المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 753 - بتاريخ: 08 - 12 - 1947 - مجلة الرسالة - جـ ٧٥٣

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 753

- بتاريخ: 08 - 12 - 1947

ص: -1

‌كتابان قيمان

للأستاذ عباس محمود العقاد

الأستاذان علي أدهم وعبد الرحمن صدقي أديبان من جيل واحد، أحدث سناً من جيل أدباء الشيوخ، وأكبر سناً من جيل الأدباء الناشئين.

فهما قد نشا في إبان النهضة الأدبية الحديثة التي قامت على أسسها الطبيعية وأسبابها المعقولة، وهي الأسباب التي أشار إليها الأستاذ علي أدهم في مقدمة كتابه (ألوان من أدب الغرب) فقال إنها تتلخص على الأغلب الأعم في تلاقي ثقافتين. . . (فالأدب اليوناني القديم لم ينهض إلا بعد احتكاكه بثقافة قدماء المصريين، والأدب الروماني لم يستكمل نضجه إلا بعد احتكاكه بالأدب اليوناني، والأدب العربي نهض نهضته المعروفة وتعددت مناحيه واتسعت آفاقه بعد احتكاكه بالأدب الفارسي والثقافة اليونانية والرومانية، والأدب المصري الحديث يسير الآن في طريق النهوض والتسامي باحتكاكه بالثقافة الغربية خاصة وسائر الثقافات العالمية عامة).

ومن مزايا هذه النهضة التي نشأ الأديبان معاً في أبانها أنها جمعت ذخيرتها من احتكاك الثقافات، فكان لأدبائها زاد من الأدب الأوروبي عامة والأدب الإنجليزي خاصة، فاستفادوا صحة الأسلوب وجودة اللغة، واستفادوا سعة الموضوعات ودقة الأداء، وسلموا من اللوثة الأخيرة الهوجاء التي أعقبت جيلهم أو اندفعت في طريق هي أقرب إلى التفانين أو (التقاليع) كما نقول في لهجتنا البلدية، مع قلة الزاد من اللغة وقلته من الاطلاع.

والأديبان على نشأتهما في جيل واحد، يتجه كل منهما حيث تهديه سليقته ويسلك به مزاجه وملكات طبعه. فالأستاذ علي أدهم أقرب إلى منزع البحث والتفكير والدراسات والفلسفية التاريخية، والأستاذ عبد الرحمن صدقي أقرب إلى منزع الأدب والشعر والدراسات الفنية، وليس أدل على السليقة المنتظمة من أن ترى كليهما يثبت معالم هذا الاستعداد في كل أثر يخرج من لمه ولو كان في حيز المقالة القصيرة، فضلا عن البحوث المطولات، وهكذا كانا في كتابيهما الأخيرين اللذين ظهرا على التوالي منذ أسابيع.

صدر كاتب الأستاذ علي أدهم ألوان من أدب الغرب ثم تلاه كتاب الأستاذ عبد الرحمن صدقي (ألحان الحان) أو سيرة الشاعر العباسي أبي نواس.

ص: 1

ففي كتاب الأستاذ علي أدهم تقرأ فصولا عن أدباء من الروس أمثال سالتيكوف وتولسبوي وترجينف وكريلوف، وفصولا أخرى عن أدباء من الطليان مثل ماتزيني وليو باردي وبابيني، وعن أناتول فرانس الفرنسي، وعن أونامونو الأسباني، وعن جيتي الألماني، وعن كارليل وويلز من كتاب الأدب الإنجليزي، وعن مترلنك البلجيكي، وعن مازاريك الشيكوسلوفاكي، وعن لافكاديو هيرن اليوناني الأيرلندي الذي سحرته روح الشرق من العرب إلى اليابان.

فالكتاب بحقٍ ألوان من أدب الغرب كله على تعدد أجناسه وموضوعاته ومناحيه، ولا يخلو فصل من فصوله من فكرة مستقلة ورأي ناضج ووزن صحيح وفهم نافذ إلى اللباب، ويتسع المجال هنا للتمثيل بالكلمات والعبارات وإن لم يتسع للتمثيل بالعبارة المسهبة أو الفصل الطويل.

فمن عبارته التي تشتمل كل عبارة منها على حكم صحيح أو مقياس صادق، قوله عن الهجاءين في عصورهم أن (أكثر الهجاءين والساخرين لا يستطيعون الخلاص من أوهاق عصرهم والارتفاع فوق مشكلاته، ولكن الساخر الموهوب قد يستطيع أن يلمح المعنى الأبدي الخالد خلال ضجة العصر ومعمعان أحداثه) ومنها عن الشعوب والآداب إذ يقول في أحاديث تولستوي: (من الشعوب شعوبٌ آداب الأرستقراطية اشد تأصلاً في نفسها مثل العرب خاصة والأوروبية السامية عامة، ومنها شعوبٌ آداب الديمقراطية أبين في أخلاقها وأعرق في طباعها مثل الشعب الروسي السلافي).

ومنها في المقابلة بين جبابرة الأدب الروسي الثلاثة دستيفسكي وتولستوي وترجنيف أن (دستيفسكي يكثر في رواياته من التحليل ويسهب فيه إسهاباً ويصف أشخاصه من الداخل، وتولستوي تتعاون فيه القوتان: قوة التحليل والوصف الداخلي والقدرة على توضيح المظهر الخارجي ورسم السمات البارزة والخصائص البادية، أما ترجنيف فمجال براعته الوصف الخارجي الدقيق، وهو يكتفي به ولا يسرف في التحليل، والذي يميز ترجنيف عن أرابه من الروائيين الروسيين هو براعته في البناء الروائي، وضبط النسب والتقاسيم، وتوزيع الظلال والأضواء، ووضوح الحبكة الروائية).

وهذه تفرقة بين الأدباء الثلاثة بالغة في الدقة والصدق والإحاطة والإنصاف.

ص: 2

ومن عبارته الجامعة التي هي أنسب الحقائق للزمان الذي نحن فيه: (هناك ما هو أسمى من الشعب ألا وهو الإنسانية. وإذا شئت العقل).

ومنها في وصف أدب أناتول فرانس: (قد امتاز أدبه بخير الصفات التي عرف بها الأدب الفرنسي بوجه عام، وهي دقة التعبير وسلاسته، ووضوحه وإشراقه، مع رشاقة اللمسات، والتزام الاعتدال، ومجافاة الغلو والإسراف. . . وهو ساخر بارع يتخذ سخره قالب البساطة والتواضع، فهو لا ينكر الأشياء في عنف، ولا ينتقص أحداً في جفاء وشدة، وإنما يبتسم ابتسامة خفية مهذبة، ويتحدث في رفق ولين).

ومنها عن الأدب الأسباني: (لم تظهر في جنوب جبال البرانس حركة فلسفية ملحوظة أو نهضة علمية مأثورة، ويعلل بعض المفكرين الأسبانيين ذلك بتغلغل الفردية في نفوس الأسبانيين، لأن تلك الفردية المتمادية تعوق تحول الأفكار الشخصية إلى مذاهب اجتماعية. . . ويحاول الأدب الأسباني أن يصف الإنسان من حيث هو إنسان مكون من لحم ودم وأعصاب وعظام، ولا يطيق أن يحيله فكرة باقية).

وقد استطاع الأستاذ أدهم أن يعجب بالساخر أناتول فرانس دون أن يعدى باستخفافه، وأن يعجب بالمتشائم ليو باردي دون أن يتشاءم مثله، وأن يعجب برجال العزم دون أن ينسى فضل التردد في تكوين الأفكار، وتلك علامة واضحة من علامات الفكر المستقل الذي يستطيع أن يفتح نوافذه لجميع جوانب الحياة، دون أن يستغرق في جانب منها أو يعطيه فوق حقه من التقدير.

أما الأستاذ عبد الرحمن صدقي فقد رتب أبا نواس ورتب عصر أبي نواس، فكان في تنسيقه للمتفرقات معيناً على وحدة النظر إليها، وتقريب أسباب النظر فيها والحكم عليها. فتكلم عن الحانات في عصر الشاعر بين عامة وخاصة، وتكلم عن مجالس الشراب في الأديرة والقلايات، وعن الغزل والسماع، وعن ملاهي مصر والشام والعراق ومنها حرب الأزهار. وشفع التاريخ بالشواهد الشعرية من ديوان أبي نواس على الأكثر ومن دواوين بعض الشعراء الآخرين حيناً بعد حين. فيقال بحق أن أبا نواس في ملاهيه وخمرياته يعرف من هذا الكتاب كما لا يعرف من كتاب غيره. وقد أخذ الكاتب نفسه بهذا الغرض دون غيره فقال في صدر كتابه: (هذه صورة شاعر من أكبر شعراء العربية في ساعات

ص: 3

لهوه، وما كانت لتغنينا لولا ما أوحت إليه من روائع فنه. فإذا نحن قصرنا القول هنا على مجالس شرابه، ومن حوله غلمانه وقيانه، فذلك أن الخمر كانت عروس شعره، بل هي شيطانه).

وقد وفى الكتاب بهذا الغرض من ناحية الترتيب والتبويب على الخصوص.

والذي يطلب منا أن نلاحظه عرضاً في سياق التعقيب على (ألحان الجان) أن مؤلفه الأديب تجاهل كل رأي لنا في موضوعات كتابه ولا سيما رأينا في خمريات الخيام وخمريات المعري وعلاقتهما بخمريات أبي نواس، مع أنه يعلم هذا الرأي حق العلم ويقرر فحواه كل التقرير، وهو أن سكر الخيام هرب من مشكلة فلسفية، وأن سكر النواسي عكوف على لذة حسية، وقد عقد لهذه المقارنة فصلاً خاصاً في كتابه، وأتبعه بفصل عن المعري وما قاله في الخمر، وحرص على رد الآراء إلى أصحابها في الهوامش وثبت المؤلفات، ولعله قدر أن الإغضاء عن ذكر (العقاد) يرضي أناساً كان إرضاؤهم يومئذ مما يعنيه.

إلا أننا نشير إلى هذا التجاهل الذي لا عجب فيه لنقول إنه ينفعنا ولا يضيرنا، فلا يقولن قائل مع هذا أن العقاد يعطي فوق حقه من معاصريه، بل به - أو عليه - أن يقول: إن حقه قام على رغم الجهلاء والمتجاهلين، وأنهم لو استطاعوا لأنكروه، ولكن إنكاره بحمد الله مما لا يستطاع.

عباس محمود العقاد

ص: 4

‌بعد قرار التقسيم:

القول للسيف ليس القول للقلم!

الأستاذ علي الطنطاوي

لو كان للكلام الآن مكان لقلنا فبذذنا القائلين، ولبعثناها في الأرض

مقالات تشتعل ح خفها ناراً وتتفجر كلماتها قنابل، ويكون منها براكين

تنفث الحمم ونحن (العربَ) أقرت لنا الدنيا بأنا ملوك المقال، وألسنة

البيان، كما أقرت لنا أننا أرباب الفعال، وأبطال الميدان، ولكن عهد

الكلام قد انقضى، وستسمع الدنيا غداً عنا، كما سمعت منا، أحاديث

تشيب النواصي، وتحرق فؤاد العدو، وتحير من هولها ذوي الأحلام،

وسترى الدنيا أن الذي نهدد به القوة التي خبأها الدهر في أعصابنا،

والتي صنعها لنا ميراث آباء صدق، في عشرة آلاف معركة مظفرة

خاضوها، ومائة ألف قاعة منيعة اقتحموها، وألف ألف روح طاهرة،

في سبيل الله والحق أزهقوها - حقائق، ليست خطابيات تسود بها

الصحف، ويتسلى بها القراء.

ولئن أخذت الأيام السلاح والمال منا، فوضعتهما في أيدي عدونا، فما أخذت منا إيماننا ولا مضاءنا، ولا سلبتنا عزتنا ولا نبلنا، ولا بدلت جوهرنا، ولا جعلت عدونا مثلنا، لأن الجبان الشاكي السلاح، لا يغدو بالسلاح بطلا، والبغل المحلّى سرجه بالدر لا يصير بالدر جواداً. . . والأمم الواغلة على المدنية، العابثة بالمبادئ الإنسانية، المتخذة العلم ذريعة إلى التدمير، والفن وسيلة إلى الفساد، ليست مصل الأمة التي حملت وحدها أمانة المدنية دهراً طويلا، فما عرفت يد آمن عليها، وأنفع لها، من يدها: أخذت المندل فنقّت روضة الحضارة من الأشواك، ثم مهدتها وحرثتها وشقت لها الجداول، وأقامت لها السدود، وسعتها الماء عذباً نقياً، حتى إذا بسقت أدواحها، وامتدت ظلالها، وملأ الِجواء ريَّا زهرها، وانتشى الناس

ص: 5

بخمرة عطرها، وارتووا بعصير ثمرها، وعاشوا بوافر خيرها، سلمناها إلى هؤلاء. . . المتمدينين. . . ليحفظوها للأجيال الآتية، فلم يكن منهم إلا أن رموا عليها قنبلة ذرية. . .

وماذا تصنع القنبلة الذرية؟ إنها تميت ولكنها لا تحيي، فهل عندهم قنبلة أخرى تحيي هذه الحكومة اليهودية التي ماتت من ألفين وخمسمائة سنة، وتعيد إليها الروح، وإذا هم استطاعوا اليوم إقامتها وتسنيدها بالأخشاب حتى تبدو كأنها حية، ولن يستطيعوا، فهل يبقون معها دائماً يحمونها أن يبتلعها هذا اللج العربي الذي يحيط بها، أو تهدمها موجة عاتية من موجاته، فتأتي عليها من القواعد؟. . . أفلم يفكروا في هذا؟

أنا أسمع من زمان أن السياسة لا أخلاق لها، ولكني لم أعلم قبل اليوم أنها لا عقل فيها. . . ولا حياء!

أفلا يستحي هؤلاء (المحترمون) أعضاء هيئة الأمم المتحدة أن ينكروا بالأمس على هتلر أنه سلب حقوق اليهود فأعطاها الألمان، وأنه أراد العلو في الأرض بغير الحق، وأن يثوّروا عليه الدنيا، دفاعاً عن الحق وعن الديمقراطية، ثم يجيئوا اليوم فيفعلوا ما لم يفعله هتلر، ولا موسوليني. وما أدافع عن الملعون موسوليني، ولكن أقول إنه كان كالذئب يقتل الخروف ليأكله ويتغذى به، لذلك عدا (لا رحمه الله على طرابلس، أما هؤلاء فيعتدون ليغذوا غيرهم، ويبيعون دينهم بدنيا سواهم!

أو لا يعقلون أيضاً؟! ولا يخطر على بالهم أنه ربما نشأ هتلر آخر، يكون اسمه ستالين مثلا، وربما احتاجوا أن يثيروا الناس عليه مرة ثانية باسم الحق والإنسانية وميثاق الأطلنطي. . . فهل يجدون في الأرض مغفلا واحداً يصدقهم، بعد الذي رأى منهم؟

أو لا يعتبرون بما انتهى إليه هتلر، ومن قبل هتلر نابليون، ومن قبلهما كسرى وقيصر، وكل طاغية جبار؟ فهل دامت الدنيا على أحد حتى تدوم لهم؟ أهم أشد سلطاناً في الأرض من الإسكندر، وتيمورلنك؟ لقد كان الاسكندر، وكان تيمور بطلين ليس أمامهما كفوٌ لهما، وهؤلاء مهما قويت كل دولة منهم، فإن لها أكفاء هم أعداء في ثياب أصدقاء، وسيضرب الله بعضهم ببعض، ويريح الإنسانية منهم ومن حضارتهم، ولا يبقى منهم إلا أخباراً يقرؤها غداً تلاميذ المدارس، فيعجبون من أصحابها ويلعنونهم عليها. وهذا أمر محقق وإن كان يبدو الآن كالخيال.

ص: 6

أو لا يفكرون أنه لو اتخذ مثل هذا القرار ملك عات من ملوك الحكم المطلق، أو أمير ظالم من أمراء القرون الوسطى في أوربة، لفضحه كتاب التاريخ، وقالوا، لص يأخذ مال زيد ليعطيه لعمرو، وقالوا، مجنون نجود بما لا يملك، ولملئوا صحائفهم غيرة على الإنسانية وحقوق الإنسان. فلماذا يخرسون الآن فلا ينطقون؟ لماذا لا نسمع من أوربة وأمريكة، أصوات من يدعون أنهم أنصار الحق ، أن أقرمهم للإنسانية ليست لفرد ولا لشعب؟

لقد غضب أميل زولا لدريفوس، فقالوا إنه رجل الحق والإنسانية، وصدقنا ما قالوا، فلم لا نلقى اليوم في الغرب كله زولا واحداً، يغضب لأمة بقضها وقضيضها، تزاح عن مكانها وتطرد من أرضها، ليحل اللص الواغل عليها في محلها، وتشترك في هذه المؤامرة الدنسة أمم الغرب كلها.؟

لماذا يخرسون الآن؟ ألأن الظلم صار ظلماً منظماً؟ ألأن قطاع الطرق تركوا الجبال والمغور وجلسوا في (ليك سكسس) ألأن محكمة التفتيش صار اسمها (هيئة الأمم المتحدة)؟ ألأن الجزارين أميركا وروسيا وفرنسا، والشاة فلسطين؟

خسأتم يا حلفاء الشيطان. . والله ما فلسطين بالشاة ولكنها القنفذ، على ظهرها الشوك، إنها السكين المشحوذة ذات الأربع شُعب، إنها زجاجة السم الناقع، فليتقدم لابتلاعها من شاء أن ينتحر. . .

لا، ما نريد أن نتكلم. ولو أردنا الكلام، لدمغنا جباه هذه الأمم التي أقرت التقسيم بأربعمائة مليون لعنة، تلفى التاريخ بها غدا، وتلقى الله بعد غد، وهي مخزاة لها، وعرَّة في جباهها ولكنا نريد العمل.

ونحن نعترف أننا لا نملك مثل أموال اليهود، ولا مثل أسلحة الأميركيين ولكنا نملك سبعين مليون روح، نريد أن نزهقها كلها، أو ندفع عنا هذا الضيم الذين تريدنا عليه أميركا وروسيا، فهل عندكم من القنابل الذرية ما يكفي لقتل أربعمائة مليون؟

أما نحن فإن عندنا من القوة ما ندمر به كل شيء لكم في بلادنا. . بضائعكم ومصالحكم ومدارسكم (وسمعتكم) فلا تستطيعون أن تأخذوا بعد اليوم بترولنا لتحرقونا به، ولا أموالنا لتحاربونا بها ولا أولادنا لتجعلوهم أعداء لنا، ولا تجدون فينا بعد اليوم من يسبح بحمدكم، ونحن نصلى بناركم.

ص: 7

لقد خدعنا بفرنسا أولا، حتى فزع إليها الزعيم مصطفى كامل وحسب أنها أمة الحرية حقاً، وأمة حقوق الإنسان. . وخدعنا بإنكلترا ثانياً حتى ترك الملك حسين إخوانه في الإسلام وحلفاءه في المعركة، وانحاز إلى العدو، وفعل فعلته التي فعل. . .

وخدعنا بأميركا ثالثاً ومبادئ ولسن، وميثاق الأطلنطي. وخدعنا بروسيا رابعاً، والمبادئ الشيوعية المثالية التي تجعل الأرض جنة للفقراء. . فذقنا وبال ذلك كله علقماً مراً، ثمالة كأسه تقسيم فلسطين فلن نخدع بهم بعدُ أبداً، كفرنا بهم كفراً صريحاً لا تأويل له، ولا شبهة فيه، ولا رجوع عنه. كفرنا بكل شيء غربي، إلا الأدب الإنساني والعلم التجريبي، فما فيها شرقي ولا غربي. كفرنا بموسكو وواشنطون، ولندن وباريس. . حين رأينا أنه لم يكن معنا من الأمم يوم التقسيم إلا أمم الإسلام وأمم كاليونان والهند حكمه المسلمون ورأت جمال الإسلام، أفليست هذه حرباً صليبية دينية؟ اليس أولئك هم المتعصبين حقاً، ونحن المساكين نتهم بالتعصب، لأننا (من حماقتنا) نقول أننا متعصبون ولا نتعصب. . . وهم يتعصبون ولكن لا يقولون. . .

أنا لا أقول في هؤلاء المؤتمرين بالحق والعدل شيئاً، ولو أننا قلنا فيهم أقبح المقال، لما جزنا عن القصد، ولما حدنا عن الصدق، ولا نقول إن العرب لا يقر لهم قرار، حتى نيمحوا بدمائهم هذا (القرار)، ويطهروا ديار الشام من أقذار الصهيونية، وينظفوا منازل العربية من أوضار الاستعمار الظاهر منه والمستتر. لا، ولا أقول: سنفعل، ولكن سأقول: فعلنا. . . ولقد جاءت الأخبار بأن العرب شرعوا بالعمل، وهذي طلائعه بدت من دمشق، ودمشق قلب العربية، من القلب ينبثق دم الحياة إلى الرأس والجوارح والأعضاء. . .

هذي طلائعه وأوائله، وأول الغيث قطر ثم ينهمر!

ولست أفخر بأن دمشق ثارت، فما هي بأولى ثوراتها على الظلم، ولا بأنها سبقت عواصم العرب كلها، فدمشق أبداً السباقة إلى كل ما فيه إعزاز العربية الدفاع عنها، ولكن أفخر بخمسة أمثلة ضربتها دمشق أول أمس، فيها للعرب هدى ونور!

أولها: أن دمشق أدركت أن دعوى المساواة في الشيوعية كاذبة، كدعوى العدالة في الديمقراطية، وأنهم كلهم أعداء لنا يأتمرون بنا، ولصوص يتفقون علينا، وذئاب تجتمع على نهش لحومنا، وشرب دمائنا، فدمرت دار الحزب الشيوعي بعدما رأت فيها يوماً كيوم

ص: 8

مارس 1945.

ففي مارس كانت النار تطلق على أطفالنا ونسائنا من نوافذ دار البعثة الفرنسية في (الشهداء) بأيدي الفرنسيين وأذنابهم حمير الاستعمار، أذناب موسكو.

وثانيها: وهذه خلة في دمشق لا توجد في غيرها، أن الأحزاب كلها اجتمعت أمس على اختلافها، وتقاربت على تباعدها، فلم تبق في دمشق حزبية، أن الحزبية في مثل هذا اليوم تعد في الشام خيانة وطنية.

وثالثها: أن الحكومة كانت مع الشعب، وأن رئيس الجمهورية خطب في الشباب والطلاب يدعو هو إلى الجهاد، ولا عجب فقد كان شكري بك القوتلي الوطني والمجاهد مقارع الاستعمار قبل أن يصير فخامة السيد شكري القوتلي رئيس الجمهورية السورية.

وأنه خطب مثل ذلك رئيس الوزارة السيد جميل مردم، ووزير الداخلية السيد محسن الرازي، ووزير المعارف الصديق السيد منير العجلاني، وأن ثلث نواب المجلس تطوعوا مع المطوّعية لنصرة فلسطين وأنها لم تسق كتائب الشرطة وفرق الجنود، لضرب وجوه المتظاهرين، وسد الطرق عليهم، وكل ما صنعته الحكومة أن حاولت منع الناس من الأذى، فلما رأت أن الحماسة طاغية وأن المنع لا يكون إلا بإيذاء الناس لم تستطع أن تحتمل مقالة التاريخ عنها؛ (إن حكومة فلان وفلان، ذبحت شباب البلد لأنهم خرجوا يدافعون عن فلسطين) وما في الشام رجل واحد يرضى أن يكون رئيس وزارة، وأن تنسب إليه هذه المعرَّة!

وكان أجمل من ذلك كله. أ، فقررت الكحومة حل الحزب الشيوعي، ومحو هذه البقعة النجسة عن وجه دمشق وطرد الموظفين الشيوعيين، وكانت حسنة من حسنات (المحسن).

ورابعها: أن دمشق أغلقت ملاهيها وسينماتها إلى أجل غير مسمى أن الأمة التي تجدّ حقاً في جهاد هو لها مسألة حياة أو موت، لا تفكر في تسلية ولا لهو، وإن هي فعلت كانت أمة لاعبة كاذبة.

وخامسها: أنها جمعت البضائع الصهيونية، والأفلام الأميركية، وأحرقتها في الشوارع لأنها عرفت أننا إن شتمناهم ونحن نروج بضائعهم ونشتري أفلامهم نكون قد أيدناهم وقويناهم، وأضحكناهم على أنفسنا.

ص: 9

وبعد فلن يصل عدد (الرسالة) إلى أيدي القراء، حتى يكون هذا الجديد الذي أحدث به عن دمشق قد صار قديماً، وحتى نسمع عن القاهرة ودمشق وحلب وبغداد والموصل ومكة وعمان والمغرب أدناه وأقصاه وأقطار الباكستان وإندونيسية أخباراً أجل وأعظم، ثم نسمع من فلسطين الخبر الذي يأكل الأخبار. . خبر الانتصار، وتحرير الديار.

ولن تقوم للصهيونيين دولة في فلسطين، ما دام المسلمون في الأرض والله في السماء.

على الطنطاوي

ص: 10

‌وطن الأحرار في سوق العبيد

للأستاذ توفيق محمد الشاوي

وقعت الواقعة، وحدث المستحيل: اتفقت روسيا مع أمريكا، لا على صيانة سلم العالم وأمنه من خط المنافسة بينهما وتوسيع كل منهما لنفوذه على حساب استقلال الأمم الصغيرة، ولكن على تقسيم (فلسطين). وكأن كلا من هذين العملاقين قد شعر بأن فلسطين الصغيرة، العربية الأبية، لن تخضع له منفرداً، فآثر أن يتفقا معاً تجاوزاً عن خصومتهما التي ملأت أسبابها كل بقعة على ظهر الأرض بدلا من الاعتراف بالعجز والتراجع أمام الإباء العربي والمقاومة الإسلامية. فإن كان في ذلك معجزة فليس بغريب أن تأتي فلسطين بالمعجزات، وإذا كانت فلسطين الصغيرة قد حققت تلك المعجزة بفضل تضامن العروبة معها؛ وهي بعد لم تبدأ المقاومة العملية والتجربة الدموية التي تتأهب لها، فإن العالم سيشهد قريباً لبطولتها جهادها بالمعجزة الأخرى؛ هي أن تنتصر إرادة هذا الشعب العربي الصغير الأبي على خطط الصهيونية وحليفيها العملاقين مجتمعين. وإذا كتبت فلسطين صحائف جهادها بدماء أبطالها، وسجلت العروبة تضامنها بنجدة شبابها، فإن قوى الأرض مجتمعة لن تنال من وجودها واستقلالها، ولو اتفق على ذلك الروس والأمريكان.

إيه يا فلسطين لا تيئسي ولا تترددي، ولا يقولن دعاة الذلة والاستكانة ماذا نفعل أما جحافل الشرق الروسي والغرب الأمريكي، وأين لنا بالقوة التي تحبط بها إرادة (الأمم المتحدة) فما تلك إلا حجة لجبان يبخل بدمه على مواطن الشهادة، وبراحته على متاعب الجهاد. أما سليل البطولة ومن تجري في دمه عزة العروبة فإنه يعلم أن هذا (الاتفاق) بين أنصار الباطل إنما هو وهم وتضليل يقصد به إرهابك وإضعاف عزيمتك، أملاً في أن ينصرف شعبك عن المقاومة ويرغب في الاستكانة. فإذا أنت تشبثت بعروبتك وصممت على الجهاد في سبيل استقلالك فستنهار كل هذه (الاتفاقات) وتتحطم هذه المؤامرات في ميدان العمل ولعمري إنه ليس بغريب أن اتفق الروس والأمريكان هذه المرة؛ فمن ذا الذي لا يتفق على اقتسام شعب لا يقاوم؟ ومن ذا الذي لا يتفق حتى مع عدوه على اقتسام غنيمة باردة، ما دام يظن أنها لن تكلفه شيئاً؟ ولكن مثل هذه الاتفاقات الرخيصة ستذوب وتتلاشى، وسترين أن دماء أبنائك كفيلة بمحوها متى أيقن العالم أن إرادتك قوية وأنك عازمة على الدفاع عن

ص: 11

حقك بالدماء.

إيه يا فلسطين، أيتها العربية الأبية، إن هذا الاتفاق الذي يعلنه الصهيونيون نصراً لهم، سيعمل دعاتهم ما استطاعوا ليوقعوا في روع شعبك الباسل أن الأمر قد قضي ولا سبيل إلى المقاومة؛ والحقيقة أنك قد ارتفعتِ بهذا الأمر وشرّفت به، وإن كل أمريكي من المائة مليون الذين يسكنون الولايات المتحدة ليعلم اليوم أن بلاده قد أقدمت على تضحية كبرى باتفاقها مع الروس هذا الاتفاق، وهو يعرف لماذا أقدمت بلاده على هذه (التضحية) إنه يوقن أنها فعلت ذلك اعتقاداً منها أن ذلك سيجنبها عبء الاصطدام بالمقومة العربية التي لا تريد مواجهتها وقد أوهمها سماسرة الصهيونية أن هناك شيئاً واحداً يجنبها هـ1االصدام، وهو أن يصدر قرار قانوني من (الأمم المتحدة) ولابد لذلك من رضاء روسيا، فلتحصل عليه بأي ثمن. فانظري يا فلسطين الصغيرة أي ثمن تدفع أمريكا لتتفادى مواجهة مقاومتك وحدها وهل تظنين أن أمريكا كانت تقبل أن تنتظر موافقة روسيا لتفعل شيئاً لو كانت استطاعت أن تفعله وحدها؟ فما بالك إذا أصبحت مقاومتك حقيقة واقعة، وأرادت روسيا أن تطالب بنصيبها في (العمل) مستعينة في ذلك بسلاحها التقليدي (الفيتو)؟ قسما إن أمريكا تفضل حينذاك أن تهدم (الأمم المتحدة) بدلاً من قبول ذلك. . .

إيه يا فلسطين العزيزة، إنك ستحققين هذه المعجزة، وإن أبناء العروبة ليتحفزون للتضحية رهن إشارتك، ويدفعهم إيمانهم بالمثل العليا والمبادئ السامية التي سيكافحون من أجلها، غير عابئين بدعاة الذلة واليأس، الذين يتخذون من (الواقع) حجة لبذر أسباب الجزع والاستكانة، وإن لهم شياطين تعلمهم وتغذيهم بمنطق خادع مضلل، إنهم ليقولون: كيف تطلبون الإنصاف من عالم لا يعرف الإنصاف، وتنتظرون العدل من دول لم تؤسس إلا على الظلم، وبماذا تتسلحون؟ بقوة الروح وعزة النفس في ميدان لا يعرف إلا عدة الحرب وقوة السلاح. والواقع شهيد بذلك، فالأمم الصغيرة تباع اليوم في أسواق السياسة بيع الرقيق، وتعرض في مؤتمرات الاستعمار ظاهرها وخفيها عرض السلع. لقد قام مقام الرق الفردي رق جماعي هو الاستعمار بطل صوره من حماية أو وصاية أو انتداب، هو الرق الأوربي الذي ابتدعه شياطين السياسة ليتحكموا به في رقاب الأمم والشعوب. ألا ترون أوطانكم التي بيعت في هذه (الأسواق) السياسية واحداً بعد الآخر؟ وما (الأمم المتحدة) إلا

ص: 12

سوق جديد من أسواق الرقيق، فإذا استطاع الذهب الصهيوني والنفوذ الأمريكي أن يتما الصفقة، وأن يملك اليهود فلسطين كلها أو بعضها، فقد ضاع الحق ولا سبيل إلى استنقاذه، وتأيد الظلم، وما هو بجديد. . .

ألا وإننا نرى الواقع ولكن بغير عين الجبناء الأذلاء. ونعلم منه ما هو أشد إيلاماً وأبلغ بياناً، نذكر أن الذين باعوا فلسطين، والذين يساومون على برقة وطرابلس لم يدخلوها فاتحين وإنما دخلوها حلفاء لأهلها، أصدقاء لشعوبها، بذلوا لهم الوعود وقدموا لهم العهود والمواثيق، فاطمأنوا إليهم وأمنوا لهم، حتى إذا انتهت الأزمة، وزالت عنهم الحرب، نقضوا العهود وتناسوا الميثاق، وباعوا إخوانهم في السلاح وأعوانهم في الكفاح، لا بيع غالب لمغلوب، ولا قاهر لمقهور، ولكنه بيع الصديق للصديق، وغدر الرفيق بالرفيق ووضع القيد في يد الحليف دون العدو. بلك والله الكبيرة التي لا يأتيها الوحش في الغابة ولا يجيزها حتى قانون الذئاب المفترسة، ولكن يأتيها الأوربي المتمدن ويعاملنا بها الإنجليز الحلفاء. . .

فما هي القوة إذن، ولكنها الخيانة والغدر، وإذا باع الحليف حليفه، واسترق الرفيق رفيقه، فإنما يبيع أولا شرفه وكرامته، ويخلع عن نفسه آدميته. فإذا وُجد في القرن العشرين دول تقوم على هذه الخطة وتثرى من هذه التجارة، فهو انحطاط جديد في الإنسانية قد أصيب به الأقوياء الذين يرضون أن ينزلوا بنفوسهم إلى أحط درجات الإنسانية، وأصبحوا هم أنفسهم عبيداً لأطماعهم وشهواتهم، ولا يغير من هذه الحطة وتلك الذلة التي يمارسونها أن كانوا في يوم من الأيام أقوياء، وأن تمكنوا بسبب هذه القوة من احتراف ذلك النوع الجديد من (النخاسة) والاتجار بالأحرار، وإذا كان الرق قد ألغى إلى غير رجعة، وعلت إرادة الإنسان أن تخضع لسيد مهما يكن، فإن أشد البلاء أن تصيب النكسة قوماً كانوا أول من دعا لإلغائه، ولابد لهم أن يفسروا لنا قيام هذه الأسواق الاستعمارية التي يمارسونها، وأن يقروا معنا أن العبودية وقد انتفت عن الأمم جميعها، متى أرادت ذلك وصممت عليه، فإن وصمتها تمكن أن تلقى على عصابة النخاسين الذين يمارسون حرفة قد أبطلتها الإنسانية ومبادئها السامية.

أيها الأحرار لم يعد بينكم وبين الحرية إلا عزيمتكم وإرادتكم وما العزيمة إلا البذل

ص: 13

والتضحية والاستشهاد. لن يضيركم تلك الصكوك الزائفة الباطلة التي يعدها سماسرة (الأمم المتحدة) متى أعلنتم إرادتكم وقوتكم، وستحول دماؤكم هذه الصكوك إلى قصاصات حقيرة وتضعون حداً لهذه المهزلة التي تمثل على مسرح (ليك سكسس) والتي يراد بها بيع وطنكم فلسطين، بيع الرقيق، فإن العالم لم يعد يقر بعد اليوم أن يباع وطن الأحرار في سوق العبيد.

توفيق محمد الشاوي

مدرس بكلية الحقوق بجامعة فؤاد الأول

ص: 14

‌الأحلام الناجحة

للأستاذ عبد العزيز جادو

(س) فتاة ناهزت الخامسة والعشرين، وإنها لكالزهرة الناضرة في الروضة اليانعة، ترفل في صحة ضافية، وتزدهي بجمال فتان. وكان من نعمة الله عليها أن خلّى الله لها والديها يستمتعان بميسرة في العيش وبهجة في الحياة. وإذ كانت الآنسة (س) من خريجات الجامعة المتفوقات، فقد أبت أن تركن إلى الدعة وشاءت أن تشتغل معيدة في الجامعة، فوجدت في عملها هذا لذاذة وأقبلت عليه في شوق.

وما هي إلا أيام حتى تغير كل شيء، فانهارت صحتها، وكثر تغيبها عن عملها، بعذر وبغير عذر، وعاد شبابها البهيج وجوماً وانقباضاً.

ولما بحثت حالة هذه الفتاة، تبين أنها نتيجة حلم.

ولقد سرّها أن ترى الحلم أول مرة على ما فيه من إبهام وغموض، ولكنه لما تكرر ليلة بعد ليلة أفزعها وأرعبها، وحاولت جهدها أن تنفيه عن ذاكرتها أثناء ساعات نومها، ولكن بدون جدوى.

وبدأ الحلم أول مرة كأنما هي في صحراء موحشة، وبينا هي تكافح في سبيل بلوغ الطرف الآخر من البادية، حيث تعرف أن هناك شراباً ووسائل للترفيه، إذا بها ترى أن الرحلة طويلة شاقة، وإذا بالشمس اللاذعة تتسلط على رأسها وقفاها وليس لها من دونها حجاب. وكانت (س) تلهث من فرط العطش والتعب، وكل خطوة تخطوها في ذلك القفر تشعرها كأنها تقتلع صخراً بأقدامها. وأخيراً بلغت الواحة، وهنا بدأ الجزء المفزع في الحلم، فقد كانت المياه تترع الأنهار وتنصب في الشلالات، ثم تكون بركا عميقة في كل جانب، فأطفأت الفتاة عطشها بأن شربت جرعة، غير أنه كان يبدو إلى جانبها شخص في هيئة الشيطان يهيب بها في صوت عال ضاحكا:(اشربي! اشربي!) ولم يكن بالفتاة حاجة إلى الشرب بعد ما استوفت واكتفت، ولكنها أرغمت على اللعب والاكتراع حتى صار الماء يتدفق ثانية من شفتيها، ومع ذلك فهي مرغمة أبداً على الشرب. وأخيراً وجدت نفسها تسبح في مجرى مائي أسود اللون، ومع إشرافها على الغرق فإنها لا تغرق.

وهكذا تكرر الحلم ليلة بعد ليلة، حتى أمست الفتاة في حالة تدعو إلى الرثاء.

ص: 15

ولما عرضت الآنسة (س) على أحد الأطباء النفسانيين، وبحث حالتها بحثاً شاملا، وجد أن إلى جوار المنزل الذي تسكن فيه غدير ماء كان موضع بهجتها في طفولتها، ولكنها الآن تخشاه، ولو أنه أصبح جزءاً من حياتها يلازمها في رواحها ومغداها وهذا ما تمثل لها في قول الشيطان:(اشربي! اشربي!).

فإذا خلينا حالة هذه الفتاة الشابة جانباً، وعالجنا الأحلام من جانبها العلمي، وجدنا أن بعض الناس يفتخر بأنه لا يرى في نومه حلماً؛ ومع ميلنا لتصديق هذا الزعم، إلا أننا نعتقد أن مثل هذا الشخص به ضعف في الذاكرة، فنحن لا يمكننا في كثير من الأحيان تذكر الأحلام بجملتها.

ويعتقد كثير من الناس أن الأحلام إنذارات بما ستأتي به الأيام من حوادث. وكتب تفسير الأحلام التي تباع في الأسواق بكثرة تستوقف النظر، والتي تفسر كل حلم على حدة، إنما تعالج الحلم ودلالته المستقبلة.

وأقطاب علم النفس اليوم لا ينكرون أن للأحلام معالم دالة على المستفبل؛ ونحن لا ننكر أن للأحلام تنبؤات، وإن كانت الأحلام في الغالب أشباحاً من الحاضر والماضي.

ويخبرنا النفسانيون فوق ذلك أن الأحلام تندرج بين تجاربنا الطبيعية الضرورية لحياتنا، وأنها تعبير عادي من تعبيرات العقل لا ضرر منه أكثر من الضرر الذي ينجم عن الطعام أو التنفس أو النوم ذاته.

وقد وضع الدكتور سييجموند فرويد منذ قرابة أربعين عاماً نظرية عن الأحلام سماها (نظرية الحراسة). وقصارى هذه النظرية أن النوم ضرورة جوهرية للجسم الصحيح، وأن العقل ذاته يفعل كل ما في مكنته ليتحقق من أن الجسد يأخذ حظه المقسوم من النوم المريح؛ وفي أثناء النوم يلزم العقل الواعي أن يكون في راحة تامة، بيد أن العقل الباطن يظل مزاولا وظيفته خلال النوم من غير أن يوقظ النائم. والعقل الباطن يختزن في أعماقه حوادث وذكريات اليوم الماضي، كما يختزن في قرارته ذكريات الأحداث القديمة التي نسيها تماماً العقل الواعي. ذلك أن العقل الباطن لا يعرف النسيان، وهو في كل لحظة على أهبة أن يبدي للعقل الواعي ما قد نسيه. ولو أن الأحداث التي تمر بالعقل الباطن خلال النوم طافت بالعقل الواعي، إذن لأرّقت النائم ونفت عنه الراحة. لذا أخذت الطبيعة حيطتها

ص: 16

ضد هذا الخطر وقدّمت لنا الأحلام. وميكانيكية المخ هي التي تشكل الأحلام في صورها المختلفة، فطوراً تكون شائقة أخاذة، وطوراً مفزعة مرعبة.

على أن الأحلام كيفما تكن حالتها إنما في حجاب وحفاظ على النوم، وفي الصباح تبدو الأحلام مضحكة ووهمية كما تراءت في أشباحها وخيالاتها، ولكنها تعدّ ناجحة لأنها حفظت راحة الجسم وأدَّت وظيفتها المثلى.

والعلم الحديث يقسم الأحلام إلى ثلاث درجات:

الأولى: تختص بالأحلام التي تنجم عن اضطرابات في الغرفة التي ينام فيها النائم. فلو أن صنبور المياه القريب من حجرة النائم اختل وبدأ يساقط نقطا لها صوت؛ أو أن الوسادة التي تحت رأسه تكتلت وغلظت، فإنه في الحالة الأولى يطالع في حلمه مشهداً ريفياً بهيجاً، ويسمع ترنيم الطير على الأشجار. ويحلم في الحالة الأخرى بأنه يتسلق جبلاً ويستمتع بجمال قمته. فالحلم في الحالتين يؤدي وظيفته في حفظ الجسم مستريحا، وكأنه يقول في المرة الأولى للنائم (لا تستيقظ! ليس الأمر أمر صنبور المياه، ولكنها الطيور تغني!) وفي حالة الوسادة الخشنة يقول الحلم للنائم: (إنما أنت تتسلق صخوراً لتصل إلى القمة بعد قليل فتسر بمنظر جميل فلا تكترث!) وعندئذ يكون الحلم ناجحاً وموفقاً.

الثانية: تنشأ من حوادث اليوم الذي مرّ بالنائم. فلو أن أمراً جازت به في يومه أحداث غير سارَّة، فقد يرى في نومه أن رجل البوليس يضرب أحد المارَّة مثلاً. ويقول لك حلمك الحارس:(إنها مشاجرة تافهة، فامض في نومك مطمئناً!).

الثالثة: وهي أهم مما تقدم جميعاً - يستيقظ العقل الباطن في غضونها مستعيداً الأحداث المطوية في ضمير النائم. وتقوم ميكانيكية الحلم هنا بمساعدات ودَّية لاستمرار النوم، إذ تلوح للعقل بأنه يقفز فوق قنن الجبال أو أسطح المنازل أو يعبر المحيطات ومن ثم يسخر ممن هم دونه في القوة. هذه الأحلام تنصح للنائم بالا يبالي بما مرّ به من عقبات وصعاب، أو بما سيجيء به الزمان من مكابدة ومشاق، ولهذا يمنح قوة خارقة تجعله يستنيم إلى الراحة فلا يستيقظ. . .

فالأحلام تعدّ موفقة وناجحة إذا هي أفلحت في حفظ النائم نائماً فلا يفيق من غفوته قبل استيفائه قسطه من الراحة كاملاً.

ص: 17

ولنعد الآن إلى حكاية الآنسة (س) التي صدرنا بها هذا البحث فنقول إن الأخصائي الذي حلل الفتاة نفسياً، أثبت أن للفتاة عمة انتهرتها ذات مرة لأنها تشرب الماء بطريقة غير مألوفة أثناء تناولها الطعام حتى أنها أصيبت بعسر هضم، الأمر الذي اضطرها إلى الإقلاع عن عادة تناول الماء خلال تناول الطعام. بل إنها زادت على ذلك فأمست لا تطفئ ظمأها إذا ما شربت في الأوقات العادية، ومن ثم كانت (س) تذهب إلى فراشها وهي ظمآى. . .

كان ذلك الظمأ حالة ثابتة في النوم. وكان يهدد بإيقاظ النائم وكان بادئ الرأي ألماً ممضاً يسبب التنشيط، فحول حارس أحلامها الألم إلى صحراء مجدبة قاحلة، مصحوباً بإيحاء ودي (ستحصلين فوراً على ماء كثير). وإذ يغدو ظمأ الجسم الفيزيقي أكثر ثبوتا، يصير حارس الحلم أكثر تأثيراً لا بتعقل فحسب ولكن بصواب أيضاً! فكان أن صاح الحلم (لا تستيقظي، ها هو الماء كثيراً ويمكنك أن تأخذي منه كفايتك!. . .)

ووجد أن الآنسة (س) كانت تتخيل أن الحلم بوفرة الماء قد يكون سببه تعودها الفعلي على الشرب الكثير قبل النوم. فكانت لذلك لا تشرب إلا قليلا قبل ذهابها إلى النوم، آملة أن يقف الحلم عند حده. وكان مغبة عملها هذا أنها أطلقت العنان لعناد الحلم. . .

وكان العلاج في غاية البساطة. هو أن تتناول قدحين من الماء قبل ما تذهب إلى فراشها. وبهذا العلاج البسيط زالت أهمية الحلم وصار لا لزوم له على الإطلاق، ولذا امتنع عن العودة. وبزوال الحلم زالت أيضاً المخاوف من الماء، تلك المخاوف التي بدأت تؤثر على عقلها لدرجة خطيرة. واستعادت (س) صحتها، وسعادتها.

والعلاج الذي نتخذه ضد ما نسميه الأحلام (السيئة) يوجد في الغالب في الحياة العادية الصحية، النظيفة. وإننا إن حكمنا أفكارنا ورتبناها، يصير نومنا هادئاً مريحاً. وليس هناك أي خوف إن حلمت. فإن كنت متمتعاً بالصحة فلا بد أنك ستحلم الأحلام التي ستحرسك من أي انفعال مزعج، سواء كان من العالم الذي حولك وأنت نائم أو من العالم الأكبر المخزون في ذاتك الداخلية. إذن ستنام، وستجد الصحة في (المجدد الهادئ للطبيعة الحلوة - النوم).

والشخص العاقل يستعمل النوم للنفع أيضاً. فالأفكار التي تلازم العقل الواعي قبل النوم مباشرة، بانتظام أو حتى باطراد، تتسلل وتأخذ طريقها إلى اللاشعور. فإن كانت الأفكار عن سعادة أو نجاح أو صحة، فإنها كتما تعجل نشاط اللاشعور وتتحقق تلك الرغبات.

ص: 18

ما أكثر ممكنات النوم. وما أقل استعمالنا لها!

عبد العزيز جادو

ص: 19

‌مع ميخائيل نعيمة في (همس الجفون)

للأستاذ منور عويس

وفي المقطعين الثالث والرابع نرى نعيمة يستسلم لحكم القضاء الذي يسخر كل ما في الوجود لكل ما في الوجود، كما نراه يعود إلى نغمته المستحبة - وحدة الوجود - وما أقرب فلسفة نعيمة من فلسفة (اسبنوزا) - ووحدة الوجود هذه التي يتغنى بها نعيمة هي وليدة اليأس وابنة الحيرة والشك، لقد حاول نعيمة أن يؤمن بما لقنوه صغيراً من عقائد وأديان فأبى عليه عقله النفاذ وقلبه الكبير الحساس الواعي أن يؤمن بما لا يرضاه عقله وقلبه الكبيران، فعكف من ثم على الأديان القديمة والحديثة يغربلها وينخلها ويقتلها درساً وتمحيصاً فاستخلص منها خير ما فيها وخلف قشورها وزؤانها للعميان الذين يؤمنون بالحرف ولا يدركون الروح، أولئك الذين (يكرمون النبتة ويرذلون التربة!).

أخذ نعيمة من الأديان أثمارها وأزهارها وأوراقها وترك فروعها الجافة الزائدة للغربان تنعق فوقها!. . . ثم خلع على معتقده هذا فنه وروحه فأبدع لنا ديناً وفناً جديدين لا عيب فيهما إلا أنهما إنسانيان شاملان ليس فيهما إرهاق للأرواح ولا استعمار للنفوس والعقول!.

دين نعيمة وفنه لا يعرفان للإنسانية حدوداً ولا للوطنية سدوداً وقيوداً.

ولقد رحب بأدب نعيمة وعقيدته قوم وأنكروهما آخرون؛ أما الذين أنكروهما فسوف يرجعون عن ضلالهم عندما تزول عن عقولهم رقى السحر وطلاسم الشعوذة؛ سوف يفزعون إلى تلك الواحة الوارفة الظلال حيث يستريح المتعبون وثقيلو الأحمال!.

لابد لكل عبقري من أن يؤدي تلك الضريبة الباهظة الأزلية - ضريبة العبقرية - لأهل وطنه وزمانه، ولابد له أيضاً من أن يلبس أكاليل الشوك قبل أن يزدان مفرقه بأكاليل النار! فلو لم يكن نعيمة شرقياً لسميت الشوارع باسمه وأقيمت له التماثيل أو على الأقل لوضعت كتبه بين أيدي طلبة الكليات والجامعات. ولكن نعيمة الروحاني الإنسان شرقي يعيش في مهبط الأنبياء ومصدر الوحي - وكم رجم الشرق من أنبياء وكم قتل من مرسلين! - عفواً أيها القارئ لقد نسيت (أوراق الخريف) مرة ثانية فها هي كاملة فاقرأ وتأمل وتحسس ثم احكم؟

تناثري تناثري

يا بهجة النظر

ص: 20

يا مرقص الشمس

ويا أرجوحة القمر!

يا أرغن الليل

ويا قيثارة السحر

يا رمز فكر حائر

ورسم روح ثائر

يا ذكر مجد غاير

قد عافك الشجر!

تناثري تناثري!

تعانقي، وعانقي

أشباح ما مضى

وزودي أنظارك

من طلعة الفضا

هيهات أن هيهات أن

يعود ما انقضى!

وبعد أن تفارقي

أتراب عهد سابق

سيري بقلب خافق

في موكب القضا

تأنقي، وعانقي!. .

سيري ولا تعاتبي

لا ينفع العتاب

ولا تلومي الغصن والريا

ح والسحاب

فهي إذا خاطبتها

لا بحسن الجواب

والدهر ذو العجائب

وباعث النوائب

وخانق الرغائب

لا يفهم الخطاب

سيري ولا تعاتبي!

عودي إلى حضن الثرى

وجددي العهود

وانسي جمالا قد ذوى

ما كان لن يعود!

كم أزهرت من قبلك

وكم ذوت ورود!

فلا تخافي ما جرى

ولا تلومي القدر!

من قد أضاع جوهراً

يلقاه في اللحود!

عودي إلى حضن الثرى!. . .

ليست (أوراق الخريف) هذه سوى رمز للإنسان، أُلعوبة الأقدار، وسخرية الليل والنهار، الإنسان الذي لا يملك لتلك الأقدار دفعاً ولا لبطش الزمان به كفاً. إن (أوراق الخريف) من

ص: 21

عيون شعر نعيمة لا بل يمكن وضعها إلى جانب ورائع شعراء الغرب الذين نظموا في هذا الموضوع، ومن شك في ذلك فليقرأها مترجمة، فالترجمة هي محك الآثار الأدبية، وبها نميز الشعر الرفيع من الشعر الزائف الذي أملته المناسبات التافهة والأغراض الرخيصة. . انظر إلى قوله:

سيري ولا تعاتبي

لا ينفع العتاب!

أو قوله:

كم أزهرت من قبلك

وكم ذوت ورود!

فأية مرارة تفيض من هذا الشعر؟ وأية بساطة، وأي إحساس وأية موسيقى؟! إنني أترك للقارئ الحكم والمقارنة بين هذا الشعر البسيط وبين شعر النحت والبلاغة اللفظية. وشتان بين بلاغة الروح وبلاغة اللفظ، وشتان بين شاعر يعرف ما يريد أن يقول وبين شاعر لا يهمه إلا أن تطول قصيدته التي يكثر فيها النظم ويندر الشعر. . إنني لعلى يقين من أن صاحب (همس الجفون) لم ينظم قصيدة من قصائده إلا بعد أن حبل بها فكره وتمخض عنها وجدانه. . . أصغ إليه في قصيدته (التائه) كيف يصور لنا أشواق روحه وأوجاعها وتعطشها إلى الإيمان كما يرسم لنا حيرته في تلك النار المقدسة التي تشب بين ضلوعه فيطلب أن تختار لها موقداً غير قلبه، ونحن نحمد الله على أن اختار لتلك النار قلباً شاعراً واعياً كقلب نعيمة، قلباً (يحول قضبان سجنه أوتار قيثارة) ويخلق لنا من لظى تلك النار واحات نقصدها كلما اشتد علينا قيظ هذه الحياة اللاهب!. .

أسير في طريقي

في مهمه سحيق

ووحدتي رفيقي

ووجهتي الفضا

مطيتي التراب

وخوذتي السحاب

ودرعي السراب

ورائدي القضا

تسوقني الثواني

في موكب الزمان

ولست أدري شاني

في معرض الورى

فلا القضا ينبيني

ولا الرجا يهديني

ولا السما تعطيني

نوراً لكي أرى

ص: 22

أخالقي رحماكا

بما برت يداك

إن لم أكن صداكا

فصوتُ من أنا؟

ربي ألا ترَاني

أساق كالحملان

ربي أما كفَاني

عماي َوالونى؟

فأبدل لظى نيراني

بجمرة الإيمان

واجعل من الحنان

للقلب مرهَما

إذ ذلك بالتهليل

أسيرُ في سبيلي

وخالقي دليلي

ووجهتي السما!

هذا هو نعيمة الحائر بين موحيات الكتب التائه في مفاوز الأديان وشعابها المطلسمة، قد أضناه تساؤل العقل وأذابهُ حنين الروح للوصول إلى الحقيقة والإيمان!. . .

هذا هو نعيمة الذي استنجد بالسماء لتهبهُ راحة الإيمان فلما ضنت عليه السماء بتلك النعمة خلق من نفسه لنفسه سماء ولا كالسماء ونعيما ولا كالنعيم، وتلك السماء وهذا النعيم اللذان أبدعهما نعيمة بصبره الطويل وتهجداته الروحية المضنية إن لم نجدهما في (همس الجفون) فنحن واجدُوهما في (زاد المعاد)(والمراحل)(والبيادر).

نعم وصل نعيمة إلى السماء أو (النرفانا) التي حج إليها من قبله (الغزالي، وأبن عربي، والأسيزي) وطاف في رحابها (ابن الفارض، والجنيد، والحلاج) وغيرهم ممن صفت نفوسهم وطهرت قلوبهم من أقذار الأرض وأوضارها.

(البقية في العدد القادم)

مناور عويس

ص: 23

‌طرائف من العصر المملوكي

للأستاذ محمود رزق سليم

تمهيد:

قيضت لي الظروف الاطلاع على كثير من تاريخ العصر

المملوكي وأدبه، واجتماعياته. واستخلصت من ذلك كله مؤلفة

موسوعة تصدر تباعاً في أجزاء. وأحببت أن أعجل إلى قراء

الرسالة الغراء؛ فأعرض على أنظارهم صوراً شتى لنواحي

هذا العصر، آملا أن يجدوا فيها طرافة، وأن يجدوا في هذه

الطرافة شيئاً نافعا يجلي أمامهم وجه هذا العصر وخصائصه،

ويزيل عن حواشيه ما اكتنفها من ظلام.

وستكون هذه الطرائف خليطاً منوعا ما بين تاريخية وأدبية واجتماعية ونحوها. وإلى القارئ نبذة تاريخية سريعة تعرف بالعصر.

1 -

التعريف بالعصر

العصر المملوكي فترة من فترات التاريخ المصري الطويل، وحقبة من أحقابه الواسعة، تحتجز منه زهاء ثلاثة قرون بين سنتي 648هـ - 923هـ. وبدأت بدءاً هينا لينا لا ضجة فيه ولا صخب إلا لماماً لماما، كما بدأت عصور قبله. ثم أخذ فيه الضجيج يشتد، والعجيج يزداد، وما زال حتى انتهى بأن هوت البلاد تحت أعباء حادث جلل وخطب عظيم.

قامت الدولة الأيوبية بمصر بزعامة مؤسسها صلاح الدين الأيوبي وما زالت تعالج الحروب الصليبية وغيرها، حتى ملك البلاد الملك الصالح نجم الدين الأيوبي أحد ملوك هذه الدولة. فوقعت في عهده إحدى المعارك الحاسمة في تلك الحروب وهي معركة

ص: 24

(المنصورة) التي أسر فيها ملك فرنسا (لويس التاسع). وكان الصالح نجم الدين قد استكثر من شراء المماليك من الأتراك، ورباهم، وابتنى لهم قلعة بجزيرة الروضة، واتخذ منهم حاشية وحرساً وجنداً، ووجد فيهم وفاء وولاء، كما وجد فيهم شجاعة وبلاء، في حوادثه المختلفة. . .

مات الصالح نجم الدين، والمعركة في أبانها وريعانها. فكتمت زوجته (شجرة الدر) خبر وفاته، لتحفظ على جيشه معنويته، ريثما يعود ابنه (توران شاه) ويتسلم مقاليد الأمور.

عاد توران شاه، فلم يستطع أن يستصفي زوجة أبيه (شجرة الدر) ولا أن يستخلص مماليك أبيه. فانتهى النزاع بينهما بأن قتلوه قتلة شنيعة.

حينذاك يصب الأمراء من المماليك (شجرة الدر) ملكة على البلاد. . .

(وشجرة) الدر تعتبر - من ناحية - بقية من بقايا الأيوبيين، فوجودها على العرش امتداد لوجودهم. ولكنها - من ناحية أخرى - كانت جارية من جواري الملك الصالح، وليست أيوبية من نسل الأيوبيين، فوجودها على العرش يعتبر بدءاً للعصر المملوكي، أو هو على الأقل إرهاص ببدئه.

قيل إن خلفة بغداد - إذ ذاك - المستعصم بالله العباسي أرسل إلى رجال مصر يعيرهم بها، ويوبخهم لأنهم ولوا عليهم امرأة. فخشيت (شجرة الدر) مغبة الأمر، وأخذ مركزها يتحرج، وخشيت كذلك أن تتحرك أطماع الطامعين من بقايا الأيوبيين. فأرادت أن تتلافى الأمر، وأن تحتمي هي وعرشها برجل صنيعه لها، يكون له من الملك اسمه وشكله، ويكون لها منه النفوذ والسلطان.

اختارت (شجرة الدر) لذلك مملوك زوجها وهو (أيبك الجاشنكير) وكان حينذاك أحد أمراء دولتها الكبار. فتزوجته وتنازلت له عن العرش، فارتقاه ملكا، وبقيت هي بجواره لها الأمر والنهي والحول والطول. وتلقب بالملك المعز، وكان أول ملوك هذه الدولة.

تسلم الملك المعز عرشه في غير كثير من الجلبة والضوضاء - كما أشرنا - وبذلك انتقل الملك من دولة إلى دولة، وبذلك أيضاً بدأت دولة الأرقاء.

ودرج الأمراء فيها على أن يعقدوا مجالس للشورى عند خلو العرش، ليختاروا من بينهم أميراً يجلس عليه. فإذا تم الأمر لأحدهم كان إليه وحده الحكم والسلطان.

ص: 25

أما هؤلاء الأمراء فهم من المماليك المعتقين الذين وصلوا بذكائهم وبلائهم إلى هذه المرتبة. ولهم وحدهم حق اختيار سلطان البلاد. لهذا كانت طريقة الحكم في الدولة نمطا فريداً بين طرق الحكم المعروفة.

وقد عاشت هذه الدولة زهاء قرون ثلاثة - كما أشرنا - ويقسمها بعض المؤرخين إلى دولتين. والبحرية والبرجية، أو التركية والجركسية. وملك الدولة البحرية من المماليك الأتراك، وملوك الدولة البرجية من المماليك الجراكسة. ومؤسس الأولى الملك المعز (أيبك الجاشنكير)، ومؤسس الثانية الملك الظاهر (برقوق ابن آنص).

واتخذت كلتا الدولتين جنودها من المماليك، إذ عني الملوك والأمراء معاً بجلبهم وشرائهم من الأسواق الخارجية، كما عنوا بتنشئتهم تنشئة عسكرية، واتخذوا منهم بطانة وحرسا. ووكلوا إلى النابهين منهم - بعد عتقهم - مناصب الدولة. وكانت كلها مناصب عسكرية إذا استثنينا منها مناصب القضاء والكتابة وما إليها وتكون من هؤلاء الجنود والأمراء ومن السلطان، الطبقة الحاكمة في البلاد، التي لها دون سواها من نابتة البلاد، حق الحكم وتصريف الأمور.

واشتهر من ملوك الدولة البحرية غير أيبك. قطز وبيبرس وقلاوون وابنه الناصر محمد. واشتهر من ملوك الدولة الجركسية غير برقوق، ابنه فرج وقايتباي والغوري والأشرف طومان باي.

ولكل من هؤلاء أعمال مجيدة نافعة ما بين حروب خارجية وإصلاحات داخلية. ويعتبر بعض المؤرخين، هذا العصر امتداداً للعصر الأيوبي؛ لأن الدولة في أغلب نظمها نهجت نهج النظم الأيوبية. ولكن - دون شك ورغم هذا - كان للعصر خصائصه ومميزاته التي تفصله عما عداه.

وحقاً احتفظ سلاطين العصر بسلطنتهم مستقلة مرفوعة اللواء عزيزة الجانب تضم بين ممتلكاتها البلاد الشامية والحلبية والحجازية في أكثر أيامها. غير أنها امتازت ببعث الخلافة العباسية في القاهرة وتجديدها. بعد ما وئدت في بغداد على يد التتار عام 656هـ. فأصبحت القاهرة بذلك محوراً دينياً للمسلمين، وفي ذلك كسب أدبي عظيم كان له أثره في تثبيت ملك سلاطين مصر في هذه الحقبة، وإكسابهم الشرعية اللازمة، لأنهم كانوا عليها

ص: 26

دخلاء. كما كان له أثره في تلك الحركة العلمية المباركة التي نشطت في القاهرة والمدن المصرية والمدن التابعة لمصر، طول العصر.

وكان لها إنتاجها القيم في ميدان العلوم والآداب الإسلامية والعربية. . .

وكما امتازت سلطنة المماليك بإحياء الخلافة العباسية وبالنشاط العلمي، امتازت بالنظام الرباعي في القضاء، إذ أصبح للبلاد أربعة قضاة، من كل مذهب من المذاهب السنية قاضي قضاة.

وهكذا ترى أن للعصر المملوكي كثيراً من الخصائص والمميزات ولابد لنا من القول إن هذه الدولة كافحت ثلاثة أعداء ألداء خارج حدودها، وهم التتار والفرنجة العثمانيون عدا الخارجين عليها من أتباعها أو محالفيها. ونجحت في درء خطرهم إلى حد كبير، وسجلت في سبيل الذود عن مصر وعن الإسلام صفحات خالدة.

غير أن الفتن الداخلية والأطماع غير المشروعة التي نبتت في رءوس أمرائها كانت علة مزمنة من عللها، ظلت مضاعفاتها تنهك قوتها وتخضد شوكتها، حتى أخذت تقربها من نهايتها.

وقد كانت هذه النهاية على يد السلطان سليم ملك العثمانية الذي احتل البلاد عام 923هـ بعد حرب عنيفة طاحنة أبلى فيها الأشرفان الغوري وطومان باي البلاء الحسن. وهذا الاحتلال هو الحاث الجلل الذي أشرنا إليه.

هذه عجالة موجزة تعرف بالعصر. ونحاول في العجالات القادمة أن نطرف القراء بما يجلي العصر، ويكشف عن كثير من مميزاته وخصائصه.

محمود رزق سليم

ص: 27

‌6 - من ذكرياتي في بلاد النوبة:

نكبة الفيضان!!

للأستاذ عبد الحفيظ أبو السعود

وأعني بالفيضان مساه الخزن التي يبدأ ارتفاعها وفيضانها في أوائل نوفمبر من كل عام. ولا يستطيع إنسان كائناً ما كان أن ينكر خطر مياه الخزن على بلاد النوبة، وما جرته على أهلها من ألم ونَصب، ومشقة وَعناء، وما جلبته من فقر وجدب، وقحط ومسغبة!!

قد يبدو ذلك عجيباً، ولكنه ليس بعجيب، غريباً ولكنه ليس بغريب، لأنه الواقع لا مِرية فيه. وهو وإن حاولنا إخفاءه وستره، فإننا نخفي الواقع، ونماري في الحق، ونزيد الداء استفحالا، والشر طغياناً. ذلك أن الرجل في بلاد النوبة يشعر بهذا الشعور، ويبديه ولا يكتمه، ويجعله مادة الحديث في كل مجلس وكل مناسبة. . والمرأة في بلاد النوبة تشعر بذلك وتحس به وتعلنه في كل مكان. والصبي والصبية والطفل والطفلة يشعرون جميعاً بذلك ويعلنونه في صراحة.

هذه الحقيقة على مرارتها، يجب أن ننظر إليها وندخلها في حسابنا لنطلب لهذا الداء، وندرأ هذا الخطر.

ولا داعي للموارية، ما دام الأمر قد وصل إلى هذا الحد، وخير طريق نعالج به ذلك الشعور القوي بالغبن الفادح، والإحساس بالظلم المبين هو الإصغاء لشكاياتهم والعناية ببحث مشكلاتهم، بحثاً يدفع بها إلى الحياة لا على طريقة البحوث الآلية التي جرت بها عادة الحكومات والتي لا يكون مآلها بعد تشكيل اللجان إلا زوايا النسيان. .!!

والآن رُب سائل يقول: وهل كذب هؤلاء شعورهم؟ وهل جانبوا الصواب حينما اعتقدوا هذا، ورأوا في سد أسوان نقمة لا نعمة، وشراً لا خيرَ فيه؟ ثم أصبح مع الأيام عقيدة راسخة، متأصلة في نفوسهم لا يبغون عنها حِوَلا؟!

والجواب الحق، لا. لم يكذب هؤلاء شعورهم، ولم يحيدوا عن الحق، فلقد دهمتهم هذه المياه مرات عديدة. . دهمتهم عند إنشاء السد، فقالوا: شدة تزول، ولن تعود. . ورتبوا حياتهم على ذلك واطمأنوا إلى هذه الحياة. فتركوا منازلهم الأولى، وبنوا مساكن أخرى في نجوة من الغرق. ومأمن من الخطر وساروا على هذا النهج حيناً حتى ألفوا هذه الحياة، وكادوا

ص: 28

ينسون حياتهم الأولى قبلَ أن ينتقص الفيضان ومياه الخزن أراضيهم التي يزرعونها، ودورهم التي يسكنونها وبخاصة والمساحة التي أتلفتها مياه الخزن بعد بناء السد لم تكن مساحة واسعة، بل كانت محدودة ضيقة، والخسائر، ليست فادحة، بل هينة عوضتهم الحكومة بما رأت فيه الكفاية، وارتضوا ذلك منها، اعتقاداً منهم أن هذا الخطر على أراضيهم ومنازلهم لن يتكرر ولن يعود، وبهذا ألفوا هذا الوضع، على ما به من أل وضني.

ثم ماذا؟ ثم كان ما كان من أمر التعلية الأولى، فتشتت شمل الجميع، وتفرقوا أيدي سبأ هنا وهناك، لا يدرون ماذا يعملون. وكانت حيرة، وكان اضطراب، وكأنما هذا الماء المخزون أمام السد، عدوٌّ لدودٌ لهم. . ثم هدءوا وسكنوا، وأنشئوا بيوتاً جديدة ولكن أرضهم انتقصت أكثر من ذي قبل وطمست مرافقها، وتلف ذرعها. ووجدوا من عطف الحكومة عليهم ما أعاد إلى نفوسهم الجريحة شيئاً من الطمأنينة والسكينة والاستقرار، ولكنهم ظلوا يرقبون الحوادث في يقظة، وكأنما علقت أنظارهم بالسد وارتبطت آذانهم بكل ما يقال عنه، حتى تكونت في نفوسهم عقدة نفسية تعجز عن حلها الأيام، ثم طال الزمن وامتد، فنسوا هذا كله، ووجد أكثرهم في الهجرة باباً من أبواب الكسب خير من الكد والعمل والزراعة والحرث، فهاجروا إلى القاهرة والإسكندرية، وإلى كثير من عواصم الأقاليم والمديريات. . وانبثوا في نواحي القطر، بحيث لا تكاد تخلو منهم بلدة من بلاده، أو قصر من القصور، أو مصلحة ما من مصالح الحكومة ووزاراتها. . .

أما التعلية الثانية أيام صدقي باشا عام ثلاثة وثلاثين وتسعمائة وألف فقد أثارت كوامن النفوس، ودخائل القلوب، وطفح الكيل بأبناء النوبة وهم يرون منزلهم للمرة الثانية، أو الثالثة في بعض المناطق الواطئة، القريبة من سطح النيل، يفتك بها الماء ويطغى عليها في ثورة حانقة، واندفاع مغيظ. .

حدثني أحد النوبيين فقال: كان أكثرنا يرى منزله يغرقه الماء رويداً رويداً ويقضي على ما به من غلات مختزنة، وأثاث قليل، ولا يستطيع أن يعمل شيئاً، لأنه مشغول بنفسه وأولاده الصغار، وضعاف النسوة والشيوخ.!

ويمكنك أن تدرك ذلك واضحاً جلياً حينما ترتفع مياه الخزن وتبلغ ذروتها في شهر فبراير ومارس تقريباً. . لقد كنا نخرج إلى النيل، نسير بجانب الشاطيء، فلا يتمالك الإنسان نفسه

ص: 29

من الأسى واللوعة والحزن، حينما يرى ذلك النخيل وأشجار الدوم الذي كان في يوم من الأيام مورد ثروة وغنى لهؤلاء النوبيين، ومظهر فخار ويسار، يراه وقد تبدل الحال وتغير، فإذا به رمز الفقر والبؤس، تترقرق الدموع في عيون أصحابه كلما يرونه على هذه الحال، غريقاً في النيل، لا يبدو منه سوى رؤوسه الخضر التي أخذت هي الأخرى في الذبول والانقراض بتوالي الأيام، وكأنما هو عالم من البشر والعمالقة يبعث بآخر أنفاسه من جراء طوفان أليم. .

لقد كان إيراد النخلة الواحدة عشرة جنيهات على الأقل، فمن كان يملك عشر نخلات أو عشرين نخلة يحيا حياة سعيدة منعمة، كلها اليسر والرخاء. أما الآن فقد نقص ثمار النخلة إلى حد كبير، ولم تعد تغل أكثر من عُشر ما كانت تغله قبل أن تغمرها مياه الخزن، هذا فضلا عن النخيل الذي يتساقط على الدوام عاماً بعد عام. أما قبل التعلية الثانية، فكان عدد النخل وأشجار الدوم يتزايد يوماً بعد يوم، وثمره يحلو ويكثر عاماً بعد عام، وعناية الأهلين به تعظم كلما زاد دخلهم منه، وتحقق أملهم فيه. .!!

ولا زلت أذكر تلك الثورات الصاخبة الطاهرة، التي كانت تنبعث من قلوب تلاميذي في الفصل، وتهتف بها حناجرهم، وتبدو مغيظة مُدَمرة حينما كنت أتحدث معهم في موضوع إنشائي، يتناول سد أسوان، منافعه وآثاره. .!

منافعه وآثاره؟! إنه لا منفعة له ولا فائدة فيه. .

هكذا كانت عقيدة التلاميذ، وهكذا كانوا تعلنون هذه العقيدة على الرغم من حديثي الطويل معهم، ومناقشتي لهم، وشرحي لعناصر الموضوع. . إن واحداً منهم لا يؤمن بهذا السد ولا يعترف به، ولا يعتقد أنه أدى مصلحة ما إلى القطر عظمت أم حقرت، بل على العكس من ذلك يجب أن يكون الموضوع، وتعرض القضية. . .

لقد عذرتهم حينذاك، لأن كل واحد منهم، لا يرى سوى أثره في بلاده، وخطره عليها، وأضراره الماحقة بها، وأنه حرمهم اللقمة السائغة، والنبتة الناضرة، والدوحة الباسقة، والثمرة اليانعة، والخير الوفير. . وطاردتهم المياه المحجوزة أمامه في عنف وقسوة وجبروت، وأخرجتهم من دورهم، وهدمتها هدماً، وطمست معالمها طمساً، وظلت تطاردهم في إلحاح، حتى جعلتهم يسكنون قنن الجبال، وذري الهضاب حيث الصخر الصلد لا تؤثر

ص: 30

فيه المعاول، ولا ينبت فيه نبات. .!!

وبالغ بعض النوبيين في تصوير هذه البلاد على صورة عجيبة غريبة، لقد قال: إنها كانت قبل التعلية الثانية جنة فيحاء ينعم أهلها بالخيرات صنوفاً وألواناً، ولا تكاد تفترق بحال من الأحوال عن أنضر بقعة من بلاد القطر، غنى وثراء. .!!

ولم يرقني هذا القول كثيراً، ولما فيه من المبالغة، التي لا يجدر بالمخلص أن يتصف بها، لأنها تضر أكثر مما تنفع، فليس الوضع على ما يفهمه المتطرفون، من أنه عداء ونضال، وبغية سلب هذه البلاد خيرها، وحظها من الخير والنعم، بل هي الحاجة التي دفعت إليها مصلحة القطر المصري كله، كما أبنت عن هذا آنفاً. . وهذه سنة الكون، وقانون الوجود. . فلا داعي إذن للمبالغة والمغالاة، وتصوير الواقع في غير صورته. . إذ أن المساحة المنزرعة قبل التعلية لا تكاد تذكر، ومهما كانت من الخصب والنماء، فإنها يجب ألا تصور على هذه الصورة، ولا تنال هذه المنزلة. . ويخيل إلي أن الغلو في التصوير، والمبالغة في التعبير، قد أصبح قاعدة يسير عليها الناس، حتى لا يكاد الباحث يدرك حقيقة الأمر كما يرجو ويحب، قداسة ونزاهة. . وأعتقد أن الأمور رو وُزنت كما يجب أن توزن، لعرفنا المهم والأهم ولبدأنا بالأهم، لأننا في مسيس الحاجة إليه، ولكن المجتمع لا يسير على هذا النهج، وإنما يجعل كل الأمور في أعلى درجات الاهتمام فيختلط الأمر على ذويه، وأصحاب الشأن، فتتعطل حركة الإصلاح في البلاد. .

ومهما يكن من شيء، فقد أضرت مياه الخزن بهذه البلاد وأعني بلاد النوبة، بقدر ما أفادت بقية بلاد القطر، ولقد فهمت ذلك جلياً جميع الحكومات المصرية. ولكن مجرد الفهم لا يكفي، وإنما الواجب أن نسرع بتنفيذ المشروعات العظيمة، المزمع إقامتها في هذه البلاد، وإن هذا الوقت وقتها، وأخشى ما أخشاه أن تصبح فكرة منسية في زوايا التاريخ. .!!

عبد الحفيظ أبو السعود

ص: 31

‌لا ذمة ولا شرف!

للأستاذ نقولا الحداد

أول مرة في عمر الإنسانية نرى ونسمع أن أمم الأرض جمعاء وعددها 57 أمة تؤلف منها محكمة تقضي في مصير أمة صغيرة.

1 -

من ندب هذه الأمم لهذا القضاء؟ - الله؟ - لا.

2 -

أين كانت هذه المحكمة الأممية يوم كانت فلسطين الحديثة تعاني الأمرين تحت رق الانتداب البريطاني الذي كان يأخذ من العرب ويعطي لليهود؟ كانت مبعثرة ينهش بعضها بعضاً؟.

3 -

هل لهذه المحكمة الأممية ضمير الفيصل العادل؟ لا.

4 -

هل لهذه المحكمة الأممية أن تنفذ الحكم الذي تصدره؟ كيف؟

5 -

هل جميع الأمم على الإطلاق خاضعة لأحكام هذه المحكمة؟ لا. . . بعضها تحت القانون. وبعضها فوق القانون. . . أليس هكذا تكون العدالة والمساواة؟

أولا - أن الذين ندبوا السبع والخمسين دولة للقضاء في هذه المحكمة الأممية. هم ثلاثة أشخاص، لا ثلاث أمم. هم زعيم روسيا وزعيم بريطانيا وزعيم أمريكا يعني ثلاثة آدميين يتحكمون بمصير 57 أمة أو بمصير ألفي مليون آدمي.

من خوَّل هؤلاء الثلاثة هذه السلطة؟ - الذكاء السياسي؟ العلم العملي؟ - لا. لا. لا.

خوَّلهم هذه السلطة الحسام الممتشق. والمدفع المنطلق. والأورانيوم المنبثق. أضف إلى هذه الثلاثة التوفيق الذي كان في عالم الغيب وليس لهم في تدريبه أقل نصيب.

ثانياً - كان أعضاء هذه المحكمة أو بالأحرى كانت أممها الكبيرة كالصغيرة تصخب كالخضم الهائج وتصرخ صراخ أهل الجحيم من شدة آلم ذلك الجنون الحربي المطبق. وأي جنون أفظع من أن يدمر الواحد في ساعة ما بناه في قرن، ومن أن يتلف الخيرات التي أغدقتها الطبيعة عليه ويصبح في يوم وليلة حائراً يبحث عن الغذاء والكساء والمأوى فلا يجدها.

كل بلك الثروات الطائلة ذهبت كالعاصفة تذريها الريح، كيف يكون الجنون غير هذا؟

هذه حال الأمم التي تقضي الآن في مصير أمة صغيرة هي جزء من ألفين من أمم

ص: 32

الأرض.

عجباً! ما بالها تترك الأمم الكبرى التي تعد بمئات الملايين تهش بعضها بعضاً وهذه أحوج إلى الفيصل في قضاياها من أمة صغيرة كفلسطين.

أليست هذه المحكمة أجدر بأن تنصف روسيا من أميركا وبريطانيا أو تنصف أميركا من روسيا أو تنصف بريطانيا من هذه وتلك؟

هل إذا تمَّ قضاء هيئة الأمم ال57 على فلسطين يأمن العالم الحرب ويضمن السلام.

ثالثاً - هل لهذه المحكمة الأممية ضمير الفيصل العادل؟ يمكنك أن تحلف صادقاً بالله العظيم وبالأنبياء والرسل أجمعين أن أولئك الوفود المتكأكئين في لايك سكسس وفلاشنغ ميدوز وهم ينظرون في قضايا الأمم المظلومة خالون من الضمير الصالح بتاتاً، لا ذمة ولا شرف. ما معنى أن بعضهم يتغيبون عن المحكمة وبعضهم يمتنعون عن إعطاء أصواتهم؟. معناه أنهم ليسوا ذوي ذمة ولا ضمير، لأنهم يساومون الأقطاب الكبار أو يخافونهم أو يطمعون برشاوى مادية أو سياسية. وأخيراً ظهر أن دنيئاً منهم قبل رشوة 10 آلاف دولار. ألا تباً لهذه المحكمة التي ضميرها المال وذمتها المال وشرفها الريال.

قضية فلسطين واضحة كل الوضوح. وكل مندوب من مناديب الـ57 أمة فاهمها تمام الفهم. ولكن الضمير الخرب واقف دونها. فكيف نثق بمحكمة ليس لأعضائها ضمائر ولا شرف؟

حقاً. لم يعد عالم عصر الذرة والكهرباء الخ ممكناً أن يعيش بسلام إلا بقيام محكمة كهيئة الأمم. ولكن بكل أسف ليس لهذه المحكمة ضمير صالح، هي محكمة شيطانية جهنمية، وإبليس الرجيم هو الموحي لها، فماذا يكون مصير الأمم الصغيرة، بل مصير الأمم الكبرى إذا كان إبليس رائدها؟ الحرب طبعاً!.

نحن لم ننته من الحرب أنه لا يزال في العالم بقية من الخير والعيش، وإبليس لن يعود عن طغيانه على ملكوت الإنسان إلا متى دمر هذه البقية الباقية.

أصل السبب في طغيان الشيطان هو أن الرأسمالية تستفحل كل يوم أكثر من يوم، واليهود قابضون على زمامها لأنهم عباد المادة، فما دام في الأرض يهود فهناك أموال تكافح وتثير السلاح وتضع المدافع والقنابل الخ وتدفع الرجال إلى أتون جهنم.

ص: 33

فلا سلام على الأرض ما دام اليهود يهوداً، ليتهم يسمعون وصايا موسى، وإن كانت نجحت بحقوق غير بني إسرائيل.

ما هيئة الأمم هذه إلا ألعوبة صبيانية يلعبها ستالين وتشرشل ثم خلفه بيفن وروزفلت، ثم خلفه ترومان.

ولكنها لعبة شريرة، زعموا أنهم يريدون بها إنصاف الأمم الصغيرة من الأمم الكبيرة، فإذا هم يضيفون ظلماً على ظلم.

أتعلم ما سبب نكبة فلسطين الأخيرة؟

شخص واحد من ألفي مليون شخص له غرام بكرسي الرئاسة، ولكنه ليس أهلا لها ولن يكونها، فإن صارها كان 5 ملايين يهودي يحكمون 140 مليون إنسان، ويتصرفون بمقدرات ألفي مليون إنسان.

رابعاً - هل لهذه المحكمة أن تنفذ الحكم الذي تصدره؟ وكيف؟

إنكلترا التي هي أصل نكبة فلسطين من أول الأمر تتنصل من تبعة حكم محكمة هيئة الأمم، لا تريد إلا أن يعلق العرب واليهود بعضهم ببعض وهي تتفرج، والله أعلم أي الفريقين تساعد من تحت لتحت، وأيهما تحرض سراً!

والأمريكان لا يريدون أن يرسلوا أولادهم إلى الأرض المقدسة لكي تغسل دماءهم دم المسيح.

وستالين يتمنى أن يحط رجله في الأرض المقدسة، ولكن أميركا وإنكلترا تمنعانه ولو بحرب.

إذن لا يبقى إلا أن العرب يطهرون أرضهم من جراثيم الشر وحكم محكمة الأمم يصبح (طش فش) لا شيء!

ولماذا نحن نتوقع من الأمم أن تكف شر الصهيونيين عنا، ونحن نعلم أنه (ما حك جلدك غير ظفرك)!

أليس جديراً بنا الآن بل من قبل الآن أن ندفع إنذاراً إلى بريطانيا (العظمى) أن انتدابها الذي كان وبالًا على فلسطين قد انتهى فلتتنح، ويدّعنا نحن نسوي حسابنا مع الصهيونيين الذين كانوا من صنع يديها.

ص: 34

وعلينا، يا عرب جميعاً، أن نحتل فلسطين، ونقذف بالصهيونيين (لا باليهود) إلى البحر.

لا أتكلم هذا الكلام عن نفسي، لأني شخص ضعيف إلا بإيماني، بل أتكلمه عن لسان ستة وثلاثين مليون عربي.

نقولا الحداد

ص: 35

‌من وراء المنظار

القران في شارع فؤاد!. .

إن عجبت من هذا الذي يطالعك به العنوان فأني أزيدك عجباً إذ أضيف إليه أن ذلك كان في نحو الساعة العاشرة من مساء يوم الأحد! حيث يمتلئ هذا الشارع وما تفرع منه بطلاب اللهو من الأجانب والمصريين في عطلة الأسبوع. . .

انعطفت وصديقيَّ من شارع عماد الدين إلى شارع فؤاد فإذا بميكروفون عظيم يملأ الشارع كله بكلام الله في صوت كان على شدة علوه من أحلى الأصوات وأبعثها للطرب.

وعجبت وعجب صاحباي وقلنا ما هذا؟ إنه والله للقرآن! ونظرنا فإذا متجر جديد جميل تزين الأنوار المتوهجة المتلألئة واجهته وجوانبه، ومنه ينبعث هذا الصوت القوي الساحر بقول الله سبحانه (والشمس وضحاها والقمر إذا تلاها. . .)

وأسرعنا الخطى صوب النور الذي نرى، والنور الذي استشعرته نفوسنا فيما يشرق في السمع من كلام الله؛ ووجدنا أنفسنا وسط أصناف من خلق الله يذهب البصر فيهم هنا وهناك وهم حائمون على هذا النور كالفراش يقعون عليه من كل صوب وأرواحهم مستشرفة إلى هذا الصوت الجميل القوي يسترسل في تنغيمه وتطريبه، وآذانهم مرهفة وقلوبهم خاشعة وكأن عليهم الطير مما سكنوا؛ وما أن يقف صاحب هذا اللحن العلوي عند قول الله (ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها) حتى تنبعث بالتصفيق أكفهم وتنطلق بعبارات الاستحسان حناجرهم.

وأجلت منظاري في الجمع المحتشد فإذا به خلق من كل طبقة ومنم كل نمط ففيه المقبعون والمقبعات والمعممون والمطربشون وفيه العلية يقفون إلى جوار سياراتهم الفخمة، وفيه المتواضعون مثلي من عباد الله ممن يدبون على أقدامهم، وفيه عدد من العمال والخدم والحوذية وسائقي سيارات الأجرة وغيرهم بيض وسود من كل سن وفي كل زي وفيه المسلمون وفيه لا ريب النصارى واليهود والجميع ينصتون إلى الشيخ مصطفى إسماعيل يتلو آيات الله وينظرون إلى اسم الطرابيشي المصري تلألئه الأنوار القوية على واجهة متجره الجميل الجديد. . .

وامتلأ طوار الشارع حتى لم يبق فيه موضع، وغص الشارع نفسه بالسيارات والعربات

ص: 36

من كل نوع، حتى الترام نفسه يبطيء سائقوه إذ ينصتون ويفون على مقربة من المتجر فلا يحبون أن ينطلقوا فيبتعدوا عن هذا الصوت الندي الحلو الذي سحر الناس جميعاً، والذي يرسله الميكروفون قوياً صافياً لا حشرجة فيه ولا تسلخ ولا كدرة فيملأ به الشارع.

(الله أكبر. . . بسم الله الرحمن الرحيم، والشمس وضحاها، والقمر إذا تلاها، والنهار إذا جلاها، والليل إذا يغشاها، والسماء وما بناها، والأرض وما طحاها، ونفس وما سواها، فألهمها فجورها وتقواها).

بهذا التنزيل المجيد كان يصلصل حلق القارئ البارع في صوت يرتفع إلى عنان السماء ثم يهبط إلى قرار قريب، فتحس فيه تموج الشعاع وتأوه الجدول وترسل الكروان وتنغيم البلبل، وتجد نفسك مسحوراً بهذا الصوت اللين الحلو، وهذا الإيقاع العبقري الجميل في إمالة سائغة لأواخر هذه الآيات الكريمة يهفو لها السمع وتترشفها النفس، وكانت ترتفع مع اللحن نفوس السامعين وتهبط وعم صامتون خاشعون حتى يفرغ ذلك النفس الطويل، نفس القارئ المفتن فتضج أصوات السامعين بلفظ الجلالة. . .

كان المسلمون يطربون للتنزيل الحكيم وقد وجلت قلوبهم لذكر الله وزادتهم آياته إيمانا، وكانوا يعجبون بذلك الصوت العبقري القدر وهذا الترتيل الشجي الساحر؛ وكان غير المسلمين مأخوذين بهذا التطريب العجيب الذين يحسون أثره ولا يتبينون سره؛ وكان الأجانب مذهولين بهذا المتجر الذي ينبثق منه النور والذي جاء يزحم متاجرهم ويبدأ بهذا التحدي فيفتح أبوابه يوم الأحد ويذيع كلام الله في شارع فؤاد. . .!

ودخلنا على الرغم من الزحمة فناء المتجر فإذا به ممتلئ بالناس، وإذا باقات كبيرة من الزهر تبلغ الواحدة منها قامة الرجل طولا تزين جوانب الفناء وكلها مهداة إلى المتجر الجديد من أصحاب المتاجر الكبيرة كما دلت على ذلك ما علق عليها من بطاقات.

وكان كل ما في المتجر يملأ النفوس سحراً وشعراً فهذه الأنوار المتألقة وهذه الزهور الناضرة وهذت التلاوة العذبة، ثم هذه البضائع الجديدة المنسقة على الرفوف اللامعة النظيفة في أناقة وحسن ذوق كل أولئك كان يبعث البهجة في النفوس ويلقي السحر في الخواطر.

(الله أكبر. . . بسم الله الرحمن الرحيم، ألم نشرح لك صدرك ووضعنا عنك وزرك الذي

ص: 37

انقض ظهرك ورفعنا لك ذكرك) وأخذ الشيخ إسماعيل يرتل هذه السورة ويرددها وقد أفرغ فيها كل فنه وبلغ صوته فيها غاية حلاوته والناس يهزون رؤوسهم في تخضع ونشوة معاً ويودون لو ظلوا وقوفاً يستمعون حتى ينصدع على الأفق عامود الصباح. . .

(الله أكبر. . . بسم الله الرحمن الرحيم. . . والضحى والليل إذا سجى، ما ودعك ربك وما قلى وللآخرة خير لك من الأولى ولسوف يعطيك ربك فترضى).

ما كاد الشيخ يقف عند هذا الوقف حتى انتزع الناس الزهور من الباقات وأمطروه بها من كل جانب وهو في الطابق الأوسط وتشققت حناجرهم بالهتاف، حتى كأنما طاف بهم طائف من الجنون وقال أحدهم (والله هذا رجل أنسرق من الجنة).

وختم الشيخ تلاوته وأخذ الناس ينصرفون وملء نفوسهم البهجة من هذا الافتتاح الموفق، ونظرت إلى المتاجر الأخرى فطاف برأسي معنى لعله طاف برؤوس غيري من الناس، وذلك أن المتاجر الأخرى على طوارى الشارع باتت تحس هذه الليلة ذل الغربة، وكأنما كان هذا القرآن فتحاً في هذا الحي الإفرنجي الذي ما شهدنا فيه مثل هذا من قبل، وكأنما كان متجر الطرابيشي غزواً يباركه كتاب الله. . . وشعرت بالعزة الوطنية حق العزة وأحسست لأول مرة في هذا الشارع أن الدار داري والأهل أهلي والوطن وطني. . . وأغتلى خيالي وأنا الشاعر الذي يطير به الخيال كل مطير، فخيل إلي أن الغافقي لم يرتد عن بواتييه، وأني أسمع القرآن لا في شارع فؤاد ولا في القاهرة ولكن على ضفة السين!

مناقشة هادئة

خلود الروح

للشيخ محمد رجب البيومي

أبي أين تصير الروح حين يضيق بي عمري

أتفنى الروح كالجسم إذا غيبت في قبري

سألت العقل إيضاحاً فقال العقل لا أدري

بني الروح حين تطير تمرح في ربى الخلد

لها في الأفق تغريد يثير كوامن الوجد

ص: 38

ستحيا الروح في الأخرى ويفنى الجسم في اللحد

أبي الجسم يرى بالعين أما الروح بالوهم

فهل تنجو من الموت ويمضي الموت للجسم!

كلام يأبى كالسحر يستعصي على فهمي

بني الروح في جسمك مثل الملح في الماء

فهل تنكر أنت الملح إن لم يره الرائي

إذا وسوس إبليس فلا تهمم بإصغاء

أبي لست أماري في وجود الروح بالدنيا

ولكن حينما نمضي أتفنى الروح أم تحيا؟

شكوك جففت حلي وجئتك أنشد الريا

بني العطر مقياس به يتضح الحكم

مضت أوراقه عنه وكل منه يشتم

كذاك الروح تبقى بعد ما ينعدم الجسم

أبي أوضحت بالتمثير ما دق على فكري

ففي جيبي زجاجات بها قسط من العطر

ستبقى مثله الروح ويمضي الجسم كالزهر

محمد رجب البيومي

ص: 39

‌تعقيبات

الإسلام. . والسلام

نشرت مجلة (تايم) الأمريكية صورة خيالية للنبي محمد عليه السلام، وقد رسمته في شكل زنجي يمتطي جواداً وبيده سيف، وكتبت تحت الصورة (الإسلام لا يعرف السلام)، وتقول الوكالة التي نقلت هذا النبأ إن سفير الباكستان كان هو الدبلوماسي المسلم الوحيد الذي احتج بشدة لدى سفير أمريكا على هذه الوقاحة، وأن الدوائر الدبلوماسية في لندن قد بذلت جهوداً جبارة لمنع الهنود المسلمين أبناء الباكستان من القيام بمظاهرات عدائية ضد أمريكا.

هذا ما كان من أبناء الباكستان في لندن. أما عندنا فقد اكتفت الحكومة المصرية بمصادرة عدد المجلة ومنعه من دخول مصر، وأنا أذكر أن حكومتنا هذه قد ألقت في الأيام الأخيرة بصحفي مصري في غياهب السجون لأنه تطاول وتجاوز الحد إذ كتب كلمة خفيفة يقول فيها إن ملك اليونان وقع في حب فتاة.

ولا عجب، فنحن ناس ظرفاء جداً، ومجاملون جداً، وإننا لنحاول أن نراعي مشاعر واحساسات أولئك الذين يهوون في غير مبالاة على مشاعرنا واحساساتنا بالنعال. .

لقد كان من الواجب على حكومتنا أن تمنع تلك المجلة منعاً باتاً من دخول مصر وأن تتفاهم مع الجامعة العربية على منعها من دخول الأقطار العربية الإسلامية كلها، حتى نؤدب عبيد المال وأرقاء المنفعة ولو كلفهم ذلك التهجم على الكرامات والاستخفاف بالعواطف والاحساسات. .

وبعد. . .

فهذه ليست أول وقاحة من نوعها، ولن نكون كذلك آخر وقاحة من نوعها، ونحن نقول لتلك المجلة ولبني قومها: حقاً إن نبي (الإسلام لا يعرف السلام) مع الظلم والطغيان والزور والبهتان، والاستعمار والاستعباد، وما تعث محمد عليه الصلاة والسلام إلا ليحطم الأصنام، ويدحض عبادة الإنسان للإنسان، وينادي أهل الأرض جميعاً إلى كلمة سواء، هي التوجه إلى الله العلي الكبير، ونحن أتباعه وأجناده (لن نعرف السلام) حتى نحطم طغيانكم، ونبطل بهتانكم، وندفع استعماركم الذي تطوقون به رقاب العباد.

نحن لا نعرف السلام إلا في رعاية الإنسانية وخامتها، فمن مبلغ ذلك الكاتب الأحمق أن

ص: 40

نبي الإسلام هو الذي نادى منذ أربعة عشر قرناً بأن (لا فضلَ لعربي على عجمي إلا بالتقوى. .) على حين أن قومه الأمريكان يحلون في هذا العصر - الذي يقولون عنه إنه عصر النور والحضارة - قتل الزنوج والهنود لأنهم يعتبرونهم أقل مرتبة في الإنسانية. . وبعد هذا يتحدثون عن الإنسانية وعن المدنية وعن السلام. .

هذا المجمع اللغوي:

مر على إنشاء المجمع اللغوي خمسة عشر عاماً، فقد أنشئ في عام 1932، ويذكر الذاكرون أن المرسوم الملكي الذي صدر بإنشاء المجمع قد حدد الأغراض التي طلب إليه تحقيقها وهي:(أ) أن يحافظ على سلامة اللغة العربية وأن يجعلها وافية بمطالب العلوم والفنون في تقدمها، ملائمة على العموم لحاجات الحياة في العصر الحاضر، وذلك بأن يحدد في معاجم أو تفاسير خاصة أو بغير ذلك من الطرق ما ينبغي استعماله أو تجنبه من التراكيب. (ب) أن يقوم بوضع معجم تاريخي للغة العربية ، أن ينشر أبحاثاً دقيقة في تاريخ بعض الكلمات وتغير مدلولاتها. (جـ) أن ينظم دراسة علمية للهجات العربية الحديثة بخصر وغيرها من البلاد العربية.

والآن، وبعد أن مضت تلك السنوات الطويلة التي تغيرت فيها الدنيا، وتغير العالم والتاريخ، ماذا حقق المجمع من تلك الأغراض، وماذا أجدى على اللغة من تلك المهمات التي رسمها المرسوم؟!

قالوا من زمن طويل إنه يشتغل بإنجاز معجم وسيط، وأنه بعد العدة لوضع معجم مطول، وهو إلى الآن عندما قالوا: فلا المعجم الوسيط أخرج وأنجز، ولا في المعجم المطول فكر وبحث.

وقالوا إنه سيخرج معجما تاريخياً، ثم قالوا إنه سيكتفي في ذلك بإخراج معجم المستشرق الألماني (فيشر)، وإلى الآن لم يسمع أبناء العربية خبراً عن ذلك المعجم.

وقالوا إنه سينظم دراسات للهجات العربية، وقالوا إنه سيضع ويحقق من الألفاظ العربية ما يوسع في مادة اللغة ويجعلها وافية في التعبير عن حاجات العصر، وما أحس الناس أثراً لذلك، وكل ما كان أن وضع المجمع جملة من الألفاظ والمصطلحات ولكنه طواها في مضابطه التي لا ترى النور، أو نشرها في تلك المجلة التي يوزعها على الرجال الرسميين

ص: 41

الذين لا يهمهم أمر اللغة في شيء. .

والسبب في ذلك أن حكومتنا نظرت إلى المجمع كأنه هيئة تشريفية، لا هيئة عاملة، فأخذت تلصق به من تريد تشريفهم وخدمتهم لا خدمة اللغة بهم، فما أشبه المجمع في حاله الراهنة بهيئة كبار العلماء، فليس لأيهما أي أثر في الحياة العلمية.

والعجيب أن الحكومة تعمد في كثير من الأحيان إلى اختيار أعضاء في المجمع من بين الرجال الذين لهم من مشاغلهم الخاصة وأعمالهم في الدولة ما لا يسمح لهم بالتفكير في اللغة ولا في معاجمها ولا في مجمعها!!

أيها الناس، لقد مرت خمسة عشر عاماً، فقولوا لنا ماذا كسبت اللغة من هذا المجمع، وماذا كانت تخسر لو لم يكن هذا المجمع. .

غيرة!!

كتب أحد الكتاب مقالاً في إحدى الصحف يقول فيه: (إن من المؤسف حقاً أن يلاحظ الإنسان أن الصلة قد انقطعت أو كادت بين القراء المصريين والأدب الفرنسي المعاصر، فبينما كان الجيل السابق من المثقفين المصريين يعرفون الكثير عن أناتول فرانس وأندريه جيد وفرانسوا مورياك وغيرهم من الأدباء الفرنسيين الذين بلغوا أوجهم بين سنة 1900 وسنة 1925 نجد القارئ المصري المعاصر لا يكاد يعرف إلا القليل جداً عن الظاهرين من الأدباء والمفكرين الفرنسيين اليوم. .)

هذا ما قاله ذلك الكاتب بلغته وبأسلوبه، وهذا هو ما دعاه إلى التأسف والتحسر، ونحن لا ندري: أهي غيرة على الشعب المصري، أم على الأدب الفرنسي؟!

يا سيدي المتأسف: إن شبابنا منصرفون عن أدبهم، عازفون عن تراث آبائهم وأجدادهم، ولا يعنيهم أن يأخذوا منه ما يقوم ألسنتهم ويشعرهم بذاتيتهم وقوميتهم، أفما كان الأولى أن تفزع لهذا بدل أن تفزع لذلك الأدب الفرنسي الغريب. . .

لقد عنينا من قبل بأدب فرنسا، وبحضارة فرنسا، وأخلصنا لها المودة والمحبة، وأشدنا بها يوم كانت، وبكينا عليها يوم ماتت، ومع ذلك فقد خذلتنا وهي لِما نزل ملفوفة في أكفان الموت، وأبت علينا حق الحرية والحياة والكرامة.

أنشدوا أدبكم قبل أن تنشدوا أدب الناس، واحرصوا على أن تكون لكم ذاتية في تفكيركم،

ص: 42

واتجهوا إلى ما خلف لكم الآباء من ثروة فكرية فإنها ثروة ضخمة نافعة، واعلموا أن التظرف بالكلمات الأعجمية وقراءة القصص الأوربية أصبح مظهراً من مظاهر التفاهة التي لا تليق بالرجال. . .

ابن هشام والدكتور زكي مبارك:

عرض والدكتور زكي مبارك في مقال له بجريدة (البلاغ) للحديث عن العلامة النحو، أبن هشام الأنصاري فامتدحه وقال إنه يعرف من فلسفة النحو ما لا يعرف سيبويه، ثم انتقده في قوله:(ويجب في المؤكد كونه معرفة، وشذ قول عائشة رضي الله عنها: ما صام رسول الله شهراً كله إلا رمضان. .) فقال الدكتور: لأول مرة أستطيع الأخذ بتلابيب ابن هشام الأنصاري، فالذي سمعناه وقرأناه أن السيدة عائشة بنت أبي بكر الصديق، وأنها زوجة الرسول عليه الصلاة والسلام، فأبوها عربي صريح، وزوجها سيد العرب، فكيف يكون في كلامها شذوذ في لغة العرب؟.

وهنا أحب أن ألفت نظر والدكتور زكي إلى مسألة تناولها العلماء من قبل بالبحث والمناقشة حول الاستشهاد بالحديث. فقد رأى جمهرتهم أن الأحاديث إنما رويت بالمعنى كما دخلها كثير من الأحاديث الموضوعة والمصنوعة في العصر العباسي، ولهذا منع الكثيرون الاحتجاج بالحديث في اللغة، وعلى هذا نجد النحويين يناقشون ألفاظ الأحاديث فيحكمون في بعض الأحيان بشذوذها، وأحياناً بخطئها، وأحياناً بضعفها، ولو صح عندهم الحديث بلفظه لما كان لهم أن يحكموا بتلك الأحكام، فابن هشام إنما يحكم على هذا الكلام المروي عن عائشة، ولو أن والدكتور زكي مبارك رجع إلى ما قرره العلماء في هذا في كتب النحو المبسوطة، وكتب الشواهد خاصة مثل خزانة الأدب للبغدادي لأفاد كثيراً ولما نعجل الأخذ بتلابيب ابن هشام. .

هذه مسألة، وهناك مسألة أخرى يمكن أن يفطن إليها الباحث في النحو، وهي أن أكثر الأحاديث التي يرى النحويون في ألفاظها مخالفة نحوية إنما رويت عن عائشة رضي الله عنها. . وليس تحت يدي الآن شيء من المصادر لأسرد كل ما ورد في ذلك، وهي على أي حال مسألة جديرة بالنظر وبالبحث. .

(الجاحظ)

ص: 43

‌الأدب والفن في أسبوع

ملء كرسيين في المجمع اللغوي

كان يوم الاثنين موعد الجلسة التي عينها مجمع فؤاد الأول للغة العربية لانتخاب عضوين يشغل بهما كرسيين من الأربعة الخالية به، وقد أسفرت عملية الانتخاب عن فوز معالي الأستاذ علي عبد الرازق وزير الأوقاف والأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني. وقد جرى الانتخاب بين الذين رشحهم أعضاء المجمع في جلسة سابقة والمرشح هو من يزكيه عضوان مع بيان مؤهلاته، وكان قد رشح ثمانية هم: الأستاذ علي عبد الرازق والأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني والأستاذ أحمد حسن الزيات ومحمد العشماوي باشا والأستاذ إبراهيم مصطفى والأستاذ محمد على مصطفى والدكتور رمسيس جرجس والشيخ عبد السلام القباني. وكان الأستاذ الزيات تالياً في عدد الأصوات للأستاذ المازني.

وقد عرفت مما سبق أن الكراسي الخالية بالمجمع أربعة: ثلاثة منها خلت بوفاة أعضاء مصريين، وواحد خلا بوفاة عضو عراقي. وقد رأى المجمع الاقتصار الآن على شغل كرسيين بمصريين، على أثر رغبة أبديت في زيادة عدد الأعضاء الأجانب وهم الآن ثمانية وقانون المجمع يفسح لهم المدى إلى عشرة، على أن المجمع لم يتقيد بعد بشيء في هذا الصدد وليس في القانون ما يقيده.

وبعد فليت مجمعنا الموقر يُشغل الناس بإنتاجه كما يشغلهم باختيار أعضائه وعقد جلساته وتأليف لجانه.

الثقافات العالية بالبلاد العربية

ألقى الأستاذ فريد أبو حديد بك محاضرة بنادي الخريجين المصري عنوانها (على هامش المؤتمر الثقافي) فبين أهمية المؤتمر الذي عقد بلبنان في الصيف الماضي، من حيث أثره في التقريب بين وجهات النظر العربية وما أسفر عنه من نجاح في هذا وفي الموضوع الذي انعقد من أجله المؤتمر وهو وضع قدر ثقافي مشترك لطلبة التعليم إلا ابتدائي والثانوي في جميع البلاد العربية. ثم قال إن ثمة أمراً هاماً يجب أن تلتفت إليه الجامعة العربية وتوليه عنايتها، وهو رفع مستوى الثقافات العالية بالبلاد العربية حتى تساير في ذل كبريات الأمم وتشارك في الحضارة العالمية مع هيئات العالم الثقافية التي اتجهت أخيراً

ص: 45

إلى التقارب والتعاون بين جميع الأمم في العلوم والفنون والآداب، والتي تنظم جهودها مؤسسة التربية والعلوم والثقافة التابعة لهيئة الأمم المتحدة.

وقال الأستاذ فريد بك إن رفع مستوى التعليم لإيجاد علماء وفنيين ممتازين ضروري لترقية المجتمع ورفع مستوى المعيشة والكرامة الإنسانية، لأن هؤلاء الممتازين في العلوم والفنون المختلفة سيعكفون على الأبحاث ويضعون المشروعات التي تؤدي إلى استنباط موارد جديدة للثروة وإلى التقدم في ميادين الصناعة والزراعة.

أما قصر الاهتمام على نشر التعليم فإنه يؤدي إلى نتيجتين سيئتين: الأولى أن الذين يتعلمون ولا يجدون العيش اللائق بهم يلجئون إلى الانحراف والثورات. والنتيجة الثانية أن المتعلم الذي يخرج إلى بيئة منحطة المستوى لا يلبث أن يندمج فيها ويفند ما ناله من التعليم.

وقد أفاض الأستاذ في شرح هذه الفكرة وضرب الأمثلة لها. ومما قاله ان الحضارة الحديثة إنما قامت في الأمم الغربية على التخصص والتبحر، أما نشر التعليم بين أفراد الشعوب فقد تلا ذلك بعد أن اتجهت الرغبات إلى تحقيق العدالة الاجتماعية وتهيئة الفرص للجميع.

مؤسسة دولية للآداب

من أنباء مؤسسة التربية والعلوم والثقافة التابعة لهيئة الأمم المتحدة - أن لجنة البرنامج والميزانية بها أوصت مؤتمر المؤسسة العام بإنشاء مؤسسة دولية للآداب، لتوطيد التفاهم بين الشعوب بفضل تبادل مؤلفات كبار أدبائها في نطاق واسع.

وهذه أنباء نرددها، ولا ندري أتستمر هذه المؤسسات وتتحقق أهدافها حتى يجني العالم ثمراتها أم ستقضي عليها قوى الشر المتغلغلة في دول الغرب والتي بدت أخيراً نواجذها البشعة الكريهة لمحاولة قضم فلسطين.

لم هذا؟

كتب الأستاذ إبراهيم الابياري في مجلة الثقافي كلمة بعنوان (أحمد الزين - كلمة رثاء ووفاء) بدأها هكذا: (أليلت أزغ بلبالة صدرت بها فما أنجحت حتى أصبحت. فأممت أم دار الكتب ألتمس فرجاً في عملة، وأنساً بين زملة. فما وطئت أسكفة الباب حتى يدرني البائب

ص: 46

ينعى إلى (أحمد) وما أحمد. هذا حميم أحم الله حمته فقضى، وخليل أخل لخه ومضى؛ شكا إلى الطب داءه فما أشكاه، واستأنى الأجل أجل صغير يرعاه فما آناه).

وأنا أعرف الأستاذ الأبياري رجلا دمثاً وديعاً موطأ الأكناف، فعجبت كيف عمل هذه (العملة) ولم عنى نفسه بهذا العناء؟ لم لم يقل: أتى على الليل وأنا أدافع هماً لزمني حتى الصباح، بدل (أليلتُ أزع بلبالة صدرت بها فما أنجحت حتى أصبحت) وماذا جرى للبواب حتى صار (البائب)؟ أمن الوفاء يا سيد إبراهيم أن ترثي صديقنا الراحل بمثل هذا؟ وماذا جنى حتى تحصبه بمثل (هذا حميم أحم الله حمته) أو بكلمة (بقواك) في قولك (وإما الإشفاق علي بقواك فما أعوزنا معه إلى ذي حول يعين بقول) أو هذا جزاء الصديق من الصديق؟!

أذكر أنني سمعت ثناء من فقيدنا الشاعر على الأستاذ الأبياري لنبالته وسهولة خلقه، فقد زامله في إخراج بعض الكتب، ولكنه لم يكن يدري أنه سيرثيه بـ (أليلت. . الخ) وفي (الثقافة) مجلة الأصدقاء!

وبعد فما غاية هذا (التفاصح) أيريد الكاتب أن يعبر عن أساه ولوعته أم يريد أن يظهر اقتداره على التشدق بالغريب؟ أما الثانية فله أن يحمد الله على نجاحه فيها وإن كان هذا النجاح لا يهم أحداً غيره. . وأما الأولى فليس سبيلها الجهد في تأليف الغريب وتكوين تلك التراكيب التي تصرف القارئ عن مضمونها إلى غرابتها والاستغراق في العجب من معاناتها، كما صرفت الكاتب من قبل عن الموضوع إلى هذه المعاناة. . ورحم الله الزين.

الأناشيد أيضاً:

كتبت في الأسبوع الماضي كلمة عن (الأناشيد) بينت فيها ضعف ما لدينا منها وعدم وفائه بالغرض المنشود، وأشرت إلى حاجتنا في الظرف الحاضر إلى نشيد قومي نابض بالحياة يردده الجميع. . وأذكر اليوم أن الأستاذ محمد عبد الوهاب كان قد كتب في (المصري) ينعي على الشعراء قصورهم في وضع الأناشيد القوية بمعانيها وحسن تعبيرها، وفي يوم الاثنين نشرت (المصري) ردوداً لجماعة من شعرائنا على عبد الوهاب.

قال الأستاذ علي محمود طه بعد أن أبدى موافقته لعبد الوهاب في نقد الشعراء: (ورأي الأستاذ في التأليف الشعري صائب وجميل، ولكنه ينصب في كل ألفاظه ومعانيه على التأليف الموسيقي، ويتهم صاحبه بألف دليل ودليل على أن موسيقانا في أغانينا أو أناشيدنا

ص: 47

بعيدة أيضاً عن الأصالة الفنية والأحاسيس الإنسانية فإذا كان ينعى على الشعراء اصطناعهم لأناشيد لا تهتز بالإحساس الإنساني ولا تحتفل بالصدق فما له هو وأصحابه سادة الفن يؤلفون لها ألحاناً فيجيء التأليف الموسيقي فاتراً شاحباً أو تلفيقاً مزوقاً).

وقال الأستاذ صالح جودت: (لحن عبد الوهاب بعض الأغنيات الوطنية مثل (نشيد العلم) و (هتف الداعي) وغيرهما ولكن التوفيق لم يحالفه فيها لأن عبد الوهاب يتميز باللون العاطفي الدافق بالحنان، وهذا لا يعيبه مطلقاً، فهذا لونه، وإنما يلبيه أن يخرج عن لونه ويلحن شيئاً ليس له سدى في نفسه) وقال:(ومن الخير لنا حين نهم بنظم أغنية وطنية ليلحنها عبد الوهاب أن تكون أغنية صادقة حقاً، من ناحيتنا ومن ناحيته، وتكون عاطفية كطبيعتنا نحن المصريين وكطبيعة موسيقارنا عبد الوهاب، وتكون خالية من الألفاظ الجافة كقصف الرعود والدماء والفداء التي لا نصيب لها من الصحة في حياتنا الوطنية)

وقال الأستاذ محمود حسن إسماعيل: (كل الأناشيد التي ظهرت حتى اليوم من جميع الشعراء المعاصرين مما أعدوه بقصد المسايرة والإجابة ومداجاة للظروف لا يدخل في رأيي في حساب الأناشيد الوطنية الحقة التي تصدر عن إثارة داخلية تدفع الشاعر دفعاً إلى هذا الفيض الوطني، ولا أذكر في تاريخ الأدب الحديث شاعراً واحداً اندفع لشعوره الذاتي بالوطنية إلى إخراج نشيد وطني واحد). . . وهكذا أجمع هؤلاء الثلاثة - وهم من شعرائنا المبرزين - على أن ما وضع من الأناشيد الوطنية إلى الآن كلام فارغ. ونقد بعضهم تلحينها من حيث أن الأداء الموسيقي غير صادق في التعبير عن الإحساس والعاطفة، وكل هذا يتلاقى مع ما أبديته من الرأي في الأسبوع الماضي. والمهم الآن أن أسجل شعور فنانينا وشعرائنا بالنقص في هذا الجانب من حياتنا الأدبية الفنية، وأن أستبشر بهذا الشعور، وأعده إرهاصاً لما يرجى بعده.

‌بقي لي تعقيب على ما قاله الأستاذ صالح جودت من

‌تميز عبد الوهاب باللون العاطفي وأن بيعتنا عاطفية

‌ووجوب موافقة الأغنية الوطنية لذلك، فأقول له: إن

ص: 48

‌عاطفة الحب والغرام غير عاطفة الوطنية، والثانية

‌تستلزم القوة من غير شك، ونحن وإن كنا لا نبتغي

‌هذه القوة من الكلمات الجوفاء فإننا نطلبها من الطاقة

‌الوطنية التي يشعر بها الشاعر والملحن. وإذا كان

‌تميز عبد الوهاب إنما هو في العاطفة الغرامية

‌اللينةفليس من اللازم أن يلحن الوطنيات.

الأدب والثقافة بالإذاعة:

رفع إلى الجهات المختصة تقرير عن الإذاعة اللاسلكية المصرية كتبه الأستاذ عبد الحميد يونس مبيناً فيه أسباب فسادها ووسائل علاجها، وتناول بهذا البيان النواحي المختلفة للإذاعة المصرية. وقد اطلعت على نسخة من هذا التقرير فوجدت به فقرات قيمة في الأدب والثقافة بالإذاعة رأيت أن آتي بصفوتها للفائدة:

كانت الإذاعة في العهد (الماركوني) مصرية العنوان إنجليزية الجوهر والروح. استخدمها البريطانيون في صرف الشعب عن جد الحياة بإيثار التسلية غير المفيدة والترفيه المسف على الإرشاد الخفيف والتثقيف المقبول، مما لا تزال آثاره باقية إلى الآن، فإذا كانت الإذاعة في عهدها القومي تريد أن تكون أداة تقدم ورقي فيجب أن تمحو آثار العهد الاحتلالي وأن تزاوج بين الفائدة والتسلية. ولن تستقيم الإذاعة في إدارتها وفيما يصدر عنها من فن أو ثقافة إلا إذا تم الفصل بين الإنتاج الفني والإدارة الإذاعية، وإلا إذا صلحت ضمائر الحاكمين على العمل الفني وكانوا من المتأهلين له، فينتفي بذلك ما يلاحظ من عدم التخصص ومن الوسائل التي يلجأ إليها المتقدم للإذاعة والتي أهونها التملق والمصانعة.

ولا ينبغي أن يكون عمل الإذاعة مقصوراً على الانتخاب مما يعرض عليها من الإنتاج

ص: 49

الفني والعقلي، وإنما يتعدى ذلك إلى إكمال النقص باستدعاء المواهب المبتعدة عن الإذاعة والاستعانة بالبارزين في الحياة الفكرية مع عدم إغفال الموهوبين من الناشئين.

وعرض التقرير للتمثيلية الإذاعية فندد بتفاهتها وانعدام الهدف والقوام الفني فيها، وما يتضمنه بعضها من أفكار فجة ومعوجة، واقترح أن يحتفل بإنتاج الأدباء المبرزين في القصة، وأن يطلب إلى الأدباء إعداد برامج مستوحاة من القصص العربي والاقتباس من روائع الأدب الغربي في القصة والتمثيل، والإشادة بمفاخر مصر والإسلام والعرب، والحذر من الفرعونيات لأن أبناء الأمم العربية الشقيقة يمقتونها مقتهم للآشورية والفينيقية وما إليهما.

وقال التقرير إن الإذاعة كادت تهمل الأقصوصة يسردها مؤلفها، وهي فن قد أصبحت له مكانة بين فنون الأدب، وفي أقرب من (الحديث) إلى نفوس الناس؛ وإن الاحتكار سرى إلى الأحاديث حتى أصبح بعض المحدثين يتصيد موضوعه تصيداً يبدو الحرج عليه وهو يلقيه، وبعضهم يحشر في موضوعاته المصطلحات الفنية التي لا تتفق وما ينبغي للعمل الإذاعي من التعميم، وصار لبعضهم حقوق ارتفاق على أبواب بعينها، كالتعريف بالكتب الذي عهد به إلى فرد معين أيا كانت كفايته الشخصية فإنها لا يمكن أن تستوعب العلوم الفنون جميعاً التي تؤلف فيها أشتات الكتب التي يقدمها. وكذلك سرى الاحتكار إلى الشعر، فليس المعول فيه على حكم الرأي العام الأدبي، إذ لا تعنى الإذاعة بتقديم الألوان المختلفة من الشعر، وإنما كل ما هناك الفرق بين الشاعر ورجال الإذاعة.

وأشار التقرير إلى الركن الثقافي الذي اختص به خريجو قسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب الذي يذيع باللغة العربية ثمرات القريحة الإنجليزية وصور الحياة البريطانية ويتفنن في عرضها تفنناً لو استخدمه في غير هذا الباب لمدحناه عليه. . وقال إن هذا الركن من أثر العهد الاحتلالي، وإن التعاون الذي بينه وبين الإذاعة التي كان يختار موظفوها من خريجي هذا القسم - لم يقم تعاون مثله مع أية هيئة أخرى. . .

(العباس)

ص: 50

‌البريد الأدبي

الفضاء والعدم والأثير

اطلعت على ما قاله الأستاذ أحمد محمد خلف في العدد 752 من الرسالة انتقاداً لما كتبته في الرسالة في موضوع (الفضاء والعدم). وهو يستنكر قولي بحتمية وجود مادة في الفضاء، ويحجني بمنطقه أني إذا كنت أجيز هذا الحتم فيجوز له أن ينقض قانون الجاذبية لأنه يمكن أن يوجد على الأرض أجسام تسقط من تحت إلى فوق خلافاً لسنة الجاذبية التي تقضي بسقوط الأجسام إلى تحت (نحو مركز الجاذبية). ولم يعطنا مثلا أو شاهداً على هذا الغرض.

لست أيها الأستاذ أنقض ناموساً من نواميس الطبيعة، ولا أنا من يقول

إن هذا الفضاء مشغول حتماً بمادة، وإنما عيناك العزيزتان حفظهما الله

وعيناي ترى الحقيقة الناصعة، وهي أن أنوار النجوم تملأ الفضاء، وما

هذه الأنوار إلا أمواج كهرطيسية من جملة الأمواج الكهرطيسية التي

تحرك طبلة الراديو وترجها فتسمعنا الأصوات البعيدة، ولا فرق بين

أن تكون هذه الأمواج فوتونية سابحة في الفضاء من تلقاء نفسها، أو

أن تكون تموجات أثيرية.

أما الأثير فما نفاه أينشطين ولا أثبته وإنما قال: إن نظريته لا تحتاج إلى الأثير، فهي تثبت سواء ثبت وجود الأثير أو انتفى.

وإذا كانت عملية ميكلهن ومرولي لم تكشف لهما سرعة الأرض في بحر الأثير، وبالتالي حكما بعدم وجود الأثير، فلأن هذين العالمين كانا موجودين مع جهازهما الذي جربا به عمليتهما، فخابت العملية التي كرراها مراراً بطرق مختلفة، ولم تنتج شيئاً لا سرعة الأرض في الأثير ولا وجود الأثير نفسه، وكان يجب أن يكونا على غير الأرض لكي يكتشفا سرها.

وقد تحير جميع العلماء من خيبة العملية في كشف سر الأثير مع أنها عملية محكمة علمياً

ص: 51

تمام الإحكام لا غبار عليها. ولكن أينشطين انبرى من دون جميع العلماء مدركاً السر، ومن جراء هذه العملية تجلى له سر النسبية، فقال لهم: لا تتعجبوا من اتفاق عملية ميكلهن ومورلي وهما على جهازهما على الأرض، فلو أمكنهما أن يراقبا العملية على الأرض من سطح القمر أو المريخ مثلا لكشفا سرعة الأرض في الفضاء سواء كان الفضاء أثيرياً أو لا أثيرياً، ولكنهما وهما على سطح الأرض مع جهازهما، فلا يمكن أن يكشفا شيئاً لا سرعة الأرض ولا سكونها، كما لو كنت على سطح سفينة ضخمة فلا تشعر بسرعة السفينة، ولكن إذا كنت على الشاطئ ومرت السفينة أمامك شعرت بسرعتها.

فالحركة أو السرعة تختلف باختلاف موقع الراصد، فالراصد على الأرض يرى الأرض ساكنة والفلك يدور حولها، ولكنه إذا كان في مكان بعيد عن الأرض كالمريخ مثلا، يرى الأرض تسير في الفضاء، فالأرض لأهلها ساكنة، ولكنها لأهل المريخ متحركة - هذه هي النسبية.

فإخفاق عملية ميكلهن - مورلي نجمت عن أن الراصد والمرصود كانا في مكان واحد، والمكان يتحرك بهما وبجهازهما معاً في وقت واحد، فهنا انتفت النسبية.

فالحركة، وأية حركة، يتوف ظهورها على مكان الراصد بالنسبة إلى مكان المرصود، وهذا هو سبب الصعوبة في تصور النسبية على من يحاول دراستها.

وحاصل القول أن إخفاق عملية ميكلهن - مورلي لم يثبت وجود الأثير ولا نفاه، لأن نتيجة العملية لا تتوقف على وجود الأثير أو عدمه، بل على انتفاء النسبية فيها، فلو كان الرصد في مكان خارج عن الأرض كالمريخ مثلا لظهرت سرعة الأرض للراصد. ونحن على الأرض نكشف سرعة المريخ، ولو كنا في المريخ لاستحال علينا أن نكشف سرعته الأبراقية ما في الأفلاك من الأجرام.

نقولا الحداد

رد على رد:

اطلعت في العدد الحادي عشر من المجلد الرارع من شهر تشرين الثاني على تعقيبين للأستاذين عدنان أسد وعادل الغضبان فيما يتعلق بموضعين من المسرحية الشعرية للشاعر

ص: 52

الفلسطيني العربي محمد حسن علاء الدين. (امرؤ القيس بن حجر) والموضعان هما في البيت التالي ذكره وهو:

خليلي أما صاح بلبل سجا

فأطرب سكانا وأطرب رودا

والموضع الثاني هو الشعر الهمزي الذي أنطق به الشاعر قسما من أشخاص المسرحية وبينهم همام بن سواد وصخر بن وقاص في الصفحة السادسة بعد المائة والذي أبياته تبتدئ بقول همام به سواد

هو (الطماح) من أغرى

به، واندس وشاء

فالأستاذ عدنان أسعد والأستاذ عادل الغضبان توعما أن فعولن لا يجوز انقلابها إلى فعل في البيت التالي وهو:

خليلي أما صاح بلبل سجا

فأطرب سكانا وأطرب رودا

واليقين هو جواز ذلك خصوصاً إذا كان انسجام الموسيقى الشعرية واضح في البيت كما هو الأمر في هذا البيت.

وأن توقيع الشعر لا تدخله الفوضى إلا عندما يصبح الارتكاز في قواعده على أوهام لم يأت بها ذوو الآذان السليمة من نقادي الشعر ومن قائليه.

أما فيما يختص بالشعر الهمزي فإن ذهاب السيد عدنان أسعد إلى أن الشاعر حذف الحرف الأخير من (غداء) في قوله:

طموح الشئوم غداء

طموح الشئوم جياء

فهو وهم قاده إليه فيما يبدو إلينا جهله أن حرف المد يكون بعد كل حرف للتصريع سواء أكان هذا الحرف في آخر الشطر الأول أو في آخر الشطر الثاني.

وفي مواضع كثيرة معينة ينبغي أ، لا يكتب هذا الحرف وإن كان يلفظ. ثم إن السيد عدنان لا يجعل ما كتبه واضحاً فيما يخص بأن البيت ليس فيه قبض. والسيد عدنان فيما كتبه يجعل كون البيت فيه قبض أو ليس فيه قبض متروكا في حالة غامضة أمام أنظار القارئ.

وأما قول الأستاذ عادل الغضبان أن الشعر فيه مفاعيل واحدة فهو خطأ أيضاً، ويظهر أن الوهم ذاته الذي جعل السيد عدنان يخطئ جعله يخطئ هو أيضاً، فالأمر ليس أمر مفاعيل وإنما الأمر أن الشاعر جعل في الشعر مفاعيلن ومفاعلتن وكلاهما يردان في مجزوء

ص: 53

الوافر.

وأما ذهاب الأستاذ عادل إلى أن التصريع يستجاد فقط في مطالع الأشعار، فهذا مناف كل المنافاة لأسلوب الشعر المتين. فالشاعر الجزل في أسلوبه كثيراً ما يأتي في الشعر الواحد له بأكثر من بيت واحد مصرع، ويكون مجيئه بالأبيات المصرعة أو بالبيتين المصرعين لغاية توقيعية موسيقية، والتنويع في الشعر لا ينفصل عن معنى الشعر ومبناه.

حيفا

إبراهيم عبد الستار

رئيس نادي الإخاء العربي

إلى الأستاذ الفاضل العباس:

قولك يا سيدي الأستاذ هو القول الفصل؛ ولست أماري في أن الأبيات لعلية بعد الذي سقته من وجهة نظرك في كلمتك البصيرة. ولعل مما يظاهر قولك قول أبي الفرج بعد أن أورد الأبيات (وجد الفؤاد بزينبا) ضمن زيانب يونس، فقد قال:(غناه يونس ثقيلا أول الخ. . وهو مما يشك فيه من غناء يونس؛ ولعلية بنت المهدي فيه ثقيل أول آخر لا يشك فيه أنه لها، كنت فيه عن رشأ الخادم).

الحق أقول، إن هذا الشك في غناء يونس لهذه الزينبية دون سائر الزيانب التي كان يغنيها من شعر ابن رهيمة؛ هذا الشك من ناحية، ثم ما تبعه من القول فيما يتعلق بعلية من ناحية أخرى، كل أولئك كان قد جعلني أتأرجح لحظات بين الهدى والضلال، ثم مل لبث أبو الفرج أن ساقني معه فأضلني - سامحه الله - إذ قال بعد ذلك:(ومن لا يعلم يزعم أن الشعر لها) أي لعلية.

لو قام اليوم أبو الفرج فقرأ تحقيق الأستاذ العباس لرجع إلى الحق واعترف بالخطأ، ولندم على تسرعه في قوله:(ومن لا يعلم يزعم أن الشعر لها).

شكر الله للأستاذ العباس رفقه ولينه، ومد في عمره، ونفع دولة الأدب بأدبه وعلمه وفضله.

(نابلس)

ص: 54

فدوى عبد الفتاح طوقان

تعبير حسابي:

أكبر ظني - إن لم يخطئ الظن - أن قول من قال (شر في شر) الرسالة ص1126، أو قول غيره (نور في نور) أو (ظلام في ظلام) بمعنى الزيادة، هو (تعبير حسابي).

وهذا التعبير لا ترضى به الضاد في غير لغة الجداول والأعداد.

وإنما الصواب أن يقال (شر على شر أو فوق شر) والله تعالى يقول (فباءوا بغضب على غضب) أو (ظلام فوق ظلام) والله تعالى يقول (كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب، ظلمات بعضها فوق بعض) أو نور على نور) والله يقول (يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار، نور على نور). وبعد: فهذا قول الله وهذا حديثه. ومن أصدق من الله قيلا؛ ومن أصدق من الله حديثاً. . .

(الزيتون)

عدنان

ص: 55

‌القصص

شاعر. . .!

بقلم الأديب كمال رستم

كان قد مضى موهن من الليل، وهجدت الحكة، ونامت الكائنات، وتوارت النجوم وراء ستار الغمام؛ فعمت العتمة وانبسط رواق الظلام!.

وكان هناك بصيص من نور يتسلل من خصائص نافذة منزل قائم على ناصية الطريق. . .

في هذا المنزل وفي هذه الغرفة بالذات؛ كان الشاعر يصغي إلى إحدى القطع الموسيقية تذاع من محطة (صوفيا) وقد غابت أفكاره في عوالم من خيال!.

- رحمة بشبابك يا بني. ألا تعطي جسدك حظاً من راحة؟ قالتها أمه في نغمة مريرة، وراحت تنظر إليه بعينين قد رشحت فيهما الدموع!. ولم يشأ أن يجيبها على قالتها وظل يدور على إيقاع الموسيقى وهو شارد الذهن، تائه النظر كأنما هو غائب عنها في عالم آخر غير هذا العالم الأرضي!. . .

ولكنه ما عتم أن أستنبه إلى وجودها فجأة. فتوقف عن الرقص وقال أشبه ما يكون بالحالم:

- معذرة يا أماه. فإني لألتمس راحة البدن، وهدوء الضمير في الإصغاء إلى هذه الموسيقى الإلهية؛ فإنها لا تزال تنقلني على نغماتها السماوية من آفاق إلى آفاق، حتى ليخيل إلي أنني أفنى في الوجود المطلق وأغدو ذرة مذعورة فيه!. . .

وانطلق يدور في خطوات رتيبة إلا أنها ساذجة فما كان بينها وبين النغم الساري تطابق أو اتفاق! واستطرد يقول كمن يخاطب شخوصاً غير منظورة:

- أواه يا (أوتربي) يا ربة الموسيقى، أفيضي على كياني المكدود بموسيقاك العذبة فإنها غذاء روحي، أنصتي ي أماه إلى هذا اللحن الحالم. . . إنه (لموزار) ومن قبل استمعت إلى لحنين أحدهما (لباخ) والآخر (لبيتهوفن)!. . .

إن الناس هناك في (صوفيا) ليصحون على هذه الأنغام الخالدة، وإنهم ليغفون عليها، فتهدهد آلامهم، وتحيي فيهم موات الأمل!. . .

. . . وتجاوبت في نفس أمه أصداء الحيرة، وتكلمت فيها وساوسها فأشفقت على ابنها أن

ص: 56

تكون مسته مواس الجنون قالت:

- يا بني نم، وأشفق على نفسك، فإنك مجهد الحس، مضعضع البدن!

. . . وتقدم منها في وناء ومهل، وأوسد راحتيه كتفيها وقال وهو يدفعها في هينة ورفق إلى الباب:

- أحرى بك يا أماه أن تعودي إلى فراشك، وأن تدعيني وحدي تسبح أفكاري وتنطلق شاعريتي. . . إن الشاعر يا أماه لا يعيش لنفسه وإنما يعيش لسواه!. . .

. . . وشاءت أن تتكلم إلا أن الكلمات ماتت على شفتيها. . . وصلت فيها دمعها يفصح عما إستسر في نفسها من ألم وكمد، ووجدت أنه لا معدى لها من أن تغادره، فمضت إلى حجرتها. . .

وبرقت في ذهنها، وفي مسترخية على فراشها، صورة ابنها يوم أن كان لا يزال في المهد كفلا غريراً. وذكرت أنها أملت وقتها أن يكون لها في المستقبل أمناً من الزمان. . . ولكن الفتى ما كاد أن يشب عن الطوق حتى صدف عن الدرس واجتوى المدرسة إذ أنس في نفسه رغبة مشبوبة في قرض الشعر. . .

وبدا لأمه أنه لا غناء في كل الجهود التي بذلتها ليعود ابنها إلى الدرس، وقد كبر في وهمه أنه شاعر. . . فغدا يتغنى بشعره الناس، وغدا يتردد اسمه على الأفواه ويغدو ذكره ملء الأسماع.

وكانت أمه تنصت إلى تلك الكلمات وإلى سواها، وتبكي في ابنها مظها العثر. فإن أقرانه قد واصلوا الدرس، وما كادوا يحصلون على درجاتهم العلمية حتى تلقتهم الوظائف الممتازة. . . وكثيراً ما كان يستجلي في عينها ما يدور برأسها فكان يقول لنفسه:

- هذه أني تبكيني حياً. لتبك اليوم؛ فإنها لن تلبث أن تضحك طويلا حينما آخذ مكاني بين فحول الشعراء، وكبار الأدباء فإنهم ليقولون في الأمثال الفرائد. إن من يضحك كثيراً لهو الذي يضحك أخيراً. . .

. . . وبقى الفتى في غرفته يدور على نغمات الموسيقى. وقد شبه له أنه يستند إلى صدر فتاة ناهد في دورة راقصة. فكان يحتوي فراغا - يمثلها - بين ذراعيه، حتى إذا ما انتهت الرقصة قال في صوت يفيض رقة وحناناً:

ص: 57

- غداً نلتقي هنا يا غرمي في نفس الموعد. . . فإلى اللقاء. . . وراحت ذراعاه تطوقانها، وسعت شفتاه إلى أن التقتا، في الخيال - بشفتيها في قبلة طويلة حالمة. . .

. . . إن أقسى اللحظات التي تمر بإنسان لهي التي يستشعر فيها أنه محروم من الحب. فإنه في أعقاب هذا الشعور بالحرمان، يجفل من الناس. ويعاف صحبتهم، وينطوي على نفسه ويستوحد ولم تنشب هذه الحال السالبة أن تتحقق في أحلام اليقظة؛ فيكبر في وهمه أنه قد أحبته فتاة وأنها صارت له خليصة فهي تقابله - في الخيال - في غفلة من الناس، وتبثه لواعج الحب، وتهبه كل ما أنتكرته عليه حياة الناس. وإذا ما اختلفت على إنسان هذه الحال أدت به إلى الجنون. . .

. . . وما كادت صورة الفتاة تبرح خيال الشاعر حتى جلس إلى مكتبه وغيب يده في درج من أدراجه، وأخرج قرطاساً وقلماً وسطر بضع كلمات أنشأ مطلعها بصوت عال:

(اللحن الإلهي). . . يا له من عنوان!

وأكب على القرطاس يثبت ما عن له، حتى إذا ما فرغ من كتابته نهض إلى نافذة، وفتحها ووقف وراءها.

وراحت أنسام الفجر الندية تصافح وجهه، وتاهت نظراته في الفضاء والمحيط ثم ارتدت إليه مذعورة؛ فأغلق النافذة، وتراجع إلى فراشه، وتطرح عليه، وأسلم عينيه لإغفاءة طويلة معسولة. . .

كان محمد أو الأستاذ محمد كما يحب أن يدعوه الناس، واحداً من هؤلاء الشبان الذين يسلمون أنفسهم لقراءات غير منظمة، وكان قد انقطع عن المدرسة في أولى مراحلها فاعتمد على خبرته الضئيلة في اختيار لون الثقافة الذي يتفق ومزاجه. فلم يفد شيئاً.

وكان يبعث بمحاولاته الساذجة إلى الصحف والمجلات فكانوا - كما هو منتظر - يغفلونها ولا ينشرونها. فانعكست هذه الحال السالبة على نفسه؛ فاستشعر لأصحاب الصحف والمحررين على السواء كراهة مرة. . وصور له الوهم أنهم يغارون منه، وينفسون عليه موهبته الخالقة. . .

وكثيراً ما كان يمضي في الطريق محتضناً أفكاره، حتى إذا ما صادف صديقاً لم يشأ أن يتركه قبل أن يلقى عليه إحدى قصائده؛ وكانت خبراته بالدورات العاطفية التي تختلف

ص: 58

على الناس منعدمة. فكان يقع على الواحد من أصدقائه وهو مرح الصدر، غائم الخاطر يريد أن يسمعه إحدى قصائده. فيعتذر صاحبه من عدم إمكانه سماعها. فيناله من ذلك هم كبير ويقول في نفسه:

- إن الناس عيت عقولهم عن فهم أشعاري، وفيها تلك الالتماعات الذهنية التي لا تنقاد إلا لذهن جبار! وإني عهدتهم يتهافتون على ذلك الرخيص من الأدب الذي تطالعهم به الصحف والمجلات. . . أما أنت يا محمد؛ فإن في عنقك رسالة ينبغي أن تؤديها، وإن أصحاب الرسالات ليلاقون من عنت الناس وإجحافهم ما لا قبل لغيرهم به. فلتثابر وإنك واصل بإذن الله. . .

. . . ونهض من فراشه في رأد الضحى. . . وأمر يده بين الوسائد وأخرج القرطاس الذي سطر عليه قصيدته (اللحن الإلهي) ونادى اخته، فما إن أقبلت حتى قال لها:

- اجلسي فسألقي عليك قصيدتي الجديدة (اللحن الإلهي). . . وكانت الفتاة قد تعياها الجهد من تدبير البيت. وكان لا يزال أمامها عمل شاق متواصل. فأجابته في لهجة يشيع فيها الغضب المستور: إنني جد متعبة ولا قبل في بسماع قصائدك

ومضت عنه إلى طهي الطعام وتنظيف الصحاف. وبقي هو في فراشه بعض الوقت تتردد الحسرة بين جنبيه وتمتم

- حتى أنت يا شقيقتي تبالغين في تحقير شعري وامتهانه. . .

. . . وكانوا قد أعدوا له طعام الإفطار. فما قاربه، بل ارتدى ملابسه، وانطلق إلى الطريق كمن ركبه الشيطان. وكان النهار قد انتصف، وغامت السماء، وآذنت بإمطار. . .

ودرج في الطريق وهو ذاهل لا يدري أين تقوده قدماه. . .

ونسى نفسه فراح يتغنى بقصيدته (اللحن الإلهي) وخيل إليه أن الطبيعة أطرقت تنصت إليه! لقد عدم في الناس من يستمع إليه. فليحك إلى الطبيعة شعره وليبثها آلامه. . . الطبيعة. . . إنها أخته الخليصة، فليس فيها مكر الناس وليس فيها خبثهم! وهطل المطر مدراراً بينما تابع هو طريقه غير حافل حتى لاح له مقهى على رجع البصر فخف إليه!

وتهالك على المقعد في إعياء، وراح يرقب حبات البرد وهي تساقط على الأرض في ثورة وغضب. . .

ص: 59

وعن له أن يستعرض - وهو جالس - رحلة حياته فهاله أنه احتمل صنوف الهوان والذل، والعسف الجور!

وأحس بالحزن ينوش صدره، والألم يهصر قلبه. . . وتزاحمت الصور في رأسه وبرزت من بينها صورة أمه تتكلم فيها نظراتها بأن آمالها خابت فيه

ثم ومضت في ذهنه لحظات السعادة الموهوبة التي استشعرها مرة يتيمة في هدأة حب عابر. فأغمض عينيه على الذكرى الحبيبة يلتذ مقامها فما أسرع أن خبت في الماضي البعيد!

وجثم على صدره ألم الحرمان. . . الحرمان المروع. . . وعندئذ جرت على شفتيه بسمة مريرة. وهانت لديه الحياة، وود لو عاجله الموت، وتمتم:

إن من الموهوبين من لم يعرف الناس أقدارهم إلا بعد مماتهم، وأنهم كانوا في حياتهم مضطهدين، محرومين. فلعلك أنت يا محمد أن يكتب لك الخلود بعد وفاتك. . .

. . . وهدأ عند هذه الخاطرة وسكن إليها، وأخرج القرطاس والقلم من جيبه وسطر عنواناً لقصيدة جديدة. . . (الشاعر الخالد) وجرى قلمه على الصفحة البيضاء كأنه ريشة رسام مفتن. ولما فرغ من تدوين أشعاره ونهض كانت حمرة الشفق قد انتشرت في السماء. . .

وكانت نظراته وهو يدرج في الطريق عائداً إلى بيته قلقة مذعورة لا تثبت على شيء!

وكان ذهنه في مثل نظراته من الغموض والشرود. . فراح يبرق بشتى ألوان التفكير.

وانطلق يضحك في أعماق نفسه، من وجوده هو، بل من وجود الناس أجمعين. فما هي الحكمة الكبرى في خلق هذه الجموع الآدمية؟. . . أليبقوا سنوات هي في عمر الزمان لحظات قصار، ثم تبتلعهم أمهم الأرض. وكأنهم لم يدرجوا عليها يوماً. بدا له كل شيء على حقيقته، وهمّ وقبض الريح. ماذا جناه من حياته؟ لا شيء!. .

ولد، وتألم، ولن يلبث أن يمضي على الدنيا كآلاف غيره مشيعاً بحزن مصطنع، وألم مفتعل!. . .

فمن العدم أقبل. . وإلى العدم يعود. وتبقى ذكراه بين الناس تبقى رسالته التي ضمنها أشعاره تلك التي لم يقدر لأحد أن يطلع عليها حتى اليوم. . من يدري؟. . .

لعل أحداً أن يقف عليها، ولعل كاتباً منصفاً أن يكتب عنه وسمه (بالشاعر العظيم). . .

ص: 60

وبلغ منزله خائراً مكدوداً فصافحه وجه أمه يشيع فيه الألم كما يعهد به!. ولما قدما له الطعام. تناوله بشهوة منهومة. إذ كان جائعاً!. . .

ودلف إلى حجرته، وأغلق الباب وراءه كما ألف أن يفعل كل مساء وتهالك على المقعد في تراخي بدن مجهد، وأخرج قصيدته (الشاعر الخالد) من جيبه وراح يستعيد قراءتها!. .

وأدار مفتاح المذياع فتناهت إلى مسمعه نغمات موسيقى عذبة حنون وشالت به أفكاره إلى السماوات العلا وهو في حال من خدر الحس وسكرة النفس. . .

. . . ولما مضى موهن من الليل، وهجدت الحركة، ونامت الكائنات؛ تسلل الشاعر في خطوات مخنوقة إلى غرفة أمه واستملى منها ون أخته نظرات طويلة حانية. . .

ولما قفل راجعاً إلى غرفته كانت تلتمع في عينيه دمعات حرى وأمتدت يده المرتعشة في صلابة وعزم إلى زجاجة (الفيرونال) التي كانت أمه تتعاطى أقراصها لتطرد عنها السهر والأرق، وأفرغ حباتها في جوفه واحدة بعد الأخرى. . .

وبينا كان اللحن ينساب في هدأة الليل حزيناً مولولا، كان الشاعر قد خارت قواه وهوى على أرض الغرفة، جثة لا حراك بها!. . .

كمال رستم

ص: 61