المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 752 - بتاريخ: 01 - 12 - 1947 - مجلة الرسالة - جـ ٧٥٢

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 752

- بتاريخ: 01 - 12 - 1947

ص: -1

‌لا إله إلا الهوى!

أفرأيت من أتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة؟ ذلك هو إنسان اليوم، وإن شئت فقل هو إنسان الدهر كله! زعم أبن آدم إنه عرف الله وعلم الحق وحكم العقل وآثر العدل وتوخي السلام، وراءى بعضه بعضاً فتظاهروا بالتصديق، ونافقوا بالإيمان، وشقشق خطباؤهم بالهدى، وتشدق شعراؤهم بالحكمة، وفي قرارة كل امرئ أن الله معناه الهوى، وأن الحق معناه المنفعة، وأن العقل معناه الحيلة؛ فأنا وأنت وهو إنما نذكر عزائم الله وفضائل الخلق وفرائض القانون إذا لم يكن من ذكرها بد لإدراك الغنيمة مع الراحة، أو اتقاء الهزيمة عند العجز. وغاية السياسة الآدمية أن تكون ثعلباً مع الضعف وأسداً مع القوة!

أزل عن عينيك أن استطعت ما غشيها من رياء الإنسانية وخداع المدنية، ثم انظر إلى حقيقة الإنسان في نفسك، وفي عشرائك في البيت، ورفقائك في المدرسة، وخلطائك في القهوة، وزملائك في العمل، ورؤسائك في الديوان، ونوابك في البرلمان، ووزرائك في الحكومة، فلا تجد إلا غرائز الحيوان الوحش تسمت بأحسن الأسماء، وتزيت بأجمل الأزياء، وتجلت في أبهى المناظر: فالتفارس تنافس، والأثرة محبة، والطمع طموح، والاستغلال تعاون، والاستعمار تحالف، والقوة حق، والضعف عفة، والحرمان قناعة، والختل سياسة، والشعوذة دين، والعصبية وطنية!

قد يخدعك الغطاء الذهبي على الناب، والقفاز الحريري على المخلب، فنحسب أن هذا الإنسان الذي هتك بعلمه أستار الطبيعة، وكشف بعقله أسرار الوجود، قد هذبه العلم وصقله التمدن، فارتفع من الأرض إلى السماء، وانتقل من الحيوان إلى الملك، ولكن خلافاً يشجر بين الأخوة على ميراث، أو شقاقاً ينشأ بين الزعماء على منصب، أو نزاعاً يحدث بين الدول على بلد، يستطيع أن يشق الذهب ويمزق الحرير فترى الوحش الآدمي على جبلته بادي النواجذ متقد العينين، يتحلب الريق من أنيابه، ويقطر الدم من أظفاره!

ها نحن أولاء، كنا نظن لوفرة المساجد في المدن والقرى، وكثرة السبح في الرقاب والأيدي، وتنافس الفقراء في أقام الصلاة، وتسابق الأغنياء إلى أداء الحج، أن الدين قد سيطر على القلوب وهيمن على الضمائر. . . فلما ابتلانا الله بوباء الهيضة الجارف، ووقع الأيمان المزيف تحت المحك، تمزقت الأغشية عن عفن في نفوس أكثر الأغنياء والأطباء

ص: 1

والمسئولين كان أزكى روائحه الرشوة والشح والسرقة والتواكل والتخاذل والتفريط والقسوة. . . وكل هذه الموبقات مشتقات من مصدر واحد هو الأثرة!

وهذه هيئة الأمم المتحدة، كنا نظن لفرط ما عانى الحلفاء من أهوال الحرب، وكابدوا من نتائجها، أنهم يقيمون العالم الجديد على قواعد الميثاق الأطلسي الأربع؛ فلما تقدمت مصر وفلسطين إليها تستعديان قوى ميثاقها على بغي إنجلترا وجور أمريكا لم تجدا في قاعة مجلس الأمن إلا مجمع الوحوش والبهائم الذي تخيله (لافونتين) في الغاب!

أن الرجل يعمل لنفسه ثم لأبنائه، وأن الحزب يعمل لرئيسه ثم لأعضائه، وان الشعب يعمل لمليكه ثم لوزرائه؛ فمن زعم أن الأنانية تتجه إلى الغيرية، وأن الحزبية تعمل للوطنية، وأن الوطنية ترمي إلى الإنسانية، فقد زور على الإنسان وكذب على الطبيعة!

(القاهرة)

أحمد حسن الزيات

ص: 2

‌14 - رحلة إلى الهند

للدكتور عبد الوهاب عزام بك

عميد كلية الآداب

مدينة أكرا

سار بنا القطار والساعة ثمان وخمس وأربعون دقيقة من صباح السبت ثالث عشر جمادى سنة 1366هـ، وخامس نيسان سنة 1947م من دهلي إلى أكرا.

والمسافة بينهما زهاء أربع ساعات. واستقبلنا على محطة أكرا جماعة من بيت كنش لال أحد أعيان المدينة وأحد تجار الهند المعروفين في القاهرة. وأردنا أن ننزل بفندق كبير هناك أسمه إمبريال. وبينما نجلس في ساحة الفندق ننتظر جواب سؤالنا عن غرف في الفندق، جاء رجل هرم يحمل عصافير مرتبطة بخيوط، فجلي إلينا وشرع يعرض أعاجيبه. رمى بحلقة في الهواء وأشار إلى عصفور فأدركها فالتقطها قبل أن تقع على الأرض وردها إليه. وأشار إلى عصفور آخر فطار إلى شجرة قريبة فقطف منها ورقة وجاء إلى صاحبه. ووضع بطاقات من بطاقات اللعب مقلوبة وذكر عدداً فأخذ عصفور يقلب الأوراق حتى قلب البطاقة ذات العدد المذكور وأخذها بمنقاره وسلمها إلى معلمه. ثم جاء بأعواد عليها بكرة صغيرة فيها خيط ينتهي إلى دلو صغير وأشار إلى عصفور فشرع يمسك الخيط بمنقاره ويجره حتى يضعه تحت رجله ثم يأخذه كرة أخرى فيطويه تحت رجله حتى طوى الخيط وطلع الدلو فمد منقاره إليه وجذب إليه كأنه يستقي ماء من بئر برشأ ودلو. فقلنا: إحدى عجائب الهند.

ولم نجد غرفاً بالفندق فسرنا إلى دار كنش لال فلبثنا إلى اليوم الثاني في حفاوة وإكرام فاستحق المضيفون ثناءنا وشكرنا.

وأكرا مدينة يسمى باسمها إقليم. وهذا إقليم وإقليم أورده يؤلفان ولاية كبيرة تسمى وهذا رمز لأسمها بإنكليزية: في الهند: ممالك متحدة.

والمدينة مثل دهلي، ذات مكانة تجارية وحربية عظيمة. ويمر بالمدينتين كلتيهما نهر جمنه أحد أنهار الهند الكبيرة.

ص: 3

وقد عرف ملوك الهند حصانة هذه البقعة بمكانها من هذا النهر فاتخذوا مدينة أكرا حاضرة للملك أو إحدى حواضره.

وقد أتخذها السلطان أسكندر اللودي داراً للملك بدل دهلي وهو من الأسرة اللودية التي تسلطت في الهند من سنة 855 إلى 932هـ. وإنما آثرها على دهلي حينما عرف غناءها في ضبط الثائرين عليه في الجنوب. فعظمت مكانتها من ذلك الحين.

ولما جاء إلى الهند الرجل العبقري بابر، وقد أسلفنا ذكره، فتح أكرا سنة 932. وأخذ فيما أخذ من مغانمها الماسة المعروفة باسم كوهِ نور أي جبل النور. وفي أكرا آذن بابر بأن فتحه الهند ليس غارة موقوتة ولكن ملكاً مؤثلاً، ولما ملك جلال الدين أكبر حفيد بابر بني قلعة أكرا، القلعة الحمراء التي تمتد أسوارها على نهر جمنه ميلاً ونصفاً.

وازدادت المدينة وأرباضها منذ بنى أكبر قلعته، بعجائب من أبنية السلاطين التيموريين بل بمفاخر من الحضارة الإسلامية وصناعاتها. ففي أكرا القلعة والتاج والمسجد، وفي سكندرة مزار أكبر وآثار أخرى. وعلى مقربة من المدينة فتح بور سكري وهي مزدحمة بآثار عظيمة رائعة.

مزار أكبر

خرجنا والساعة خمس مساء إلى سكندرة لنزور ضريح جلال الدين أكبر.

ولا يعرف روعة التوجه إلى زيارة ضريح أكبر إلا من عرف تأريخ هذا الرجل الذي لا يعرف تأريخ الإسلام بل تأريخ العالم من الملوك أمثاله إلا قليلاً.

ذكرت آنفاً ظهير الدين بابر مقيم الدولة التيمورية أعظم الدول الإسلامية في الهند. وكذلك ذكرت ابنه همايون.

وجلال الدين أكبر الذي أتوجه لزيارته الآن هو أبن همايون وحفيد بابر. وضع هذان له القواعد ليشيد ملكاً عظيماً، ويوطد دولة ينبسط سلطانها على الهند إلا قليلاً، ويترك على الزمان سيرة في الفتح والعدل والحضارة والعمارة لا تزال مثار إعجاب وتعجب. ولا تزال مفخرة من مفاخر التأريخ الإسلامي.

توفي همايون بعد أن استرد ملكه في الهند، وابنه جلال الدين في الرابعة عشر من عمره. فدبر له الملك بايرام خان فدفع عنه الطامعين، واخضع الثائرين، ولم تأخذ في إقرار

ص: 4

السكينة، والنظام هوادة ولا شفقة. فلما سكنت الفتن واستوسق الأمر تولى جلال الدين تدبير الملك ولما يعد الثامنة عشرة. وقد حاول هذا الوصي أن يقتطع له إمارة في أرجاء المملكة وثار على أكبر إلى أن اضطر إلى التسليم له. فاحسن الملك الشاب إلى وصيه وخيره بين أن يتولى منصباً عالياً في الجيش أو يسير إلى الحج مرفهاً في موكب عظيم. فاختار الحج.

وكان عفو أكبر عن بايرام خان وإحسانه إليه إيذاناً بسيرة صالحة رفيقة؟؟، سارها أكبر طول عمره.

ثبت جلال الدين أكبر سلطانه في أرجاء المملكة كلها. ومد فتوحه لم يبق من الهند خارجاً عن سلطانه إلا قليل. ودان معظم الهند له واستقامت الأمور لحكمته وحكمة زمان سلطانه المديد وقد ملك أكثر من خمسين عاماً.

وكان مولعاً بالفتوح البعيدة، واجتياز الفيافي الموحشة، وركوب الخيل الجموحة، واخترع نظماً للجيش وأسلحة. وكان مثالاً عالياً في القيادة الجيوش، وركوب الأهوال. ولكن هذه الشجاعة والجرأة والفتح والسفر لم تكن إلا أقل مزاياه. فقد كان في السلم والعمران أعظم منه في الحرب.

سن من القوانين، وخط من الخطط في مسح الأرض وريها وجباية الخراج ما يشهد بسعة فكره، وبعد إدراكه، وقد بقيت بعض سننه متبعة في الهند إلى هذا العصر.

وجمع هذا الرجل الأمي حوله من أدباء العالم وشعرائه وكتابه وعلمائه وفلاسفته جمعاً كبيراً حتى كان في كنفه من شعراء الفارسية زهاء خمسين شاعراً.

وقد جاءه الصناع من أرجاء العالم من آسيا وأوربا.

وأنشأ المدارس في أنحاء المملكة ليعلم فيها المسلمين وغيرهم على السواء. وبنى خزائن الكتب وجمع فيها نفائس الكتب من الأقطار وافتن في صناعة التجليد والتذهيب حتى أنفقت على بعض الكتب آلاف الدنانير، وقد أبطل العادات الوحشية في الهند مثل إحراق الزوجات بعد موت أزواجهن.

وحاول أن يشيع المحبة والمودة والأخوة بين الناس بجمعهم على دين واحد. فألف من الإسلام والمجوسية والنصرانية وأديان أخرى ديناً سماه (التوحيد الإلهي) وبنى معبداً لهذا الدين ودعا الناس إليه فأتبعه قليل بالرغبة والرهبة. فلما مات لم يبق على دينه أحد.

ص: 5

سرنا إلى سكندرة حيث ضريح هذا الملك العجيب، وفي النفس ثورة من ذكرياته بين سفره وحضره، وحربه وسلمه، وصوابه وخطئه، إلى قياس يتردد بين الماضي والحاضر، للنفس في حيرة وحسرة.

على نحو خمسة أميال من أكرا استقبلنا هذا البناء الهائل الرائع الذي تعاون على إنشائه الملك والثراء والصناعة بضعة عشر عاماً بين عهد أكبر وعهد أبنه جهانكير. هذا المدخل الفضي إلى الحديقة الغناء الفسيحة التي تحيط بالمزار. ولو أن هذا المدخل وحده شيد فوق ضريح ملك عظيم لكافأ عظمته وحسب بناء فخماً من أبنية الملوك العظيمة. بناء يعلو أربعاً وسبعين قدماً تقوم في أركانه الأربعة أربع منارات رفيعة تعلو كل واحدة فوق هذا البناء ستاً وثمانين قدماً. ويلقى هذا المدخل القادم إليه بعقد عال فخم فيه باب فوقه عقد يشابهه. وعلى جانبي العقد الكبير وجهتان في كل منهما عقدان (كما يرى في الصورة):

ويفضي هذا المدخل إلى حديقة واسعة تزدحم فيها الخضرة والنضرة ويتوسطها طريق واسع مبلط فيه أحواض ومجاري مياه ونافورات في هندسة جميلة.

ثم البناء الشامخ الرائع، خمس طبقات ذات عقود وأبراج، كل واحدة أكبر مما فوقها وأصغر مما تحتها كأن كل طبقة قاعدة للتي قبلها.

صعدنا الطبقة الأولى التي تلي الأرض فهبطنا في دهليز منحدر إلى قاعة في وسطها صفيحة واحدة من المرمر تحتها رفات جلال الدين أكبر شاه. وقفنا نقرأ آيات على القبر ونقرأ سطوراً غير مكتوبة من وحي التأريخ وإملاء الزمان.

ثم صعدنا إلى الطبقات الأخرى حتى الطبقة العليا وهي سطح محاط بدربزين من الرخام الأبيض أبدعت فيه الصناعة تشكيلاً وتخريماً. وفي وسطها دكة واسعة مربعة عليها مثال القبر الذي في بطن الأرض. وقد فجئني هذا المنظر العجيب فما يحسب الزائر وهو يصعد في هذه الطبقات أن يلقاه في قمتها هذا التمثال بعد أزار القبر في موضعه من جوف الأرض.

ويطلع الزائر من هذه القمة على مشاهد رائعة من الجمال والجلال على عبر متقاربة وعظات متوالية. فهو ينظر إلى هذا الهيكل العظيم تحار فيه العين بين عقوده وعمده وقبابه، تتوالى طبقاته في نظام محكم، وهندسة عجيبة. فإذا رمى ببصره في الفضاء مفكراً

ص: 6

أخذته مشاهد من الأبنية الأثرية بين الشجر، كل منها تأريخ مبهم، وكل منها كتاب مطبق، وكل منها مجد غابر وعبرة حاضرة. ويسحر العين على القبر وعلى عقود الداخل آيات قرآنية أجيد خطها أو نحتها على الرخام.

يقال أن اكبر نفسه هذا البناء وأتمه ابنه وخليفته جهانكير بعد أن عمل فيه البناءون والصناع عشرين عاماً ويقال أن جهانكير بناه وحده في سبع سنوات.

ومهما يكن الأمر فقد أكمل هذا الأثر الخالد سنة 1021هـ وقد مرت عليه حوادث وزلازل؛ ولكنه لا يزال شاهداً بعظمة اكبر وجهانكير، ناطقاً بما بلغت الحضارة والأبهة في ظلال هذه الدولة العظيمة، أكبر الدول الإسلامية في الهند. ومن أعظم الدول التي عرفها التأريخ.

(للكلام صلة)

عبد الوهاب عزام

ص: 7

‌لبيك يا فلسطين!

للأستاذ محمود محمد شاكر

لقد عزمت الأمة العفيفة النبيلة الورعة، وهي بريطانيا العظمى بلا مراء، أن ترفع يدها عن فلسطين، وأن تجلو بجنودها عن هذه الأرض المطهرة، وأن تترك الأمر لأصحاب البلاد، هكذا، يصرفونه على ما توجبه مصالحهم!! وفي هذا الوقت نفسه قامت روسيا السوفيتية الغامضة تؤازر أمريكا الصريحة في صهيونيتها على تقسيم فلسطين تقسيماً لا يدري المرء كيف يصفه، أهو حماقة، أم جور، أم صفاقة، أم نذالة مركبة في طبائع الأمم الجشعة؟ ثم رأينا بريطانيا هبت تستنكر، أو تقول الصحف وألسنة الساسة أنها تستنكر هذا الذي تبيته روسيا وأمريكا لفلسطين.

هذا ملخص ما يدور في أمر فلسطين دون تزويق أو تدليس. ونحن لا نريد أن نبخس بريطانيا حقها في هذا الموقف الذي تقفه من مسألة فلسطين، ولكنها أيضاً لا نريد أن نلغي تصرف العقل فنصدق أن هذه الأمة البريطانية تفعل هذا حباً للعرب، وحفاظاً على حريتهم، ورغبة في معونتهم ونصرتهم. فإنها هي التي نفثت في هذه الصهيونية الخبيثة من روحها منذ دخل الرجل الصليبي (النبي) أرض الآباء المطهرة، وهي التي ضمنت لهؤلاء الصعاليك إنشاء وطن قومي في فلسطين، وهي التي أغضت عن تسلل هؤلاء اللصوص إلى بلاد ليست لهم، وهم الذين نكلوا بالعرب تنكيلاً لم يشهد التأريخ أفجر منه ولا ألأم أيام ثورة العرب عليهم وعلى جلائهم من اليهود، وهي التي استعانت باليهود في الحرب العالمية الثانية ودربتهم وجندتهم وفتحت لهم أبواب الأرض المقدسة، وهي التي أعانت تهريب اليهود وحمتهم ووقفت تعبث في مراقبة الهجرة اليهودية، وهي التي صبرت على إذلال اليهود لها وعلى جلدهم جنودها وضباطها واغتيالهم وخطفهم واتخاذهم رهائن، هذه بعض فضائل بريطانيا وشئ من نبيل مواقفها في مسألة فلسطين!!

وبعد أن فعلت كل هذا طلباً للأجر والحسبة من الله خالقهم وخالق الصهيونيين، زعمت أنها ولا شك نافضة يدها من هذا الأمر، وجالية بجنودها عن هذه الأرض، وتاركة الناس أحراراً يدبرون شؤونهم بأيديهم! فكيف يفهم العقل من كل هذا أن بريطانيا تعترض على مسألة التقسيم لأنها تريد خيراً للعرب، وتحافظ على وعودها لهم، وتعمل على رد شر

ص: 8

اليهود ومن يعاونهم عن هذه الأمة المسكينة؟! كيف يا شياطين السياسة؟!

إن لها من وراء كل هذا التنكر للتقسيم أرباً آخر لا ندري ما هو على التحقيق، ولكنا إذا عرضناه على أفاعيل بريطانيا منذ كانت بريطانيا، فلم نعدم الشك في نيتها، ولا الاهتداء إلى موضع الدخل في تصرفها، ولا آيات الكذب في دعواها. وقبل هذا وذاك، لا يستطيع قلب عربي أن يطمئن إلى أن بريطانيا وأمريكا، وهما الدولتان المتعاونتان على الخير والشر، تختلفان بهذه المسألة بعينها، إلا أن يكون اختلافهما تعمية وتدليساً لشيء هو أجدى عليهما وعلى الصهيونيين اليهود من اتفاقهما! وليكن الأرب المكنون بعد ذلك ما يكون!

ونحن العرب لا نحب أن نلقي أثم هذه الصهيونية الجائرة على أمريكا وروسيا للذي نراه اليوم من موقفهما وتشددهما وحرصهما على تقسيم فلسطين، لا لأنهما أمتان بريئتان، بل لأن الدوافع التي تحملها على هذا الحرص وهذا التشدد، إنما جاءت بعد أن فعلت بريطانيا فعلتها، وأصلت لهذه الخبائث أصلاً قوياً في الأرض المطهرة، ونزعت من يد العرب كل حول وطول في تصريف شأن بلادهم، وبعد أن تكرمت بريطانيا على العالم كله بإحداث مشكلة لا حل لها إلا الحل الذي تفصم به كل عقدة خبيثة تستعصي على المحاول.

إننا لا نريد أن نخدع مرة أخرى بنفاق بريطانيا وأكاذيبها وتصنعها لأعين الناس بالبراءة وحب الخير والحرص على الوفاء بالعهود وإنجاز المواعيد، وبريطانيا تريد أن تذهب في أمر فلسطين مذهباً جديداً لتكون شهيداً جديداً يستنزل العطف والمحبة من قلوب العرب، وتريد أن تقف هذا الموقف لأنها تريد أن تخدع مصر والسودان، وتخدع سوريا ولبنان، وتخدع العراق وباكستان، وتخدع كل ناطق باللسان العربي في مشارق الأرض ومغاربها، ولكننا لن ننخدع مرة أخرى أيها الشهيد الذي استحل دم الأحرار في مشارق الأرض ومغاربها.

هذه بريطانيا، وأما أمريكا، فقد طالما ذهبت في الدفاع عن الحرية مذهباً كريماً، ولكن ذلك شيء كان ثم انقضى، فأمريكا اليوم دولة تصرفها الأحقاد الكثيرة، وعلى راس هذه الأحقاد إصرارها على التعصب البغيض إصراراً لا هوادة فيه، حتى في قلب بلادها. ثم يلي ذلك تحكم اليهود وتسلطهم على رؤوس أموالها، وعلى شركاتها، وعلى مجتمعها، وعلى رجال سياستها. فالشعب الأمريكي اليوم ألعوبة تلهو بها الصهيونية اليهودية وترفعها وتخفضها

ص: 9

كما تشاء، ولسنا نحن الذين نقول هذا، بل هذا ما تقوله فئات من الأحرار الأمريكيين أنفسهم، ولكن هؤلاء الأحرار لا حول لهم ولا طول، لأن كل شيء هناك في قبضة اليهود، ولأن رئيس الولايات المتحدة، أياً كان هذا الرئيس، لا يكاد يصل إلى كرسي الرئاسة إذا خذلته اليهود وأعرضت عنه في الانتخابات، فهو بالاضطرار يدور حيثما داروا به حتى يصير رئيساً للولايات المتحدة، فإذا صار رئيساً، فهو في قبضة اليهود أيضاً طمعاً وخوفاً واضطراراً. وتظن أمريكا، أو يظن ساستها، أنهم إذا ناصروا إنشاء الوطن اليهودي، أو الدولة اليهودية، فهم بذلك سوف يخلصون من قبضة هذا الوحش اليهودي، وأنهم يومئذ قادرون على أن يطردوه من بلادهم ويقولوا له: هذه بالدك فاذهب إليها. وهذا تسويل من شياطين اليهود، وباطل من أباطيلهم يدنون به في آذان هؤلاء الساسة، فاليهود يريدون أن ينشئوا الدولة اليهودية، لا ليسكنوها ويتركوا البلاد التي أكرمتهم واستضافتهم وخالطتهم بأنفسها، كلا بل يريدون بهذه الدولة أن يسيطروا على قلب العالم، وهو الشرق الأوسط، وأن يحتفظوا بسيطرتهم في سائر بلاد الله كما هي، ليكون لهم السلطان في الأرض، والغلبة على الأمم جميعاً مسلمها ونصرانيها، فكلاهما عدو لها، وهي تحمل لهم جميعاً عداوة لا تفتر ولا تموت. والذين يستنكرون أن يكون هذا هدف اليهود، لم يقرءوا شيئاً من كلام الصهيونيين، ولم يعرفوا أن هؤلاء اليهود يطمعون طمعاً لا يشكون فيه، وهو أن الخلافة في الأرض ستكون لهم، وأن هذا الشعب المختار، هو الذي أختاره الله لسيادة الدنيا واستعباد البشر غير اليهود! فأمريكا مخدوعة هي وساستها، إذا ظنت إنها بمناصرتها لهؤلاء السفاحين اليهود، سوف تكسب شيئاً إلا ذل الحيرة والاضطراب.

وأما روسيا الغامضة، فسلطان اليهود فيها ليس أقل منه في أمريكا، وهم الذين يسولون للروس أنه إذا أنشئت في فلسطين دولة يهودية، وإذا ناصرها الروس حتىتكون، فمعنى ذلك أن روسيا سوف تجد منفذاً لها إلى قلب العالم، أي إلى الشرق الأوسط، وأن اليهود لن يخذلوا المذهب الشيوعي، بل سيفسحون لدعاته المكان، ويجعلون فلسطين مأوى لهم وملاذاً وكهفاً، وأن تعاون الروس واليهود سوف يخلص روسيا من سلطان بريطانيا وأمريكا في هذه الرقعة من الأرض، وأن اليهود في حاجة إلى معونة إحدى الدول الكبرى، فإلا تعنهم روسيا وهي أقرب إليهم من أمريكا وبريطانيا، فباضطرار ما يبسطون أيديهم إلى أمريكا

ص: 10

وبريطانيا ويعاهدونها على الخير والشر في التسلط على هذا الشرق الأوسط. وروسيا دولة تصرفها فكرة غالبة كفكرة اليهود هي الاستيلاء على أغنى بقاع الأرض، لتستطيع أن تنشر مذهبها، وأن تتوسل بهذا المذهب إلى هدم الكيان الاجتماعي في الأمم، فإذا تم لها ذلك استطاعت أن تحكم هذه الأمم وتصرفها على ما يشاء لها هواها. فهي يومئذ صاحبة السلطان الأعلى، وهي القوة المدمرة، وهي الظافرة في الميدان الاجتماعي والسياسي، وهي يومئذ قد أمنت أن تخشى لبريطانيات العظمى والولايات المتحدة بأساً أو قوة.

هذا تفسير هذه المشكلة المعقدة التي تريدنا بريطانيا، وتريدنا أمريكا، وتريدنا روسيا، على أن نكون فيها كالشاة المذبوحة لا تألم السلخ. فتباً لهم جميعاً، والله المستعان.

بقى شيء آخر لا يخطئه أحد إذا فكر فيه، وأن هذه الدول جميعاً تعلم علم اليقين أنها ترتكب جريمة من أبشع الجرائم في تأريخ الإنسانية، جريمة لم ترتكب مثلها أمة من الأمم المتوحشة فضلاً عن الأمم الجاهلة، فضلاً عن الأمم المثقفة التي تدعي أنها حارسة الحضارة الإنسانية والقائمة عليها - تلك هي إقحام شعب على شعب آخر، ليجليه عن بلاده، وليستذله، وليستعبده. إن هذه الدول جميعاً تعلم أن هؤلاء اليهود هم أبشع خلق الله استبداداً إذا حكموا، وهي تعلم أنهم خلق قد خلت نفوسهم من كل معاني الشرف والنبل والمروءة، وأنهم خلق تملأ قلبه العداوة والبغضاء والحقد على البشر جميعاً، وأنهم خلق لا يتورع عن شيء قط يرده عن اقتراف أحط الآثام في سبيل ما يريد - أنها تعلم هذا وأكبر منه وأشنع، ومع ذلك فهي تريد أن تطلق هذه الوحوش الضارية من غابات الجهل والعصبية والحقد، لتعيث في هذا الشرق الأوسط كله بفجورها وبغيها وضراوتها، فتهدم ما تهدم، وترتكب ما ترتكب، باسم الحضارة والمدنية والثقافة. . . فيالها من جريمة! يا لها من جريمة أيتها الأمم الحارسة لتراث الحضارة الإنسانية!!

ثم بقى شيء وراء ذلك كله، ينبغي لكل عربي أن يعلمه، ولا سيما أولئك الذين يتعرضون اليوم لسياسة هذا الشرق العربي، وهذا الشرق الإسلامي كله - هو أن إقدام هذه الدول الثلاث على مناصرة المجرمين الصهيونيين تنطوي على معنى قد استقر في أنفسهم وغلب عليها، وهو احتقارهم للعرب وازدراؤهم لهم ولمدنيتهم ودينهم وحضارتهم واجتماعهم ودولهم وملوكهم، وقديمهم وحديثهم، وأن هذا لبان ارتضعوه منذ كانت الحروب الصليبية،

ص: 11

وأن الثقافة والعلم وسهولة اتصال الأمم بعضها ببعض، كل ذلك لم يغير من شيئاً من عقائد الصليبية الأولى في هذا الشرق العربي، وكل ذلك لم ينفع شيئاً في نزع السم الذي اختلط بالدماء وجرى في العروق مع نسمات الهواء ومضغات الغذاء. وإنه لولا هذا الداء القديم، وهذه العلة المستعصية، لما ارتضت هذه الدول أن تبدي كل هذه الجرأة على الحق في مشكلة فلسطين، بل لوقفت كما وقف من قبل في مسألة دانزيج وغيرها مناصرة لحق الناس في الحرية كما تزعم. هذا معنى لا يفوت عربياً مسلماً كان أو نصرانياً، لأن هذه الدول تتصرف بأحقاد جاهلة عمياء، لا ببصر وتمييز وعدل.

وغاب عن هذه الدول جميعاً شيء واحد، هو أن هذه الأمم التي يصبون عليها أحقادهم المبذولة وسخائهم العتيقة، قد لقيت من قبل أشد مما تلقى اليوم، ومع ذلك فقد استطاعت أن تخرج على الدنيا ظافرة نبيلة لا تحمل حقداً ولا ضغناً، وانتشلت الحضارة الإنسانية من أوحال الجهل العميق الذي كانت تعيش فيه أوربا وأمريكا وروسيا، ورفعت المنار لكل مهتد حتى اهتدى.

أن هذه العرب لا تنام على ذل أبداً، فلتعلم هذا روسيا ولتعلمه بريطانيا، ولتعلمه أمريكا، وليعلمه الأفاقون من اليهود. لقد نادت فلسطين غير نيام، نادت أيقاظاً يحملون بين ضلوعهم تلك الشعلة الخالدة في تأريخ الإنسانية، والتي نحن القوام عليها والقائمون بها، والتي نحن لحاملوها حيثما سرنا في الأرض - شعلة الأيمان بالله الواحد القهار - إن كل سلاح، سلاح مفلول إذا لقي سلاحنا، لأننا لا نقاتل بالتدمير والخراب، بل بالتعمير والإنشاء ورد الحقوق على أهلها وأن كانون قد ظلمونا ونكلوا بنا من قبل. ولتعلم هذه الأمم العدو لنا جميعاً أن المعجزة التي كانت يوماً ما، سوف تكون مرة أخرى يوم ننبعث من ظلماء هذه الحوادث سراعاً إلى نجدة أمنا فلسطين، فتنبثق الأرض عن جنود الله القدماء:

عن كل أروَعَ ترتاعُ المنونُ له

إذا تجرد، لا نِكسٌ ولا جحِد

يكاد حين يلاقي القِرْن من حنَق

قبل السَّنان على حوْبائه يرِدُ

قلوا، ولكنهم طابوا، وأنجدهم

جيش من الصبر لا يفنى له عدد

إذا رأوْا للمنايا عارضاً لبسوا

من اليقين دُرُوعاً مالها زَرَدُ

هذه ليست خطابة ولا حماسة أيتها الأمم، بل هي الحق، وهي عادتنا وعادة الله فينا، والله

ص: 12

غالب على أمركم وأمرنا، ونحن جند الله في الأرض على رغمكم، وأن سخرتم أو كذبتم!

محمود محمد شاكر

ص: 13

‌تعقيب

للأستاذ علي الطنطاوي

كتب كاتب في مجلة أسبوعية أن (السيدة نفيسة) التي ينسب إليها القبر المعروف في مصر ليست إلا الست نفيسة زوجة مراد بك آخر المماليك، وجاء في مقالته استطراد إلى ذكر الثورات المصرية قر فيه أنها قامت كلها باسم الدين، وأثار ذلك طائفة من القراء فكتبوا إليه محتجين مصححين، وهاج كاتباً من الكتاب فرد عليه، مبيناً أن القبر للسيدة نفيسة النسيبة الشريفة الثابت نسبها إلى سيدنا علي، منكراً أن تكون ثورة مصر قامت باسم الدين. . . الخ.

ولست معقباً على هذا من جهة التاريخ، لأن من الواجب أن لا نخلط بين امرأتين بينهما ألف سنة. . . وأن نحقق القول في المساجد والقبور وسائر الآثار، وان نمحص أسباب الثورات ونعرف حقيقة الدوافع إليها، ولكني معقب عليها من جهة الدين.

والدين - كما افهمه - لا يبالي أكانت صاحبة القبر السيدة نفيسة العلوية، أم الست نفيسة المرادية، ولا ينفعها عند الله أن تكون الأولى أن كانت سيئة العمل، ولا يضرها أن تكون الثانية أن كانت صالحة السيرة، لأن ميزان الله غير موازين البشر، والله لا ينظر إلى الصور ولا إلى الأنساب، وإنما ينظر إلى القلوب والى الأعمال، فبالأعمال بعد الأيمان، تتفاوت أقدار الناس في الآخرة، ولو كان للنسب ثقل في ميزان الله ما رجح سلمان (الفارسي) وصهيب (الرومي) وبلال (الحبشي) وخف أبو لهب بن عبد المطلب العربي القرشي الهاشمي عم النبي!

والناس لا ينفعهم في أخراهم أن يكون هذا القبر، لهذه أو لتلك، أو لأي إنسان ممن خلق الله، أو يكون قبراً خالياً ليس فيه أحد، لأن الإسلام يأبى عبادة الأموات، وينكر تعظيمهم، ويسد الذرائع إليها، ولذلك منع رفع القبور وزخرفتها والمغالاة فيها، فضلاً عن اعتقاد النفع والضرر بها وبأصحابها.

ودين الإسلام أساسه التوحيد، ومنه أن تعتقد أنه لا يضر ولا ينفع إلا الله، لا أعني ما يدخل في الأسباب المعروفة والعلل الظاهرة، إذ لا ينكر نفعها ولا ضررها، فالطعام نافع والسم ضار، والطبيب نافع والجاهل ضار. . . والناس كلهم والأشياء جميعها منها ما يضر ومنها

ص: 14

ما ينفع، في حدود سنن الله في هذا الكون، وطبيعته التي طبع الوجود عليها، ولكن أعني ما رواء هذه الأسباب والعلل، إذ رب مرض يستشير أكابر الأطباء، ويجلب أندر العقاقير، ويحظى بكامل العناية، ثم يموت، وآخر أصابه مثل مرضه فبرئ بأيسر العلاج، وأقل الجهد، فالطبيب دال، ولكن الله الموصل، والرسول هاد مرشد، ولكن الله هو الهادي الموفق لا تباع الرشاد، وفي الوجود شئ يدخل في طاقة الإنسان، وأشياء لا تدخل في طاقته، فإذا فعل كل ما يقدر عليه، ولم يبقى عليه إلا الالتجاء لقوة خفية قادرة على ما تقدر عليه قوته، فعليه بالالتجاء إلى الله وحده، واعتقاد أن هو الذي يضر وينفع، فإن التجأ إلى غيره، إلى نبي أو ولي، حي أو ميت، يؤمن به يستطيع أن يعينه هذه المعونة الغيبية، فهذا هو الشرك الذي جاء الإسلام لإبطاله!

أما ما يعتقده العامة من أن هؤلاء الصالحين مقربون إلى الله أكثر منا، فهم يتخذونهم وسائل، فلا بأس بذلك ما دامت بعيدة عن المعونة الغيبية، داخلة في نطاق الأسباب والعلل، كالتوسل بدعاء الصاحين. وقد توسل عمر يوم الاستسقاء بدعاء العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم ولم يتوسل بالنبي نفسه، مع أنه أفضل من العباس ومن سائر البشر.

ومهما قيل في مسألة التوسل التي طال فيها الخلاف وكثر الجدال، ولم يبق فيها جديد يقال، فليس في القائلين بالتوسل، ولا في المانعين له، ولا في المتوقفين فيه، من يقر ما يرى في مصر عند قبر سيدنا الحسين، أو قبر السيدة زينب، والسيدة نفيسة، والإمام الشافعي، وعند كل قبر قائم في مصر، عليه قبة، وله مزار.

إن الذي يصنع عند هذه القبور يجاوز الحد الذي جوزه القائلون بالتوسل من العلماء، ويطغي حتى ليوشك أن يجاوز. . (لقد كدت أقول) الإسلام!

وأن من أوجب الواجبات على العلماء منعه وإزالته، حتى لا يظن بعض الشباب أن هذا هو الدين، فيؤثروا الإلحاد على هذا (الدين. . .) الخرافي! وهذا الذي صار!!

أما الكلام في الثورة والدين، وفرح الكاتب الثاني بضبطه رفيقه متلبساً بجريمة القول فيه، وفزع الكاتب الأول من نسبة هذا القول إليه، فهو دليل واحد من آلاف الدلائل على ما أنهت إليه صورة الدين في نفوس بعض المتعلمين. فقد استقر فيها أن الدين شيء عتيق لا يليق بالمتعلم أن يتمسك به، أو يتكلم باسمه إلا إذا لاق به أن يدع السيارة والطيارة ويركب

ص: 15

الحمارة، وأن يترك عمارة إيموبليا ويسكن في منزل خرب، وأن يعدل عن مطعم سن جمس إلى وليمة في قرية يأكلون فيها الرز بالأصابع. . .

وأن الدين لا يجوز إدخاله في العلم ولا في السياسة ولا في الحياة اليومية.

وسبب ذلك كله جريمة أجرمها العثمانيون، هي أنه لما كان عهد البعث (الرونسانس) في أوربة، وهبت أوربة لتسابقنا بعد أن كنا نحن السابقين، لم تجارها الدولة العثمانية في هذا الطريق الجديد، ولم تقبس من هذه النار، ولم تستضيء بهذا الضوء، ولو هي فعلت (على ما كنا عليه من بقايا الحضارة الأولى) لبقينا نحن السابقين، فكان من نتيجة هذا الإهمال، أن وقفنا والدنيا تمشي، ثم صرنا وراء الدنيا؛ لا لأنا تأخرنا بل لأن الدنيا تقدمت، وغداً المسلمون دون الغربيين في الأخلاق وفي الصناعة والثقافة وفي القوة، وبقى فقهاؤنا يقرءون الفقه الذي وضعت أحكامه لعصر ما قبل البعث (الرونسانس) مع أن مصادر الفقه تصلح لكل زمان ومكان ونحن ملزمون بالمصادر لا باجتهادات الفقهاء، والشباب يتعلمون ما عند أوربا وأميركا من العلم ومن المذاهب السياسية والاجتماعية، ثم يتلفتون إلى العلماء يسألونهم عن حكم الشرع فيها، فلا يلقى العلماء أمامهم إلا هذه الكتب التي ألفت لغير هذا الزمان يعودون إليها فلا يرون فيها شيئاً من ذلك ولا يعرفون اقتباس الأحكام من مصادرها، وأصولها، فينصرف الشباب وقد أيقنوا أن الدين قاصر، وأنه لا يصلح لهذا الزمان.

ثم ينظرون حولهم فيرون هذه الخرافات والأوهام، وهذه البدع والضلالات المنسوبة كلها إلى الدين، من غير أن يجهر أحد بإنكارها وإعلان براءة الدين منها، فيزداد ظنهم بالدين سوءاً، ويعودون إلى الغرب فيتلقون عن كل شئ، حتى القواعد التي وضعت للديانة المسيحية ومنها (فصل الدين عن السياسة)، مع أن من أول ما ينبغي الاتفاق عليه في الجدل معاني الألفاظ، فما معنى الدين عند من وضعوا هذه القواعد؟

إن معناه (الأحكام التي تحدد صلة الإنسان بربه) والدين بهذا المعنى لا دخل في السياسة ولا في العلم، وهو شئ شخصي بين العبد وربه، ومن هنا سارت الكلمة المشهورة: الدين لله والوطن للجميع.

نحن لا ننازع في هذا، ولكن موطن النزاع ومكان الخلاف هو: هل الإسلام دين فقط،

ص: 16

موضوعه الصلة بين الإنسان وربه، أو أن فيه ما يحدد صلات الناس بعضهم ببعض، حقوقياً وأخلاقياً؟ وصلات الدول بعضها ببعض خاصة وعامة؟

أليس في الإسلام أخلاق، وحقوق، خاصة وعامة ودولية، وهل يجب الفصل بين هذه القواعد الحقوقية التي تبدو عند المقابلة والمقارنة أعدل وأحكم من القواعد الحقوقية الموضوعة، هل يجب الفصل بينهما وبين السياسة؟ وكيف؟ ولماذا؟

هذه هي المسألة.

فمن يثبت لنا من الدين نفسه، أنه قاصر على المسجد والعبادة وأن سورة الأنفال وسورة براءة مثلاً ليستا من القرآن، وأن آلاف الأحاديث التي اعتمد عليها الفقهاء في المعاملات لست من الدين؟ وإذا كان ذلك كله من الدين، فمن يثبت لنا كيف تكون الأمة مسلمة وهي تتمسك ببعض الدين وتترك بعضه؟

هذا وأنا لا أدعو إلى أن نأخذ الأحكام المدونة في كتب الفقه كما هي فنجعلها قانوناً ملزماً لا تبديل له ولا تغيير، ولو كانت أحكاماً اجتهادية مبنية في الأصل على عرف أو مصلحة مرسلة أو استحسان. لا، ولا أدعو إلى تحقيق ذلك بثورة مدمرة، ومظاهرة صاخبة نكتفي بأن نصيح فيها: القرآن دستورنا، الإسلام دين ودولة، لا، بل بأن ينقطع نفر من أهل العالم إلى كتب الدين والى قوانين الدول، والى تعرف حاجات العصر، ونظريات علمائه، ثم يعدوا مشروعات هذه القوانين. وهذا العمل وأن كان صامتاً خفياً، لا يعرف صاحبه ولا يطبل حول أسمه بالطبول، فهو العمل النافع، وهو كالأساس للبناء العظيم، يختفي الأساس في الأرض فلا يظهر ولكن لولاه ما قام البناء.

وملاك المر تعريف الشباب بالإسلام، و (وترجمة) كتبه إلى لسانهم، لأن الإسلام في ذاته قوة هائلة، سره فيه، وفيه دلائله، فمن عرفه على حقيقته لم يستطع إلا أن يكون مسلماً، فإذا كان العلماء حريصين حقاً على ازدهاره، وعودة أهله إليه، ورجوع الأمة الإسلامية إلى مجدها، فهذا هو الطريق.

(القاهرة)

علي الطنطاوي

ص: 17

‌مع ميخائيل نعيمه في (همس الجفون)

للأستاذ مناور عويس

(أيها اللابسون عرى اليتامى كيف تدفئون؟

أيها الكارعون ري العطاش كيف تنقعون؟

أيها الآكلون خبز الجياع كيف تشبعون؟

أيها الراضعون ثدي الثكالى كيف تسمنون؟

أيها السائقون ظعن المنايا كيف تهزجون؟

أيها المستحمون بالدم الحي كيف تطهرون؟

أيها المدلجون، إذ يقبل الفجر، أين تدبرون؟

أيها البائعون سم الأفاعي هل سوى السلم تربحون؟!)

رأيتني إذا عددت الشعراء الذين أفزع إليهم كلما حزبني أمر وضقت بالحياة والأحياء أعد نعيمه في طليعة أولئك الشعراء فما أكثر ما أردد قوله:

إذا سماؤك يوماً

تحجبت بالغيوم

اغمض جفونك تبصر

خلف الغيوم نجوم

والأرض حولك إمّا

توشحت بالثلوج

أغمض جفونك تبصر

تحت الثلوج مروج!

وإن بليت بداء

وقيل داء عياء

أغمض جفونك تبصر في الداء كل دواء!

وعندما الموت يدنو

واللحد يغفر فاه

أغمض جفونك تبصر

في اللحد مهد الحياة!

فما رددت هذه الأبيات إلا شعرت بأن المرارة التي كنت أغص بها قد خف وقعها وانقشعت عن سماء نفسي تلك السحب الدكناء وصغرت في عيني همومي وآلامي؛ فنعيمه من هذه الناحية طبيب أرواح وقلوب قبل أن يكون شاعراً!

فهو يدخل القلوب بعقاقيره الروحية دون استئذان، وببساطة فائقة يمتلك تلك القلوب التي أثقلتها هموم العيش وآدها ثقل السنين ويصبح فيها السيد المطاع، فلا يلبث أن يغسلها بزيته

ص: 19

المقدس وينقيها مما علق بها من أوضار ورسب في قاعها من أقذار حتى تراها تعيش في عالم الروحاني الذي يشيع فيه الحب والخير والجمال، فنعيمه يقوم بمهمات ثلاث: مهمة الكاهن، ومهمة الفيلسوف، ومهمة الشاعر!. .

ليقل الناس ما شاءوا فلست أؤمن إلا بوجداني ولست أفهم الحياة والفن إلا به وعلى ضوئه، وقد هداني وجداني إلى حقيقة لا أتزحزح عنها قيد شعرة وهي أن نعيمه فيه نبوة، ولكنها من نوع جديد، وآثار الأدبية هي (امتداد) لأنبياء العهد القديم، أما الذين لا يرون إلا ما سطر على القرطاس فلم يكتب لهم هذا الكلام. وما دامت الفنون تقاس بمقدار ما تتصل بالنفوس، والأدب أحد تلك الفنون - ولعله أسماها جميعاً - فنعيمه من أشد الشعراء اتصالاً بالنفوس وأعلقهم بالأرواح. . . إنه من أولئك الشعراء والكتاب الذين يرتفعون بالإنسان إلى آفاق الروح الكلي ويمتزجون به امتزاج الليل بالنهار والروح بالجسد، فما قرأته مرة إلا أحسست بأنني أقرب ما أكون إلى الله وأبعد ما أكون عن (التراب)!

وهذا لعمري هو الفرق بين أدب السماء وأدب الغرائز والأحقاد. إن من ينعم النظر في شعر نعيمه ونثره يجد انه يهدف إلى غاية هي غاية الغايات، أي نشر المحبة والخير والسلام بين الناس، تلك المحبة التي طالما سعى إليها الأنبياء والشعراء والفلاسفة منذ أقدم العصور إلى يومنا هذا، وسوف يظلون يسعون إليها ما دام الإنسان إنساناً، وما دامت الأرض أرضاً، وفي سعيهم المتواصل هذا سعادتهم وسعادة البشرية، فالسعي إلى الكمال تطور وتجديد، أما الكمال فوقوف وجمود كما يقول عبقري ألمانيا الأعظم (جيتي).

ليست شاعرية نعيمه من تلك الشاعريات التي تعتمد على بلاغة الألفاظ ورنين القوافي وإنما هي شاعرية مجنحة تحلق بين الأرض والسماء، قوامها الروح ولحمتها وسداها الأفكار السامية والتأملات العميقة. في شعر نعيمه صوفية حالمة وحيرة وتساؤل وشك وإيمان، فيه ثورة وتمرد واستسلام، فيه امتزاج بالكون، فيه صلوات وابتهالات تحمل في تضاعيفها النور والطمأنينة، في شعر نعيمه هيمنة النسيم وأنداء الربيع!. . .

عندما نشبت الحرب العالمية الأولى حمل نعيمه البندقية في جيش الولايات المتحدة فرأى بعينيه أشلاء إخوانه كيف تمزقها القنابل، كما سمع بأذنيه أنين الجرحى وصراخهم الذي يصم الآذان من ظلم الإنسان ووحشيته فانطبع في نفسه كره شديد للقوة الغاشمة والأقوياء

ص: 20

الظالمين، وانتهت الحرب بانتصار الحلفاء على أعدائهم، ولكن المجاعة في سوريا ولبنان كانت تفتك بالألوف من أبناء وطنه فزفر نعيمه هذه الزفرة الحارة وأرسلها صرخة مدوية خالدة:

أخي، إن ضج بعد الحرب غربي بأعماله

وقدس ذكر من ماتوا وعظم بطش أبطاله

فلا تهزج لمن سادوا، ولا تشمت بمن دانا

بل اركع صامتاً مثلي

بقلب خاشع دام

لنبكي حظ موتانا!

أخي، من نحن؟ لا وطن ولا أهل ولا جار

إذا نمنا، إذا قمنا، ردانا الخزي العارُ

لقد خمت بنا الدنيا، كما خمت بموتانا!. . .

فهات الرفش واتبعني

لنحفر خندقاً آخر

نواري فيه أحياناً!! الخ.

هذا هو نعيمه الثائر الذي يريد أن يؤجج النار في الجليد! هذا هو نعيمه الإنسان الناقم الساخط على ظلم الإنسان لأخيه الإنسان.

ولنصغ الآن إلى نعيمه الفيلسوف يفتش عن نفسه في الموج الذي يثور والبحر الذي يبكي عند أقدام الصخور، وفي الرعد الذي يدوي بين طيات الغمام والبرق الذي يفري سيفه جيش الظلام، وفي الريح الذي تذري الثلج عن رؤوس الجبال وفي الفجر الذي يمشي خلسة بين النجوم!

إن رأيتِ البحر يطغي الموج فيه ويثور،

أو سمعت البحر يبكي عند أقدام الصخور

ترقبي الموج إلى أن يحبس الموج هديره

وتناجى البحر حتى يسمع البحر زفيره

ص: 21

راجعاً منك إليه

هل من الأمواج جئت؟!

إن رأيت الفجر يمشي خلسة بين النجوم

ويوشي جبة الليل المولى بالرسوم

يسمع الفجر ابتهالاً، صاعداً منك إليه

وتخرى كنبي هبط الوحي عليه

هل من الفجر انبعثت؟!

حقاً أن نعيمه في قصيدته (من أنت يا نفسي) التي شوهت جمالها وفرقت وحدتها باختياري هذين المقطعين منها لمن أبدع الشعراء تصويراً وأبرعهم تلويناً للفكرة الواحدة. فمن منا لم يحس بنفسه تحاول التفلت والانطلاق، وتحن إلى الامتزاج بمظاهر الكون؟ إلا أنني لا أعرف شاعراً كنعيمه استطاع أن يصور لنا تلك الارتعاشات التي تهيمن على النفس الإنسانية أمام هدير الأمواج وقصف الرعود ولمع البروق وانين الراح وانبثاق الصبح وغناء البلبل.

لقد بلغ نعيمه في هذه القصيدة درجة الإعجاز الفني لأنه شاعر فيض وإلهام لا شاعر قريحة ونحت ألفاظ. أنظر كيف يلخص قصيدته بهذا المقطع الرائع:

إيه نفسي! أنت لحن فيَ قد رن صداه

وقعتك يدُ فنان خفَي لا أراه

أنت ريحٌ ونسيمٌ، أنتِ موج أنت بحرُ

أنت برق، أنت رعدٌ، أنت ليلٌ، أنتِ فجرُ

أنتِ فيضٌمن إله!

وهنا لا بد لي من تسجيل هذه الخاطرة في شعر نعيمه، وهي أن شعر نعيمه من ذلك النوع الذي لا يرهق العقل ولا يكده - على ما فيه من عميق الفكر وسامي الخيال - بل يفيض على القلب طمأنينة ويشيع في النفس راحة ويقوي من أجنحة الخيال ويبسط على الروح جواً سحرياً فيه متعة وفيه إخلاد إلى التأملات والاشراقات الروحية التي تقرب الإنسان من خالقه وتبعده عن دنيا الأطماع والسفاسف والشهوات، ولعمري تلك مزية شعر الأمم

ص: 22

والأجيال!.

قال نعيمه: (إذا سئلتم عن أبدع آيات الفن وأغلاها قولوا: ضمير لا يسخر وجبين لا يعفر ولسان حليم شكور، وقلب عفيف غفور، وعين لا تبصر القذى ويد لا تنزل الأذى وفكر يرى في البلية عطية وخيال يربط الأزلية بالأبدية) ولو طبق هذا الدستور الذي استنه نعيمه للفن الرائع لكان أدبه في طليعة الآداب التي ينطبق عليها هذا الدستور.

ولننتقل الآن إلى نعيمه المتصرف مبتهلاً إلى ربه، ففي ابتهالاته دليل ناصع على إنسانيته الشاملة وإيمانه الراسخ بوحدانية الحياة والوجود:

كحل اللهم عيني بشعاع من ضياك - كي تراك

في جميع الخلّق، في دور القبور،

في نور الجو في موج البحار

في قروح البرص في وجه السليم

في يد القاتل في نجع القتيل

في سرير العرس في نعش العظيم

في يد المحسن في كف البخيل

في قذى العاهر في طهر البتول. . . .

وإذا ما ساورتها سكتتة النوم العميق

فاغمض اللهم جفنيها إلى أن تستفيق. . .

وافتح اللهم أذني كي تعي دوماً نداك - من علاك

في ثناء الشاة، في زأر الأسود،

في نعيق البوم في نوح الحمام. . . .

في خرير الماء في قصف الرعود. . . .

في هدير البحر في مر الغمام. .

في صراخ الليل في همس الصباح

في بكا الأطفال في ضحك الكهول.

في ابتهالات العراة الجائعين. . . .

ص: 23

في انتخاب الناي في دق الطبول. .

في صلاة الملك والعبد السجين. .

وإذا ما قرب الموت ووافاها الصمم. .

فأختمن ربي عليها ريثما تحيا الرمم.

وأجعل اللهم قلبي واحة - يستقي منها القريب - والغريب!

ماؤها الإيمان أما غرسها. . .

فالرجا والحب والصبر الطويل!. . .

إلى آخر تلك الابتهالات التي نستشف من بين ثناياها فلسفة نعيمه الإنسانية، المؤمنة الموحدة، ونطل من خلال مقاطعها على ذلك العالم الروحاني الذي يعبق من أرج (بوذا) ونفحات (لاوتسو). . .

وهلم بنا الآن إلى (أوراق الخريف). . .

قل أن تجتمع الفلسفة والشعر صعيد واحد، ذلك لأن نبعة الشعر الوجدان، ونبعة الفلسفة العقل، وإذا استطاع الشاعر أن يزاوج بين الشعر والفلسفة كما فعل أبو العلاء المعري (وجيتي) وغيرهما مما عمقت ثقافتهم وتسامت أرواحهم واتسعت آفاق وحيهم ودقت ملاحظتهم بواطن الحياة وظواهرها، أقول إذا استطاع الشاعر أن يجمع بين الشعر والفلسفة فهو الشاعر الخالد الذي لا يجوز لأمة أن تدعيه لنفسها دون أمة أخرى لأنه شاعر كل مكان وزمان. ونعيمه - في اعتقادي - أحد أولئك الشعراء وأن كره عشاق (موزاييك) الألفاظ وعباد الطنين والرنين والقوافي والجوفاء!

ففي المقطعين الأولين من (أوراق الخريف) نرى نعيمه شاعراً يؤلمه ويشجيه لأن يشاهد تلك الوراق المصفرة التي لوت أعناقها رياح الخريف وذرتها في الفضاء. .

إنني لأكاد المح دمعة التفجع في عينيه وهو ينظر إلى تلك الوريقات تتساقط الواحدة تلو الأخرى ناظرات إلى رفيقاتهن اللواتي ما برحن خضراً على غصنهن بأعينهن الدامعة وقلوبهن الواجفة لهول الفراق الذي لا لقاء بعده ولرهبة المصير الذي لا رجعة منه!

هذا المقطعان هما من رائع الشعر لأنهما غاية في البساطة والصديق والإحساس فضلاً عن الموسيقى المترقرقة بين السطور وفضلاً عن المعاني الإنسانية والأحاسيس المختلفة التي

ص: 24

توحيها الأبيات للقارئ أو السامع. . .

(يتبع)

مناور عويس

ص: 25

‌حول نقد الناصر:

في فن الإخراج المسرحي

للأستاذ زكي طليمات

في العدد 750 من هذه المجلة الغراء تفضل الأستاذ (ط) بكلمة طيبة عن تمثيل الفرقة المصرية رواية (الناصر) للشاعر الكبير عزيز أباظة باشا، وخصني فيها بالتفاته رعاية، ثم تكرم مخلصاً بألفات نظري إلى ناحية من نواحي الإخراج الذي أجريته في المسرحية، وهي ناحية جديرة بالكشف وفي التعقيب عليها تبيان لمنحي من مناحي الإخراج المسرحي في مرحلته الحديثة.

يعجب الأستاذ كيف يحدث جرح، فوق المسرح طبعاً، من غير إراقة دماء، فقد طعنت إحدى شخصيات الرواية أخرى بخنجر، ومع هذا فانه لم ير أثر للدماء ولا تمزق في الثياب.

وهذا عجب مشروع له ركائز من الحق إذا اعتبرنا فن التمثيل من حيث الأداء ومن حيث الإخراج، نسخاً للحياة ونقلاً عن الواقع في أدق تفاصيله، أو بالأحرى إذا اعتبرنا المسرح لوحة فوتوغرافية من الواقع.

هذا الاعتبار الذي يأخذ به نقاد المسرح المصري له أصل في تأريخ تطور الفكرة عن فنون المسرح، وأقصد بالفكرة وجهة النظر التي يأخذ بها الجمهور أدباؤنا وفنانوه، تبعاً للمزاج العام الذي تعمل على تكوينه الاتجاهات الصريحة في الأدب والفنون، وقد برزت في أتم طابع وجهة النظر في أن يكون فن التمثيل مماثلاً كل المماثلة للحياة الواقعية، في أواسط القرن الماضي، وانتشرت في أواخره وغيرت كل وجهات النظر الأخرى، على يد المخرج الكبير (أندرية أنطوان) في فرنسا (استانسلفسكي) في روسيا، وكانت هذه الحركة بمثابة رد فعل لما كانت عليه فنون المسرح إذ ذاك من ابتعاد عن الواقع وإغراق في الأخذ بالتزاويق.

ولم يك هذا أمراً مستغرباً لأن (المذهب الواقعي) كان سائداً في أوروبا، وشمل الأدب في جميع ألوانه، والفن في مختلف أنواعه.

ولم يك هذا المذهب الواقعي إلا صدى من إسداء المزاج العام والحركة الفكرية الواعية

ص: 26

وغير الواعية. بفعل التقدم الآلي في الصناعات والمخترعات وبتأثير الحركة العلمية التي انتهت إلى اكتشاف جراثيم الجدري والدفتريا والسل وغيرها من الأدواء، وهي حركة قوامها (المجهر) و (معمل الأبحاث والتحليل) فكان أن خلد في أذهان الناس بتأثير هذا، أن الإنسان يستطيع أن يصل إلى جوهر الأشياء إذا أخضعها للتحليل والتجزئة، وأن آلة (الفوتوغرافيا) في إمكانها أن تنقل الحياة الواقعية نقلاً دقيقاً يطابق الأصل فالفن والحالة هذه، لا يكون في أوج كماله إلا إذا نسخ الواقع وماثله.

ويروي تأريخ الإخراج المسرحي، في صدد هذه النزعة الواقعية أعجب الحوادث، فقد أخرج (أنطوان) زعيم هذه الحركة في المسرح منظراً في إحدى الروايات، يمثل مجزراً للماشية، فكان أن شاهد الجمهور عدداً من الماشية المذبوحة وقد سلخت جلودها، وشدت إلى المشاجب الحديدية، والدم يقطر منها فوق أرض المسرح، فصفق الجمهور إعجاباً.

وأخرج زميله الروسي منظراً يمثل مقدم باخرة تشق عباب البحر في يوم عاصف، فإذا برشاش الماء يتناثر على الصفوف المتقدمة من أمكنة النظارة. وهكذا أصبحت قدرة المخرجين على محاكاة الواقع مقياساً للتفوق والشهرة.

ولم يكن المخرجون في هذا منحرفين عن الجادة، لأنهم كانوا يصدرون عما يتفق ونظرتهم ونظرة الجمهور إلى الفن المسرحي من حيث أنه صورة شمسية من الواقع الملموس. وقد تناسوا أن المناظر التي يطالعونها فوق المسرح لا تأخذ من حقائق الأشياء غير مظاهرها، بدليل أن ما يرونه ممثلاً للجدران الصلبة، والأعمدة، وحوائط الباخرة ليس إلا أستار ملونة مشدودة إلى إطارات من الخشب، ويكفي للدلالة على زيف معدنها أن تقع يد أحد الممثلين عليها فإذ هي تهتز وترتعش.

هذه النظرة إلى فنون المسرح أو بالأحرى هذه (النزعة الواقعية)، ما برحت تسود الأكثرية الغالبة من الجمهور. وقد جاءت إلينا مع مجيء فن التمثيل باللسان العربي، وفي طيات الموجه الثقافية الغربية التي تكسرت على شواطئ وادي النيل فيما بعد أواسط القرن الماضي. وقد تأصلت لهذه النزعة في مجتمعنا جذور امتدت على مر الزمن، فإذا الفن بين أيدينا لا يتعدى أن يكون صوراً شمسية من الواقع في أدق تفاصيله.

ولكن الزمن قد تطور في أوروبا التي أخذنا فنون المسرح عنها، فتغيرت قيم وأوضاع في

ص: 27

الأدب والفن، فبليت (واقعية) الفن بعد أن اتضح قصورها عن إشباع الواعية الأوروبية التي ازدادت نضجاً على وقع التقدم العلمي في نواحي الفلسفة وعلم النفس، الذي أثبت أن المرئيات إنما هي مظاهر ودلائل تشير إلى جوهر الأشياء ولا تفصل، وتوحي ولا تفصح، وتجمل ولا تحلل وأن الأخذ بالتركيب أصوب من الأخذ بالتحليل العاجز المتطاول. وقامت نزعة جديدة في الأدب والفنون تأخذ بالإيحاء الشامل بدلاً من نسخ الواقع وتفاصيله، وبالتركيز بدلاً من التحليل المفصح الذي يعنى بالتفاصيل ولا ينتهي إلى الجوهر. وقامت في المسرح، وذلك في أوائل القرن الحاضر، حركة تناهض (الواقعية) في فنون التمثيل وترتكز على ما تقدمت الإشارة إليه، سرعان ما قضت عليها إذ تركتها بين أيدي المتأخرين من متابعة قافلة التطور في الأدب والفن. فإذا المناظر المسرحية للأجمال والإشارة في التصوير، وإذا الإضاءة للتركيز على المواطن المهمة في الحركة المسرحية وليس لمجرد الإنارة، وإذا كل ما يبدو فوق المسرح للإيحاء، وإذا بالمسرح يصبح (تمويهاً للواقع) وليس (نقلاً واقعياً) عنه، وامتد تأثير الاتجاهات الفنية الحديثة إلى المرئي فوق المسرح فإذا بنا نطالع فوقه مذاهب (الإيحائية) و (التأثرية) و (التعبيرية) في التصوير والرسم.

وقد زاد في الأخذ بهذا ما فرضته السرعة في الانتقال من تأثير على النظرة إلى المرئيات، هذا التأثير الذي نسخ بدوره فعله على العقل الواعي وغير الواعي، فغداً مقياس العمل في كل نواحي الحياة، (أتيان أكبر الأثر بأبسط الوسائل وفي أسرع وقت). وكان من اكبر الأسباب التي دفعت بالمسرح إلى أن يأخذ اتجاهاً يجافي الواقعية، في تسجيل المرئيات، وهي قصوره عن مجاراة (السينما) في وسائل أحياء الواقع على الوجه الذي تراه العين المجردة.

من أجل هذا وعلى هدى ما تقدم ذكره فإننا نأخذ بهذا الاتجاه الجديد في إخراج مسرحياتنا، حتى نماشي روح العصر الذي نعيش فيه. الإيماءة تأخذ مكان الحركة الكاملة، وجذع الشجرة ينبئ عن فروعها ويشير إلى أغصانها، والعامود ذو الطراز المحدود، أو الحنية أو العقد في البناء، يغنى عن أيراد بهو كامل الجدران قد دقت اليد في إيراد تفاصيله وكذلك الحال فيما هو دون هذا فإن طعنة الخنجر أو ضربة السيف، توحي بما يصاحبها.

وقد يصح أن في اتباعي هذا المذهب أقدم غير ما يألقه السواد الأكبر من الجمهور، ولكن

ص: 28

من واجبي أن أبشر بالجديد الذي يقبله الجمهور الأوروبي، وهو جمهور سبقنا في مضمار فنون المسرح، وعنه نأخذ في فنية المسرح وحرفيته، وهذا الجديد غير عسير استساغته، لأنه يرتكز على الطبيعة بقدر ولا يجافيها كل المجافاة.

وأؤكد للأستاذ (ط) أن مداركة ما أخذه علينا من أن الدم لم يتفجر على أثر طعنة الخنجر، من أيسر الأمور، ويكفي أن نضع في عب ممثلة دور الفتاة التي تطعن بالخنجر، (تفاحة) مملوءة بسائل أحمر، لا بالدم، فسرعان ما تتفجر تحت ضغط اليد التي تهوى عليها، فيغشى السائل الأحمر ثيابها ويسيل إلى الأرض، بل وينطلق رشاشة إلى الجمهور الذي يأخذ مكانه في الصفوف الأمامية.

ثم ماذا يكون قول الأستاذ (ط) إذا شاهد مرة في إحدى المسرحيات منظراً يمثل معركة حربية بين صليل السيوف التي من الخشب، وانفجار القنابل المزيفة التي تفرقع ولا تحدث أثراً، بماذا يحاسب المخرج إذا لم ير الدماء تسيل أنهاراً فوق المسرح، والأشلاء تتطاير هناك وهناك، ويضرب بعضها وجوه النظارة كما كان يجب أن يجري في الواقع، وهل يصح أن يقول أن المخرج أهدر جانب الواقع، وتورط في الخطأ الفاضح.

أقول أن الخدع المسرحية التافهة التي تدخل في نطاق ما ذكره الأستاذ الناقد أصبحت اليوم لا تؤثر في الجمهور المثقف، كما كانت تؤثر في نفوس أجدادنا مخدوعين أو متناسين الحقيقة، لأن النضج الذي نزل بالذهنية الحديثة من جراء التطور العلمي العام صار يميل إلى الأخذ بالإيحاء حتى ينسرح خيال المشاهد فيكمل التفاصيل، على وجه قد يكون أروع من تفاصيل مفروضة عليه من سواه.

أقول أن فن لمسرح في مظاهره العادية الخاصة بالإخراج ليس الحياة بواقعيتها وفي دقائقها وتفاصيلها، وإنما هو تمويه بهذا في حدود المعقول، الذي يبعث الإيحاء ويساعد على الرمز وينشط مخيلة النظارة على الإنسراح لاستخراج التفصيل من المجمل، والكل من الجزء.

زكي طليمات

ص: 29

‌1 - من وحي الآثار:

مع ملاحي الشلال الأول

للأستاذ مصطفى كامل إبراهيم

(أولئك جزاؤهم من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار

خالدين فيها ونعم أجر العاملين).

(قرآن كريم)

حدثنا الأستاذ عبد الحفيظ أبو السعود في العدد 746 من الرسالة عن ذكرياته الشائقة في بلاد النوبة فقال: (وللشلال شهرة بالملاحة، فأكثر الملاحين الذين يشتغلون في البواخر النيلية بوجه عام، تجارية وحكومية، وشراعية، من هذه البلاد الصغيرة المسماة بالشلال!!).

وتروي لنا مخلفات القدماء هاهنا، أن رجالات الشلال قد أدوا لوادي النيل من الخدمات في غابر الأيام ما يتوج المصريين بتاج الفخار وهي باقية ما بقي العلم وما بقي الاعتراف بالصنيع، وأن لهؤلاء الرجال في أعناقنا جميلاً فلنؤده إحياء لذكراهم وإن قل هذا الأداء.

ولقد لعب النيل دوراً هائلاً في حياة المصريين منذ نشأة الحياة الأولى على ضفافه ومنذ بدأ القوم يتعلمون الزرع والضرع على يد (أوزيريس) الطيب القلب، الكريم المحتد، فلا عجب إذاً أن ملاحي الشلال الأول الذين وقفوا حياتهم على خدمة النهر والعناية بأمره وحماية منابعه، أن يكتبوا بأحرف من نور، سجلاً تاريخياً حافلاً بجلائل الأعمال.

وقصة (أوزوريس وست)، هي القصة التي ملأت وجدان المصريين القدماء طوال أيام تاريخهم القديم، واحتلت مكان الصدارة من حياتهم الدنيوية، وأثرت في نفوسهم بالخير والبركة، ولعلها السبب الثاني بعد الطبيعة السهلة التي خلقت في المصريين النفس السمحة ولين العريكة وطيب القلب، مما أوحى إلى (هيرودوت) أن يصدر حكمه المشهور (المصريون قوم يخشون الله).

وطال ترديد القصة بين أفواه الناس وأسماع الزمن، حتى تجاوبت أصداؤها فيما وراء البحر وجاء بلوتارخ سنة 120 من ميلاد المسيح، يستنبئ الناس الخبر، ويستقرئ الآثار، فسمعها من الكهنة ثم كتبها للناس. ودلت الآثار على أن الرجل لم يكن متجنياً كغيره من

ص: 30

المؤرخين.

وقد مست القصة مواطن العبقرية من الأدباء والشعراء المحدثين فقضوا الليالي الطوال ينعمون معها بفيض من الاطمئنان الروحي ثم انطلقت قرائحهم بالنثر والشعر الرصين ذلك لأنها من أجود القصص بل لعلها أجودها جميعاً، والذي يقرؤها من قلم (شيلير يشعر بأن الرجل كان هائماً بها هيامه بما يكتب فأخرجها آيات مبدعات من روائع الفن.

وأنا لا أستطيع أن أتهم المصريين القدماء بأنهم عبدوا الإنسان والحيوان والجماد لذاته، فأن ما خلفوه من مجد أثيل وثقافة عالية لا تسمح لهم أن ينزلوا هذه المنازل السحيقة من الجهل، بل الرأي عندي أنهم أدركوا صفات الله تعالى وبحثوا عنه في ملكوته، فلم يروه. . . ورؤا شيئاً من صفات الخالق فيما خلق، فقد سوها على أن بها سراً من أسرار الله. . . قدسوا (أوزوريس) لكرمه ورحمته بالعباد، والنيل لمثل ذلك (وخنوم) رب الشلال الأول لأنه يحمي منابع النيل ويصنع الخلق من طينته.

وبالرغم من أن مصر لم تكن مهبط الأنبياء، إلا أن المصريين القدماء قد أظهروا استعداداً طيباً لتقبل الأديان السماوية قد ينفردون به دون أمم الأرض، ففي أيام موسى عليه السلام، آمنت له امرأة فرعون وكل من شاهد برهان الله على يد رسوله، ولما جاءت المسيحية اعتنقوها حتى لم يبقى في الديار كافر بها، ثم لما أشرق نور الإسلام في شمال الوادي، سطع ضياؤه بين جنباته وتغلغل في نفوس أبنائه المؤمنين (الذين قالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير)، وامتد هديه حتى عم كل بقعة وطئتها أقدام الداعين للإسلام، أولئك الذين شد الله في أزرهم وقوى نفوسهم فلم تصدهم عن رسالتهم أفاعيل السياسة ولم يقعدهم مال.

ومثل المصريين كمثل إبراهيم عليه السلام لما قلب وجهه في الكوكب والقمر والشمس باحثاً عن الله، فلما أعياه البحث تداركه الله برحمته، فهداه سواء السبيل.

وأنا ممن يعتقدون أن القصص الديني لم يكن كله حديث خرافة، فمهما خصبت عقول البشر ومهما حاول المرتزقة من كهنة المصريين القدماء أن يقدموا للناس غذاء روحياً دسماً من الأساطير يعيشون على حسابه، فلم يكن في طوقهم، ولا في طوق غيرهم، أن يخترعوا شيئاً من لا شيء، فقصة (أوزيريس وست) إذاً من قصة الأحياء من بني الإنسان، مثلتها

ص: 31

الأيام وكان مسرحها جنبات الوادي الأخضر، وليس للكهنة عليها من فضل، اللهم إلا تأليه أشخاصها، وجلوها، وتجهيزها، ثم زفها للناس.

وتتلخص القصة من أن (ست) حاكم الصعيد الغشوم قد حقد على أخيه (أوزيريس) حاكم الدلتا لعدله وحب الناس له، فصنع له تابوتاً على قده واحتال عليه حتى أرقده فيه، وأحكم عليه الغطاء ثم ألقاه في النيل، وقذفته أمواج البحر إلى ببلوس (جبيل) من أعمال فينيقية (لبنان)، وهناك أنبت الله عليه شجرة أرز وارفه أعجب بها حاكم البلاد فقطعها، وجعل منها عموداً يحمل سقف قصره، وسعت (أيزيس) الزوجة المخلصة حتى عادت بتابوت الشهيد إلى الدلتا، ثم كشفت الغطاء وذرفت دمعة ساخنة سقطت على وجهه، فأعادت إليه حياته بأذن الله، إلا أن (ست) وافاه والمنية تسعى في ركابه، فمزق الشهيد قطعاً وبعثر أشلاءه في أقاليم الوادي. . . ثم عمد منه إلى عضو التذكير فيبتره وألقى به إلى سمكة في النيل، حتى لا ينجب ذرية قوية تنازعه الغلبة والسلطان.

إلا أن (إيزيس) التي حملت من روح زوجها أنجبت له (حوريس) فيعمل هذا على الانتقام لأبيه، ويطلب الاحتكام في أمره وتبدأ أولى جلسات المحكمة في (أون) عين شمس، ويخاف (ست) على هيئة المحكمة أن تعصف بها فتنة (إيزيس) الجميلة الساحرة، وتنتقل المحكمة إلى قاعة العدل العليا في جزيرة فيلة عند الشلال الأول، غير أن (إيزيس) تسافر إلى الشلال الأول وتطلب من أحد الملاحين أن ينقلها على سفينة إلى الجزيرة ويجيبها السفان أنه لن يستطيع هذا بأذن منها، وتتمكن أخيراً من إغرائه بالذهب فيحملها إلى الجزيرة.

. . . وتتم كلمة الله ويجيء الحق ويزهق الباطل يزهق معه روح (ست).

ومنذ ذلك اليوم من فجر التاريخ إلى آخر أيام الفرعنة، والملوك - إلا في فترات قصيرة - يعتبرون أنفسهم أحفاداً (لحوريس) وذلك لإقرار شرعية حكمهم، ومن أجل هذا كتبوا أسماءهم داخل إطار فيما يحاكى رسم القصر الملكي، وقد حط عليه الصقر رمز (حوريس) مشرعاً هامته إلى السماء.

وتروي لنا القصة فيما تروي من أنباء الماضي أن مصر قد تذوقت لوناً من ألوان الوحدة تحت حكم ملك واحد فيما قبل أيام (مينا) مؤسس (الأسرة الأولى). وتروي لنا أيضاً أن لمصر علاقة بلبنان قديمة قدم القصة، وتطالعنا الآثار بأن مصر أفادت من خشب الأرز

ص: 32

اللبناني في بناء السفن والتوابيت، وأغلب الظن أن علاقتهما كانت علاقة الأخ الكريم بالأخ الكريم، ولم تكن غير ذلك طوال أيام تاريخهما، إلا في فترات التدخل الأجنبي وتسلطه البغيض.

ونحن لا ننظر إلى القصة من زاوية الخير والشر كما يفعل الوعاظ، ولكن نراها من ناحية علاقتها التاريخية بالشلال الأول فالنيل شخصية واضحة تلازم البطل (أوزوريس) في جميع مناظر القصة، إلا ما كان منها خارج واديه، بل لعل البطل يندمج مع النيل في بعض فصول القصة. وشخصية (أوزوريس) فيما يظهر، هي الصورة المجسمة العاملة المدبرة للنهر الميمون، بل أن اختيار قاعتي العدل المزدوجة ف يعين شمس أولاً، ثم في الشلال الأول أخيراً على وجه التحديد، كان سبب وجود مقياسين للنيل عند منبعه وبدء تفرعه إلى أفرع كثيرة ليست من صلب النيل، بل أن بعضها لا يمتلئ إلا في فترة الفيضان - وقد كان للمقياسين أخصائيون يقيسون زيادته ونقصانه ويزنون مياهه، ويرصدون عليه حركاته، ثم يقدرون من وراء هذا كله دخل الحكومة وأرزاق الناس.

وعندي أن اهتمام المصريين بمنابع النيل عند الشلال الأول لم يكن عبثاً بل كان لا بد لمنابع النيل من إدارة عليا تهيمن عليه، لا تدانيها في عظمتها إدارة الشمال، كما هو الحال في يومنا هذا، فأن مصلحة الري المصري بالسودان توافي البلاد بأخبار النيل على الدوام.

ويعزز رأينا هذا ما قاله الملاح (لإيزيس) من أنه لا يستطيع أن ينقلها بإذن منها - يعني بذلك أنه موظف مسئول وأنه لا يتلقى الأمر إلا من صاحب الأمر، وتطالعنا الآثار بأن حاكم الجنوب اتخذ كرسيه في جزيرة فيلة عند الشلال الأول متمتعاً بأقصى ما يتمتع به عامل من ثقة مليكه.

ونحن إذ نؤمن بوجود إدارة عليا للنيل عند منابعه مع وجود السفان وسفينته في هذا المكان والاهتمام (بفينيقيا) موطن أخشاب الأرز، كل أولئك يحملنا على الترجيح بأن ملاحي الشلال الأول هم أول من أنشئوا السفن تجري على صفحة النيل السعيد بسم الله مجريها ومرساها.

ولعل بين إسناد التاريخ الأثرية ما تكشفه لنا الأيام فيؤيد هذا بصورة قاطعة.

ولقد ظل ملاحو الشلال الأول محافظين على عهدهم مع النيل فصادقوه وحالفوه، وعاشوا

ص: 33

بين كنفه فأطلعهم على مكنون سره ودخائل نفسه، فعرفوا كل صخرة من صخوره، وخبروا كل شعبه من شعابه، وتروي لنا مخلفات القدماء هنا بأن (أوني) أحد عمال (مون رع) في جزيرة فيلة في أيام الأسرة السادسة سنة 2328 قبل ميلاد المسيح تمكن من أن يقتطع طريقاً بين صخور الشلال ليفتح سبيلاً لسفن صاحب الجلالة إلى الجنوب، وبعد ذلك بستمائة سنة تمكن عمال الشلال الأول أن يعيدوا لسنوسرت الثالث فتح هذا الطريق ثم لما كانت أيام تحتمس الثالث الذي مد الله في سلطانه، فأمست له إمبراطورية عريضة تمتد من (قرن الأرض إلى أطراف المياه المعكوسة)، أراد قمع الثائرين في الجنوب، فوجد لقناة قد طمسها تيار النيل، فأمر ملاحي الشلال الأول أن يعبدوا حفرها وهكذا مكنوه من العودة إلى طيبة بطريقها. ومن ثم وضع في أيديهم أمر العناية بها لتبقى مفتوحة وتجري التجارة بين الشمال والجنوب ولإيصال ثقافات الشمال إلى أبناء الجنوب فيؤلف الله بين قلوبهم ويصبحوا بنعمته إخواناً. أو للضرب على أيدي الخونة المارقين من أشياع إبليس، الذين تتحرك فيهم الغرائز الدنيا، ويدفعهم الأثرة وحب النفس وشهوة المادة إلى تدمير وحدة الوادي السعيد وتقطيع أوصاله، لمغنم زائل، أو لجاه زائف، لا يلبث هذا أن يجرهم مقرنين بأصفاد الذلة، ويطوح بهم إلى الحضيض من وادي العدم.

فعليكم سلام الله، أيها الأمجاد من أبناء (ناستي) وإلى اللقاء مرة أخرى فنحيى ساعة نستمرئ لذيذ ذكراكم العبقة بعطر الخلود.

(أسوان)

مصطفى كامل إبراهيم

وكيل اتحاد الثقافة الأثرية

ص: 34

‌من الأدب النسوي:

الغزل في شعر المرأة

للشيخ محمد رجب البيومي

- 2 -

سنتكلم اليوم عن الغزل السافر ونعني به ما قالته المرأة، لتذيع غرامها على رءوس الأشهاد، فينقله عنها البعيد والقريب، فهي إذن لا تخشى ملامة أو مسبة، بل تقدم جريئة على تحمل ما يهددها في موقفها الجريء.

ونعلن بادئ ذي بدء أننا لن نتعرض إلى غزل الجواري فيما نحن بصدده من الحديث، لأننا نبحث عن النسيب الصادق الذي يضطرم بالعاطفة المشبوبة، ويتأجج باللوعة المشتعلة، وجل ما بأيدينا من غزل هؤلاء لا يهدف لغير الإغواء والتغرير، بل كثيراً ما يهبطن إلى مستوى لا يرضى عنه خلق نبيل، حتى ليجوز لنا أن نشبههن بمن نرى من ساقطات الممثلات، حيث يشغلن الصحف الخليعة بالحديث عن رنين القبلات، وحرارة العناق، وما يقصدن - علم الله - غير العاقبة الذليلة والخداع المريب.

على أنك لا ترى في شعر الجواري مواربة أو كنانة، بل تجد نفسك أمام صراحة فاضحة، ومنطق مكشوف، كأن تقول إحداهن وهو أهون ما يمكننا أن نستشهد به:

إني لأرجو أن نكون معانقي

فتبينت منى فوق ثدي ناهد

وأراك بين خلاخلي ودمالجي

وأراك دون مراحلي ومجاسدي

وأنا لا أنكر أن هذا تصوير صادق لما تنشدهالجارية من أمل لذيذ، فهو من هذه الناحية غزل يرتكز على الإحساس والشعور، ولكن أدعو الشاعرة أن تبرز عاطفتها تلك، في سياق فني، يعتمد على التشبيه البارع، والرقة المتسلسلة حتى تطرب قارئها برونق الأسلوب، فينسى قسوة الفكرة ومرارة الهدف، وأصدق مثال لذلك قول حفصة بنت الحاج القرطبية:

أزورك أم تزور فأن قلبي

إلى ما تشتهي أبداً يميل

فثغري مورد عذب زلال

وفرع ذؤابتي ظل ظليل

وقد أملت أن تظمأ وتضحى

إذا وافى إليك بي المقيل

ص: 35

تفضل بالجواب فما جميل

سكوتك عن بثينة يا جميل

فواضح جداً أن هدف الشاعرة الأولى هو بعينه هدف الشاعرة الثانية، ولكن سياق حفصة جميل فاتن، ولا غرو فهو طراز أندلسي أخذ جماله من عصره، واستمد رقته من أهله فجاء صافياً كمرآة النهر الوديع.

ولا بد أن يعلم القارئ أن التصريح في نسيب المرأة كان في مجموعة أقل من التلميح. وقد قرأت في هذه الأيام أكثر ما روي لحواء من رائق التشبيب فلم أجد التصريح إلا في حالات خاصة تخفف من حدته، وتشفع لقائلته أتم شفاعة، وهي في جملتها لا تخرج عن حالات ثلاث:

فالحالة الأولى - وهي الجديرة بالإشفاق - تكون غالباً عندما تفقد المرأة صوابها الراشد، وفكرها المتيقظ، فتندفع في تيار الحب أعنف اندفاع وأقساه، ولا تعود تفكر في غير الشخصية المسيطرة على منافذ إحساسها، القابضة على زمام فؤادها، وما ظنك بمن ترسل أشعارها الذائبة ناطقة بجنونها الشقي، غير عابئة بما يلقاه بها الأقربون، من صنوف الإيذاء والتعذيب كشقراء بنت الحباب، فقد قاست في غرامها الطائش ما تقشعر لهوله الأبدان، وطالما أنهال عليها والدها بالسياط المحرقة تشوي الإهاب، وتمزق الأعضاء، وهي بعد لا تنسى في جحيمها المشتعل حبيبها يحيى بن حمزة بل تهتف:

أأضرب في يحيى وبيني وبينه

مهامه لو سارت بها الريح كلت

ألا ليت يحيى يوم عيهم زارنا

وإن نهلت منا السياط وعلت

وكأني بوالدها وقد رحمها بعض الشيء فبعث إليها صواحبها لائمات عاذلات، راجياً أن يثوب رشادها العازب إلى وكره، فتنسى ما تهذر به للغادي والرائح، ولكن أمل الحباب ينطفئ خابياً حين يجد ابنته تصيح في آذان اللائمات:

سأرعى ليحيى الحب ما هبت الصبا

وإن قطعوا في ذاك عمداً لسانيا

فقد شف قلبي بعد طول تجلدي

أحاديث من يحيى تشيب النواصيا

وهناك من المدنفات من لا تفرق بين النافع والضار، فهي إذ تصطلي بجحيم الشوق اللافح، لا تجد من تطلعه على خبيئة سرها غير والدها العنيف؛ مع أن الأب - لو عقلت الفتاة - أول من ينبغي أن يكتم عنه هذا النبأ المزعج، وخاصة إذا كان من قساة البدو، وجفاة

ص: 36

الأعراب، كوالد الخنساء التيحانية، تلك التي علقت شاباً من بني خفاجة يدعى جحوشاً، وقاست في حبها العارم ما أقض مضجعها، وشرد نومها، فكتمت أمرها عن صواحبها، وبعثت إلى أبيها التيحان تقول في غير اكتراث:

وإن لنا بالشام لو نستطيعه

حبيباً لنا (يا تيحان) مصافيا

نعد له الأيام من حب ذكره

ونحصي له (يا تيحان) اللياليا

فليت المطايا قد رفعنك مصعداً

تجوب بأيديها الحزون الفيافيا

وإذن فهي لا تكتفي بإزعاج والدها، بل تتمنى أن يقود بنفسه مطاياه مصعداً إلى جنوب الشام ليكون رسولها الأمين إلى جحوش الحبيب، والغرام جنون فاضح، يولد الغرائب، ويأتي بالمتناقضات!!

أما الحالة الثانية: فلها من الظروف والملابسات ما يبررها لدى المنصف الأريب، إذ تكون العاشقة ثيباً مطلقة، فلا تؤاخذ على هيامها مؤاخذة غيرها من العذارى الناهدات، بل يلقي لها الحبل على الغارب، ويسلم إلى كفها الزمام. أضف إلى ذلك ما غرب عنها من خفر الكواعب، فقد ودعته إلى غير رجعة، يوم أن انخرطت في سلك الزوجات، ولديك أم الضحاك المحاربية فقد أمسكت عن الشعر الغزلي، حتى طلقها زوجها، وأحتمل عنها إلى مكان نازح، فهاج بها الشوق واندفعت تقول:

سألت المحبين الذين تحملوا

تباريح هذا الحب في سالف الدهر

فقلت لهم ما يذهب الحب بعدما

تبوأ ما بين الجوانح والصدر

فقالوا شفاء الحب حب يزيله

على الفور أو نأي طويل على الهجر

وما الحب إلا سمع إذن ونظرة

وحنة قلب عن حديث وعن ذكر

وسيعجب القارئ حين يجدها تكشف نقاب الحياء دفعة واحدة، فتعبر عن الحقيقة المكظومة إذ تنشد:

شفاء الحب تقبيل وضم

وجر بالبطون على البطون

ورهز تهمل العينان منه

وأخذ بالمناكب والقرون

وفي رأيي الغيرة أساس كل بلاء، فلولا أن الشاعرة قد تضايقت كثيراً بتطليقها وأقتران زوجها بغيرها، لما رددت هذا القول الجريء. وأن شئت فأنظر إلى ولادة بنت المستكفي

ص: 37

وهي كما تعلم، جراءة قول، وتكبر نفس، فقد ضرع أمام جمالها الفاتن الوزيران الأدبيان ابن زيدون وابن عمار، فهزأت بهذا حيناً، وسخرت بذلك أحياناً، ولكن لم تكد ترى أبا الوليد يداعب جارتها (عتبة) حتى دبت عقارب الغيرة إلى قلبها، وعلى وجهها سحابة قاتمة، من الضجر والضيق، فتركت كبرياءها وكتبت إلى عاشقها تقول:

لو كنت تنصف في الهوى ما بيننا

لم تهو جارتي ولم تتخير

وتركت غصناً مثمراً بجماله

وجنحت للغصن الذي لم يثمر

ولقد علمت بأنني (بدر) الدجى

لكن ولعت لشقوتي (بالمشتري)

فكيف إذن نلوم أم الضحاك وقد أبدت ولادة العظيمة ما أبدت من الغيرة والاندفاع. على أن للمحاربية الخاملة في باب النسيب ما يضعها في منزلة ولادة النابهة، وما زلت أردد في إعجاب قولها الرائع:

حديث لو أن اللحم يشوى بحره

طرياً أتى أصحابه وهو ينضجُ

ونعرج على الحالة الثالثة، وهي كثيراً ما تتكرر أمامنا من حين إلى حين، فقد تكون المرأة عاشقة صبة، فتجاهد نفسها في إخفاء ما تكابده مجاهدة قائلة، ثم تمر الأعوام وراء الأعوام فإذا الشابة العاشقة تصير عجوزاً شوهاء، ذات أولاد وأحفاد، وإذ ذاك لا تبالي بنقد، أو تحفل بتجريح، بل يطيب لها أن تجلس مع العذارى الناهدات، قارئة تأريخ قلبها الحافل بالعجائب والغرائب، دامعة على صباها الغارب، وشبابها المرحوم، ولا عليها في ذلك ما دام الجميع يتهمها بالهتر والتخريف، وما دامت قريبة من القبر، فهي هامة اليوم أو الغد، وأي نقد يوجه إلى شمطاء شهربة، تدب على العصا، وتمشي بها مشي الأسير المكبل كعشرقة البدوية إذ تقول:

جريت مع العشاق في حلبة الهوى

ففقتهمو سبقاً وجئت على رسلي

فما لبس العشاق من حلل الهوى

ولا خلعوا إلا الثياب التي أبلى

ولا شربوا كأساً من الحب حلوة

ولا مُرة إلا شرابهمو فضلي

ومع ما في هذا القول من الصراحة التامة، فأنه إذا قيس بشعر الرجل كان جميل الأثر، طيب الوقع؛ فنحن نرى الإباحيين من فساق الشعراء كامرئ القيس والفرزدق وبشار يطنبون في ذرياتهم الماجنة، إطناباً تنقبض له الصدور، ولو أننا لا نريد أن ننشر هذا

ص: 38

اللون من الإفك، لذكرنا على سبيل ما تحمر له الوجوه؛ غير أننا نضع أمام القارئ أبياتاً لابن أبي ربيعة قد تواضع في سردها، فلم يملأها بما عهد عنه من إفك، وهي رغم ذلك من الإباحية في هوة لا ينحط إليها غزل الحرة، مهما فحش ولذع. قال أبو الخطاب:

فتناولتها فمالت كغصن

حركته ريح عليه فمارا

ثم كانت دون اللحاف لِمشغو

ف معّنى بها صبوب شعارا

واشتكت شدة الإزار من البه

ر وألقت عنها لدَّي الخمارا

حبَّذا رجعها إليها يديها

في يدي درعها تحل الإزار!

وإن شئت أن ترى للمرأة شيئاً من طراز عمر المكشوف فارجع إلى ما هجناه من غزل الجواري في صدر هذا المقال.

هذا وقد تكون الشاعرة مضطرة إلى التصريح بما يعجز عن بيانه اللفظ ويقف دونه الريق، فتأتي بالمعنى الجلي، في تركيب قوى، دون أن يصدمها المسلك الوعر، ويجبها الواقع المرير؛ فقد راود توبة بن الحمير الخفاجي صاحبته ليلى الأخيلية فشاحت عنه، وأرادت أن تفهمه موقفها النبيل، فلم تستعص عليها قافية أو تند عنها عبارة، بل أجابته في قوة أسر وبراعة نسج فهي تقول:

وذي حاجة قلنا له لا تبحْ بها

فليس إليها ما حييت سبيلُ

لنا صاحب لا ينبغي أن نخونه

وأنت لأخرى صاحب وحليل

تخالك تهوى غيرها فكأنما

لها في تظنيها عليك دليلُ

ولعمرى قد بلغت من السمو والروعة شأواً لم يصل إليه معن بن أوس، حين اصطدم كصخرتها العاتية فقد كان في جاهليته يغشى أم مالك خليلته، فأتت كعادتها إليه بعد إسلامه فقال من أبيات:

ولست كعهد الدار يا أم مالِك

ولكن أحاطت بالرقاب السلاسلُ

وعاد الفتى كالكهل ليس بفاعل

سوى الحق شيئاً فاستراح العوازل

وشتان ما بين القولين وإن اتحدت الواقعة، واتفق المراد!!

ولليلى هذه مراث جيدة في توبة وكانت تصلها بقليل من الغزل الرائق فتطرب النفوس في موقفها الحزين، وأشهد لقد دلت على أن أبناء حواء كأبناء آدم، متانة تركيب، وجلجلة لفظ

ص: 39

وارتفاع مسلك، ويهمنا أن نعرض نسيبها الدامع إذ تقول في معرض الرثاء:

هو المسك بالأرى الضحاكي شبته

بدرياقة من خمر بيسان قرقف

فيا ألفَ يوم تأتي مسَّلماً

فألقاك مثل القسور المتطرف

وهناك من العاشقات غير ليلى من أبدعت كثيراً حين نهجت هذا النهج الجذاب، وزادت فعمدت إلى الجناس الجميل إذ تقول:

كان مثل القضيب قداً ولكن

قده صرف دهره أي قد

أو تقول:

هو الأبيض الريان لو ضربت به

نواح من الريان زالت هضابها

وهكذا تكون الدموع مسرحاً للتشبيب البهيج!!

ولا نختم هذا الفصل دون أن نلم بنموذج من الغزل الصوفي الذي ترنمت به المرأة فنشرت أمام العيون بروداً قشيبة، عطرة الذيول. وإذا صح ما يقولون من أن الحب الصوفي في مبدئه حب إنساني شب وترعرع حتى وصل إلى نهايته العلوية، فالمرأة أشد قابلية له من الرجل، لما نعلمه من تأثرها العميق، وإحساسها الرقيق. ويكفي أن نستشهد برابعة العدوية رضى الله عنها فهي صاحبة اللواء الخفق بين أخواتها المتصوفات، ولها من النسيب الفاتن جداول صافية تبل الصدى وتنقع الغليل كأن تقول:

أحبك حبين حب الهوى

وحبٌّ لأنك أهلٌ لِذاكا

فأما الذي هو حب الهوَى

فشغلي بذكركَ عمن سِواكا

وأما الذي أنتَ أهلٌ لهُ

فكشفك لي الحجب حتى أراكا

فلا الحمدُ في ذا ولا ذاك لي

ولكن لك الحمدُ في ذا وذاكا

ورابعة كما ينطق التاريخ قد سبقت الشعراء جميعاً إلى الغزل الإلهي ففتحت بذلك الطريق لابن عربي وابن الفارض والبرعي ومن يجري معهم في ميدان التصوف الوسيع، ولا أدري كيف سكت محللو الشعر القدسي فلم يسجلوا يدها البيضاء!!

(وبعد) فهذه مرآة لامعة تجلو لنا طرائف من الغزل النسوي ونحن حين نزفها إلى القراء والقارئات نتساءل في عجب: أيوجد بين شاعراتنا الآن من لها - ولو في غير الغزل - هذه الديباجة المشرقة، والرقة المتسلسلة؟ أم أن ذلك عهد مضى ولن يعود؟!

ص: 40

(الكفر الجديد)

محمد رجب البيومي

ص: 41

‌ربيعي في قلبي.

. .

للأستاذ حسين محمود البشبيشي

أضاءت زماني نشوةً ومكانيا

حياةُ المنى رفّت بقلبي أغانيا

ربيعي في قلبي ونفسي وخاطري

أسير به حياً. . . وأحياه هانيا

طريقي أعطارٌ تضوعُ

تشيعُ وطير طاف بالسعد شاديا

وحولي من معنى الربيع أزهار

وفي النفس عطرُ الزهر قد فاض صافيا

وقد كنت قبل اليوم أسوان شاكيا

وقد كنت قبل اليوم لهفان باكيا

وقد كنت قبل اليوم وهماً مشرداً

إلى أمل يُمسي ويُصبح كابيا

إذا أشرقت في الأفق أنوار بُغيتي

رجعت وفي عيني من الليل ما بيا

فمن ذا الذي أحيا رمادي والذي

أضاء زماني نشوةً ومكانيا

فعدت كما أهوى. . وتهوى مشاعري

ترف بعينيَّ الحياةُ أمانيا

ربيعك يا أبن الشعر قد لاح فانطلق

ربيعاً. . . وفجّر بالنشيد دمائيا

ففي الروح موجٌ من نعيمٍ تفجرت

ينابيعه سعداً. وفاضت تهانيا

تطالعك الأيام. . . وهي بواسم

ويا طالما مرت عليك ماسيا

وترنو لدنياك البشائر حيَّة

وقد كنت في دنيا البشائر فانيا

وحولك جنّات فقم وانطلق بها

حياةً وإحساساً وشعراً مواتيا

لدنياك. يا روح الربيع مشاعري

تفيض قصيداً طاهراً اللحن ساميا

من الأمل البسام في جلوة المنى

يبدد يأسي. . . أو يقبل عثاريا

من الدوح فيناناً، من الزهر عاطراً

من النور فتّاناً يُضيء طلاميا

من الروضة الخضراء، من جنة الربى

من البلبل الشادي، من النهر جاريا

من الظل والأنوار والزهر والشذا

من الحب ، ، ، من روحي وطهر فؤاديا

أصوغ لك الأشعار يا جنة الدنا

تُضي زماني نشوةً ومكانيا!

إذا رفّت الأعطار حولي. . . تفتّحت=أزاهير نفسي واستنارت سمائيا

وأحسست أني صرتُ روحاً يقودهُ

ويلهمه الأسرار وحْياً نقائيا

أحس دبيب العطر في الزهر قبلما

تحس به الأزهار نشوان ساريا

ص: 42

وأسمع همس اللحن في كل نغمة

وأدركه نعسان في الطير خافيا!

كأن بنفس عالمٌ لا يحدُّه

كيانٌ ولا تحدُوه بالحسى ذانيا

أكاد أرى بالروح ما كان خافيا

وأدرك بالإلهام ما كان نائيا

تساميت عن دنيا الرغائب وانتهت

حياتي. لآفاق تسامت معانيا

وآمنت حتى خلت أني نبضة

بقلب الدنا قد باركتها صلاتيا

وأدركت أني والربيع يقودني

أسير بأعماق الحياتين هاديا!

فتلك حياةُ الناس تنساب خدعة

توارت ولكن أراها كما هيا

وتلك حياةُ الروح من طهر مهجتي

تُضيء ضميري عفةً وكيانيا

ينادمني منها سموٌّ ونشوةٌ

ويسكرها مني الحنين الذي بيا

حميمي لأعماق الحياةِ وسرها

وإني لأحياها هُدى وتساميا

فبارك حياتي يا ربيع وطف بها

على نبعك الفياض واسكب حياتيا

ربيع المنى، يا جنة الناي، يا صدى

لأنشودة الفردوس يهتز شاديا

ربيع المنى، يا جنة العمر، يا سناً

من الله، يا هدياً يُضيء الدواجيا

زمانك أضحى فرحة سرمدية

ودنياك أحيت يا ربيع البواليا

وسهلك غذته الحياة، وأرضعت

ورباك الصوادي فاستحالت مغانيا

أرى روحك النشوى تألق في الربى

ظلالا. . وأنواراً. . وخمراً. . وساقيا

فيا حانة الأزمان! لا تنسي أنني

وكأسي في كفي أتيتك ساعيا

فإن أنت لم تغمر حياتي نشوة

لديك. . . فلا ذنب على ولاليا

وحسبك أني جئتك اليوم شاديا

نعم واسقني واشرب وبارك شرابيا!

فلي فيك شعر طاهر الخمر خالد

أضاء زماني نشوةً ومكانيا

حسين محمود البشبيشي

ص: 43

‌من وراء المنظار

في حجرة البك الناظر

(البك الناظر) هي كلمة الإجلال التي يجري بها العرف على ألسنة الطلاب والموظفين والأساتذة في مدارسنا طول العام، وعلى ألسنة آباء التلاميذ وأولياء أمورهم في الأسبوع الأول من العام الدراسي فحسب. . .

وافتتحت المدارس أول الأسبوع الماضي وجلس البك الناظر في كل مدرسة على كرسيه المحترم أمام مكتبه الموقر وتأهب للقاء طالبي الأذن عليه وقد استجمع أكثر ما يطيق من الجد حتى لينقلب هذا الجد في كثير من الحالات عنفاً، وأقصى ما يستطيع من الحزم حتى ليستحيل هذا الحزم شططاً، ولا يسعك إلا أن تلتمس العذر لأكثرهم من فرط ما يتوسل المتوسلون ويلحف الملحفون. . .

ودخلت حجرة البك الناظر في مدرستنا وهو رجل طويل التجربة حازم عن أصالة تهز كريماً إذ تهزه، ولكنك على طيبة قلبه مهما بذلت من جهد ومهما اصطنعت من حيلة لا تستطيع أن تزحزحه قيد شعرة عن رأي اقتنع وبخاصة فيما يتصل بسلوك طلابه. . .

واستأذن والد أحد التلاميذ وهو موظف في أحد الدواوين وطرق الباب طرقة خفيفة ودخل يظهر التخشع والاحتشام وسلم وتلعثم ثم أخذ يتوسل إلى الناظر أن يقبل ابنه المفصول رحمة به؛ وقطع عليه الناظر حديث توسله بقوله: مثلت هذا الدور أول العام الماضي وقلت هذا الكلام وقبلت أبنك يومها على مضض فما كاد يدخل المدرسة حتى عاد إلى رذالته واستهتاره وطيشه، وكان هذا سبب رسوبه فكيف تعود إلى الرجاء، وكيف يتسنى لي أن أقبله؟

وقال الرجل: وما ذنبي وكيف تأخذني، بجريرة ابني؟ وتعجب البك الناظر وأوشك أن يغضب، ثم قال لم أفصلك ولكني فصلت ابنك، وما ذنب المدرسة وذنب أبناء الناس حتى أضع بينهم تلميذاً كهذا يفسد مدرسة وحده؟ وعاد الرجل إلى التوسل والتضرع والتخشع، واستنفذ عبارات الاسترحام من مثل قوله المسامح كريم. . . المعروف لن يضيع عند الله. . . اعمل معروف! وحياة أولادك. . . وهكذا حتى استحال الرجاء إلى نوع غريب من التنطع؛ وضاق صدر الناظر وضاق صدري؛ ولكني والله قد أخذتني الشفقة واحسبني لو

ص: 44

كنت البك الناظر ما كنت إلا مفسد المدرسة بنصف هذا التوسل بل بثلثه. . . ولكن ناظرنا لم يشأ أن يستجيب له وخرج الرجل وهو يكاد يبكي. . .

وما كدت أرثي لحال الناظر مما يلاقي من ضيق حتى طرق الباب قادم آخر ودخل فإذا برجل يدلف للسبعين فيما يبدو لعيني، حسن الهندام بادي الوجاهة يتوكأ على عصا ولكنه يخطو في نشاط وإن كان في مشيته عرج، وقال قبل أن يصل إلى المكتب: أعذرني يا سعادة البك إذ أدخل بعصاي فساقي مكسورة في حادث سيارة. . وجلس وهو يتنفس في عسر ويحاول أن يجد ريقاً في فمه ليبتلعه فلا يكاد إلا في مشقة؛ ولمحت في عينيه الألم الممض وتعرفت في وجهه حيرة ذي الكبرياء بين كبرياء نفسه وبين ما تفرضه ظروف الحياة؛ واختلجت شفتا الرجل كأنما يجد عسراً في إخراج الكلام، ثم تهد تنهدة طويلة، وقال وإن كلامه ليتقطع بتقطع نفسه: أنا والد فلان وما جئت لأدافع عنه فأبني بطال. . . بطال. . . وإنما أردت أن أسألكم وأنتم أطباء الأرواح ماذا أصنع لعلاجه. لقد ضربته الآن حتى بكيت وبكى، وليست لي حيلة فيه وهو ابن هذه المدرسة طيلة خمس سنوات. وتوقف الرجل ومد يداً معروقة ناحلة شاحبة وهو يحك سبابتها بوسطاها إذ يشير بهما، وبلع شيئاً من ريقه في عسر وتنهد يستجمع نفسه وقال أريد أن أقول شيئاً آخر وإن لم يكن في الموضوع. . ليس لي ولد غير هذا ولكن لي بنات ستاً. . . وهذا موضع أملي وأنا رجل أودع الدنيا وخدمت الأمة مهندساً عشرات السنين. . .

ونظرت فإذا الرجل يحبس دمعه جاهداً وإذ العرق يلمح في جبينه وقد أزاح بيده طربوشه عنه وصار يدق بكفه على قبضة عصاه دقات ويتأوه في صوت خافت، وتدلت شفته السفلى فكشفت عن ثناياه الذهبية التي لاءمت صفرتها صفرة خديه الذابلين الغائرين، والتفت إلى البك الناظر فإذا وجهه رثاء كله لحال الرجل حتى لقد ظننته قبل ابنه؛ ولكنه أشار إلي وقال للرجل: هذا أستاذه فاسمع رأيه فيه. . . وحرت والله ماذا أصنع وما أستطيع الكذب. . . وفطن الرجل إلى حيرتي وإنه لذو فطنة وكياسة فقال أنا أعرف كل شيء وما جئت مدافعاً كما ذكرت وإنما عدمت الحيلة فأعينوني على أمري. وكدت لعمر الله أبكي وأعود فأقول لو أنني البك الناظر لغفرت لهذا التلميذ ذنوبه الماضية وذنوب عام قادم معها؛ أقول ذلك على علم بأنه خروج على ما يسمونه قواعد التربية، ولكن ما الحيلة

ص: 45

وأنا رجل ضعيف، وأني أحذر وزارة المعارف أن تجعلني ناظراً أبداً وإلا أفسدت لها الدنيا. . . وإن كنت لأزعم أن ما أصنعه من مغفرة إنما هو إصلاح وأن خفي ذلك على فحول التربية. . .

وقال البك الناظر يوجه الكلام إلى رجل وهو يدق مقبض عصاه ويتأوه، لو كان الأمر أمر ابنك وحده لقبلته من اجل خاطرك ولكني أبعدت سبعة غيره. وارتاح الرجل لهذه الكلمة وقال: هذا كلام طيب أشكرك عليه وهو من كرم خلقك، ثم نهض يبتلع ريقه في عسر ويستجمع نفسه المتقطع وسلم اللم والحسرة في عينيه وملامحه، وخرج من الحجرة يتكئ على عصاه ويكرر عبارات الشكر والتحية. . .

وبعد، أفلم يأن لمدارسنا أن تغير أسلوبها فلا تجعل المسألة يوماً يبدأ وينتهي على أية صورة وبرامج تقطع تأهباً لامتحانات فاسدة لا تدل على شيء، ثم لا يبقى بعد ذلك التفات إلى خلق ولا عناية بتربية ولا رعاية لمستقبل أمة؟ إن على مدارسنا التبعة قبل الآباء في فساد من تطرد من الفاسدين، وإن علينا أن نصلحهم أجمعين وإلا فبأي وجه نكون من المربين.

الخفيف

ص: 46

‌الأدب والفن في أسبوع

الصورة الجديدة للأدب:

هذا عنوان المحاضرة التي ألقاها الدكتور طه حسين بك مساء الجمعة برابطة خريجي جامعات فرنسا وسويسرا وبلجيكا. وقد بدأ الدكتور بأن للأديب صوراً متعددة لا صورة واحدة، وأن المقصود بهذه المحاضرة على وجه الدقة هو التصور الجديد للأدب، وهو يختلف اشد الاختلاف بحسب العصور والبيئات. فقد كنا نقول منذ زمن قريب: الأدب مرآة الحياة، والأديب صورة عصره. فنزهي بذلك ونعده غاية ما يصل إليه الأديب، ولكننا الآن لا نطمئن إليه ولا ترضى به، لا نرضي بأن يكون الأدب صورة فحسب بل نطالبه إلى ذلك بشيء آخر، ثم قال إن الصلة بين الأديب وقرائه مبنية على حرية التعبير عما يريد ليؤثر بهذه الحرية في قارئه. وإننا لنسأل الأديب: لم تكتب؟ فيجيب في تواضع: أكتب لنفسي، أو يقول في كبرياء وزهو: أكتب للأجيال القادمة. وربما قال: أكتب للمثقفين، وهو على كل حال إنما يكتب ليقرأ وليجد صداه. واستعرض الدكتور العلاقة بين الأديب ومستهلكي أدبه، من العصور القديمة إلى هذا العصر فبين تطوراتها المتشابهة في الأدب الفرنسي والأدب العربي من حيث أن الأديب كان في كل منهما يخاطب طبقة خاصة محدودة أخذت تتسع وتكثر على ممر الأزمان، وإن كانت قد وقفت في البيئة العربية عندما أغار عليها المغيرون من خارجها، وظلت في جمودها إلى العصر الحديث، وبين أن الأدب انتقل عند بزوغ شمس الإسلام ونزول القرآن، وفي الثورة الفرنسية، من مجرد تصويره للحياة إلى الجمع بين هذا التصوير وتوجيه الناس إلى مثل عليا.

وانتهى الدكتور من كل ذلك إلى أن الأديب في هذا العصر وقد كثر قراؤه بانتشار التعليم، لا ينبغي له أن يقتصر على الحرية في التعبير والتصوير، بل عليه أن يشعر إلى جانبها بالتبعات والواجبات، فهو يكتب لجميع الناس وفيهم من يفهم ما يريد، ومن يفهم بعض ما يريد، ومن يفهم غير ما يريد، فيجب عليه أن يسهل أدبه وييسره ليكون واضحاً مفهوماً للجميع، والمجتمع الحديث لا يقنع منه أن يرى نفسه في مرآته بل يتطلب منه أن ينزل من برجه العاجي ليعيش مع الناس في بؤسهم ونعيمهم فيصوره البؤس لتغييره والخلاص منه، والنعيم للوصول إلى أصفى منه.

ص: 47

فالصورة أو التصور الجديد للأدب أن يحيا الأديب في البيئة ويشارك الناس أحزانهم ومسراتهم، لا ليصور ذلك فحسب، بل ليضيف إلى التصوير التغيير والإصلاح للوصول بالجماهير إلى مستوى فيه السعادة والنعمة والخير.

ثم قال الدكتور: هذا هو سبيل الأديب إلى أن يكون نافعاً وله قراء. أما الأديب الذي ينظر في النجوم ويشاهد أشعة القمر في انعكاسها على مختلف الأشياء ولا يغادر برجه العاجي فلن يقرأه إلا المثقفون القليلون، وقد يسرون منه ويعجبون به، ولكنه ليس الأديب الذي يشعر إلى الحرية بالتبعات والواجبات، وليس الأديب الذي يقبل عليه القراء فيجدون أنفسهم وأمانيهم ومطامحهم فيما يكتبه.

عود إلى قريب:

عندما قال الدكتور طه إننا لا نكتفي من الأديب أن يكون مرآة عصره - داخلني شيء من الزهو الذي قال إنه يداخل الأدباء، وقلت في نفسي: أيكون هذا الرجل الخطير قد قرأ ما كتبته فأثار في خاطره هذا الذي قال؟

والذي كتبته كان تعليقاً على ما أفضي به إلى مجلة (الكتاب) من الرأي في شوقي وحافظ، إذ قال بأنهما لم يبلغا من الشعر ما كان يحب لهما وللشعر العربي الحديث، ومما علل به رأيه قوله:(فلم يكن هذان الشاعران إلا مرآتين صادقتين للعصر الذي عاشا فيه).

وكتبت تعليقاً على هذا: (ويحضرني - لذلك - رأي للدكتور طه حسين في كتابه (حديث الأربعاء) مؤداه أننا لا نعد الشاعر شاعراً إلا لأنه يعبر عن بيئته ويصور عصره فيحسن التعبير والتصوير. ورأي الدكتور طه في شوقي وافظ أنهما لم يبلغا من الشعر ما يحب فأي الرأيين ما زال يرى؟).

وسواء أكان ما قاله في المحاضرة صدى ما أنفذته في الرسالة منذ أكثر من شهر أم لم يكن، فإنني أعتبره جواباً شافياً لذلك التساؤل ولا أسوق هذا إشباعاً لما قلت إنه داخلني من الزهو، وإنما أذكره لإزالة الغبار الذي علق برأي الدكتور طه في شوقي وحافظ من جراء ذلك التعليق.

فننا وشعورنا وبلادنا:

ص: 48

كتب بعض الكاتبين بجريدة الأهرام في تجميل القاهرة، فأثاروا في هذا الموضوع مسألة وضع التماثيل في الميادين والحدائق لتجميلها، وقالوا كما قلنا في عدد مضى من الرسالة بأن تمثال نهضة مصر لا قيمة له ولا داعي لاستمراره في ميدان المحطة. وقد اقترح أحدهم وضع التماثيل الفرعونية الفائضة في الميادين لجذب السائحين إليها. . فرد عليه الأستاذ عبد القادر مختار المثال المعروف بأنه يجب أن تكون لنا نهضة فنية تساير ظروفنا الحالية، فلا نكتفي بالتغني بالقديم واللجوء إليه كلما فكرنا في القيام بشيء، وقال:(ولهذا يجب أن نشجع الفنانين المصريين على الإنتاج ومسايرة ظروف البلاد وتطورها، فنضع تماثيلهم التي ترمز للنواحي الوطنية وتعالج شؤوننا القومية في الميادين والحدائق العامة حتى يتذوق الجمهور ما فيها من الفن وتكون وسيلة لهديه وتثقيفه وترقية إحساسه).

وإني أضيف إلى عدم الاكتفاء بالتغني بالقديم واللجوء إليه كما قال الأستاذ المثال - أن هذا القديم لا يثير فينا الشعور المنشود لنهضتنا ومرامينا القومية، وقد راقني من الأستاذ بيان الغرض من تجميل الميادين بالتماثيل العصرية بأنه تذوق الجمهور للفن وهديه. . . الخ، فلم ينزلق إلى ما انزلق إليه الآخرون من الحرص على جذب الأجانب وخشية وقوع أنظارهم على مقابحنا، فإني أفهم أن تجمل البلاد لأهلها متعرض عليهم بدائع الفنون لتربية الذوق الفني عندهم ولتحفزهم إلى المثل العليا، وهذه الأغراض نفسها ترفعنا في عين الأجانب وترغمهم على احترامنا. فلنتجه نحو أنفسنا ونشعر بشعورنا ونجمل بلادنا لنا، وحسبنا ما بذلناه عبثاً في مراعاة أمزجة (الخواجات) والتزويق لهم. . .

مهرجان الشباب الأدبي:

رأت المراقبة العامة للثقافة في وزارة المعرف أن تمكن شباب الجيل من إظهار مواهبه الأدبية والفنية، فألفت لجنة من الأساتذة عبد الرحمن كامل وعبد الله حبيب ومفيد الشوباشي والدكتور إبراهيم جمعة، لتنظيم مهرجان أدبي فني يتبارى فيه الشباب الذين لم يتجاوزوا الخامسة والثلاثين، في الشعر والزجل، وفي الموسيقى والتصوير والنحت. وسيكون المهرجان الأول لسنة 1948 في أوائل السنة، ولم يعين موعده بعد، على أن يكون بعد ذلك كل عام.

ص: 49

وقد قصدت وزارة المعارف بهذه المباريات أن تحفز همة الشباب نحو الإجادة والتفوق، وأن تتيح الفرصة لإظهار مواهبهم الأدبية والفنية.

ولا شك أن الشباب سيجدون في هذا المهرجان منفذاً لإبرار كفاياتهم الدبية التي يتهمون شيوخ الأدب بأنهم يحولون دون ظهورها.

الشذوذ والتطرف:

كم هو ظريف هذا الذي يكتب إلي بتوقيع (البسام) فلا يكتفي بمعاكستي في الاتجاه الفكري، بل يعاكسني أيضاً في الاسم، وإن هذا الصنيع ليخرجني عما يدل عليه أسمي (العباس) من العبوس، فأبسم. . كأنني أنا - لا هو - (البسام).

قال البسام في رسالته: (قرأت كلمتك (الأديب بين العزوبة والزواج) ولا أريد أن ادخل في هذا الموضوع، وإنما استرعي انتباهي قولك في الرد على الأستاذ سلامة موسى فيما قال به من الزواج يمنع الأديب أن يشذ أو يتطرف: (وهذا كله مع وقوفنا معه ونظرنا إلى الموضوع من الزاوية التي نظر إليه منها وهي التطرف في مهاجمة المجتمع ونظمه.

ولم يقل أحد بأن الأديب لا يكون فذاً مبتدعاً إلا إذا شذ عن المجتمع وأصطدم به) فإني أراك بهذا غافلاً أو متغافلاً عن حقيقة بديهية، وهي أن في المجتمع عادات سخيفة ومعتقدات باطلة وأن الأديب الحر هو الذي يهاجم هذه العادات والمعتقدات فلا بد من الاصطدام).

هون عليك يا صديقي البسام. إني موافقك على أن في المجتمع عادات سخيفة ومعتقدات باطلة، وعلى أن الأديب الحر هو الذي يهاجم هذه العادات والمعتقدات، أما الذي نختلف فيه فهو أنه لا بد من الاصطدام، إن الأديب الفذ المبتدع هو الذي يمثل للمجتمع سخيف عاداته وباطل معتقداته تمثيلاً يجعله يلمس هذا السخف والبطلان، عدته في ذلك فنه واقتداره على التمثيل والتصوير، فيشعر المجتمع بنقصه ويتجه نحو الكمال، ولا صدام.

أما من يصادم المجتمع فهو الذي تعوزه الكفاية الفنية فليجئ إلى مواجهته بالكلام المجرد، وقد يتخذ له قرنين يلوح بهما، وكثيراً ما يتعمد المصادم ذو القرنين مخالفة الناس ليقول لهم: هاأنذا. . .

الأناشيد:

ص: 50

منذ كانت قضية مصر تعرض على مجلس الأمن وكانت إذاعتنا تذيع الأنباء وبعض ما ألقي من الخطب، وكانت في فترات انتظار تجمع الأنباء تذيع ما تعودت إذاعته من الغاني الهزيلة التي تستعطف قلب الحبيب الهاجر. الخ، وانبرت الأقلام تنبه على هذه الفوضى وتشير بأن تذاع بدل ذلك أناشيد حماسية تغذي الوعي القومي والشعور المتوثب - منذ ذلك الحين تنبهت الأذهان إلى الفراغ الهائل الذي يحتاج إلى أن يشغل بالأناشيد، لأن الذي حدث أن الإذاعة أخرجت ما لديها من الأناشيد الوطنية وأطلقتها على الآذان التي تحملت شدة وقعها وأبت أن تنفذها إلى القلوب لخلوها مما يصلح وقوداً لشرر الوطنية فيها، فهذه أناشيد يتطرب بها بعض المغنين في لين وتكسر. .

وتلك أناشيد تنشدها جماعات من الصغار أو الكبار بطريقة آلية تخرج من حناجرهم ميتة رغم إعلاء الصوت بها، ومن هذه أناشيد وصفوها بأنها قومية وضعت بعد معاهدة سنة 936 وقت أن قبل ليس في الإمكان أبدع مما كان، ولا تزال تلك هي أناشيدها القومية لأننا لم نستعض عنها بجديد ولم نخل (طرفها) بعد. . . وكل هذه الأناشيد تسترك في أنها لا تؤدي شيئاً مما تجيش به الأفئدة في هذه الظروف وإنما هي كلام منظوم مؤلف من عبارات عامة و (أكلاشيهات) مرسومة فنحن أسد العرين وحماة الحمى وأجدادنا مدوا أيديهم إلى الشمس وامسكوا بقرصها الذهبي. الخ والإلقاء فهما منسجمان مع التأليف. . نغمات عالية وعقائر مرتفعة، كأن المشاعر الوطنية في مكان سحيق فهم يطلقون أقوى الحناجر لتبلغها الصيحات. . وأكبر دليل على أن تلك الأناشيد لا تنبض بحياة أننا لا نسمع أحداً يرددها طائعاً مختاراً. . ومن المخجل أنك لا تجد نشيداً واحداً يجري على الألسنة كما تجري الغاني المبتذلة من مثل (حموده ياني!)

وليست الأناشيد في مدارسنا بأحسن حالاً، فهي على ذلك الغرار بدليل أن التلميذ لا يرددها في خارج المدرسة، ومن أسباب قصورها أن المشرفين على الأناشيد في وزارة المعارف من ذوي الفن الموسيقي لهم خبرتهم في الإيقاع لا في التأليف لأنهم ليسوا من أهل الأدب، وكثيراً ما يختارون ما يسهل تلحينه أو يوافق قوالب عندهم.

وقد تنبهت الوزارة لذلك فألفت لجنة من الأساتذة عبد الحميد السيد ومحمود غنيم ومحمد الأسمر منذ نحو ستة أشهر لوضع نظام لمسابقة أناشيد مدرسية. وأخيراً أنمت اللجنة

ص: 51

مهمتها فاختارت عدداً من الأناشيد التي قدمت إليها، والمهم في أمر هذه اللجنة أنها كتبت تقريراً عن مهمتها أشارت فيه إلى أن المسابقات ليست هي أضمن الطرق للحصول على الإنتاج الجيد، لأن التجارب دلت على أن الشعراء المعتدين بأنفسهم يرغبون عن هذه المسابقة وقد اضطرت اللجنة فيما اختارته من الأناشيد إلى الإغضاء عن عيوب الصالح منها وإصلاح هذه العيوب، وأشارت باتباع طريقة أخرى هي أن يختار بعض الأشخاص المعترف لهم بالكفاية ويكلفون بالإنتاج. ولا شك أننا الآن في حاجة إلى نشيد قومي له خواص الكائن الحي فيردده الجميع، فما السبيلإليه؟ أرى أن يختار عدد من شعرائنا الممتازين الذين يبدون استعداداً، ويكلف كل منهم بوضع نشيد يؤجر عليه، وتؤلف لجنة من ذوي الكفايات الأدبية والفنية لاختيار أحسنها. ولعل لدى قراء الرسالة من المقترحات ما ينفع في هذه المسألة فلا يضنون به.

(العباس)

ص: 52

‌البريد الدبي

معهد الجزيرة لعربية:

لا يزال الذين يغارون على مستقبل الأدب العربي بجامعة فؤاد يبدون

الأسف على ما أشيع من نقل الدكتور عبد الوهاب عزام بك من عمادة

كلية الآداب إلى عمادة المفوضية المصرية في المملكة السعودية بعد أن

خلا في الجامعة مكانا الأستاذين طه حسين بك وأحمد أمين بك،

ويقولون أن نقل الأستاذ العميد من السلك الأدبي إلى السلك السياسي

خسارة لدراسة الأدب وقيادته لا تعوض.

ولكن الذين يعرفون أن آل عزام من أولي العزم، وأن عزمهم لا يكاد يعدو الإسلام والعروبة، يعتقدون أنهم في كل وجهة وفي كل عمل إنما يجاهدون في سبيل الدين والأدب، ويذكرون على سبيل المثال أن من رأى الدكتور عزام أن ينشأ في الجزيرة العربية معهد لدراستها من النواحي التاريخية والأدبية والجغرافية والجيولوجية تشرف عليه الحكومة السعودية ويتولى العمل فيه بعثة من جامعة فؤاد الأول أو لجنة من جامعة الدول العربية يكون من أعضائها الجغرافي والمهندس والأديب والطبيب والنباتي والمؤرخ، فيزورون معالمها، ويرودون مجاهلها، ويضعون في ذلك الكتب المطولة والخرائط المفصلة التي تتمم ما بدأ به الأقدمون، وتصحح ما أخطأ فيه المستشرقون، وتعين المواضع التي ذكرت في القرآن الكريم ووردت في السيرة النبوية والقصص والأشعار والأمثال، وتصف حيوان الجزيرة ونباتها ومعادنها وأحجارها على الأساليب العلمية الحديثة؛ فإن الجزيرة مهد العرب ومنشأ تاريخهم ولغتهم، ولا يزال الأدب العربي خارج الجزيرة يحمل ذكرى هذا الإقليم العظيم في الألفاظ والأخيلة والصور. فليس مما يزكو بالدول العربية اليوم أن تظل واقفة في علمها بالجزيرة عند ما كتب الهمداني في القرن الرابع، أو تصبح عالة على ما يكتب الأوربيون في العصر الحاضر. فإذا كان نقل الدكتور عزام من الأدب إلى السياسة، ومن مصر إلى الحجاز، سبيلاً إلى تنفيذ هذا الرأي، وتحقيق هذا الغرض، فإن العوض يكون أجل والمكسب يكون أعظم.

ص: 53

الفضاء والعدم:

اطلعت على ما كتبه الأستاذ نقولا الحداد في العدد 748 من الرسالة الغراء عن الفضاء والعدم. وفيه يقول إن هذا الحيز الذي نسميه فضاء لا بد أن يكون مشغولاً بمادة حتماً. وأنا أقول أنه لا يجوز لنا أن نبني أقوالنا في علم الطبيعة على الحتم هذا، فأن أجازه حضرة الكاتب فيجوز لي ولأي شخص آخر أن يقول إن قوانين الجاذبية الأرضية التي صاغها إيزاك نيوتن ناقصة حتماً ولا يجوز الأخذ بها كقوانين ثابتة في علم الطبيعة، إذ ربما كان هناك مكان على سطح الأرض تسقط فيه الأثقال من أسفل إلى أعلى، وليس في وسع الأستاذ نقولا أو أي عالم من علماء الطبيعة أن يقول إن مكاناً كهذا لا وجود له في مكان ما على سطح الأرض ما دام في الأرض بقاع لم يردها رائد للتثبيت من أن سقوط الأجسام يجري فيها طبق العادة ووفقاً لقوانين نيوتن.

فإذا وجد ذلك المكان أنهدم وانهار أثبت وارسخ ما قام عليه بناء العلم من قوانين.

ونسى الأستاذ أو أغفل ما قاله أنيشتاين في نظريته النسبية وبما أجرى الكثير من علماء الطبيعة من تجارب علمية تنكر ما يسمى بالأثير.

أما أنيشتاين فقد قال إن السرعة النسبية بين جسمين ماديين قد يكون لها أثر محسوس في الظواهر المشاهدة، أما السرعة المطلقة لجسم في الأثير الراكد فلا أثر لها في المشاهدات ولا وسيلة لقياسها، وإذن فلا يجوز لنا أن نفترض وجود مكان مطلق إذا كانت كل الوسائل التي نملكها عاجزة عن قياس سرعتنا في هذا المكان. ولا معنى للقول بوجود أثير راكد إذا كنا لا نستطيع تحديد مقدار حركتنا في هذا الأثير ولا اتجاهها. وعليه يجب أن نعدل عن فرض وجود هذا الأثير المكاني وأن تقول بنسبية المكان.

وثبوت سرعة الضوء حسب (تجربة ميكلش ومورلي) مبدأ أساس في نظرية النسبية وهو قانون من قوانين الطبيعة وهو طبقاً لمبدأ النسبية مستقل عن الزمان وعن المكان وعن الحركة؛ وعلى ذلك فسرعة الضوء يجب أن تكون مستقلة عنها جميعاً.

أحمد محمد خلف

ضدان:

ص: 54

الضدان في قانون المنطق يستحيل عليهما الاجتماع، ويمكن لهما الارتفاع ولكنهما في منطق السياسة، يمكن اجتماعهما، ويستحيل ارتفاعهما وهو منطق عجيب غريب. ومن ثم فهو مريب!

ذلك أن الروس والأمريكان، لأول مرة يلتقيان. فينفقان، وإن كان في تلاقيهما معنى الفراق، وفي فراقهما معنى التلاق، فقد اجتمعا. ويا سوء ما اجتمعا، على مشكلة فلسطين بالتقسيم، وإن اختلفت مصلحتهما في الصميم.

فأمريكا تريد أن تحفظ لنفسها بالوشل، عن طريق الدولة اليهودية المنتظرة! وروسيا تريد ان تقيم الدليل على إنجلترا بالفشل، عن طريق الحرب الأهلية المستعمرة. فيا لها من لعبة سياسية، لا شرقية ولا غربية. قد انكشف قناعها، وبطل اجتماعها وارتفاعها أيها العرب، الجهاد بالدماء. والذماء، فانه ليوشك ان يرد المنطق المعكوس، قوة الواقع الملموس.

أسنا

بكير أبو رجيلة

بيت في قصيدة:

في عدد (الهلال) الصادر في نوفمبر الجاري قصيدة للشاعر الكبير الأستاذ على الجارم بك بعنوان (صحوة مصر) استوقفني منها هذا البيت:

وإذا ما الأقوياء انتصروا

فعلى الدنيا وأهليها العفاء!

إذ كيف لا ينتصر الأقوياء المتراصون كالبنيان والله سبحانه وتعالى في كتابة المنزل يقول (وأعدوا لهم ما استطعتم من (قوة) ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم).

إلا أن يكون المعنى بالأقوياء (الظالمين) كالحلاف.

(الزيتون)

عدنان

خضراء الدمن:

ص: 55

ذكرى في عدد الرسالة الخيرة (إياكم وخضراء الدمن) على أنه حديث نبوي، وأنه من جوامع الكلم.

وقد بسط علماء الجرح والتعديل والقول في هذا الخبر فرأوا أنه إلى الوضع أقرب منه إلى الصحة، وقال العلامة المحدث العجلوني في كتاب (كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما أشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس): قال الدارقطني: لا يصح من وجه.

أحمد مصطفى عليبة

رسالة (الفن القصصي في القرآن) والأزهر:

أصدر العلماء المدرسون في كليات الأزهر وفي مقدمتهم الشيخ الشربيني من هيئة كبار العلماء، والشيخ عبد الله عامر وكيل كلية الشريعة، والشيخ عبد العزيز خطاب وكيل كلية أصول الدين، والشيخ محمد أبو النجا وكيل كلية اللغة العربية، الفتوى الشرعية التالية:

(اطلعنا على الاستفتاء المقدم من فضيلة الشيخ عبد الفتاح بدوي المدرس بكلية اللغة العربية عن النصوص الواردة في رسالة الفن القصصي في القرآن المقدمة من محمد أحمد أفندي خلف الله العميد بكلية الآداب، ونفتي بأن هذه النصوص مكفرة يخرج بها صاحبها من دين الإسلام، وإنه متى ثبتت هذه النصوص، فإن مؤلفها كافر، والمشرف على تأليفها المقر لها كافر، ويجب أن لا يتصل أحد منهما بدراسة القرآن الكريم في الجامعة أو سواها، ويجب أن يعاقبا بما تقضي به قوانين المملكة المصرية، لأن عملهما هذا خروج على الإسلام دين الدولة). وقد أرسلت هذه الفتوى إلى المراجع العليا. وقد وجه النائب المحترم عبد العزيز الصوفاني بك سؤالاً إلى معالي وزير المعارف بشأن هذه الرسالة، فطلب معاليه تأجيل الإجابة، وطلب الرسالة من كلية الآداب، وألف لجنة برياسته تضم بعض كبار العلماء وأساتذة الجامعة لدراستها من الناحية الدينية.

ص: 56

‌الكتب

الكتب المختارة:

1 -

تأريخ المساجد الأثرية التي صلى بها جلالة الملك فاروق

فريضة الجمعة

تأليف الأستاذ حسن عبد الوهاب

يجود الدهر أحايين بملوك عظام، هم قلائد حسان، يتحلى بهم الزمان. ينسب العصر كله إليهم، ويسمى بهم. وعلى يدهم يبعث العلم، ويزهر الشعر، ويزدهر الفن، فإذا نهضت فرنسة بفضل لويس الرابع عشر، ورفت الحضارة في بغداد أيام الرشيد والمأمون وزهت دمشق أيام الوليد، فإنما تفخر وتنهض اليوم مصر في عهد الملك فاروق.

هذا العصر الذي يرعاه الملك اليوم، عصر نهضة قوية رائعة، بدأ بها محمد عل الكبير، وساهم في تقويتها إسماعيل وفؤاد، واليوم يدفع بها إلى الأمام جلالة الملك فاروق.

إن لديك أمثلة كثيرة عن تشجيع الملك العلم، وأخذه بيد العلماء والأدباء، والفنانين، والكتاب الذب أحدثك اليوم عنه، هو فضل للملك العظيم.

فلقد (استن جلالته سنة حسنة بأدائه فريضة الجمعة في مساجد متفرقة من أنحاء عاصمة ملكه السعيد).

(وخص جلالته المساجد الثرية بعنايته، فأولاها النصيب الأوفر من اختياره. وكان هذا أكبر الأسباب لإصلاحها وإعدادها، إذ تفضل - رعاه الله - فأمر بإصلاح كثير منها).

وقد كان الأستاذ العالم حسن عبد الوهاب، مفتش الآثار العربية في القاهرة، يكتب نبذة تاريخية عن هذه المساجد التي يصلي جلالة الملك بها فريضة الجمعة، ثم رأى جمعها، وشمله جلالة الملك برعايته، فأمر بطبعها على نفقة جلالته.

فهذه الرعاية الملكية، لرجل عالم، عصامي، بذ أقرانه بجده وتنقيره واطلاعه؛ لآية من آيات عظمة المليك، ودليل على روح جلالته المتوثبة للعلم المحبة للعلماء. وتشجيعه مساهمته في هذه النهضة التي يعود إليه الفضل الكبير منها

والكتاب في جزأين. في الأول (مجموعة من المساجد حوت أهمها أكبرها. جمعت بين

ص: 57

المسجد الجامع، والمدرسة، والخانقاه، وتنوعت فيها العمارة الإسلامية في عصورها المختلفة بمصر تنوعاً يساعد الباحث على الوقوف على تطور تصميماتها وزخارفها، وتفاصيلها العمارية).

وقد مهد الأستاذ المؤلف كتابه تمهيداً حسناً موفقاً عن نشأة المساجد، وعن أثر الدول الإسلامية التي حكمت مصر في العمارة الإسلامية.

وقد اتبع الأستاذ طريقة جيدة في كلامه على هذه المدارس أو المساجد، فهو يترجم بادئ بدء للباني، وبدلنا على عصره وشأنه. ثم يتكلم على تأريخ المدرسة أو المسجد، فيصفه وصفاً مستمداً من المصادر التاريخية القديمة الموثوقة، ويضيف إليه الوصف العلمي الواقعي، ويعرض عليك التصميم ويحدثك عن الإصلاحات المختلفة التي طرأت على الأثر التاريخي ويستشهد بالكتابات القديمة الموجودة فيه، ويدلك على نواحي الجمال والروعة في بنائه أو عمارته أو ريازته أو زخارفه ونقوشه، وهو لا يغفل عن إيراد أقوال كبار الآثاريين الفرنسيين أو الإنجليز في البناء الذي يتكلم عليه، وعن مناقشتها ببصيرة، إذا كان مجال المناقشة ذا سعة.

أما الجزء الثاني فهو مجموعة صور فوتوغرافية توضح المساجد التي تناولها المؤلف بالبحث في الجزء الأول. وهي مجموعة ذات شأن لأنك تجد فيها (نماذج مختلفة للواجهات والأبواب والقباب والمنارات والمصاريع الخشبية المطعمة بالسن والمكسوة بالنحاس، والزخارف المنقوشة على السن والخشب والرخام والحجر والجص كما أنك تجد فيها أنموذجات من المنابر والمحاريب والوزرات والأرضياب الرخامية، والشبابيك النحاسية، والجصية، والكتابات الكوفية، والثريات مما يساعد الباحث والمهندس على تتبع تتطور العمارة وتدرجها في عصورها المختلفة).

وفي هذا الجزء مائتان وخمس وسبعون صورة.

وقد أردف المؤلف بحثه بذكر المراجع العربية والمراجع الفرنجية التي اعتمد عليها. وجعل لكتابه فهارس علمية مختلفة، كفهرس الموضوعات، وفهرس الأعلام، وفهرس الأماكن.

وقد عنى بإخراج الكتاب عناية فائقة من حيث إخراجه الفني وطبعه وورقه.

إن هذا الكتاب لجدير بأن يقرأ ويقتنى، وجدير بأن يرجع إليه في هذا الموضوع لأن فيه

ص: 58

زبدة مطالعات، وخبرة أعوام طوال.

وإن من واجبنا، نحن الذين نهتم بالأمور الآثارية، أن نهنئ المؤلف على كتابه، كما هنأناه على نجاح المعرض الذي أقامه في مؤتمر الآثار بدمشق، وأن ترفع آيات الشكر إلى جلالة الملك فاروق لرعايته العلم، وتشجيعه العلماء، وأمره أن يطبع هذا الكتاب القيم على نفقة جلالته.

2 -

بيان عن مشروع ري حمص - حماة

بمناسبة انعقاد المؤتمر الهندسي الثالث، الذي انعقد في دمشق بين الثامن والحادي عشر من أيلول الفائت أصدرت مصلحة الري للمنطقة الجنوبية بدمشق بياناً مفيداً عن مشروع ري حمص - حماة. بينت فيه شأن نهر العاصي وبحيرة حمص، وتأثير الراح في البحيرة، ونظامها، والسد القديم الذي كان فيها، والسد القديم الممتد على طول 1120 متراً الذي صنع لها. ثم تكلمت على الأقنية التي تخرج منها لتروي الأراضي الواسعة الممتدة بين حمص وحماة والتي لا يمر العاصي منها.

والبيان مفيد جيد. وهو يوضح أشياء كثيرة عن هذا المشروع المفيد الجليل. وهو في 16 صفحة مسبوق بمخطط للأقنية التي تروي المناطق، ومردف بست صور من صور تلك الأقنية.

فنشكر لمن أصدر هذه النشرة جهده.

(دمشق)

صلاح الدين المنجد

أطياف

تأليف الأستاذ يوسف السباعي

الولد سر أبيه كما يقولون، وإن هذه الحقيقة لتبدو واضحة الأثر في هذا التوافق الكبير بين (الابن) الأستاذ يوسف السباعي و (الأب) الكاتب الكبير الأستاذ محمد السباعي رحمة الله عليه.

ص: 59

كان السباعي الكبير فياض العاطفة، مستوعب النظرة، كثير المداخل، يحاول جاهداً أن يعطيك كل ما في نفسه مفصلاً وهذه هي المظاهر والسمات التي تتجلى في قصص (الابن) ويلمسها القارئ في هذه المجموعة التي أخرجها باسم (أطياف).

وكان السباعي الكبير ينظر إلى الحياة على أنها لعبة ضخمة، ويرى الناس ممثلين، كل منهم يؤدي دوره على المسرح الفسيح ثم يتوارى خلف الستار، وهذه هي أيضاً نظرة (الابن) إلى الحياة والى الناس، وقد صدر مجموعته القصصية بتلك الكلمة المأثورة عن والده (نحن أطياف بملهى لاعب)، وسمى المجموعة باسم (أطياف) ومن العجيب أنك ترى هذه الفكرة تسيطر عليه حتى في تناول القصة ومعالجتها، فهو يقف دائماً وراء أشخاصه ثم يحركهم كما يبدو له، فمرة يدفعهم إلى الأمام، ومرة إلى الخلف وثالثة يلقي بهم في زحمة الحياة وهو واقف كأنه يتلهى بالتفرج عليهم.

وأنت تقرأ في هذه المجموعة قصة جرت على شاطئ الإسكندرية وثانية حدثت في صميم الريف، وثالثة وقعت في محيط أسرة من الأسرة العريقة المحافظة، ألوان مختلفة، وبيئات متباينة، ولكنك تجد صاحبنا في كل بيئة كأنه يقيم فيها، ويقف على أسرارها ومظاهرها، ثم هو لا يكرر نفسه أبداً، كما يصنع بعض الشبان الذين يعالجون كتابة القصة في هذه الأيام، إذ تجد الواحد منهم في كل ما يكتب يسير في طريق واحد لا يتعداه ويقف عند نمط من الوقائع كأنه لا يعرف سواه. . .

ولكن هناك ناحية يلمس فيها القارئ هوة بعيدة بين (الأب) و (الابن) فقد كان السباعي الكبير في أسلوبه قوة وكان يغضب ويثور إذ يقع على خطأ عربي لأحد الكتاب، فيا ترى ماذا كان يصنع لو انه رأى في أسلوب (الابن) ما فيه من مفارقات؟.

محمد فهمي عبد اللطيف

ص: 60