المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 755 - بتاريخ: 22 - 12 - 1947 - مجلة الرسالة - جـ ٧٥٥

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 755

- بتاريخ: 22 - 12 - 1947

ص: -1

‌عالم مشتبك

للأستاذ عباس محمود العقاد

تستعد الولايات المتحدة لمعركة الانتخابات التي تسفر عن انتخاب رئيس الجمهورية.

مسالة داخلية بين الأحزاب السياسية في الولايات المتحدة، ولو جرت الأمور في حدود ظواهرها لما كان في هذه المسالة ما يهتم به العالم إلا من قبيل الاستطلاع أو التشاغل في أوقات الفراغ بأخبار البلاد الخارجية.

وهكذا كان شان هذه المسالة في أوائل القرن العشرين، أو قبيل الحرب العالمية الماضية.

ولكنها في هذه المرة تختلف كل الاختلاف من شتى الوجوه

فقد اتفق أن الولايات المتحدة جمعت فيها عشرات الألوف من الصهيونيين الذين يشتركون في إعطاء الأصوات للرئيس.

واتفق أن هؤلاء الصهيونيين يحتكرون هناك شركات الإعلان، وان الصحف هناك لا تعيش بغير أجور الإعلانات، لأنها تصدر في عشرات الصفحات، وقد تصدر أحياناً في مئات الصفحات التي تزدان بالصور والرسوم في أيام المواسم والأعياد. فعليها من التكاليف أضعاف ما تدره على أصحابها من الأرباح، ولكنها تنهض بتكاليفها وتضمن أرباحها كلما ازداد نصيبها من الإعلانات المأجورة، أو ازدادت حاجتها إلى شركات الصهيونيين.

اتفق هذا وذاك واتفق معها أن الإنجليز ضاقوا ذرعا بفتنة الإرهابيين في فلسطين في فلسطين، وانهم قصدوا وأذاعوا انهم يقصدون التنحي عن وصايتهم على الأرض المقدسة.

فسنحت الفرصة للصهيونيين في الولايات المتحدة، ونقلوا معركة فلسطين إلى ميدان الانتخاب في الولايات المتحدة، فظفروا بما أردوه هناك، وخيل إليهم انهم قد ظفروا بما أرادوه في ارض الميعاد، ولك أن تقول أن الولايات المتحدة هي التي ظفرت بتسخيرهم عن رضي منهم، على رجاء النجاح في السيطرة على منافذ الشرق القريب.

كذلك وصل إلى الشرق اثر النزاع بين الأحزاب السياسية في دولة دستورية.

وقبل بضع عشرة سنة سقطت جميع الأحزاب السياسية في دولة أوربية، وقامت الدكتاتورية في تلك الدولة، وهي ألمانيا النازية.

فصبت نقمها على اليهود لأنها اتهمتهم بالتواطؤ على هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية

ص: 1

الماضية.

وراحت إيطاليا الفاشية تحذوا حذوها في بلادها، وتشبهت بها دول أخرى في أوروبا الوسطى، وتدفق اليهود من كل قطر من تلك الأقطار إلى ارض الميعاد، أو ارض الوعيد!

كانت قضية الهجرة إلى فلسطين قضية معلقة، أو مشكلة راكدة لا تفلح المساعي الصهيونية في تحريكها.

فلما انتشر الحكم الدكتاتوري في أوروبا تحركت المشكلة بعد ركود، وطغي على فلسطين مدة البحر بعد جزره، وتكسرت أمامه السدود أو فتحت له أبوابها وهي طائعة، لأن أبوابها كانت بأيدي الإنجليز، وكان الإنجليز في حاجة إلى جماعة صهيون، فقابلوهم على أبواب السدود بالإغضاء، وازدادوا على الإغضاء أحياناً فقابلوهم بالتشجيع والترحيب.

ثم دالت دولة النازيين والفاشيين.

وكان خليقا بالمد أن ينحسر بعد أمان اليهود من بطش الصليب المعقوف، وباس (الحزمة) المضمونة.

ولكن اليهود لا يعلمون في غير أسواق.

وليس في بلاد المهزومين أسواق تصلح للمساومة والاستغلال.

ولو راحت الأسواق في أوربة لكدست الصهيونية في فلسطين، وليرتد عنها كل صهيوني غيور ولو قيدوه في مكانه بالسلاسل والأغلال.

كساد أوربة لم يكن نكبة على أهلها وكفى.

ولكنه كان نكبة على ارض عربية لا ذنب لها في ذلك الكساد، وكان نكبة على الشرق القريب كله من وراء تلك الأرض العربية، ويوشك أن يكون في الغد - أبعده الله - نكبة على العالم بشرقه وغربه، ومن أدناه إلى أقصاه.

عالم متشابك الأطراف.

عالم له جهاز عصبي واحد، وقد كان منذ عهد قريب خمسين أو ستين بنية حية: كل بنية لها جهاز لا يضطرب في مكانه إلا لما يعتريه.

هذه هي العبرة الكبرى من قضية فلسطين، ومن كل قضية تشبهها في هذا الزمان.

فأيا كان نظام الحكم في قارة دانية أو قارة قاصية، وايا كان حال الرواج والكساد في هذا

ص: 2

القطر وذاك، فالجهاز العصبي واحد، والطعنه هنا يدمى لها الجسم هناك، وقد يكون الطاعن في المغرب هو الطعين في المشرق إذا دارت الدورة في مجراها، وذهبت الأحداث مع جرائرها، وعمت الطامة الكبرى وهي لا تخص أحداً في هذا العالم المتشابك الأطراف.

ولقد كان عالم كهذا في اشد الحاجة إلى السياسة العالمية العادلة، لان الظلم فيه حيث كان بلاء مطبق على كل وطن، وكل إنسان.

لكنه وجد السياسة العالمية، ولم يجد العدل فيها.

وجدها ناقصة مختلة، وجدها منحرفة معتسفة، وجدها خيبة أمل وقد أرادها مناط رجاء ومعقد يقين.

وهنا الحيرة كل الحيرة في وزن هذا الرجاء.

فأما النكول عن (السياسة العالمية) فليس في مقدور أحد يعيش اليوم في هذا العالم، ويربط الحس والحركة بأعصاب ذلك الجهاز المتشعب الدقيق.

وأما الرضا بهذه السياسة العالمية فليس في مقدور المصاب بها ولا في طاقة الخاسرين فيها، ونحن الشرقيين من أولئك الخاسرين.

لكننا نضع السؤال الذي تنقطع به الحيرة حين نقول: هذه هيئات عالمية تتعسف الطريق، فما الحكم عليها جملة واحدة؟ هل عدمها خير من وجودها أو وجودها خير من عدمها.

وهنا تنقطع الحيرة عند كل موازنة بين النتيجتين المتقابلتين.

فوجود هذه الهيئات العالمية خير من عدمها على كل حال، لان أميركا، التي تعمل بالأساطيل والجيوش والأموال، شر من أميركا التي تعمل بالمناورات واصطياد الأصوات، والتزام الظاهر في جميع هذه المناورات.

أو قل أن المجتمع الذي تقضى محاكمه أحياناً على البريء، وتفرج عن المعتدي، خير من المجتمع الذي لا محكمة فيه.

وأجدر الأوقات أن نذكر فيه هذه الحقيقة هو الوقت الذي تملكنا فيه حمية الغضب فتسخط على الدنيا وما فيها، وننسى الشر البعيد بما اشتمل علينا من شر قريب.

إن القوى في المجتمع يستطيع أن يغلب الضعيف عنوة ويستطيع أن يغلبه بما يملكه من وسائل التأجير والتسخير.

ص: 3

يستطيع أن يضع يده على حقه علانية، ويستطيع أن يضع حقه عليه ببذل المال للمحامي القدير، وبذل رشوة للقاضي المريب، ودفع الحارس عن درك الحراسة، وسوق الشهود إلى ساحة القضاء.

لكننا مع هذا كله لا نقول أن السطو علانية كالسطو بالحيلة والمحاولة، ونستطيع أن نقول أن عدم المحاكم ووجودها سواء، فضلا عن ذهابنا مع الغضب قائلين: أن عدمها خير من وجودها في كل حال.

وتلك هي العبرة التي ينبغي أن نذكرها غاضبين، لأننا لن ننساها ونحن راضون.

فلنكن عند غيرتنا القوية على حقوقنا، ولنكن كذلك عند فهمنا الصحيح لما حولنا، وكل ما حولنا يقول لنا إننا في عالم متشابك الأطراف، متعاقد الأعصاب، لا انفراد ولا انعزال.

ولنقل في الجماعات العالمية ما نشاء، إلا أن عدمها ووجودها سواء.

عباس محمود العقاد

ص: 4

‌التلمود خدع اليهود

للأستاذ نقولا حداد

التلمود الذي فسر فيه اليهود التوراة على هواهم خدع اليهود لأنه زرع في عقولهم أن ألههم الذي سموه (يهوه رب الجنود) هو أقوى من سائر الآلهة وانه اختصهم دون سائر الأمم وأقنعهم بأنهم شعبة الخاص، وما لبث أن أفهمهم أن يهوه هو الله رب السماوات والأرض. ولكن الله تعالى لا يقيم وزنا لهذه الوظيفة التي وظفه اليهود فيها. بل هو جل جلاله يعتبر جميع بني آدم على الإطلاق عباده ويرعاهم يعين عنايته على السواء. ولكن ماذا تفعل بعقلية هؤلاء اليهود الذين يريدون أن يحتكروا الله - استغفر الله - كما يحتكرون كثيرا من خيرات الأرض ونتاج الأمم!

وكان في قديم الزمان لعهد موسى عليه السلام آلهة أخرى للأمم الأخرى التي كانت أمة إسرائيل الهاربة من مصر تغزوها وتغتصب أملاكها وبيوتها ومواشيها وسائر أشيائها.

وكان عندهم أن يهوه أقوى من جميع الإلهات التي يعبدها الكنعانيون والحثيون والجرزيون والفلسطينيون والصيدونيون إلى غير هذه القبائل التي كانت تقطن البلاد المسماة حديثا فلسطين معتمدين على قوة يهوه رب الجنود كما كانوا يلقبونه باعتبار انهم شعبة الخاص. فمنذ جاء الإسرائيليون إلى أرض كنعان كانت عقيدتهم أن جميع الأمم الأخرى ليست من عباد الله بل هي والسوائم سواء. ولهذا كان يهوه يتيح لهم أن يغزو تلك الأمم ويسلبوها أشياءها.

ولذلك كانوا طوال وجودهم في ارض كنعان التي كانوا يسمونها ارض الميعاد بدعوى أن الله وعدهم بها كانوا في حروب متوالية مع الأمم إلى أن غزاهم بختنصر ثلاث مرات وفي الثالثة سباهم إلى بابل مملكته. وبعد سبي سبعين سنة أطلق سراحهم كورش ملك فارس الذب فتح بابل، فعادوا إلى بلادهم. وما مكثوا طويلا حتى جعلت تنازعهم دول الشرق والغرب والشمال والجنوب. فما مكثوا في بعض البقعة المسماة الآن فلسطين اكثر من 320 سنة. ومع ذلك بقوا من ذلك العهد إلى اليوم يعتقدون انهم شعب الله الخاص وان ألههم يهوه احل لهم سلب الأمم الأخرى بأية وسائل حتى بالحرب من غير مبرر، وانه ينصره على أعدائهم. ولكن التاريخ اثبت لهم أن يهوههم لم يكن قويا كما كانوا يدعون انه ينصرهم

ص: 5

لأنهم كانوا دائما يغلبون على أمرهم؛ وأخيرا تشتتوا في بلاد الله.

ولكنهم لا يزالون يتمسكون بعقيدة انهم شعب الله الخاص وانه احل لهم (معاذ الله) أن يسلبوا أموال الأمم بأية الوسائل الشريفة وغير الشريفة؛ حتى أن لم يستطيعوا أن يبتزوها بحرب ابتزوها بالحيل والأحابيل الاقتصادية والأحقية. وعلى هذه العقيدة بنوا دستورهم الاجتماعي وعلى حسب هذه العقيدة سلكوا.

واستفحلت العقيدة في قلوبهم حتى قام شيوخ مهم ووضعوا لهم دستورا غريبا عجيبا يسمى بروتوكولا وهو يتيح لهم أن يبذلوا كل جهد في إفساد الأمم الأخرى وقتل الفضيلة فيها تمهيدا لاستغلالها، وعليهم أن يبذلوا حتى الشرف لهذه الغاية. وحصل القول أن عليهم أن يبذلوا كل عزيز وغال من أخلاقهم في سبيل جمع المال، وان يتوسلوا بأية الوسائل للقبض على زمام السلطة تذرعا إلى الكال. والمال هو قوتهم الوحيدة. وفيما سواه هم نساج.

فإذا اقتضت الوسيلة أن يكون الواحد منهم مسلما فليكن إلى حين، كما فعل بعضهم في سلانيك. وإذا اقتضى الواحد منهم أن يكون اشتراكيا فليكن. مع أن الاشتراكية تناقض مبادئهم لأنهم رأسماليون. وإذا اقتضى الأمر أن يكون شيوعيا فلا باس أن يكون. كل الدواب تؤدي هيكل المال.

فكانت النتيجة هذا السلوك أمرين خطيرين:

أولا أنهم امتلكوا القسم العظيم من ثروات العالم لا بالطرق القانونية الشريفة، وإنما بالاحتيال على النظام والقانون واختراع وسائل الابتزاز المختلفة كالنصيب وتقسيط أثمان السندات ذات النصيب والمقامرة والمراهنة والتامين إلى غير ذلك من اختراعاتهم التي يحسبها لهم بعض المغفلين ذكاء.

وعلى الرغم من تكلفهم السلوك المستقيم في المعاملات التجارية وغيرها تنفضح فيهم روح الجشع والطمع والقسوة في المعاملات إلى أن صارت هذه الروح غريزة فيهم ولم يعودوا يشعرون في أنفسهم أن أخلاقهم غير إنسانية بل يستغربون أن ينسب إليهم فقد الإنسانية، وهم يظنون في أنفسهم انهم إنسانيون كسائر الناس، ولسوء حظهم لا يراهم الناس هكذا.

هذه التربية التي صبغهم بها التلمود والبرتوكول أفضت إلى الخطر الثاني، وهو أن حقد عليهم الناس من كل قبيلة وطائفة وجنسية. وهم يستغربون هذا الحقد من الناس أينما كانوا

ص: 6

وأينما حلوا يتساءلون: لماذا يحقد عليهم الناس هكذا في كل مصر وعصر؟ لماذا اضطهدهم الروس في القرون الماضية؟ لماذا قسا عليهم هتلر فطردهم من ألمانيا وصادر أملاكهم؟ يستغربون هذا لأنهم يظنون انهم بشر وان أخلاقهم وقلوبهم بشر. ولسوء حظهم انهم ليسوا كذلك لان في عقولهم عقيدة انهم شعب الله الخاص وحيوات الأمم الأخرى حلال لهم. أليس التلمود قد خدعهم وضلهم فأضرهم؟

وأخيراً كانوا يضطهدون في أوروبا وكانوا يستغيثون بأهل الرحمة من نصارى أوروبا وأميركا، لأنهم يعلمون أن هؤلاء الأقوام قد تربوا تربية إنسانية بمقتضى تعاليم مسيحهم فيمكنهم أن يستغلوا فيهم هذه الإنسانية المسيحية فجعلوا يستنزفون أموالهم باسم أسعف المنكوبين اليهود في أوروبا فجمع لهم المسيحيون في أميركا 170 مليون دولار. وسئل مرجنتو العضو في جمعية جمع الإعانات أين تذهب هذه الدولارات؟ فقال 40 بالمائة منها تذهب إلى فلسطين. فغضب رئيس الجمعية وقال أنا مستعف من الرئاسة لأني كنت أظن أن هذه الأموال تذهب إلى المشردين من اليهود في أوروبا لا إلى فلسطين حيث يقيم الصهيونيون دولة على البارود.

ولولا وعد بلفور لعطف عليهم المسلمون أيضاً لان تعاليم دينهم لا تختلف عن تعاليم المسيح الإنسانية من حيث العطف والرفق والرحمة؛ ولطالما عطف المسلمون عليهم في التاريخ الماضي. ألم يعطف المسلمون عليهم بعد كارثة الأندلس فأووهم في كبريات عواصمهم.

ومن أعاجيب فلسفة اليهود انهم يعللون بغض الناس لهم بأنهم أذكياء فيحسدهم الناس على ذكائهم. وكانوا يذيعون هذه الفكرة حتى اليوم إلى أن تلوثت بها عقول بعض الناس من غير جنسهم وصاروا يقولون أن هؤلاء اليهود جمعوا الثروات بذكائهم وانهم يستحقون هذا التفوق وهذا الفوز في عالم المال جزاء للذكاء. وبعضهم يقول لك انهم يستحقون فلسطين لأنهم عمروها إلى غير ذلك من السفسطات السخيفة.

ليس اليهود أذكى من سائر الأمم، بل يمكنك أن تقول انهم دون الوسط في الذكاء. وإنما الفرق بينهم وبين الأمم الأخرى أن ذكاء هذه الأمم مقرون بالأخلاق الإنسانية من محبة وصدق وداد وإخلاص وعطف ورحمة. وأما ذكاء اليهود فمقرون بقلوب صم لا تفهم

ص: 7

الإنسانية ولا الرحمة. فأولئك يستحرمون المحرم وهؤلاء يحللون المحرم؛ هؤلاء يثرون كثيرا وأولئك يثرون اقل.

فهم متى راموا التبجح بالذكاء ذكروا لك اينشطين وبرجسون وغيرهما، وأغمضوا الطرف عن جايمس جينز وادينغتون واناطول فرنس وغيرهم. وإذا ذكروا رتشلد ذكرنا لهم ركفلر وكارنجي وفورد. ولكن ماذا فعل آل رتشلد من المبررات التي عملها هؤلاء؟ ما سمعنا بمؤسسة خيرية للإنسانية أسسها اليهود. . .

ولما استفحل الجشع اليهودي في أوروبا وجعلت أوروبا تنبذها نبذة الهواة ولوا وجوههم شطر الشرق وادعوا أن لهم ميراثا في فلسطين فلماذا لا يطالبون به؟ والحقيقة انهم لا يأتون إلى الشرق لكي يرثوا ميراثا بل لكي يسهل عليهم الاستيطان في بلاد أهلها مهملون فيمكنهم أن يرثوا فيها بأسهل من أوروبا.

فقصدوا إلى الشرق العربي لأنهم استضعفوا اهله، ولكنهم منذ هذا الأسبوع انقلبت عقيدتهم في العرب ورأوا انهم قد ذلوا السبيل، وان هذا الصيد دونه أسد الثرى، وسيعودون من حيث اتوا، وسيعود ترومات حاميهم إلى الصومعة لان الشعب الأميركي شرع منذ الآن لا يصدق دعاية الجرائد اليهودية. واليوم قرانا أن الكونجرس الأميركي سيحقق في مسالة ضغط ترومان على أعضاء هيئة الأمم.

نقولا حداد

ص: 8

‌الذكرى الأولى:

شكيب الشاعر

للشيخ محمد رجب البيومي

- 2 -

(لو لم يكن شكيب كاتباً فريدا لكان شاعراً مجيداً؛ فهما كفتان

كلما رجحت الواحدة أشالت الأخرى)

المنفلوطي

كان الجو الأدبي في مبدأ هذا القرن بمصر يبشر بمستقبل بسام تزدهر فيه فنون الأدب، فهناك مدرستان قويتان للنثر والمنظم يتزعم الأولى محمد عبده ويقود الثانية سامي البارودي، وفي تلامذة المدرستين أشبال فتية تقوى وتشتد بمرور الزمن، وقد اتخذت من الصحافة ميدانا فسيحا تتراكض في جهاته، فتركت وراءها دويا رنانا جعل الأنظار تتطلع إلى سماء الصحافة المصرية معجبة بأهلها الجديدة، تلك التي أخذت تتكامل وتزايد حتى أمست بدورها ساطعة تبعث في العقول ضوءها اللماح، وتنشر في النفوس إشراقها اللامع، وانظر إلى آثار شوقي المنلفوطي وحافظ والمويلحي وسائر من تخرج في المدرستين السالفتين، فانك واحد ما حدثتك عنه من تألق وسطوع.

ونحن لا نعجب - والحالة كما وصفنا - إذ رأينا الأمير رحمة الله يؤثر الصحافة المصرية بنثره ونظمه، ويزور وادي النيل بين الفينة والأخرى، متصلا بأدبائه الذين يغردون معه على دوحة واحدة، ومن هنا كان أمير البيان ذا صلة قوية بحملة الأقلام في مصر، يؤثرهم على نفسه، ويؤثرونه على أنفسهم، وطالما اشتبك في حوار أدبي عفيف مع عشاق الأدب والمعرفة، فكان ذا الحجة الدامغة، والرأي الفاصل.

ونبادر فنعلن أن شكيبا كان يهتم بالنثر اكثر من اهتمامه بالشعر، لأنه فوق مكانته الأدبية سياسي مجاهد، له رأي ينفتح عنه، وعقيدة يبثها في أمته، والسياسيون في حاجة إلى امتشاق القلم كل يوم، ليعلم الرأي العام ما يدعون إليه، فلوا انه اتكل على الشعر وحده،

ص: 9

لاستعصى عليه في بعض الأحابين أن يبرز رأيه في وضوح، فكان لابد من الاعتصام بالنثر، حتى يفهم عنه الجمهور ما يريد.

وأنت حين تطالع أشعاره عامة ترى عليها مسحة التسرع والعجلة، لأنه يترجم عن عواطفه بدون تكلف، وله من جهاده ما يشغله عن التفكير في معنى غريب أو تشبيه نادر، كما يصنع عبيد الشعر في كل زمان ومكان، على انه مع ذلك مطبوع على التصوير الفني، والديباجة المشرقة، واللفظ الموسيقي.

وإذا أردت أن تنظر لشكيب كشاعر متأنق، فأقرا مساجلاته مع الشعراء ومعارضته لأقرانه الأفذاذ، فهو حينئذ يحرص على أن يكون معهم في درجة واحدة - على رغم فراغهم واشتغاله - فتراه يغوص على المعاني الفائقة، ويتفنن في التراكيب الممتازة، ويطير مع الخيال في آفاقه الشاسعة، واليك قصيدته:

هل لسان أقواله الإلهام

وبيان آياته الأحكام؟

فانه عارض بها قصيدة شوقي:

رضى المسلمون والسلام

فرع عثمان دم فذامك الدوام

فكان شكيب رائعا مبدعا، يسوق في تسلسل وانسجام، حتى استطاع أن يوازي أمير الشعراء في دقته وبراعته، ومن العجيب انه يتواضع اكثر من اللائق فيقول في قصيدته:

أو أُعارض فتى القريض فما عا

رضَ ورد الحدائق القُلام

واحب أن الفت القراء إلى قصيدة أخرى من هذا النوع، انشدها الأمير في حفلة خيرية أقيمت لمعاونة مجاهدي طرابلس الغرب، وكان من شعرائها شوقي ومطران وشكيب، وقد قرأت قصيدة الأمير فوجدته اكثر إبداعا من غيره، فقد كان نسجه عباسيا، وخيالة عربيا يحلق بك في أجواء حوم فيها أبو تمام والمتنبي، ويريك كيف تكون براعة المطلع وقوة الأداء فهو يقول:

سلا هل لديهم من حديث لقادم

من الغرب يروي فيه غلة هائم

وهل نظروا من نحو (برقة) موهنا

فلاح لهم منها بريق الصّوارم

تالق في ليلىْ ظلام وقسطل

فتنشئ سحب الدمع من طرف شائم

مواطن اخوان تملوا من الردى

كؤوسا تساقوها بمل الحلاقم

ص: 10

تهيهم فيها العدو مهاجاً

فجاء دبيب اللص في ليل قاتم

ولّين في إقدامه من إهابه

وهل يخدع الإنسان لين الأرقام

ثم يمضي بعد ذلك فيصف أرنب (رومة) مهكما، ويمدح ضراغم هاشم معجبا وهو نظمه يجلجل غريبة، وياتي بالحكمة فذة رائعة كان يقول:

وما طال نوم السيف إلا تنبهت

عيون الدواهي منه عن جفن نائم

وللقارئ أن يحكم بهذه القصيدة على شاعرية الأمير الناضجة وقريحته المتوقدة، ولعله يتساءل معي أي مستقبل كان ينتظر الأمير في عالم الشعر لو صرف كل همه إليه كما فعل شوقي وحافظ وأي منزلة يحتلها بين الشعراء العربية الخالدين.

وتعجبني علاقة شكيب بزملائه الشعراء فقد كانت ترضى أصحاب المثل العليا في الأخلاق، فهو لا يعجب بقصيدة يطالعها في الصحف إلا ويسارع إلى تقريظها من ثناء، ونحن نتلمس الآن هذه الروح الطيبة، فلا نجدها في معشر من الناس بل نجد ما يناقضها من الغل والحسد، ولكن شكيباً أفلاطوني يقود الناس إلى مدينته الفاضلة فليهم اتبعوه!

ولقد كان يتحمل كثيراً من المصاعب في نصرة زملائه الأدباء من كتاب وشعراء فقد وقف أمام اليازجي وهو من هو في ومنه سعة شهوة، وصلابة راي، ليذب عن شوقي، ويدفع الحملة التي شنها صاحب الضياء عليه، وكلها هنات لغوية، ومآخذ صرفية سطعت عليها شمس شكيب فبددت ضبابها الكثيف وكان هذا الدفاع المجيد وشيجة قوية ربطت أمير الشعراء بأمير البيان فاصبح صفيه الأول، وخدينة المختار، وماذا تقول في مودة عريقة مكثت أربعين سنة وهي في كل يوم تنمو وتترعرع حتى خطف الموت شوقياً، فكتب عنه شكيب سفراُ قيما ورثاه بقصيدة جمعت إلى صدق اللوعة وحرارة العاطفة براعة الوصف ودقة التعبير، فهو يبرز تلك شعر شوقي في صورة لا تنطبق على غيره، ويرسمه أمامك رسما تتجلى فيه ملامحه وخصائصه فهو يقول:

رقت لنغمته القلوب فكيفما

غنى بها رقصت على نبراته

فترى الطبيعة قبل نظرته لها

غير الطبيعة وهي في أمرأته

والحسن يشرق في العيون بذاته

وهنا يضئ بذاته وصفاته

لو بات يعبث بالشراب أضاف من

كأساته حببا إلى كاساته

ص: 11

أو خاض في ذكر العذيب تشابهت

أعطاف مستمعيه مع بأناته

يلقي على غمرات كل ملمة

قولا يزيل أجاجها بفراته

فإذا تحدث بالربيع ووشيه

أنساك بالتحبير وشى نباته

فأي وصف هنا لا ينطبق على شعر شوقي، وأي تصور لا يوقفك على خصائص أبياته؟ الحق أن هذا الكلام ينبئ عن مكانه قائلة الممتازة في عالم الفن، ويدل على الحد الذي وصل إليه رحمة الله في الجودة والبراعة، مما يجعلك تصدق قول شاعر القطرين في رثائه

ولي أخو ألا فذاد من شعرائها

في جاهليتها، وفي الإسلام

جاري الفحول فلم يقصر عنهمو

في حلبة الإفصاح والإفهام

شتان بين الشاعر المطبوع في

إحكامه واللاقط النظَّام

ولقد نظم الأمير في اكثر فنون الشعر من غزل ومديح وسياسة واجتماعيات، بيد انه كان سباقا في الرثاء والوصف، وإبداعه في الرثاء ليس بمستغرب منه فقد كان ذا وفاء نادر لأصحابه وإخوانه فإذا فجعه الدهر في واحد منهم لجا إلى القريض يبثه عاطفته، ويشكوا إليه تباريحه. والواقع أن دموعه الشعرية قد بينت لنا كيف يحافظ الصديق المثالي على مودة صديقه، إذ بقي له اصدق وفاء في القرب والنزوح ورثاء الأمير لصديقه أمين فكري يؤكد ما نقوله فهو يقول:

حملت له بين الضلوع أمانة

لو احتملتها الشم ذابت تصدعا

وأصفيته منى إخاء لو انه

أعار الليالي صفوها رقن مشرعا

ومازالت أرعاه على البعد صاحباً

وقبلي لنجم الأفق من قد تطلعا

فان يك هذا الأفق غرب بدره

فلا زهرت فيه الكواكب مطلعاً

فكم من يد أضحت تدق بأختها

وكم شفة باتت تجاور إصبعاً

أخلقت ثغراً عد ثغرك باسماً

وطرفا تمنى أن ينام فيجعها

أنا ديك لا ارجي الجواب فقد مضى

ويا لهف نفسي أن أقول فتسمعا

فلو صادحات الأيك يدرين من ثوى

لما بتن إلا في رثائك سجعا

وهو في مراثيه لا كتفي بسرد عواطفه بل يتعرض إلى مناقب الفقيد فيجلوها جذابة من مرآة شعره، لا كمن يحشد في مراثيه ما شاء من الأخيلة والتصاوير دون أن تتصل اتصالا

ص: 12

وثيقاً بسمات الفقيد. واقرأ معي رثاءه في عبد العزيز شاويش فستجد المعنى المطابق والوصف الموافق إذ تراه يقول:

وإذا جرت على الطروس يراعة

بات الصرير باحتيك صليلا

تلك اليراعة ود أكبر قائد

أو أنها في كفه ليصولا

تتجاوب الآفاق عن أصدائها

ويرتلون فصولها ترتيلا

لافرق بين السامعين وقد وعوا

ما قلته والشاربين شمولا

تغدو أرق من النسيم فان عدا

خطب غدوت الصارم المصقولا

ليث متى بزأر لامة أحمد

(ورد الفرات زئير والنيلا)

أما شعره الوصفي فقد بلغ فيه ذروة الإبداع ولا سيما حين يتحدث عن المعارك الدامية بين المسلمين والغاصبين، وقد يكون من المناسب اليوم أن ينظر القارئ إلى قصيدة الأمير في آثار (حطين) فلن يجد فيها بيتا عاديا مع أنها قد تجاوزت المائة والخمسين، وقد استهلها الشاعر يوصف نهر الأردن، مصورا تعاريجه وتدفقه متفنناً فيما يسميه البديعيون بحسن التعليل، ثم خلص إلى بحيرة طبرية فقال فيها ما لم يخطر للمتبني - وقد وصفها قبل ذلك - على بالي.

وانتقل إلى المعركة الحامية في حطين بين المسلمين والصليبين، فتدفق حماسة وخاض حيوية، وقال في حرارة واندفاع:

كأنما قومنا وقد وثبوا

شم حصون لها القنا جدر

كأنما قومنا وقد وثبوا

زعازع للحصون تهتصر

ذاق العدا من سلاف طغهمو

كأسا بغير العنقود تختمر

ضراغم أجفلوا وقد نظروا

وإنما الليث دون النمر

لم يجبنوا ساعة وإن خذلوا

وإنما الليث دونه النمر

يوم تلاقي الجمعان وانتصف الميزان

رهن انحرافه الظفر

عوقب بالآسر موقن بردى

وجل ملكا مع العمى العور

وفي هذه الطويلة وصف رائع لبطولة صلاح الدين، ولا عجب فقد كان الأمير كلفا بشجاعته ومروءته، وله فيه قصيدة أخرى لا يقولها غير متيم بما ثره، معجب ببطولته،

ص: 13

ومن في الدنيا لا يخفض رأسه إجلالا لصلاح الدين!

هذا ويجدر بنا أن نشير إلى قصيدته في آثار الأندلس فقد كانت دمعة حارة سكبها شكيب على الفردوس المفقود، وليت شعري ما يقول العربي الأبي في ارثه الضائع؟ ومجده السليب! وهل تكون قوافيه غير جمرات مشتعلة تتقد في النفوس، وزفرت ملهبة تتصاعد في الصدور؟ على أن أمير البيان قد ملك زمام شاعريته فجاء بالمعنى الرائع والوصف المحكم حين قال في وصف جامع قرطبة وأعمدته القائمة.

تراها صفوفاً قائمات كأنها

حدائق نصت من جماد مشجرة

من العمد الأسنى فكل يتيمه

لها نسب من مقطع متخير

نبت دونها زرق الفؤوس وأصبحت

لدى الفرى تهزا بالحديد المعصفر

ولكن لفضل الفن ألقت قيادها

فصال بها الصناع صولة عنتر

فبينا هي الصم الصلاد إذا انثنت

مقاطع جبن أو قوالب سكر

عرائس للتحريم فوق رؤوسها

أكاليل در في قلائد جوهر

ثم يمضي الشاعر إلى نهاية قصيدته لا أفلاً في هذا الوشي البديع ولست محتاجاً - بعد ما قدمته من النماذج المختارة من شعر الأمير - إلى أن أنص على انه حريصا على مقاومة التيار الجديد الذي يبيح للشاعر ما يند عنه الذوق العربي من تهرب من الوزن، وتنصل من القافية، بل انه ظل طيلة حياته يذب عن القديم بما يملك من بيان، وله في ذلك أبحاث عديدة يمكنك أن تفهم خلاصتها من قوله التهكمي (ونحن نقول للذين يتكلمون في القديم والجديد، ويزعمون أن لكل عصر مدرسة على قولهم في الشعر، أن هذه المدرسة تكون في العلم وتكون في الصناعة وتكون في الزراعة، وتكون في كل شئ إلا في الشعر؛ فان مدرسته هي القلب وطريقته هي النفس، والنفس البشرية لن تتغير ولن تتغير، فهي هي أزواقها ومشاربهاً، وما سمعنا أن الإنجليز زهدوا في شكسبير لكونه عاش قبل هذه الأيام بثلاثمائة سنة، ولا أن الألمان عابوا جوته لمجيئه قبل اليوم بمائة وخمسين سنة، فكيف نعيب المتقدمين!؟) وفي اعتقادي أن كلام الأمير جدير بالتأمل والانتباه، حتى يظهر الصبح لذي عينين.

أي نجم هوى يفقدك يا أمير البيان! وأي أمل تحطم حين ودعتك العروبة باكية إلى مقرك

ص: 14

الأخير! وأي ارج عاطر يفوح من ضريحك الحبيب.؟!

سلام على القبر الذي ضم أعظما

تطوف المعالي حولهم فتسلم

محمد رجب البيومي

كلية اللغة العربية

ص: 15

‌3 - طرائق من العصر المملوكي:

ابن الوردي والخمول

الأستاذ محمود رزق سليم

ما هي العوامل التي دفعت ابن الوردي دفعاً إلى أحضان الخمول فارتضاه لنفسه مذهبا ومعتنقا يجد فيه لذاذة وسعادة؟. . أن من كان في مثل فضله وعلمه، من حقه على الدنيا أن تنبيه شانه، وتسعى إليه، وترفه عنه، وتنوه به، وتيسر له. فهل أبلغت الدنيا ابن الوردي آماله، وأفسحت له سبيل المال والجاه؟ كلا. . لقد روى انه دخل الشام مرة، فقرة باد في رثائه هيئته ورداءة نظره، فحضر مجلسي القاضي نجم الدين بن صصري من جملة مشهودة. فاستخفوا به وأجلسوه منهم مجلسا بعيداً؛ ثم أرادوا كتابة مبايعة ملك. فقال بعض الحاضرين مشيراً إلى ابن الوردي (أعطوا المعري بكتب المبايعة)، على سبيل الاستهزاء به. فقال ابن الوردي:(اكتبه لكم نظاماً أم نثراً) فزاد استهزائهم وقالوا (بل نظاما) فأملي لساعته نظاما لطيفا ذكر فيه اسم البائع والمشتري وحدود المبيع والشهود والتاريخ وما إلى ذلك. فاقبل القوم عليه معتذرين؛ وقد عرفوا مكانه.

فنكران المنزلة وضيق الرزق وقلة الجاه في مقدمة أسباب خموله.

وقد كان ابن الوردي - فضلا عن علمه وأدبه - ذا نفس أبية تربا به مواطن الذل، وتنأى به عن مهاوي الخضوع ولو حرم في سبيل ذلك ما يشتاق إليه من المجد: يقول:

وما جهلت نفسي المعالي وطيها

ولكن رأت أن السلامة أطيب

أصون الذي علمته عن مذلة

فللعز في الدارين قد كنت أتعب

ورحت خفيف الظل عن حمل منة

لمفتضح بالمكر وهو محجب

ويقول:

ولو شئت فقت الكل حرصاً وجرأة

وأرضى بجمعي وارثي وأعصب

أأكثر أموالاً وأحمل ثقلها

وأتركها للوارثين وأذهب

على الله رزق الوارثين وغيرهم

فبعدا لشخص من سوى الله يطلب

وقد كان ابن الوردي - إلى جانب ذلك كله - ذا أسرة ضخمة، فقد ترك له أبوه جملة من الأشقاء، ورزقه الله عدة من البنات. وهذه حالة تتطلب السعي الدائم، والكد والمجادلة، وبذل

ص: 16

الحيلة. ولكن إباء نفسه لم يدع له وسيلة إلى الخضوع في سبيل الحصول على الرزق. فهو لا يحني رأسا لرئيس، ولا يقارف عملا يتنافى مع كرامته، ولا يبذل ماء وجهه لقاء عرض الدنيا. يقول:

واكتساب الغنى ينظم ونثر

فيه نقص للفاضل المشهور

أنا لفظي در النحور ومثلى

لم يبع بالحطام در النحور

إن فقر النفوس ذل وشين

وغنى النفس عز كل فقير

ولا يسعى إلى منصب القضاء برشوة - وقد كانت ذائعة في عصره - بل عف عن المناصب جملة لما رأى فيه رقا لنفس الحر. فيقول بعد أن طلق القضاء:

أأرجع بعد العتق في الرق ثانياً

فلا أم لي أن كان ذاك ولا أب

ولقد كان ابن الوردي - كما ذكرنا - قاضيا على حلب نائبا في قضائها عن قاضي القضاة الكمال بن الزملكاني وكان ابن الوردي قد مدحه بقصيدة طلليه لأنه استنقذ كنيسة من اليهود بحلب وجعلها مدرسة للحديث. فقال له:

علا لك ذكر ليس يشبه ذكر

وأحرزت فخراً ليس يدركه فخر

ثم أرسل إليه ابن الزملكاني رسولا يطالعه بنقله إلى منج. فلم يسترح إلى النقل، وألح في العودة إلى حلب، فلم يستمع له ابن الزملكاني. فانقلب ابن الوردي هاجياً شاكياً، وكانت هذه الحادثة السبب المباشر في انه كره المناصب وحياة الوظيفية، ولجأ إلى الخمول يستعيض بالاطمئنان إليه ما فقده من جاه ورزق. قال مخاطباً ابن الزملكاني:

فعندما قال الذي قاله

رسولكم أوضح ما أعضلا

وبان لي ما يقصد الدهر لي

لكن رأيت الصبر في أجملا

وانقطع البحث وزال المرا

فقدموا الناقص والاجهلا

تالله لا باشرت من بعدها

حكما ومن يرضي بهذا البلا

فضل ابن الوردي من ذلك الحين حياة الخمول على حياة الكفاح. وارتضى عيش العزلة على المخالطة. ونشد السلو بين كتبه ودفاتره، والعزاء بين أقلامه ومحابره، وراح يرفل في ثوب من الخمول، كأنه يرفل في ثوب من النسيم. وأمعن في خموله واستمرأه حتى اصبح حبيباً إليه أثيراً عنده. راضياً بيأسه. قال:

ص: 17

قالوا تركت الحكم قلت تركته

وأعتضت عن خضر القضاب اليأس

قتل الأنام على الحطام نفوسهم

فصفعت دنياهم بألف مداس

وقد استقر في نفسه أن الخمول هو نصيبه الحق من الحياة. لأنه قل أن يجتمع الحظ الحسن مع الذكاء. ويندر أن ياتمُ الجاه الواسع مع البروز في العلم والآداب. فذكاء المرء محسوب عليه. وخير لطالب الجاه أن يدع سبيل العلم والأدب ويخليها لغيره. قال:

لا تحرصن على فضل ولا أدب

فقد يضر الفتى علم وتحقيق

ولا تعد من العقال بينهم

فإن كل قليل العقل مرزوق

والحظ أنفع من خط تزوقه

فما يفيد قليل الحظ تزويق

والعلم يحسب من رزق الفتى وله

بكل متسع في الفضل تضييق

أهل الفضائل والآداب قد كسدوا

والجاهلون فقد قامت لهم سوق

والناس أعداء من سارت فضائله

وإن تعمق قالوا عنه زنديق

وقد بدا لنا من هذه الأبيات عقيدته في الحظ، وقد رددها في أبيات متعددة فقال منها:

لي نفس تقية لم يعيها

غير حظي وذا نهر اختياري

جامع الحظ والذكاء قليل

يصعب الجمع بين ماء ونار

غير أن هذه العقيدة لا يصاحبها الرضا بل السخط، ولا يخالطها الاطمئنان بل المرارة والحسرة. إلا تراه يقول؛

إن لمت حظي فلا تلمني

فإن لومي له بحق

للضد رزق بلا حساب

ولي حساب بغير رزق

ويقول:

شتان يا ابن فلان

تعاستي وسعودك

أنا يدوّد قزي

وأنت قزز دودك

وما دام أمر الحظ كذلك فلا داعي للسعي وليس المرء ناعما في خموله، لا عمل ولا نصب، ولا كد ولا أدب. ولاسيما بعد أن كافح ونافح، ودرب وجرب، فلم يظفر من وراء ذلك بشيء: قال:

ما طلبنا الخمول جهلا ولكن

ذاك عن خبرة وعن تجريب

ص: 18

لو منا الزحام فيه لكنا

نشتهيه لصاحب وحبيب. . .

ويبالغ ابن الوردي فيأسف على ما فات من الزمان في غير الخمول، كأنما فاته شيء من العز والمجادة فيقول:

أسفي! كيف كنت أطلب عزاً

بالولايات وهي عبن الهوان

كنت لا أعرف الخمول لجهلي

ليتني كنت خاملا من الزمان

وقد أطلق له الخمول حرية القول وفتح أمامه فجاج الحديث. ففخر بنفسه ليدل الناس على مفاخره، ونقد مجتمعه ليبين لأفراده ضروب الفساد فيهم، وجأر بالشكوى مما أصابه لعله يجد فيهم سميعاً. وما كان خموله إلا شكوى صامتة واحتجاجاً سلبياً على حرمانه. فقنع ولكنها القناعة المرة. وقال:

أهملني قوم وكم فاضل

يود أن ينظرني في المنام

ثم يقول:

قنعت والقنع يعز الفتى

لما رأيت الحرص ذل الكرام

على أننا نعود إلى تسائلنا ونقول: هل كان ابن الوردي خاملا؟ وهل نال من وراء خموله ما يشتهي من الخمول الحق؟ كلا. . . فإن بعد عن الناس ببدنه فقد قرب إليهم بفكره، وان اعتزلهم بجسده فقد عاشرهم بشعره. ونال من وراء الجماعة عنهم ما يكون كامناً في نفسه من أمل الشهرة والذيوع. وان حرم الرزق والجاه. وقد مات ابن الوردي ولا يزال شعره يردد، وذكره يجدد، وعاش ومات في النابهين الخالدين. وكان من الشعراء القلائل الذين تركوا للناس مبادئ ومذاهب عاشوا بها ودعوا إليها.

محمود رزق سليم

مدرس بكلية اللغة العربية

ص: 19

‌الأديب والإصلاح الاجتماعي

للأستاذ أحمد محمد العظمة

لا مشاحة أن للأديب تأثيراً قوياً على النفوس والأفكار والعواطف والأخيلة، وان له أثراً جلياً في حياة الأفراد والجماعات، وان النهضة الأدبية كثيراً ما تمهده للنهضة السياسية والاجتماعية والدينية، وفي تاريخ الثورة الإسلامية والثورة الفرنسية مثلا مصداق ما نقول. ولا بدع فالأديب إذا بكا بقلبه مثلا بكا يراعه، وإذا ثارات نفسه ثار أسلوبه، فكأنما هو يكتب بمداد من الدماء يكفي أن يبصره الناس حتى يهيج دماءهم ويخف بها إلى ما يريد منها، وكأنما هو يخطب بأصوات من روحه لا من لسانه حسب الناس أن يسمعوها حتى تتصل بأرواحهم فتعمل فيها عمل العاصفة حيناً ثم تقذف بها حيث تريد (كجلمود صخر حطه السيل منى عل). وهذا من أسرار تلك الكهربائية الأدبية التي تعمل عملها في جوها الروحاني فلا يبلغ مبلغها إلا هي. فليس الأديب إذن أديب الألفاظ الأصلية ولا الأفكار الوزينة ولكن أديب الفن، والفن رعشة روحاني تصطفى ما تشاء ثم توحي به نغما أو رسما أو كلما تفكيراً أو عاطفة أو خيالا.

إذا كان للأديب هذا الأثر فتعالوا نتساءل عن مبلغ اهتمام معظم أدبائنا بنا وتأثيرهم الاجتماعي التقدمي فينا.

في ظني أن الجواب يحمل دون ما ينتظر من أكثرهم، فقد جروا مع الزمان كما أراد كأنهم ليس لهم في الإصلاح من مراد، انهم يهتمون بأنفسهم اكثر من اهتمامهم بأوطانهم فلم يكونوا فاعلين بالهام الواجب، بل كانوا ظاهريين انفعاليين بعامل البيئة، ينظرون إلى ألوان الأشياء والحوادث وأشكالها ولا يتأملون في حقائقها ومآلها، كأنهم يهدفون إلى الجمال الظاهري الأبي وحده ويجرون في ذلك وراء غيرهم جنوداً ولا يجرون في الطليعة قواداً، رأوا الناس استساغوا منهلا فنهلوا منه وعلوا، فبضاعتهم من الرأي تقليدية مخادعة لا ذاتية تأملية، وقد تكون هذه البضاعة من البهرج الدخيل في الأمة لا الجوهر الأصيل فيها، وقد يكمن فيها استعمار فكري أو انهيار خلقي أو إنذار سياسي، وقد تعقبها الواقعة فلا تجد الأمة لوقعتها دافعة.

غفال الناس عن ذلك كله فغفل الأدباء مثلهم أو تغافلوا فلم يكرثهم أمرهم ليروه حقيقياً

ص: 20

بالاعتداد به والاحتفال له، وقد يكون من أسباب ذلك ظنهم أن الأدب الهيئة الحياة فلم يجعلوها جهيراً للخير وبوقا لليقظة وقد يتذمرون منه أن رواه كذلك في عيش يبتغونه رقيق الحواشي لا يعرف إلا هزلا.

وقد يلتمس بعضهم العذر لبعض وهو يراه على خطأ الرأي وصدق في العاطفة الجامحة بأنه أديب والأديب مرآة يتراءى فيها كل ما يتجلى لها فليس في تبديل ما يعرض له يدان، وما ذلك بعذر لو كانوا ينصفون: فالأديب مرآة ولكنها عاقلة، يصحب تشبيهها وتلهها إيمانها وتفكيرها وثقافتها وإرادتها وغايتها، فليست مكرهة على أن تسف وتسخف، بل ينبغي أن تصطفى مما يعرض لها، وان توجه الحوادث توجيهاً وتؤلف منها مظهراً جميلا لقصد رفيع ترينه، كما يؤلف الكيمائي من مختلف العناصر جسما لم يكن وهو يريده، وبذلك يثبت الأديب انفعاله بتأثير بيئته وعوامله الذاتية إثباتاً دفاعيا لا أتخذ آليا، كما ترى ذلك مثلا في العبرات للمنفلوطي ووحي القلم للرافعي:

أنا لست غافلا عما يؤلف في الإصلاح الاجتماعي، ولكني لست اعني الآن العلماء الباحثين والكتاب الصحفيين، إنما اعني الأدباء أولى الرعشات الروحانية الذين مهدت بالحديث عنهم، فما أقلهم وإن كثرت الكتب والصحف، وما أقل منهم حملة المصابيح في دياجير الحياة الذين يصدر أدبهم حيوياً تغذوه عقيدة راسخة وثقافة جامعة ناضجة فلا يستعبدهم هواهم ولا يستبد بهم ولا يسخرهم تقليدهم ولا يسخر بهم. فأين أين ذاك الماء الزلال الذي يفيض عن معينه الثر الذي لا يعتكر، ويصدر معينه عن السماء تمده بطلها وان كان هو في الأرض؟

أن الأدب العربي لا يتعذر الإصلاح عليه فهو يستطيع أن يحيط خبراً بما بين الناس وان يجتذب ما يحتاجون إليه مما يقوم حياتهم ويدرا عنهم ما يتهددهم من الآفات الاجتماعية التي انسلت إليهم من سواهم ثم تفشت فيهم وجعلتهم يتداعكون وهم بين أعداء لها يحذرونها وأنصار يفخرون بها ويحضون عليها، حتى لكان أبا العتاهية يصدق فينا قوله:

أنا في زمن ملآن من فتن

فلا يساب به ملآن من فرق.

يستبين من هذا كله أن على الأديب العربي اليوم أن يجعل حظه عظيما من بحوث الأخلاق والاجتماع وما ايها، حتى لا يلتبس عليه الحق بالباطل والشراب الأجل بالسراب العاجل،

ص: 21

فيأخذ نفسه بما صح عنده من أحكام، وما كرم من أخلاق وما سما من مقاصد، ويدعوا لذلك غير متريث ولا مهيب، وقد يدعو هذا إلى شيء من المطاولة والتروي والمواصلة، فلا ضير، بل يجب أن يكون كذلك حتى يكون الأدب أو بعض الأدب عميقا معه برهانه فلا يهلهل عند النظر ولا يضمحل إزاء الحجة، ولا يتمهل أمام الواجب.

إن المعركة الخلقية الاجتماعية اليوم من الخطورة بمكان، فهي عند مفترق الطرق، وهي معركة مبادئ تتضاءل ليذهب زبدها جفاء، ويمكث حقها في الأرض بعد ثبات أهله وصبرهم وجلدهم وحكمة قيادتهم.

أنها لمعركة مبادئ تبقى بعد الأمة العربية عربية تهتز بتاريخها المجيد، أو تغدو غريبة تعتز بتاريخ من ليس لهم للحق تاريخ إلا من صفحات العدوان على حق خنقوه ودم سفكوه ومجتمع أضلوه. وان وراء الحق صادقة، وخلقا كريماً، وعزة، وضياء، وان وراء الباطل تحللا، وسفهاً، وذله وعماء، وما يبدي الباطل وما يعيد.

فمن غير الأديب العربي الحمى الأنف يطارحنا بلحنه الأخاذ فيهز القلوب والمشاعر والأفكار، بل يهز الأرواح هزاً منهاً إلى السبيل السوي الذي يجد أهله بعده عزهم وهداهم ونعماهم فلا يضلون في مهامه المذاهب الاجتماعية الكثيرة التي لا يكاد يتبين فيها الساري وضح الطريق، وإنما خشي ما فيها من متفجرات تدك بنيان النهضة من القواعد دكا، ولا تلبث ذويه حتى يعودوا إلى أنفسهم نادمين فينشئوا حياة ويبنوا المجد كبناء الأبوة الأمجاد.

إن الأمر حقيقة وجد وما هو بخيال وهزل، فما أحرى الغير على يوم الأمة وغيرها أن يفكروا في هذا الضرب من الأدب والأدباء، ولعل من الخير أن يدعوا إلى مؤتمر أدبي على عربي يجتمع مؤتمروه في إحدى عواصمنا كل عام، فتعرض فيه مشكلاتنا الأخلاقية وآفاتنا الاجتماعية ويوجه نحوها الضياء، ويوصف لها الدواء، فيقوى الرجاء بان العرب يسيرون قدما إلى الأمام ودائما إلى الأمام بعد أن صدروا عن عكاظهم الجديد عكاظ الخير والأدب والوطن العربي الكبير.

دمشق

أحمد مظهر العظمة

ص: 22

‌نقل الأديب

للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي

933 -

أمثال. . .

مجمع الأمثال للميداني:

لولا جلادي غنم تلادي.

لا بلاد لمن لا تلاد له.

الروم إذا لم تغز غزت.

لا يفل الحديد إلا الحديد.

الشجاع موقى.

934 -

أصيب زوجها وأخوها وأبوها

تاريخ الطبري: مر رسول الله (صلى الله عليه) بامرأة من بني دينار وقد أصيب زوجها وأبوها مع رسول الله باحد، فلما نعوها قالت: فما فعل رسول الله؟ قالوا: خيرا يا أم فلان، هو بحمد الله كما تحبين، قالت أرونيه حتى انظر إليه، فأسير لها إليه حتى رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل.

935 -

الجنة تحت البارقة

الفائق للزمخشري: عمار: (الجنة تحت البارقة) هي السيوف لريقها وهذا كقولهم: الجنة تحت ظلال السيوف.

وفيه: قال أبو هريرة يوم يرموك: تزينوا للحور العين وجوار ربكم في جنات النعيم، فما رأى موطن اكثر قحفا ساقطا وكفا طائحة من ذلك اليوم.

في الفتوحات المكية: قال بعضهم في حق المجاهدين:

أبواب عدن مفتحات

والحور منهن مشرفات

فاستبِقوا أيما استباق

وبادروا أيها الغزاة

فبين أيديكم جنان

فيها احسن منعمات

يقلن والخيل سابقات

مهورنا الصبر والثبات

ص: 24

936 -

نحن والله أهل الحرب

طبقات ابن سعد: قال عبد الله بن عمرو: نحن (والله) أهل الحرب غذينا بها، ومرنا عليها، وورثناها عن أبائنا كابرا فكابرا. نرمي بالنبل حتى تفنى، ثم نطاعن بالرمح حتى تكسر الرماح؛ ثم نمشي بالسيوف فنضارب بها حتى يموت الأعجال منا أو من عدونا.

937 -

. . . إلا بحث ترى المنايا سودا

أبو تمام:

ما إن ترى الاحساب بيضا وضحا

إلا بحث ترى المنايا سودا

938 -

. . . فعليكم بالجهاد

كان خالد يقول: ما من ليلة يهدى إلى فيها عروس، أنها لها محب وابشر منها بغلام - احب إلى من ليلة شديدة البرد، كثيرة الجليد في سرية اصبح فيها العدو، فعليكم بالجهاد.

وفي كتاب فتوح الشام اللازدي: ثم أن خالدا سار في الصفوف يقف على هل كل راية ويقول: يا أهل الإسلام، أن الصبر غز، وان الفشل عجز، وان مع الصبر تنصرون؛ فان الصابرين هم الأعلون، وأنه إلى الفشل ما يحور المبطل، وان الحق لا يفشل.

939 -

. . . عن أحسابكم ذودوا

عمرو القنا:

القائلين إذا هم بالقنا، خرجوا

من غمرت الموت في حموتها؛ عودوا

عادوا، فعادوا كراما لا تنابلة

عند اللقاء ولا رعش رعاديد

لا قوم اكرم منهم يوم قال لهم

محرض الموت عن حسابكم: ذودوا

940 -

لكن الله يعرفهم

الخراج لأبي يوسف: حدثني إسماعيل عن قيس عن مدرك ابن عوف الأحمسي. قال: بينا أنا عند عمر إذ أتاه رسول النعمان ابن مقرن فجعل عمر يسأله عن الناس، فجعل الرجل يذكر من أصيب من لناس بنهاوند فيقول: فلان بن فلان وفلان بن فلان، ثم قال الرسول: وآخرون لا نعرفهم، فقال عمر: لكن الله يعرفهم.

ص: 25

وفيه: حدثني مسعر عن سعد ابن إبراهيم: مروا على رجل يوم القادسية وقد قطعت يداه ورجلاه وهو يفحص ويقول: (مع الذين انعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا). فقال له رجل من أنت يا عبد الله؟ فقال: رجل من الأنصار.

941 -

كذبتم وبين الله لا تأخذونها

عمرو بن براقة الهمداني

كذبتم (وبيت الله) لا تأخذونها

مراغمة ما دام للسيف قائم

متى تجمع القلب الذكي وصارما

وآنفا حميا تجنبك المظالم

942 -

لعل الله يرزقني الشهادة

طبقات ابن سعد: عن عامر بن سعد عن أبيه قال: رأيت أخي عمير بن أبي وقاص قبل أن يعرضنا رسول الله يتورى، فقلت: مالك أخي؟ قال أخاف أن يراني رسول الله فيردني، وأنا احب الخروج لعل الله يرزقني الشهادة. قال: فعرض على رسول الله، فاستصغره، فقال: ارجع، فبكى عمير، فاجازه رسول الله. قال سعد: فكنت اعقد له حمائل سيفه من صغره، فقتل ببدر.

943 -

أحق من لم بكره المنية

ابن جؤجؤة الاعرجي:

أحق من لم يكره المنية

حزور ليست له ذرية

944 -

نساؤهم كرجالهم

طبقات ابن سعد: قال محمد بن عمر: شهدت أم عمارة ابن كعب أحداً مع زوجها غزية بن عمرو وابنيها، وخرجت معهم بشن لها في أول النهار تريد أن تسقى الجرحى، فقاتلت يومئذ وأبلت بلاء حسنا. وجرحت أثنى عشر جرحا بين طعنة برمح أو ضربة بسيف.

قتلت أم حكيم يومئذ (يوم مرج الصفر) سبعة بعمود الفسطاط الذي بات فيه خالد بن سعيد العاص معرسا بها، وكانت وقعة مرج الصفر في المحرم سنة أربع عشرة في خلافة عمر بن الخطاب.

ص: 26

945 -

. . . فأنا أرابط حتى أموت

قال أبو فضالة الأنصاري. اصطحب أنا وسهيل بن عمر ابن عبد شمس ليلي أزرنا أبو بكر الصديق فسمعت سهيلا يقول: سمعت رسول الله يقول: مقام أحدكم في سبيل الله ساعة خير من عمله عمره في أهله، قال سهيل: فأنا أرابط حتى أموت ولا ارجع إلى مكة أبداً.

ص: 27

‌تعقيبات

الروح العربية:

لقد نديت عيني بالدمع، وأحسست بقلبي كأنه يريد أن يثب من بين

جوانبي وثبا وأنا استمع لزعماء العرب وقادتهم وهم يتحدثون في

اجتماعهم الأول بوزارة الخارجية المصرية عن العمل لإنقاذ فلسطين

وصيانة ذلك الوطن المقدس من طغيان الصهيونيين والاستعماريين. ..

قال لي سماحة الحاج أمين الحسيني: لقد حان وقت العمل، ولابد أن يلعب السيف دوره، وإذا تكلم السيف فاسكت أيها القلم. . . وسننتصر. . . ولابد أن ننتصر. . . وان ينصركم الله فلا غالب لكم. . .

وقال لي سعادة الأستاذ عبد الرحمن عزام باشا: حتى أنت تريد مني أن أتكلم! إننا في ميدان العمل، وإنها لكرامة العرب قاطبة، وانه لكيان العروبة في سائر أقطارها وانصارها، وانه لتراث الأباء والأجداد نحمله أمانة بين أيدينا، وان دماءنا لأقل ما يبذل في سبيل هذا كله. . .

لم اكن اسمع كلاما، ولكني كنت أرى نفوسا تتوثب بالإباء في قوة وعزيمة، وقلوبا تتدفق بالحياة في إصرار وحزم، وعواطف ثائرة متأججة كأنها زفير الجحيم على الظلم والطغيان، فأيقنت أن الروح العربية لا تزال بخير والحمد لله، وان العرب لن يضاموا ما دامت فيهم هذه الروح التي ورثوها عن آبائهم الصيد، وأجدادهم الصناديد، وان فلسطين لت تذل مادامت تحميها هذا الروح وتصونها من تناوش الذئاب.

لن يسرق العرب تحت عين الشمس مرة أخرى، ولن تذهب فلسطين فريسة في سوق السماسرة والتجار، ولن تنحني هاماتنا بعد اليوم أمام التهديد الغاشم والوعيد الظالم، فقد تيقظ العرب، وإذا تيقظ العرب، فالويل للاستعمار وصنائع الاستعمار! أنني وحدي انفرد من بين أبناء العربية فاحمد لهيئة الأمم قرارها، وأزجى الشكر أضعافا إلى الأمم التي أيدت قرار التقسيم، لأنها بهذا نادت على العرب أن يتيقظوا، وأثارت فيهم روحا كان يهدي من

ص: 28

ثائرتها ما طبعوا عليه من كروم وإنسانية، وجعلتهم يواجهون الحقيقة حتى لا تعصف بهم الخديعة على غرة، والأمر كما قال شوقي شاعر العرب:

وكم في طريق الشر خير ونعمة

وكم في طريق الطيبات شرور

النصر الأول:

إني أرى التاريخ يعيد نفسه اليوم!

فقد حدث من قبل أن طغى كسرى وبغي، صر النعمان ابن المنذر شر مصرع، ثم أرسل إلى هانئ بن قبيصة يطلب منه ما استودعه النعمان من الدروع والرماح، حتى ابنته أيضاً، فابى هانئ عليه ذلك وفاء بحق العرب، فآسرها كسرى في نفسه، وحشد على العرب زحفا من جيوشه يسد عين الشمس، وحسب انه ساحقهم لا محالة، وعلم بذلك الشاعر الأيادي لقيط بن معمر الذي كان يتولى الكتابة في ديوان كسرى، ففزع لقومه، وأرسل إليهم بهذه الصحيحة التاريخية يقول:

يا أيها الراكب المزجي مطيته

إلى الجزيرة مرتادة ومنتجعا

ابلغ أبادا وخلل من سراتهم

إني أرى الرأي - إن لم اعص - قد نصعا

أني أراكم وأرضاً تعجبون بها

مثل السفينة تغشي الوعث والطبعا

ألا تخافون قوما لا أبا لكم

أمسوا إليكم كأمثال الدبا سرعا

يا قوم أن لكم من ارث أولكم

مجدا قد شفقت أن يفنى وينقطعا

يا قوم لا تأمنوا أن كنتم غيرا

على نسائكم كسرى وما جمعا

هو الجلاء الذي يجتث أصلكم

فمن رأى مثل ذا رأيا ومن سمعا

قوما قياما على أمشاط أرجلكم

ثم افزعوا قد ينال الأمر من فزعا

وقلدوا أمركم لله دركم

رحب الذراع بأمر الحرب مضطلعا

ولقد استجاب العرب لهذه الصحيحة، واندفعوا على مضطلعا ولقد استجاب العرب لهذه الصحيحة، واندفعوا على صداها يدودون عن شرفهم وحرماتهم، ووقف هانئ بن مسعود على جموع العرب يخطب خطبته المأثورة: يا معشر بكرا! هالك معذور، خير من ناج فرور، أن الجازع لا يرد القدر، وان الصبر من أسباب الظفر، المنية ولا الدنية، واستقبال الموت خير من أستدباره، فالجد لجد، فما من الموت بد!

ص: 29

وهب العرب أنفسهم للموت في سبيل الشرف والكرامة، فكتب الله لهم النصر والحياة، ومكن لهم من الفرس وقهر الطغيان، وبلغ الأمر إلى النبي صلوات الله وسلامة عليه، وكان قد بعث، فقال:(اليوم أول يوم انتصف فيه العرب لأنفسهم من العجم، وبي نصروا)!

وابتدأ التاريخ من يومذاك يكتب للعرب صفحات مشرقة حافلة بالنصر بعد النصر على العجم، وما زالوا أورثهم الله لأرضهم وديارهم!

ذلك ما كان من تاريخ النصر الأول للعرب، حفز إليه طغيان كسرى، وان العرب اليوم ليمشون إلى النصر الخالد يحفزهم إليه قرار تلك الهيئة في جانب الظلم والبهتان، ويعلم الله أننا ما كنا نبغي العدوان، ولكن الأمر كمال قال أبو الطيب شاعر العربية:

غير أن الفتى يلاقي المنايا

كالحات ولا يلاقي الهوانا

وإذا لم يكن من الموت بد

فمن العجز أن تكون جبانا

نشيد العروبة:

والآن، وأبناء العروبة يمشون إلى ميدان الجهاد، ويتحفزون لتضحية والفداء، والشباب الفتى في القاهرة ودمشق وبيروت وبغداد وعمان وفلسطين وسائر الأقطار العربية يستفزهم الغضب لكرامتهم والذود عن كيانهم، إلا يجدر أن يكون لهم نشيد واحد يهتفون به لفلسطين، ويكون حداؤهم المؤتلف في مواكب الجهاد ضد الغاضبين!؟

اجل، انه لواجب أن تنحى أناشيدنا المحلية اليوم جانبا، وان يكون لنا اليوم (نشيد العروبة) يهتف به كل لسان، ويفيض به كل وجدان. . . فلعل شعراءنا ينسون أحاديث الغزل والهيام، وينحدرون من أبراجهم العاجية إلى مواكب المجاهدين بأشعارهم وأناشيدهم!

إن الشاعر الذي سيكتب (نشيد العروبة) في هذه الآونة الحاسمة، سيكتب لاشك لنفسه الخلود. . . فيما ترى من هو الشاعر الذي سيكون لذلك الموقف، ولذلك اليوم؟!

الدكتور. . . احمد أمين:

حدثني الثقة أن الأساتذة الذين يقومون بالتدريس في كلية الآداب قد اجتمعوا فيما بينهم وقر رأيهم على أن يتقدموا إلى مجلس الجامعة بمنح الأستاذ احمد أمين بك درجة الدكتوراه الفخرية تقديرا لعلمه ولجهوده في خدمة الحياة الثقافية والعلمية.

ص: 30

والأستاذ احمد أمين بك رجل اخذ حظه ومكانته، فلن ترفع من قيمته دكتوراه فخرية، ولا يغض من مكانته عدم حمله لهذا اللقب الذي يحسبه بعض الناس كل شيء في العلم والمكانة، وكم بيننا من (دكاترة) ليس لهم من اثر ومن صلة بالعلم الأجمل هذا اللقب الضخم، ولكني اكبر هذا الوفاء من رجال كلية الآداب واحمد لهم هذا تقدير للعلم في ذاته، وإكبار له في شخص رجل بذل في سبيل العلم نور البصر، وضحى بحياة الرفاهية والتقلب في أعطاف الراحة.

اجل، لقد وقف الأستاذ احمد أمين حياته على خدمة العلم، وقدم للمكتبة العربية تراثا ضخما من البحث والدرس يستحق به كل تقدير، وسيمتد هذا التقدير في نفوس الأجيال المتعاقبة، ما دامت الثقافة العربية زاهرة مشوقة. أقول هذا ولعل القراء يذكرون أني هجمت على هذا الأستاذ الفاضل منذ قريب في الرسالة لرأي أبداه ولمست فيه شيئا من الإسراف، وحسب أستاذنا صاحب (الرسالة) أني اجحد فضل هذا الرجل. . . كلا! ولكني افضل دائما بين الرأي وصاحبه، وان خطا من الأخطاء لا يحملني على أن اجحد ما هناك من حسنات، خاصة وليس في نفسي شيء من أحد والحمد لله. وقد كنت في دروسي اخذ بتلايب أساتذتي ولكني كنت أجلهم واحبهم حبي لوالدي، وما زالت هذه صلتي بهم. فلا عجب أن اغتبطت بهذا الخبر، وأكبرت هذه التقدير لذلك الأستاذ الجليل. . .

(الجاحظ)

ص: 31

‌الأدب والفن في أسبوع

حدث في الفكر الإسلامي:

نشرت مجلة الثقافة بحثا كبيرا في مسالة تعدد الزوجات لمعالي الأستاذ عبد العزيز فهمي باشا، ذهب فيه إلى أن تعدد الزوجات إلى أربع غير قائم على سند من القران صالح لقيامه عليه، وانه بمقارنة بعض الآيات ببعض يظهر أن الأصل تحريم التعدد، وقد وصل معاليه إلى هذه النتيجة من طريق تفهم الآيات القرآنية وتذوق لاغها، فجاء بحثه تشريعا أدبيا قيما خطيرا، قيمته في البراعة في معالجة الموضوع، وخطره فيما انتهى إليه من الرأي، وهو لهذا يعتبر حدثا جديدا جللا في تاريخ الفكر الإسلامي من غير شك.

اعتمد الباحث الكبير في رأيه على ثلاث آيات من سورة النساء، هي:

1 -

الآية الثانية من السورة وهي: (وأتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب، ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم انه كان جوبا كبيرا)

2 -

الآية الثالثة ونصها: (وان خفتم إلا تقسطون في اليتامى فأنكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع، فان خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم، ذلك أدنى إلا تعولوا)

3 -

الآية التاسعة والعشرون بعد المائة ونصها: (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم، فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة)

قال: (إن الكلام في الآيتين الثانية والثالثة من السورة مسوق لتحقيق فضيلة العدل في المعاملة، فأشار في أولاهما إلى ما كان حاصلا من أكل المخاطبين أموال اليتامى الذين في ولايتهم ومن العبث بها، وقد أمرهم باجتناب هذا العبث وعدم التوريط فيه لأنه آثم عظيم. ولما كان بعض اليتامى إناثاً في حجر المخاطبين وكان لهن أموال تحت يدهم، وكان من عاداتهم السيئة انهم يتخذون هؤلاء اليتامى زوجات لهم ويمسكونهن هن وأموالهن ضرار، وكان هذا أشنع مظهر من مظاهر أكل مال اليتامى، فتتميما لفكرة تحقيق العدل (التي في الآية الثانية من السورة) وتثبيتا لها أشار في الآية الثالثة إلى هذا المنكر، واتى، بأبلغ ما يكون من القول لصرفهم عنه. انه يقول لهم: إذا فهمتهم قولي في الآية السابقة وعلمتم أن أكل مال اليتامى مطلقا (من ذكور وإناث) أثم كبير، فلا تتذرعوا إلى هذا العبث بنكاح

ص: 32

اليتيمات اللاتي في جحوركم، بل تعففوا عن نكاحهن المفضى بكم إلى أكل أموالهن، ولديكم ممن تستطيبون من غيرهن من النساء كثيرات، تستطيعون أن تنكحوا منهن ما تشاءون، لا واحدة ولا اثنتين واحدة بعد أخرى، ولا ثلاثا واحدة بعد الاثنتين الأولين، بل حتى مثنى وثلاث ورباع، أي جزافا بلا حساب ولا عدد)؛ وأشار إلى ما في التعبير بهذه الكيفية من الاستهزاء والسخرية بالمخاطبين، والى أن أساس القول في الآيتين فكرة العدل، ثم دلل على أن الآية ليست مسوقة لتحديد عدد الزوجات بأدلة منها أن (تحديد عدد الزوجات من الأمور الأساسية في التشريع للعرب، لأنه يصادم عادة متأصلة فيهم، والقران اجل من أن يأتي بهذا الشان الأساسي بصفة عريضة جواباً لعبارة شرطية بعيدة يظاهرها عن هذا الشان ولا مناسبة بينها وبينه؛ إذ لحق أن أحد لا يستطيع أن يفهم ما هو الارتباط بين خوف عدم الأقساط في اليتامى وبين نكاح النساء والى أربع فقط. أن القران لأجل بلاغة من أن يأتي بهذه المفارقة)؛ ومنها أن كلمة (ما) في قوله (ما طاب لكم) من أقوى ما يكون في إفادة العموم، وليست موصولة، ونبه إلى بلاغة القران في انه استعمل كلمة (طاب) ولم يستعمل (حل)، لان الطائب قد يكون حلالا وقد يكون حراما، وقال:(ان مثنى وثلاث ورباع) معناها المتفق عليه عند الجميع اثنين وثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة، لأنها أوصاف معدولة عن اصلها العددي، يقصد بها التوزيع الجذاف لا تحديد العدد.

وتسال الباحث كيف تطمئن قلوب المؤمنين إلى الأخذ بما يرون من أن فلانا وفلانا كان تحته ثماني نساء أو عشر، فلما نزلت الآية كلم النبي فأمره بإمساك أربع ومفارقة الباقيات، وهل يعقل أن أية شريعة تأتي بتشتيت الزوجات وما قد يكون لهن من أطفال؟ وقال:(ومن ناحية أخرى فان قوله: (وان حفتم إلا تقسطوا في اليتامى فأنكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع، فان خفتم إلا تعدلوا فواحدة) أن فرض انه مسوق للتصريح بتعديد النساء إلى أربع فقط، فانه يقرر أيضاً حكما أساسيا هاما هو وجوب الاقتصار على واحد عند خوف عدم العدل بين الأربع المزعومات. وهذا الحكم الأساسي كان يقتضي بطبيعة الحال أن يأمر النبي الناس بمفارقة ما زاد على واحدة، لان الخوف يملا كل نفس).

ثم قال بان المقصود من عبارة (فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة) إنما هو تنظيم الحالة الوقتية وهي حالة الزوجات المتعددات الموجودات فعلا عند نزول هذا القول.

ص: 33

وقال: أن الدين الإسلامي عالج أحوال العرب بكل تؤده، وتدرج في كثير من الأنظمة (وفي الموضوع الذي نحن بصدده الآن قد ترك القران الناس على حريتهم وعاداتهم يتزوجون أي عدد من النساء يريدون. وغير صحيح - في نظري - انه أحد من هذه الحرية نصا أي تحديد، بل كل الأمر انه نبههم إلى القاعدة الأساسية في تشريعه، وهي مراعاة العدل والابتعاد عن مزالق الجور، فأوجب على المسلم عندما يقوم في نفسه الخوف من عدم العدل أن يقتصر على زوجة واحدة، ثم أكد هذا المعنى تأكيداً لا هوادة فيه بقوله: (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم)؛ فاصبح الأصل الواجب أن يجتذبه كل مسلم يريد الاحتياط لنفسه هو الاقتصار على زوجة واحدة).

ثم قال بأنه يحل الخروج عن هذا الأصل إلى التعديد في حالتين: الأولى إذا إنعدم الشرط بان انتقى موطن خوف الجور بتاتا كحالة زوجة مريضة أصبحت نهائيا لا تصلح للمباشرة؛ والحالة الثانية إذا أقضت الضرورات الماسة إباحة التعديد كحالات الحروب التي يقتل فيها الرجال، فلا محيص من تعديد الزوجات تكثيرا للنسل من الذكور.

ثم تناول مسالة خصوصيات النبي فقال: أنها فيما يتعلق بالزواج ليست خصوصيات تمتع، بل خصوصيات حرمان أو تكاليف مست إليها الضرورة لتحقيق المصالح الدينية والاجتماعية، وقضت بها السياسة الشرعية القائم هو دون غيره بإجرائها. وفصل القول في الحالات التي تزوج فيها بعد نزول الآيات السابقة مبينا مبرراتها التي منها - في مسالة زينب بنت جحش - أن الغرض منها أبطال عادة التبني وما يترتب عليها من تحريم مطلقة المتبني أو المتوفى عنها، وذلك بشيء عملي يهر الناس، فاختار الله النبي ليكون هو مثال المتبني الذي يدور على شخصه تحقيق موجب التشريع، وعلى هذا يكون الذي أخفاه في نفسه هو تأذيه من أن يكون هو المبتلي بذلك.

ومن تلك المبررات لجوء المطلقات والأرامل والبائسات إليه، وعد كل ذلك محنا وتكاليف مشوبة بالمشقة والحرمان، ومن ذلك المؤمنة التي تهب نفسها للنبي، ومثل لها بقوله: (بحسبك أن تتخيل أن الحكومة المصرية مثلا أصدرت قانونا يلزم كل من تولى رياسة الوزارة أو مشيخة الأزهر أن يتزوج أية امرأة مصرية مؤمنة تعرض نفسها عليه - بحسبك هذا لتدرك أن يوما واحدا لا يكاد يمضي على صدور مثل هذا القانون حتى يضج

ص: 34

الرئيس أو الشيخ ويفر من منصبه، هذا حتى لو كانت الوافدات أبكاراً مكنونات مكيفات المئوية، لا أرامل أو مطلقات من المسنات المستميتات).

ثم بين كيف مال المسلمون إلى عدم التدقيق في تأويل النص القرآني وانحدروا إلى القول بإباحة الأربع إطلاقاً - بين ذلك باستعراض حال الجنود في الحروب الإسلامية الأولى، واضطرارهم إلى الاختلاط الجنسي والزنا محرم عليهم فلم يجدوا إلا التزوج وتكريره مع تعدد الوقائع والتنقلات، وتساهل معهم في ذلك لان الجنود مدببون في كل أمة، ودام ذلك بدوام الحروب والثورات التي استمرت حتى جاء عصر التدوين، وكانت عادة الأربع قد صارت من التقاليد القديمة المستقرة التي سرت إلى غير الجنود فاضطر الفقهاء إلى مسايرتها، وتساهلوا في تأويل سندها القرآني كما تساهل فيه المحاربون الأولون.

تعقيب:

وقد سرت مع الباحث الكبير معجبا بقوة حجته ونصاعة بيانه، ولكن عن لي في بعض المواطن ما أدلى به فيما يلي:

1 -

أباح التعدد في الحالتين، حالة انتفاء موضع الجور، وحالة الضرورات. فإذا سلمنا بالحالة الأولى لبطلان المشروط بانتقاء الشرط، فمن أي باب يدخل إلى الحالة الثانية؟ يقول من باب (الضرورات تبيح المحظورات) والضرورات يمثلون في الفقه بمثل من تحق هلاكه إذا لم يأكل الميتة، فهل ضرورات الحروب وما إليها تماثل ذلك؟ ثم إلا يرى أن جواز التعدد في الحالتين معناه إباحة التعدد إباحة مقيدة؟

2 -

قال بان الآيات (التي بنى عليها رأيه) نزلت وعند كثير من المسلمين وفي جملتهم النبي عدد من الزوجات، فكان التشريع للمستقبل، ونظمت الحال الواقعة بـ (فلا تميلوا كل الميل. . .) ويفهم من هذا أن النبي وقع في بعض عادات العرب السيئة التي أبطلها الإسلام، والمأثور أن تلك لم يكن.

3 -

الملاحظتان السابقتان من عمل الذهن، أما الملاحظة الثالثة هي الشعورية. . . فكم يصعب على أن أتصور المجتمع الإسلامي من الصدر إلى الآن - في هذه الغفلة العجيبة فيما يتعلق بهذا الموضوع.

كرسيان آخران في المجمع اللغوي:

ص: 35

قرر مجمع فؤاد الأول للغة العربية في جلسة يوم الاثنين شغل الكرسيين الحالبين فيه بعضو عراقي وعضو فلسطيني، وحددت جلسة يوم الاثنين 29 ديسمبر الحالي للترشيح وتحديد جلسة بعد لانتخاب العضوين من بين من يرشحون

وهذان الكرسيان هما الباقيان من الأربعة التي كانت خالية بالمجمع وشغل اثنان منها بانتخاب الأستاذين علي عبد الرزاق والمازني منذ أسبوعين. ومما يذكر أن العضو العراقي سيحل محل الأب انستاس ماري الكرملي الذي توفي في هذا العام، أما فلسطين فلم تكن مثله في المجمع وسيأخذ مندوبها كرسيا كلن مشغولا بمصري من الثلاثة المتوفين. ومن الأسماء التي تردد للترشيح عن فلسطين الأديب اللغوي الكبير الأستاذ محمد إسعاف النشاشيي.

المسرح الأوربي بعد الحرب:

تحدت الأستاذ صلاح ذهني بنادي الخريجين المصري يوم الجمعة عن مشاهداته في مسرح أوروبا بعد الحرب، فتناول في حديثه المسرح في إيطاليا، وفي فرنسا، وفي إنجلترا، فقال أن فن الأوبرا الذي عرفت إيطاليا بالتبريز فيه لا يزال على أوضاعه القديمة يحكمه الفتاء والموسيقى ويخضع له التمثيل والاخراج، أما المسرح الاستعراضي فقد اصبح في إيطاليا ميدانا لتناحر المذاهب السياسية، وعلى الأخص الشيوعية والديمقراطية المسيحية، وهو وان كان يعالج المسائل الوطنية والمشاكل القومية إلا انه يلاحظ أن القوة اختفت منه، والمراد بالقوة الدعوة العريضة التي كانت تردد أيام الحرب في العهد الموسلني. وقال الأستاذ أن استخدام المسرح في الوطنيات بإيطاليا الآن يشبه ما كانت تصنعه الفرق الاستعراضية بمصر سنة 1919، وخاصة ما كان يلقى فيها من الأناشيد الحماسية

ثم وازن بين المسرح الإنجليزي والفرنسي من حيث التجديد فقال أن الأول يسير على طبيعة الإنجليزي في المحافظة في المحافظة وعدم الإسراع في استقبال التيارات الجديدة، فتجد المسارح الكبيرة جارية على تقاليدها ولا تكاد ترى الجديد إلا في المسارح الصغيرة، أما في فرنسا فالأمر على خلاف ذلك جريا على طبيعة الفرنسيين في سرعة الاستجابة لدواعي التقدم، ومن أمثلة التقدم في الإخراج الفرنسي، إحدى الروايات القديمة كان البطل

ص: 36

فيها مصورا على انه كاره للإنسانية، فجعله المخرج عصبيا يفسد بإضراب أعصابه أعماله وعلاقاته بالناس، واستعان المخرج في ذلك بعلم النفس وبالضوء إذ يرسل على الشخصية أشعة خاصة تهيج الأعصاب وقال أن عادة الترفيه أيام الحرب قد غلبت على المسرح الفرنسي فمن المشاهد أن يخرج الممثل عن دوره ليأتي بحركات ونكات مضحكة. وقال أن المسارح هناك تتمتع بحرية عجيبة في عرض المبادئ السياسية، والشيوعية هي المتغلبة هناك. أما ما عرفت به فرنسا قبل الحرب من المسارح المجونية المتهتكة فلا يزال كما هو. . ولم تستفد فرنسا من محنتها القاسية التي أوقعها فيها انحلالها الخلقي وانغماسها في الترف واللذات، كما قال بيتان. .

وقال المحاضر أن إنجلترا تشكو الفقر التأليف المسرحي، وان المسارح الناجحة فيها هي المسارح الأمريكية التي غزتها وتغلغلت فيها، حتى انك تجد المسرح الرائج الذي يمثل فيه ممثلون إنجليز إنما تعرض عليه رواية أمريكية، فالسائد هناك هو الفن الأمريكي. وقال انه شاهد في بعض المسارح الصغيرة نوعا غريبا من التجديد، فالمؤلف لا يضع إلا الفصل الأول يصور فيه المشكلة، ثم تستدل الستارة ويؤخذ رأي الجمهور في حل المشكلة، وعلى حس هذا الرأي يعمل المخرج في إظهار المنظر التالي. . وهكذا حتى تنتهي الرواية، وهي لهذا تأخذ وقتا أطول من المعتاد

وختم المحاضر حديثه بأن المسرح يعيش في اوروبا لان هناك جمهورا ممثلا ورواية، أما مصر ففيها ممثل ولكن ليس فيها جمهور ولا رواية.

(العباس)

ص: 37

‌الكتب

رسائل الصاحب بن عباد

(صححها وقدم لها عبد الوهاب عزام بك، وشوقي ضيف)

الصاحب بن عباد من أئمة أدباء القرن الرابع، وهو تلميذ ابن العميد، وكلاهما كان وزيرا في دولة بني بويه. وكانت آثار الصاحب بن عباد مطوية في بطون المخططات حتى نهض الأستاذ العميد وصاحبه، فأخرجاها إلى نور الطباعة، مع العناية بالتصحيح والتحقيق، وتجليه بالتعريف والتقديم. فإذا بالجوهرة الخفية في خزائن الدور، تكشف وتبرز إلى النور، وهذا عزم من الأستاذ عزام مشكور، يحمده له قراء العربية، لان إبراز كنوز الأدب القديم يعد الخطوة الأولى في بناء الحضارة الإسلامية. ولهذه الرسائل قيمة تاريخية، وقيمة أدبية، كما ذكرا في المقدمة، ونستطيع أن نضيف إليها قيمة اجتماعية كذلك. فالباب الأول في البشائر والفتوح؛ والثاني في العهود؛ والثالث في الأمان والأيمان والموافقات والمناشير؛ والرابع في الوصاة بالحجيج والمصالح وأمر الثغور؛ والخامس في الاستعطاف لقلوب أولياء الدعوة والتودد إليهم بمباسطتهم وما يقارب ذلك؛ والسادس في إصلاح ذات البين والدعاء وتهجين العقوق بين ذوي الأرحام؛ والسابع في المدح والتعظيم؛ والثاني في الذم والتهجين؛ والتاسع في التهاني والأجوبة؛ والعاشر في التعازي؛ والحادي عشر في الإخوانيات والملاطفات والمداعبات والثاني عشر في التشكر وما يشاكله؛ والثالث في الإستزارة والتقريع؛ والرابع عشر في التنصل والاسترضاء؛ والخامس عشر في الشفاعات؛ والسادس عشر في توصية العمال بجلب المال وإظهار العفاف وحسن السياسة؛ والسابع عشر في الآداب والمواعظ. الخ.

وقد عرضت فهرس هذه الرسائل لتعلم أنها تتشعب في كل فن وتضرب في كل باب، حتى لتعد صورة صحيحة للعصر الذي كان يعيش فيه صاحب، بل هي مرآة للحياة الاجتماعية وما ينبغي أن يكون عليه أدب السلوك، أو الأخلاق العلمية كما نعبر اليوم. ولهذا كنت احب ألا يقف المدخل الذي دبجته براعة العميد وصاحبه في التقديم عند حد القيمة التاريخية والأدبية للرسائل. وفي الحق أن هذه الدراسة مثال لما ينبغي أن تكون عليه دراسة الأدباء في تحقيق سيرتهم، ونقد أساليبهم، لولا الطمع إذ كنا نشتهي المزيد. ولا تظن أن هذه

ص: 38

الدراسة قصيرة فهي تقع في عشرين صفحة من القطع الكبير.

أبرز صفة في هذه الرسائل، وهي مما يمتاز به صاحب بن عباد أو قل أن شئت أنها سمة العصر كله، التزم السجع وتكلف البديع أو كما انتهى المدخل إلى القول (ونرى من كل ما سبق أن صاحب عنى بطول الجمل وتحليها بالبديع، وخاصة الجناسات والاقتباسات والتشبيهات والاستعارات).

وعندي أن شيوع الزينة اللفظية، والتنميق الخارجي للاساليب، إنما يرجع إلى أن الحضارة الإسلامية وقفت عن الابتكار، وانصرف الناس مع استتاب الملك وغنى الدولة إلى شغل الفراغ بالتأنق والتجميل، ولهذا نجد الحلية والزركشة وزينة تدخل إلى صميم كل فن من الفنون. حلية في الخط والكتابة، وفي النقش والعمارة، وفي الملابس والنسيج، وفي الشعر والنثر كذلك.

وسأل المحققان في دراستهما أنفسهما سؤالا له قيمة عظيمة (أكان للفارسية اثر في كتابة الصاحب، وقد قلنا آنفا انه كان يتقن الفارسية؟)

ويبدو أن عبد الوهاب عزام بك - هو أستاذ الأدبين والعارف باللغة الفارسية - اثر التحوط فقال (وأما أن تركيب الجملة العربية طاوع تأثير الفارسية، أو أن أسلوبا من أساليب العربية يعد محاكاة لأسلوب فارسي، فأمر عويص ينبغي إلا يقدم عليه الباحث المثبت إلا بعد بحث طويل دقيق).

فأنت ترى أن علامة الاستفهام لا تزال موجودة أمام السؤال والطريق مفتوح أمام الباحثين.

وقد وقف طويلا عند قول المحققين (ونحن نجد في الرسائل نزعة واضحة إلى القول بالاعتزال والدعوة إليه). فهذا البحث، واعتنى به الاعتزال والكلام وما يتصل بهما مما تهفو إليه نفسي، وكنت احب أن أجد في الرسائل ما يشبع رغبتي، صحيح أن ياقوت يقول عنه انه كان (مثل أبيه يذهب مذهب الاعتزال). غير أن قول ياقوت يحتاج إلى تأييد من نصوص الصاحب نفسه. والذي اعتمد عليه المحققان في نسبة الاعتزال إليه جاء في الرسالة التاسعة من الباب العاشر (مولاي يتدين بتعديل ربه، ويعرف مواقع اللطف في صنعه، ولا يشك في اقتران الصلاح بفعله). وهما يعتمدان على رسالتين في الباب السابع عشر حيث يقول في الرسالة الثانية إلى أحد شيوخ بعد الكلام (وعلى هذا الذكر فقد كان

ص: 39

هذا البلد من البلاد المستغلة على أهل عدل الله وتوحيد والتصديق بوعد ووعيد. هذا وفي فقهائه وفور وفي الفضل به ظهور. . .) وشهرة المعتزلة بأنهم أهل العدل والتوحيد، والوعد والوعيد، اعظم من شهرتهم بالتعديل والصلاح.

وجاء في الرسالة الثالثة تحت هذا الباب نفسه، يكتب إلى أهل الصيمرة (. . . وصل كتابكم. . . إذ كنتم بحمد الله ومنه، وطوله وفضله، المشتهرين بالذب عن توحيد الله وعدله، وصدقه في وعيده ووعده، وكان بلدكم من بين البلاد كفرة ادهم وشهاب في ليل مظلم، وما في النعم اجل موقعا، واهنا مشرعا من النعمة في القول بالحق والدعاء إليه، والتدين به والبعث عليه، ومهانة من شبه الله بخلقه، فتتابع في جهده، أو وجوده في فعله فشاك في حسن نظره وطوله) وهذا نص آخر اكثر في الاعتزال بيانا، فيه العدل والتوحيد، والصدق في الوعد والوعيد، ونفى التشبيه، وامتناع التجوير.

وهنا نستطيع أن نطمئن إلى ما ذكره عنه ياقوت من انه كان يذهب مذهب الاعتزال. ولكن الدكتور عزام بك والدكتور ضيف لا يطمئنان إلى أن الاعتزال (أكان هذا من عمله هو، أم من عمل الدولة، فقد كان عضد الدولة يذهب - فيما يظهر - إلى الاعتزال).

وبعد فأنا نهنئ المكتبة العربية بهذا الظفر الأدبي، وبهذه الدراسة العميقة الممتعة، ونرجو أن ينهج الذين يخرجون المخطوطات هذا النهج السليم.

احمد فؤاد الاهواني

شجرة الدر

تأليف الأستاذ محمد سعيد العريان

اتجه الأستاذ محمد سعيد العريان منذ زمن إلى القصص التاريخي الذي يجمع إلى عرض التاريخ وتحقيق حوادثه المتعة الفنية الأدبية، وقد عنى بتاريخ مصر في العصور الإسلامية، يجول في نواحيه بمصباح المؤرخ، ويسرح بين وقائمة بخيال القاص الأديب. وأول عمل له في هذا الحقل قصة (قطر الندى) ثم اخرج بعدها (على باب زويلة) وفي شهر نوفمبر الماضي أخرجت له دار المعارف قصة (شجرة الدر) في سلسلتها الشهرية (اقرأ).

ص: 40

تقع حوادث هذه القصة في نحو ربع قرن من الزمان، يقع فيها أواخر العصر الأيوبي وأوائل عصر المماليك البحرية، تبدأ في حصن كيفا الذي اتخذه الأمير نجم الدين أيوب قاعدة لإمارته في المشرق حيث ظفر هناك بالجارية الغيرة الحسناء (شجرة الدر) التي ولدت له فيما بعد وأصبحت زوجته، وتنتقل حوادث القصة إلى الغرب مع ركب الأميرة نحو مصر، بعد أن بلغة نعي أبيه الملك الكامل، وقد عول على أن ينتزع العرش من أخيه للعادل الذي كان أبوهما قد ولاه العهد، فيم له ذلك بعد وقائع مخاطر في الطريق كانت شجرة الدر عنونا له على اجتيازها والتغلب عليها ويصبح الأمر في مصر للملك الصالح نجم الدين أيوب، وإلى جانبه زوجته شجرة الدر تعاونه بسديد رأيها ومحكم تدبيرها. حتى يغزو الصليبيون مصر بقيادة لويس التاسع ملك فرنسا، فينزلون إلى دمياط ويهزمون الحامية، ويقصدون إلى المنصورة التي اتخذها الملك الصالح قاعدة له في ذلك الوقت، وتتجمع القوى المصرية فتفتك بالصليبين فتكا ذريعا، ويؤسر لويس التاسع، ثم يضطر المعتدون إلى إغلاء فدية ملكهم ويخرج من تبق منهم إلى بلادهم مدحورين. وفي أثناء ذلك يموت الملك الصالح وتخفى شجرة الدر أمر موته حتى يحضر ولده الأمير توران شاه من المشرق فيأخذ مكان أبيه، ثم يقتله أمراء الجيش من المماليك الذين كان يستعين بهم الملك الصالح في حروبه، وقد ابلوا في القتال الصليبين وهزيمتهم. فتتولى الملك شجرة الدر ثم تتزوج أحد أمراء المماليك (أيبك الجاشنكير) وتخلع نفسها وتوليه، ثم تقتله، وتمتع في برجها بالقلعة في حماية مماليكها حتى تموت.

ساق الأستاذ العريان تفاصيل هذه الحوادث في قالب من الخيال القصصي الممتع، وتسير معه وهو ينسفق أشتاتاً من الأحداث ويصور فنونا وألوانا من نوازع النفوس فتشعر بأنك تعيش في جوها وتعاشر أناسها، كان الكاتب سحرك فنقلك معه إلى حيث يضطرب ياله. . . وقد بلغ الغاية في ذلك عندما هجم الصليبيون على قصر الملك الصالح بالمنصورة، وتصدى لهم فرقة الحرس برياسة الأمير بيبرس، وكانت شجرة الدر ترقب المعركة من النافذة وقد أهابت بفتاة من وصيفاتها يحبها بيبرس لتهتف به وتسمعه صوتها، فتهتف الفتاة:(بيبرس! هذا يومك يا بيبرس!) فيرفع إليها عينه، ويجول بسيفه في الرقاب يقد الضلوع ويشق المرائر ويطيح الهام ويجندل الأبطال، ويقضي هو وجنوده على جيش العدو، فلا

ص: 41

يبقى منه إلا الفارون.

وهدف القصة الأول تحليل شخصية شجرة الدر وما وصل المؤلفة إلى أواخر القصة حتى وجه كل همه إلى هذا الغرض، فصور نوازع هذه المرأة الطموح وهي تحرص على المجد والسلطان وصور طبيعتها الأنثوية في معاملة الزوج وفي غيرتها وانتقامها - أدق تصوير.

ومن المفهوم أن المؤلف في هذا اللون من القصص التاريخي يحافظ على الحقائق التاريخية التي يلبسها ما ينسج من أثواب الخيال ولهذا وقفت عندما أتى الأستاذ سعيد بخبر مجيء توران شاه إلى مصر والمناداة به سلطانا عليها بعد أن انتهى أمر الصليبين، كان توران شاه لم يشترك في قتالهم، وقفت عند هذا، لأني اعلم مما اطلعت عليه من كتب التاريخ أن توران شاه حضر وقت اشتباك الحرب وكان له في قتال الأعداء بلاء، وعرض الأستاذ أمر العلاقة بين الأمير نجم الدين وبين شجرة الدر على أنها في أول الأمر جارية مملوكة له، ولما ولدت له ابنه خليلا قال أنها أصبحت زوجته، ومن نظم الأحوال الشخصية في الإسلام أن الجارية أم الولد غير الزوجة، ولم يذكر الأستاذ أن الأمير عقد زواجه عليها، ثم سار في القصة على أنها زوجته.

وثمة شيء قد ارتضاه الأستاذ العريان في حبكة القصة، ولكني أخالفه فيه، وهو ذلك التنجيم، من حيث الحديث عنه وسياقه على أنه محقق الوقوع. ولست أنكر ما كان للتنجيم من شأن وذيوع في تلك العصور، ولكن أرى عند الإتيان به أن تسلط عليه أشعة تكشف أباطيله أو تشكك فيه على الأقل، فلم أكن مع المؤلف في الرأي لما سخر الأقدار في تحقيق كل ما تنبأ به أبو زهرة المنجم بجملته وتفاصيله!

العباس خضر

معاني الفلسفة

(تأليف الدكتور أحمد فؤاد الأهواني)

ما أقدر الله أن يجمع الفلسفة كلها - منذ نشأتها إلى اليوم - في كتاب محدود الصفحات. وذلك عمل يحتاج إلى التركيز والضغط أقل مما يحتاج إلى التفهيم والفهم. فإن ضغط الأسفار الضخام إلى سفر واحد صغير يبدو في ذاته عملاً سهلاً ومركباً هيناً، ولكنه في

ص: 42

الحق يحتاج إلى أدوات من حسن الاستعداد وهضم المادة ومطاوعة التعبير حتى يكون طيعاً للمعاني الموجزة والأفكار المركزة.

وأظن هذه الأدوات قد اجتمعت للدكتور الأهواني فجاء كتابه في معاني الفلسفة على خير ما تجيء عليه كتب الخلاصات العلمية التي كونتها قراءات وأمدتها مطالعات بين القديم والحديث، وبين العربي والإنجليزي والفرنسي.

وقد فرح مؤلف الكتاب لأنه رأى الناس - يعني ناس العرب - يقبلون على الفلسفة، بعد أن ظلوا بعيدين عنها نافرين منها. وهي فرحة الزارع حين يحصد، لأن صديقنا المؤلف اشتغل بتعليم الفلسفة ولا يزال مشتغلاً بها. ولكنه - أثابه الله - ما باله يضيع وقته ويغني عمره في تعليم الفلسفة مع أنه يقرر في الصفحات الأولى من الكتاب أن كل إنسان ما دامت له نظرة في الحياة فهو فيلسوف. وقد يكون هذا الكلام مقبولاً من أديب أو شاعر، أما أن يصدر من مشتغل بالفلسفة ومعلم لها فذلك ما لم أستطع أن أفهمه. وأنا أجد أن أصحاب الصناعات دائماً يحاولون تعميتها على غيرهم ويلبسونها ثوباً من الرهبة المحوطة بالغموض. ولكن الدكتور الأهواني يكشف بضاعته من الفلسفة في غير خفاء. ويهون في أول الكتاب من أمر الفلسفة حتى ليجعل الناس كلهم فلاسفة؛ فإذا مضيت معه في ثنايا الكتاب وجدت الفلسفة على حقيقتها ليست شيئاً كما يحاولون أن تجعلنا نتصور. ووجدت في قوله بفلسفة كل إنسان في الحياة مغالطة في التعبير؛ وأكاد أجزم أنها مغالطة مقصودة في أول الكتاب ليستدرجنا بها إلى آخره. . . ودليل على ذلك أن المؤلف استدرجني أنا إلى قراءة الكتاب لأميز على الأقل بين فلسفتي التي يزعمها في، وبين فلسفة الذين كونوا تلك المذاهب العالية. فأدركت آخر الأمر أنني ككل إنسان عادي. . . لست فيلسوفاً ولا مشتغلاً بالفلسفة. وأدركت أن نظرة كل إنسان إلى الحياة لا تسمى فلسفة، ولا يسمى صاحبها فليسوفاً. وإلا لكان زهير بن أبي سلمى الشاعر الحكيم فيلسوفاً بسبب هذه الحفنة من النظرات التي وضعها في معلقته. أو كان أبو العلاء المعري فيلسوفاً بماله من وجهة نظر خاصة في الحياة.

وقد قسم المؤلف الكلام على الفلسفة متمشياً مع تاريخ العصور، فهو يبدأ من اليونان ثم الرومان ثم المسلمين حتى يصل إلى عصر النهضة الأوربية فالعصر الحديث. وهو تقسيم

ص: 43

كل أكثر منطقاً لو أن المؤلف يؤرخ للفلسفة. ولكنه يشرح لنا معناها؛ فما كان أغناه عن هذا التقسيم الزمني الذي لا تراعى فيه معاني الفلسفة - قرباً وبعداً واختلافاً واتفاقاً - بقدر ما يراعى فيه تتابع العصور. وقد اضطره المنطق الصحيح للأشياء أن يتحدث عن التوفيق بين الفلسفة والدين عند المسلمين وهو يتحدث عن فلسفة الرومان - ص26؛ لأن المقام هنا ليس مقام زمان ولكنه مقام وحدة في الميزان.

ويقول المؤلف ص31 أن صاعدا الأندلسي يذهب إلى أن الفلسفة الإسلامية عربية. وقد حيرني هذا الكلام فإن المؤلف ينقل في الصفحة نفسها عن صاعد الأندلسي قوله: (وأما علم الفلسفة فلم يمنحهم الله - أي العرب - منه شيئاً ولا هيأ طباعهم للعناية به. ولا أعلم أحداً من صميم العرب شهر به إلا أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي). فكيف يتفق استنباط الدكتور مع قول صاعد نفسه؟ ودع عنك أن الرواية الصحيحة لقول صاعد هي. فلم يمنحهم الله عز وجل شيئاً منه - ألا أبا يوسف) ينصب أب بعد الاستثناء. (كتاب طبقات الأمم لصاعد ص70 طبعة السعادة).

ويبقى كتاب معاني الفلسفة بعد هذا معرضاً دقيقاً لماهية الفلسفة ومذاهبها المختلفة من أقدم عصورها إلى اليوم، وهو معرض قدمه الدكتور الأهواني على مائدة ليس فيها ذلك الدسم الذي تتهوع له النفس، ولكنه فيها تلك البلغة التي يتزود بها العجلان.

محمد عبد الغني حسن

ص: 44

‌المسرح والسينما

رواية الناصر

(تأليف الأستاذ عزيز أباضة باشا)

(للأستاذ حبيب الزحلاوي)

ما أكثر النواحي الجذابة في هذه الرواية، بل ما أكثر ما اضطرتنا مشاهدها إلى الالتفات إلى الدقائق التي يخالها البعض من النوافل وما هي في الحقيقة إلى في الصميم.

تجمع رواية الناصر بين بدائع الأدب الرفيع، وروائع الفن الجميل، وجلال الملك ولكل من هذه الخصائص روعة وجلال يهزان المشاعر، ويطمئنان الروح، ويثيران النخوة، وقد فعلت فعلتها في نفس كل من حضر تمثيل هذه الرواية على مسرح الأوبرا.

مؤلف هذه الرواية شاعر مطبوع على الشعر، وفنان موهوب يساير سجيته بدون عنت، ويماشي فنه بفطنة وبساطة، لا يجنح جنوح المتفيهقين في التنقيب على الكلمات المهجورة يحشو بها شعره، ولا يحذو حذو المتعالين من أمثال الشعراء الرمزيين، بل جمع عناصر إحساسه، وحشد شوارد خياله في بوتقة شخصيته الخلاقة، وجعل مشاعره تتأثر لتتفاعل فتتحول إلى حياة عاطفية وذهنية. وقد حتم على نفسه، لأمر خاص، أن يستمد موضوعه من وقائع التاريخ العربي في الأندلس، الحافل بعظائم الأمور، فاستمده، في هذه المرة، من ناحية متواضعة من حياة الناصر في قرطبة.

طبع الأستاذ الفنان عزيز أباظة روايته هذه بطابع خاص، فخرجت تحمل سمات الوضوح، والملاحظة، والإنسانية، والعطف والحب أيضاً، كما خرجت أيضاً تحمل سمة تقرير الفكرة تقريراً مباشراً، بصورة صوراً بديعة للجمال الطبيعي، والوقائع المادية، وخلجات النفس، ولهثات الصدور، ورعشات الأفئدة، وبسمات الفرح مرسومة رسماً أميناً يستمد حسنه المنسجم من النور واللون، والجرس والإيقاع، ومن براعة اختيار الألفاظ المعبرة عن المعاني، وقد صب ذلك كله في قالب حلو كل الحلاوة، مسبوك في بحور عديدة من العروض متناسقة متناسبة شجية الإيقاع والنغمات.

لا يسأل المؤلف الروائي فيما كتب فأخطأ، ولا يناقش في أوضاع أرادها لأبطال روايته،

ص: 45

لأن واجب الناقد هو التعرف على مبلغ الجودة فيما ألف وصنف - وليس للجودة في طبيعة الشعر سوى الذروة السامقة مقاماً - والشاعر أباظة باشا، رسم لنا في روايته هذه بعض مشاهد من أخريات حياة (الناصر) ولمحة من حياة وليده (الحكم) ولي العهد، وعبد الله، أما الحكم فقد كان مفتوناً بحب الجارية (شفق) وهي فتاة إسبانية أسيرة تبناها الناصر وصغى قلبها إلى ولي العهد، ولكنها متحيرة حيرة الوفاء، وحيرة الإنصات إلى الهاتف الداعي إلى واجب الوطن والأهل. وكذلك رسم لنا صورة (لعبد الله) المأتمر بعرش أبيه، وأخرى للسيدة (الزهراء) زوجة الناصر وقد عرفت بالجمال الفاتن والرأي السديد، وصورة ثالثة بالغة غاية الأمانة والصدق لشخص الجاسوسة (منى) وقد تركزت إرادتها في العمل على دك سلطان العرب في الأندلس، واجتثاث حكمهم فيها، وإعادة أهلها إلى الاستظلال بعرشهم المسلوب.

وهكذا دارت الرواية حول هؤلاء الأبطال الذين يضمهم القصر، ويجذبهم العرض، وتتعارض بينهم الأغراب والمآرب، تارة في حوار متصل أو متقطع بين شخصين أثنين أو أكثر من شخصين، وتارة أخرى بنفس طويل صاخب أو رقيق هماس، أو بروح رضية عقلية أو وجدانية.

لاشك عندي في أن المؤلف قد أجاد في جعل شخصيته الخاصة تعيش في المواقف التي تخيلها، وكذلك أجاد مرة أخرى في أنه سما في شعره فجعل الشخصيات البارزة في الرواية تقف الموقف المتخيل في ذهنه هو. وإني أقتبس بعض أبيات من مواقف (للحكم) من حبيبته (شفق) ومن موقف لهذه الجاسوسة (منى)، وشذرات مما جاء على لسان الناصر للتدليل على ما ذهبت إليه في وصف شعر الشاعر. الحكم:

يا منية النفس قد أدركته أملاً

رفّعت له النفس أعواماً وأعواماً

أذكيت في القلب وقداً قد سموت به

فكان حباً وتقديساً وإعظاما

لو لم تكون فدتك النفس غانمة

لكنت عتباً أشواقاً وأحلاما

وكنت تسبيحة للروح هامسة

زكت قصيداً وتوقيعاً وأنغاما

شفق:

وأنت أن لم تكن قوام مملكة

لكنت فوق قلوب الغيد قوما

ص: 46

ترنو فتلهبها وجداً، وتسعرها

وقداً، فتهتز آمالاً وآلاما

فلا اللواهث من دقاتها هدأت

ولا الذي ثج من أجراحها التاما

وكنت أرفع ما أزدان الوجود به

وحياً من الخلق الأسمى وإلهاما

وقول في موقف آخر:

بعض الحنان ياشفق

حكم قلبي يا شفق

أكان ذنباً يوم رف

فاصطفاك فعشق؟

وإنه قبلك ما

ذاق الهوى ولا خفق؟

وإنه ضمك في

حياته ثم انصفق؟

لئن جنى فإنه

عذب فوق ما استحق؟

لو استطاع لبكى

ولو أطاق لنطق

ويحيى له إذا اشتكي

لألفه فلم يرق

وإن هفا لنظرة

أو بسمة فلم يذق

يصبح لم يغف فإن

دجى له الليل أرق

حدثني أنك أش

فقت عليه، هل صدق؟

أتسمعين يا شفق

أترحمين يا شفق؟

شفق: أخي!

الحكم:

. . أخوك شفه

وقد جفاك فاحترق

يا نفحة النسمة تش

تف جنى الروض العبق

يا طلعة الفجر إذا

الفجر من السحب انبثق

يا قبلة الطل إذا

الطل على الزهر ائتلق

يا غنوة الليل شدا

ها الليل وهو مغتبق

يا نظرة العتب إذا

العتب استكان ورفق

يا رجفة الشوق إذا

الثغر على الثغر انطبق

يا همسة الرضا الكريم

واللقاء يسترق

ص: 47

لم ينق اللفظ بها

فالتمست عند الحدق

وددت لو يتسع المجال فأقتبس من شعر الشاعر ما ينهض الدليل الذي لا يدحض على أنه استطاع أن يجعل أبطال الرواية يعيشون في المواقف التي تخيلها هو، ولكن ذلك متعسر بسبب الحوار، والحوار جماله في سماعه، وسحره في تراشق المتجاورين بالكلام الممزوج بالانفعالات النفسية التي تتماوج مع الصوت، وترتسم على الوجه، وتبدو في الحركة والإشارة. وبرغم ذلك أجدني ملزماً بنقل قطعة من حوار غير متقطع قام بين الجاسوسة الأسبانية وبين الجارية الأسبانية التي تبناها الناصر وأحبها ولي عهده، وإني أدعو إلى الاستمتاع ببديع الحوار والفاء بين شفتي (شفق) أمينة رزق الممثلة البارعة، والاستهداف لشظايا الضغينة والحقد والانتقام تقذفها من جوارحها (منى) فردوس حسن، الممثلة الممتازة البارعة.

منى:

أمة أنت في الذؤابة منها

ذاقت الذل بعد عز رفيع

في بلاد ديست وشعب تردى

في قرار من الهوان وضيع

هتك الغاصبون من كل علج

مسلم. . . ستر مجدها الممنوع

أو سعونا مذلة يا أبنة العم

فعشنا نلتذ طعم الخضوع

كالأرقاء والعبيد يرون البغى

حقاً للسيد المتبوع

يا ابنة العم.

شفق:

فاصمتي لاتهيجي

حزة النفس بعد طول هجوعي

أنا بنت الخليفة السمح أفد

يه بنفسي وعترتي وجموعي

الوفاء الكريم يعمر قلبي

والوداد القيم ملء ضلوعي

منى:

أوفاء لمن رماك فاصم

اك فاجلاك عن حماك المريع

لم يغفل المؤلف الشاعر عن تصوير الملك وجلالة الملوك، ولم يتورط في رسم سجايا غير سجاياهم وخلائق ليست خلائقهم، بل أطلق ريشة رسام (سياني) تستوي عنده الفوضى

ص: 48

والنظام ولكنه ينحرف عن جادة الحق والصدق فقال مرة بلسان (شفق) العاشقة الحيري (غرام الملوك وشيك الزوال قصير المدى) فيردها عاشقها إلى الحق فيقول لها.

ظلمت الملوك ولم تنصفي

فإن الملوك ملوك الهوى

عرفنا الهوى مهجاً تلتقي

عطاشاً وأفئدة تكتوي

ويقول مرة بلسان الناصر:

قد خبرنا فلم نجد لصلاح

الأمر إلا النهوض بالأمر فردا

ويقول أيضاً:

بنينا على هام الجزيرة دولة=تأشب في أعطافها العلم والمجد

فلما استقرت واستطالت ترادفت

عليها من الأهل الخيانة والحقد

ويقول أيضاً:

أيرضى المعز الأمر يخرج من يدي

ليخلفنا الأفرج في ملكنا قسرا

إذا ما تنازعنا شعوباً وقادة

ومنا رسول الله ذقنا الردى طرا

وإن لم نجاهد جبهة عربية

موحدة كنا لأعدائنا جزرا

ويقول:

ويحسبنا الناس أو في الدنى

نعيماً وأسعد قطانها

لقد جهلوا أن أشفى الرؤو

س رؤوس تنوء بتيحانها

وأخيراً يقول:

إلى ذروة المجد سر بالجيوش

محوطاً بمأثور إيمانها

حياة الملوك ومجد الملوك

لأوطانها وبأوطانها

هل استوفى المؤلف غايته من وضع هذه الرواية على النحو الذي وضعها فيه، أو إنه أراد شيئاً آخر فخانه للقلم ولم يسعفه التوفيق فجنحت سفينته عن غير قصد إلى الشاطئ الآخر؟

هذا سؤال لا أطلب جوابه، ولكني أبيح لنفسي القول، أن رواية الناصر في وضعها الحالي، إنما هي رواية أندلسية، وأن الجانب العربي فيها ليس بالجانب المفضل بدليل أن عناصر القوة تجمعت في الشخصيات الأندلسية، وإن عنصر الضعف تمثل في الخليفة العربي الشيخ الفاني، وفي ولي عهده الشاب المتيم المفتون، وفي ولده الثاني الخائن المؤتمر بعرش

ص: 49

والده، وفي كبير الوزراء والخصى الضالعين معه، ولم يسلم من الضعف من الشخصيات العربية سوى (الزهراء) زوج الناصر، هذا ما شجعني على القول أن طابع الرواية أندلسي موشي بالذهب العربي، وهذا ما يجعلني أزعم أن الطابع الأندلسي هو الذي أزكى حدس النظارة فجعلهم يستشعرون بفطرتهم أن الزاوية ليست روايتهم، ولعل مرد ذلك إلى الشعور العربي السائد بيننا اليوم.

ليس يعني هذا أن الرواية لم تلق نجاحاً عظيماً، بل أعني أن عنصر النقد عند المؤلف البارع لم يكن حاد اليقظة، ولكني أقول بعقيدة وصدق أن الأستاذ الشاعر الكبير عزيز باشا أباضة يملك أكثر الخصائص الأدبية والفنية التي تؤهله لأن يكون أول مؤلف للمسرح بل المؤلف الموهوب الوحيد المعروف حتى الآن لمسرحنا العربي المرتجى.

الكلام في فن الأستاذ زكي طليمات مخرج الرواية، إنما هو تحصيل حاصل، وتحصيل الحاصل هذا معناه التعريف بما هو معروف عن هذا الفنان المتتبع الدؤوب الذي لم تنقطع صلته بالمسرح قط، والذي لم يغفل عن التطورات والمستحدثات وعن كل ما يمت إلى فن التمثيل بسبب. ولكن يطيب لي أن أضيف تعريفاً جديداً، وهو أن للمؤلف المسرحي يدا مغناطيسية تجذب الأستاذ طليمات تارة إلى فوق، وعندها تتبدى مواهبه، وتشرق معلوماته المدخرة، وتتفتق ابتكاراته الذاتية؛ وتارة أخرى تجذبه يد المؤلف المسف إلى تحت، وفي الحالتين يكون المسكين أسير الانجذاب.

لقد كانت يد الشاعر عزيز أباظة باشا قوية في جذبها إلى فوق، بل كانت روحه الشاعرية هي التي تغلغلت في مسارب مشاعر الأستاذ طليمات، وقد انتفض كالنسر، وتجرد للإخراج، وأخذ بهدوء يكمل عمل المؤلف، أولاً، بإعطائنا صورة مجسمة للرواية، ثانياً، باشراك خيالنا مع ما أشركه الشاعر في حسنا، ثالثاً، في إدغام الخيال بالحس ليصيرا حياة واقعية عملية تتجسد في أقوال الممثلين وفي حركاتهم وتنقلاتهم وإشاراتهم، لترتفع بعدها إلى عرش الذهن المفكر.

لقد ملأ المخرج بصرنا وسمعنا بالأنوار والمناظر، بالتوجيه والألفات، بالإشارة والإيماءة، بالسرعة والبطء، بالكثير الكثير من الدقائق الفنية التي يعيها ويدركها، وقد لا يعيها ويدركها سوى الإنسان المثقف.

ص: 50

وليس أدل على ذلك من مواقف الممثلة أمينة رزق، وقد كانت ندابة نواحة، غاضت البسمات في صدرها، وشلت أوتار وجهها، وانساحت دموعها فياضة، فقد أعادها الأستاذ طليمات إلى قاعدتها، وخلقها خلقاً جديداً، فاسترد ثغرها ابتسامته الحلوة، وطغت على وجهها صور نفسها، وصارت دموعها تقطر لؤلؤاً على خدين فيهما إشراقة الفرح بالحياة.

أما فردوس حسن فقد انطلقت على سجيتها في تمثيل دورها، ونضت ثوب الصناعة، فبدت كما يراها باريها على اللدد والعنف والانتقام.

لقد تجلت عظمة هذه الممثلة في عنفها وقسوتها، في نظراتها الحادة المشتعلة، في نبرات صوتها الجافية، في بصمات قدميها تطأ المسرح فيئن المسرح تحت قدميها، في كظمها ما غاظها من مواطنتها وقد تنكرت لوطنها وقومها، في استثارة نخوتها، في التوسل إليها والاستنجاد بها، في طعنتها النجلاء وقد أغمدت نصل خنجرها حتى قبضته، في الأنة وقد شفت غليل صدرها بالدم والقتل! لقد سجلت فردوس حسن أعظم موقف في تاريخ حياتها الفنية لأنه دور يوائم ما انفطرت عليه نفسها.

وددت لو أقف حيال بقية الممثلين والممثلات، ولكني لأمر ما. . أتجاوز عن هذا الموقف لأتقدم بتهنئة صادقة للمخرج والممثلات والممثلين، الذين تساندوا وتكاتفوا فبلغوا المكانة التي دعاهم مؤلف الرواية إلى الاستواء عليها بجانب عرشه الفني.

حبيب الزحلاوي

ص: 51

‌البريد الأدبي

الفضاء والعدم أيضاً:

لا يؤاخذني الأستاذ نقولا الحداد بعدم اقتناعي بما جاء في تعليقه الأول

والثاني، عن حتمية وجود الأثير في الفضاء، فإنه لا يخفى على

حضرته أن علم الطبيعة لم تقم قوانينه أو نظرياته على الحتم بل هو

كعلم الكيمياء وسائر الطبيعيات ابن التجارب، فإذا أجريت تجربة في

ناحية من النواحي وتثبتت لها نتيجة تتفق والواقع أقيم على أساسها

القانون ومنه تستخرج النظريات والمعادلات. والفرق بين القانون

والفرض واضح ظاهر.

فالقانون في العلوم الطبيعية تقرير يجمع عدداً من الحقائق تثبتت صحتها من التجارب، إلا أن العقل البشري لا يقنع بالحقائق بل يتساءل دائماً عن السبب، ولذا توضع فروض لتفسير هذه الحقائق، فإن أمكن استنباط كل الحقائق المعروفة من الفروض، ارتقت إلى مرتبة النظرية العلمية.

فإذا كان كل من قرأت لهم العلماء والطبيعيين أثناء دراستي لفم اللاسلكي يقولون أن هذا الأثير مجرد فرض علمي. فهل يجوز بعد هذا أن يقول الأستاذ بحتمية وجوده، وليس في الإمكان قياسه، أو الاستدلال عليه بأسباب علمية ملموسة؟؟ فالدكتور ألبرت اينشتين ينكر نظرية الأثير التي يقدمها الكتاب كمحاولة، لشرح عملية الإرسال في اللاسلكي. واينشتين يستهزئ بالوسط الأثيري المزعوم ويقول أنه كأقصوصة أو رواية أو حيلة مبتكرة لشرح شيء لم يصل العلماء الطبيعيون إلى شرح صحيح له أو الكشف عنه. ثم هو يظن أنها ظاهرة كهرطيسية، وشارل بروتوس ستينمتز يقول:

ليس هناك موجات أثيرية؛ أما موجات اللاسلكي أو الضوء فهي من صفات قوة المجال الكهرطيسي الذي يمتد خلال الفضاء. ثم قال أن الطبعيين ليسوا في حاجة إلى أية فكرة عن الأثير، بل من الواجب عليهم أن يفكروا جدياً في تعريف للموجات الكهرطيسية.

ص: 52

وقال بمثل ذلك في كتابه الذي ترجم أخيراً إلى اللغة العربية وزاد على ذلك الأستاذ عاطف البرقوقي فقال في كتابه (الموج الساحر) من سلسلة اقرأ: لا يميل علماء الطبيعة إلى افتراض الفراغ التام من كل أثر أو وسط؛ لذلك اخترعوا وسطاً لمثل هذه الموجات وسموه أثيراً. فليرجع الأستاذ نقولا إلى هذا وإلى غيره من المراجع التي سأورد أسماءها فيما بعد.

وأكبر الظن أنه ليس لدينا في مصر معامل طبيعية للبحث أو علماء طبيعيون وقفوا أنفسهم على هذا اللون من البحوث العالية الغالية التكاليف - إذا استثنينا أستاذنا العالمي الدكتور مشرفه باشا.

وقبل أن أختم ردي هذا أقول إننا جميعاً نعلم كيف تتدرج النظريات العلمية وأخصها النظرية الذرية منذ أن قال بها الإغريق ودالتون. . حتى وقتنا هذا وما أدخل عليها من تعديلات طبقاً لنتائج التجارب والأبحاث، وتقدم العلم.

فإذا ثبت لدينا اليوم أو غداً بالبرهان والدليل القاطع والتجارب العلمية الصحيحة - لا مجرد الفروض - ما يقال بوجود هذا الأثير فأظن أنه لن يجرؤ كائن على إنكاره، أما البراهين الكلامية فلا يعترف بها علم الطبيعيات.

وإذا كان أستاذنا الفاضل نقولا الحداد قد وقف على تجارب أو أبحاث أو على ما ينشره العلماء الطبيعيون - لا الكلاميون - تثبت أو تقيس أو تبرهن بوجود هذا الأثير فيدلني عليها - مشكوراً - حتى أزداد بذلك علماً.

أحمد محمد حلمي

مؤلف تاريخ الأوزاعي:

نقل المرحوم الأمير شكيب أرسلان في صفحتي 624، 25 من كتابه ترجمة السيد رشيد رضا رحمه الله عن الأستاذ السيد محمد علال الفاسي أنه اطلع في فهرس دار الكتب المصرية على نسبة كتاب (محاسن المساعي في مناقب الأمام ابن عمرو الأوزاعي) بأنه من تأليف الجاحظ الكبير شهاب الدين أحمد ابن حجر العسقلاني المتوفى سنة 852.

وقد شك الأستاذ علال في هذه النسبة وقال للأمير شكيب ما نصه كما في صحيفة 625 من

ص: 53

الكتاب (وقد تعجبت كثيراً من هذه النسبة لأن الكتاب من الوجهة الحديثة ليس في مقام الجاحظ.

وراجعت بعض من ترجم لأبن حجر فلم أر من نسب له كتاباً بهذا الاسم) إلى قال (فلم اطمئن إلى هذه النسبة من حيث كونها تدل على أن الكتاب فرغ منه وفاته بسنتين وهو إذ ذاك قد بلغ غايته في العلم والتحرير وأيا ما مكان فيجب التثبت من هذه النسبة والتحفظ فيها). ولقد كان الأستاذ علال على حق في شكه في نسبة للكتاب للحافظ أحمد ابن حجر.

والصواب أن مؤلف تاريخ الأوزاعي هو أحمد بن زيد. فقد ذكر السخاوي في الضوء اللامع حـ 2 ص 72 في ترجمة أحمد ابن محمد الموصلي الدمشقي الحنبلي المعروف بابن زيد المولود سنة 789 والمتوفى بدمشق سنة 870 أن ابن زيد ألف كتاباً في مناقب الأوزاعي، وهذه عبارته (وأفرد مناقب كل من تميم الداري والأوزاعي في جزء سمي الأول تحفة إلى زيادة تميم الداري، والثاني محاسن المساعي في مناقب أبي عمرو الأوزاعي) ويبقى هنا البحث في سبب نسبة الكتاب لأبن حجر، ويظهر لي والله أعلم أن سبب حصول هذا الخطأ هو تحريف كلمة ابن زيد إلى ابن حجر بأيدي جهلة الناسخين ولا سيما أن ابن زيد اسمه أحمد ولقبه شهاب الدين، وابن حجر كذلك في الاسم واللقب على أن ابن زيد معاصر لابن حجر، وسمع منه في رحلته إلى دمشق.

قال السخاوي حـ 2ص 72 (وسمع على شيخنا ابن حجر) بدمشق).

محمد صبري عابدين

معرض كتب سنة 1947:

قررت الإدارة العامة للثقافة بوزارة المعارف لمناسبة إقامة المهرجان الأدبي والفني في فبراير القادم، تنظيم معرض للكتب الصادرة عام 1947 وقد بدأت إدارة خدمة الشباب (7 شارع سليمان باشا) تتلقى المؤلفات الصادرة في ذلك العام من المؤلفين ودور النشر.

تصحيح:

وقع في مقالي الذي رددت به على الأستاذ أحمد محمد خلف في الرسالة العدد 753 صفحة 1361 بعض أغلاط مطبعية أخفت المعنى المقصود فأدله عليها كي يصححها إذ يقرأ

ص: 54

المقال.

السطر 8 من العمود الأول - الغرض والصواب الفرض. ميكلفن وردت مراراً بتهجئة ميكلهن. ورد في السطر الثالث من أسفل العمود:

لا تتعجبوا من اتفاق - والصواب من إخفاق السطر الأخير من المقال (الأبراقية). وصوابه إلا بمراقبة.

نقولا حداد

ص: 55

‌القصص

السائح والتمثال

بقلم ألدوبلاتسزكي

للأستاذ محمد لطفي جمعة

(تتمة ما نشر في العدد الماضي)

وعندما تنبه من غشيته رأى نفسه يرفل في ثياب جديدة كثياب الكهنة وقد حلق شعره وقلمت أظافره وأحس أنه قد تبدل وقد نسى ماضيه وكأنه يعيش في الهيكل منذ ولدته أمه. وإذ كان يسير في أحد أبهاء الهيكل ساهياً عن ماضيه، لاهياً عن حاضره لمح تمثالاً نصفياً من الحجر الأزرق. يمثل سماوة امرأة، ويقوم على قاعدة صغيرة من المرمر الأبيض، فشعر بهبوط في قوته وأن شيئاً خفياً يجذبه نحو التمثال الأزرق ولم يخطر بباله أنه تمثال إينوبيا، تلك المرأة التي أحبته ونسيها، ولكنها فجأة لاجت سماوتها أمام عينيه فشعر أولاً بأنه نسيها نسياناً مطلقاً. . ثم بدأت عوالم الشعور والأحلام والأفكار المطمورة في أعماق روحه - كما لو كانت في قرارة بحر عميق، تهب وتنهض وتستيقظ وتبعث وتطفر وتقفز وتدور وتشتعل وتحيا من جديد؛ وفي تلك اللحظة مر به الكاهن الذي ناقشه عند وصوله فحياه، ووقف له كمن ينتظر أنه سوف يخاطبه أو يلقي عليه سؤالاً.

وفي الواقع لم يخيب السائح رجاء الكاهن وقال له وهو لا يملك أن يحول نظره عن التمثال وقد استولت عليه رعشة ورجفة مصاحبتين للبعث الذي شعر به في روحه!

- 3 -

أتسمح يا سيدي أن أسأل عن صاحبة هذا التمثال من تكون؟

- فقال الكاهن وهو يبدي عدم الاكتراث: إنه تحفه ثمينة وتكاد تكون مقدسة، لان من صنع مثال لامرأة كان يحبها منذ خمسمائة سنة. . . فهمت السائح ثم استجمع قوته وقال - وما كان اسمها يا سيدي؟ أقصد إلى الفنان والمرأة. .

فسأله الكاهن (وهل يكرثك الأمر إلى حد أنك تود أن تقف على اسم فنان مطمور، وتمثال صغير، مضى عليهما خمسة قرون؟ أن كان اسمهما يهمك فأعلم أن المرأة كانت تدعى

ص: 56

إينوبيا، والمثال فيدور. فدارت الدنيا بالسائح، لأن فيدور كان أسمه هو، وأحس بأن الأرض تميد تحت قدميه، ولكنه تجلد واستنجد بكل ما كان له من قوة إرادة وعزم ليبقى قائماً على عوده. وفي لحظة شعر بأنه لن يقوى على الوقوف فتحامل على قدميه حتى دنا من التمثال وارتكن إليه (فيدور - إينوبيا) وقد رأى الكاهن كل ما جرى له، ولكنه لم يمد له يد المعونة ولم ينطق بكلمة وبقي كمن لا يريد أن يضن على صاحبه بجواب على سؤال، ولن يتعدى هذه الحدود، فلما ظن السائح أنه قد استعاد شيئاً من قوة جسمه وروحه قال:

أيمكن يا سيدي أن يتكرر اسم شخصين بعينهما وجنسهما وهيأتهما وخلقهما في فترتين من الزمن أو فترات عدة؟

فقال الكاهن: لم أفهم سؤالك وإن كنت أوشك أن استشف معنى بعض ما ترمي إليه. تقول إنك إذا كنت أنت فيدور وقد أحببت امرأة أسمها إينوبيا في حياتك هذه وعصرنا هذا فهل يمكن أن يكون قد عاش قبلكما في ماض قريب أو سحيق شخصان مثلكما مخلوقان على شاكلتكما؟ وهل هذان الشخصان هما نفسهما اللذان عاشا في الماضي والحاضر، أم أنهما خلقا على غرار السابقين لهما؟ أن لم يكن إدراكي قد اقترف جناية الخيانة العظمى فلا بد أن يكون هذا محور سؤالك أو نحوه.

فخارت قوى فيدور لحداثة عهده بقوة الروح التي توحي مثل هذا الكلام وذلك العلم الكشاف. وقال: نعم نعم هذا سؤالي بعينيه. فابتسم الكاهن وقال: أن هذا الذي تخيلته من أبسط الأشياء. إنه الحقيقة بعينها، وإنها لا تدعو إلى الحيرة التي تبدو عليك. . ثم قال له: أدن من التمثال وألمسه.

فقال السائح: لن أجسر على لمسه. إنه في نظري أقدس من أن يمس. فقال الكاهن: لم يدر بخلدي أن شاعراً متحرراً مثلك يعيش في هذا القرن العشرين تستهويه تحفة مصنوعة منذ خمس مائة عام. على أن الجمال ليس مطلقاً ولا تاماً ولا قريباً من الكمال فإن الأذنين أدق من الآذان الأنثوية وفي الأنف شذوذ لا يجعل صاحبته ذات فتنة.

فقال السائح سامحني يا سيدي الكاهن إذا لم أوفق إلى رضائك بقبول نقدك فإنك لا تعلم ما أعلم ولا تشعر بما أشعر. فأدار الكاهن وجهه ليخفي ضحكة غامضة. واستمر فيدور في حديثه فقال: إنه ليس شبهاً، ولكنه صورة طبق الأصل، ولعله أكثر من هذا بعد الذي قلته

ص: 57

لي فهو نوع من استعادة الحياة نفسها في هذا الحجر الأزرق وذاك المرمر المسنون. بالله عليك يا سيدي الكاهن خبرني كيف استطاع مثّال عاش في القرن الخامس عشر أن يتخيل ثم ينحت في الحجر الصلد الأزرق هاتين الأذنين الدقيقتين وأن يجعلهما جميلتين مرهفتين كما رأيتهما وشعرت بجمالهما؟ فقال الكاهن: تقول أنه تخيل ثم نحت؟ على رسلك يا سيدي، إنه لم يتخيل ولكنه رأى وأحب وتعذب. فقال فيدور: رأى الأذنين الجميلتين المرهفتين كما رأيتهما وعرفتهما وشعرت بجمالهما. . .

فقال الكاهن وهو يبتسم ابتسامة غامضة ماكرة: وهل تمكن ذلك المثال الحاذق أن يكسب العينين شيئاً من الشبه يقربهما إلى ذاكرتك كما صنع بالأذنين؟

قال السائح: العينان تكادان تشعان بنورهما الإنساني وهذه الجبهة العالية المشرقة التي خلعت على صاحبتها جمالاً ونبلاً، ثم هذا الأنف الشاذ الذي كانت إينوبيا تزعم أنها عثرت وهي طفلة تجري وتمرح فأصابها جرح جعل أنفها كما هو.

فقال الكاهن: عجباً عجبا! أراك تتذكر كل شيء عن تلك التي أحبتك وهجرتها، بل فررت منها، ومن العالم الذي يحتويها.

فقال السائح: الآن لا أفر منها وقد جمعتني بها المقادير.

الكاهن: ولو كانت صخرة صماء لا تنطق كهذه؟

السائح: لا تنطق؟ أن فمها بشفتيه الرقيقتين يكاد يناديني!! بربك قلي بأية معجزة تخلق أمرأتان بهذا الشبه المحير، وتعيشان في زمانين مختلفين، وهل تظن أن تلك المرأة التي نقل عنها ذلك المثال البائد، كانت تشبه إينوبيا كل المشابهة.

فتهجم وجه الكاهن وقال: لا تقل المثال البائد، فإننا في عالم لا تبيد فيه ذرة فكيف تبيد فيه الأرواح والإيرادات؟ وأظن أن المشابهة لم تكن مقصورة على الوجه بل كانت شاملة للخلق والروح. لا شك عندي في ذلك يا سيدي!

وعندما سمع السائح هذه الكلمات أسف على ما كان منه نحو تلك التي أحبته وشعر أن إينوبيا كانت ملكاً أرسل إليه لإنقاذه في صورة خفية، ونظر إلى الكاهن قائلاً.

وهل استعادة الماضي مستحيلة؟

ولماذا تريد أن تستعيد الماضي الذي خلصت منه؟

ص: 58

- لقد كنت خادعاً مخدوعاً، فإنه لا يستطيع أحد أن يخلص من ماضيه، ولا أن يعيش بدونه مهما كان محفوفاً بمكاره الذكريات. إني جهدي أن استجمع صورتها الكاملة فلا أقدر على ذلك.

فقال الكاهن: ليس هناك ماض ولا حاضر ولا مستقبل. الزمان واحد والمكان واحد. وليس الماضي آنية ثمينة تحطمت فتنحني ثم تركع لتجمع شذراتها المتناثرة لتعيد إليها الحياة بالرتق والترقيع كالثوب القديم. أن الحياة وحدة منسجمة لا تتجزأ أو تتمزق أو تتغير ألوانها. وسار الكاهن في طريقه فما كان أشد فرح السائح عندما ظفر بهذا الروح الجديد ينبعث إلى قلبه وعقله! ورأى في أول الأمر أن يتشبث بالتمثال فاستمسك به حيناً، ثم استغنى عنه لأنه وجد التطهير في قلبه، وعلم أن تلك التي أهمل شأنها كانت هي التي أنقذته من الخبث والحقد والحسد ومحاولة التحديق في وجه خالقه، وهي التي قادت قدميه في غفلة من إرادته، ويقظة من روحه، إلى هيكل نيبوس إله النور. إذا كانت إينوبيا وفيدور قد عاشا وتألما وتمتعا في حياة سابقة على الحاضر بخمسمائة عام خلت، فهذا هو الخلود نفسه، وهذا هو الدوام الذي لا فناء بعده. لقد قصد إلى الهيكل هارباً من الدنيا لما راعه ما بها من فساد وهاله ما فيها من تهتك، وأدهشه ما رضيه أكثر أهلها من إباحة، فماذا يصنع وهو لا يملك أن يطهر الدنيا ولا سيما مدينته مما عراها، ولا يقدر على أن ينفي أهل الخلاعة والخيانة والغدر من أوطانهم؟ وعندما بلغ تلك النقطة من التفكير سمع صوتاً من نفسه يناديه:

فيدور! أيها الهارب! طهر نفسك أولاً، فإذا بلغت هذه الغاية فقد صرت قادراً على تطهير الآخرين.

محمد لطفي جمعه المحامي

ص: 59