، فيريني خياماً من القماش في أول شارع الخديوي اسماعيل، وعليها لوحة تقول: أن هذه الخيام (إدارة تنظيم عمارة المدن). . .

فأقول: ينظمون عمارة المدن، ولا يستطيعون عمارة حجرتين من اللبن والخشب؟ هذا لا يمكن. . . وأهم بطرح المنظار، ثم أذكر أن هذا ممكن جداً في الشرق!

أليس يأمر الناس بالتقوى من غير تقياً، ويدرس البلاغة من ليس بليغاً، ويقود الأمة من يحتاج إلى من يقوده، ويعطي الأشياء فاقدها، ويولي الأمور غير أهلها؟!

وتابع (المنظار) الكذب، حتى إذا وصل إلى دار المفوضية السورية، وهي أفخم من أختها: الأمريكية والروسية!! زاغ (المنظار) عن كل ما في الدار، واستقر على (عقد الإيجار)، فأراني فيه رقم (300) جنيه في الشهر، ثم ذهب بي إلى دمشق، فبصرني بآلاف التلاميذ يزدحمون كل سنة على أبواب المدارس، ثم يرتدون عنها لأنها لا تتسع لهم، وليس عند الوزارة ما تستأجر به دوراً جديدة، لأن أجرة الدار (300) جنيه في السنة! ثم دار بي على

ص: 10

المفوضيات السورية في آفاق الأرض ليريني. . .

ولكني أغمضت عيني فلم أنظر، لأن هذا كذب ظاهر، ونحن أعقل من أن تؤثر المظاهر على الجواهر، والتزاويق على الحقائق، والخارجية على المعارف، وثوب العرس على العروس! ونحن أعقل من أن نشتري (كرافته) بخمسة جنيهات، ونمشي بلا سراويل!

وسرت. . . فإذا (المنظار) يريني (كذبة) أشنع وأبشع: إعلانات، في كل مكان، وكل شارع، أن الأخوان المسلمين سيمثلون رواية الهجرة، على مسرح الأزبكية. . .

كذبة قطعاً، وإلا فهل استحالت دعوة الإخوان، وهجرة الرسول، إلى مسرح وتياترو؟ النبي والصديق وعلي؟ أهذه آخرتها؟

جمعية الشبان المسلمين، مثلت مع زوزو نبيل، وسمتها؟؟ ممثلة المسرح الإسلامي! وجماعة الإخوان تنزل الصحابة إلى تياترو الأزبكية. . . فهل تنشر مجلة الأزهر صورة امرأة عارية لتكمل الرواية؟ هل يوضع في جامع الكيخيا أوركسترا أفرنجية، وفي مسجد الحسين تخت شرقي؟!

لا. . . خذ (منظارك) يا أستاذ محمود. . . حسبي ما رأيت!

(القاهرة)

علي الطنطاوي

ص: 11

‌النفوذ اليهودي

بين الصحف الأميركية والصحف العربية

للأستاذ نقولا الحداد

صوت صاروخ فينا وفي سائر البلاد العربية أن اليهود محتكرو الصحف الأميركية للدعاية الصهيونية. وليس للهيئات العربية سبيل للرد على إفك اليهود وتشنيعهم بالعرب والدعاية لصهينة فلسطين. لأن اليهوديين يسيطرون على الجرائد الأميركية فلا يسمحون لجريدة أن تنشر كلمة حسنة عن العرب ولو بثمن غال.

لا تعتبوا يا قوم على الصحف الأميركية في حين أن بعض صحفنا المصرية ليست أقل خضوعاً لنفوذ اليهود من صحف أميركا ومن يتحقق هذه التهمة يجد أنها حقيقة ناصعة. ومن جملة الحوادث التي تؤيد هذه الحقيقة ما يأتي:

تقدم في حين من الأحيان إلى رئيس تحرير جريدة كبيرة مندوب من قبل هيئة عربية كبرى محترمة بكلمة موجزة ذات شأن عظيم لمصلحة العرب في المسألة الفلسطينية. فوعد الرئيس بنشرها. ولكن مضت بضعة أيام ولم تنشر. فعاتب المندوب رئيس تحرير الجريدة على عدم نشرها. فأجابه أن القيم على إعلانات الجريدة أبى أن تنشر لأن نشرها ليس من مصلحة الجريدة بل هو ضار بها. واعتذر الرئيس بأنه إذا نشر خبراً ضاراً بالجريدة، فالجريدة تضعف ولا تعود تستطيع أن تخدم الأمة والعرب عجباً! لا تستطيع أن تخدم الأمة إذا كان نشر خبر يضرها. وإذا كان الخبر ضرورياً لحياة الأمة وهي لا تنشره فإذاً متى وكيف تخدم الأمة؟

وما لبث المندوب أن عرف أن ذلك القيم على الإعلانات يهودي وحجته أنه إذا نشر الخبر انقطع عن الإعلان في الجريدة. فتأمل.!

حكاية ثانية: منذ نحو سنتين أو أكثر أرسلت إلى إحدى محلاتنا الكبرى مقالاً بعنوان (لمن فلسطين؟) وأثبت فيه بالإسناد التاريخية وغيرها أن اليهود الأجانب الذين يدعون الآن ملكية فلسطين ليسوا من نسل إسرائيل. بل هم أوروبيون تهودوا منذ تشتت الإسرائيليون في آسيا وأوربا فأغروا بعض الوثنيين باليهودية فتهودوا. فهم ليسوا ساميين كما كان هتلر يزعم. بل هم آريون أكثر من هتلر. ولذلك ليس لهم ضلع البتة في فلسطين. بل أن

ص: 12

فلسطين لأهلها المقيمين فيها من قبل مرسى إلى اليوم. وقد غيروا ديانتهم من يهود إلى مسيحيين ثم إلى مسلمين حسب تقلبات الحوادث التاريخية والسياسية الخ. هذا كان فحوى المقالة.

ومضت أشهر ولم أر المقالة في المجلة فذهبت إلى إدارة المجلة عاتباً. ولكن سكرتير التحرير قابلني بأنه لا يدري سبب عدم نشرها. وصاحب المجلة كان وتغيباً فلم أتصل به فقلت: هاتها. فتبرم وقال لا أدري إن كنت أجدها.

فبحثنا بين أوراق التحرير. ومن حسن الحظ وجدناها ثم أرستها إلى مجلة أخرى رائجة. ومضت الشهور ولم تنشر فكتبت إلى إدارة التحرير مطالباً بها. ولم أحصل على جواب ففهمت أنها ذهبت في سلة المهملات. ثم علمت أنها لا تنشر لأنها ضد مصلحة اليهود الذين ينشرون إعلانات في المجلة.

ومنذ عهد غير بعيد كتب أديب لإحدى الجرائد اليومية بضعة عشر سطراً يطلب من اليهود الذين في مصر أن يعلنوا شجبهم للصهيونية وبراءتهم منها قولاً وعملاً وأن هذا الشجب من مصلحتهم ما داموا مواطنين لأكثرية ساخطة على الصهيونية فلم تنشر الجريدة هذه النبذة. ولما عاتب ذلك الكاتب رئيس تحريرها قال أن هذه النبذة صعبة ملعونة يعني أنها شبه تهديد لليهود. وهو لا يريد من جريدته لئلا يحرموها إعلاناتهم. فترى أن الجرائد تحت رحمة يهود البلاد بسبب إعلاناتهم.

هذا قليل جداً من كثير جداً من الأخبار المشينة المؤلمة عن سيطرة اليهود في مصر على بعض الجرائد الرائجة والمجلات المنتشرة.

فلماذا نلوم الصحف الأميركية إذا أذعنت لليهود بعدم نشر شيء من مصلحة العرب ولا سيما لأن قضية العرب ليست قضية الأمريكان ولا تهم الشعب الأميركي. ولماذا لا نلوم الصحف العربية التي تراعي خاطر اليهود في قضية العرب والقضية قضيتهم فبالله أهكذا تخدم الصحف العربية شعبها وعروبة قرائها؟ تخدم مصالح اليهود، واليهود يتذرعون بكل وسيلة لامتصاص مالية البلاد العربية والسيطرة على سياستها إلى غير ذلك مما هو معلوم.

لا نجهل أن الصحف في كل العالم تعيش على الإعلانات. وإيراد الإعلانات يعيش على رواج الجرائد، ورواج الجرائد يعيش على إقبال القراء عليها، وهذا الإقبال هو ثمرة جهاد

ص: 13

المحررين وإدارة أصحاب الصحف وجهاد عمالها، ومتى تزايد عدد الفراء أو النسخ التي تطبع ارتفعت أجور الإعلانات، وهذه الإيرادات الأخيرة من الإعلانات تستغلها شركة الإعلانات اليهودية التي تتوسط بين المعلنين والجرائد.

لا نجهل هذا، ولكن لا نفهم لماذا تكون الوساطة بين المعلنين والجرائد في يد شركة يهودية تتحكم بالجرائد وأصحابها وأقلامها وعمالها وقرائها أيضاً فلا تسمح بنشر شيء ضد مصلحة الصهيونية أو ليس من مصلحة اليهود. وأصبحت الصحف والأقلام العربية مسخرة لليهود. هذه عبودية لا تطاق، واستخذاء عربي لليهود لا يكاد يصدق.

ولا ندري لماذا لا تكون الشركة الوسيطة بين المعلنين والصحف وطنية بحتة وتكون مكاسبها لمساهمين وطنيين ويكون الكتاب أحراراً فيما يكتبون لمصلحة بلادهم وإخوانهم العرب.

ترى هل فطن الصحفيون لهذا الضرر العظيم من جراء استلام اليهود لزمام الصحافة في البلاد يسيرونها على هواهم؟ أم أنهم فطنوا ولا يبالون؟ ألا يبالون أن يكون مصير القضية العربية وجميع القضايا المخالفة لمصالح اليهود الصهيونيين الخيبة؟

أم أنهم لا يبالون بالمصاب إلا إن وقع، ولا يبادرن إلى تدارك الخطر، ألا متى أبرق وأرعد، وحينذاك لا حين تداركه.

من المدهشات أن يتولى أمر الدعايات بالإعلانات والمقالات والأخبار في الصحافة العربية لأجل القضية الفلسطينية يهود هم أعداء العروبة الألداء.

أما وجد بين العرب أناس لهم ذكاء اليهود وماليته كمالية اليهود وحيلة كحيلة اليهود لكي يحلوا محل اليهود في هذه السيطرة على أقلام كتابنا وصحافتنا وإدارة الدعاية عندنا.

لماذا لا ينبري أناس ممن يفهمون فن الدعاية ويؤلفون شركة كبرى لتولي هذا العمل المنتج أي الوساطة بين المعلنين والجرائد، ثم تنازع الشركة اليهودية هذا العمل؟ وحينئذ على جميع جرائدنا أن تتحول من الشركة اليهودية إلى الشركة الوطنية المصرية الخالصة.

لا بد أن يتسرع بعض القراء إلى الاعتراض على هذا المشروع الوطني بأنه إذا برز إلى حيز الفعل انقطع اليهود عن الإعلان في الجرائد بواسطة هذه الشركة الوطنية. فلينقطعوا إذا كانت الجرائد لا تقبل وساطة الشركة اليهودية بتاتاً ولا تقبل إلا وساطة الشركة

ص: 14

الوطنية. لا يستطيعون أن يقاطعوا الصحف لئلا تستأثر المتاجر والمصالح الوطنية بالدعاية وحدها فتروج هذه وتكسب تلك، لا يستغنون عن الدعاية والإعلانات، وليس لهم إلا الصحف الوطنية ووساطة الشركة الوطنية.

المشروع لا يحتاج إلا لقليل من الوطنية:

1 -

يتصدى له متمولون قليلون، قد يتراءى لهم في أول الأمر محتاجاً إلى شيء من التضحية، ولكنه متى استتب رأوا أنه نتج بلا تضحية.

2 -

على جميع الجرائد أن تتحول إلى وساطة الشركة الوطنية للحصول على الإعلانات. والشركة تخدمهم كما تخدمهم تلك.

3 -

على التجار الوطنيين وأصحاب الأعمال أن يقبلوا على هذه الشركة في الدعاية لهم بالإعلانات وغيرها.

فأين الوطنية وأين الوطنيون، ينقذون الدعاية العربية من براثن الصهيونية؟ لماذا لا تسعى نقابة الصحفيين هذا السعي.

أن الصهيونيين عازمون على استعباد الشرق العربي كله ولسوف ينجحون إذا لم تنهض لمناهضتهم في الحال.

نقولا الحداد

ص: 15

‌حول جدل في الجامعة

للأستاذ عبد الفتاح بدوي

يقول الأستاذ محمد خلف الله في صفحة 1298 من مجلة الرسالة إن نقاشنا إياه ينقسم قسمين مسائل وشتائم وأنه يعرض عن قسم الشتائم ويناقش المسائل.

وليس في مقالينا اللذين ناقشناه فيهما شتائم فاتنا نعيد قلمنا أن يكون شتاماً فأن الشتائم عيب الشاتم لا عيب المشتوم ولكنه العلم يا أستاذ وهو الجدل العلمي الناصح والعلم لا يعرف الملق ولا التأنق ولا الفرك في الذروة والغارب إنما العلم هو الألفاظ على دلالاتها: حق وباطل، وجاهل وعالم، وصادق وكذاب، وأمين وخائن وهو سوق الحجة ولإقامة الدليل؛ ولو أننا في غير مقام علمي لأسبغت عليك من لين الحديث ونعومة الأسلوب ما في الحرير من طراوة وما في النسيم من لطف رقيق؛ الست ترى أنني حين أتكلم عن شخصك أقول الأستاذ خلف الله وما أنت بأستاذ؟ فأما إذا وصلنا إلى تحديد الأوصاف في مقام الجدل العلمي فاعذرني فالتبعة على نصاحة العلم وعدم قبوله الملق والدهان.

1 -

وقال: المعروف دينياً ألا نستنتج من نص قرآني أمراً لم يقصد إليه القرآن. فقلنا له أن كل كلام لا بد له من دلالات ثلاث المطابقية والتضمنية والالتزامية ولا يملك أحد في الدنيا أن يجرد كلاماً من هذه الثلاث الدلالات أو من بعضها ما دام يملك مسكة من العقل؛ فجاءنا في العدد الذي ذكرنا يقول بنصه (ولا نفهم كيف يكون لكل كلام دلالات ثلاث تقصد منه مع أن عبارة المتن - الذي يعرف بعلم البيان - والإيرادات المذكورة لا يتأتى بالوضعية أي بالدلالة المطابقية ويتأتى بالعقلية أي التضمنية والالتزامية).

وأنا وأهل العلم جميعاً لا يعرفون متنا اسمه على البيان (أليست هذه جرأة مني يا أستاذ خلف؟) ذلك لأنه لا يوجد متن هكذا وإلا فأين هذا الهراء يا أستاذ؟

ولا أتركك تتخبط كثيراً بل أصحح لك المقام؛ إنها عبارة مستفيضة في كتب البلاغة (وأظنك لم تدرسها كما تدل عليه عبارتك) تجدها في تلخيص المفتاح وفي المفتاح وفي الإيضاح وفي، وفي؛ بنصها أو قريب منه؛ وكأن شيطاناً من الشياطين حولك خطف لك هذه الخطفة من علم البلاغة وهو لا يعيها فألقاها إليك وأنت لا تعيها؛ وأودعتها مقالك وأنت كذلك لا تعيها؛ وظننت أنك أتيت بشيء وما هو بشيء.

ص: 16

وإذا كانت هذه عبارة من عبارات البلاغة فما لها وما كنا وما زلنا في من مقام الاستنتاج؟ ومقام الاستنتاج هو مقام الفهم والتفاهم أي تحميل الكلام دلالاته التي لا يكابر فيها إلا غير عاقل أي في الدلالات المنطقية كما قلت لك في مقالي الذي ناقشتك فيه فقلت لك ما نصه (أليس القرآن كلاماً له الدلالات المنطقية الثلاث المطابقية والتضمنية والالتزامية التي لكل كلام؟) هذا مقام الاستنتاج الذي كنا وما زلنا نتكلم فيه، وما له ولعبارة البلاغة تدسها في غير موضعها دساً ونقحمها اقحاماً؟ ما للتفاهم والاستنتاج ولإمكان استعمال دلالة دون أخرى في التجوز والاستعارة؟! عجيب منك هذا. أتعرف أدب البحث والمناظرة يا أستاذ خلف الله؟ اعلم أن هذا العلم يقول لك: كلامك في غير محل النزاع فلا معنى له. ولقد جرك الحق أن تصف نفسك بنفسك فتقول عن نفسك انك لا تفهم كيف يكون لكل كلام دلالات ثلاث تقصد منه وأنا والله لا أستطيع أن أصفك بغير ما وصفت به نفسك أنه الحق والحق لا محيد عنه.

ولقد كنت أظنني أجادل في جو علمي عال فلا أجدني بعد الذي ذكرت في مقالك هذا إلا مضطراً أن أتنزل إلى تلميذ صغير مبتدئ في تعلم المنطق والبلاغة.

إعلم وفقك الله تعالى أن اللفظ المستعمل في حقيقته يجب أن تثبت له دلالة المطابقة (قطعاً) ومتى ثبتت له دلالة المطابقة ثبتت له دلالة التضمن (قطعاً) ومتى ثبتت المطابقة والتضمن ثبتت دلالة الالتزام (قطعاً)؛

فإن كابرت في شيء من هذا فلا كلام لنا ولا لأحد معك إلا أن تتعلم مبادئ المنطق وتساير العقول.

أما المجاز والتجوز والاستعارة إلى غير هذا مما قال علماء البلاغة فلا علاقة له بالاستنتاج وإنما علاقته بإدارة نقل الكلام عن معناه الحقيقي إلى معنى غير حقيقي أو بعبارتهم: في أداء المعنى الواحد بطرق مختلفة في وضوح الدلالة والفرق بينهما كالفرق بين السماء والأرض أو يزيد.

هذا هو العلم وهذا هو الحق أفقهه العلماء فهل تفقهه أنت أيضاً يا أستاذ خلف الله أو تفقهه أنت والذين معك؟ وهذه أولى مسائلك التي تكلمت معي فيها؛ بل مازال لها ملحق أذكره لك فإنك تقول عني: ماذا يكون موقفه من العلم حين يثبت بقرائن مادية يقول بها علماء

ص: 17

الجيولوجيا من أن هذا البيت (الذي ببكة) ليس أول بيت وضع للناس؟

وإني سائلك أنت؛ أهذا كلام منهج علمي ورجل يتكلم في العلم؟ من يقول أن العلم ينبني على قرائن يا أستاذ خلف الله؟ أن العلم لا ينبني إلا على حقائق، أما الذي ينبني على القرائن فهو الظن وأن الظن لا يغني من الحق شيئاً فلو قامت قرائن طبقات الأرض كلها بل وطبقات الهواء والماء والسماء ما دلت إلا على قرائن وظنون لا تنفع في العلم ولا تقدر في العلم وإنما الذي يقدر ويعلو ويصول قول الله تعالى:(أن أول بيت وضع للناس للذي ببكة) ولست يلائمك على هذا التدهور الفكري الذي تبنى فيه علماً على قرائن فان رسالتك كلها من هذا القبيل أدلتها: الفرض والحدس؛ والتخمين؛ وأحب أن ألفت الذهن؛ معنى ذلك كما يلحظ القارئ، وهلم جراً من العبارات الجوف المزوقات، ثم النتيجة التي تبنيها على هذه العبارات المزوقات الجوف تجعلها حقائق وتسمها بسمات اليقين؛ عجائب يا أستاذ خلف الله عجائب.

اعلم وفقك الله تعالى أن العلم لا ينبني على قرائن بل ينبني على حقائق فإن لم تصدق هذا فابحث أنت عمن يصدقك في ابتناء العلم على قرائن وظنون ولن يصدقك إلا مجنون؛ أولم تقرأ أنت المقال الذي تحيلني عليه (القرآن والنظريات العلمية)؟ اقرأ وتعلم وافقه ورد وتكلم. . .

2 -

والمسألة الثانية التي تناقشني فيها أنك قلت أن القصص القرآني من المتشابه فقلت لك: لسنا نعرف أحداً من المسلمين يقول أن القصص القرآني من المتشابه.

وجئت في مقالك آنف الذكر صفحة 1268 من مجلة الرسالة تضع بين يدي نصوصاً كثيرة تنطق بأن من العلماء المسلمين من يقول بأن القصص القرآني من المتشابه أو ما كان أجدر بك أن تضع الأمور في أنصبتها ولو مرة واحدة ليكون الجدل أو النقاش علمياً لامهاترة.

وأنا واضعلك الأمور في أنصبتها ومعيد عليك وعلى الناس جميعاً ما قلته سابقاً أنه لم يقل مسلم ولا يقول مسلم ولن يقول مسلم أن القصص القرآني من المتشابه رغم ما نقلته أنت من النصوص التي وعيتها أنا وعرفتها قبل أن تراها بعينيك.

لقد كتبت في 19 سبتمبر سنة 1947 أولى مقالاتك التي تقول فيها بعد كلامك عن الصلة

ص: 18

بين القرآن والتاريخ ما نصه: (على أن هذه المسألة قديمة ومن أجلها عد الأصوليون القصص القرآني من المتشابه) و (أل) في كلمة (المسألة) المتقدمة للعهد أفاهم أنت؟ والعهد ههنا ذكرى؛ أفاهم أنت؟ والمذكور المتقدم صلة القرآن بالتاريخ.

وفي 6 أكتوبر سنة 1947 نشر في الرسالة تقرير الأستاذ أحمد أمين بك وفسر هذا التقرير الصلة بين القرآن والتاريخ في نظر الأستاذ خلف الله وفي رسالة الأستاذ خلف الله وهذه الصلة عنده أن القرآن لا يتقيد قصصه بالواقع وأنه يحتوي أساطير وأنه ينطق الشخص في قصة بشيء وينطق سواه بهذا الشيء في نفس القصة في مكان آخر، وأنه ينطق قوماً بما لم ينطقوا به ويقولهم ما لم يقولوا وأنه يقول على شيء لم يقع إنه وقع وأنه قد لا يكون للقصص مدلول واقعي أصلاً وإنما هو حكاية عن واقع نفساني وأنه لا يتحرى الصدق العقلي والواقع.

وفي 13 أكتوبر سنة 1947 كتبت يا أستاذ خلف لله مقالاً ثانياً ثبت منه جميع ما قاله الأستاذ أحمد بك أمين في تقريره فأصبحت الصلة بين القرآن وبين التاريخ على أتم وضوح وصارت المسألة التي قال عنها الأستاذ خلف الله أنها مسألة قديمة هي مسألة الصلة بين القرآن والتاريخ على هذا المعنى الجلي الواضح أن القرآن لا يتحرى الصدق العقلي ولا الواقع؛ وأنه مملوء بالأساطير طالما أن فيه القصص الأسطوري؛ هذه هي المسألة التي يقول أنها مسألة قديمة فإذا ضم إليها بقية الجملة وهي قوله ومن أجلها عد الأصوليون القصص القرآني من المتشابه كان الكلام الذي ينصرف إليه نقاشنا هو ما ادعاه الأستاذ خلف الله من أن مسألة الصلة بين القرآن والتاريخ بالمعنى الذي ذكره من المتشابه؛ أليس كلامنا كله في مناقشة كلام الأستاذ خلف الله أم هو في مناقشة كلام من لا كلام لنا معه؟!

وأعود بك مرة أخرى فأقول: لسنا نعرف أحداً من المسلمين بل أزيد فأقول أنه لم يقل أحد من المسلمين، ولا يقول أحد من المسلمين، ولن يقول أحد من المسلمين أن القصص القرآني من المتشابه؛ وما دمت تحاول الإفلات من النقاش العلمي إفلات المهاترة فإني أزيد لك الكلمة التي هي مكان العهد فأقول لك أي بالمعنى الذي تذكره في قولك (على أن هذه المسألة قديمة. . .) والتي فسرها تقرير الأستاذ أحمد أمين وأقوالك فيما كتبت بعد فإني لم أرد عليك إلا في 27 أكتوبر سنة 1947 بعد مقالين لك وبعد تقرير الأستاذ أحمد بك أمين.

ص: 19

أما المتشابه بالمعنى الذي يعرفه مقاتل أو الطبري أو يوهما فليس من محل النزاع كما يقول أهل العلم فكيف ساغ لك أن تضع شيئاً مكان شيء؟ لكن هي الطريقة التي دأبت عليها في مقالاتك وفي رسالتك ألم أثبت عليك التدليس في النقل والخيانة في العلم؟

وكيف طوعت لك نفسك أن تجعل المتشابه عند هؤلاء القدامى هو الذي نفيته في مقالي وع أنني أثبته لك في مقالي؟! ألم أنقل لك عبارة المنار وفيها قال الأستاذ الإمام: إن الآيات متشابهات؟ أولم أقل لك أنا في نفس المقال ما نصه (فالأستاذ الإمام لم يقل أن القصص القرآني من المتشابه بل قال أن الآيات من المتشابه) وفسر هذا التشابه. . .)

هذه هي المسألة الثانية التي تناقشني فيها وما زال علم أدب البحث والمناظرة يقول لك أن كل النقول التي نقلتها في غير محل النزاع فلا معنى للاستشهاد بها وإنما يفصل فيها المثل المشهور أريه السهى ويريني القمر بل لهذه المسألة ذيل قصير فإنه أي الأستاذ خلف الله يقول أنه يعرض على أن الآمدي أورد رأي الأصوليين في القصص في كتابة (الأحكام) وليس كتاب اسمه (الأحكام) إنما هو (الإحكام) وقد درست هذا الكتاب مع كتاب ابن الحاجب أعظمكتب الأصول في القسم العالي بمعهد الإسكندرية، بل لعلها غلطة مطبعية، بل الأشبه أنها غلطة الأستاذ وأنه ينقل أو ينقل له من حيث يعرف أو لا يعرف فقد سألت مطبعة مجلة الرسالة إن كان لديها (لام ألف) بهمزة قطع من تحت فأرانيها مدير المطبعة، والخطب في هذا الذيل يسير على كل حال؛ بيد أنها الدقة والاستنتاج أردت أن ألفت إليها ذهن الأستاذ خلف الله.

3 -

والمسألة الثالثة التي يناقش فيها أنه يقول: أن من المفسرين من لا يلتزم أن كل ما ورد في القصص القرآني من أحداث غير واقعة فقلت له: ولا نعرف أحداً من الأصوليين ولا من المسلمين لا يقول بأن ما ورد في القرآن من القصص إنما هو أحداث وقعت وحوادث هي خلاصة الحقيقة التي وقعت في سوالف الزمان.

ولقد قال هذا؛ وقلت له هذا؛ وجاء اليوم يرد علينا فيقول وإقحام الشيخ الأصوليين هنا لا معنى له؛ فلماذا لا معنى له؟ وكلامك هو الذي لا معنى له؟ أليس الأصوليين قد تكلموا في القصص كما تكلم فيه سواهم فكان متشابهاً عندهم لو غير متشابه كن ذكوراً يا أستاذ خلف الله فقد نقلت تعرضهم للقصص قبل ذلك بسطور قلائل.

ص: 20

ثم استمعنا كلام المفسرين إذ يقررون أن من القصص القرآنيأحداث (هكذا بالرفع فليسأل الأستاذ خلف الله عن سبب ذلك) لم تقع؛ وإني مستمع ومنصت ومصيخ قال: جاء في ابن كثير ج1 ص590 بعد تفسيره لقوله تعالى (ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت. . . الخ ما نصه (عن ابن جريج عن عطاءأن هذا مثل) وقد وضع على لفظة مثل رقم (1) وكتب على الهامش بآلة الطباعة هذه العبارة، يعني أنها ضرب مثل لا قصة واقعية. . .

أين الاستدلال يا عباد الله في نقل الأستاذ خلف الله؟ عطاء يقول أن هذا مثل، والمفسرون جميعاً يجعلون القصص مقابلاً للمثل وقد نقلت يا أستاذ خلف ذلك في نفس هذا المقال غير مرة ففي أي عقل يقال لك لن هذا ليس قصة وإنما هو مثل فتقول أنت أن هذا الذي قيل لك دليل على أنه قصة وعلى أن القائل بهذا القول يقول أن في قصص القرآن أحداثاً لم تقع؟! احموا العقول ارحموا العقول.

وأنا آخذ بأذنك مرة أخرىوقائل لك يا أستاذ خلف الله من الذي وضع رقم (1) على الهامش؟ وكيف ساغ لك أن تجعله من الاستدلال في كلامك مع أنه صفعة لك لا ترحمك؟ ألم يقل لك الهامش (على عدم اعتدادي به كمستند علمي) أنه ضرب مثل لا قصة واقعية - أفلا يوجهك هذا الهامش (أي يضربك بالكف على وجهك) فيصرخفي وجهك يقول القصة واقعية وضرب المثل قد يكون بغير الواقع؟ انتبه يا أستاذ خلف الله انتبه انتبه أيقظك الله الذي أيقظ أهل الكهف لا السبعة النيام.

ثم نستمع إليه أي الأستاذ خلف الله مرة أخرى يقول: وجاء في الرازي ج2 ص333 الصالة بدار الكتب وذلك بصدد الحديث عن قصة إبراهيم والطير (المسألة الثانية أجمع أهل التفسير على أن المواد بالآية قطعهن. . . غير أبي مسلم فإنه أنكر ذلك وقال أن إبراهيم عليه السلام لما طلب أحياء الميت من الله تعالى أراه الله مثالاًقرب به الأمر عليه والمراد بصرهن إليك الإمالة والتمرين. . .

يا عباد الله ويا أهل العقول - مرة ثانية - أين الاستدلال بأن في القصص القرآني أحداثاً لم تقع؟

يجمع المفسرون على أن هذه قصة واقعية فيقول الأستاذ خلف الله أن ذلك الإجماع دليل

ص: 21

على أن القصة غير واقعية.

ويقول أبو مسلم أنها مثل لا قصة وأن الله تعالى أرى إبراهيم مثالاً يقرب به الأمر فيقول الأستاذ خلف الله أن أقول أبي مسلم أنه مثل لا قصة دليل على أنه قصة وأنها غير واقعة وأن في القرآن قصصاً أحداثه لم تقع.

إسمع يا أستاذ خلف الله لا تعليق لي على استدلالك إلا أن أقول لك المثل (احترت يا بخراء من أين أقبلك). البخراء لا تقبل لأن رائحتها لا تطاق قل شيئاً يشبه العلم وإلا فاسكت.

ثم نستمع مرة أخرى فإذا به يتحكك كما تحكك أستاذه المشرف على رسالته في الأستاذ الإمام محمد عبده ويريد أن يسمعنا من قوله شيئاً

ولقد كنت كتبت المقال في استعراض أقوال الإمام محمد عبده كلها منذ أول قصة الخليفة إلى آخرها وبينت تمام البيان مأتى الخطأ الكبير الذي تردى فيه كاتب الرسالة الأستاذ خلف الله ومشرفها على السواء، ولكن اعجلني الرد ولفتني على حد تعبير الأستاذ خلف الله عما سواه.

فليكن الكلام في كل ما قال الأستاذ الإمام محمد عبده وهو كلام كله وجاهة وعلم لمن قرأه ووعاه إلى العدد القادم إن شاء الله.

ألست ترى يا أستاذ خلف الله بعد هذا أينا أولى أن يصل إلى الرشد؟ أما فقه أسرار القرآن الكريم فلا نقول لك في إلا ما قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: أما والله لا نغمز من هذه الجهة؛ سنريك منه ما لم تكن تعلم وكان فضل الله علي عظيماً.

وإن شئت علمك منه كثير من تلاميذي.

عبد الفتاح بدوي

كلية اللغات العربية

ص: 22

‌بحث الكولرا

للدكتور فضل أبو البكر

(تتمة ما نشر في العدد الماضي)

العلاج وطرق الوقاية

أن الحكمة القائلة (الوقاية خير من العلاج) هي من أصدق الحكم ويجب تطبيقها على الدوام وعلى سائر الأمراض. وهي أصدق ما تكون في حالة الكولرا إذ من السهل جداً الوقاية منها وعلى النقيض من ذلك يصعب علاجها وقد يتعذر إذا حل مكروبها بالإنسان وظهرت عوارض المرض إذ لم يوجد إلى الآن دواء حاسم غير الدواء الواقي كما وجدت الكينا للملاريا والطرطير للبلهارسيا والزرنيخ والزئبق للزهري والبنسلين لكثير من الأمراض ليس من ضمنها الكولرا من سوء الحظ.

أما العلاج الواقي الذي تتوقف عليه نجاة الفرد ونجاة المجموعة فهو الحقن بالمصل الواقي يحقن الفرد باللقاح مرتين تحت الجلد يكون مقدار الأولى سنتيمتراً مكعباً وبعد ثمانية أيام من الأولى يحقن مرة ثانية بكمية قدرها سنتيمتران مكعبان. تبدأ مناعة الجسم في اليوم الخامس وتكون من أشدها بعد اليوم الخامس عشر ويستمر مفعولها مدة ستة أشهر.

أما تطعيم (حامل المكروب) فقد وجد في بعض الأحيان غير كاف ويمكن معرفة هؤلاء (الحملة) بتحليل البراز مرتين وتكون المرة الثانية بعد أسبوع من الأولى ويجب أن تكون النتيجة سلبية في المرتين وإلا كان الفرد من حامل المكروب وفي هذه الحالة زيادة على حقنهم يعطونهم ما يسمونه (بالباكتربوفاج) أي آكل البكتريا ولكل مكروب آكل خاص.

طرق الوقاية

1 -

حقن جميع الأفراد في المناطق التي يظهر فيها الوباء أولاً وتعميم الحقن على جميع السكان على قدر الإمكان.

2 -

عزل المريض في الحال بأماكن العزل بالمستشفيات الخاصة بالأوبئة.

3 -

منع التعرض لجثة المريض بحال من الأحوال واقتراب ذويه منها لغسل الجثة وتكفينها والمشي في موكب لدفنها، بل المصلحة العامة - وهي فوق كل الاعتبارات - لا

ص: 23

تسمح بذلك.

4 -

تطهير كل إفرازات المريض قبل أن يدفع بها إلى المراحيض كذلك تطهير كل ما لامس المريض عن طريق مباشر أو غير مباشر بإحدى المواد الكيمياوية وهي كثيرة متوفرة.

5 -

تطهير الغرف والأثاث كذلك تطهير ملابس الممرضين والممرضات وكذلك أحذيتهم وبعناية تامة يومياً وعدم السماح لهم بالأكل في حجرات المرضى.

6 -

مراقبة الناقهين والبحث عن (حامل المكروب) وفحصهم طبياً.

7 -

تطهير الخضراوات والفواكه وقد يكون أضمن وأسلم طبخها قبل استعمالها. كذلك يستحسن عدم الإفراط في الأكل أو تعاطي الأطعمة عسرة الهضم أو المواد التي تلهب الأغشية المخاطية للأمعاء مثل التوابل والبهارات.

8 -

العناية التامة بمياه الشرب وتحليل عينات منها كل يوم أما السكان بالقرى الذين لم يتوفر عندهم الماء الصالح والذين يشربون من ماء الأنهر والآبار فيجب غلي الماء أو تعقيمه بمادة مطهرة قبل شربه أو استعماله بطريقة ما.

9 -

محاربة الحشرات ولا سيما الذباب بجميع الطرق المؤدية لإبادته وحفظ الأطعمة بمعزل عنه. كذلك حرق القمامات وفضلات الأكل أولاً بأول وهي الأوكار والمراتع الخصبة للذباب يقتات منها ويبيض على هاماتها.

هذا بحث موجز عن وباء الكولرا ذكرنا فيه باختصار بعض ما يهم الجمهور معرفته عن هذا الداء الوبيل وعن طرق الوقاية منه عسى أن يكون فيه بعض النفع.

ولا يفوتني أن أذكر اهتمام الرأي العام الدولي بهذا الداء وقد علم القارئ مما سلف أن ظهور وباء في بقعة من الكرة الأرضية فيه خطر يهدد سلامة العالم بأسره وخصوصاً أوربا وقد أضحت جائعة عارية بعد الحرب لهذا بادرت الدول الغربية لنصرتنا ومدت يدها بالمعونة لنا كما تقضي بذلك الإنسانية وكما تتطلب ذلك سلامتها نفسها وسلامة الإنسانية جمعاء.

غير أن بعض المستعمرين بدأوا يستغلون هذا الحادث استغلالاً دنيئاً مغرضاً وأداة للدعاية ضدنا كما يبالغون في نعت عامة الشعب بالجهل والتأخر ونلمح من حين لآخر خلال ما

ص: 24

يكتبون شماتة ظاهرة وذلك ما يؤلمنا حقاً ويذكرنا بقول من قال.

كل المصائب قد تمر على الفتى وتهون غير شماتة الحساد مع أن المنصفين من الغربيين أثنوا على ما تبذله الأمة حكومة وشعباً من مجهودات جبارة لمكافحة الداء إلى أن قال بعض الأمريكيين بأنه لو أصيبت أمريكا بهذا الوباء لما أمكنها أن تعمل أكثر مما يعمله ولاة الأمور في هذا الصدد.

ولكن بعض المستعمرين لا يحلو لهم إلا أن يرمونا بالجهل والتقهقر. الجهل الذي بدأنا نحاربه والذي كان الاحتلال يشجعه ويذكي ناره. الجهل الذي كان (دنلوب) يحمل لواءه ويحمي حماة بل يحارب من يحاربه هذا ويعلم القارئ مما تقدم بأن هذا الوباء لم تنج منه أمة وقد اكتسح العالم عدة مرات ولم يكن وقفاً علينا دون غيرنا ولا أكون مبالغاً إن قلت إننا كنا أقل إصابة من غيرنا من الدول الأوربية خلال الأوبئة الماضية مع كوننا أقرب منهم إلى الهند موطن الداء ومعقله.

أن هذا الوباء مهما اشتدت وطأته لا يمكنه أن يلهى شعب وادي النيل عن عزمه لنيل مطالبه وهي جلاء الدخيل عن أرضه بدون قيد ولا شرط بل بعكس ذلك من شأنه أن يزيدنا كراهية وحنقاً على الدخيل المغتصب سيما وقد تحددت مسئوليته عن نشر هذا الداء ولو بطريقة غير مباشرة أو مقصودة مهما تنصل من ذلك.

أن سكان الوادي سوف يقضون بإذن الله على مكروب الكولرا كما سوف يستأصلون مكروب الاستعمار ويفتكون بجراثيمه وهم يعلمون أنها أدهى وأشد فتكاً من الكولرا.

باريس

دكتور فضل أبو بكر

ص: 25

‌الفن القصصي في القرآن

للأستاذ عبد المتعال الصعيدي

وأخيراً عزمت أن أكتب في هذا الموضوع، بعد أن رأيت الذين كتبوا فيه لم يتناولوه من الناحية التي يجب أن تتناول فيه، وتجعل المخطئ يلمس خطأه فلا يسعه إلا أن يعترف به، وهذا هو الذي يجب أن يؤخذ به المخطئ في الإسلام، لأنه دين الإقناع، ولأن وسيلته هي الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، فإذا جاوز من يريد الدفاع عنه هذه الوسيلة أضربه من حيث يريد نفعه، ولا سيما في هذا العصر الذي صار الناس يمقتون فيه هذه الوسائل في المسائل الدينية، ويأخذونها على أصحابها أقسى مؤاخذة.

وإني أحب أن انبه الذين يتخذون هذه الوسائل إلى أنها تؤدي إلى عكس ما يقصدون، وتحمل بعض الناس على أن يشتط في رأيه، ليقسوا في الحملة عليه، ويذهبوا إلى أنه ملحد يجب أن يعاقب أشد عقاب، فيصير في نظره ونظر بعض الناس مثل غاليلو وغيره من فلاسفة أوربا، فقد اضطهدهم رجال الدين في أوربا على بعض آرائهم، فصار هذا الاضطهاد محمدة من محامدهم، وصار مذمة لمضطهديهم.

فلنقتصر على تخطئة من يذهب به عندنا حب الشهرة إلى مثل ذلك الشطط في الرأي، ولنبخل عليه بما يريد من رميه بالإلحاد والزندقة، حتى لا نمكنه من أن يظهر بين الناس بما يحب، أو يجعل نفسه ضحية من ضحايا الرأي، فليس أوجع في نفسه من أن نأخذه في رفق حتى نبين للناس خطأه، وحتى يرى أنه لا سبيل له إلا أن يعترف بالخطأ فيعترف، فإن لم يعترف على نفسه كفاه حكم الناس عليه، وللناس عقول تفهم، والحلال بين والحرام بين.

لقد أراد بعض الناس أن يرد على صاحب رسالة الفن القصصي في القرآن، ففتحوا أمامه المجال في الرد عليهم، فأردت أن أقوم بما يجب علي في هذا الموضوع، ليصل الناس فيه إلى رأي حاسم، وينصرفوا عنه إلى ما هو أجدى عليهم، ويعرفوا أن صاحب هذه الرسالة لم يكن له أن يطفر إلى الكتابة في موضوع القرآن، وهو يجهل تعريف التناقض في المنطق، ويبني على جهله به حكماً خطيراً في قصة إبراهيم عليه السلام، كما جاء في التقرير الذي رفعه الأستاذ أحمد الأمين إلى عميد كلية الآداب، وقد نشر بالعدد - 744 -

ص: 26

من مجلة الرسالة في الغراء، وهو يدل على مستوى صاحب هذه الرسالة في العلم، وعلى أنه جرى في رسالته على هذا المنوال، فقذف بنفسه في بحر لا يحسن السباحة فيه، ولم يخض فيه إلا فحول العلماء، وأكابر الحكماء، من الطبري إلى الزمخشري إلى الرازي، إلى أمثالهم في علمهم وحكمتهم.

فقد ذكر الأستاذ أحمد أمين في تقريره أن صاحب هذه الرسالة يرى أن القصة في القرآن لا تلتزم الصدق التاريخي، وإنما تتجه كما يتجه الأديب في تصوير الحادثة تصويراً فنياً، بدليل التناقض في رواية الخبر الواحد، مثل أن البشرى كانت لإبراهيم أو لامرأته.

فدعوى هذا التناقض تدل على أن صاحب هذه الرسالة لا يعرف تعريف التناقض، وعلى أنه سار في رسالته بهذا العلم الذي لا يزال في طور الطفولة، فضل الصواب، وخبط خبط عشواء، والقرآن أجل من أن يتناول بمثل هذا العلم، وأخطر من أن يحكم في مسائله من لا يزال يجهل تعريف التناقض.

لقد قال الله تعالى في البشرى بهذا الغلام (وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها ومن وراء إسحاق يعقوب) الآية - 71 من سورة هود، وفي هذه الآية كانت البشرى لسارة امرأة إبراهيم عليه السلام.

ثم قال في هذه البشرى (قالوا لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم) الآية - 53 - من سورة الحجر، وقال (فبشرناه بغلام حليم) الآية - 101 - من سورة الصافات، فكانت البشرى في الآيتين لإبراهيم عليه السلام.

فهل تبشير سارة مرة بهذا الغلام وتبشير إبراهيم مرة به من التناقض الذي يصح أن تضرب به قصة إبراهيم مثلاً للقصة التي لا يلتزم فيها الصدق التاريخي؟ للهم لا، لأن التناقض اختلاف قضيتين في الإيجاب والسلب اختلافاً يلزم لذاته من صدق إحدى القضيتين كذب الأخرى، فلا بد فيه من الاختلاف في الإيجاب والسلب، ولا بد فيه من الاتحاد في الموضوع والمحمول وقيودهما، وليس في هذه القصة اختلاف في قضية البشرى من جهة الإيجاب والسلب، فلا تكون من التناقض الذي يلزم فيه صدق إحدى القضيتين وكذب الأخرى، وإنما كان أن كلا من إبراهيم وامرأته بشر بهذا الغلام، وقد تكررت هذه القصة في هذه السور، فذكرت في بعضها بشرى إبراهيم به، وذكرت في

ص: 27

بعضها بشرى امرأته به، تنويعاً في الأسلوب، وتصريفاً في القصة، لمقامات تقتضي ذلك التنويع، وتستدعي ذلك التصريف.

ولا شك أن صاحب هذه الرسالة قد سار فيها على هذا التخبط في الحكم، لا يفرق بين القصص التي نص القرآن على وقوعها، وبين الأمثال التي يجوز فيها الوقوع وعدمه، وهي أمثال لا أساطير وقد ورد كثير منها في القرآن أيضاً، ولكن صاحب هذه الرسالة لم يرزق قوة التمييز بينها، فخبط فيها خبط عشواء، وسقط سقوط من يتناول ما هو فوق طاقته.

لقد ذكر الله تعالى قصة مريم في سورة آل عمران، ثم قال فيما ذكره منها (ذلك من أبناء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون) الآية - 44 - من سورة آل عمران، وهذا نص قاطع في وقوع هذه القصة، وذكر قصة نوح في سورة هود، ثم ختمها بقوله (تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر أن العاقبة للمتقين) فجعل تلك الأنباء وهي من الغيب من دلائل نبوته، ولا يصح الاستدلال بها على نبوته إلا إذا كانت صحية، وذكر قصة يوسف في سورة يوسف، ثم ختمها بقوله (ذلك من أبناء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون) وهذا نص قاطع في وقوع هذه القصة، وهكذا غير هذه القصص من قصص الأنبياء ونحوها.

وهناك أمثال يضربها الله تعالى للناس، كقوله تعالى (ضرب الله عبداً مملوكاً لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقاً حسناً فهو ينفق منه سراً وجهراً هل يستوون الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون) للآية - 75 - من سورة النحل، فهذا مثل لا يلزم أن يكون واقعاً، وكذلك ما أشبهه من أمثال القرآن.

وقد أتى صاحب هذه الرسالة فيما فاته من الفرق بين هذين الأسلوبين، فأساء إلى نفسه، وأساء إلى علمه، وأساء إلى جامعته، وما كان له أن يطفر إلى مثل هذا الموضوع في أول نشأته.

عبد المتعال الصعيدي

ص: 28

‌من ذكرياتي في بلاد النوبة

سد أسوان

للأستاذ عبد الحفيظ أبو السعود

لا يعنيني الحديث عن سد أسوان، إلا بقدر اتصاله من قريب، ببلاد النوبة. وإذا كان هذا السد العظيم، قد لعب دوراً هاماً في حياة القطر الزراعية، فزاد القدر المنزرع إلى أضعاف أضعافه، وإنعاش الحياة التجارية، والاقتصادية، وزيادة الثروات المصرية إلى حد التضخم في كثير من النواحي، حتى أصبح هذا السد بحق مفخرة من مفاخر بلادنا المصرية، له شهرة عالمية طائرة، وصيت دولي ذائع - إذا كان قد لعب دوراً آخر في حياة بلاد النوبة، إحدى مناطق قطرنا العزيز، ولكنه مع الأسف دور عكسي على طول الخط، وامتداد الطريق.!!

وبيان ذلك، أن منطقة النوبة لم تكن تعرف قبل سنة ثمان وتسعين وثمانمائة وألف شيئاً عن هذا السد، وإن كانت بعض الأفكار قد اتجهت إلى الانتفاع بهذا الشلال الطبيعي قرب أسوان، وبخاصة وأن مياه الفيضان تتدفق في موعدها من صيف كل عام، حاملة الغرين، والطمي الذي يكسب الأرض خصباً، والزرع نماء ونضرة، ويفيض بالخير والبركات في أنحاء البلاد المصرية. . .

ونما هذا الشعور، وكبر ذلك الإحساس، فرئى أن ضياع مياه النيل في البحر البيض المتوسط عبث لا طائل تحته، ولا غاية ترجى منه، وأن في الإمكان لإفادة من هذه المياه طوال أيام السنة وبخاصة وقد أصبحت البلاد تزرع القطن من أيام محمد علي باشا، وغيره من المحصولات التي تتطلب رياً دائماً. . .

وولدت الفكرة، فكرة إقامة خزان قرب أسوان، على الشلال الأول، وبدأ العاملون يبحثونها سنة أربع وتسعين وثمانمائة وألف، وكللت بالنجاح، وتم بناء السد سنة ثنتين وتسعمائة وألف، بطول قدره خمسون وتسعمائة وألف متر، وبه ثمانون ومائة فتحة.

وقد لحق الأهليين بعض الأضرار بسبب إقامة السد لأن منطقة النوبة، ارتفعت في المياه فأتلفت الأراضي المنخفضة، وأغرقت المنازل التي على الشاطئ مباشرة، فعوضتهم الحكومة عن هذا كله، وبلغت تكاليف إقامة السد، بما في ذلك التعويضات التي أعفيت

ص: 29

الأهليين مليونين وأربعمائة وأربعين ألف جنيه كما أثبت ذلك أحمد خيري بك في مقال له بمجلة الصناعة. . .

وبعد مضي زمن قصير، تآكلت بعض الأجزاء خلف الخزان، بفعل المياه، فأنشئ له فرش خلفي سنة خمس وتسعمائة وألف ثم سنة ست وتسعمائة وألف كذلك، وبلغت تكاليف ذلك مائتين وثلاثة وثمانين ألف جنيه. .!!

وبهذا أصبح السد قوي الدعائم، وطيد الأركان، وظل يؤدي رسالته في البلاد نماء، وخصباً، ويبعث فيها الحياة والنضرة والنعيم، ويفيض عليها الخير والبركة، إذ استفادت البلاد من كمية البلاد المخزونة عظيم الفائدة، وانتفعت بها جليل النفع.

وبعد بضعة أعوام من إنشاء السد، رئى تعليته خمسة أمتار، لأن تصرف النيل الطبيعي مدة الصيف، مضافاً إليه كمية المياه المخزونة، لا تكفي حاجة القطر الزراعية، وبحث الموضوع من جميع نواحيه، إذ خيف أن تضر هذه التعلية ببناء الخزان نفسه، وفي ذلك ضرر ماحق وخطر عظيم. . . وانتهى البحث إلى إمكان ذلك. دون حدوث أي ضرر أو خطر، وتمت التعلية فعلاً، وسميت بالتعلية الأولى. . .

ولا جرم أن هذه التعلية أضرت إلى حد كبير ببلاد النوبة. إذ ارتفع منسوب مياه الخزان فأغرق كثيراً من المنازل، وجرف الأراضي المنخفضة نسبياً وأتلف ما بها من زروع، فقامت الحكومة للمرة الثانية بتعويض الأهليين عن هذا كله. . . وبلغت تكاليف التعلية، بما في ذلك التعويضات، مليون وخمسمائة ألف جنيه. . .

وكثر عدد السكان، وبلغ أضعافاً مضاعفة بالنسبة لما كان عليه قبل إنشاء السد، فالرخاء يمن وبركة، ودعامة من دعائم العمران، وزيادة النسل. . . وقفزت الأرقام من سبعة ملايين، وتسعة ملايين. . . إلى خمسة عشر مليوناً بعد إقامة السد بحوالي سبع وعشرين سنة!!

ولهذا اشتدت حالة البلاد إلى هذه الكميات المائية التي تذهب سدى، وتضيع هباء، فنبتت فكرة التعلية الثانية. . . بيد أن هذه الفكرة لم تلق تحبيذاً على طول الخط. بل عورضت معارضة شديدة. ونقدت نقداً لاذعاً، مما دعا الحكومة للاهتمام بأقوال الناقدين، والمحبذين على السواء. والتروي في الأمر والاستعداد له فليس الموضوع من السهولة بحيث يمر مر

ص: 30

الكرام. . . فأنشأت مكتباً خاصاً بذلك سنة سبع وعشرين وتسعمائة وألف كان أهم ما قام به، إعداد المشروع، وبحثه من جميع نواحيه، والنظر في موضوع التعويضات التي ستعطي للنوبيين بعين الرعاية والعطف لما سيلحقهم من أضرار في منازلهم ونخيلهم وأراضيهم الزراعية وجميع مرافقها، بسبب هذه التعلية.

وأخيراً عرض المشروع على لجنة دولية مكونة من ثلاثة مهندسين عالميين: أمريكي، وإنجليزي، وسويسري، وقد وافقت هذه اللجنة على المشروع، وأقرت تعلية السد تسعة أمتار، دون إحداث ضرر ولا خلل به!.

ووقع هذا الخبر بين أبناء البلاد موقعاً حسناً جميلاًن وأنعش كثيراً من الآمال البراقة، والأماني الحلوة اللامعة، فعن قريب ستحيا كثير من الأراضي البور، أسباب هذه المياه التي سيحجزها السد ويمنع تسريحها وضياعها، وعن قريب تبيع الحكومة كثيراً من الأراضي التي تحتاج إلى إصلاح، وبعد أن تقيم لها المشروعات اللازمة، من ري وصرف وغير ذلك.

بيد أن هذا الخبر نفسه، وقع مع النوبيين موقعاً قاسياً. . . وقوع الصاعقة، التي تهدم قصور الأماني، وتقوض صروح الآمال في قسوة وعنف وجبروت. . . فهم يعلمون معنى التعلية، ويفهمونه على وجهه الصحيح. ويدركون تمام الإدراك هذه الأمتار التسعة، التي سترفع منسوب المياه أمام الخزان، وتجعل من بلادهم للخزن، يخرب ديارهم، ويجلوهم عن مساكنهم ويلقي بهم في مهب الريح، تعصف بهم عواصف الأقدار، وتشتت شملهم دوافع الفرقة. وأهوال الفقر والحاجة والاضطراب. . .!

وشرعت الحكومة في تنفيذ التعلية، وابتدأ العمل في نوفمبر سنة تسع وعشرين وتسعمائة وألف، على قدم وساق، وعناية بالغة، حتى انتهى بصفة عامة في ديسمبر سنة ثلاث وثلاثين وتسعمائة وألف، بالغة تكاليف المباني، مليونين وستمائة وسبع وعشرين ألف جنيه. . .!

بيد أن هذه التعلية أضرت بمناطق النوبة بالغ الضرر، بقدر ما أفادت باقي البلاد المصرية، عظيم الفائدة. ونفعتها جليل النفع إذا احتاجت مياه الخزن منازل الأهليين كلها، وجرفت بيوتهم، وأتلفت مزارعهم، فعوضتهم الحكومة عن هذا كله، حسب تقدير قامت به،

ص: 31

وقد بلغت التعويضات بسبب التعلية الثانية الأخيرة مليون وستمائة وخمسين ألف جنيه.

ورأت الحكومةأنها مضطرة لإقامة مشاريع اقتضاها ارتفاع المياه في أيام الحزن، وإنشاء مرافق جديدة لهذه البلاد، ودرست كل مصلحة من المصالح واجبها في هذا الصدد، وقامت به على وجه، وإن لم يكن من التمام والكمال، فقد أرضى إلى حد بعيد أكثر المخلصين في هذه البلاد، الذين يعلمون حقيقة موقف الحكومة، وما تكبدته من نفقات طائلة في سبيل إنشاء السد، إذ بلغت التكاليف لإنشاء محطات الري ومبان للحكومة مائتين وثلاثة وسبعين ألف جنيه، فإذا ضممت هذا المبلغ إلى المبالغ السابقة يوم أنشئ السد كان المجموع ثمانية ملايين وسبعمائة وثلاثة وسبعين جنيهاً، وهو مبلغ ضخم دون ريب. . .!!

وأهم المشروعات التي قامت بها مصلحة الري، إقامة جسور واقية في مناطق أبي سمبل لوقاية تسعمائة وخمسة أفدنة تقريباً، وأدندان لوقاية مائتي فدان تقريباً، وفي فرسي، بالسودان لوقاية منطقة حوضية، مع عمل بربخ ري وصرف. . . وإقامة مضخة لري سبعمائة فدان بمنطقة العلاقى لزرعها زراعة شتوية. . . ومضخة لكل من توماس، وعنيبة بحري وعنيبة قبلي، وتوشكي شرق وتوشكي غرب، ومضخة احتياطية لهذه المنطقة، وذلك لزراعة خمسمائة فدان بكل منطقة لزراعتها زراعة نيلية فقط، وهذه المضخات مقامة على عوامات ترسو على شاطئ النيل أمام كل منطقة. . . وإقامة مضختين بالدكة على عوامة لري خمسمائة فدان رياً مستديماً. وإقامة مضخات على ثلاث عوامات ببلانة لري ألف وخمسمائة فدان رياً مستديماً، وإقامة مضختين ثابتتين ببلانة كذلك لري سبعمائة فدان رياً مستديماً. . .

وقامت مصلحة المباني بإنشاء مكاتب ومساكن بعنيبة بدلاً من مبني الحكومة التي كانت بالدر مقراً للمركز ومصالح الحكومة المختلفة، كالمدرسة الابتدائية ودور الحكومة الشرعية والتلغراف والتليفون والبريد. . . الخ وأنشأت عدة مدارس أولية كتاتيب، ومساجد، ونقط بوليس. . . ونقلت خطوط التلغراف إلى مكانها الحالي. . . وأقامت دار الحجر الصحي للمواشي بالشلال (كورنتينا) بدلا من الذي غمرته مياه التخزين. . .

وهكذا تمت لهذه البلاد مرافقها الأساسية، التي بعثت الحركة والنشاط في جميع أنحائها، وجعلت النوبيين يهدؤون نفساً، ويرتاحون بالاً، ويعتقدون أن الحكومة مهتمة بأمرهم، معنية

ص: 32

بشأنهم، عاملة على تحسي حالهم. . .

هذه هي الأدوار التي مر بها سد أسوان، والأثر الذي أحدثه في هذه البلاد، إذ قلب نظام الحياة فيها رأساً على عقب. وبدلها بحياتها الأولى، حياة الهدوء والسكون، والاطمئنان والاستقرار، حياة أخرى كلها الكد والجد والسعي والعناء. . . وهذه الأدوار تعطيك فكرة واضحة عن قيمة هذا السد العظيم، الذي أحال تراب القطر المصري إلى تبر وذهب براق، ورفع مستوى المعيشة في البلاد، وأنعش حياة المصريين أيما إنعاش، وسيكون في المستقبل القريب منبع رفاهيتها ورقيها، عندما يتم مشروع توليد الكهربائية، وفق الله القائمين بالأمر إلى ما فيه الخير والصلاح.

عبد الحفيظ أبو السعود

ص: 33

‌من وراء المنظار

في زوايا الطريق

دقت إحدى الساعات الكبرى على مقربة من دقات ثمان والليل بارد الأنفاس وأنا أنقل الخطى في زحمة الناس على طور الشارع. وئيدة ثقيلة لا من كلال ولا من ضنى ولكن مما كان يثقل قلبي من صور وقع بي عليها هذا المنظار اللعين. . .

وأريد أيها القارئ أن تقاسمني بعض ما أثقل قلبي فما يزيده لعمرك ثقلاً أن أحمله وحدي، وكثيراً ما سقمت إليك ما أضحكك فإن أنا صببت عليك اليوم بعض همي فلا تكن من الغاضبين. . .

هؤلاء غلمان وبنات من أبناء الشارع وبناته قد أقعوا على باب أحد المطاعم يطعمون بأعينهم مع الطاعمين بأسنانهم وقد حرمهم التقمم رفع القمامة من الشوارع حذر الكوليرا، وهو منظر قد زال عنه معناه لكثرة ما ألفناه، ولكن هاهم أولاء جماعة ممن يأكلون بأسنانهم جماعة ليسوا من أهل هذا البلد الذي آواهم فأشبعهم يأبون إلا أن يبرزوا المعنى الذي غاب فهم يلقون ببعض اللقم والقشور ويلهون ضاحكين بمرأى هؤلاء الغلمان كيف يقعون عليها كما تقع الكلاب والقطط وكيف يتزاحمون ويختصمون.

ومضيت ثقيل الخطى ثقيل القلب فلم أذهب غير بعيد حتى انعطفت عند زاوية فإذا رجل خشبية تمتد إلى جوار رجل من عظام ولحم وإذا صاحب الرجلين قد أسند ظهره إلى الحائط واستراح من بعض همه بغفوة وأمامه علب الكبريت لعله لم يبع منها بما يتبلغ به فنام، وابنه الهزيل النحيل يدفعه بيده دفعاً رقيقاً ليوقظه لأنه جائع؛ وألقيت إلى الصبي قرشاً فما وثق منه في كفة حتى اندفع يوقظ أباه في شدة وسرعة ليزف إليه البشرى. . .

ومشيت ثقيل القلب وئيد الخطى فما هي إلا خطوات حتى وقفت حيال منظركم تمنيت لو رآه كل رجال الفن فهاهو ذا ضرير قد اضطجع حتى أوشك أن يتمدد على سلم دكان مغلق وأسند ظهره إلى دركة ورفع وجهه صوب السماء فانعكس عليه نور مصباح قريب، ومد يده يستجدي في صمت لا ينطق ولا يتحرك أية حركة فكان منه في هذا الوضع تمثال بالغر الروعة لو وقع عليه فنان لما ساوى ذلك عنده وقوعه على كنز فما يصور البؤس شيء أحسن مما تصوره هاتان العينان الغائرتان وهذا الوجه الضارع وهذه اليد المعروقة

ص: 34

المرتجفة، ونور المصباح القوي في وجهه يجعل من ذلك كله صورة ترى ولا ينهص لوصفها كلام؛ وجاء غلام فانقض على التمثال كالفرخ الجائع وأخرج في مثل خطرة الطرف ما في جيبه من مليمات وقروش وولي لا يلوي على شيء وانتفض، التمثال انتفاضة حسبت أن قد تحرك لها رخام السلم، وأقبل بعض من شهدوا هذا السطو فألقوا إليه من قروشهم ما أذهب روعه. .

ومشيت موجع القلب ثقيل الخطى فلم أكد أنعطف عند زاوية أخرى حتى إذا بي تلقاء رجل يزحف على إسته ويديه وقد ثنى إحدى رجليه أما الرجل الأخرى فلم يبقى منها إلا جزء من الفخذ قد كشف عنه لأنه موضع (الإعلان) وبرهان العجز عن العمل، ومر الناس به لا يتألم أحد فيما أرى لأنهم ألفوا أن يردوا مثل هذا كما ألفت أنا ولكني تألمت وتألمت وأرجو منك أيها القارئ أن تصدقني أنني تألمت كما أتشفع عندك بكل عزيز لديك أن تتألم مثلي. . .

فإن لم يكن آلمك هذا فدونك شيء آخر وقعت عليه عند زاوية أخرى، دونك شيء ولا أقول رجلاً، فليس ثمة إلا الجذع فقط لا يدان ولا رجلان، ومع ذلك فهذا الشيء يزحف ويقطع الطوار كله زاحفاً. . . يا إله العالمين إني استغيثك! إن لم تكن الملاجئ لمثل هذا فلمن تكون؟ وفي أي شرع يكون على هذا أن يعمل - أستغفر الله - بل أن يزحف ليكسب قوته وحوله السيارات الفخمة تنهب الأرض باللاعبين بالذهب!

ومشيت باكي القلب بطيء الخطى حتى كنت أمام (جروبي) فإذا بنتان من بنات الشارع تتشاجران في عنف على أعين الناس، وقد ألقتا ما معهما من ورق اليانصيب، وأنشبت كل منهما أظفارها في عنق الأخرى، وذلك لأن إحداهما قطعت الطريق على صاحبتها فباعت دونها ورقة!

ونظرت فإذا معركة أخرى أشد عنفاً تدور غير بعيد بين فتاتين ناهدتين من خدم المنازل، وقد شدت كل منهما شعر الأخرى وأهوت عليها بحذائها، وذلك لأن إحداهما، كما علمت، غلبت الأخرى على عيشها فأخرجتها من عملها واستمتعت بالأجرة دونها؛ وتقاطر السابلة يشهدون هذه المعركة الكبر، وقال أجنبي من المارة لصاحبه وهو يضحك: أنظر. . . فهذا نذير الحرب العالمية الثالثة. . .

ص: 35

والتفت على حرب أهلية ثالثة بين حوذي أوقف جواديه الهزيلين، ووثب من عربته التي شهدت فيها أحسب القاهرة في عهد إسماعيل، وراح يصخب في لهجة الحوذية ونغمتهم، ويطلب إلى الراكب بقية حقه، وإلا فمن أين يأكل، ومن أين تأكل الخيل، وهو يستغيث الله والمسلمين، ويخوف هذا الذي لا يريد أن يدفع عاقبة الظالمين، وقد دارت حولهما حلقة من المتفرجين، والحوذي يتدفق بلاغة، إذ يصف الغلاء وما صنع بالناس، وكأن في فمه (ميكروفون). .

ومشيت ضائق الصدر، حيران الخطى، ملء نفسي الألم مما أشهد من مخازي مجتمعنا العظيم، فإذا أنا تلقاء عتل يستوقفني قل أن رأيت مثله ضخامة وطولاً، له عنق هو وحده أضخم من ذلك الجذع الذي كان يزحف على الأرض، أما بدنه فيضل البصر في ضواحيه، ومد إلي ذلك المارد يداً تتسع قبضتها لتتلقى حملاً أو غلاماً، وقال فيغير تلعثم أو تردد:(يابيه. . . أنا جوعان. . . عاوز حق لقمة)! وحرت والله بين أن أضحك فأسري عن نفسي بعض ما بها، أو أن أصرخ في وجهه علي أنفس عني بعض همي وغلبتني الثانية فقلت: اغرب عني، فلن يشبعك كل ما في جيبي، إنك تبني عمارة وحدك، فهل يصح أن تطلب لقمة!

وبعد، فيا حكومة. . . يا وزارة الشؤون الاجتماعية. . . يا جماعات البر والإحسان. . . يا دعاة الإصلاح. . . يا من تغارون على كرامة وطنكم وسمعة عاصمتكم. . . الغوث. . . الغوث. . . أن جميع ما رأيته في زوايا الطريق في ليلة واحدة، وعلى أبعاد متقاربة في أهم بقاع القاهرة العظيمة مما بينته وكثيراً مثله مما لم أبين يصرخ صراخاً عالياً لمن كان له سمع أن هذا عيب. . . اجعلوها من باب الترف، فأزيلوا من الطرقات هذا الأذى، فما أطمع أن تجعلوها من الإنسانية!

الخفيف

ص: 36

‌في محنة الوباء

يا للأغنياء للفقراء

للأستاذ فريد عين شوكة

جُهدي! وما عندي سوى الأقوال

أدعو لمكرُمة، وحسن فِعال

جهد المقلَّ! وأين لي بخزائِنٍ=كالأغنياء تفيض بالأموال؟

لو كان عندي المال، لم أبخلْ به

في النائبات، على رقيقي الحال!

الكادحين الرازحين من الطوى

الغارقين بشِقوة وضلالِ!

غفراً سراةَ النيل لستُ بحاسدٍ

لكم على فيض الغنى السلسال

كلا، ولا أنا سائل عن وردِه

أجرى حراماً أم سرَى بحلالِ

لكن أُعاتبكم لِشُح نفوسكم

يوم السباق إلى ندىً ونوال!

هذا الوباء طغى بمصرَ، فزادها

ذاقَ الفقيرُ لدَيه الضَنى الغوَّال!

ما بالكم لا تنهضونَ لِغوثهِ

بالمال يرخصُ في أجلّ نضال؟

أين الوفاءُ لِمصرَ إن لم تبذلوا

في غير تقتير، ولا إقلالِ؟!

أتبيتُ في فزَع، وتصبحُ في أسىً

وتظلُّ نهب عَواصف البلبال!

والأغنياء الناعِمون بخيرها

يحيوْن في رَغد، وراحة بال!

بل أين حق الكادحين لكم من الز - رَّاع والصُّناع والعُمَّال؟!

مُدُّوا لهم كفَّ الحنان، فطالما

جادوا لكم بجلائل الأعمال

واسعوا إلى مرضاتهم، ولا تنفثوا

في البائس المحروم شرَّ خصال

واستعبدوا الأموالَ، لا تغدوا بها

أسرَى، تعيش العمرَ في الأغلالِ

ما كانت الأموالُ غيرَ وسيلةٍ

للحمد والمجدِ الرفيع الغالي

والمال مهما غرَّ سحرُ بريقه

يفنى كما يفنى خِداعُ الآل!

برقٌ يشعُّن وفتنة خلاَّبةٌ

إن أطعمت فإلى وشيك زوال

فابنوا لكم أسمى المكارم واشتروا=أبقى المحامد في فم الأجيال

(منوف)

ص: 37

فريد عين شوكة

ص: 38

‌من الشعر السياسي

إشراقة الفجر

للأستاذ محمد عبد الغني حسن

فجر أضاء على إظلامة الزمن

تكفي الليالي التي طالت على الوسن

هذا الأذان بشير الصبح في بلد

يرن تسبيحه الله في الأذن

يا ثائرين على الأرسان موثقة

أن الكريم عدو القيد والرسن

ما كان نومكمو يوماً على وهن

أو كان مرقدكم يوماً على غبن

ولم تكن مصر في أغلال آسرها

مأسورة الروح بل مأسورة البدن

يا موكب النصر أغلينا فرائده

والمجد لا يشترى يوماً بلا ثمن

ما أرخص الروح في الأوطان هينة

لكنها لسوى الأوطان لم تهن

ماذا شهدت من (الستين) زائدة

إلا الثبات على الأحداث والمحن

تلين كل قناة عند غمزتها

لكن قناتك عند الغمز لم تلن

شدت على البأس ما مالت لمختبر

عند اللقاء ولا اهتزت لممتحن

كأن صعدتها الأهرام صاعدة

أعيا على الزمن الباقي من الزمن

يا نائمين على أمجاد أمسكمو

ما قيمة المجد في اللفات والكفن؟

أما كفى العمر نقضيه مفاخرة

على الهياكل أو شدوا على الدمن؟

هبوا أبوتكم قد أعرقت نسباً

فمن أبو الشمس في إشراقها الحسن؟

ما قيمة الأمس في ماضي تفطنه

إن لم يكن سبباً في حاضر الفطن؟

قالوا (الجلاء) فقلت العبء أثقله

عند التفرد بالأعباء والإجن

إن (الجلاء) عن الأرواح قد صدئت

ليس (الجلاء) عن الكورات والمدن

وللخلاص التزامات أنحسبها

نوعاً من اللهو أو ضرباً من الددن

والحق لم يحمه جيش بلا عدد

عند اللقاء، وأسطول بلا سفن!!

والمجد لا يبتني إلا وحائطه

دعامتان من الأخلاق والفطن

أمامكم تبعات المجد فاصطبروا

في المركب الوعر أو في المطعم الخشن

هي العزائم لا تنبو على ريب

من الزمان ولا تخبو على الظنن

ص: 39

فما استحال على الإيمان مطلب

إن قلت يا مستحيل الأمر كن يكن

نعمى الجلاء على الأعمال باقية

ولا تدوم على الأقوال واللسن

شر البلية أوطان بلا سند

من الرجولة لا قوم بلا وطن.

محمد عبد الغني حسن

ص: 40

‌أغنية

(. . . وذاب الوجود في الأذن لحناً)

للأستاذ أنور العطار

إن تراءيت لي خيلاً وظناً

رَقَصَ القلب فرحة وتثنى

واحتواني حلم رقيق حبيب

هو منى الهوى الذي أتمنى

والنشيد العذب الذي أتغنى

وإذا رفرفت عليك شجوني

وهفا خاطري وهاجَ حنيني

فاسألي الليل أن يرق لحالي

فهو مثلي هيمان جم الفتون

شاعر خيّر الرؤى والفنون

يغتلى من دمي شبابك جمراً

ويعيد الحياة زهراً وعطراً

ومضات من سحر عينيك لاحت

فسرت في الفؤاد خمراً وشعراً

ومنى تغمر الجوانح غمراً

يا سنا خاطري ويا روض عمري

يا صفائي ويا خيالي وشعري

طفت بالقلب فرحة وضياء

كالشعاعات في تباشير فجر

والبشاشات في بواكير زهر

إن ترأفت بالمحب المعني

ورحمت الشباب يذبل غصناً

هدهدتني الحياة مثل الأناشي - د، وذاب الوجود في الأذن لحناً

وشفتني المنى وقلبي غنى

نهر للحنان غنى بقلبي

بنشيد حلو على الدهر عذب

بعث الماضي الحبيب لحوناً

فاتنات تعيد سالف حبي

وتثير الجوى وتغرى وتصبى

دمشق

أنور العطار

ص: 41

‌تعقيبات

مكتبة الجاحظ

أهم صديقنا الباحث المحقق الأستاذ عبد السلام هارون تحقيق كتاب الحيوان لأبي عثمان الجاحظ وأخرجه للناس مصححاً مقوماً مكملاً، فلو رآه الجاحظ لقرت به عينه وطابت نفسه وشكر للأستاذ الفاضل هذا الصنيع الذي أحيا به أثراً خالداً، وأسدى به إلى العربية يداً. .

ونشر الكتب وتحقيقها ليس بالأمر الهين، ولكنه عمل يشترك فيه الذوق والفهم، والعلم وسعة الاطلاع، ويقتضي بذل الجهد وطولالبحث والصبر على مراجعة النصوص، وهذا كله قد اجتمع للأستاذ عبد السلام هارون، وتجلى فيما أخرج من كتب قيمة وحقق من أسفار نافعة، وقد أعطى لكتب الجاحظ قدراً كبيراً من عنايته، فهو الآن يعد العدة لإخراج الحلقة الثانية من مكتبة أديب العربية الكبير، وهي كتاب البيان والتبين، وقد راجع الأصول المخطوطة لهذا الكتاب، وكمل مواضع النقص فيه، واستوفى مواقعه الناقصة شرحاً وتعليقاً، وما بقى إلا أن يقدمه إلى أبناء العربية في أجمل حلة من التنسيق والطبع. .

على أن الذي يدعو إلى الغبطة أكثر أنه الآن يهتم بجمع الأصول لرسائل الجاحظ المفقودة، وقد هيأ فعلاً رسالة (حيل اللصوص) لأبي عثمان، وكان الظن بهذه الرسالة أنها ضاعتفي أجواء العصور الخالية، وإنه لجهد نافع، وعمل مشكور.

أن هذا الذي ينهض به الأستاذ هارون لعمل تنوء به الجماعة، ولو نهضت به جامعة أو جماعة لحسبته من مفاخرها الخالدة، ولكنه عمل ينهض به فرد مخلص للعلم وهو صامت صابر، قانع بأنه يؤدي واجبه العلمي، ثم هو لا يظفر من جامعاتنا وهيئاتنا العلمية بكلمة تقدير أو شكر. .

علم وجهل

والعلم والجهل ضدان لا يجتمعان، ولكن محطة الإذاعة المصرية قد استطاعت أن تجمع بينهما في براعة تحسد عليها وتدل على عبقريتها. .

تقدم هذه المحطة إلى المستمعين برامج ثقافية تعرض فيها حياة بعض الشعراء والعلماء ورجال التاريخ، في أسلوب طريف خفيف يحمل الناس على الاستماع إليه والانتفاع به، والمحطة تقصد بهذا تثقيف المستمعين وتزويد الذين لم يطلعوا على التراث العربي بذلك

ص: 42

الزاد الخفيف، وهو لا شك قصد حسن تشكر عليه، ولكن الخطر كل الخطر هو ما تتضمنه تلك البرامج من الأخطاء الشنيعة في التاريخ والأدب، وتحريف الوقائع والروايات، فأن ذلك يعكس القصد الذي تهدف إليه محطةالإذاعة بتقديم هذه البرامج، فتكون طريقاً إلى الجهل باسم العلم.

استمعت منذ ليال إلى برنامج قدمته المحطة عن الشاعر العالم إسماعيل حسن بن علي الطفرائي الاصبهاني، فلو أردت أن أنبه على ما وقع في ذلك من أخطاء تاريخية وتحريف للوقائع لاحتاج ذلك إلى صفحات من الرسالة.

فلعل المسئولين في محطة الإذاعة يعنون باستدراك هذا الأمر، وإذا كان ذلك مما يشق عليهم فمن السهل أن يؤلفوا لجنة علمية أدبية لمراجعة هذه البرامج حتى تخرج سليمة من كل تحريف خالية من تلك الأخطاء التي لا تحتمل. .

دعوة متهمة!!:

إنه لشيء طريف، وما أكثر الأشياء الطريفة في هذه الأيام!!

قالوا أن بعض المتخرجين في الجامعة وأساتذتها الشبان قد ألفوا من بينهم جمعية أسموها جمعية أنصار اللغة العامية! وغايتها الدعوة لهذه اللغة باعتبارها لغة الأدب القومي في مصر الحديثة. . ويبرز أعضاء هذه الجمعية دعوتهم بأن الشرق العربي يمر بالمرحلة التي مرت بها أوربا في عصر النهضة حينما تطورت اللهجات الشعبية إلى اللغات الأوربية الحديثة متفرعة كلها عن أصل واحد وهو اللغة اللاتينية!!

فاقرأ يا أخي وتحسر على هذا الثمر الذي أثمرته لنا الجامعة، وعلى هذا التفكير الذي يتحدر من وراء العقول. عقول الشباب المثقف الذي يقال إنه عماد التقدم والنهوض. .

أنا رجل لا أحب أن أخلط مسائل ونظريات الأدب بغيرها من الاتجاهات الأخرى، الاتجاهات التي تتصل بالأغراض والمآرب، ولكني أحب أسأل سؤالاً خفيفاً: لماذا ترتفع الأصوات بالدعوة إلى العامية في هذه الأيام التي ندعوا فيها للجامعة العربية وتوثيق الروابط بين أبناء العروبة وحجتنا ف يذلك أن لغتنا واحدة وتقاليدنا واحدة وقوميتنا واحدة. . .

إنني أسأل هذا السؤال، وإني لأضع يدي على شيء في هذا المجال، ولكني لا أحب أن

ص: 43

أصرح به، ورجائي ألا يضطرني القائمون بهذه الدعوة المريبة المتهمة إلى التصريح والإفصاح. . .

على أن أدع هذه الناحية جانباًن وأسأل أولئك (الجامعيين): ما تلك العامية التي يريدونها لغة قومية لمصر؟ وفي مصر عشرات من اللهجات العامية التي لا تلتقي في كثير من الأحيان، حتى إنه ليصعب على أبناء الوجه البحري التفاهم مع أبناء مصر العليا، ثم ماذا يصنعون في رسم الكلمات ونطق الحروف ونحن نجد مثلاً حرف (القاف) ينطقه أبناء الصعيد جيما، وأبناء بعض المديريات الشمالية (قافا) وفي بعض المديريات الأخرى (كافاً) وفي القاهرة والمدن ينطقونه (همزة)؟!

ومن يدري؟ لعل وراء هذه الدعوة دعوة أخرى، ولعل (الجامعيون) يطلعون علينا بعد ذلك بالدعوة إلى استقلال كل مديرية من مديريات مصر بعاميتها وبقوميتها. . ألم أقل لك إنه شيء طريق!!

الجامعات في سائر بلاد العالم تخرج شباباً مثقفاً مهذباً يعمل لتثقيف العقول وتنوير الأذهان والسمو بها إلى أعلى، وجامعتنا تخرج شباباً ينحدرون من أعلى إلى أسفل، ويودون بجدع الأنف أن لو استطاعوا السير في الطريق على رءوسهم وأقدامهم إلى السماء ليوجهوا إليهم الأنظار. . .

حافظ. . ومكبث:

قال صديقنا الأستاذ دريني خشبة في مقال كتبه عن شوقي والمسرح في مجلة (الكتاب).

(. . . وكان لحافظ إبراهيم بدوات يحن فيها إلى المسرح وتشف عما كان يتمناه من استطاعة النظم له. وإلا فما الذي أغراه مثلاً بترجمة تلك القطعة الرائعة من نظم شكسبير، والتي يخاطب فيها مكبث خنجره قبل أن يغتال ابن عمه دنكان، والتي يقول في مطلعها:

كأني أرى في الليل نصلا مجداً

يطير بكلتا صفحتيه شرار

تقلبه للعين كف خفية

ففيه خفون نارة وقرار

وهي ترجمة جيدة تدل على حسن فهم حافظ لروح شكسبير.)

والحق أن حافظاً لم ينظم هذه المقطوعة المتداولة في وصف خنجر مكبث فحسب، بل إنه ترجم الرواية جميعها، ترجمها نثراً وشعراً، وبذل في ذلك مجهوداً كبيراًن وكان يعدها

ص: 44

للتمثيل، ولكنها فقدت منه، وقد ظل حافظ رحمه الله يتحسر عليها إلى آخر حياته. .

ومما يذكر أن المرحوم سليم سركيس نشر صفحات من هذه الترجمة في مجلته التي كان يصدرها باسم (سركيس)، وقد كتب في العدد الذي صدر بتاريخ 15 فبراير سنة 1906 يقول:(عرب حافظ إبراهيم الشاعر الكبير رواية ما كبث مكلفاً بذلك من الشيخ سلامة حجازي ليمثلها جوقه، فاخترت أن أكون السابق إلى نشر شذرات من التعريب دلالة على إجادة المعرب وبياناً للغة هذه الرواية التي ستكون أفضل الروايات المصرية لغة). . . ثم أورد بعد ذلك نحو صفحتين من ذلك التعريب.

وقد عنيت من قديم بجمع كل ما نشر من الشذرات من تلك الترجمة التي تعد أروع آثار حافظ الأدبية، ولعلي أستطيع في فرصة قريبة أن أقدمها إلى قراء الرسالة. . .

ومما يذكر بهذه المناسبة أن الشاعر الكبير خليل مطران بك قد ترجم رواية مكبث وستمثلها الفرقة المصرية في هذا الموسم ولا شك أن شاعر القطرين قد عوض الدب العربي بهذه الترجمة ما خسره بضياع ترجمة حافظ. .

(الجاحظ)

ص: 45

‌الأدب والفن في أسبوع

الأديب بين العزوبة والزواج

كتب الأستاذ سلامة موسى مقالاً في جريدة النداء، عنوانه (الأديب الأعزب والأديب المتزوج - أيهما أخدم للأدب وأخلص للمجتمع؟) بدأه بقوله (بين الأدباء كثيرون تزوجوا وكثير منهم التزموا العزوبة. ولم يقم بإحصاء إلى الآن يبين فيه لا فرق بين الأديب الأعزب والأديب المتزوج من حيث إخلاصهم للمجتمع وخدمتهما للأدب. مع أن هذا البحث جدير بأن يهدينا في باب الزواج وباب الأدب معاً) وختم المقال بالنتيجة التي رمى إليها فقال:(ولكنا نريد أن نثبت هنا بوجه عان أن العزوبة تخدم الأدب أكثر مما يخدمه الزواج) وقد خلص إلى هذه النتيجة من حيث ما ارتآه من أن الحرية التي يحتاج الأديب إليها قبل كل شيء لا تتوافر للمتزوج لأنه يعيش بعقلية عائلية تقيده فلا يستطيع أن يعالج مشكلات المجتمع معالجة قد تصطدم بشعائره الاجتماعية أو عقائده المذهبية، وأن الزوجة عامل محافظ تكره أن تشذ عن القالب الاجتماعي وهي تفكر في زواج بناتها ولذلك تصوغهن في القالب الذي يطلبه الناس، فهي تمنع زوجها أن يشذ أو يتطرف، إلى أن قال:(وفي مثل العصر الذي نعيش فيه، حيث تتغير الأوزان والقيم الاجتماعية، ويحتاج الأديب إلى الحرية حتى يفكر مخلصاُ، فإن كان أعزب استطاع ذلك. أما إذا كان متزوجاً فإنه يلتزم الصمت حيث يجب النطق ويرضى بالقيود حين يحتاج الحرية ويمتدح التقاليد التي يدرك مدى خطرها).

ويبدو بعض الذي ذكره الأستاذ سلامة صحيحاً كمحافظة الزوجة واندماجها في المجتمع وما عساها أن تجذب زوجها الأديب إليه من التقيد ومسايرة الأوضاع السيئة، ولكني لا أرى ذلك موصلاً إلى ما أراد أن يثبته من أن العزوبة تخدم الأدب أكثر مما يخدمه الزواج، ولا إلى ما قال به نم أن الأديب المتزوج يستحيل عليه أن يكون مبتدعاً فذاً كما يكون العزب. لأن المسألة هي شخصية الأديب وأصالة طبعه وإيمانه بفنه واندفاعه إلى أهدافه، فإذا كانت هذه صفاته فلن تستطيع الزوجة ولا (الرغبة في زواج بناته!) أن تقيد حريته فتحول دون إبداء ما يراه، والأستاذ سلامة نفسه مثل لذلك فهو متزوج وصاحب عيال وهو مع هذا يشذ ويتطرف. .

ص: 46

وهذا كله مع وقوفنا معه ونظرنا إليه منها وهي التطرف في مهاجمة المجتمع ونظمه. ولم يقل أحد بأن الأديب لا يكون فذاً مبتدعا إلا إذا شذ عن المجتمع واصطدم به.

أن حياة الأديب المتزوج تزخر بألوان من العواطف والتجارب لا يعرفها العزب، وخاصة إذا كن ذا أولاد، ولا أعتقد أن في الدنيا عاطفة أقوى من عاطفة الأبوة (والأمومة) فهو يصورها ويقبس منها طاقات روحية ينبعث بها في كل ما يكتب، فيبدع

والمتزوج رجل عينه ملأى. فهو أقدر على فهم الجمال، ومقاييسه فيه أدق من مقاييس العزب الذي يخدعه حرمانه.

على أن الأهم من كل ذلك أن الأديب لا بد له من المرأة لا لأنه رجل فحسب بل كذلك لأنه فنان يتميز بخصب الوجدان، فهو إما يتزوجها، أو يخدعها، أو تكون من سواقط الحي. .

والأولى أقرب إلى الثلاث إلى شعوره والتغلغل في حياته والمشاركة في تبعاته، وكثيراً ما تتعهده وتحفزه.

هذا ولو نظرنا إلى الموضوع من الوجهة الإحصائية كما أراد الكاتب في أول مقالة، لوجدنا أدباءنا المعروفين عدا قليل منهم متزوجين، وفي جملتهم من كان معرضاً عن الزواج ثم تزوج، وفي هؤلاء المتزوجين من ينقد المجتمع ويكتب في السياسة، وبعنف في نقده وفي كتابته، غير حاسب أي حساب لسخط المجتمع، أو لجور السياسة، أو. . . لبوار بناته. .! ولم يحق عليه شيء من ذلك.

كراسي خالية في المجتمع اللغوي:

خلا في مجمع فؤاد الأول للغة العربية أربعة كراسي بوفاة الشيخ أحمد إبراهيم باشا والشيخ مصطفى عبد الرزاق والأب انستاس ماري الكرملي.

وينشط المجمع الآن - وقد استهل دورته الحالية - في العمل لشغل هذه الكراسي.

قلت لمحدثي: لعلهم يتجهون في اختيار هؤلاء الأربعة إلى استكمال عناصر تعوز المجمع. قال: أن المجمع لا تعوزه عناصر ولا كفايات، والعجيب أنه يؤثر الاتئاد والتباطؤ، أو إن شئت فقل التكاسل، في العمل مع أن كثيرين من أعضائه لهم نشاط أدبي خارجي عجيب! وحسبك أن تعلم أنه يشتمل على كبار الأدباء في مصر ولم يبق بعيداً عنه منهم إلا المازني والزيات.

ص: 47

قلت: ليتهم يختارون له دما جديدا من الشباب الناضجين، أم تراهم يستكثرون على الشباب أن يكونوا من أعضاء المجمع اللغوي الخالدين فيه أبداً. . .

زينب:

قلت في كلمة سابقة أن علية بنت المهدي كانت تقول الشعر في غلام يقال له (رشأ) وتكنى عنه بزينب، ومن قولها فيه:

وجد الفؤاد بزينبا

وجدا شديداً متعبا

أصبحت من كلفي بها

أدعى سقيما منصبا

ولقد كنيت عن اسمها

عمداً لكي لا تغضبا

وجعلت زينب سترة

وكتمت أمراً معجبا

فكتبت الأديبة النابهة فدوى عبد الفتاح طوقان في العدد الماضي من الرسالة، تقول أن الأبيات لابن رهيمة المدني وليست لعلية، وأوردت ما عقب به أبو الفرج على الأبيات بعد أن رواها عن ميمون بن هرون منسوبة إلى علية إذ قال:(هكذا ذكر ميمون بن هرون، وروايته فيه عن المعروف بالشطرنجي، ولم يحصل ما رواه، وهذا الصوت شعره لابن رهيمة المدني والغناء ليونس الكاتب، وهو من زيانب يونس المشهورات، وقد ذكرته معها، والصحيح أن علية غنت فيه لحنا) ثم قالت الآنسة فدوى أن زيانب يونسي سبع قطع من شعر ابن رهيمة كان يقولها في زينب بنت عكرمة.

وكنت قد قرأت تعقيب أبي الفرج الذي أوردته الآنسة، فلم أره يتسق مع مضمون الأبيات، لأن ابن رهيمة يتغزل في (زينب) وهو أسم حبيبته الصريح فلم يكن ولم يجعل زينب سترة، ومن قوله في إحدى زيانبه السبع:

إنما زينب همي

بأبي تلك وأمي

بأبي زينب لا أكـ - نى ولكني أسمى

وروى أبو الفرج عن راو آخر، هو عبيد الله بن العباس الربيعي، قوله: لما علم من علية أنها تكنى عن رشأ بزينب قالت:

القلب مشتاق إلى ريب

يا رب ما هذا من العيب

قد تيمت قلبي فلم أستطع

إلا البكاء يا عالم الغيب

ص: 48

خبأت في شعري أسم الذي

أردته كالخبء في الجيب

وقال أبو الفرج (فصحفت اسمها في ريب)

فنحن الآن أمام أبيات، يقول صاحبها إنه يخفي أسم محبوبه ويستره ويكنى عنه، وعلية هي التي كانت تصنع ذلك واشتهرت به حتى اضطرت إلى التحول عن (زينب) إلى (ريب) وقد نسب الرواة إليها الأبيات، وكذلك فعل الحصري في كتابه (زهر الآداب) إذ قال بالجزء الأول في علية: (وعلقت بغلام اسمه رشأ وفيه تقول:

أضحى الفؤاد بزينبا

صبا كئيباً متعبا

فجعلت زينب سترة

وكتمت أمراً معجبا)

فكيف تكون الأبيات بعد ذلك لابن رهيمة واسم صاحبته زينب؟ أيكنى بزينب ويسترها بها؟!

وما أظن ذلك قد غاب عن فطنة الآنسة فدوى، ولكنها - فيما يبدو لي - وقعت فيما وقعت فيه من حيرة في اضطراب أبي الفرج، فأرادت أن تعرف ما أقول فيه. وقد قلت.

الأدب والسينما:

كان مساء الجمعة موعد للمناظرة التي قامت بنادي الخريجين المصري في موضوع (إخراج روائع الفكر على الشاشة متمم لقيمتها الفنية) وقد أيد الرأي الأستاذان كمال شكري ومصطفى حبيب، وعارضه الأستاذان يحيى نصار وعلي الراعي.

ومما قال المؤيدان أن السينما فن له خطره في قيادة الجماهير وتوجيهها، وقد اجتاز أو أوشك أن يجتاز المرحلة التي كان فيها كل الغرض منه الاتجار وإدرار المال بتقديم ما يسلي دون أن ينفع، وذلك بفضل الجمهور الذي استنار وطالب بغذاء فكري في منتجات السينما، فاضطر المخرجون أن يستجيبوا له فقدموا له ما كتبه الأدباء من القصص القيمة، وأخرجوها من الحيز المحدود إلى عالم أوسع. ولا يستطيع فن السينما أن يقوم ويواجه الجمهور المستنير إلا على جهود الكتاب الذين يعالجون في رواياتهم مشكلات المجتمع ويصورون آلام الناس وآمالهم، ولا تستطيع السينما أن تعيش طويلاً على ما يقدمه من لا حظ لهم من علم أو أدب أو فن.

وفن السينما يتمم قيمة الأدب بتجسيم ما يرمي إليه الأديب وتحريك أشخاصه وتوضيح

ص: 49

الغامض من فكرته، وقد يركز الهدف المبسوط في صفحات - في منظر واحد. وهو بعد هذا يتمم رسالته بتبسيطها وتقريبها وتسهيل هضمها، وينشرها في جموع رواد السينما الذين هم أكثر من قراء الأدب، وبذلك تصبح السينما أداة نشر للأدب بعيدة المدى عظيمة الأثر.

وذهب معارضاً الرأي إلى أن الأدب والسينما فنان يختلف أحدهما عن الآخر، فالأدب يوحي إلى كل قارئ من قرائه الفرادى بمشاعر مختلفة ويؤثر فيهم تأثيرات متباينة، وعندما يعمد إليه المخرج يستمد تأثيره الخاص ويصبه في قالبه السينمائي فتتأثر به الجموع المشاهدة تأثيراً واحداً؛ والأدب أداته الأسلوب والألفاظ، أما السينما فتعتمد على الصور والحركات والحوار، فالرواية حين تنتقل إلى السينما تصبح شيئاً آخر غير الأدب. والسينما تتطلب من مشاهدها المتابعة السريعة، وهذا يقتضي ألا تحتاج مادتها إلى تأمل وإمعان فكر على خلاف الأدب الذي يتيح التأمل والتفكير لقارئه، بل هو يدعوه إليها بما فيه من تعمق وبعد غور. والسينما لا تكفي طالب الأدب بل هو بعد أن يشاهد القصة على الشاشة يتشوق إلى قراءتها ليجد فيها ما لم يؤده إليه عرض السينما.

وعلى ذلك فالسينما فن قائم بذاته مغاير للأدب، ومغاير الشيء لا يتممه.

وبعد أن ورد المؤيدون على ذلك وبينوا أن هذه اعتبارات نظرية تقوم على مغالطات يدركها المتأمل - أخذ رأي الحاضرين في الموضوع، فأيد الرأي الأكثرون.

قيود العملة ونشر الثقافة:

نشرت إحدى الصحف أن فريقاً من منتجي الأفلام السينمائية في مصر وأصحاب شركات السينما شكوا إلى وزارات المالية والتجارة والخارجية من الصعوبات التي يلاقونها في استيراد الأموال المستحقة لهم من البلاد الشرقية ثمناً للأفلام التي ترسل من مصر إلى تلك البلاد نظراً للقيود المفروضة على إخراج العملة في تلك البلاد إلى الخارج. وقد عنيت وزارة المالية ببحث هذا الموضوع ودراسته، فاستقر الرأي على أن تتولى وزارة الخارجية وزارة حكومات تلك البلاد في تيسير إخراج العملة من بلادها ثمناً لما يرسل إليها من الأفلام المصرية رغبة في نشر الثقافة عن هذا الطريق. وقد أرسلت وزارة المالية فعلاً إلى وزارة الخارجية نص كتاب بهذا الشأن لتوجيه إلى حكومات بعض البلاد الشرقية لتحقيق

ص: 50

ذلك.

والواقع أن المؤلفين في مصر ودور النشر يشكون هذه الشكوى، لأنهم يجدون صعوبة في إصدار المؤلفات إلى بلاد الشقيقة لتلك الأسباب، والواقع كذلك أن أزمة إصدار المؤلفات المصرية إلى خارج القطر أقدم من قيود العملة، فقد بدأت هذه الأزمة من سنى الحرب التي قل فيها الورق، فلم يصرح إلا بتصدير ثلاثين في المائة من عدد نسخ الكتاب المقدر بما يمنح المؤلف من الورق، مما مكن لبعض الشقيقات من النشاط في إصدار مؤلفاتها.

ولم تكد ترفع قيود التصدير حتى جاءت قيود العملة فأصبحت زعامة مصر الأدبية مهددة، بل هدد التعاون الثقافي بين البلاد العربية، وكاد يقف انتشار الثقافة العربية في أرجاء الوطن العربي الكبر.

ولا شك أن هذا الأمر يدخل في اختصاص اللجنة الثقافية بالجامعة العربية، كما يعني وزارة المعارف المصرية التي تهتم بالتعاون الثقافي العربي. ولا بد أنهما تلتفتان إليه ستبذلان له عنايتهما بالاشتراك مع وزارتي المالية والخارجية، وإنه لجدير بعناية الجميع وإذا كان قد عنى بمسألة الأفلام رغبة في نشر الثقافة عن طريقها فإن الكتب هي الأداة الأصيلة لنشر الثقافة.

(العباسي)

ص: 51

‌البريد الأدبي

القرقور في القاموس:

أخرج السيد (البر الريحاني) شقيق (الفيلسوف أمين الريحاني) في هذه الأيام للقارئين كتاباً كبيراً، أسمه (قلب لبنان) من إنشاء أخيه، وقد جاء فيه (ص522):

(وهاك مثالاً من مباحث (برار) التاريخية: بين الجزائر السبع اليونانية جزيرة فقدت أسمها القديم وأسمها الأقدم السامي. أما أسمها اليوم فهو (كرفو) أما أسمها القديم فهو (كركير) وهو غير يوناني. وان له قصة طريفة جاءت في الأدوسي.

يوم كان عولس عائداً إلى اثيكا نقم عليه اله البحر، فحول مركبه إلى صخرة عند الشاطئ، فسميت الجزيرة بأسم ذلك المركب تذكاراً للحادث المفجع.

ثم قال العلامة برار أن معنى كركيرا المركب السريع، وإن الاسم فنيقي سامي. (فقد كان العرب. يسمعون المركب السريع كركر أو كركور.)

قال الفيلسوف: إنه رجع إلى الفير وزبادي فصل الكاف باب الراء وفصل القاف باب الراء فلم يجد لا كركورا ولا قرقورا. وقد كان الفيلسوف العبقري (الأمين) في هذا القول من المتسرعين وأن كان خطب تسرعه يسيراً هيناً بالقياس إلى تسرع كثير من نظرائه من الفلاسفة والأئمة. يقول الأمام أبن السيد البطليوسي في كتابه (الاقتضاب في شرح لا لأدب الكاتب) ناعياً على الإمام الأصمعي تسرعه: (كان الأصمعي (عفا الله عنه) يتسرع إلى تخطئة الناس، وينكر أشياء كلها صحيح). (وقد يكون مع المستعجل الزلل) كما يقول القطامي.

إن (القرقور) هو في (القاموس) واليقين أن العلامة برار إنما عني هذه اللفظة، وقد قال (كركير أو كركور) إذ لا قاف في ألسن الفرنج ولا ضاض ولا عين، ولو سمع (أبو مهدية) حديث القوم لتعجب كيف يلغو هؤلاء الناس، كيف يحكون وقد خلا لحنهم أو لسنهم أو حكايتهم من أمثال هذه الحروف.

وهذا قول مجد الدين في مصنفة (القاموس): (والقرقور كعصفور السفينة أو الطويلة أو العظيمة) قال شارحه صاحب (التاج): (والجمع القراقير، ومنه قول النابغة: (قراقير النبيط على التلال)، وفي الحديث: فإذا دخل أهل الجنة الجنة ركب شهداء البحر في قراقير من

ص: 52

در). وإذا شك في الحديث - وقد نقله (التاج) من (النهاية) - فلا ريب في صحة ألفاظه في اللغة. وروي أبو علي في (أماليه) ج1 ص279 مقطوعة مستطرفة لعبد الصمد بن المعذل في هجاء أبن أخيه. وردت تلك اللفظة في مطلعها:

لو كان يعطي المنى الأعمام في ابن الأخ

أصبحت في جوف قرقور إلى الصين

وقال الهاجي في ختامها:

إن القلوب لتطوى منك يا ابن أخي

إذا رأتك على مثل السكاكين

فعندنا - كما ترى - (القرقور) وهذه اللفظة وغيرها هي من الأدلة على أن العربية والنيقية - والفنيقية بنت العربية - كانتا تعطيان الإغريقية كما كانتا تأخذان منها، وشيخنا يقول:

(الناس بالناس من حضر وبادية) فلكل على كل يد، ولن يستبد بالفضل كله في هذه الدنيا مستبد. وما احتفلنا بتلك الكلمة وحرصنا عليها لتكتب في الصحف أو تقال لكن اهتممنا بها للتاريخ، وسيمكث (القرقور) في (القاموس) أو في الميناء مرسى بالأنجر لا يغدو ولا يروح، فلا نقول في وقت: باسم الله مجراه بل بإسم الله مرساه. . . والعربية - يا أخا العرب - بحر، فلا تعدم اللفظ الفصيح المأنوس القرآني.

(السهمي)

تعليق على كلمة:

قرأت في مجلة الرسالة الغراء مقالاً للدكتور عبد الوهاب عزام بك في العدد 748 وقد لفت نظري في أثناء المقال استعماله كلمة (اطأرت) جاء بها خلال تحدثه عن ضريح (همايون) في الهند بقوله: (وما رسخت قواعد الملك ولا اطأدت أساطين الدولة. . الخ) وهذه الكلمة لا تعترف بها القواعد الصرفية لأن ثلاثيها (وطد) وصوغ (افتعل) منها يكون اتطد كوعد وأتعد وهكذا، وزيادة للإيضاح أذكر ما كتبه صاحب (المثل السائر) في أوائل كتابه المذكور عن هذه الكلمة التي جاءت في شعر أبي تمام، قال صاحب المثل السائر: وقد غلط أبو تمام في قوله:

بالقائم الثامن المستخلف اطأدت

قواعد الملك ممتداً لها الطول

ص: 53

إلا ترى أنه قال: اطأدت والصواب اتطدت لأن التاء تبدل من الواو في موضوعين أحدهما مقيس عليه كهذا الموضع لأنك إذا بنيت افتعل من الوعد قلت: أتعد ومثله ما ورد في هذا البيت فإنه من وطد يطد ولا يقال اطأد.

وأما غير المقيس فقولهم: تجاه، من وجاه، وتكلان، من وكل فأبدلت الواو تاء للاستحسان. . . هذا نص ما قاله ابن الأثير الموصلي في المثل السائر صفحة7، ولعل للدكتور عزام حجة تفند زعم الموصلي ليصح قول أبي تمام فيصح قول الدكتور نفسه.

إبراهيم الوائلي

حول خبر في النجوم الزاهرة:

إلى الصديق الأستاذ المؤرخ أحمد رمزي بك.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. جاء في الجزء السابع من (النجوم الزاهرة) ص126 سطر 16.

قول مؤلفه أبي المحاسن يوسف بن تغري بردى حين يتحدث عن قضاة الشافعية بمصر: (وقاضي القضاة جلال الدين المذكور هو صهري وزوج كريمتي ومات عنها رحمهما الله تعالى وعفا عنهما) وفي هذا الكلام نظر لأن القاضي جلال الدين هذا توفي سنة 824 هجرية، والمؤلف ابن تغري بردي ولد سنة 813هـ على حسب قوله هو في ترجمته لنفسه. فكيف ينجب بنتاً تتزوج بالقاضي جلال الدين ويموت عنها زوجها سنة 824هـ؟ أتكفي هذه السنوات الإحدى عشرة لكي يبلغ الأب الحلم ثم يتزوج فينجب ثم تبلغ بنته سن الزواج؟

لقد ظننت - توقياً للاستحالة العقلية والطبعية في هذا الخبر أن بالنجوم خطأ في هذا الموضع؛ وأن القاضي جلال الدين لا بد أن يكون صهراً لصاحب النجوم الزاهرة ولكن في غير كريمته.

ورجعت إلى كتب التراجم فوجدت في (شذرات الذهب في أخبار من ذهب) لأبن العماد الحمبلي جزء7 ص317 أن القاضي جلال الدين تزوج بأخت مؤلف النجوم وهو الذي تولى تربيته. ووجدت في (الضوء اللامع للسخاوي) ما يفيد أن القاضي جلال الدين تزوج بأخت المؤلف بعد وفاة زوجها الأول الناصري بن العديم القاضي.

ص: 54

ألا ترى معي أيها الصديق الكريم أن الخطأ في كتاب (كالنجوم الزاهرة) يجب أن يصلح حتى لا يضل الباحث ويضطرب. ثم ألا ترى معي أن رواية الشعر في (النجوم الزاهرة) لا تزال مضطربة، وأن همة (الدار) أكبر من أن يشق عليها التحري والتوفيق؟؟

محمد عبد الغني حسن

من خبر الجامعة:

جاءنا أن قسم اللغة العربية في كلية الآداب عقد اجتماعاً برياسة الأستاذ أمين الخولي، وبناء على اقتراحه تقرر (بمخالفة الأستاذين الشايب وشوقي ضيف) إسناد تدريس علوم القرآن إلى صاحب رسالة الفن القصصي في القرآن. وعلمنا أنها قد أتصلت بعض الهيئات الإسلامية على أثر ذيوع هذا الخبر بالعميد الدكتور عزام بك، وفهمت منه أن صاحب هذه الرسالة سيخرج من الجامعة حتماً.

ص: 55

‌القصص

قصة تاريخية:

القائد المفقود

للأستاذ محمد فهمي عبد اللطيف

(إلى الذين يحسبون أن المفاوضات السياسية والمداولات الدبلوماسية ستنقذ فلسطين من محنتها. . .)

كانت آخر خفقة الذي ظل سبعة قرون يضئ أرجاء الدنيا. . . فقد استطاع الملك فرننادو في غفلة من ملوك العرب بالأندلس أن يتخطف ملكهم الواسع قطعة قطعة، وأن يطوح بهم من عرش الملك واحداً إثر واحد، وكان في الجولة الأخيرة قد استولى على وادي آش والمرية وبازة وغيرها من الأقاليم، ثم أرسل بجيوشه الجرارة للأستيلاء على غرناطة وكانت هي كل ما بقى للعرب من ذلك المجد الباذخ الذي بناه آباؤهم بالشجاعة والسيف، فأضاعوه هم بالجبن والخوف. .

واجتاحت تلك الجيوش الجرارة في يوم وليلة أراضي غرناطة واستولت على مشارفها، ثم وقفت بأبواب المدينة العظيمة فطوقتها من كل جانب وضربت عليها حصاراً خانقاً حتى تسلم أو تموت جوعاًن وكان يتولى الدفاع عن المدينة القائد العربي العظيم موسى ابن أبي الخازن، فلم يهن ولم يجزع أمام تلك القوة الساحقة، بل وقف يحشد كل ما يملك من شجاعة وحكمة وحيلة لذلك الموقف الرهيب، فوزع قوات الدفاع على أسوار المدينة، وجند الشبان الفدائيين للتسلل بين ثغرات الحصار وجلب المؤن للسكان، ووضع نظاماً لتوزيع الطعام حتى يستطيع السكان أن يثبتوا أطول ما يمكن من الزمن. وكانت لا تغتر لهذا القائد المجاهد عزيمة، فكان لا يرى في الليل وفي النهار إلا واقفاً يشد من عزائم جيشه وبني قومه. أو مشتبكاً مع الأعداء في مناشات عنيفة تقعقع فيها السيوف وتجري الدماء. .

طال الأمر بهذه الحال الرهيبة، وظلت غرناطة ترزح تحت الحصار الخانق سبعة أشهر حتى نفد منها الطعام، وأخذ الجوع يتهدد الأهالي بالفناء الساحق والدمار الماحق، ورأى أبو عبد الله الملك أنه لا أمل في النصر، وأنه ليس في طاقة السكان أن يتحملوا أكثر مما

ص: 56

احتملوا، فجمع الوزراء والقواد وأهل الشورى وأخذوا يدبرون للخروج من هذه الشدة، فأجمعوا على أن الأمر أصبح لا يطاق، وأن التمادي في الدفاع لا يجدي بعد أن أخذ السكان يتساقطون إعياء وجوعاً، وأن الحكمة تقضي بالتماس طريق آخر للخروج من هذا الكرب، ثم اتفقوا على أن خير الطرق في ذلك هي أن يفاوضوا الملك فرننادو على وضع يحتمل وشروط للصلح يمكن أداؤها. .

فانتفض القائد موسى في مكانه ونهض قائلاً: ما هذا الذي أنتم فيه أيها القوم؟! وما هذا الرأي الذي ترون!! أجل! أن الجوع يعضنا بنابه الزرق، وانه يودي بفلذات أكبادنا، ولكن في شرعة الكرامة لا يزال لدينا الكثير! إننا لم نأكل القطط والكلاب والعشب والحطب بعد، وان الجوع في أسوأ حال أشرف وأكرم من الاستعباد على أي حال، أن الحر يحتمل أن يرى أطفاله وعشيرته يموتون جوعاً، وأن يواريهم التراب بيده ثم لا يذرف عليهم دمعة واحدة، ولكنه لا يحتمل أبداً أن يرى أبناءه وعشيرته أرقاء للغاصبين، وأن يرى زوجاته وبناته نهباً للفاتحين، وأن يرى نفسه غريباً طريداً في مرتع طفولته وصباه وموطن شبابه وشيخوخته، فاللهم لا تدمني حتى أعاني تلك الحال.

فعاد القوم يتشاورون، ولكنهم عادوا فأجمعوا على ما كانوا فيه، وقال قائلهم: إننا إذا دخلنا في مفاوضة مع الملك فرننادو وجرينا معه على طريقة التفاهم والمودة فأنه لا يشق علينا، لأننا أصبحنا بإزئه لا نملك حولا ولا قوة، وإنما حاجته إلى الملك لا إلى ظلم الناس والقسوة عليهم. فلنرسل إليه رسولاً يفاوضه على شروط التسليم ولننظر ما يأتي به الرسول. .

قال موسى: كيف تقولون إننا لا نملك حولا ولا قوة؟! كلا: إننا نملك الموت في سبيل الشرف، وما هذه المفاوضة التي تريدونها إلا إظهار للضعف ودعوة إلى التخاذل وإعلان للتسليم والاستسلام وثقوا إنكم لن تسمعوا في هذه المفاوضة من الملك فرننادو إلا كلمة القوي للضعيف. .

ضاعت كلمات القائد موسى صرخة في واد ونفخة في رماد، وما كان يستطيع أن يحرك النفوس الهامدة وأن ينفخ الحياة في الأموات، فتركه الموت لحماسته، وانصرفوا إلى ما اتفقوا عليه من الرأي، فأرسلوا بالوزير أبي القاسم عبد الملك إلى مفاوضة الملك فرننادو

ص: 57

في الصلح والتفاهم معه على الشروط التي يريدها، فما علم الملك بمقدمه لهذه الغابة حتى رحب به أجمل ترحيب وأحاطه بالحفاوة والإكرام، ووكل إلى وزيره أمر المفاوضة مع الوزير العربي وكان أن أملى القوي شروطه على الضعيف. ثم عاد أبو القاسم يحمل إلى قومه معاهدة كثيرة البنود طويلة الشروح والتفاصيل، تنص في أول بنودها على تسليم غرناطة وإطلاق الأسرى الأسبان المتعلقين فيها، وأن يقسم الملك أبو عبد الله ورجال دولته يمين الطاعة والإخلاص للملك فرننادو، وأن يقطع له بعض الأراضي ليقضي فيها بقية حياته، وأن يأمن المسلمون على أموالهم وعباداتهم وعاداتهم، وألا يؤخذ منهم من الأموال والضرائب إلا ما كانوا يدفعونه لملوكهم، وإمهال الملك أبي عبد الله للتفكير في قبول هذه الشروط ستين يوماً تبتدئ من تأريخ تحرير هذه المعاهدة في الخامس من نوفمبر سنة 1491م الموافق الثاني والعشرين من المحرم سنة 897هـ.

رجع الوزير أبو القاسم يحمل هذه المعاهدة إلى قومه، فدعا الملك أبو عبد الله الوزراء والرؤساء والفقهاء وأهل الرأي ليشاورهم فيها، فلما وقفوا على مضمونها غامت الدنيا في وجوههم وأجهشوا بالبكاء، ورأوا أنه لا حيلة لهم إلا التسليم والإذعان، إلا القائد موسى أبن أبي الخازن فأنه صاح فيهم قائلاً: (وآسفاه، أنتم تبكون أيها الرجال، إذاً فالويل للنساء والأطفال، لقد حذرتكم فما سمعتم. وأنذرتكم فما أصغتم، وأنكم لتسمعون من الملك فرننادو كلمة القوي للضعيف، وهي كلمة لا يتبدل مدلولها في إرادة الأقوياء، ولا يتغير أثرها في إذعان الضعفاء، وهاأنتم أولاء أيها السادة ترون أنفسكم وقد أصبحتم بهذا الإذعان أرقاء إذلال، ففي الغد تبصرون الغاصبين يدخلون بيوتكم، ويستبيحون حرماتكم، ويعطلون شعائركم، ويتخطفون أقواتكم، ويتحكمون في رقابكم فلما ترهبون الموت والموت أهون مما سيصيبكم، وأشرف مما سيحل بكم، أن من الشرف أن نواجه الموت اختياراً قبل أن نرغم عليه إرغاماً، وأن من الكرامة أن ندافع العدو حتى آخر قطرة من دمائنا وحتى نبيد عن أخرنا. . .

إذا ما أفعم اليأس النفوس صمت الآذان وماتت العزائم وهكذا ضاع كلام القائد موسى هباء فلم يحرك من القوم ساكناً، فأذعنوا لما فرضه عليهم الملك فرننادو من الشروط، ووافقهم الملك أبو عبد الله على ذلك إيثاراً للسلامة في ملك طرد منه بعد قليل شر طردة. . أما

ص: 58

القائد موسى أبن أبي الخازن فأنه أبى أن يستسلم وأن يذعن. . . فقصد من فوره إلى داره وتقلد سلاحه ولبس دروعه امتطى جواده ثم خرج ليدافع أولئك الغزاة الذين تقدموا ليكتبوا آخر سطر في تأريخ العرب بالأندلس. .

ولم يعرف أحد ماذا كان مصيره ولا كيف كانت نهايته. . وما يزال التاريخ يبحث إلى اليوم عن ذلك القائد المفقود. .

محمد فهمي عبد اللطيف

ص: 59