المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 754 - بتاريخ: 15 - 12 - 1947 - مجلة الرسالة - جـ ٧٥٤

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 754

- بتاريخ: 15 - 12 - 1947

ص: -1

‌صليبية من نوع جديد!

شتان بين الغزوات الثمانية التي شنتها أوربا النصرانية على الشرق المسلم في مدى قرنين من العصر الوسيط، وبين هذه الصليبية التاسعة التي تشنها أوربا وأمريكا على فلسطين في هذه الأيام من عصرنا الحديث!

تلك غزوات كان مبعثها الفروسية المسيحية والعصبية الدينية، صدرت عن الإيمان وابتغت مرضاة المسيح، وهذه غزوة بعثتها اللصوصية الدولية والطماعية الدنيوية فصدرت عن الكفر وابتغت مرضاة يهوذا! ويهوذا هو اليهودي الذي باع المسيح إلى عدوه بدوانق معدودة قبل أن يصيح الديك؛ وهو الذي روى بالدم المسفوح شجرة الصليب فأثمرت العذاب للناس والخراب للأرض!

ولا يزال يهوذا المسيح ينافس في الشر إبليس آدم: يبغي الغوائل لأتباع عيسى كما ينصب الحبائل لأتباع محمد؛ فلكل مصلح من يديه صليب، ولكل نهضة من وساوسه نصيب، ولكل أمة من دسائسه فتنة!

ومن أعجب الأمور أن تتعاون اليوم دول النصرانية على أن تجعل صانع الصليب سادناً لقبر المسيح وكاهناً لكنيسة القيامة!

لقد كان بطرس الناسك ولويس التاسع أدنى إلى الإيمان من بلفور الواعد وستالين المساعد وترومان المنفذ! كانا يؤلبان حملة الصلبان على أن ينتزعوا مفاتيح الأقداس المسيحية في فلسطين من أيدي المسلمين سدنتها الشرعيين ليضعوها في أيدي النصارى الغربيين سأماً فقد حملوا الأمم المتحدة المسيحية على ظان تجود بها على سلائل (اسخريوط) من صهاينة اليهود؛ والجود بما لا تملك على من لا يستحق أغرب حوادث الجود!

ليست المسألة إذن مسألة دين أو جنس؛ إنما هي مسألة استعمار وتنافس. وليست مدافعة الصهيونيين عن قلب العروبة أمراً يعني فلسطين وحدها أو المسلمين وحدهم، إنما هو أمر يعني الأقطار العربية جمعاء، ويهم العرب مسلمين ومسيحيين على السواء!

ذلك لأن الهيضة ظهرت جراثيمها في (القرين)، ثم ظهرت أعراضها بعد أيام في (قنا). والسرطان إذا نشبت جذوره في عضو نجمت فروعه في كل عضو. والصهيونية إذا عشش بومها في خرائب (سليمان) طبقت أفراخها الأرض ما بين النيل والفرات. والعلق إذا فشا في ماء شق على ذي الدم الحار أن يعيش فيه. واليهود علق البشرية يمتصون دمها

ص: 1

ثم يفرزونه كالعنكبوت خيوطاً من الذهب يصيدون بها الذباب والبعوض من ساسة أوربا وأمريكا! وما دام أمر الصهيونيين والمستعمرين قائماً على العدوان والجور، فإن الفيصل بيننا وبينهم هو القوة. والقوة منذ جعلها الله قواماً لهذا الكون أودعها الإيمان والذهب والحديد. فأما الإيمان فيجيش في الصدور العربية جيشان السيل المزبد الهادر فتسمع اصطخابه في كل بلد. وأما الذهب فيفيض من الخزائن والجيوب ولن يبخل عربي على فلسطين بمال ولا ولد. وأما الحديد فسيصوغه الذهب بأساً للإيمان وروحاً للجلاد ومعنى للجلد. ومتى اجتمعت هذه الثلاثة للجيش المجاهد فهيهات أن يقف في سبيله أحد!

أحمد حسن الزيات

ص: 2

‌15 - رحلة إلى الهند

للدكتور عبد الوهاب عزام بك

عميد كلية الآداب

مدينة أكرا

القلعة

وتوجهنا من مزار جلال الدين أكبر إلى تاج محل، دخلناه بعد الغروب ثم عدنا إلى زيارته صباح اليوم التالي ومساءه - وسأفرد له مقالاً.

ويوم الأحد رابع عشر جمادى الأولى ذهبنا إلى قلعة أكرا. وهي قلعة كبيرة تمتد أسوارها ميلاً ونصف ميل على نهر جمنه. وفيها من المساكن والدواوين والأبراج والمساجد ما لا أستطيع وصفه في هذا المقال.

وقد ذكرت من قبل قلعة دهلي ووصفت بعض ما فيها، وهذه القلعة تشبهها سعة وضخامة وكثرة أبنية، ولكن هذه أقدم، بناها جلال الدين أكبر وزاد فيها ابنه جهانكير ثم شاهجهان أعظم سلاطين هذه الدولة عمارة، وأجملهم آثاراً. بز في هذا الشأن سلفه وخلفه على عظم ما شادوا وجميل ما اثر عنهم في التاريخ وفخامة ما تركوا على الأرض.

وفي قلعة أكرا آثار لأكبر على أسلوب العمارة الهندية القديمة كالدار التي بناها لزوجه الهندكية. وكان مولعاً بالجمع بين الأساليب المختلفة وقد أسلفنا أنه حاول أن يجمع الناس على دين واحد.

وقلعة دهلي فيها تأنق شاهجان في التشييد والتجلة، وهي فيما رأيت، أحسن آثاراً وأجمل بناء، وأبقى رونقاً.

وكلتا القلعتين من شواهد الملك الضخم الفخم، والحضارة ذات الثراء والصناعة، والرفاهية والأبهة.

ومن آثار القلعتين الديوان الخاص وهو مجلس السلطان على خاصته، والديوان العام وهو مجلسه للعامة.

ومع هذا المقال صورتا الديوان العام والخاص في قلعة أكرا، والأول مبنى بالحجر الوردي

ص: 3

وعليه طلاء يخيل لرائيه أنه من الرخام. وطوله 198 قدماً في عرض 67 بناه شاهجهان سنة 1057هـ والديوان الخاص من آثار شاهجهان كذلك بناه سنة 1046هـ وهو من المرمر مرصع بالجواهر. وطوله 65 قدماً في عرض 34.

مزار اعتماد الدولة

وبعد أن رأينا من آثار القلعة، ما اتسع له الوقت خرجنا من بين الآثار العظيمة الكثيرة إلى أثر صغير جميل هو ضريح مرزا غياث الدين الملقب اعتماد الدولة وهو وزير السلطان جهانكيز وأبو نورجهان زوج السلطان.

وقد بنيت هذه الأعجوبة الهندسية نورجهان في عهد زوجها. تخليداً لذكرى أبيها.

ومزار اعتماد الدولة يشبه في مدخله وفنائه وخطته المزارات الأخرى التي شادتها هذه الدولة العظيمة ولكنه أضيق رقعة وأصغر حجماً.

وهو بناء مربع في أركانه أربع أبراج جميلة مصنعة وفوقه قبة أو ظلة مستطيلة. وفي وسط البناء تحت القبة قبران لاعتماد الدولة وزوجه. وفي جوانب البناء حجرات فيها قبور لأمراء وأميرات: حجرة فيها أصف جهان وامرأته، وهما والدا ممتاز محل دفينة التاج. وسنذكرها في مقال تاج محل، وحجرة أخرى فيها كريم بك أخو اعتماد الدولة الخ.

وفي البناء جدره وقبته وأبراجه من إبداع الهندسة وعجائب التلوين بالرخام، وأفانين الصناعة في التخريم والترصيع ما يسحر الزائر ويحيره، وفيه من الجمال ما يأنس به الزائر ويسكن إليه، إلى بساطة في التخطيط تشيع النور في أرجائه، وتأذن للزائر وهو تحت القبة أن يسرح طرفه في الفناء المحيط بالبناء.

وهو يشبه في زينته وترصيعه تاج محل. وقد كمل هذا المزار قبل الشروع في بناء التاج بثلاث سنوات. واستغرق بناؤه ثماني سنوات.

وفي المقال الآتي أحاول وصف الأثر الجميل الذائع الصيت الذي يضئ ذكره في الأجيال والآفاق. وذلكم تاج الآثار الإسلامية الهندية المسمى (تاج محل).

عبد الوهاب عزام

ص: 4

‌فلسطين:

ثلاثة رجال

للأستاذ محمود محمد شاكر

أحب أن أقدم بين يدي كلامي هذا كلمة أو كلمتين لا بد منهما: الأولى، أن أبتهل إلى الله أن يبرئ قلوبنا من الجبن والخور والبخل، وان يؤيدنا بالصبر والقوة، وأن يرفع عنا غضبه ومقته، فقد كتب علينا الجهاد في سبيله بما استطعنا. واحب لكل كاتب وقارئ أن يتوب إلى الله مما اكتسب من إثم يده أو قلبه أو لسانه، ليتجرد إلى الجهاد وهو طاهر مصمم لا تلفته الدنيا عن الدفاع عن الحق.

والثانية: أني كنت كتبت عن قضايا العرب وعن فلسطين، فكنت لا أزال أذكر الإسلام وأشفعه بذكر نصارى الشرق، لأني أعدهم منا ومن أنفسنا، لهم ما لنا وعليهم ما علينا. وكنت أرى أن نصارى الشام والعراق قد بذلوا من الجهود في قضايا العرب ما صرح عن مكنون أنفسهم وعن إخلاصهم الذي لا يدفع، وأنهم جزء لا يتجزأ من العالم العربي ومن العالم الإسلامي، وكنت أتخوف أن يقف قبط مصر مترددين عن المشاركة الصريحة في جهاد العرب والمسلمين في مسألة فلسطين، ولكني أشهد الله اليوم أن قبط مصر قد ملئوا قلوب العرب والمسلمين غبطة بهم وإكباراً لهم، وحرصاً على مودتهم حرصاً لن يعمل فيه بعد اليوم دس ولا كيد ولا وقيعة. إنه لا يحل لامرئ مسلم أو عربي بعد اليوم أن يرتاب أو يتشكك في نبل هؤلاء الأخوان الذين نصرونا في ساعة العسرة لا تدفعهم إلى هذه النصرة رغبة ولا رهبة.

وسأسجل في هذه الكلمة مآثر لرجلين من أجل النصارى شأناً، لأنهما وقفا في الجهاد موقفاً يوجب علينا أن نخلد ذكرهما في تأريخ العرب وتأريخ المسلمين، ولا سبيل إلى جزاء هذين الرجلين إلا بأن نرفع ذكرهما في هذه الساعة والى أبد الدهر، لأنهما قطعاً السبيل على كل خبيث من شياطين السياسة القذرة التي انبعثت في أوربة وأمريكا، وعلى شياطين اللؤم الصهيوني الدنيء.

أما الأول فهو الشيخ الجليل الصادق غبطة بطريرك الأقباط الأرثوذكس الأنبا يوساب، فقد اجتمع المسلمون والعرب في المسجد الجامع الأزهر في يوم الجمعة 22 المحرم سنة

ص: 5

1367، فإذا الناس يفاجئون بمقدم القمص مثياس الأنطوني سكرتير غبطته مندوباً من قبله، ومعه إخوانه من رؤساء الأقباط في مصر، القمص جرجس إبراهيم رئيس الكنيسة القبطية الكبرى، والقمص عبد المسيح سعد، والقمص مرقص غالي. ودخول هؤلاء الأربعة الكرام إلى المسجد الجامع في ساعة الجمعة، ونيابتهم عن غبطة البطريق الأعظم في شهود هذا اليوم المشهود، وخطبتهم الناس في هذا المسجد، ومشاركتهم في أكبر مؤتمر إسلامي في مصر، قد دل دلالة صريحة على أن الأنبا يوساب البطريق الأعظم، هو رجل قد نور الله قلبه بالحق، وآتاه من الفطنة والصدق والأمانة في دينه وخلقة ما يجعل عمل هذا أمانة في عنق كل مسلم عربي، يحميها ويدفع عنها ويعتز بها ويكرم أصحابها في عامة أمورنا وخاصتها. وقد فعل ذلك من تلقاء نفسه غير متردد، فدل ذلك على أنه رجل سياسي مخلص، وعلى أنه يدرك تمام الإدراك كل ما يحيط بهذا الفجور الصهيوني من الخبائث، وعلى أنه يأبى أن يدخل بين أقباط مصر ومسلميها مفسد يبغي الوقيعة.

ومن قبل ما وقف هذا البطريق الأعظم موقفاً رد كيد لبريطانيين في نحورهم، وذلك في حادثة الزقازيق التي دبرتها بريطانيا لإفساد ما بين المسلمين والأقباط، فلولا حكمة هذا الرجل النبيل، لكان هذا الحادث البغيض سبباً في اشتعال نار الفتنة التي أشعلت بريطانيا مثلها من قبل لتفرق كلمة الأمة تفريقاً يجعل بعضنا لبعض عدواً. ونحن نحمد الله إذ جعل في إخواننا القبط رجلاً كهذا الرجل الجليل، يقف حارساً يقظاً على أمته وأمنا، يرد عنها كل مكيدة. وما دام في الأقباط هذا الرجل وأمثاله، فالمسلمون والعرب جميعاً لا يبالون بعد اليوم أن يبذلوا مهجهم في الذود عن إخوانهم، وفي حمايتهم، وفي الدفع عن كل شيء يسوءهم، ما بقى على ظهر هذه الأرض مسلم يؤمن بالله وملائكته ورسله واليوم الآخر. إنه دين في أعناقنا للقبط، نسأل الله أن يهبنا القدرة على أدائه وإن أبواهم أن يقبلوا عن هذه المأثرة جزاء.

وأما الرجل الآخر فهو كصاحبه يتلألأ قلبه بنور الإخلاص والإيمان، تكلم فأبان عن نفس حرة أفزعت (اليهود المسئولين في مدينة الإسكندرية) أي يهود مصر، فأقبلت طائفة منهم تريد أن تثني هذا الرجل الجليل عن إذاعة حديثه، فأجابهم بأنه ما قال ما قال إلا وهو يعتقد أنه قول صريح سليم، وليس إقحاماً للدين في السياسة، وأنه يقصد حماية التراث المقدس

ص: 6

للمسيحية، وإنه إنما يتكلم عن عقيدة وإيمان بما يقول. ذلكم هو الرجل النبيل غبطة البابا كريستوفورس الثاني بطريرك الإسكندرية وإفريقية الأرثوذكس.

وقد جاء في هذا الحديث أن غبطة البطريق الأعظم للروم قد دهش لإنشاء دولتين في فلسطين، ودهش أيضاً من أن تكون أمريكا والاتحاد السوفيتي هما الداعيتين إلى هذا التقسيم. ثم قال:

(وإنه لتزداد دهشتنا أن تعمد الولايات المتحدة الأمريكية إلى هذه المحاولة الجريئة رغم أحداث التأريخ الدالة على فساد هذه الفكرة وخطرها. ولهم العبرة فيما حاوله الإمبراطور جوليان الروماني. ولا ندري كيف فكرتا في وضع الأراضي المسيحية المقدسة في حماية أولئك الذين رغبوا دائماً، جماعات وأفراداً، في أن يعيشوا حتى يروا اليوم الذي لا يسمع فيه ذكر للمسيح. وهل يستطيع إنسان أن يتصور اليهود حرساً وحماة للأمكنة المقدسة. وهم الذين سيعمدون إلى تدنيسها بمجرد السيادة فيها؟

(ونحن نرى أيضاً أنه لا يمكن أن يسمح للفاتيكان أن تكون له السيادة في فلسطين، فإن الحروب الصليبية قد برهنت على فساد هذه الفكرة. ولهذا فإننا نحن الروم الأرثوذكس نرى أنه في حالة إلغاء الانتداب الدولي على الأراضي المقدسة، أو عدم وجود دولة عربية مكان هذا الانتداب، أن تعطي للمسلمين حماية هذه الأراضي، لأنهم منذ مارسوا حكمها في هذه القرون الطويلة، قد برهنوا على أنهم جديرون بثقتنا).

وهذا كلام أقل ما يقال عنه إنه كلام رجل مؤرخ عالم بصير لا يدفعه إلى ما يقول هوى لشيء ولا رهبة لمكروه. فإن غبطة البابا كريستوفورس قد قضى طفولته وشبابه في فلسطين، وقد عرف بنفسه شعور اليهود ضد العرب وضد الأرض المقدسة، كما قال متكلم بلسان البطريركية الرومية.

وقد أثبت حديث البطريق الأعظم بتمامه لأنه سوف يصبح هو وقائله جزءاً لا يتجزأ من تأريخ الإسلام، ولأننا نحن المسلمين نحن أن نحمل المنن في أعناقنا فنحافظ عليها ونرعاها وندافع عنها ونجزيها أحسن الجزاء. إن حديث هذا الشيخ الأجل سوف يصير قطعة من تاريخنا يرويه أربع مائة مليون عربي ومسلم في مشارق الأرض ومغاربها، وهو حدث يفسر كل ما كنا نقول به من أن مشايعة الدول الأوربية والأمريكية للصهيونية الفاجرة،

ص: 7

قائمة على الصليبية الحمقاء. فهم يحاربوننا حرباً صليبية لا يستثنون فيها مسلماً ولا نصرانياً في الأرض الإسلامية والعربية وقد كان بعض الناس يعيب علينا هذا الرأي، ولكن حديث البطريق الأعظم قد كشف الغطاء عن كل ذلك، ومهد للتاريخ أرضاً جديدة يدرس فيها هذا الصراع بين أهل الشرق العربي الإسلامي من مسلمين ونصارى، وبين الغرب الصليبي من نصارى ويهود. ولكن نصارى الشرق غير نصارى الغرب، فهؤلاء قوم ملئت قلوبهم أحقاداً صليبية مظلمة لا عقل فيها ولا ضمير لها، أما نصارى الشرق فهم يعرفون تمام المعرفة أن نصارى الغرب قوم مفترون جاهلون متعصبون يريدون أن يدنسوا هذه الأرض المقدسة باليهود عداوة للمسلمين غير ناظرين إلا بالعين الصليبية البغيضة، لا بعين الإنصاف والحق كما ينظر نصارى المشرق. وحسبنا هذا البيان من البطريق الأعظم، فإنه حسنة لن ينساها له مسلم إلى أن تقوم الساعة.

وقبل أن أنتهي إلى ذكر الرجل الثالث أحب أن أنبه القارئ، وأنبه قومي العرب في كل مكان، وفي مصر خاصة، إلى أنه ما كاد (يهود مصر) يعلمون نبأ إذاعة هذا الحديث في الصحف حتى تبادروا إلى غبطته يريدون أن يثنوه عن نشره وإذاعته. فما معنى هذا الذي يفعله اليهود الذين خلعنا نحن عليهم الجنسية المصرية؟ وماذا تقول حكومتنا في هؤلاء القوم الذين يريدون أن يكونوا أعواناً للصهيونية في قلب بلادنا في هذه الساعة؟ أو يحدث هذا في مصر في الأسبوع الماضي، وإذا بنا يقرأ اليوم (8 ديسمبر سنة 1947) أن الشرطة العراقية ألقت القبض عند الحدود العراقية السورية على ثلاثة يهود عراقيين من موظفي شركة الزيت العراقية ومعهم جهاز إرسال لاسلكي. فما معنى هذا؟ ليعلم اليهود أن العرب لن يقبلوا أن يكون للطابور الخامس عمل في بلادهم.

وننتهي من هذا التعليق لنضم إليه خبر الرجل الثالث الذي ينبغي أن يعرفه العرب والمسلمون، فقد أفضى سيادة حايم ناحوم أفندي الحاخام الأكبر للطائفة الإسرائيلية في مصر بالتصريح الآتي:

(إني أرى أن مركزي بوصف كوني رئيساً دنياً وروحياً لأبناء الطائفة الإسرائيلية، يحول بيني وبين الخوض على صفحات الصحف في أي مناقشات مهما كان نوعها أو الغرض منها. ولكن إزاء كثرة ما وجه إلينا من أسئلة واستفهامات أرى أن واجبي يحتم علي أن

ص: 8

أتوجه إلى السائلين والى جموع الأمة المصرية الكريمة بكلمة أرجو أن تكون حداً فاصلاً لهذا الموضوع: فأبناء الطائفة الإسرائيلية التي أتشرف برياستهم الدينية هم جزء لا يتجزأ عن الأمة المصرية، يشعرون بشعورها ويتألمون لألمها. فكيف إذن يحاول البعض التشكيك في عواطفهم نحو أبناء بلدتهم المصريين. إن دستور البلاد يكفل لنا جميع الحقوق الممنوحة لبناء مصر الكريمة سواء سواء، ولذلك فإن واجبنا نحو بلادنا يجعلنا نعمل بشعورنا كمصريين. وقد أصدرت أمري إلى رجال الكنائس الإسرائيلية بإقامة الطقوس الدينية ليعظوا فيها أبناء الطائفة على أن يتضافروا مع إخوانهم المصريين في هذا الظرف العصيب).

ونحن نشكر الحاخام الأكبر، ولكن ليعلم سيادته أنه قبل أن يتوجه إلينا بكلام يكون (حداً فاصلاً ينبغي أن يعمل هو وأبناء طائفته عملاً يكون (حداً فاصلاً) وهذا مع الأسف لم يحدث قط، وأخشى أن أقول إنه لن يحدث قط. ثم ليأذن لنا سيادته أو نوجه نظرة الكريم إلى الذي ذكرناه وذكرته الصحف ولم يستنكره أحد من يهود مصر، وهو ذهاب بعض المسئولين من اليهود في ثغر الإسكندرية) كي يثنوا البطريق الأعظم للروم الأرثوذكس عن إذاعة حديثه. أهذا أيضاً إقحام للدين في السياسة.

وليأذن لنا سيادته أن نقول له إننا نعيش في أرض مصر، واليهود يعيشون معنا فيها لا في التاريخ، وأننا نعلم علماً يقيناً أن جمهوراً كبيراً من شباب اليهود في مصر، يجري بينهم الحديث وبين المصريين، فلا نجد أحداً منهم يكتم مشايعته لإنشاء دولة يهودية في فلسطين، بل يفرح بها ويصر على التصريح بأنها خير لبلادنا، وأنه ينبغي علينا نحن العرب أن نعاون على إنشاء هذه الدولة، وأن نعيش معاً في سعادة وأمن ورخاء!

وليأذن لنا سيادته أيضاً أن ننبهه إلى أن هذه الساعة التي جاش فيها العالم الإسلامي والعربي، ليدفع عن فلسطين الجور الذي أرادت هيئة (الأمم المتحدة) التي تصرفها روسيا وأمريكا وبريطانيا، هي ساعة فاصلة في تأريخ العرب والمسلمين ونصارى الشرق جميعاً، وليأذن لنا أن ننبهه أيضاً أن النار المشتعلة الآن تفصح كل الإفصاح عن المعنى الذي ينطوي عليه تقسيم فلسطين، فكيف ذهب عن فطنة سيادته أن يذكر كلمة واحدة صريحة تفصح أيضاً كل الإفصاح عن استنكاره واستنكار طائفته لهذا التقسيم الجائر الذي أرادت

ص: 9

أن تفرضه على العرب هيئة الأمم المتحدة؟

وليأذن لنا سيادته أيضاً أن ننبهه إلى أن الصهيونية تدعى أنها تتكلم باسم يهود العالم جميعاً، وأن جميع الدلائل إلى اليوم تدل على أن كثرة يهود العالم منضمة إليهم، فما هو الضمان الذي يقدمه لنا سيادته حتى تطمئن قلوبنا إلى أن يهود مصر ليسوا كيهود سائر العالم؟

وليأذن لنا سيادته أيضاً أن ننبهه إلى أن الصهيونية قد أذاعت منذ القديم أنها تريد أن تستولي على أرض إسرائيل كلها من الفرات إلى النيل، وأن هذا مطبوع منشور في كتبهم، وأنه حين أذاع نبأ التقسيم وقف مفلوك صهيوني يستنكر التقسيم ثم يرضي به على مضض، لأنه الخطوة الأولى التي تفضي إلى استيلائهم على أرض بني إسرائيل كلها من الفرات إلى النيل. وأنا لا أظن أن مثل هذا مما يغيب عن الرجل الفاضل العالم أحد أعضاء المجمع اللغوي العربي.

وليأذن لنا سيادته أن نذكره بوصية في محكم تنزيله إذ يقول: (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم، ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين)، فالمسلمون والعرب جميعاً سوف يقاتلون من يقاتلهم من الصهيونيين، أما سائر اليهود فلن يعتدي عليهم مسلم ولا عربي ما داموا في ذمتنا ولا يؤلبون علينا. فهل يأذن سيادته بأن يعلم أن المسألة ليست مسألة سياسية نريد أن نقحم الدين فيها، بل هي مصير العرب والمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها؟ وهل يأذن لنا أن نسأله أن يدفع عن يهود مصر كل شك وريبة بأن يصدر بياناً صريحاً عن موقف يهود مصر في مسألة التقسيم؟ وهل يأذن لنا سيادته أن نطالبه ونطالب أبناء ملته من يهود مصر بأن يفعلوا فعلاً صريحاً واضحاً يدل على أن عواطفهم هي عواطف الأمة المصرية تشعر بشعورها وتتألم بألمها؟ وهل يأذن لنا سيادته أن نقول له إن هذا الذي يجري الآن ليس (ظرفاً عصيباً) كما جاء في كلامه، بل هو أوضح من ذلك، هو حرب بيننا وبين يهود العالم وكل من يناصرهم من الأمم، وأنها حرب سوف تستمر إلى أن يستقر الحق في قراره ولو طالت مائة عام؟ أفليس من الحكمة إذن أن يتخلى الحاخام الأعظم عن العزلة التي يريدها لنفسه، ويدخل هو وأبناء طائفته في الجهاد الذي كتب علينا نحن العرب من مسلمين ونصارى ويهود لكي ندفع عن بيت المقدس أدناس الصهيونية؟

ص: 10

هذه كلمة مجاهد عربي يتقدم بها إلى الحاخام الأعظم تعليقاً على حديثه الذي سوف يبقى مذكوراً في تأريخ الإسلام والعرب لم أعمد فيها إلى شرح أشياء أعرفها حق المعرفة، انتظاراً لما يكون من عمل سيادة الحاخام الأكبر ليعلم. وسيادته أن الأحداث أسرع من لمحات البرق في السحاب المتراكب، فليبادر إلى الخير مبادرة من عرف وجه الحق فلم يحجم به إلى الجهاد خوف ولا فزع ولا إرهاب. أن عمل الحاخام الأكبر هو (الحد الفاصل) الذي ينتظره اليوم أربعمائة مليون مسلم قد استيقظوا وأدركوا أن يهود العالم قد أعلنوا عليهم الحرب، فلم يخدعهم بعد اليوم شيء عن الطريق الذي سار آباؤهم من قبل، فنصرهم الله وأيدهم وهزم أعداءهم وأعلى كلمتهم وجعلهم خير أمة أخرجت للناس.

محمود محمد شاكر

ص: 11

‌كيف حاولت أن أكون خطيباً

للأستاذ زهدي الشواف

إنها محاولة لا أذكرها الآن إلا ضحكت من نفسي. . . فلقد كانت نزوة من نزوات الشباب الطائش، وهفوة من هفوات العاطفة الجموح. . . وما أكثر ما تخطئ العاطفة، وما أكثر ما تزل المرء في مزالق السخف!. . ولقد قدر لنا أن نتحرر من ربقتها لبرئنا من الضحك من أنفسنا، ولترفعنا عن كثير من المهازل التي تتمثل على مسرح الحياة.

لقد عينتي وزارة المعارف معلماً في مدرسة ابتدائية فبادرت للعمل فرحاً، ولم أكد أدخل الصف حتى ألفيت نفسي بين حشد من الأطفال لا يحصيهم عد. . . لقد كانوا لحداثة عهدهم بالمدرسة أشبه بالمهارة الناشزة التي لم تروض على الركوب، وكانوا مزيجاً غريباً من طبقات اجتماعية مختلفة، متفاوتين فهما وخلقاً وإدراكاً.

وما أن رأوني مقبلاً عليهم حتى سكتوا لحظة، ثم راحوا يتطاولون بأعناقهم فينظرون إلي. وبعد هنيهة عادوا إلى حديثهم وعكفوا على لهوهم، كأني لم أحل بينهم أو كأنهم في ساحة البلد لا تجمعهم مدرسة ولا يهيمن عليهم نظام. ولقد فكرت في عصا ولكن التعاليم التربوية الحديثة تقول (إن الضرب ممنوع في المدارس. . .) نعم أن الضرب ممنوع لأنه ينافي التعاليم التربوية ولكن حشر مائة طالب في غرفة واحدة لا ينافيها!. هذا هو فهمنا للتعاليم!. . وهذا هو مدى تطبيقنا إياها!. . .

وقد حاولت تأمين النظام بكل ما أوتيت من حكمة ولكن جهودي كلها ذهبت عبثاً. وأنى لي أن أفلح والطلاب منصرفون عني. فهم بين جالس على مقعد، ومضطجع على حصير، وواقف خلف (درف) الشباك. . . إن المقاعد لم تكن لتسعهم كلهم. . . فما ذنبهم؟. . وما ذنبي؟. . .

لقد أتيت المدرسة مزوداً بالتعاليم الحديثة مشبعاً بالأفكار المثالية ولكن ما أسرع ما وجدت أن تلك التعاليم ظل لا حقيقة له، وأن هذه الأفكار بعيدة عن متناول اليد بعد السماء عن الأرض.

وانتصفت الساعة الأولى وأنا حائر في أمري لا أجد مخرجاً لي مما أنا فيه. فلما يئست من إصلاحهم ركنت للحيلة، وذكرت أني كنت رأيت قبيل مجيئي للمدرسة أناساً التفوا حول

ص: 12

خطيب يتكلم بصوت جهوري، وذكرت أنهم كانوا يصغون إليه هادئين صامتين فأحببت أن أقلد هذا الخطيب لعلي أظفر بهدوء الطلاب وصمتهم. فصعدت المنبر وانطلقت أتكلم بصوت جهوري:(أيها الطلاب!. . .) ولم أكد أنبس بأول كلمة حتى صمتوا وتوجهوا إلي بأنظارهم وأفكارهم. . . يا للمعجزة!. . . لقد نجحت طريقتي على ما فيها من سخف!. . لقد عرفت لأول مرة أن النجاح في الحياة قد تقوم على السخف والتدجيل أكثر من يقوم على العبقرية. . . لقد توارت التعاليم التربوية أمام التعاليم السوقية، وتلاشت الأفكار المثالية أمام الأفكار الصحفية، واصطنع السخف ما لم يستطع العقل له صنعاً.

وراحت الكلمات تنبعث من فمي كالرعد والأطفال صامتون. وما أدري اصمتوا متأثرين ببلاغتي، أم سكتوا دهشين لرؤيتي أتكلم بكلام مستغلق لا معنى له. ومهما يكن في الأمر من شيء فقد أغراني هدوءهم فاسترسلت في الخطابة حتى نسيت أني في الصف وتملكني الحماس فرحت أقرع الطاولة بيدي. . . ويبدو أن صدى صوتي قد ملأ أرجاء المدرسة فبادر المعلمون لاستطلاع الخبر ولكنهم لم يجسروا على فتح الباب وإنما لبثوا خلفه يسترقون السمع.

ولقد أنصتوا وأنصتوا ولكن لم يفهموا شيئاً. وأني لهم أن يفهموا كلاماً مزج الأدب بالتربية، وخلط العلم بالفن، فأصبح لا تربط بين أجزائه رابطة، ولا تقوم بين عناصره علاقة. . . إني لم أترك كلمة احفظها (لوليم جيمس) إلا أتيت عليها. ولم أدع بيتاً أرويه للمتنبي إلا ذكرته. ولقد كان لقوانين الكيمياء والفيزياء النصيب الأوفى من محاضرتي فإني كنت لا أزال حديث العهد بها أحفظها عن ظهر قلب. . .

وبينا أنا عاكف على إغراق طلابي في بحار العلم والحكمة، رفع أحدهم إصبعه فما كان مني إلا أن صحت به (ما لك؟) فمال بإصبعه وبعينه نحو الباب. . . فالتفت. . . ويا لهول ما رأيت. ويا للخجل!. . إنهم المعلمون.

وماتت الكلمات على شفتي فجأة. . . لقد صحوت من النشوة التي كانت تعتادني. ونزلت من عالم الوهم إلى عالم الحقيقة المرة. . . يا إلهي أين كنت؟. . .

وبادرني أحد الزملاء قائلاً: (لقد انتهى الدرس) فأمرت الطلاب بالخروج من الصف ثم انضممت إلى المعلمين ولم أترك لهم مجال النقد وإنما رحت أوهمهم بأن ما قمت به إن هو

ص: 13

إلا تطبيق لقاعدة تربوية مشهورة ابتدعها المربي الكبير (أوغست كونت) وما سمع زملائي الأكارم بهذا الاسم حتى شرعوا يثنون علي ويطرون طريقته هذه. . . وإني أعترف الآن أن الحظ ساعفني في تلك اللحظة فاستطعت أن أخرج من هذا المأزق الحرج ناصع الجبين، محاطاً بهالة من إعجاب الزملاء والطلاب. . . ولكنني خرجت من المدرسة ولم أعد إليها، وما زال معلموها - أحسن الله إليهم - يذكرون أسمي مقروناً بالثناء العطر، وما زال طلابها - وقد اصبحوا شباباً - يرون أني المثال الذي يقتدي به علماً وأدباً.

لقد خرجت من المدرسة ولم أعد إليها. ورمت بي الأيام مرامي شتى فغيرت من طبيعة عملي ولكنها لم تستطع أن تتطرق إلى فكرة بقيت كامنة في قرارة نفسي، تلك الفكرة هي:(أني خلقت خطيباً. . . فيجب أن أكون خطيباً. . .).

ومرت أيام وأيام أصبحت بعدها محامياً فوجدت أن الخطابة أصبحت من لوازم مهنتي ولقيت الفرصة مناسبة (لإظهار مواهبي ثم أدركني ما يدرك كل محام ناشئ في (حماه) ففكرت بأنني قد درست المحاماة لا لأكون محامياً فحسب، بل لأكون نائباً أدافع عن حقوق الشعب تحت قبة البرلمان.

وكيف لا أطمع في النيابة وقد رأيت جاري (أبا نادر) زعيماً يتصدر مجلس الحي ويبحث في قانون روسيا ويناقشه، ثم يحمل على أمريكا وينتقد دستورها وسياستها. (وأبو نادر) أمي يجهل حتى موقع روسيا على الخارطة، ولا عرف عن أمريكا إلا أنها البلد الذي كان يهاجر إليه السوريون لكسب الرزق. . . لقد قرنت نفسي (بأبي نادر) فوجدت أني أكثر منه أهلية وكفاية وأخذت أعد للزعامة عدتها فرحت أحترم الكبير وأعطف على الصغير وأحيي كل مار أصادفه في الطريق، وأغشي كل ندي وأزور كل سامر. . . إنها مهمة شاقة ولكنها الوسيلة الوحيدة للزعامة في هذا البلد.

وشعرت بحاجتي للخطابة، وعاودني الحنين إليها. وما إن خطبت مرة واحدة حتى أصبحت المجالس تشتاق لسماع صوتي. وأضحى القوم يشيرون إلي بالبنان ويعدونني مجاهداً. . . وما أعظم هذا اللقب!. . وما أرخصه في هذا البلد!. . إني - شهد الله - لم أحمل عصا ولم لأرم حجراً، ولكنه لقب ساقه إلى القدر كما ساقه لغيري، فلن لا أفيد منه، ولم لا أنتفع ببركاته. إن خطبة واحدة جعلتني مجاهداً، فكيف بي لو خطبت كثيراً. . . إني سأكون في

ص: 14

عداد الزعماء الخالدين. . .

إن الكلام رأس مال الزعماء، فلم لا أكون من أهل الكلام؟ هذه حقيقة أيقنت بها فأحببت أن أروض نفسي على الخطابة ورحت أفتش عن مكان خال من الناس، ناء عن المدينة فلم أجد خيراً من قبة (البرناوي) القائمة على مسافة كيلو متر من شمالي حماه الغربي، على سفح منحدر ينتهي بطريق ضيقة تؤدي إلى البساتين النائمة في أحضان (العاصي).

وهناك كنت أقضي الآصال هانئاً بالوحدة، ناعماً بمنظر الخضرة والماء. . وكنت أخطب فأطيل ولا أمل؛ ويتملكني الحماس فأرغي وأزبد، ولا أجد من يسمع صوتي غير البقرات العائدات من البساتين، وقد رحن يمشين مشياً وئيداً في الطريق الضيقة في أسفل المنحدر وخلفهن بعض القرويين التعساء. . . وكن إذا ما مررن من أمامي بعيداً عني وسمعن صوتي يقفن قليلاً ويملن بعنقهن نحوي ثم يهززن رءوسهن وبعدن لسيرهن فيخيل إلي أنهن يقلن لي:(إذا أصبحت نائباً فأرخص لنا الشعير. . .) فأجيبهن: (نعم سأرخص لكن الشعير أيتها البقرات العزيزات!. . .)

وقد ملكت الخطابة نفسي فأصبحت وكلامي كله يكاد يكون خطابة. . واتفق أن رجعت ذات مساء إلى البيت ودخلت غرفتي وأغلقت الباب وشرعت أخطب. . وما هي إلا لحظات حتى انفتح الباب ودخلت أمي والدموع تملأ عينها: (سلم الله عقلك!. . ماذا أصابك يا بني!.) فلزمت الصمت ولم أحر جواباً. ولكنها أردفت قائلة: (أتريد أن تكون كجارنا أبي رشيد. . .) وخيم الصمت علينا ثم انسحبت من الغرفة وأغلقت وراءها الباب. ولم أكد أخلوا إلى نفسي حتى فكرت فيما قالته أمي. . وأصغيت قليلاً فإذا بصوت جارنا (أبي رشيد) يخترق الظلام ويطرق سمعي.

مسكين أبو رشيد!. . لقد مر عليه شهران والأغلال تلازم يديه والقيود تثقل رجليه. . إنهم يقولون أن به مصاً من الجنون. إنه لم يؤذ جاراً ولم يضر إنساناً ولكن أبناءه بصروا به يخطب في الشوارع والأسواق فاقتادوه إلى بيته وحبسوه في غرفته. . . لقد بح صوته وهو يقول أن ليس به مجنون. ولكن ما من سامع! واختنق وهو يدعو للأخلاق القويمة. . ولكن ما من يطيع!. وهذا صوته يصل إلى أذني ضئيلاً وهو ينادي:_أيها القوم! الدين لله والوطن للجميع!. أن بناء الوطن لا يقوم على الطين والأحجار ولكن على المهج والأكباد.

ص: 15

المصلحة العامة رائدنا ونجاح الأمة غايتنا. .).

ما أعذب هذه الكلمات!. لقد طالما سمعتها تتردد في كل مكان وعلى كل شفة، يا للعجب:. . هذه الكلمات التي رفعت أناساً إلى مصاف الزعماء والقادة تنحدر بأبي رشيد إلى ظلام غرفته ووحشتها. . . ورحت أفكر طويلاً في أمر أبي رشيد!. . مسكين أبو رشيد!. . لقد حكمت عليه الهيئة الاجتماعية بالجنون ولا ذنب له غير الدعوة إلى الأخلاق القويمة. . ومن يعلم؟. لعل بين جنبي أبي رشيد نفساً أجدر بالزعامة من كثير من النفوس التي تتبوأ عرش الزعامة، ولكن الهيئة الاجتماعية حكمت عليه بالجنون فكان مجنوناً. لقد كانت مقاييس الجنون طبية بحتة، ولكن المجتمع جعلها اجتماعية بحتة فخلق من الحمقى قادة، وجعل من العقلاء مجانين.

وكان الليل قد انتصف فاضطجعت في فراشي وصورة (أبي رشيد) لا تبارح خيالي، وصوته لا ينفك بطرق مسمعي ضئيلاً ضعيفاً. ونمت وقد عولت على ترك الخطابة. . ونمت وقد شيعت كل آمالي وأحلامي. .

وما أشرقت شمس النهار حتى كنت أنهض من فراشي. . . وما مالت الشمس للغروب حتى كنت أدرج إلى (البناوي) لأنقع غليلي بالخطابة. . . لقد سلوت أبا رشيد، ونسيت العظة البالغة التي حملها إلى صوته في الليل البارحة. . . لقد مضت تلك العظة مع الليل وما كان الإنسان أن يتعظ بما فات. .

ووقفت على المنحدر كسابق عهدي أرسل الجمل المتتالية، والكلمات متداخلة حتى شعرت أن الأرض تهتز من وقع كلامي ورأيت أن الأشجار تتمايل في أقصى البستان من هول خطابي. ولقد تملكني الحماس فرحت أكثر من الإشارات. ونشأت أضرب الأرض برجلي. وفجأة شعرت بيد قوية تضغط على كتفي والتفت فإذا بمسدسين مصوبين إلى رأسي، وإذا أنا أنام أمام أثنين من رجال الشرطة الأشداء يتقدمان إلي ويحاولان إلقاء القبض علي ولقد سدت المفاجأة علي منافذ التفكير فلم أعد أدري ما أصنع، وهمت بالابتعاد عن الشرطيين ولكنهما صاحا بصوت واحد.

- حذار أن تتحرك وإلا قتلناك!. .

- وعلام ذلك. وما هذه المعاملة الشاذة!. احترموا الناس أنا محام. . أنا أستاذ. . أنا. .

ص: 16

- محام. . أستاذ. . هذا ما يخيله لك الجنون!. .

- الجنون. . .

- أخرس وإلا قتلناك!. . .

ولما أبصرت الجد في كلامهما، ورأيت أن من العبث مناقشتهما لزمت الصمت وأنقدت إليهما فضربا على يدي بالوثاق ورحنا نحث الخطى إلى مخفر (الحسنين).

ودخلنا المخفر مع الليل، ولم نتخط القبة حتى كنا أمام المأمور (القومسير) ولقد كان هذا يعرفني معرفة تامة فلك يكد يراني حتى انتصب واقفاً ونظر إلى رجاله مشدوهاً، وقلب يديه مستفهماً عن السر في القبض علي. فأجابه أحد رجاله:

- إنه يدعي أنه محام. . . وأنه أستاذ. . .

- من يكون إذاً؟. . .

- إنه المجنون الذي أرسلتنا بطلب، المجنون الذي روع المارة في سفح البرناوي هذا الصباح بما كان يلقيه عليهم من حجارة.

تألم (القومسير) لهذه الكلمات وارتسم الألم على محياه. ثم أسرع إلى الوثاق فحله وراح يستعذر إلى عن فعل رجاله، والتفت إليهما يؤنبهما. . وما ينفع الاعتذار!. وما يجدي التأنيب!. لقد كان ما كان وشدت يداي بالوثاق، وأخذت كما يؤخذ المجرمون والمجانين. . . لقد خرجت من المخفر وأنا لا أعي ما أصنع. . . لقد كانت الصدمة أليمة أنستني الخطابة، وزهدتني في النيابة. ولم يدر أحد بما أصابني فقد كتم رجال الشرطة - على غير أمتهم - الأمر ولقد كانت الطريق التي جزناها من البرناوي إلى المخفر مقفرة من المارة. . وأني لا أزال أحمد الله كثيراً على أن الخبر لم ينتشر وإلا رغب الطامحون عن الخطابة كما رغبت، وزهد المغرمون بالنيابة كما زهدت، ولأمست حماه لا تسمع لخطيب صوتاً ولا ترى لنائب وجهاً.

حماه (سوريا)

زهدي الشواف

ص: 17

‌طرائف من العصر المملوكي:

2 -

ابن الوردي والخمول

للأستاذ محمود رزق سليم

لست أدري أيصبح (الخمول) مبدأ فلسفياً يعتنقه بعض الناس في هذه الحياة، ويستشعر من وراء اعتناقه سعادة وراحة ورضا. . وهل في مكنة امرئ أن يدفع نفسه دفعاً في زاوية من الخمول يقبع فيها قانع النفس راضي البال قرير العين بخموله. . . أم أن المرء بظروفه وبيئته، وبدرجة ذكائه وحظه من المعرفة، قد يؤتي نصيباً من الشهرة والصيت، وقد يحرم. يؤتي هذا النصيب قسراً عنه، ويحرمه قسراً عنه كذلك. وصحيح أن المرء بجده وكده واجتهاده وجلادة يكون عاملاً من أهم العوامل في شهرة نفسه، وفي إيتائها نصيباً من الصيت والحظ الحسن. ولكن مما لا شك فيه أن عوامل أخرى خارجة عن إرادته، ذات صلة وثيقة بإيجاد هذه الشهرة، وخلق ذلك الصيت والحظ. قد تكون هذه العوامل معينة للمرء تأتي إليه طائعة مختارة وفق ما يهوي ويشتهي، فيصل بها إلى ما يرجو من الشهرة، في سهولة ويسر. وقد تكون معوقة له واقفة في سبيله حجر عثرة، قاسية عاصية فلا يصل إلى ما يرجو إلا بعد لأي وشدة. وقد لا يصل. والدنيا ذات عجائب، فكثيراً ما تسوق الشهرة إلى من يستحقها، وتضفي عليه ذيول النعمة، ثم تنحيها عن رجل هو أهل لها، وتحرمه أسباب الرضا. وقديماً قال الشاعر.

متى أرت الدنيا نباهة خامل

فلا ترتقب إلا خمول نبيه

وبدهي أن المرء الذي من حقه أن تنبه الدنيا شأنه، ليس أمراً عادياً، بل قد أوتي من الذكاء وخصوبة الذهن، ورزق من المعرفة وسعة التفكير، والقدرة على الإنتاج، حظاً واسعاً جديراً بأن يجعل منه رجلاً مشهوراً من حقه أن تسعى إليه الدنيا، وأن تنبه شأنه. ودون شك، هو يرى نفسه جديراً بهذا السعي والنباهة. فإن أوتي منهما حظاً سعد به. وإن حرم، فإما أن يجدد جهاده وجلاده، حتى يصل ما تصبوا إليه نفسه. وإما أن ييئس ويستنيم إلى الخمول، ويتخذ منه مبدأ فلسفياً، ومعتنقاً بعيش به، ويتسلى باعتناقه، ويجد لذة في الائتناس به، تعوضه عما فقده من شهرة، وعما حرمه من نعمة الصيت، وعما فاته من مباهج الحياة. ولكنني - كما ذكرت - لست أدري تماماً هل يجد الخامل - أو المتخامل - لذة في

ص: 18

خموله - أو تخامله - ويستشعر من ورائه سعادة وراحة ورضا.؟ أم هي سعادة اليائس وراحة القانط.؟ وكم من سعادة في اليأس، وكم من راحة في القنوط. .

ثم أيستطيع هذا الخامل - وقد وهب له الله عوامل النباهة مركبة في طوايا نفسه - أن يستنيم طويلاً إلى بأسه، ويسكن زماناً إلى خموله، والدنيا من حوله تتحرك ويسير ركبها. . . وأنداده فيها يصلون إلى منازل دونها منزلته، ويسمون إلى مكانات من تحتها مكانته، وتسعى إليهم الدنيا أكثر مما سعت إليه، مع أنه يشآهم علماً وفقهاً وأدباً، ويسبقهم ذكاء وحيلة.

وهل هذا خمول الذي يدفع نفسه بيت أحضانه دفعاً، يحلو له ويروقه على الدوام، أم أنه نوبة من نوبات يأسه، ومضاعفة من مضاعفات قنوطة، عما قليل يفيق منها ثم يعود إلى سيرته الأولى من الكفاح والجلاد والدأب في طلب الشهرة، والجد في سبيل نعيم الدنيا. .

على أنني أكاد أعتقد أن المرء الذي من حقه أن تنبه الدنيا شأنه، ولكنها حرمته النباهة، فدس نفسه بين أحضان الخمول دساً، إنما ابتغى من وراء ذلك الخمول ضرباً جديداً من نباهة الشأن. وما ذلك منه إلا الحيلة الأخيرة لليائس القانط. الحيلة الأخيرة يجربها، فيدعي الخمول، ويتخذه وسيلة إلى الشهرة. . ويمقت الدنيا لكي تسعى إليه، ويتجمع عن الناس لكي يتساءلوا عنه. .

هذه كلها ضروب من المعاني تنتاب ذهن الإنسان عندما يقرأ طوائف من شعر ابن الوردي.

زين الدين ابن الوردي - عمر بن مظفر - من أنبع شعراء النصف الأول من القرن الثامن الهجري. وقد توفي عام 947 هـ وقد نشا في مدينة حلب، وكانت إحدى نيابات المملكة المصرية حينذاك. وقد أوتي ابن الوردي نصيباً محموداً من الذكاء وحضور البديهة وسعة العلم. فقد كان أدبياً كاتباً شاعراً فقيهاً. درس فقه الشافعي فبرع فيه وبذ إخوانه وأصبح من علماء هذا المذهب الأعلام، حتى أنه اختير للنيابة في الحكم - أي قاضياً في الأقاليم - ينوب عن قاضي قضاة الشافعية، وكان كفئاً في منصبه.

ومال منذ حداثة سنه إلى الأدب، فكتب وأنشأ، ودبج الرسائل والإجازات العلمية والمقامات والمفاخرات. وقرض الشعر وافتن فيه، ونظم في أبواب منه شتى، منها: الغزل والفخر

ص: 19

والحماسة والمدح والهجاء والنقد والوصف والشكوى والزهد والاعتذار والإخوانيات والفكاهة والنصيحة والحكمة ونظم في النصيحة والحكمة والنقد قصيدته اللامية المشهورة ذات الأبيات والأمثال السائرة. ونهج في أسلوبه نهج شعراء عصره من الإغراق في البديع وبخاصة التورية والتضمين والاقتباس، مع رصانة وانسجام وقلة تكلف.

ولم يقتصر اهتمامه بالأدب على النثر والشعر، بل نظم في العلوم وله في ذلك (نظم البهجة الوردية) في أكثر من خمسة آلاف بيت، وهي في الفقه. وضرب في الشعر العامي بسهم، ونظم المواليا والدوبيت.

وفوق ما تقدم برع في النحو حتى أصبح فيه حجة، وألف فيه مؤلفات نافعة. وله في التاريخ كتاب (تتمة المختصر) وهو تذبيل على مختصر أبي الفداء. وله في التقويم كتاب (خريدة العجائب).

وقد طوف ابن الوردي في آفاق عدة من الديار الشامية، وربما وفد على مصر. وذلك سعياً وراء الرزق، وطلباً للعلم. فاستفاد من العلم شيئاً كثيراً، وإن كان لم يستفد من الرزق ما يريد.

وقد انعقدت في خلال ذلك أواصر المحبة والمودة بينه وبين كثير من أفذاذ عصره - وقد كان جيله غاصاً بهم - ومنهم أبناء فضل الله العمري وزراء البلاد الشامية وكتاب سرها. وجمال الدين بن نباته الشاعر المصري. وشهاب الدين بن المرحل النحوي المصري. وعلا الدين بن أيبك الأديب الدمشقي. والقاضي بدر الدين بن الخشاب المصري، والقاضي شمس الدين محمد بن النقيب، والقاضي كمال الدين بن الزملكاني، والمجتهد الفقيه ابن تيمية الحرائي. وغيرهم.

وكان ابن الوردي يجادل كلاً من هؤلاء، أو يقارضه الشعر، مجادلة الند للند، ومقارضة الصديق للصديق. وهكذا راسل وساجل. وربما كان من بينهم من هو أرفع منه منزلة وأعز جاهاً وأوسع مالاً، ولكن وشيجة الأدب والعلم كانت أقرب الوشائج بينهم وأسماها.

نحن لا نحاول هنا أن نترجم ترجمة وافية لابن الوردي. بل ولا نحاول أن نتحدث عن شعره حديثاً كاملاً. وكل ما نرمي إله في هذه الموجزة أن نتحدث عن خمول ابن الوردي. فكان لا بد لنا من أن ننوه بمزاياه وبمنزلته بين العلماء والأدباء، ليحق لنا أن نتساءل بعد

ص: 20

ذلك: (هل كان ابن الوردي خاملاً)؟. . والخامل في نظرنا رجل قليل الحيلة ضيق العطن قريب غور الذكاء. ولم يكن ابن الوردي كذلك. فقد قال:

أحسن مدارة الورى

يعد عليك نفعها

كم من يد قبلتها

كان بودي قطعها

لم يكن ابن الوردي قليل الحيلة، ولا كان خاملاً - كما رأينا - ولنه مع ذلك، اعتنق الخمول وأتخذه عقيدة له ومبدأ. فقمت الدنيا وذم أهلها، وأنجمع عن الناس وابتعد عن مجالسهم، وطلق المناصب وحمل على الساعين إليها. وكل هذا في مرارة لديه ولوعة. قال:

أتهزأ بي لما أجد وتلعب

وتعجب من حالي وحالك أعجب

ألا طالما قد كنت مثلك ساعياً

لجاه ومال جاهداً أتطلب

وطال اجتنابي للخمول فذقته

فطاب فأحببت الذي أتجنب

وما العيش إلا في الخمول مع الغني

فشكراً لمن في فضله أتقلب

رضيت كساوي واستخرت بطالتي

وقلبي مسرور وعيشي طيب

وما ذاك من مال جزيل وإنما

كفاني كفاف والقناعة تغلب

ولو ذقتم طيب القناعة متم

عليها ولكن بدرها تهيب

تركت لكم عز القضاء وجاهه

وأبعدت عنه خائفاً أترقب

فقوموا على ساقي حديد وشمروا

لنيل علاء واهجروا النوم واطلبوا

وميلوا وجوروا واحكموا وتخولوا

وصولوا وطولوا وانبذوا الزهد وانبهوا

ستعلم نفس أي حمل تحملت

ليوم أسى من هوله الطفل أشيب

لقد نلت من كنز القناعة بغيتي

وجانبت حرصي والحريص معذب

وعفت بني الدنيا وغادرت برهم

لغيري فلا أشكو ولا أتعتب

(يتبع)

محمود رزق سليم

مدرس بكلية اللغة العربية

ص: 21

‌مع ميخائيل نعيمه في (همس الجفون)

للأستاذ مناور عويس

(تتمة)

ما قرأت نعيمه - شاعراً أو ناثراً - إلا أحسست بدبيب الروح يسري في عروقي، وما أصغيت إليه - خطيباً ومذيعاً - وأحسنت الإصغاء والاستجابة إلا خيل إلي أنني أسمع أنغاماً شجية علوية تنبعث من عالم سحري مجهول، ومن رآه يلقي خطابه سلام الله وسلام الناس، في قاعة جمعية الشبان المسيحية في القدس خاله نبياً من أنبياء العهد القديم واقفاً على أحد تلال أورشليم يعلم ويعظ ويتوعد!.

وما شعرت بأفضليتي على غيري إلا توارد على خاطري بيتاه اللذان يخاطب بهما الدودة:

ولولا ضباب الشك يا دودة الثري

لكنت ألاقي في دبيبك إيماني

لعمرك (يا أختاه!) ما في حياتنا

مراتب قدر أو تفاوت أثمان!

سوف يأتي ذلك الزمن الذي يدرك فيه الناس قيمة نعيمه الأديب الشاعر الإنسان، نعيمه الذي أدمى قدميه سري الليل وقطع المهامة المخوفة ليصل إلى محراب الحياة، ومن أقل الذين وصلوا إلى ما وصل إليه نعيمه!. . .

نعيمة الذي أذاب قلبه وسماه (همس الجفون) و (زاد المعاد) و (المراحل) و (البيادر) وما هي إلا روحه صاغها ألحاناً وسكبها كلمات ومقاطع ناشراً في تضاعيفها الحب والخير والسلام والجمال بين الناس وساعياً إلى إيجاد عالم فاضل يليق بصورة الله ومثاله!. . .

قال صديق الأديب عندما قرأت له ما تقدم من الكلام: (أنك تغدق على نعيمه من الثناء كما لو كان نبياً! فأجبته:) لو كان نعيمه شاعراً وكاتباً ومفكراً فحسب لما خلعت عليه هذا الوشاح من الإجلال ولما رأيت فيه الإنسان الشامل للأديب الكامل، فالشعراء والكتاب والمفكرون كثيرون بحمد الله ولكن نعيمة إلى فنه الرائع وتفكيره العميق رسول من رسل الروح وثورة على المادية التي أرهقت الإنسان حتى كادت تصرعه. هو صاحب رسالة إنسانية شاملة يؤديها عن طريق الأدب، إنه ثورة على جمود القلب وتحجر الروح في هذا الزمن الرقيع!. . .

هو ناشر تعاليم الشرق الدينية والفلسفية وملبسها ثوبها القشيب، هو باعث (غوتامابوذا،

ص: 23

ولاوتسو) من مرقديهما ومعيد بردة الشباب إليهما في القرن العشرين، هو غضبة من غضبات (يتيم قريش) في زمن كثر فيه اليتامى والتعساء!

وأخيراً هو صرخة من صرخات (الناصري) في عصر كثر فيه الصراخ وارتفع العويل حتى كاد صوت الحديد يطغي على صوت الله!!. . .

إن من يقرأ (همس الجفون) يجد أن نعيمه قد مرت عليه مراحل كان فيها عرضة للتجارب التي لا بد منها (للعارفين) ففي قصيدته (أنشودة) يقول:

ألقيت دلوي بين الدلاء

وقلت علي احظي بماء

فعاد دلوي مع الدلاء

وليس فيه إلا رجائي

علقت عودي على الغصون

وقلت علي أسلو شجوني

فلم تردد على الغصون

أوتارُ عودي إلا جنوني!

علوت يوماً متن جوادي

ورشتُ سهمي على الأعادي

فخر ميتاً تحتي جوادي

وعاد سهمي إلى فؤادي!

أدرت وجهي نحو السحاب

وصحتُ: رب: خفف عذابي

فجاء صوت من التراب

يصيح: رب: خفف عذابي!

في هذه الأنشودة نسمع صراخ روح نعيمه التي قابلت الشر بالخير والبغض بالحب فعاد خيرها عليها شراً وحبها بغضاً، غير أنه اهتدى في المقطع الأخير من أنشودته إلى حقيقة استراح إليها وهي: أن الحياة حقل يستثمره الإنسان وبقدر البذار والعمل ونوعيهما تكون الغلة.

والعيش حقل تستثمرينه

يعطيك مما تستودعينه!

وقد توسع نعيمه في هذا المعنى في فصله الرائع (موزع البريد) أو القدر في كتابه الفريد المشهور (البيادر).

وفي أنشودة نعيمه هذه صور ومشاهد من معترك الحياة اليومي، فهو يصور نفسه فارساً يوقع أنشودته على خبب جواده كما يعرض علينا فصولاً مألوفة من صراع الإنسان على هذا الكوكب، ففي كل مقطع من مقاطع الأنشودة صورة بارزة قد استوفت جميع خطوطها وألوانها؛ وتلك ظاهرة جلية في شعر نعيمة فلكل قصيدة من قصائده ألحانها التي تنسجم مع

ص: 24

بحرها ورويها وتتجاوب مع روحها ومغزاها. فإذا اجتمع لنا الفكر الرجيح والخيال المجنح والموسيقى الشجية مع توفر الصدق والإحساس ودقة التعبير كان لنا أدب رائع يستحق أن نفاخر به الأمم والأجيال وكل ذلك متوفر في شعر نعيمه ونثره. . .

والآن انتقل بك أيها القارئ إلى لون آخر من مائدة نعيمه الروحية فأعرض عليك شيئاً من شعره المتشائم الحزين. فقصيدته (قبور تدور) على ما فيها من تشاؤم مر يبعث الألم والحزن في القلوب، حقيقة نعرفها ولكن لا نريد أن نصدقها، وهو في هذه القصيدة يمجد جمال الروح ويزدري جمال الجسد كما يؤمن بأن الفناء بقاء وأن البقاء امتثال لإرادة الله كما أن الرجاء شقاء البقاء والمساء شقيق الصباح.

بعينيك نور تراه العيون

جميلاً فتضحك منها المنون

لأن المنايا تحدق فيك

بعين الزمان التي لا تخون

فتبصر في مقلتيك تراباً

وتبصر دوداً وراء الجفون!

فخلى جمالاً يراه الغرور

وليست تراه عيون الدهور

وخلى الجهاد وخلى الطموح

وخلى القصور وحي القبور

ودوري مع الكون جيلاً فجيلاً

فهل نحن إلا قبور تدور؟!

إن نعيمه لا يريد أن ننخدع بقشور عن لبابها ولا يحب لنا أن تعمينا أعراضها عن جوهرها، لهذا لجأ إلى ذلك الأسلوب العنيف ليحد من شهواتنا ويهذب من غرائزنا التي تتهالك على الجمال الفاني تهالك الذباب على الحلوى، ذلك الجمال الذي لا تكاد نعب منه حتى يزداد عطشنا ونحس بالجوع يمزق أحشاءنا؛ وليس أسلوب نعيمه هذا بدعة في الأساليب، فقبلة الأنبياء والمصلحون الروحيون قد استعانوا بهذا الأسلوب للحث على الفضيلة والنهي عن الرذيلة، والأديان السماوية تقوم على الوعيد أكثر مما تقوم على الوعود، ونعيمه فضلاً عن تأثره العميق - روحاً وتفكيراً وأسلوباً - بالكتب المقدسة والديانات والفلسفات الهندية والصينية نرى للأدب الروسي عامة ولتستوي ودستويفسكي خاصة أثراً ملموساً في بساطة تعبيره ونزعته الروحية والصوفية المشبعة بالحكمة العالية. . وظاهرة أخرى تلفت النظر في شعر نعيمه وهي أن قصائده متقاربة التاريخ فآخر تأريخ لما نظمه بالعربية هو عام 1925، ففي شعره تجد الإيمان إلى جانب الشك والتسليم إلى

ص: 25

جانب الثورة مما يدلنا على أنه في فترة شبابه كان عرضة لتقلبات الأجواء الفكرية والنزعات الوجدانية، فبينما نراه في قصيدته (الطمأنينة) مؤمناً بأ سقف بيته من حديد وركنه من حجر، لا يخشى عواصف الرياح ولا هطول المطر، يستخف بالهموم والنحوس والشقاء والضجر ويتحدى خطوب الدهر أن تنزل به الألوف لأن باب قلبه حصين من صنوف الكدر إذ حالف القضاء ورافق القدر، نجده في بعض قصائده الأخرى شاكاً مرتاباً أو حزيناً متشائماً، كما نراه في قصيدته (الهم) يخشى أن يبعث معه الهم يوم القيامة:

أخاف أن ما دفنا

يقوم يوم القيامة!. . .

ثم أصغ إليه في قصيدة (النهر المتجمد) كيف ينتهي خطابه لذلك النهر.

يا نهر ذا قلبي أراه كما أراك مكبلاً

والفرق أنك سوف تنشط من عقالك وهو لا!

والذي أريد أن أخلص إليه هو أن نعيمه سجل في شعره - على قلته - نبضات قلبه وخلجات روحه، فشعره صورة صادقة معبرة عن حياته الفكرية والروحية. وأعيد القول بأن نعيمه هو ثورة على (التحجرية الأدبية) و (الانكماشات الانعزالية الإقليمية) ورسالته الإنسانية الشاملة لا تعرف للوطنية حدوداً (كرتونية) ولا للقومية عصبية قبلية دموية، وهو حد قول الشاعر

وطني الدنيا وديني خالقي

وأخي كل شقي في البشر!

(يافا)

مناور عويس

ص: 26

‌حس مرهف

للأستاذ ثروت أباظة

قالوا إنه فلان بك! ألم تسمع به؟ فلم أكد أجيب بالنفي حتى ضج القوم بالعجب وقالوا: إنه فلان بك! فقلت: تشرفنا. فقالوا: كيف لا تعرفه؟ فاعتذرت من جهلي الفاضح وصوبت في الرجل طرفي وصعدته فإذا متراكب اللحم متراكم الشحم منبعج البطن صغير العينين أفطس الأنف، له فم يوائم ضخامته يعلوه شاربا ينتهي سبالاهما عند أنفه؛ وهكذا يرسم لك الشاربان والأنف بيضة كبيرة مكتملة؛ فإذا نفث من فمه دخان شيشته كان من زمجرتها وركام دخانها أشبه بقطار خرب.

وتكلم. . . فوالله ما وجدت أتفه من قوله، فمن حديث عن غناه، إلى نبذة عن هواه، فإن سما فأخلاط غثة في السياسة. . وهكذا. . وهكذا جرى الحديث أو وقف على شر ما يجري حديث أو يقف، والرجل ماض في الثرثرة وأنا على موعد في هذا المكان فلا معدي لي عن السماع. إنه يدخل بال مناسبة في حديث عن إحساسه وشعوره. . إنه مرهف يعيش على أعصابه. . لا حول ولا قوة إلا بالله! هو مريض. . لا بأعصابه، ولكن بحب المرض بأعصابه.

وبعض الناس ينتابهم هذا المرض، وهو داء خلقه الله ولم يخلق له دواء؛ فإنك أن قلت للمريض به إنه غير مريض غضب واعترته هزة مصطنعة، وراح يرعش يده، ويبرق بعينيه، ويهدر بألفاظه. . إن هذا المرض في نظر أصحابه نوع من الرفاهية.

عرفت شاعراً مجيداً قرأت له قبل أن أعرفه، وما كدت ألقاه حتى أنطلق يذكر مصائبه فعرفت أنه موسر، وأن زوجته حبيبته وملهمة وحيه، وعرفت أن الحياة تمد له من أسباب السعادة وتطالعها بأبهى حللها. . عرفت هذا كله من مصائبه. . فهو يحول كل جميل إلى قبيح بمنظار داكن. . إنه مريض. . ولما حاولت أن آخذ بيده إلى الطريق جذب يده بعنف، وآلمه أني لا أحس بآلامه. ولولا أنها المقابلة الأولى لرماني بجمود العاطفة وبلادة الحس. . فصرت كلما قابلته أرثي لحاله مهما كان مسروراً حتى أصبح يستطيع لقائي ويستروح عزائي!

انتبهت من هذه الخواطر على صوت موحيها الشهير ما يزال يروي لي - وهو يظن أني

ص: 27

أسمعه - كيف بلغت أعصابه من الحدة مبلغاً لا يمكن للإنسان أن يصل إليه، ولكن لم يطل فقد وافته برقية قرأها فاستجمع في ذهنه مظاهر الحزن التي يقرأ عنها ثم ألصقها على وجهه فبدا وكأنه حزين. فم مطبق، وجبين مقطب، ورعشة يد غير منتظمة! ولكني أشهد الله لم يكن ثمة خلجة من حزن على وجهة. . ماذا؟. . قريب له قد مات. . البقاء لله. . هكذا قلنا. . ورجاه الجالسون - وأنا معهم - أن يتصبر فصبر، ثم أطلقت نكته فضحك. . لم يبك الرجل، ولم يقم ذو الشعور الرهيف إلى مصابه، بل أقام في مجلسه يكمل الحديث عن حس رقيق في خلاله وشعور رقيق اختصه به الله. . .

لم أطلق صبراً فقلت له: يا سيدي. . إنك تتكلم عن أعصابك تصفها بالرفاهية والرقة حتى كدنا نعتقد أنك نسيج من أعصاب غير مغلف؛ وها أنت ذا تقدم أعصابك في امتحان؛ وها هي ذي تنجح نجاحاً لا تجوزه أقوى الأعصاب نسجاً وأشدها متانة. ألم يمت لك قريب.؟ ألم تضحك؟. . لا. . لا تقل إنك تعزي نفسك، إن العزاء يكون بعد النعي بيوم؛ هذا لمتين الأعصاب، أما لمرهفها فعشرة على الأقل. . يا سيدي مل بنا عن هذا الحديث أظنني كنت ثائراً. . ولا شك أنني فضولي ولكنني على أي حال (صاحب أعصاب أيضاً)

قام الرجل من جلسته ونظر إلي في احتقار شديد وقال: أنت أهنتني، وليس من دأبي أن أرد الإهانة بمثلها، فإلى اللقاء.

- متانة أعصاب أيضاً!

سمعها الرجل بظهره فلم يشأ أن يطيل الحديث فانصرف

- من هو؟

- غني يشتري أذناً صاغية لكلامه، وحزناً لمزعوم آلامه، بأن يدفع ثمن القهوة

- قسمة ضيزى! لقد غبنكم الرجل

- نعم أحسسنا بهذا منذ أيام، فشكراً لك على إنقاذنا منه

- العفو!

ثروت أباظة

ص: 28

‌الذكرى الأولى:

شكيب الشاعر

للشيخ محمد رجب البيومي

- 1 -

(لو لم يكن شكيب كاتباً فريداً لكان شاعراً مجيداً؛ فهما كفتان كلما رجحت الواحدة شالت الأخرى)

المنفلوطي

مات أمير البيان.

منذ عام كامل خرجت الصحف على قرائها بهذا النبأ الفاجع فأشعلت القلوب حسرة، وأرمضت الجوانح لوعة، ولقد سقطت من عيني عبرات محرقة، كأني أطالع نعي صديق حبيب، تصلني به وشائج القرابة والصحبة ولا عجب في ذلك، فقد تتلمذت سنوات عديدة على أمير البيان، أدرس كتبه فأستفيد، وأحفظ قصائده فأنتفع، كما أنظر إلى مواقفه الرائعة في نصرة القضايا العربية، فأتمنى أن يوجد بين زعماء الشرق من يقتفي أثره؛ وينسج على منواله في التضحية والفداء.

ولقد شعرت بحنين رائد ينازعني إلى الكتابة عنه، فكنت أسائل نفسي ما عسى أن أقول في هذا الرجل، وقد كان أمة وحده تسعى وراء العظائم، وتضطلع بما تنوء به شم الفيالق، وهو فوق ذلك بحاثة قدير تسير مؤلفاته مسير الشمس في الكون، وناثر موهوب تتزاحم عليه المعاني الفائقة فيختار منها كل جميل فائق، وشاعر مطبوع تتطامن له رقاب القوافي، ويسلسل لديه كل أبي جموح.

غير أن الذين تكلموا عنه طيلة العام الفائت لم يتعرضوا إلى شعره الرائع بما ينبغي أن يلم به كل متحدث عن الأمير، وكأني بجهاده السياسي، ونثره العلمي، قد طغيا على ما تغنى به رحمة الله من فاتن النظم، وبارع القصيد، لذلك رأيت أن أتحدث عن فنه الرفيع ليعلم من يتشدقون اليوم بالهراء الغث كيف يكون القريض العربي في ديباجته المشرقة، وعاطفته الجياشة، وليدرك القارئ هذا الفرق الواضح بين من يحافظ على عربيته الخالصة، ولهجته

ص: 29

الأصيلة، وبين من يضله الله على علم، فينقل ما وعاه من دواوين الفرنجة، دون أن يشعر بإحساس صادق لما يقول، ويزيد فيجعل لغته قلقة مفككة تنادي على نفسها بالويل والثبور.

ولقد نشأ الشاعر في أسرة عربية عريقة يتصل نسبها بالنعمان ابن المنذر عظيم الحيرة في عهدها البسام، فلا غرابة إذن حين نجد الأرسلانيين مفطورين على الطبائع العربية التي تحدث عنها تاريخنا المجيد، من حب للمروءة، وذود عن الحياض، وتعلق بالشعر يسمعه العربي، فتهتز أعطافه مرحاً، ويرقص قلبه طرباً على موسيقاه، لأنه يفصح عن ذات نفسه أصدق إفصاح.

وسيصدق القارئ كلامي هذا حين يعلم أن الأمير شكيباً وأخويه الأميرين نسيباً وعادلاً قد تركوا للشعر العربي كنزاً ثميناً يعتز بفرائده ويباهي بلآلئه وما ظنك بأشقاء ثلاثة فيهم الصناجة الصناع، والذواقة المفن، والطائر والصداح.

وقد ولد شكيب بعد أخيه نسيب بسنة ونصف فنشأ كالتوأمين دخلا المدرسة معاً، وتخرجا معاً، وبدت مخايل شاعريتهما في سن مبكرة، وهل سمعت أن شاعراً نشر قصائده في الصحف وهو في الرابعة عشرة من عمره قبل شكيب؟ وهل سمعت أن شاعراً كان الأول في مسابقة شعرية عامة، وهو في السادسة عشرة قبل نسيب!؟ كل هذا كان بفضل الموهبة الشعرية التي انتقلت إليهما عن طريق الوراثة، والتي ترعرعت بما حفظاه في عهد الحداثة من شعر جيد، قد ارتقى بهما درجات في سلم الكمال.

على أن القدر قد ساق إليهما في ذلك العهد الشيخ محمد عبده إذ كان أستاذاً في المدرسة السلطانية ببيروت، فدلهما على شعر البارودي وهو كما نعلم إشراق لفظ وجودة معنى، حيث أكبا على قصائده حفظاً واستظهاراً، ولا تسل عما يفعله الشاعر المعاصر في أبناء جيله، فهو يقرب إليهم البعيد، ويدني منهم الشاسع، كما يخلق فيهم الرغبة الملحة في الارتقاء إلى منزلة، والصعود إلى ذروته، ومن هنا كان سامي نهراً صافياً فاض عليهما في بيروت بالنمير العذب كما فاض على شوقي وحافظ بوادي النيل.

ولقد كان أثر البارودي في شكيب أوضح منه في نسيب، فإنه جذب الأول إلى من يشابهونه من شعراء بني العباس، فكان قنطرة عبر منها الأمير إلى البحتري والمتنبي والشريف وأخيراً ممن قطف رب السيف والقلم أزاهيرهم الناضرة؛ أما نسيب فقد عكف - كما يقول

ص: 30

أمير البيان - على قراءة شعراء المعلقات ومن لف وأنت حين تقرأ له تحتاج إلى غير قليل من التريث والاطمئنان، على أنه قد يتأثر بالبارودي فتراه وسطاً بين الجزالة والسلاسة كأن يقول في فقير بائس.

يخد أديم الأرض خداً كأنما

له قبل الغبراء ثأر مخلف

جبين بمرفض الصبيب مضمخ

وشعر بملتص الغبار مغلف

وجيد خفوق الأخد عين كأنما

تبينت من أوداجه الدم ينطف

إذا زلزلته سرعة الخطو أوشكت

أضالعه في زوره تتقصف

كأن أزير الجوف عند وجيبه

حسيس هشيم والندى يتوكف

يساقط نثر الطين عنه إذا مشى

كما فض ختم الدين سكران معنف

كأني به إذ فرق الترب والحصى

يفتش هل في باطن الأرض منصف

إذا استنجد الآمال عند اكتئابه

تبدي له ستر من القار مغرف

وعلى كل فقد كان أمير البيان أكثر توفيقاً في هيامه بالشعر العباسي وحده، فقد نضح عليه من العذوبة والرقة، ما جعل شعره حبيباً إلى نفوس قرائه. ومن نعم الله على شكيب أن هيأ له الأسماع التي تصيخ معجبة إلى إنتاجه من يوم أن عرفته العربية أديباً يافعاً يتنقل بين حجرات درسه فكان لا ينشر في الجرائد - مع حداثة عمره - قصيدة إلا تردد صداها في ربوع الشام، ولقد شجعه هذا على المضي في سبيله، فاستمر يظهر للعيون قلائده من حين إلى حين، وما بلغ السابعة عشرة من سنه، حتى جمع ما نشره متفرقاً في الصحف بديوان صغير أسماه الباكورة، وقد جعل إهداءه للأستاذ الإمام، متودداً إليه في تواضع، معترفاً بضآلة هديته في جانب ما يليق أن يهدي إلى حكيم الإسلام فهو يقول في إهدائه.

هي دون ما يهدي إليك وطالما

قبل الكبير هدية من صاغر

أهديتها لا لكي تليق وإنما

مثلى على ما فاق ليس بقادر

ومهما يكن من شئ فقد كان لظهور الباكورة رنين في مختلف الصحف الشامية، فهذا تقرظ، وتلك تنقد، مما أكسب الشاعر الناشئ منزلة في القلوب، والواقع أن في ديوان الباكورة شاعرية غضة، تدل على مستقبل زاهر، إلا أنها - والحق يقال - لا تستأهل هذه الضجة الكبيرة، إذا قيست بما يقال في عهدنا الحاضر بعد تنوع المذاهب الشعرية، ولكنها بالنسبة

ص: 31

إلى زمنها السالف حميدة مقبولة، لأنها محاكاة للشعر القديم في دقة تدل على نظر ثاقب وفكر حصيف، على أن الدقة كانت تخون الأمير في بعض الأحايين، فيظهر شعره معلناً عن أصله الذي قيس عليه وإليك قوله في مطلع قصيدة.

بقلبي ما تهمي العيون وتأرق

وللعين ما يبلى الفؤاد ويرهق

وما كنت ممن يرهق العشق قلبه

ولكن من يدري فنونك يعشق

فهذان البيتان يشهدان أنهما مأخوذان من قول المتنبي.

لعينك ما يلقي الفؤاد وما لقي

وللشوق ما لم يبق مني وما بقي

وما كنت ممن يدخل العشق قلبه

ولكن من يبصر جفونك يعشق

ومثل هذا التقليد في (الباكورة) كثير.

وما كاد أمير البيان بتجاوز هذا الدور ويخطو في العقد الثالث من عمره حتى تمكن من فنه واستوى على قمة مجده، فصار جيد السبك، وثاب الخيال، بعيداً عما بيناه من المحاكاة والتقليد، ولقد كان مولعاً بأستاذه البارودي إلى درجة جعلته يكثر من التفكير فيه، فصار لا يكتب مقالاً في جريدة أو بحثاً في مجلة، إلا توجه بشعر سامي، مبالغاً في إطرائه، وتشاء الأقدار أن تقع بعض هذه الكلمات في يد رب السيف والقلم، وهو نازح عن عرينه في سر نديب، فيدفعه شوق عاصف إلى من يثني عليه ثم يغلو به الحنين فيكتب إلى الأمير على بعد الدار ونزوح المزار.

أشدت بذكرى بادئاً ومعقباً

وأمسكت لم أنبس ولم أتكلم

وما ذاك ضنا بالوداد على امرئ

حباني به لكن تهيبت مقدمي

ولك أن تتصور فرحة الأمير بكتاب أستاذه، فقد حقق له أمله الكبير في التعرف به، فطفق يحمد الظروف الطيبة التي هيأت له ما يريد، ثم كتب إليه قصيدة عصماء تشتعل وجداً وتندلع حناناً وفيها يقول.

إلى كل يوم فيك وجد كأنما

طوى جانحاً منى على نار ميسم

حلفت بما بين الحطيم وزمزم

وبالسدرة العليا ألية مقسم

لألفيت عندي دوس مشتجر ألقنا

وخوضي في حوض من الدم مفعم

أقل لقلبي في المواقف هيبة

وأهون من ذاك المقام المعظم

ص: 32

وهذا تصوير جميل يدلك على ما وصل إليه الأمير في درجات الشعر وأظن الفرق بينه وبين الباكورة بعيد، فهذا شعر قوي محكم اعتمد فيه الأمير على نفسه وانتزعه من ذات صدره، فجاء ينطق ببراعة قائلة الفنان، وإني لأعجب كيف اندفع البارودي إلى تلميذه الناشئ هذا الاندفاع الغريب، فقد نظم فيه من الفرائد كما لو كان خدين شبابه ورفيق صباه، كأن يقول.

أنا أهواك فطرة ليس فيها

من مساغ للنقض والإبرام

جمعتنا الآداب قبل التلاقي

بنسيم الأرواح لا الأجسام

فبلغنا بالود ما لم ينله

بحنان القربى ذوو الأرحام

وإذا الحب لم يكن ذاد واع

كان أرسى قواعداً من شمام

هذا وقد اتصلت المراسلات بين الشاعرين فترة غير قصيرة كان لها أثرها البين في عظمة الأمير فقد تلفت الدهر بعينيه إلى من يخطي بمساجلة البارودي العظيم، وتطلع محبو الأدب في شتى بقاع العربية، إلى الشاعر الجديد يحفظون قصائده، ويقتنصون فرائده، ويوازنون بين نثره ونظمه فيجدونه أهلاً للحمد والإطراء وهذا بلا شك غنم كبير فاز به الأمير.

(له بقية)

محمد رجب البيومي

ص: 33

‌فن المسرح

(تحية للأستاذ الفاضل زكي طليمات)

للأستاذ عبد الفتاح البارودي

توافينا الأنباء الفنية الخارجية يوماً بعد يوم بدلالات كثيرة على اهتمام الأمم الراقية في الأعوام الأخيرة بالمسرح اهتماماً يوشك أن يعيد إليه اعتباراته الأدبية ومكانته الفنية الصحيحة مما حدا بكثير من النقاد إلى تسمية عصرنا الحاضر بعصر (بعث المسرح

فنحن نجد مثلاً أن بعض كبار الممثلين (وفي مقدمتهم شارلس لوتون) يقررون اعتزال السينما وقصر جهودهم على المسرح! ونجد أيضاً أن هيئة فنية لها قيمتها مثل (جمعية المسرحيات ذات الفصل الواحد) في لندن لا تكتفي بمضاعفة نشاط المسرح الخاص بها مضاعفة جبارة بل تقرر علاوة على ذلك طبع ونشر أضخم عدد ممكن من روائع المسرحيات ليتسنى لمن لا يحظى بمشاهدتها مثلاً أن يحظى بقراءتها متى أراد. وفعلاً صدرت - في فترة قصيرة - جملة مجموعات من بينها المجموعة المعروفة: (مسرحيات النساء) جمع واختيار الكاتبة (اليزابيث إفرارد ونجد كذلك أن مؤتمر الخبراء المسرحيين التابع لمنظمة التعاون الثقافي لهيئة الأمم المتحدة يقرر - فيما يقر - بجلسته المنعقدة بباريس في يوليو الماضي: (اعتبار المسرح أداة ثقافية رفيعة. . . وإنشاء معهد مسرحي عالمي. . وتأليف جمعية دولية من المسرحيين العمليين والنظريين للنهوض بالمسرح وكفل أسباب التعاون بين رجاله في العالم والمحافظة عليه من طغيان السينما. . . الخ).

هذا في الخارج، أما في مصر والشرق بصفة عامة فأغلب الظن أن المسرح لا يزال - بالرغم من جهود القائمين على شؤونه - من أقل الفنون شأناً بلا سبب واضح سوى جهلنا بحقيقته من جهة وعدم التفاتنا إلى مكافحة هذا الجهل من جهة أخرى. ومرد ذلك إلى أننا - فيما يبدو - لم نؤمن بعد هذا الفن العريق من حيث كونه (فناً) له ذاته وله موضوعاته الخاصة به وله مقوماته وله فوائده الأدبية والمادية. . . بل لعلنا لم ندرك بعد - أو لم نكد ندرك - ما له من قيم

لهذا سأبدأ بشرح موجز لأهم هذه القيم تاركاً لمن يشاء حرية المناقشة في حدود الفن الذي نرجو له كل نماء وازدهار:

ص: 34

المسرح وقيمته الفنية:

لعلنا لا نغلو إذا قلنا إن الفن المسرحي أرفع الفنون الجميلة وأفضلها. وربما كان من السهل أن ندلل على ذلك بدليل بسيط معقول وهو أنه إذا كان كل فن من الفنون يؤدي رسالة ما وبجانب ذلك قد يشبع حاسة ما (الموسيقى تشبع حاسة السمع مثلاً والتصوير يشبع حاسة البصر. . . وهكذا) فإن الفن المسرحي باعتباره شاملاً لكثير من الفنون يؤدي بالطبع رسالاتها جميعاً أو معظمها وبجانب ذلك يشبع أغلب ما تشبعه من حواس. ولكن لا نريد أن نقف عند هذا التدلي السطحي وأن كان منطقياً فإن للفن المسرحي في ذاته ومن ذاته قيمة كبرى مستمدة من أنه ينفرد دون سائر الفنون بإبراز ما في الحياة من صور إنسانية بطريقة حية وناطقة إبرازاً (واقعياً) خالصاً. هذه مسألة هامة ودقيقة جداً لأنه قد يظن أحياناً أن التصوير الخيالي أروع من التصوير الواقعي. . وهذه غلطة شائعة. فالخيال أن لم يكن متصلاً بالواقع اتصالاً قوياً أصبح تخيلاً أقرب إلى الوهم وأدعى إلى التضليل! والفن المسرحي هو أكبر الفنون استئثاراً بالواقع على نحو نموذجي. وهذه ميزته. فهو - لأصالته وقوته - أشد الفنون نفوراً من الشذوذ الخارق واصدقها تعبيراً عن الحياة الإنسانية وما يخالجها ويحركها من عواطف مختلفة بحيث لا تخرج الظواهر الممثلة على المسرح عن الحدود الطبيعية. سلوك إنساني في عالم إنساني مأهول يؤثر في الناس ويتأثر بهم.

ولهذا يشترط في المسرحية الناجحة أن تكون حوادثها محتملة الوقوع وخاتمتها طبيعية أي متمشية مع مجرى هذه الحوادث وبذلك تكون مرآة ناصعة يشاهد الجمهور فيها صورة من حياته ويلمس العوامل التي كونتها. . . أي يرى (حقيقته على المسرح رؤية مجسمة ومركزة كما يحس جمال الفن في أبدع مظاهره وأبهجها وفي هذا كله ما يثير رغبته في تصحيح أوضاعه وتجميلها والتطلع إلى مثل عليا.

المسرح وقيمته الفكرية:

كاد يصح في أذهان الناس أن المسرح مجرد متعة. وإنه لكذلك. ولكن ما نوع هذه المتعة؟ أليس للفكر فيها نصيب؟! وإلا فبماذا نفسر تطور المسرحيات من صراع بين قوتين إلى صراع بين عاطفتين إلى صراع بين الإنسان وبيئته وخواطره وملكاته؟ وبماذا نعلل وجود

ص: 35

(مسرحيات المشكلات في أدب المدرسة الحديثة التي أنشأها إبسن النرويجي وتبعه برناردشو وغيرهما.

الواقع أن الفكر عامل هام من عوامل المسرح. وقد تصل أهميته أحياناً إلى حد اعتباره عاملاً أساسياً. لأن المسرح فضلاً عن كونه وسيلة للتسلية أو الترفيه فهو في نفس الوقت وسيلة لتحقيق الاتصال بين تفكير مؤلف المسرحية وبين الجمهور.

وكل ما في الأمر أن هذه التفكير يظل دائماً مستخفياً وراء العناصر الظاهرة الأخرى ولكنه رغم ذلك عنصر ضروري له ذاتيته الخاصة ويمتاز عن ضروب التفكير الأخرى بثلاث ميزات:

فميزته الأولى أنه لا يعني (الحقائق الكبرى) وعلاماتها أن يكون لها أثر مباشر في حياة الإنسان واحساساته كالموت والقضاء والقدر والحب ونحو ذلك. وصحيح أن بعض أدباء فرنسا خاصة وأوربا عامة اتجهوا - في العصر الحديث - إلى العناية بالحقائق التافهة ذات الأثر المؤقت استجابة لميول العوام وشغفهم بالجديد أياً كان إلا أن هذا يعتبر انحرافاً خطيراً على حساب الفن الصحيح.

وأخشى أن يفهم من ذلك المسرح فن محافظ أو رجعي التفكير وهذا خطأ. لأن الحقائق الكبرى الخالدة. فالصراع بين القديم والجديد مثلاً حقيقة خالدة نراها في مسرحية (الضفادع) لأرستوفان. في القرن الخامس قبل المسيح كما نراها في المسرحيات الحديثة دون ملل أو استغراب. وحيرة الإنسان وضعفه حيال القضاء حقيقة خالدة يصورها أندريه جيد الآن كما كان يصورها شاعر الإغريق سوفو كليس بلا خلاف في اللب والجوهر والصميم. وهكذا. . .

وميزته الثانية. أنه لا يعرض الحقائق الكبرى على العقول كقضايا جدلية فتستعصي على الفهم بل يثير الاحساسات والمشاعر فتصبح هذه الحقائق في متناول مختلف العقليات غالباً. وفضلاً عن ذلك فإنه يعرضها عرضاً اختيارياً بمعنى أن الناس لا يجبرون على مشاهدتها ومن هنا يسهل اتصال نفوسهم بها اتصالاً مباشراً فيفهمونها من حيث يخيل إليهم أنهم (يتسلون بها).

وميزته الثالثة: الحوار. ومعلوم أن أبرع وأفعل أداة في توضيح الاتجاهات المختلفة أو

ص: 36

المتناقضة في الموضوع الواحد لأنه يعرض الفكرة ثم يقرنها بأضدادها وأشباهها كذلك وحينئذ يتسنى للمشاهدين بالمقارنة أن يتبينوا أوجه الضعف أو القوة فيها. وكم من أفكار كانت بحكم العرف وغيره عقائد راسخة في الأذهان ثم تناولها مسرحي ماهر مثل برناردشو فاستطاع أن يبين ما فيها من سخف بفضل الحوار الذي يواجه العقل باحتمالات تهز رواسبه وتستبقي ما يؤيده البرهان فقط.

وكل هذا لا ينقص من قيمة (المتعة) التي يجب أن يحس بها المشاهدون. فلا تزال هي الغرض الرئيسي للمسرح. غير انه لا تخلو من عنصر (الفكر) وأن لم يعمدوا ظاهرياً إلى التفكير البحت. . وإنما يحسون في نفوسهم بالسرور والائتناس لأنهم - دون شعور ملحوظ - يحللون ما يشاهدونه على قاعدة تفضيل الأسمى والأجمل والأروع. . . وهذا هو مناط التفكير السليم.

(للبحث بقية)

عبد الفتاح البارودي

-

ص: 37

‌من وراء المنظار

فتوات ميري!

ما أحسبك أيها القارئ إلا قد اتجه ذهنك إلى ما أريد لأول وهلة، فاستحضرت صورة نفر من شرطتنا الأبطال والعياذ بالله تعالى، وإلا فمن غير هؤلاء يصدق عليهم هذا النعت وهم مصدر وحيه إلي كما يوحي الشيء الرائع بالمعنى الرائع؟

ولست أكتم عنك أيها القارئ أني بهؤلاء الأبطال ضائق أبداً، يغيظني مجرد مرآهم، وأكدر الإصباح عندي صباح يطالعني فيه بطل من هؤلاء قبل أن تقع عيناي على سواه من عباد الله. وإنه والله بعدها ليوم أسود، أظل أسأل الله فيه العافية.

ولست أتبين في نفسي على وجه اليقين ماذا دس فيها الحفيظة على هؤلاء حتى لأطيق كل صنف غيرهم من الأرذال، ولا أكاد أطيق حتى مجرد ذكرهم، ولو تمثلت لي عفاريت وتراقصت حولي بأشكالها وألوانها عن يمين وشمال لأنست إليها ولألفتها قبل أن أستطيع أن أصبر على مرأى واحد من هؤلاء (الفتوات الميري)

وارجع بالذاكرة القهقري ربع قرن فأراني على سور نادي (سيروس) أتدلى لأهبط في حديقته وأنا صبي في الرابعة عشرة وفي يدي كتبي جئت بها من المدرسة مضرباً لأستمع إلى سعد يخطب بعد أوبته من جبل طارق، وقد حال العساكر عند الباب بيني وبين آلاف غيري من الدخول، فما ادري إلا وعصا شديدة تهوي على وسطي فأقع على ظهري صارخاً وتتناثر كتبي ولا ينقذني من الرعب والهلاك إلا أحد الضباط، وأنسى الألم لفرحتي بالدخول إلى حيث أسمع سعداً. . أيكون مرد بغضي هذه الطائفة إلى ذلك الحادث. ولكن بيني وبينه ربع قرن.

وتثب ذاكرتي إلى الأمس القريب فأجدني أتهيأ للنزول من الترام ذات يوم، فإذا بعتل من هؤلاء يتحمس وهو على السلم في تحية أحد ضباطه ولكن يده الهابطة عن جبينه تقع في عنف على منظاري فإذا به يطير عن أنفي؛ ولولا أنه استقر على ذراع أحد الواقفين على السلم لما وقفت له على أثر. على أني وجدته قد تحطمت إحدى زجاجيته، ولا تسل عن مبلغ ما نال أنفي من ألم وما ركبه من ورم بضعة أيام. فهل كأن هذا اللعين يثأر لنفسه ولطائفته مقدماً من هذا المنظار؟ لست أدري. . . وهل يرجع شيء من حفيظتي على هذه

ص: 38

الطائفة إلى ذلك الحادث أيضاً؟ ولكني ضائق بهم من قبل ذلك ضيقاً شديداً.

ولقد زادني غيضاً من هؤلاء وسخطاً عليهم مناظر تتابعت منذ أيام بعضها في أثر بعض كأنما تآمرت بها الظرف على كيدي. .

هذا رجل ملقى على الأرض ذات مساء على الطوار أمام الغرفة التجارية يقيئ من فوق ومن تحت، وقد أقيم على هذا الطوار ثلاثة من الشرطة غلاظ شداد ليمنعوا السابلة أن تطأ أقدامهم القيء حذر الموت وانتشار الوباء، وكان أحدهم في وسط الطوار، والثاني في طرفه الشرقي والثالث في طرفه الغربي، وكان ما كلفوا به من أمر جد خطير، ولكنهم اجتمعوا ثلاثتهم يتحدثون وظهورهم إلى المريض والسابلة يطئون القيء ويحملون منه ما يكفي لأبادة القاهرة كلها؛ ولست أدري أين ذهب وقتذاك الأطباء والمسعفون؛ وانزعج أحد المارة لتحذير الناس إياه وهو شاب كان يتأبه ويتنبل بمشيته وملابسه، ولكنه وطئ القيء ونظرت فإذا به جن جنونه وراح يشتم هؤلاء ما وسعه الشتم، ثم دخل صيدلية قريبة فطهر حذاؤه، وعاد يستأنف الشتم ويتم المعركة. . أتظن بعد ذلك يا قارئي العزيز أنهم - أعني هؤلاء العساكر الأماثل - عاد كل إلى موقفه فلبث فيه؟. كلا والله، فما لبثوا أن تجمعوا ثانية يتحدثون ويضحكون والسابلة يطأون القيء وهم لا يعلمون مبلغ ما يخوضون من هول، وكان يكتفي أحد الشرطة البواسل بأن يدير وجهه بين حين وحين فيقول لأحد المارة (ما قلنا يا سيدي ألف مرة بلاش مرور من هنا). .

ورأيت مرة أخرى عدداً من هؤلاء وعلى رؤوسهم خوذات الحديد، وقد جلسوا على مقاعد جلبوها من أحد المقاهي عند أول شارع قصر العيني في مدخل ميدان الإسماعيلية وراحوا يمصون وعلى رؤوسهم الخوذات، عيدان قصب السكر!. . يا لطيف. . يا دافع البلاء يا رب! هل يرى نزلاؤنا مسخرة في مصر أروع من هذه المسخرة؟.

ورأيت مرة ثالثة، فريقاً من هؤلاء - والعياذ بالله مما رأيت - كانوا بعض المتظاهرين بهراواتهم، فهل رأيت (الفتوات) ذات مرة في أحد أحيائنا البلدية يتهيئون لمعركة ثم يمنعون في الحي كله تحطيماً وضرباً لا يبالون ماذا يحطمون ولا من يصيبون؟ على هذا النحو انطلق (الفتوات الميري) يضربون كل مار فيصيبون طبيباً أو مهندساً أو شيخاً أو أستاذاً، وكان آلم ما شاهدت ضربة فظيعة تهوي على ظهر تلميذ في نحو الثانية عشر فما

ص: 39

يكاد يصرخ المسكين حتى تنحبس صرخته في صدره فلا يستطيع من فرط ألمه، وذقت معه الألم مرتين فقد ذكرت العصا التي (أكلتها) على سور نادي سيروس.

ونشاء المصادفات الأليمة أن (أصطبح منذ يومين باثنين من هؤلاء الشجعان ينظران في أقفال الدكاكين، في الصباح الباكر وقد ألفيت نفسي حيالهما فجأة عند منعطف في أحد الشوارع. . . يا حفيظ! لقد كان يكفيني من الهم مجرد رؤيتهما، فما بالك أيها القارئ وقد سمعت أحدهما يغني. . . أي والله يغني وفي يده هرواته قائلاً (أنا من ضيع في الأوهام عمره). ولست أدري كيف لهذا الحيوان عمر؟ وكيف يضيع في الأوهام عمره وما ضيعه إلا في الجهل والإجرام. .

وبعد فلو أني مضيت أسرد ما يغيظني ويحفظني على هؤلاء لضاق عنه أضعاف هذا المجال فبحسي تفكه للقارئ ودرءاً لما قد يكون ناله من سيرة هؤلاء البواسل من ضيق، أن أقص عليهم تلك القصة. . أمر أحد شرطتنا في حفلة من الحفلات منعاً للتزاحم أن يدخل الناس أثنين أثنين، ووقف الشرطي الهمام النبيه، فجاء أحد الباشوات ومشى وحده في غير زحمة ولكن الشرطي منعه من الدخول فهو لا يدخل حسب الأمر إلا أثنين! وضحك الباشا وعاد فاستصحب سائق سيارته فما أسرع ما أفسح الجندي لهما الطريق ودخل الباشا يضحك ملء نفسه ويدق كفاً بكف ويقص النكتة على المحتفلين قائلاً (دخلت بنفس هذا السائق)

وهنيئاً لحكومتنا (فتواتها الميري) فأنا على يقين أنها تتنازل عن متاحفنا جميعاً في يسر ولا تتنازل عن هذا الطراز العجيب النادر من شرطتها الذين يحق أن تباهي بهم العالم وتبلغ في مباهتها حد الأعجاز.

الخفيف

فصل الخطاب

للأستاذ محمود رمزي نظيم

قم لنعكف على كؤوس الشراب

وتزود من الشعاع المذاب

واسقني باسم (غلوش) من عصير

قد براه الإله في الأعناب

ص: 40

خمرة أطلقت من الدن فافتر

ت سروراً عن لؤلؤ من حباب

نورها الباهر المشعشع يسري

نشوة في القلوب والأعصاب

تتنحى العقول حين تراها

أقبلت في مواكب الأكواب

كرمها الأخضر الظليل تراها

ثورة أعلنت على الألباب

مل إلى الحان واحتسيها وجاور

معشراً تائه الهدى والصواب

واجعل اللهو والشراب سفيناً

في بحار الهموم والأوصاب

لا تكن زاهداً ففي العصر زهد

هو زهد المحتال والنصاب

ما احتفى الدين بالمظاهر لكن

بقلوب صفت صفاء الشراب

ودعاء اللسان من غير قلب

طاهر ليس بالدعاء المجاب

كم قلوب في الحان أصفى وأنقى

من قلوب طغت على المحراب

هات هذا الأكسير ينسى شقائي

في ابتعادي عن موطني واغترابي

فجعتني الأيام في خلق النا

س وفي المشتهى من الآداب

إيه دنياكم انهبوها فمالي

متعة في الحياة يا أترابي

أنا في رحلة عن الملأ الأع

لى وهذا التراب سوط عذابي

وقد بلغت الستين عاماً وما ز

لت كما كنت نيراً في شبابي

صقلتني الأيام صقلاً عنيفاً

فصفا جوهري ورق حجابي

أنا بالله في ثراء وجاه

قد حماني مذلة الأذناب

أهل جاه الدنيا ظلال أراها

تتلاشى فمالها من إياب

رب ضخم الحياة منتفخ ألا

و

هاج أمست دياره في خراب

ثقتي بالحياة ضيعها المو

ت فولت ولم تعد في حسابي

سبقت حكمة المشيئة في النا

س بأن يرجعوا لهذا التراب

وبعيني رأيت مدرجة المو

ت تواري الأخيار من أحبابي

أنا في إثرهم أجد ولي يو

م احتضار يكون فيه ذهابي

خدعتنا حضارة الجيل باللين

وأودت بنا بظفر وناب

الحياة التي نكابدها اليو

م حياة الطغيان والإرهاب

ص: 41

قبضت كفها فهانت على الفضل=وضاقت على ذوي الألباب

لا تقل في الحياة ناس فما حو

لك إلا فصائل من ذئاب

صافح البعض بعضهم مستريب

ين بأيدي خناجر وحراب

وغدت حالة الممالك فوضى

ومشى حربها على الأبواب

ينشدون السلام في كل يوم

كظماء مخدوعة بالسراب

كم تغنت بالسلم في القوم بوم

جاوبتها أنشودة من غراب

ويل هذا السلام من كل جبا

ر عنيد مخاتل كذاب

اتخذته الشعوب رباً وما زا

ل يسوق القطيع لقصاب

ما لنا نجحد الحروب وفي الحر

ب هلاك لا نحس الأرباب

أيها الرب أن خوفك رباً

لم يزل وجده العزيز الجناب

لا تغرر بالناس وافرح بما نلـ

ت وباهي بالمجد والألقاب

إن عبادك الذين يحابو

نك ضلوا وخاسر من يحابي

أقرضوك الثغاء منهم لشيء

مثلما يقرض النقود المرابي

فارتقها من السماء ففيما

قدرته السماء فصل الخطاب

(أبو الوفا)

محمود رمزي نظيم

ص: 42

‌الأدب والفن في أسبوع

مهرجان شوقي:

. . . وأخيراً أقيم مهرجان شوقي، وقدر لنا أن نعيش حتى نشهده. . . فمن نحو ستة أشهر تردد الصحف والمجلات أنباء، من تأجيل يتجدد، ومكان يحدد ثم يغير، وبرنامج يوضع ثم يبدل، وكان لنا بلاء في تفنيد ما رأيناه منحرفاً فيما كانوا يعتزمون.

عدلوا عن (الأوبرج) إلى الأوبرا، وأعلنوا أن من كان قد اشترى تذاكر (الأوبرج) يحتفظ بها للأوبرا مع استراد ثمن العشاء. وقد دفعت جنيهين ثمن تذكرة الدخول في الأوبرا، فليت شعري كما كان ثمن العشاء في (الأوبرج)؟!

وعلى كل حال نحمد الله على أن يسر إقامة المهرجان، لأنه وأن لم يكن فخماً حافلاً لائقاً بجلال الموضوع قد أراح الناس من تأجيلاته ودعاياته.

وما كان هذا الحفل ليكون شيئاً لولا ثلاث كلمات من الأدب القيم، هي كلمة نثري لمعالي الأستاذ إبراهيم دسوقي أباظة باشا، وقصيدة الأستاذ طاهر أبو فاشا وقصيدة إبراهيم ناجي.

وبقية برنامج الحفل كلمة قصيرة لمحمد صلاح الدين بك، وزج من الأستاذ حسين السيد، وإلقاء فتحب بك قصيدة (يا نانح الطلح) لشوقي، وغناء المطربة لوردكاش قطعة من شعر شوقي، وتمثيل الفرقة القومية فصلاً من رواية مجنون ليلى.

ولم يكن المهور كبيراً، من جراء هذا التسعير الفاحش. وقد علمت أن الحفل لم يكلف القائمين به مالاً، لأن المشتركين فيه حتى المطربة والفرقة التمثيلية كانوا متبرعين، ولهذا لا أدري ما سيصنعون بجنيهي. .

أبو محجن الثقفي:

كانت فرصة طيبة أن يسمع كثير من الناس الأستاذ الزيات من المذياع وطالما قرءوا له ولم يسمعوا صوته، فقد أذاع يوم الجمعة حديثاً عن أبي محجن الثقفي، وكانت مناسبة طيبة أيضاً أن يتحدث عن علم من أعلام الإسلام وبطل من أبطال موقعه القادسية في هذا الوقت الذي يرجى فيه أن يكون للعرب بفلسطين مواقع كموقعة القادسية، وما أحوج الشباب في هذه الآونة العصيبة إلى أن تجلى لهم تلك النماذج الرائعة من الفتوة العربية الإسلامية.

اتجه الأستاذ في حديثه إلى بيان مرحلة دقيقة في تأريخ الفتوة العربية وهي مرحلة انتقال

ص: 43

من الجاهلية إلى الإسلام، واتخذ أبا محجن مثلاً لها، فهو فتى من فتيان العرب تقوم الفتوة عنده على الحب والخمر والحرب والتغني بنشوتها في رائع الشعر وتقوم إلى جانب ذلك عزة تأبى الخضوع وتأنف أن ترتدع بالعقوبة؛ وقد تمادى أبو محجن في لهوه وشربه رغم إسلامه، ومرة يؤتي به إلى الفاروق عمر وقد شرب مع ندمائه بوادي العقيق، فيجلده عمر، فيصر على الشرب، فيعاود جلده ثم يأمر بنفيه، فيتغلب على الشرطي المرافق له في الطريق، وذهب إلى سعد بن أبي وقاص بالعراق فيحبسه. ثم ينشب القتال بين العرب والفرس، فتهتاج نخوة أبي محجن ويتألم لقيده الذي يمسكه عن خوض المعركة، ويعبر عن ألمه بأبيات من الشعر تسمعها زوج سعد بن أبي وقاص التي يطلب منها أن تطلقه ويعاهدها أن يرجع إلى قيده بعد انتهاء المعركة، فتطلقه، فينطلق إلى الحرب على متن البلقاء فرس سعد، ويحمل على جيش الأعداء حملة تفضي إلى هزيمتهم، ثم يرجع إلى قيده وفاء بعهده. وما يعلم سعد خبره حتى يفك قيده ويطلق سراحه، ويعلن أنه لا ينبغي أن يحبس من كان ذلك بلاءه، وأنه لن يحده إذا شرب. وهنا تتخذ الفتوة العربية صبغة الإسلام، فيقسم أبو محجن لا يذوق الخمر قائلاً إنه كان يشربها حتى لا يقال أنه ترك الخمر مخافة العقوبة، أما الآن فإنه يتركها خشية الله.

شياطين الشعراء:

تذيع محطة الشرق الأدنى للإذاعة العربية في بعض الأوقات جلسات أدبية تتكون من بعض الأدباء يتناقشون في الموضوعات الأدبية المختلفة، ومن طرائف هذه الجلسات ما سمعته في الجلسة الأخيرة التي تألفت من الأساتذة محمد عبد الغني حسن وعادل الغضبان وإسماعيل مظهر، إذ تناقشوا في (شياطين الشعر) فبدأ الأستاذ مظهر بطلب الكلام عن هذه الشياطين، فأجاب الأستاذ عبد الغني بأنه من العجب أن يكون للشعر شيطان عند العرب وإلهة عند اليونان، كما أن من العجب أيضاً أن العرب يعتقدون أن الشيطان إذا مس إنساناً تخبط وخولط في عقله، ويعتقدون مع هذا أن الشيطان يوحي إلى الإنسان بالشعر، فالشيطان عند العرب يوحي ويجنن. . . ولم يكنف العرب بذلك بل جعلوا الشياطين أنفسهم شعراء، ونسبوا إليهم شعراً. وكما سمى اليونان الآلهة بأسماء سمى العرب شياطين الشعر كذلك، فمسحر شيطان الأعشى وشنقناق شيطان بشار، وكان شيطان حسان من بني

ص: 44

الشيصبان وهي قبيلة من الجن. واستظرف الأستاذ قول أبي المنجم الرجاز:

إني وكل شاعر من البشر

شيطانه أنثى وشيطاني ذكر

ثم قال الأستاذ عادل: ذكرت يا أخي عبد الغني أسماء بعض شياطين الشعراء وأن شيطان حسان من بني الشيصبان، فاسمح لي أن أذكر بعض قول حسان في شيطانه، قال:

ولي صاحب من بني الشيصبان

فطوراً أقول وطوراً هوه

وقد كان لشياطين الشعراء مدن وخيل وكلاب، وكانوا في مراتب مختلفة فلا بد أن يكون عليهم أمير، والى هذا يشير القائل:

إني وأن كنت صغير السن

وكان بالعين تبو عني

فإن شيطاني أمير الجن

وربما اختار العرب الشياطين للشعر، لأنهم كانوا أهل حرب وجلاد، ففتشوا على ما اعتقدوا أنه مصدر قوة في ذلك، وأما اليونان كانوا أهل حكمة وفلسفة وفنون، فاستوحوا مصدر الجمال ممثلاً في المرأة، واستعانوا على خلق الجمال بربات الجمال.

ومما أذكره أنا لهذه المناسبة أن أحد النقاد المتقدمين قال: من عجائب أمر حسان أنه كان يقول الشعر في الجاهلية فيجيد جداً ويدعي أن له شيطاناً يقول الشعر على لسانه كعادة الشعراء في ذلك فلما أدرك الإسلام واستبدل بالشيطان الملك تراجع شعره وكاد يرك قوله، ليعلم أن الشيان أصلح للشاعر وأليق به وأذهب في طريقه من الملك.

وقد رأيت لأبي أسحق من أصحاب الجاحظ كلاماً يتصل بهذا الموضوع، قال بعد أن وصف حياة العرب المنقطعة في الفلاة واستيحاشهم بالتفرد: (وإذا استوحش الإنسان مثل له الشيء الصغير في صورة الكبير، وارتاب وتفرق ذهنه وانتقضت أخلاطه فيرى ما لا يرى ويسمع ما لا يسمع، ويتوهم على الشيء الصغير الحقير أنه عظيم جليل، ثم جعلوا ما تصور لهم من ذلك شعراً تناشدوه وأحاديث توارثوها، فازدادوا بذلك إيماناً ونشأ عليه الناشئ، وربى عليه الطفل، فصار أحدهم عندما يتوسط الفيافي، وتشتمل عليه الغيطان في الليالي الحنادس، فعند أول وحشة أو فزعة، وعند صياح بوم أو مجاوبة صدى، تجده وقد رأى كل باطل وتوهم كل زور، وبما كان في الجنس وأصل الطبيعة نفاحاً كذاباً، وصاحب تشنيع وتهويل، فيقول في ذلك من الشعر على حسب هذه الصفة، فعند ذلك يقول رأيت

ص: 45

الغيلان وكلمت السعلاة، ثم يتجاوز ذلك فيقول قتلتها، ثم يزيد فيقول رافقتها ثم يتجاور ذلك إلى أن يقول تزوجتها. . .)

مهرجان الشباب

قلت قبل الآن أن المراقبة العامة للثقافة بوزارة المعارف اعتزمت إقامة مهرجان أدبي وفني للشباب الذين هم دون الخامسة والثلاثين من العمر لتشجيع الأدباء والفنانين منهم على حسن الإنتاج والتبرير فيه.

وقد تقرر أن يكون هذا المهرجان في شهر فبراير سنة 1948 في مناسبة عيد الميلاد الملكي، كما تقرر أن تكون مباريات المهرجان في الموضوعات الأدبية والفنية الآتية:

1 -

الشعر بألوانه المختلفة على ألا تتجاوز القصيدة ثلاثين بيتاً

2 -

أدب القصة القصيرة التي تستمد وحيها من صميم الحياة

3 -

أدب التمثيلية القصيرة الصالحة للمسرح أو الإذاعة

4 -

الأناشيد القومية والحماسية وأغاني الطبيعة المصرية والحصاد والأعياد والمناسبات الدينية والوطنية على اختلاف أنواعها.

5 -

الموسيقى التصويرية والموسيقى الخفيفة والموسيقى الشعبية وغيرها فردية أو جماعية

6 -

نحت التماثيل المتوسطة الحجم والصغيرة من الجير والبرنز والعاج والخشب وغيرها

7 -

الغناء الانفرادي والإجماعي

8 -

تمثيل المسرحيات القصيرة

9 -

الصور الشمسية والمائية والزيتية للمناظر الطبيعية والأشخاص والمعاني بالأخص ما كان منها من واقع الحياة المصرية

10 -

الأشغال اليدوية الدقيقة التي تتجلى فيها المقدرة على التصميم والتنفيذ.

ويشترط في قبول الإنتاج، غير سن صاحبه، أن يكون جيداً ومبتكراً لم يسبق عرضه أو نشره.

وباب الاشتراك في المهرجان مفتوح للجنسين من أفراد الجمهور لطلبة وطالبات الجامعة والمعاهد العليا ومعاهد الفنون والمدارس الثانوية والجامعة الشعبية.

ص: 46

وقد جعل الأسبوع الثالث من شهر يناير سنة 1948 غاية المدى لتقديم الإنتاج، وهو يقدم إلى إدارة خدمة الشباب (7 شارع سليمان باشا بالقاهرة) وسوف تحرص لجان التحكيم على الفراغ من مهمتها في الوقت المناسب حتى يتاح للمغنين والملحنين والفرق التمثيلية الحصول على أحسن إنتاج من الأغاني والأناشيد والمسرحيات الفائزة والاستعداد لإخراجها في المهرجان.

وستخصص جوائز للفائزين في جميع هذه المباريات، ولم يستقر الرأي على تفصيلاتها بعد.

وسيلحق بالمهرجان معرض للكتب الصادرة سنة 1947 يتألف من الكتب التي يوافي المراقبة بها مؤلفوها ودور النشر والمكتبات.

ملاحظات على المهرجان

ولا شك أن المهرجان سيكون عظيم الشأن جليل الأثر، ولهذا أردت مناقشة بعض ما جاء في برنامجه مشاركة في العمل لبلوغ ما يرجى له من النجاح والتوفيق.

1 -

جعلت لجنة المهرجان الغناء والتلحين والتمثيل مرتبطة بما سيفوز بالمباراة الأدبية من الأغاني والأناشيد والمسرحيات، فليس لأحد من المتبارين في هذه الفنون أن يستخدم فنه في تأليف خارجي، وفي هذا تضييق على الفنان وتقييد له، ولنفرض - مثلاً - أن موسيقياً لديه تلحين جيد لنشيد استراح إليه فنه، أيقدم النشيد أولاً للجنة الأدب ويجعل لحنه رهن فوز النشيد في المباراة، فإذا لم يفز ضاع اللحن؟ أم ماذا يصنع؟

2 -

المفهوم من البرنامج أن التقدم في مباراة التمثيل للفرق لا للأفراد، فهل سيكون الحكم بالفوز أو عدمه للفرقة متضامنة أو ينظر إلى كل فرد منها ويحكم على كفايته؟ وأظن أن الطريقة الثانية أقرب إلى التقدير والإنصاف.

3 -

لم تعين مقادير الجوائز بعد، ولكن أستطيع بما فهمت من الجو المالي للمهرجان أن أقول إنها قليلة غير مغرية، ولهذا يخشى ألا يقبل على المهرجان ذوو الإجادة والاعتزاز من الشباب، فقد صرنا إلى حال تحسن فيها التقدير المالي لمختلف الفنون، وبعض الشباب يتقاضون على إنتاجهم الفني من الهيئات الأهلية أجوراً عادية تكاد تساوي الجوائز التي ستخصص في المهرجان، وأنا أعلم غيرة القائمين بالمهرجان على الأدب والفن ورغبتهم

ص: 47

في حسن التقدير والتشجيع، ولكن يقف في سبيلهم من بيدهم أمر الاعتماد المالي، وهؤلاء أقل من أصحابنا بكثير في الغيرة والرغبة السابقتين.

في منظار الخفيف:

رأيتني في حاجة إلى أن أستعير المنظار من الزميل الألمعي الأستاذ محمود الخفيف، لأستطلع به أمر صديق أديب موظف بوزارة المعارف، وهو ممن يطالعون القراء برحيق الآداب، ولكنه - ككثير من أمثاله - يضطر إلى الوظيفة الحكومية يؤدي فيها عمله ليأخذ في مقابله الكفاف، ويستجيب لدواعي فنه فيما فضل من وقته وجهده.

لقيت هذا الصديق أمس فقلت له:

- كيف أنت؟

- حتى لا يرزق!

- لا بأس عليك. . ماذا جرى؟

- أصدر السكرتير المالي بالوزارة أمراً بوقف صرف مرتبي لأن يوم عينت بالحكومة كان تعييني (على بند 11 إعانات) وتبين بعد ذلك أنه إجراء غير سليم. وعلى الرغم من أنني للم أكن قد طلبت تعييني على (بند 11 إعانات) ولم يكن لي يد في هذا الإجراء الذي لم أعرف عنه شيئاً إلا عندما وقف صرف مرتبي أخيراً - على الرغم من ذلك حاق بي ضرر ذلك التصرف؛ وحل بغير جارمه العقاب!

وقابلت المختصين في الوزارة، فقيل أن السكرتير المالي فعل ذلك ليضطر (إدارة المستخدمين) إلى تصحيح الوضع، وقالوا لي (الحق. . حتى لا تصرف بعد ذلك!) وتلفت حولي لأرى كيف (الحق) ثم قصدت (المستخدمين) فقالوا لي هناك أيضاً (الحق. . .) وحرت من (الحق)؟! ودرت دورة مررت فيها بعلي أفندي في (قلم الماهيات) وأحمد أفندي في (قلم الميزانية) ومحفوظ أفندي في (قلم العلاوات) وكان كل منهم يحيلني إلى الآخر وينصحني بأن (الحق. . الخ) ولم أخرج من هذا المطاف بطائل، ولكني عرفت منه أن وزارة المعارف كروية الشكل. . لأني كنت انتهي إلى حيث بدأت!

وسكت الصديق برهة ثم قال: أتدري ما الذي يهمني من كل ذلك؟ إنه كيف أفهم أطفالي الأربعة أحكام (البند 11 إعانات)

ص: 48

وقلت في نفسي: منذ قليل شيعنا الشاعر الرواية أحمد الزين وعرضت مأساته على صفحات (الرسالة) فهل ننتظر حتى يتهاوى الأدباء واحداً إثر واحد ثم نتفجع عليهم! ولم لا نتفجع على الأحياء. . .؟

وهنا رأيت (المنظار) قد سود الدنيا في وجهي، فأبعدته عن عيني وقلت للصديق:

- كيف تضار ومعالي الوزير السنهوري باشا رجل عادل!

- إنه لكذلك، ولكن أين أنا منه؟

(العباس)

ص: 49

‌البريد الأدبي

تعليق على كلمة:

نشر بهذا العنوان الأديب الفاضل إبراهيم الوائلي في الرسالة عدد (751) كلمة أخذ فيها على لفظاً استعملته في مقالي عن ضريح همايون في الهند وذلك أني قلت (وما رسخت قواعد الملك ولا اطأدت أساطين الدولة) فقال الأستاذ:

وهذه الكلمة لا تعترف بها القواعد المصرفية لأن ثلاثيها وطد. وصوغ افتعل منها يكون تطد كوعد وأتعد وهكذا) ونقل هذا ما أخذه صاحب المثل السائر على أبي تمام حين استعمل هذا اللفظ في قوله

بالقاتم الثامن المستخلف اطأدت

قواعد الملك ممتداً لها الطول

وحجتي في استعمال هذا اللفظ مسلم بن الوليد في قوله يمدح نريد بن مزيد الشيباني:

أثبت سوق بني الإسلام فاطأدت

يوم الخليج وقد قامت على زلل

وبيت أبي تمام المذكور. وأن لفظاً يستعمله مسلم وأبو تمام جدير أن يستعمل وأن لم تثبته المعاجم. وأن لم يكن بد من تخريج هذا اللفظ من مادة مثبتة في المعاجم فليس هو من وطد كما زعم ابن الأثير فغلط أبا تمام؛ بل أقرب من هذا أن يكون من ط ود. جاء في القاموس المحيط: وطاد ثبت والطاد الثقيل.

وفي اللسان: الطادي الثابت ونقل عن أبي عبيد أنها مقلوبة عن واطد. وأرى أن قلبها عن طاود جائز كذلك بل أقرب.

وفي اللسان أيضاً: طاد إذا أثبت.

فإن لم يكن بد من رد اطأد إلى مادة في المعاجم، وهذا ليس ضرورياً، فمردها طود مع قلب عين الكلمة همزة.

وبعد فللأستاذ الوائلي الشكر على عنايته باللغة وتدقيقه.

عبد الوهاب عزام

إقرار:

قرأت الكلمة القيمة التي كتبها الأستاذ الكبير العقاد في صدر الرسالة في الأسبوع الفارط،

ص: 50

ولقد أنصف فيها صديقنا الأستاذ أدهم كما أنصفني، فله أصدق الشكر وأطيبه. على أنني إلى جانب هذا الشكر حريص على الاعتذار له من ظهور ثبت المراجع لكتابي (الحان الحان) عاطلاً من أسمه. فلقد اقتصرت في أثناء اشتغالي بكتابي على الرجوع إلى بحثه الممتع في عدد الهلال الخاص بأبي نواس، وغنى عن البيان أني - كشأني في سائر ما أقرأ - أفدت منه كما أفدت من البحوث الأخرى، وقد أتيت على ذكر هذا العدد من الهلال في ثبت المراجع ولم يخطر لي وجوب النص على أصحاب هذه البحوث وجلهم من الأعلام وفي مقدمتهم أستاذنا العقاد. وأنا أقر بأن البحث المذكور يشتمل على التمييز بين أبي نواس وعمر الخيام بأن النواسي كان سكره عكوفاً على لذة حسية، وأن الخيام كان سكره هرباً من مشكلة فلسفية.

بيد أني أحب أن أقرر في الوقت نفسه أن مثل هذا الرأي عن الخيام قرأته كذلك لغير العقاد. ومما يرجع أنه من الآراء الشائعة وروده في بعض التراجم الفرنسية لرباعيات الشاعر الفارسي في مقدمة لها غفل من توقيع صاحبها، وهذا نص العبارة:

' ' ' (1)

(1)

- ' '

وهذه ترجمتها إلى العربية: (فهو (أي الخيام) يستمرئ الوهم الفاسد بأن في هذه اللغات الجسدية مرضاة لنفسه وتسكيناً لعذاب فكره أمام مشكلة الكون).

ومعاذ الله أن يكون مرادي التعريض بأن العقاد ينقل عن غيره، فهو - غير منازع - موفور الغنى بإدراكه وحسه، عظيم الاعتداد بنفسه. وإنما قصدت إلى أن يكون هذا المثال الذي قدمته شاهداً على أن الكاتب مهما أوتي من أصالة الابتكار، فلا يحق له الغلو في القول بأن معانيه كلها أبكار، وأنه وحده صاحب عذرتها. فإن الحقائق قد يهتدي إليها أكثر من باحث. وفي الأدب المقارن مجال وأي مجال لمساق الشواهد وضرب الأمثال. وأحسب أن في هذا ما يخفف بعض الشيء من شدة غيرة الأستاذ العقاد على إبكاره، وأن كان هذا لا يعفيني من استيفاء ثبت مراجعي لولا ما تقدم من العذر.

أما التعليل الذي ذكره الأستاذ فلعله يعدل به إلى غيره إذا علم أني لك أقدم أصول كتابي إلى دار المعارف إلا في هذا العام. ذلك إذا كان قد أنسى ما نشرته عنه من الدراسات

ص: 51

المستفيضة في مختلف العهود، وإذا كان كذلك قد عدم الإيمان بأن الذي أحمله لمن هو في مثل فضله من الود والإكبار يغلب في نفسي على كل اعتبار. وأعود غي الختام فأكرر للأستاذ الرجاء في قبول عذري مع خالص شكري.

عبد الرحمن صدقي

(الرسالة) اتفق أن زارنا صديقنا الأستاذ العقاد ساعة جاءتنا هذه الرسالة فلما قرأها علق عليها بهذه الكلمة:

كل ما يقال في التعقيب على هذا الخطاب أنه رجوع إلى الحق من ناحية واحدة. فإن الذي أوجب إغفال ذكر (العقاد) بهذه الحجة ليوجب إغفال ذكر الآخرين ممن لهم رأي شاركهم فيه غيرهم. فلماذا هذا النسيان من ناحية دون غيرها! هنا محل السؤال وقد نستغني بذكره عن الجواب. وللأديب فضل الاعتراف بالخطأ على كل حال، وأن كان لم يخل من المؤاخذة لإشارته إلى كتاب فرنسي يعلم أنه لم يترجم إلى الإنجليزية ولم يطلع عليه العقاد. فلا شبهة إذن على استقلال العقاد بالرأي في هذا الموضوع.

معارض الجمال أيضاً:

منذ شهرين كتبنا في هذه المجلة كلمة عن معارض الجمال.

ويبدو أن الحديث عن هذه المعارض لن ينتهي ما دمنا نركب رؤوسنا ويجرفنا التيار الفرنسي الخليع.

فقد أقيمت بعد نشري الكلمة السابقة، مسابقة للجمال في الإسكندرية، كان منظموها فرنسيين أيضاً!.

وأخذت بعد ذلك مجلة الإيماج - المصرية في كل شيء إلا في لسانها وأسلوبها - وأعلنت عن مسابقة (فتاة الحائط)، كما قالت الجريدة مجازاً. . ولكن الإنجليز والأمريكان يسمون تلك الفتاة (فتاة الجاذبية)، أو فتاة التعليق - ومعنى هذا أنهم يعلقونها في المخادع. وتعليق تلك الصور في حجرات النوم - وخاصة بين اليافعين واليافعات - ذوو أثر حميد في إذكاء عواطف هؤلاء اليافعين.

استغفر الله بل في إذكاء شعورهم!

ص: 52

ففي أي بلد نحن؟

ولكنا نحمد الله، جل شأنه، فقد لاحظنا معظم الصور المسلسلة التي نشرتها الإيماج - المصرية بكل شيء إلا بلسانها وأسلوبها - أقول أن معظم تلك الصور لا تدل على أن صواحبها مصريات. أو الغالبية الكبرى منهن. . . فليس في المصريات من ترضى أن تكون صاحبة وضع من هذه الأوضاع!

وهناك شيء آخر. . بل كلمة أخيرة أهمس بها في أذنك. . فهل سمعت عني مسابقة جمال بين الرجال؟.

أن لم تكن قد سمعت، فأقرأ الجرائد الصادرة في أواخر شهر أغسطس، فإن فيها إعلاناً عن مسابقة لاختيار أجمل رجل.

أتدري ممن أرادوا أن يكون هذا الرجل بين الرجال؟

أرادوه من بين المصارعين المصريين!

قد أكون مخطئاً في قراءة الإعلان، ولكن أقسم لك أن هذا هو عين ما قيل. .

وهل تدري - أخيراً - من هو منظم تلك الحفلة؟

إنه والله أحد الفرنسيين - أيضاً - ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. . .

كتبنا هذا الكلام في شهر سبتمبر الماضي، وقد ظهر وباء الكوليرا وقتئذ فانصرفنا عن إرسال هذا الكلام للنشر، وقلنا مكافحة وباء طارئ أجدى وأنفع وأنجع من مكافحة وباء قديم. .

أما وقد اندثر الوباء الجديد، أو كاد، فقد عاد الوباء القديم للظهور.

هذه إعلانات جديدة تظهر في الصحف المسلمة السيارة تعلن عن مسابقات لأجمل الوجوه وأحلى السيقان. . . وتعقد ثانية في أحد (الفنادق المعروفة). وقال المشرفون عليها إن المتسابقات سيسرون وراء ستار حيث لا تظهر إلا سيقانهن فحسب. .

ما شاء الله! ستظهر السيقان والأفخاذ وربما ظهر شيء أبعد من هذا، ولكن الوجوه لا تظهر. . . وقد ظهرت فعلاً في الجرائد، فرأينا فيها الفتنة والإغراء.

إن الشهوات الدنيا لا تتحرك عن طريق الوجوه الجميلة، فالوجه الجميل لا يثير الشهوة، بل تدعو إلى التأمل والتسبيح.

ص: 53

فأما السيقان، والنهود، وغيرها، فهي تجارة الحرب وما بعد الحرب. .

ولم أعلم من كان المشرف على هذه الحفلة أيضاً، وسألت فقيل لي أنها، والله أعلم، (جريدة فرنسية) تصدر بالإسكندرية. وكانت أسماء المتباريات فرنسية أو متفرنسة.

ولكن الذي أعلمه حقاً هو أن ذلك الفندق، بل أمثاله جميعاً، ليست بيوتاً حراماً، ولا تؤجر حجراتها إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة!

لقد ظهر الوباء من قبل، ولكن حجته خفت بظهور وباء أخف منه هو وباء الكوليرا. .

وخفت حدة الكوليرا، وعاد الوباء القديم، الوباء الخطير، يطل برأسه من جديد.

أليس عندنا طبيب نطاسي بارع يستأصل هذه الأوبئة والأدواء؟

أليس عندنا جريء يقول لهؤلاء الناس كلمة رادعة؟ أم أن كلامنا لا يصل إلى أسماع هؤلاء الذين يعملون على انحلال الشعب المصري؟

وإذا كانت الأغلبية المتبارية من هؤلاء النسوة فرنسيات أأجنبيات، فهذا لا يغير أننا شعب مصري شرقي محافظ، وسنظل محافظين، أقباطاً ومسلمين.

فبلدنا ليس إباحياً، ولسنا نبقل الإباحية الفرنسية. . .

ومرة أخرى، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. . .

حسين الغنام

الفن القصصي في القرآن:

لما نشر تقرير الأستاذ أحمد أمين بك عن أطروحة الفن القصصي في القرآن حاول صاحبها أن يتنصل مما نقل فيه، كما أن الأستاذ الخولي المشرف على الرسالة والذي صرح بتأييده لصاحبها في كل ما قاله، طعن في تقريري الأستاذين أحمد أمين والشايب وقال أن ما نقلاه عن الأطروحة ليس فيها. وقد ألفت الجامعة لجنة للتحقيق في ذلك من الأساتذة الشيخ عبد الوهاب خلاف والدكتور زكي حسن والدكتور الشرقاوي، وقدمت تقريراً جاء فيه:

اتفق الأستاذان أحمد أمين بك وأحمد الشايب في القول بأن أساس هذه الرسالة أن القصص في القرآن عمل فني خاضع لما يخضع له الفن من خلق وابتكار من غير التزام لصدق

ص: 54

التاريخ والواقع.

واللجنة تقرر أن هذا صريح وواضح في جملة مواضع من الرسالة، وقد أيده الكاتب بما استشهد به من الأمثلة؛ ففي ص26 سطر 10 قرر أن القرآن (أنطق اليهود بما لم ينطقوا به) وذلك في قوله تعالى في سورة النساء (وقولهم إنا قتلنا المسيح الخ) وفي ص26 قرر كاتب الرسالة عن قوله تعالى في سورة المائدة (وإذ قال الله يا عيسى بن مريم الخ). (إن هذا القول وهذا الحوار تصوير لموقف لم يحدث بعد، بل لعله لن يحدث) وفي ص89 قرر الكاتب (إن قصة موسى في الكهف لم تعتمد على أصل من واقع الحياة).

وتقرر اللجنة أن هذا مخالفة ظاهرة لقول الله تعالى (نحن نقص عليك نبأهم بالحق) ولقوله سبحانه (لقد كان في قصصهم عبرة لأولى الألباب ما كان حديثاً بنتري.

ص: 55

‌القصص

السائح والتمثال

بقلم ألدوبالاتسزكي

للأستاذ محمد لطفي جمعة

(يعد ألدو بالايسزكي من أكبر كتاب بولونيا فهو إيطالي

الأصل وكانت له جولة وصولة في أدب بلاده وقد رأس

تحرير جريدة (مارزوكو) وهي أشهر جريدة للنقد الأدبي في

إيطاليا وكانت تصدر في فيرنزه المعروفة عنها غير الطليان

باسم فلورنس وهي مهد الفنون والآداب وموطن دانتي البحري

وسافورنارولا وماكافيلي وبوكاشيو وبيكال انجلو وغيرهم.

وقد نحا الأستاذ ألدو بالاتسزكي القصصي نحواً جديداً وهو معالجة الحقيقة الإنسانية عن طريق الخفاء والغموض. وله كلمات مأثورة في مقدمة قصصه القصيرة وهي (أن الغموض يجلو كثيراً) وسيرى القارئ العربي صحة هذا الرأي).

- 1 -

. . . وكان عائداً من بلدة في الصين حيث يعبدون إلهاً بادناً، راقداً في المعبد ويده تحت ذقنه، ناظراً إلى بطنه وكأنها وعاء من اللحم الذي ملئ علماً! معبود شبعان ريان متزن وأن لم يتذوق ثمر الخشخاش ولم ينشق أزهاره لا يعبأ بجاره الذي حطمه ذووه وجرحوا جبينه بأشواك شجرة سقاها بعرقه ودمه وتعهدها، فلما كبرت وأفرعت وأيعنت صنعوا له من أخشابها ما صنعوا، علموها الجمود فكفرت بنعمة الذي زرعها وسقاها. ولكن الجريح كان مشغولاً عن دمه الهراق بالتفكير في العفو عنهم. ولا يسمع صوت سلفة الصالح الذي ساق جماعة بالعصى وشق بطون العصاة منهم بالمدى: العصاة والسكين وألواج الحجر الناطقة،

ص: 56

كان يزمجر ويهرق ويرعد ويدعو على الذين آذوا حفيده الأقصى، ويدهش لمألته وليونته واستسلامه وينعى عليه تسامحه، أما الزمن فقد تغير وسار على عجل. والعصى التي كانت تسوق الجماعة، أمست في أيديهم يسوقون بها الفتى الغريب ولا يبالون!! أليس يلقاهم بالكلام في السهل والجبل ويحاورهم بالكلام في الحقل والدار، وعندما يحمي وطيس المعركة يجرد عليهم سيفه ويصوب نحوهم سهامه ويشرع في وجوههم رمحه، ويخفي وجهه الهادئ وراء درعه، ولكن السيف والسهام والرمح والمجن كلها. . . كلام. . . كلام. . . كلام عذب ومر وحار وحار. ولكنه كلام لا عهد لهم به. ولكنه كلام سيوف وخناجر ومدافع وقنابل ودبابات ونسافات (ماشين شلز) من نوع متمايز

كان السائح عائداً من بلدة في الصين، ولكنها لم تكن وطنه بل كان وطنه وراء بحار الغرب والشمال. فهو هارب من الحضارة باحث عن الوحدة والعزلة الدائمة عن أهل الغرب والشمال. وقد ظن أن ما يسعى إليه قد يكون في الشرق وراء الجبال الشاهقة والبحار العميقة والصحاري المترامية الأطراف.

طوحت به الأيام إلى هيكل نيبوس إله النور في مدينة طاس كند، وراء جبال هيدار، وهي الشامخة المعتمة بالجليد، طوال العام، وأن جليدها لا يذوب ولا يجري ماء على سفوحها.

ولكنه يبقى أبداً مكتلاً، ملتفاً، ناصع البياض كأنه شعر جسم على رأس شيخ هم، اشتعل شيباً، وزاد على ممر الأعوام وضوحاً وشمماً. ولم يعلم الكهنة كيف وصل هذا الغريب الأشعث إلى باب الهيكل فقد وجدوه مرتمياً على العتبات متشبثاً بالأحجار، لم يسمعوا له صوتاً وما شهدوا له حركة، فلما دنوا منه تبينوه، فوجدوه خائر القوى، منقطع الأنفاس، مغمض العينين، شاحب الوجه مكشوف البدن، وفي معظم أجزائه، ولمح أحد الكهنة أن قدميه تقطران دماً. وكانت له لحية سوداء بلون البقية من شعره فهو بلا ريب شاب لم يتخط الثلاثين من عمره، وأن كان النصيب والهم والأمل الخائب قد خطت على جبينه سطوراً عميقة كأنها محفورة بقلم من فولاذ في صفحة من المرمر الأصفر. وكانت عيناه حادتين، لم تتغلب الآلام على ما يشع منهما من دلائل الحيوية النابضة. وقد تمتد نظراته إلى ما وراء الأفق، كأنه يرى شيئا ًبعيداً انفرد هو وحده بشهوده فهو يراه يقيناً ولا يريد أن يشرك أحداً في رؤيته، ولعله يخشى أن لا يصدقه أحد أو يشك في صدقه هل هي رؤية أم

ص: 57

رؤيا هل هي حلم أم حقيقة، سراب أم ماء؟.

فلم يملك الكهنة أن يغلقوا الباب ويتركوا هذا الميت الحي وراءهم نهباً للذئب والدب وليس في وسعهم أن يدخلوه بدون تطهير من أدران الدنيا فهو غريب منبوذ ولا يجوز لأحدهم أن يمسه ولا بجولة أن يمس أحداً. فهنا تفريق بين الطهر والدنس والنقاء والرجس. وهنا نظافة الجسم تحتمها طهارة النفس. لقد هلك كثيرة من القاصدين إليهم قبل أن يصلوا، وضل سالكون عدة دون أن تدنوا أقدامهم من العتبات. . . ولكن كل من يلمس العتبة لا يرد، ولا يطرد لأنه وصل. فإن كان على قيد الحياة فلا بد من الإذن بقبوله. فما ذنب هذا حتى يحرم؟ ألم يقرءوا في وصية نيبوس (بلوغ الباب قرين الدخول) ولكنهم أغلقوا الباب ليعودوا إليه بعد لحظة بإذن الدخول. فينقلوه فلما فتحوا الباب والتمسوه لم يجدوه في حدود الجدران فأخفقوا في العثور به حتى الصباح

- 2 -

وقال الأول: أن أثوابه به أطمار بالية فهو أكثر رضاً للافتراس

والثاني: لقد نحل خداه وتجعدت يداه فمن يكون هذا المسكين الذي قادته قدماه إلينا أهارب لاجئ أم طالب حكمة أم طالب قوت؟. . . وقال ثالث: ليس طالب قوت ولا لاجئ. ولكنه ينشد الهدوء واطمئنان النفس، أنه بالشك فار من دمامة الحياة التي قضى نضارة عمره في أحضانها. لقد تكشفت له عن حقيقتها ففر بالبقية الباقية من نفسه. ولكنهم كانوا يبحثون عنه قبل البحث عن سبب قدومه إليهم لأن نجاته من الهلاك أفضل من الكشف عن سر قدومه.

وقال أكبر سناً: صدقوني يا أخوتي أنكم تجيبون عن سؤالات يعجز صاحب الشأن نفسه عن الجواب عليها. فإن لمثل هذا الرجل ناحية غير موجهة إلى تحقيق أغراض بعينها.

وأن كانت له أغراض فقد نسيها أثناء الجهود التي بذلها حين كان يحاول بلوغها. ولا بد له من هذا النسيان وسر ذلك راجع إلى أن القوى التي ينفقها هي من فيض ما أعده له الإله لتحقيق أغراضه فيه - وهو الهدف الأعلى.

فهمهم أحد الكهنة وكان قصير القامة نحيل البدن أصفر الوجه وقال: الهدف الأعلى! ما فتئت أذكر الهدف الأعلى وأسمع عنه. .

فنظر إليه الذي كان يتكلم وقال:

ص: 58

الهدف الأعلى الذي يرمي إليه الإله هو نفس الغرض الذي كانت ترمي إليه الآلهة في كل العصور - رفع النفس إلى مستواها الأعلى وتوسيع آفاق مسراتها - ولكننا نضيع وقتاً نفيساً في الجدل وربما يكون أحد الضواري قد أنشب أظفاره في ضيفكم ولعل وحشاً يقضاً كان يتبع خطواته، ويخشى أن يهاجمه وهو يوشك أن يلجأ إلى الهيكل، فلما أن فتح الباب توارى الوحش وقد ضاع أمله في الانقضاض على فريسته، ولكن لم يرض من الغنيمة بالإياب السريع. فلما أغلق الباب بعد فتحه ظن الوحش أنه قد خلا له الجو وآن أوان الافتراس. ولكن الكهنة لم يلبثوا في حيرتهم حتى سمعوا صوتاً داخل المحراب يستغيث بلسان غير لسانهم، ويبتهل ويتضرع بقلب مقروح وكبد حري. فإذا هو الغريب نفسه. وقد عرى من ثيابه فقد أشفق عليه الإله فأمر بحمله إلى حرمه بلا واسطة ثم غمره في حوض طهارته وألقى بثيابه الممزقة وراء جدار الهيكل ليغمرها الجليد فتخفى إلى الأبد عن الأعين. كان الغريب يصلي ويستغيث بعنف، بصوت متهدج وكلام متقطع، وكانت لحيته الكثة السوداء تضطرب، وأسنانه تصطك وقد تبدي ذاهلاً عمن حوله من الكهنة، الذين تجمعوا ليحدجوه بعيونهم بعد أن رأوا الإله يخرق له العادة ويقبله في المحراب.

ولما فرغ من صلاته جلس وتكلم لهم بلغي البلاد التي جاب آفاقها وقد ألتقفها جميعاً من أفواه المتكلمين وهو في سياحته، فقدموا إليه طعاماً من الشعير والزيت والفاكهة فبم يتذوق منها إلا قليلاً وكان يدير عينيه في قلبه فيبدو عليه السرور أو الألم كما يبدو على وجه من يشاهد أنه في الماضي القريب السحيق. ولم يكن في الجمع بين هاتين الصفتين تناقض فإن ماضيه كان حافلاً بالكفاح والجري وراء الحقيقة: فهو غني بالحوادث ولذا رآه قريباً وكذلك كان ماضيه محفوظاً بعذاب النفس وألمها فقد اكتوى بنار الحب بقدر ما تعلق بأهداب المثل الأعلى. وتلك التي عذبته لم تكن جديرة بحبه فهجرها وهو يعطف عليها وتخلى عنها وهو مشوق إليها. هذا طرف من الحوادث الواقعة التي كان يتكلم عنها فيصغون إليه، وهو يسح ويهضب بذكرياته، كان غنياً وكان شاعراً في بابلوس عاصمة الدنيا المتحضرة، وكان الناس متلهفين على آثاره والنساء متتبعات له متراميات على جسده يحاولن أن ينهشنه بأفواههن المحمرة، أو ينشبن فيه أظفارهن المحلاة بالخضاب المتعدد الألوان. وكان يرفه بشعره وحكمته عن الناس وينعش قلوبهم، ويغذي نفوسهم بإبداع فكره، ويفيض على حياتهم

ص: 59

البشر والنور.

ولكنه لم يتزوج ولم يجن على أحد فقد وهبته العناية بصيرة بعيدة المرمى فأنف أن تتصل حياته بنسل، ولمح النفاق والجحود والنميمة ونكران الجميل والسخرية من خلال البسمات والضحكات والبشاشة الكاذبة والكلمات المعسولة والتبذل في ذكر الحب والإخلاص والوفاء، فتزعزعت عقيدته في دينه لأنه أمسى قوة تواطأت مع السلطان المطلق ومن حوله من السادات وامتنع عليها أن تسلخ الأيمان عن هذه المظالم.

فأنكرها وأنكر الأيمان ثم تزعزع اعتقاده في الإنسانية والمجتمع بعنف لم يعهده وأحس في نفسه بنصل قاطع لا شفاء لجرحه وهو الاحتقار لكل ما يحيط به. لقد أحس الهارب بالاحتقار نحو المال والحب والمرأة التي أحبها حيناً وأحبته طويلاً ونحو القاهرة التي خنقت العدل وأحيت الظلم والمنافقين والأوغاد والضعفاء. وقد حاولت تلك التي أحبته (أينوبيا) أن تستل منه شعور الاحتقار نحو الدنيا والحكم عليها بالصغار، فلم تستطع، لأن أقوالها وأفعالها كانت تزيد إيمانه في صحة حكمه عليها وعليهم. وبعد أن كان يؤمن بنفسه أمسى لا يؤمن بشيء فأخذ يبكي أحلامه وأمانيه العاثرة وهو يرى بعيني رأسه رجال المادة والقوة والملذات الجشعة متربصين على ركام الإنسانية ولا هم أذلها الحرص رجال على أفواهها الجوع ورعي قلوبها الاحتياج والشقاء وتكشفت له الحياة عن بعض حقيقتها فها هو الإنسان يستمتع بحواسه ولديه من الذهب والورق ما يستمد منه العظمة الكاذبة بقدر ما يملك منها، حتى صار ميزان أقدار الرجال بما يملكون من النضار، وبلغ بالفقراء يأس آخذ بالكليتين فآمنوا بالعذاب والأوهام قال الشريد للكهنة (فأقصرت يائساً وصرفت نفسي آسفاً وعولت على الفرار بالبقية الباقية من حشاشتي ووجداني واستكبرت أن أصبر على معاشرة الناس بعد الذي تحققته وبعد أن صرت أبغض المجالس والنوادي ولا أرتاح إلى أحاديثهم، ولا أغتبط بالأصدقاء وصرت أجزع من الذين ادعوا محبتي ولا أرى لنفسي قدرة على احتمالهم) فقطع أحد الكهنة حديثه في رفق وقال له (وتركت وراءك مالك ومكانتك في بابلوس عاصمة البلد المتحضر وقضيت عشر سنين في السياحة باحثاً عن الحقيقة. وخرجت من وطنك لتقلب الدنيا وتجعلها كما يجب أن تكون؟. . أليست هذه غايتك وأمنيتك وحكمك! فسكت السائح المجهول كأنه في سكرة طويلة ونشوة مستمرة وقال كاهن

ص: 60

آخر: لقد كان وصولك إلينا في هيكل نيبوس إله النور إرهاصاً فإن الذين يضلون الطريق دون بلوغ كعبة الآلة كثيرون. ووصولك إلى المحراب بدون وسيط علامة إكرام. فحملق السائح في وجوههم الهادئة لأنه لم يعلم أنه جرد من الهلاهيل التي كانت حول بدنه ودخل في حمى الإله بدون وسيط، وأطال النظر في الوجوه المستنيرة المطمئنة وأخذ ذهنه يكر إلى الوراء فجأة بغير إنذار وتنبه إلى عرائه فأطرق وأخذ يبكي حتى بلل لحيته.

(البقية في العدد القادم)

محمد لطفي جمعة

ص: 61