الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 756
- بتاريخ: 29 - 12 - 1947
حسن، مرقص، كوهين
خرج الثلاثة من مسرح رتز، ثم جلسوا في قهوة من قهوات عماد الدين يعقدون صفقة من صفقات الربا الفاحش، يطلبها حسن، ويطبخها مرقص، ويقدمها كوهين. فلما اتفقوا وذهب حسن يشتري كمبيالة مطبوعة من مكان قريب، اقبل مرقص السمسار على كوهين المرابي يسأله في خبث:
مرقص: أتدري لماذا يقترض حسن منك هذه الخمسمائة جنيه ليؤديها إليك بعد عام ستمائة وليس مأزوماً ولا محروماً ولا صاحب مشروع؟
كوهين: وما فائدتي في أن أدري؟ إن غاية ما يعنيني من شؤون زبوني أن أعرف مقدار الفائدة وميعاد الدفع. أما غير ذلك فهو لا يملأ كيساً ولا يعمر خزانة!
م - ربما يعنيك في هذه المرة أن تعرف سبب الاقتراض!
ك - هل يريد حسن أن ينتج بهذا المال بنكاً للصرافة؟ أم هل يريد أن يقرضه زبوناً آخر أقدر بفائدة أخرى أكبر؟
م - لا هذا ولا ذاك
ك - إذن أرحني من الحديث في شيء لا يمر ولا يحلى.
م - وإذا كان يريد أن يتبرع بهذا القرض لفلسطين العربية؟
ك - يا رحمة الرب! ويا لقسوة القدر! ويا لرجم إسرائيل! أنا؟ أنا أعين على قومي بمالي؟!. . . ونظر فرأى حسناً مقبلاً وفي يده الكمبيالة، فكظم على جرته، وبسط ما تغضن من جبهته، ثم قال لحسن وهو يمد يده إليه بالكمبيالة ليملأها:
لقد بدا لي يا حسن بك أن أؤجل عقد الصفقة إلى موعد آخر! ذلك أدنى أن تنظر في أمرك أو أنظر في أمري؛ فربما وجدت لك دائماً أسهل، ووجدت لي مديناً أفضل!
فقال له حسن ومخايل الدهش والعجب والامتعاض تختلط على وجهه:
ح - ولكنك درست المسألة منذ أيام وانتهيت إلى أنفي وفي ملئ. . . فما عدا مما بدا؟
فبادر مرقص إلى الجواب وفي عينيه نظرة توحي، وعلى شفتيه بسمة تغري:
م - بلغه على ما يظهر أنك تقترض لتساعد عرب فلسطين!
ح - وماذا في هذا؟ أليس كوهين مصرياً مثلي ومثلك، وطنه مصر، وقومه المصريون، وإخوانه العرب، وحاخامه ناحوم الذي قال: يهود مصر مصريون لا صهيونيون!
ك - نعم يا سيدي! أنا كوهين بن بنيامين، وطني الأرض الموعودة، وقومي اليهود، وإخواني الصهيونيون، وحاخامي الحق هو الذي يتلو علي كل صباح قول الرب في سفر التكوين:(في ذلك اليوم قطع الرب مع إبرام ميثاقاً قائلاً: لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات)؛ وإذا كان لك فلسطين المسجد الأقصى، ولمرقص مهد المسيح، فإن لي فيها وعد إبراهيم ونسكه، وهيكل سليمان وملكه! ومن قال لك غير هذا من اليهود فقد اتقاك، والتقية من وصايا الدين والسياسة!
ح - لسنا ندافع عن فلسطين لأن فيها المسجد الأقصى والقريب الأدنى وحسب، إنما ندافع عنها الآن لأن فيها مع ذلك الخطر الذي تصرح به الآية التي تلوتها أنت من سفر التكوين. . . وكان الطن بك يا كوهين، ومن ثرى مصر هذا الشحم الذي يترجرج عليك، ومن نيل مصر ذلك الذهب الذي يجري في يديك، أن تنهض لمثل ما أنهض له عن سماحة نفس وطيب خاطر. .
لم يستطع ابن يهوذا أن يسمع بقية الحديث، فترك الكمبيالة على المائدة وقام حردان يده إلى مرقص يده إلى مرقص ليصافحه، وعينه إلى حسن ليقول له:
إن الدين والجنس والوطن هي الأقاليم اليهودية، ألفاظها ثلاثة ولكن معناها واحد!
أحمد حسن الزيات
16 - رحلة إلى الهند
للدكتور عبد الوهاب عزام بك
وزير مصر المفوض في المملكة السعودية
شاهجهان وزوجه
السلطان شهاب الدين شاه جهان بن جلال الدين أكبر وخامس الملوك التيموريين في الهند تولى الملك سنة 1037هـ (1628م) ودام له السلطان اثنتين وثلاثين سنة.
ولى والدولة في عنفوانها، قد ذلل له الصعاب، ووطد له السلطان أبوه جلال الدين، وكان كلفاً بتشييد الأبنية الضخمة وتجميلها، فترك أجمل آثار الهند، بل آثار العالم كله.
تزوج الأمير خزم (وهو اسم شاهجهان قبل أن يلي الملك) سيدة من قرابته اسمها أرجمند بانو (أي السيدة الفاضلة) وهي التي لقبت من بعد بلقب (ممتاز محل).
وهذه السيدة بنت الوزير آصف جهان الذي ذكرناه قبلاً، وهو أخو السيدة نورجهان امرأة السلطان جهانكير.
كان زواج الأمير خزم بالسيدة أرجمند بانو سنة 1022هـ قبل أن يرث الملك بخمسة عشر عاماً، وعاشا سعيدين متحابين، بأنس الأمير ثم السلطان بزوجه ويسكن إليها، ويفزع في الملمات إلى رأيها، ودامت صحبتهما ثمانية عشر عاماً.
وسنة 1040هـ لثلاث سنين مضت من ملك شاه جهان، بينما السيدة ممتاز محل مع زوجها في مدينة برهان بور، ولدت للمرة الرابعة عشرة وليدة سميت جواهرآرا، وماتت الأم أثر الوضع.
وقد أرخ أحد الشعراء موتها ببيتين بالفارسية ينتهيان بهذا المصرع (جاي ممتاز محل جنت باد)، (لتكن الجنة مثوى ممتاز محل). وحساب هذا المصرع بالجمل:1040.
صدعت وفاتها قلب زوجها، فولهه الحزن، حتى صدف عن متع الدنيا، وهم بأن يعتزل الملك والناس، ثم صبر حزيناً لا تفارقه ذكرى صاحبته.
بقى جثمان السيدة في برهانيور ستة أشهر، ثم نقل إلى أكرا وأودع موضعاً في حديقة تاج محل المعروفة اليوم، وبعد ستة أشهر أودعت مستقرها الأخير الذي شيد عليه المزار
الرائع المسمى (تاج محل)، وسنذكره بعد.
أراد السلطان أن يشيد لزوجه بناء يضارع مكانتها في قلبه، ويعرب عن حبه ووفائه وحزنه، فتحدى كل من شاد الملوك، وما أبدعت فيه أيدي الصناع، فشاد هذا البناء جميلاً كممتاز محل، عظيماً كحب شاه جهان ووفائه، بل أقام تمثالاً للجمال والحب والوفاء، كما أبدع فيها خيال الشعراء.
دعا المهندسين من أقطار الأرض، فخطوا ما شاءت خبرتهم وقدرتهم، فأختار واحدة من الخطط اتخذ لها نموذجاً من الخشب شيد على مثاله البناء الرائع، وحشر مهرة الصناع من الأقطار، وكان منهم النقاش محمد عيسى أفندي من الروم (تركيا)، ومحمد شريف من سمرقند، وكان لكل منهم ألف روبية في الشهر.
وأشرف على العمارة الأمير عبد الكريم ومكرمت خان، وعملت أيدي البناءين والنحاتين والنقاشين، وقدرة السلطان وثروته في هذا البناء ثمانية عشر عاماً كالحقبة التي أمضتها السيدة في صحبة زوجها، فتم سنة 1057هـ (1647م) هذا التمثال المعجز في بلاغة البناء.
(للكلام صلة)
عبد الوهاب عزام
إياكم والمهادنة
(ما هكذا تورد يا سعد الإبل!)
للأستاذ محمود محمد شاكر
إنما حملت أمانة هذا القلم لأصدع بالحق جهاراً في غير جمجمة ولا إدهان، ولو عرفت أن أعجز عن حمل هذه الأمانة بحقها لقذفت به إلى حيث يذل العزيز ويمتهن الكريم. وقد قصرت نفسي إلى هذا اليوم على مجلة (الرسالة) لأنها ملاذ الأقلام الحرة التي لا تثنيها عن الحق رهبة، ولا تصدها عن البيان مخافة. وقد جاء اليوم الذي لم يعد يحل فيه لامرئ حر أن يكتم قومه شيئاً يعلم أنه الهدى، فمن كتمه في قلبه فقد طوى جوانحه على جذوة من نار جهنم، تعذبه في الدنيا ويلقى بها في الآخرة أشد العذاب. وأنا جندي من جنود هذه العربية، ولو عرفت أني سوف أحمل سيفاً أو سلاحاً أمضى من هذا القلم لكان مكاني اليوم في ساحة الوغى في فلسطين، ولكني نذرت على هذا القلم أن لا يكف عن القتال في سبيل العرب ما استطعت أن أحمله بين أناملي، وما أتيح لي أن أجد مكاناً أقول فيه الحق وأدعو إليه، لا ينهاني عن الصراحة فيه شيء مما ينتهي الناس أو يخدعهم أو يغرر بهم أو يغريهم بباطل من باطل هذه الحياة.
والأمر بيننا وبين يهود سافر كإشراق الصباح لا يغطيه شيء، ولا تعمى عن جلائه عين، فهو الحرب الضارية التي لا ترحم. فمن شك في هذا فإنما يشك عن دخل وفساد لا عن يقين خطأ يتلمس فيه العذر. والحرب معنى معروف للبشر منذ كانوا على هذه الأرض، ولها أساليب لا يجهلها خبير بها ولا غير خبير، ومن جهل هذه الأساليب أو تجاهلها أو دعا قومه إلى اطراحها والإغماض عنها فإنما يدعوهم إلى الهلكة والفناء والخزي وذل العصور والآباد. فكل كلمة تقال منذ اليوم في أمر هذه الحرب فهي إما تحريض على القتال، أو تثبيط عنه. وكل امرئ منا محاسب بما يقول علا شأنه أو سفل، فالحرب لا تعرف شريفاً ليس لسانه بشريف، ولا تتنكر لمغمور يضيء عنه بيانه أو عمله.
وقد قرأت في هذه الأيام الأخيرة وسمعت كلمات لا يرفعها أو يشفع لها أن يكون قائلها فلان أو فلان. فإن قيادة هذه الحرب لن تكون لمن يهادن في الحق الأبلج، أو يجامل في المحنة المهلكة. فمن ذلك أني سمعت الأئمة على منابر المسلمين تذكر الناس بأمر فلسطين وما حل
بها وما يراد فيها، ثم تعقب على ذلك بتذكير الناس بأن في بلادهم مواطنين من يهود - هم كما يقولون - أهل ذمة، لهم ما لأهل الذمة والمعاهدين من الأحكام في ديننا ودين نبينا. وقرأت أيضاً بياناً من (هيئة وادي النيل) أذاعه رئيسها سعادة محمد علي علوية باشا يقول لنا فيه:(إن لكم مواطنين من اليهود في مصر، لهم ما لكم وعليهم ما عليكم. وقد شاعت حولهم شائعات السوء فقيل إنهم يمدون الصهيونية بالمال، وأنهم يضنون بما لهم فلا يساهمون معكم في رد عدوان الباغين. ونحن على يقين من أن إخواننا اليهود في مصر - وهم أصحاب الملايين - سيبذلون من مالهم للعروبة في محنتها كما تبذلون، وسيسارعون إلى تكذيب هذه الشائعات ببذلهم وعطائهم لا بأقوالهم وتصريحاتهم). .
ولست أدري ما الذي يحمل هؤلاء القوم على ركوب هذا المركب في تغطية عيون الناس عن أفاعيل يهود منذ كان لهم على هذه الأرض مكان يسرحون فيه؟ فإذا كانوا يريدون أن لا تقع الفتنة بين يهود مصر وبيننا، فكفاهم أن يذكروا أن العرب والمسلمين منذ كانوا لم يضطهدوا هذا الجنس من خلق الله إلا عقاباً لشيء جنته أيديهم؛ ثم يتركونهم وادعين لا يمسهم شر ولا عنت تحت ظل هذه الدول العربية والإسلامية. وإذا كانوا يريدون أن يفتوا الناس بأن يهود هم أهل ذمة لهم ما لأهل الذمة في أحكام الإسلام، فقد أخطئوا. ولا يستطيع متأول أن يتأول على دين الله أن هؤلاء اليهود أهل ذمة أو معاهدون كما توجب أحكام الإسلام لمن يوصف بهذه الصفة. وكان حسب هؤلاء أن يأمروا الناس بالتطوع للقتال والتبرع بالمال، وأن يصفوا لهم هذه الحرب الملعونة التي تشنها علينا العصبية الصليبية من أوربة وأمريكا، وأن ينفضوا قلوب الناس حتى يبتدروا مراكزهم في صفوف المقاتلين، فإن الحرب كما يقولون جدها جد وهزلها جد. فإذا كان هذا العبث مقبولاً يوماً ما، فإنه اليوم فت في عضد الأمة المسكينة التي أحاطت بها الأمم لتأكلها (أكل الضروس حلت له أكلاؤه). فليقلع هؤلاء الواعظون عن عظة فيها الهلاك لأقوامهم، والذل لأبنائهم، والعبودية لبلادهم.
أما النداء الذي أذاعه علوية باشا فقد أفزع كل حريص على خير أمته وبلاده. وكيف لا يفزع امرؤ يقرأ نداء موجهاً إلى عامة الشعوب العربية ثم شعب مصر خاصة وفيه هذه الثقة المطلقة بأن اليهود براء من كل فادحة تفدح في إخلاصهم للقضية العربية!! وفيه هذا
اليقين الذي لا يتزلزل بأنهم سوف يجودون بأموالهم وأنفسهم في سبيل فلسطين العربية!! ويأتي هذا البيان من رجل معروف الاسم، مشتغل بالقضايا السياسية والوطنية والعربية، ينظر إليه الشباب نظرة التوقير والإجلال لما يقول.
ونحن لا ندري هل وقف على شيء غاب عن الناس جميعاً وعرفه هو، فاستيقن أن ظاهر أمر يهود مصر غير باطنهم، وأنهم إنما يرسلون الأموال إلى الصهيونية ذراً للرماد في عيون الناس، وأنهم يتولون تهريب الأسلحة إلى الصهيونية رحمة بالعرب ودفاعاً عن قضيتهم، وأنهم يجمعون الشبان اليهود ليبثوا فيهم الدعوة إلى الهجرة إلى أرض الميعاد، ليدخلوا فلسطين ويكونوا عوناً للعرب على إخوانهم من اليهود الصهيونيين!!
حسبكم أيها السادة القدماء! لئن ظننتم أنكم بأمثال هذه الكلام تستطيعون أن تلينوا الصخر من قلوب يهود مصر حتى ينحازوا إليكم، ويكونوا لكم أعواناً على أبناء جلدتهم، فقد خاب ظنكم وخاض بكم الأباطيل المركومة. إنه ما من يهودي على ظهر هذه البسيطة إلا وهو صهيوني متعصب يخفي تحت ذلته ومسكنته غوائل الغدر والفتك. إن يهود العالم على قلب رجل واحد: يريدون أن يلتهموا هذا الشرق العربي كله، ويكونوا سادته وكبراءه والحاكمين بأمرهم في كل ثنية من ثنايا أرضه. لا نقول لكم اقرءوا كتب الصهيونية لتعلموا، بل اقرءوا كتابهم الذي يدينون به، واسترقوا السمع فيما يجري على ألسنتهم وهم يتخافتون بينهم، وادخلوا بيعهم، وانظروا في وجوههم، وتفرسوا في سمتهم وشمائلهم وحركاتهم، فيومئذ تعلمون أن تحت هذه الصفحة البريئة المتلألئة أخطبوطاً سفاحاً قد قتله الظمأ إلى دمائكم ولوعه الشوق إلى فرائس أموالكم وبلادكم. وليس بسياسي من لم يعرف عدوه معرفته بنفسه التي بين جنبيه. وليس بسياسي من كتم هذه المعرفة عن قومه في ساعة القتال والحرب. ولا تظنوا أن يهود تنخدع لكم عن أنفسها حتى تنالوا منها شيئاً تعلم أنه خذلان لدينها وعقائدها وأهوائها ومطامعها منذ كان لهم في هذه الأرض مجال يتحركون فيه.
إن الذين نشروا هذا النداء إنما يخادعون أنفسهم وأهليهم عن حقائق ما يجري على أعينهم وبمنظر منهم ومسمع؛ وهذه صحف تنشر كل يوم من خبائث يهود في ارض مصر ما يفزع، ونضع أيديكم على الجريمة وهي تنشأ في قلب بلادكم، فكيف يتاح لكم أن توفقوا
بين ثقتكم بغيب مكنون في قلب اليهود، وظاهر يأتيكم من أفعالهم علانية غير مستور أو محجوب؟ نحن لا نريدكم أن تحرضوا الناس على الفتك باليهود، فالعربي أنبل نفساً من أن يفتك ويغدر. بل نريدكم أن تدعوا هذه العظات والسياسات المتعفنة جانباً، وأن تلقوا إلى قومكم بالحقائق مجردة من كل مهادنة أو مراوغة، حتى يعلم شباب العرب أن في قلب بلادهم قوى يخشى أن تغلب عليهم وتنتزع منهم أمرهم، ونفت في محصدات عزائمهم، ولنستولي على الأمد قبل أن نطيق نحن صدقاً أو عدلاً فيما كتب علينا من هذا القتال المر.
أيريد أن يعلم من كتب هذا النداء أشياء قد غابت عنه؟ فليعلم أن يهود مصر يبذلون اليوم آلافاً مؤلفة من الأموال لشراء قطع متجاورات من الأرض في مشارف مصر، يدفعون فيها من المال ثلاثة أضعاف ثمنها أو أكثر. وليعلم هؤلاء أن يهود مصر قد فرغوا منذ عشر سنوات من الاستيلاء على تجارة الجملة كلها في أرض مصر. وليعلم هؤلاء أن هذه الفئة القليلة من يهود قد استطاعت في زمن الحرب أن تتغلغل في نواح من أعمال لم يكن ليهود مصر بها عهد. وما من شيء من هذا كله إلا وهم يأتونه على هدى وبصيرة وتدبير محكم، ناظرين إلى شيء واحد، هو أن الدولة اليهودية سوف تكون في فلسطين، وأنهم يومئذ مطالبون بأشياء يؤدونها لدولتهم، وهي أشياء مفهومة معروفة، الغرض منها أن تخفق راية يهود على هذه البقعة من الأرض ممتدة من شواطئ الفرات إلى ضفاف النيل.
أيها الناس لا تستهينوا بأمر يهود انظروا ماذا كان من أمرهم منذ عشرين سنة، ثم انظروا إلى خبرهم اليوم، من كان يظن أن لليهود شأناً أو خطراً في هذه الدنيا منذ عشرين سنة، إلا من هدى الله؟ ثم انظروا اليوم إلى هذه الفئة القليلة من سكان هذه الأرض كيف استطاعت أن تغلب على عقول الأمم والساسة، وأن تغطي على الحق وهو مشرق كمين للشمس، وأن تدفع أكبر دولة في الأرض وهي أمريكا إلى ارتكاب أبشع جريمة في تاريخ الإنسانية، وأن تشتري بأموالها القلوب والأمم والناس والأفراد. انظروا إلى هذا كله قبل أن تتكلموا، واتقوا غضب الله قبل أن تزل ألسنتكم بالوعظ المهلك لأنفسكم وأهليكم.
ألا تخافون أن تكون هذه القوة المدمرة التي ذكرتموها في ندائكم - قوة أصحاب الملايين - وسيلة لتسلط يهود يوماً ما على ساستكم ورجالكم وحكوماتكم، وأن تكون تهديداً لكم ولأممكم بالمجاعات والاضطرابات الاقتصادية والسياسية، وأن تكون أسلوباً من أساليب تأليب الأمم
عليكم في هذه المحنة حتى تعطوا المقادة ليهود وأنتم صاغرون؟ أيها السادة لا تستهينوا، فمن استهان بعدوه فقد فرط، ومن استهان بعدوه فقد مكنه من مقاتله، ومن استهان بعدوه فقد منحه فرصة للفتك به.
واعلموا أنها الحرب بيننا وبين يهود. والحرب لا تلهو. وهذه الفئات التي تقيم في أوطان العرب من اليهود سوف تكون يوماً ما (طابوراً خامساً)، بل هي اليوم كذلك. واعلموا أن اليهود قد مرنوا على أساليب التجسس وتحسس الأخبار في هذه الحرب، وأنهم كانوا أعواناً للأمم المقاتلة في حرب الأعصاب، وأنهم قوم مردوا على النفاق منذ قديم الآزال، فكيف تأمنون جانبهم، وتطالبون قومكم أن يأمنوا جانبهم؟
ثم أراكم تدعون يهود للتبرع بأموالها في سبيل قضية العرب، بل أن يبذلوا أموالهم لتقاتلوا بها أهلهم وعشيرتهم، فبئس الشيء تطلبون. إن أول ما في هذا الجهل بالطبيعة البشرية، ثم غاية الجهل بطبيعة هذه الفئة من يهود التي ظلت أكثر من ألفي سنة تنطوي على نفسها، وتحافظ على روابطها، وتجعل دينها هو قوميتها ووطنها، لا وطن لها ولا قومية إلا اليهودية صرفاً خالصة لا تشوبها شائبة من محبة وطن له أرض وسماء، إلا أرض الميعاد - إلا فلسطين - إلا أرض إسرائيل من شاطئ الفرات إلى ضفاف النيل.
ثم ألا تخافون أن يتبرع لكم هؤلاء اليهود بآلاف من أموالهم أو أموالنا على الأصح، يخادعونكم بها ثم يهربون إلى قومهم الملايين، يعينون بها عليكم، ويكسبون بها غفلتكم عنهم وعن حركاتهم وأعمالهم ودسائسهم في قلب بلادكم؟
أيها الساسة اطلبوا سياسة أخرى غير هذه تكفيكم شر يهود. إننا لا نريد منهم مالاً، ولا نريد منهم حباً للأوطان التي أظلتهم وحمتهم، ولا نريد منهم رجالاً يقاتلون في صفوفنا، وغن ديننا لينهانا عن أن نقبل منهم شيئاً. اطلبوا أيها الناس سياسة أخرى تضمن لكم أن تعرفوا خبء يهود، وأن تصطنعوا من الأسباب ما يكفل لكم قطع أيديهم وألسنتهم عن التدسس والتجسس والمكيدة والغدر. لا تأمروا الناس بالفتك بهم، بل نحن العرب نحمي الذمار حتى عدونا نحمي ذماره، ولكن دبروا أمركم وسنوا من القوانين ما ينهى يهود الأوطان العربية عن الغدر بهذه الأوطان التي حمتهم وهم مشردون مضطهدون قد مزقهم الناس كل ممزق.
إن العالم العربي اليوم قد استيقظ من غفوة طالت، وهو اليوم لا يسمع للساسة إلا كما
يستمع المقاتل البطل إلى صيحات الجبان المذعور، فليعلم هؤلاء أنه أولى بهم أن يمنحوا الشباب من حكمتهم وتجاربهم وعقلهم ما يهديهم ويقويهم، لا أن يعظوهم بالمواعظ التي تحفر تحت أقدامهم هوة مظلمة بعيدة القعر ليس يسمع في أرجائها إلا هماهم الموت وهو يدب والغاً في دم أو منشباً مخالبه في فريسة. ارحموا الناس وارحموا أنفسكم أيها الرجال.
محمود محمد شاكر
حجج تاريخية
للدكتور جواد علي
يطالب الصهاينة بأرض الميعاد، أو (الأرض الموعودة) وبعنوان ذلك ما جاء في التوراة وعداً (لإبرام)(إبراهيم)(وأعطي لك ولنسلك من بعدك أرض غربتك كل أرض كنعان ملكاً أبدياً وأكون إلههم).
وفي هذه الآية وفي آيات أخرى أن إبراهيم جد العبرانيين الأعلى لم يكن من أرض (كنعان) أو (أرض فلسطين) بل كان من أرض أخرى وأن فلسطين كانت أرض (الكنعانيين) وقال الرب لإبرام اذهب من أرضك ومن عشيرتك ومن بيت لأبيك إلى الأرض التي أريك فأجعلك أمة عظيمة وأباركك وأعظم اسمك وتكون بركة، وأبارك مباركيك، ولاعنك ألعنه وتتبارك فيك جميع قبائل الأرض). وجاء بعد ذلك (وظهر الرب لإبرام وقال لنسلك أعطي هذه الأرض).
وقد خصصت هذه الأرض (أرض كنعان)(بإبراهيم) وبنسله ومن نسله العرب واليهود وفي القرآن الكريم إن إبراهيم هو أبو العرب، والعرب يطالبون بحكم القرآن الكريم بحقهم كذلك في أرض إبراهيم، وقد حددت التوراة الأرض التي أعطاها الله لإبراهيم وذريته على النحو الآتي (في ذلك اليوم قطع الرب مع إبرام ميثاقاً قائلاً لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات).
وجاء في موضع آخر من التوراة (وكان بعد موت موسى عبد الرب أن الرب كلم يشوع بن نون خادم موسى قائلاً موسى عبدي قد مات، فالآن قم أعبر هذا الأردن أنت وكل هذا الشعب إلى الأرض التي أنا معطيها لهم أي لبني إسرائيل، كل موضع تدوسه بطون أقدامكم لكم أعطيته كما كلمت موسى، من البرية ولبنان هذا إلى النهر الكبير نهر الفرات جميع أرض الحيثيين وإلى البحر الكبير نحو مغرب الشمس يكون تخمكم).
وجاء في التوراة كذلك (وشاخ يشوع تقدم في الأيام فقال له الرب أنت قد شخت تقدمت في الأيام، وقد بقيت أرض كثيرة جداً للامتلاك هذه الأرض الباقية: كل دائرة الفلسطينيين وكل الجشورين من الشجور الذي هو إمام مصر إلى تخم عقرون شمالاً تحسب للكنعانيين أقطاب الفلسطينيين الخمسة الغزى والأشدودي والأشقلوني والجني والمقروني والموبين،
من التيمن كل أرض الكنعانيين ومغارة التي للصيدونيين إلى أفيق إلى تخم الأموريين وأرض الجبلين وكل لبنان نحو شروق الشمس من بعل جاد تحت جبل حرمون إلى مدخل حماة، جميع سكان الجبل من لبنان إلى مسرفوت مايم جميع الصيدونيين، أنا اطردهم من أمام بني إسرائيل).
فأرض الميعاد التي تتغنى بها الصهيونية أرض واسعة تشتمل على العراق وسوريا ولبنان وفلسطين وشرق الأردن وكل الأراضي التي لم يتمكن أنبياء وملوك بني إسرائيل من امتلاكها.
والصهيونية تدين بالقومية المتطرفة التي تعلو على قومية (الوطنية النازية) التي حاربها الحلفاء فإنهم ينظرون إلى أنفسهم بنظرية (الجنس المختار) و (الشعب الذي وضعه الله فوق الشعوب، ولذلك فهي تنفر من سائر شعوب الأرض وتنظر إلى نفسها نظرة إعجاب وكبرياء وقد استمدت نظريتها هذه منذ القديم حيث جاء في التوراة (لأنكشعب مقدس للرب إلهك وقد أختارك الرب لكي تكون له شعباً خالصاً فوق جميع الشعوب الذين على وجه الأرض). وتدين بالقوانين التي وضعها (عزرا)(فاعترفوا الآن للرب إله آبائكم واعملوا مرضاته وانفصلوا عن شعوب الأرض وعن النساء الغريبة). تلك القوانين التي غدت نموذجاً لقوانين (نورمبرك).
إن الصهيونية لا تقبل إلا بإحياء الدولة اليهودية المتطرفة، ولا ترضى بفلسطين وحدها، جاء في كتاب (الدولة اليهودية تتحقق)(لهوبرت بولاك) أعلن بوضوح في المؤتمر الصهيوني العشرين وفي مناسبات علنية أخرى أن مشروع تقسيم فلسطين هو أصغر من أن يحل المشكلة اليهودية، ولهذا السبب فإن مثل هذه الدولة لا يمكن أن تتفق مع الأماني اليهودية، ولا مع روحية الصهيونية، ثم إن فلسطين نفسها لا يمكن أن تحل المشكلة اليهودية لأنها أصغر من أن تحل هذه المعضلة، فلابد من ضم شرقي الأردن؛ لأنها في حالة ازدحام فلسطين ازدحاماً تاماً لا يمكن أن تتسع لأكثر من سبعة ملايين نسمة. وفي حالة تقدم الدولة تقدماً كبيراً فسيكون بها حوالي ثلاثة ملايين من العرب، ولذلك فإنه لا يمكن أن تتسع هذه الدولة في مثل هذه الظروف لأكثر من أربعة ملايين يهودي، وإذن لا يمكن أن تتكون دولة يهودية بدون شرقي الأردن).
وبحث عن المشكلة اليهودية فقال (إن هذه المشكلة لا يمكن حلها إلا إذا نزل الشعب اليهودي بأجمعه في أرضه الأصلية كلها، وتحت حماية دولته الوطنية، وفي هذا المعنى فقط تحل المشكلة اليهودية ولهذا الهدف تسمى الحركة الصهيونية).
وقال (هرتزل) مؤسس الحركة الصهيونية في كتابه (الدولة اليهودية)(وفي حالة ما إذا أعطانا جلالة السلطان فلسطين فإننا سنتمكن عندئذ من الإشراف على مالية الإمبراطورية العثمانية، وتكون في متناول يدنا، وسنكون بالنسبة لأوربا سداً منيعاً أمام آسيا؛ وسنكون مركز حماية الثقافة أمام البربرية).
ولما فشل في إقناع الحكومة العثمانية بإعطاء فلسطين للصهاينة وضع مشروعاً سريعاً لغزو فلسطين، وقد نفذت المؤسسات الصهيونية هذا المشروع، ويتلخص في أن يقوم اليهود بإقناع الدول الكبرى بتأييد القضية الصهيونية وبالاعتراف بحق اليهود في تكوين دولة لهم بفلسطين وبتوجيه أنظار اليهود نحو فلسطين وحثهم على الهجرة إليها حتى تتكون فيها جاليات يهودية قوية تتمركز في الأرض المقدسة تشتري الأرض والأملاك إلى أن يكون لليهود عدد كبير في فلسطين فيثور هؤلاء ويطالبون عندئذ بحقهم في تكوين الدولة اليهودية. ومتى تكونت الدولة تطرد الأقليات العربية منها وتصبح الدولة اليهودية حقيقة واقعة).
وقد اتخذت الصهيونية لها شعاراً هو (تقوية المركز اليهودي في فلسطين)
وقد طبقت هذه السياسة فعلاً؛ ولا تزال تطبق هذه الخطة السرية لاحتلال كل الأراضي التي يطلقون عليها (أرض الميعاد).
جواد علي
التاريخ يعيد نفسه بين المسلمين واليهود
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
- 1 -
للتاريخ حكم يجري في الحاضر والمستقبل كما يجري في الماضي فلا يحزن المسلمون إذا رأوا اليهود يجاوزونهم الآن على إحسانهم إساءة، وعلى إنصافهم ظلماً وعدواناً، فقديماً أحسن المسلمون إلى اليهود فأساءوا إليهم، وعرضوا عليهم أن يعيشوا في وطنهم العربي إخواناً لهم، فرفضوا هذا العرض الكريم، وأبوا إلا أن تكون جاهلية يمرحون فيها وينهبون، فكان جزاؤهم للطرد من هذا الوطن، وسيطردون إن شاء الله من وطننا بفلسطين، ويجازيهم الله على بغيهم الجديد، كما جازاهم على بغيهم القديم. ولو تدبر اليهود حكم التاريخ لخففوا من غلوائهم، وخافوا حكم الله والتاريخ فيهم، ولكنهم قوم أعماهم حب النفس، فلا ينظرون إلى المستقبل، ولا تنفع فيهم عظة ولا عبرة، وهذا هو الذي جلب عليهم بغض الشعوب، وأوقعهم في كل ما وقعوا فيه من النكبات.
استولى الروم على بيت المقدس قبيل الميلاد المسيحي، وطردوا اليهود منه، فلجأ فريق منهم إلى بلاد العرب، ونزلوا بجوارهم في يثرب وغيرها من بلادهم، فنزلوا بينهم في أكرم منزل، وعاشوا بينهم في خسير جوار، وكان العرب في جاهليتهم دون اليهود علماً بشئون الحياة، فأستغل اليهود جهلهم، وأخذوا يقرضونهم الأموال بالربا الفاحش، حتى صاروا أغنى أهل الحجاز وامتلكوا أخصب أرضه بيثرب وغيرها.
وقد كان العرب في جاهليتهم يعيشون في حروب دائمة لا تنقطع فشاركوهم اليهود في تلك الحروب، وانغمسوا معهم في تلك الجاهلية الآثمة، واقسموا على أنفسهم فيها، كما أنقسم العرب على أنفسهم فلم يحاولوا أن يقوموا بينهم بصلح، أو يقضوا على شرور تلك الجاهلية، لأنهم لا بهمهم في هذه الدنيا إلا جمع المال، ولا يهمهم شيء من هداية الشعوب إلى ما ينفعهم في دنياهم أو أخراهم.
وكان أهل المدينة من العرب واليهود منقسمين قبل الإسلام إلى قسمين: أولهما عرب الخزرج ومعهم بنو قينقاع وبنو النضير من اليهود، وثانيهما عرب الأوس ومعهم بنو قريظة من اليهود وكان بين الفريقين حروب دائمة لا تنقطع، وكان آخرها حرب بعاث،
وقد وقع قبل الهجرة بخمس سنين.
فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أراد أن يجمع بين أهل هذا الوطن من مسلمين ويهود، وكان العرب من الأوس والخزرج قد اجتمعوا على الإسلام، وبقي اليهود على دينهم فلم يسلموا، فتركهم المسلمون أحراراً في دينهم، ولم يكرهوهم على أن يدينوا بالإسلام مثلهم.
فعقد النبي صلى الله عليه وسلم معاهدة بين المسلمين واليهود، كانت أول معاهدة فرقت بين الدين والوطن منذ الخليقة، وجعلت الدين لله يحاسب عليه يوم الحساب، فمن عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها، وجعلت الوطن لجميع الناس، يستوون في حقوقه على اختلاف أديانهم وأجناسهم، فلا عصبية ولا قومية ولا غيرهما مما يفرق بين الناس في الأرض، ويثير الحروب والعداوات بينهم.
وهذه سنة جديدة في السياسة لم يكن للناس عهد بها قبل الإسلام، جاءت بأصلين عظيمين جديدين في هذه الحياة: حرية الاعتقاد، والمساواة بين الناس في الوطن. فلم يكن قبل الإسلام أصل من هذين الأصلين، بل كان أهل الأديان في حروب دائمة على الدين، وكانت الشعوب في حروب دائمة على استعباد بعضهم لبعض، فأبطل الإسلام الحروب الأولى، ونادى بها صرخة مدوية في الأرض (لا إكراه في الدين) وأبطل الحروب الثانية أيضاً، وجعل هدفه هداية الناس لا استعبادهم.
فلم يسع اليهود إلا أن يوافقوا في الظاهر على هذه المعاهدة الكريمة، حتى لا تظهر نيتهم الخبيثة لأهل هذا الوطن الذي آواهم وأكرمهم، وحتى لا يظهروا بمظهر الكارهين لدينهم، وهو يدعو إلى التوحيد كما يدعون، ويرفض عبادة الأصنام كما يرفضون، ثم أخذوا يكيدون في الباطن لأهل هذا الدين الذين لا ذنب لهم عندهم إلا أنهم نهضوا من جاهليتهم، ورفضوا عبادة الأصنام إلى عبادة الله تعالى، لأن اليهود لا يهمهم شيء من هذا، وإنما يهمهم استغلال من يؤويهم في وطنه، ويرضيهم كل الرضا أن يبقى جاهلاً يعبد الأصنام، إذا كان هذا مما يمكنهم من استغلاله. . .
فأخذ اليهود يعملون على إثارة العداوة القديمة بين الأوس والخزرج، ليتفرق جمعهم، ويتركوا هذا الدين الذي جمع بينهم. ومما عملوه في ذلك أن شاس بن قيس اليهودي مر
على نفر من الأوس والخزرج قد جمعهم مجلس واحد، ترفرف عليهم فيه أعلام المحبة والإخاء، وتظهر عليهم فيه آيات الإخلاص والولاء، فغاظه هذا المظهر الكريم، وقال: قد اجتمع ملأ قيلة بهذه البلاد لا والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملأهم بها من قرار. ثم أمر فتى من اليهود أن يعمد إليهم فيجلس معهم، ويذكر يوم بعاث وما كان قبله من حروبهم، وينشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيها من الأشعار، ففعل الفتى ما أمره به شاس، فتكلم القوم عند ذلك وتنازعوا وتفاخروا، حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب فتقاولا، ثم قال أحدهما لصاحبه. إن شئتم رددناها الآن جذعة. وغضب الفريقان جميعاً، وقالوا: قد فعلنا، موعدكم الظاهرة السلاح السلاح. ثم خرجوا إلى تلك الحرة، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم ما فعلوه، فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين، فلما وصل إليهم قال لهم: يا معشر المسلمين، الله الله، أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم، بعد أن هداكم الله للإسلام وأكرمكم به، وقطع به عنكم أمر الجاهلية، وأستنقذكم به من الكفر، وألف بين قلوبكم؟ فبكى القوم عند سماع هذه الكلمات، وعانق بعضهم بعضا، ورجعوا إلى ألفتهم واتحادهم.
فلما يئس اليهود من التفريق بين المسلمين انقلبوا إلى من بقي على الشرك من أهل المدينة، وكان أكثرهم من المنافقين الذين يخفون الشرك ويظهرون الإسلام، فحالفوهم على المسلمين. ثم أخذوا يؤلبون القبائل العربية على حربهم، وسعوا إلى قريش فحالفوها عليهم، ولم يتورعوا في عداوتهم للإسلام عن تزيين الشرك وعبادة الأصنام لهذه القبائل، وتفضيل هذا على الإسلام الذي يدعو إلى التوحيد كما يدعون، ولم يهمهم أن يخرجوا بهذا على دينهم لأن القومية عندهم أهم من الدين، وأنر الدنيا عندهم أهم من أمر الآخرة، فلا يهمهم أن يبيعوا دينهم في دنياهم، وسعادة الآخرة في سعادة الدنيا، لأنهم الشعب المختار بين الشعوب، ولا قيمة في هذه الدنيا لغيرهم.
وكانت سياسة جهل وغباء من أولئك اليهود، وكانت تدبيرات ظالمة باغية بازاء ما أراده الإسلام من العدل والإنصاف فجازاهم الله على هذا شر جزاء، ونصر حق الإسلام على باطلهم، ورفع ما يدعو إليه من العدل والإخاء والمساواة على ما يدعون إليه من الظلم والعداء والتفريق، فذهب كل ما سوله الجهل لهم في القضاء على الإسلام أدراج الرياح، وفشلت سياستهم الباغية الجاحدة المفرقة، ولم ينفعهم أولئك المنافقون الذين آثروا حلفهم
على حلف المسلمين، ولو كانوا عقلاء لعلموا أن المنافق لا يبقى على حلف، ولا يفي بعهد، ولا يقدر على نصر، لأنه كاذب في دينه ضعيف في نفسه، فلا ينفع ولا يضر، وشر الرجال من يصل إلى هذا العجز، ويكون هذا حاله في الضعف.
لقد أراد يهود المدينة أن تبقى في جاهليتها ليستغلوا أهلها، ورفضوا أن تكون وطناً لهم وللمسلمين، فأبى الله إلا أن تكون وطناً للمسلمين وحدهم، وأن يحرم منها أولئك اليهود الغرباء، فنفوا منها إلى أذرعات وغيرها، وسيعيد التاريخ حكمه فيهم، وسنبين فيما يأتي كيف يكون هذا الحكم.
عبد المتعال الصعيدي
معارضات القرآن
للأستاذ علي العماري
قرأت في بعض المجلات لعالم فاضل تحت هذا العنوان، وقد تحدثت عن ابتداء المعارضات، وإنها كانت من قوم لم يكن ينتظر صدورها منهم، وإن القرشيين - وهم أرباب الفصاحة والبلاغة - لم يحاولوا المعارضة؛ لأنهم خافوا أن يقولوا فيفتضحوا، ولكن بعض المتنبئين تجرأ فعارض القرآن، وذكر الكاتب من هذه المعارضات قول مسيلمة الكذاب: يا ضفدع ابنة ضفدع، نقي ما تنقين، أعلاك في الماء وأسفلك في الطين، لا الشارب تمنعين ولا الماء تكدرين. وقوله: ألم تر كيف فعل ربك بالحبلى، أخرج منها نسمة تسعى، من بين صفاء وغشا. ثم قال فهو في المعارضة الأولى يخاطب الضفدع كأنها مخلوق من تعالى فيريد أن يضع من أمرها، ويحط من شأنها، والضفدع مخلوق ضعيف لا يتعالى ولا يتكبر؛ فخطابه بهذا لا يطابق حاله، ومن شرط البلاغة مطابقة الكلام لمقتضى الحال. وهو في المعارضة الثانية لا يأتي من دقائق القدرة ما يتعالى إدراكه عن البشر كما قال تعالى في القرآن الكريم (فلينظر الإنسان مم خلق، خلق من ماء دافق، يخرج من بين الصلب والترائب).
وقد لفت ذهني في هذا الكلام آمران:
أولاً: إنه يسوق هذه المعارضات سوق القضايا المسلمة، والأمر فيه نظر - كما يقولون -.
ثانياً: إنه يزيف هذه المعارضات مستنداً إلى أمور معنوية دون النظر مطلقاً إلى الأسلوب وتهافته، فهو يرد المعارضة الأولى لأن الخطاب فيها غير مطابق لمقتضى الحال، ويرد الثانية لأن ما جاء فيها ليس من دقائق القدرة، ومع إن الأمر لا تقتصر على الناحية المعنوية بل لعل أظهر ما في هذه المعارضات من ضعف هو ركاكة الأسلوب وسخفه، مع ذلك فإن خطاب الضفدع مطابق لمقتضى الحال، لأن قوله (نقي ما تنقين) معناه ارفعي صوتك ما شئت. فإنك لا تستطيعين وراء هذا التصويت الذي يشعر بالجلبة والضوضاء والعظمة ليس وراءهم ما يمكن أن يكون لهم من أثر من تكدير الماء أو منع الشاربين. . .
هذا، وقد كنت أعتقد من زمن بعيد إن هذه المعارضات وأشباهها من افتعالات الرواة، وتفكهات أصحاب القصص، وأضاحيك السمار في المجالس والمجتمعات، وإن العرب
انقطعوا عن المعارضات حقها وباطلها، ولم أكن أعتقد أن مسيلمة أو غيره من أعراب البادية ينزل إلى هذا المستوى، ويمخرق على قومه وهم فصحاء بلغاء بهذا الهراء، وكنت وما زلت أحفظ قول الجاحظ عن انقطاع العرب عن المعارضة:(ولم يرم ذلك خطيب ولا طمع فيه شاعر، فلو طمع فيه لتكلفه، ولو تكلفه لظهر ذلك، ولو ظهر لوجد من يستجيده، ويحامي عليه، ويكابر فيه ويزعم أنه قد عارض وقارب وناقض) وهذا - ولا شك - نص وثيق صريح في إن شيئاً من هذه المعارضات لم يكن وصل إلى علم الجاحظ، وهو ما هو، فإذا أضفنا إلى ذلك أن كل هذه المعارضات من التهافت وضعف التأليف بحيث يستحيل صدورها من عربي بله عربي يقول فيه المرحوم مصطفى صادق الرافعي إنه أفصح من المتنبي، وذلك حيث يقول في كتابه إعجاز القرآن (وما المتنبي بأفصح عربية من العنس ولا مسيلمة) على إن مما روي للمتنبي مما قالوا إنه عارض به القرآن أقول من هذا ما يشبه أن يكون كلاماً مثل قوله (والنجم السيار، والفلك الدوار، والليل والنهار، إن الكافر لفي إخطار، امضي على سننك، وأقف أثر من كان قبلك من المرسلين، فإن الله قامع بك زيغ من ألحد في دينه، وضل عن سبيله) فأين من هذا ما يلصقونه بمسيلمة؟
وفي محفوظي مما لست أستطيع أن أحققه الآن ببعدي عن كتبي، إن مسيلمة طلب منه قومه أن يأتيهم بقرآن فقال هذا ما لا ينطق به لسان من عضل.
على أن الذي أثار دهشتي - ومن أجله كتبت هذه الكلمة - إن الرافعي عليه الرحمات، قد ساق هذه المعارضات سوق المسلمات وأخذ يشقق القول فيها ويصرفه، وجعل يعلل ضعفها وتهافتها، وذكر منها قول مسيلمة:(والمبذرات زرعاً، والحاصدات حصداً، والذاريات قمحاً، والطاحنات طحناً، والعاجنات عجناً، والخابزات خبزاً، والثاردات ثرداً، وااللاقمات لقماً، اهالة وسمناً، لقد فضلتم على أهل الوبر، وما سبقكم أهل المدر، ريفكم فامنعوه، والمعتر فآووه، والباغي فناوئوه) وقوله (والشاء وألوانها، وأعجبها السود وألبانها، والشاة السوداء، واللبن الأبيض، إنه لعجب محض، وقد حرم المذق، فما لكم لا تمجعون) وقوله (الفيل ما الفيل، له ذنب وبيل، وخرطوم طويل) ثم قال الرافعي وما كان الرجل من السخف بحيث ترى، ولا من الجهل بمعاني الكلام، وسوء البصر به بمواضعهن ولكن لذلك سبباً نحن ذاكروه وأقول أن هذا هو الحق، وأن لنا أن نتخذ هذا القول نفسه عماداً نتكئ عليه في
أفكارنا أن يصدر مثل هذا عن مسيلمة، فالمعارضة الأولى يلاحظ فيها الاستقصاء الذي لا يعرفه إلا أهل الصناعة من محترفي الكتابة، أما العربي الأول فما أظن أنه يبلغ به التتبع والاستقصاء إلى حد أن يبتدأ ببذر الزرع وينتهي بلقم الثريد، وما بقي عليه بعد ذلك إلا أن يختم عبثه بالخاتمة الطبعية لهذا الترتيب! ولا شك عندي إن هذه المعارضة دليل واضح في ذاتها على إنها من وضع فكه متطرف سخف فأجاد السخف، وليس فيها تقليد للقرآن - كما يقول الرافعي في سبب ضعفها - فإن القرآن لم يكن يسترسل هكذا في معنى واحد حتى يصل به إلى غايته، والمعارضة الثانية فيها تكرار من غير مناسبة، والكلمة الأخيرة أشبه بأن تكون موضع الفكاهة في السورة!!، وأنا لا أدري لماذا يعمد مسيلمة إلى وصف الفيل هذا الوصف الساذج، وهو ليس من الحيوانات المألوفة عند العرب، ولماذا أختار الضفدع وهو حيوان حقير صغير، وهو بعد ليس مما يشغل ذهن العربي؟ ويبدو لي إن الرافعي انساق في تيار الجاحظ فقد جاء في كتابه الحيوان عند الكلام عن الضفدع قوله: ولا أدري ما هيج مسيلمة على ذكرها، ولم ساء رأيه فيها، حتى جعل بزعمه فيما نزل عليه من قرآنه: يا ضفدع بنت ضفدعين. . . إلخ ولكني أظن إن الجاحظ لم يقصد غير السخرية، وإنه يعلم إن ذلك من موضوعات الظرفاء فجاراهم، فأنا إذا وضعنا هذا القول بجانب قوله الذي نقلناه آنفاً خلصنا بهذه النتيجة.
من يطالع كتب الدب يجد أن المتنبئين كانوا مادة دسمة للتظرف، وكم من طرفته ألصقت بهم، وما كان يصح أن يتركوا مسيلمة دون أن يتفكهوا به، وهو أشهر متنبئ، ولعل من ذلك ما حدثوا إنه أمهر سجاح النميمة حين تزوجها بإسقاط صلاتين من الصلوات التي جاء بها محمد، كأن مسيلمة كان يؤدي هو وأتباعه وأتباع زوجته النبية الصلوات الخمس، ويتعبد شريعة الإسلام!.
ولذلك نجد المتطرفين والمتهكمين ينسبون القصة الواحدة في بعض الأحايين إلى أكثر من واحد، فهم لا يعنيهم إلا الحكاية، أما عمن صدرت فذلك أمر ثانوي.
ذلك رأيي في هذه المعارضات، وما كنت أحب أن تساق سوق القضايا المقطوع بها، سواء كانت في كتاب أو في مجلة، ولا سيما إذا جاء في جو البحث العلمي لأن ذلك يوقع في الأذهان إن ذلك أمراً قد اتفق على ثبوته، وليس حوله شبهة ولا عليه اعتراض.
علي العماري
مبعوث الأزهر بالمعهد العلمي بأم درمان
الكأس والغواص
للشاعر الكبير (جيتة الألماني)
بقلم الأديب عبد الموجود عبد الحافظ
وقف الملك وحوله حاشيته وأفراد شعبه يطلون على البحر من هذا العلو السامق، ونظر الملك وأجال طرفه بين الحضور كأنه يبحث عن شيء ثم قال:(من منكم أيها الفتيان النبلاء والفرسان الشجعان يقدر على الاندفاع في هذا البحر اللجي والهوة السحيقة؟ لقد رميت قدحاً من ذهب فابتلعته المياه في جوفها، فمن آنس قدرة في نفسه وحصل عليه فليحفظه فهو منحة له).
فما أتى الملك على آخر كلمته حتى ألقى من عالي الصخور المنحدرة المشرفة على البحر الهائج واللجج الهائلة، قدحاً من عسجد في قاع البحر وكرر قوله (من منكم يأنس في نفسه الإقدام على غوص هذه الأعماق؟)
واستولى على الحضور سكون رهيب كأنه صمت القبور، وما هي إلا هنيهة قصيرة حتى هب شاب من بين الجمع الحاشد تظهر فيه آثار الترف والنعم وقد جمع بين اللطف والإقدام، والحسن والجرأة، فتقدم في ثبات وعزم وحل منطقته وخلع رداءه وتجرد من كل شيء؛ فدهش القوم وبغت الرجال والنساء وأزداد عجب الفتيات وأعجبوا جميعاً به أيما إعجاب. وقف الشاب على حافة الهاوية يتأمل هذا الهوى البعيد، فسمع اللجج في أغوارها تقصف كأنها الرعد.
زمجر الموج وأرغى البحر وأزبد وغلى غليان الماء في المرجل وأرتفع الرزاز حتى صافح الوجوه، وتبعت الموجة موجة واللجة لجة، وكأن قوة هذا الجبار المهلك تتجدد ولا تنفد.
ثم سكن هذا الطغيان الجارف وخفت وطأة الموج المنحدر ولمح الناس وسط الزبد الأبيض فوهة سوداء لا قرار لها فاغرة فاها كالجحيم لا تلبث أن تزدرد كل ما يهوى فيها من الموج الصاخب.
وأعتمد الشاب على ربه وطلب منه العناية. . . وألقى بنفسه في هذه الفوهة المفتوحة، وسمع وهو يهوي صياح الفزع والرعب وغاب هذا الغواص الجريء وانطلق عليه فم
الوحش الكاسر.
صمت كل شيء وأصبح القوم كأن على رؤوسهم الطير، ولكن الأنواء ما فتئت تدوي في ظلمات الأغوار، وطفق القوم يقولون والأسى يقطر من نفوسهم والدمع يسيل من عيونهم:(الوداع الوداع أيها العزيز) وما برح هريم الهاوية يهبط رويداً رويدا حتى هلعت القلوب وحارت العقول وأمسك القوم أنفاسهم من شدة الهلع.
ثم قال أحد الحاضرين (والله لئن رميت تاجك في هذا الغور الهائل، وقلت: الملك لمن يرده ما سولت لي نفسي التطلع إليه).
(وكم من فلك اختطفته هذه الأغوار ولم ينتج منها إلا حطاماً وساريات ودفن باقيها في بطون الرموس. .) وعلت زمجرة اللجج بغتة فغطت على بقية القول وهاجت عاصفة الموج وعلا كالطود وهجم على الشاطئ كأنه وحش مفترس فخيل للحضور أنه يريد أن يتفهم كما أبتلع قبل ثوان ذلك الشاب الجميل فخافوا وفزعوا.
وعلى غرة من القوم ندت صرخة فرح من أحدهم فقد شاهد بين صخب الموج وتلاطمه القوي العنيف ذراعاً وعنفاً مسدلاً عليهما شعر أصفر صفرة الذهب. وما هي غلا لحظات حتى طفا الشاب يسبح بقوة وجبروت على سطح الماء يحمل في إحدى يديه الكأس الذهبية والبشر باد على محياه فزاده نوراً على نور.
وعلا صياح الناس فرحين مستبشرين بنجاته من الغرق وقد تغلب على قوة هذا الجبار واقتحم مناطق الخطر وخرج منها سالماً مظفراً.
وتقدم الفتى في زهو وخيلاء والتفت حوله الناس معجبين مهللين حتى بلغ مكان الملك فركع عند قدميه ومد يده بالكأس الذهبية يشع منها النور، فأشار الملك إلى ابنته المحبوبة أن تأخذ الكأس ونملأها من رحيق فاخر وتقدمها للشاب الباسل، وصاح الفتى يقول:
(أعمر الله سيدي ومولاي الملك؛ إن من نعم الله على البشر أن أسعدهم باستنشاق هذا الهواء النقي؟ وإن هذه الهاوية لترتجف منها القلوب وترتاع منها النفوس لما فيها من أهوال وظلمات)
(لقد هويت إلى البحر في سرعة خاطفة فقذفتني موجة جبارة فألقت بي إلى صخرة أشد منها بأساً وقوة فلم أقو على الثبات أمامها وأعاني ربي الذي توكلت عليه واستعنت به
عندما عندما رأيت الهول محدقاً بي فرأيت نتوء في الصخرة فعلقت به فنجوت من الموت. . وعلى قرب مني شاهدت الكأس معلقة في شعبة من شعب المرجان فلم تهو إلى القاع السحيق).
وهالني ما أبصرته من أعماق لا قرار لها فخارت قواي وارتعدت فرائصي، وزادني هولاً ما شاهدته من وحوش البحر وحيتانه، وزادني هولاً أن أسمع صوتاً آدمياً، وكنت أنظر إلى ما أنا فيه وأفكر في مصيري، ولكني تشجعت وسبحت حتى تناولت الكأس وقذفتني موجة إلى سطح البحر فلم أصدق أني نجوت.
فأثار كلامه إعجاب الملك وقال له هذه الكأس هبة لك وإني أهبك خاتماً مرصعاً بأغلى الجواهر، فجرب حظك في النزول مرة أخرى لتحدثني بما تشاهد من عجائب.
فنظرت إليه ابنة الملك وظهر على وجهها عاطفة الحنان والشفقة وتوسلت إلى أبيها قائلة في لهجة تشع بالحنان والعطف.
أعدل أبت عن هذه المخاطرة القاسية فقد أقدم هذا الشاب الشجاع على ما لم يجد أحد في نفسه القدرة على الإقدام عليه وعاد من أهوال لم يكتب لأحد منها النجاة قبله. فرحمة بشبابه يا أبت.
ولم تتم كلامها حتى ألقى الملك بالكأس وقال: أيها الفتى الشجاع، إن أحضرت لي الكأس جعلتك من خاصة حاشيتي وزوجتك بمن توسلت ' لي من أجلك.
فوجد فتانا في نفسه قوة خارقة عندما نظر إلى ابنة الملك فرأى وجهها وقد تورد حمرة، وعيناها تنظران إليه يشع منهما النور والخوف معاً على هذا الشاب المقدام.
فعول على أن ينال هذه المنحة العظيمة وينال هذه الفتاة التي أحبته وأحبها لأول مرة فألقى بنفسه من شاهق إلى أفواه الموت مرة أخرى
وأنصت القوم لزمجرة الموج ورعده وقد ملك الهلع قلوبهم وارتعدت فرائصهم من الهول، والموج يرتفع ويهبط ويرغى ويزبد ويثور ويزمجر ولكن هيهات أن يعود بالغواص مرة أخرى إلى الحياة.
(أسيوط)
عبد الموجود عبد الحافظ
من وراء المنظار
في حجرة صاحب ديوان. . .!
استأذنت فسرعان ما أذن لي بالدخول عليه، ولقيني بترحاب وبشاشة يعرفهما فيه كل من دخل حجرته، وقل في أصحاب الديوان من كان له مثل أريحيته ونبله على رفعة منصبه وسمعة نفوذه، فإن أكثرهم وا أسفاه لتسفل نفوسهم بارتفاع مناصبهم، وإنهم ليتأبهون على الناس ويتكرهون لهم حتى لكأنهم يحيون ويموتون. . وليس لهم في الواقع من الأمر شيء. . .
وإنه لينزلني منه منزلة الصديق وأنا تلميذه، ويرفع مكانتي عنده، ويحب منظاري ولا يفتأ يحدثنني عنه.
ومن أعظم ما حببه لي على كثرة ما أحببت من صفاته، أنه يستمع في أناة عجيبة إلى كل شاك لا يتبرم ولا يقاطع ولا ينفذ صبره، ثم يقول ما له ومل عليه، لا يلتوي ولا يغالط ولا يتحفظ. .
كان على مقعد قريب من مكتبه وكيله في العمل، وهو يكبر رئيسه فيما أعلم بنحو سبعة أعوام ويسبقه في التخرج بمثل هذه السنوات، ولم يخف على منظاري أن بنفسه من ذلك شيئاً بل أشياء. .
واستبقاني الرئيس بعد أن أفضيت إليه بما جئت من أجله؛ ودخل شاب بعد أن أذن له فسلم وظل واقفاً، وقرأت في وجهه أنه يكتم غضبه؛ وأذن لقادم آخر فدخل وهو كهل في أول الكهولة فيما قدرت، وأشار إليه الرئيس فجلس على مقعد ينتظر دوره في الكلام. . . . ولمحت كذلك في وجهه إنه يمتلئ حفيظة وغضباً. .
وقال الرئيس للشاب: أظن أنه ينبغي أن تسافر فإن فلاناً بك مصر على ألا يقبلك بعد اليوم عنده؛ ومشت في هيكل الشاب رعدةً وقال في عبارة مضطربة وفي لهجة تصور مرارة نفسه. معنى ذلك إن الموظف بهيم لا إرادة ولا رأي ولا كرامة له؟ لم لا يفهم فلان بك إنه أخطأ حتى لا يعود ثانية إلى الخطأ، وإلا فما وجه خطأي أنا كي لا أقع فيه من بعد؟. . ينبغي إذن أن أصانع كل رئيس على حساب الحق والكرامة والصالح العام. . لا. لا. . هذا كثير. .
وظلت في وجه الرئيس بشاشته على الرغم مما كان يرتسم على محياه من علامات الألم لما يقول الشاب، وقبل أن يتكلم الرئيس، أنطلق ذلك الكهل الذي كان ينتظر دوره. وقد نهض كالخطيب فقال يخاطب الشاب: اسمح لي أن أنصح لك نصيحة مجرب: طلق الكرامة والذمة والحق والأمانة ما دمت قبلت الوظيفة كرامة؟ رأي؟ إرادة؟ إنك يا بني تحلم. أنت في مصر. إنك تكلف نفسك رهقاً شديداً إذ تمسكت منذ الآن برأيك وحكمت ضميرك وأرضيت خلقك. . أنت يا بني عبد. . لا تغضب فأنا عبد مثلك. . وكل موظف عبد من أكبر كبير إلى أصغر صغير وإنما يستعبد بعضنا بعضاً. . . كرامة؟ رأي! ضمير؟. . . أنت فين؟. . . المسألة أكل عيش بأي شكل، وكل واحد لا يهمه إلا نفسه. . الصالح العام؟ أين هو. . . أحنا فين؟. . . داحنا في مصر. . .
وظل صاحب الديوان على هدوءه وبشاشته، وجلس الخطيب الكهل بعد كلام طويل من هذا القبيل؛ وأخرج الشاب ورقة من جيبه فدفعها إلى الرئيس فإذا هي استقالته؛ وراجعه الرئيس متلطفاً ثم استمهله يومين لينظر في الأمر؛ وخرج الشاب، وألتفت إلى الكهل فإذا قضيته هي قضية ذلك الشاب ولكنه كما قال لا يستقيل لأن له بنين وبنات ينفق على تعليمهم وليس يملك غير مرتبه. . ووعد الرئيس كذلك أن ينظر في أمره من أجل أولاده فأنصرف وهو يقول حسبي الله. . .
ونظر إلى الرئيس وقال باسماً: كأني أراك تكتب منظارك؛ وما كاد يلتفت حتى طلب الأذن مستأذن فأدخل، فإذا بشاب في نحو الخامسة والثلاثين دمث مهذب فيما يبدو، في وجهه من الهم والكدرة أكثر مما فيه من غضب، وسلم وقال، أنا فلان، وسرد تاريخ حياته، ثم ذكر إن فلاناً من فرقته رقي وهو ثاني الفرقة، وإنه هو لم يرق وهو الأول، ويحب أن يعلم لم تخطاه الثاني، فإن كانت له عيوب فمما يشفي نفسه أن يعرفها، أما أن يقال لك إنك ممتاز وأما أن يثني عليه رؤساؤه جميعاً ثم يترك ويرقى من هو دونه فذلك ما لا يستطيع أن يستسيغه ولا أن يحمل على قبوله عقله، وهو ما لا تطيقه كرامته.
وعند ذلك أنطلق الوكيل الذي ظل صامتاً منذ أن دخلت، فأخذ دور ذلك الكهل الخطيب، وقال في اتزان ولكن في كثير من التحمس اسمع يا أستاذ ألا زلت من السذاجة. . . لا تؤاخذني. . . ألا زلت من الطيبة بحيث تفهم أن الأمر أمر كفاية واستحقاق. . . ابحث
تجد صاحبك تزوج حديثاً فترقى أو جرى في ركاب عظيم فنال الأجر أو هو قريب فلان باشا أو علان بك، أو غير ذلك مما أستحي أن أذكره، فإن استطعت أن تفعل مثله أو يكون لك مثل ظروفه فستظفر بالرقي وإلا فستبقى حيث أنت إلى أن يشاء الله. أنت في مصر على رأي صاحبنا الذي خرج. . . أنت في مصر يا بني. . . أنظر فهاأنذا بيني وبين الستين أربعة أعوام وقد تخطاني من لا أحسبهم جاهدوا في الحياة جهادي وخدموا البلد خدمتي. . . ثم ضحك ضحكة مرة ونظرت فإذا في وجه الرئيس شيء من الحرج وفي عينيه ما لا يخفى معناه من اختلاج، وفطن الوكيل فتدارك الأمر قائلاً. . . لا مؤاخذة يا بك فأنت ذو فضل وما عنيتك بما أقول. . . معاذ الله، ثم ضحك ضحكة أخرى لم أدر أقصد بها التبسط أم قصد إظهار ما في نفسه من غضاضة.
وقال الرئيس لهذا الأستاذ: اترك لي مذكرة وسأنظر في أمرك، وقال الأستاذ وهو يهم بالانصراف إني سأقبل على عملي غير متأثراً بشيء وإن كان الألم ملء نفسي ولكني أخشى أن يأتي الوقت الذي أصبح فيه كالحصان تدفعه العربة إن لم يجرها. . . وضحك الوكيل قائلاً. . . لست أول عبيط ولن تكون الأخير. . . أتظن أن في الرؤساء واحداً يعنى بأن يفكر في هذا؟ حسبه التفكير في نفسه.
ونظر الرئيس إلي ضاحكاً وقال. وأنت ما شكواك؛ فقلت إني أستكبر أن أشكو. . . هل تكتب هذا الذي رأيت وسمعت؟ قلت لست أصبر إلا بجهد حتى أكتبه.
وقال الوكيل ما جدوى كتابتك؟ يظهر إنك عبيط آخر. . . لا تؤاخذني. . . أكتب ما شئت إنك لا تسمع من في القبور. . . أتحسب هذه أموراً مجهولة تكشف عنها بما تكتب فتنبه ذا غفلة؟ كلا إن ذلك كله معلوم، وقد شاع الفساد حتى شمل الدولاب كله فماذا تقول؟ وماذا تريد بكتابك. . . أأنت صاحب معجزة؟ والله لو جاءتك معجزة ما استطعت أن تغير ما نحن فيه. . . يا شيخ الله يفتح عليك. . أنت في مصر. . ها. . ها. . ها. . غير الجيل كله وابدأ من جديد.
وتنهد الرئيس وقال لا أخفي عنكما وأحدكما زميلي والآخر تلميذي أني كرهت العمل و ' ني أتمنى لو استطعت أن أفعل فعل ذلك الشاب الذي دفع إلى استقالته. . . أتدرون ماذا يقول؟ يقول إنه يريد أن يهاجر إلى الأرجنتين لينسى أنه مصري!. إني أريد أن أعمل شيئاً
فلا أستطيع.
لقد فسد الدولاب من فوق فنزل الفساد إلى كل جزء. . . هاأنذا ما أسمع الشكايات طول يومي ثم أرفع الأمر إلي من هم فوقي فلا أظفر بشيء. وأحمل الأوراق المكدسة إلى منزلي فأسهر الليل في تصريفها وعملي لا يعدو أن يكون في الغالب تنفيذ ما أومر به.
الخفيف
من الشعر السياسي:
تبعات الجلاء
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
أطلتم عليه في الظلام شجونه
…
وفرحتمو في الكهف نوماً جفونه
فلا تحسبوها رقدة الفجر من بعض دينه
…
أعد لهذا الفجر يوماً عيونه
أليس آذان الفجر من بعض دينه
…
فكيف غفلتم أن يلبى دينه؟
هو الصبح نادى بالجلاء مبشراً
…
وقد أسمع الدنيا أما تسمعونه؟
دفعتم به نحو الرقاد. . . وإنما
…
إلى المجد كنتم والعلا تدفعونه
تريدونه أن لا يكون كأمسه
…
ويأبى عليه المجد أن لا يكونه
مضى لا تصد الكارثات سبيله
…
ولا تستريب الحادثات يقينه
هو الحر لا تلوى العوارض قصده
…
ولو تقف الدنيا العريضة دونه
فككتم عن الليث الهصور وثاقه
…
وكنتم على الليث اقتحمتم عرينه
وحجتكم فيما مضى صون عرشه
…
فمن هو أولى منكما أن يصونه
إذا الليث لم يمنع ذمار عرينه
…
فأن الذئاب الطٌّلس لا يمنعونه
إذا ما أعان المرء في الأمر نفسه
…
فما يمنع الأقدار من أن تعينه؟
ومن مد للدنيا يمين مكافح
…
يمد له الله القوي يمينه
ظننا الجلاء الحلو مراً مذاقه
…
وما الأمر ألا حيثما تجعلونه
ومن أعظم الأمر الجليل تهيباً
…
فأحزم شيء بعدها أن يهينه
إذا استصعب الأمر الفتى في ابتدائه
…
فأحرى به من بعد أن يستهينه
بني مصر حملتم أمانة أمة
…
وما العبء إلا كل ما تحملونه
فما الفوز بالشيء الذي تأخذونه
…
ولكنه الشيء الذي تبذلونه
حملتم من الماضي الصعاب كثيرة
…
فهيا احملوا صعب الزمان ولينه
وما ذلك الثوب الذي تخلعونه
…
بأيسر من هذا الذي تلبسونه
فما تبعات المجد أحلام حالم
…
ولا هي بالتمر الذي تأكلونه
ومن يضمن استقلال مصر بأسرها
…
إذا لم يجد في كل نفس ضمينه؟
فلا تحسبوا ثوب الجلاء تزيننا
…
بشيء إذا لم نستطع أن نزينه
بني مصر!! غايات الحياة كثيرة
…
فلا تهنوا في موقف تفقدونه
ولا تحمدوا عيد الجلاء. . وإنما
…
أعدٌّوا غداة العيد ما تحمدونه
عليكم ديون للبلاد كثيرة
…
رعى الله من وافى فوفَّى ديونه
فلا تجعلوا لحن الخلود قوافياً
…
تنمِّق أبكار الكلام وعُونه
فليس نشيد الخلد ما تنظمونه
…
ولكن نشيد الخلد ما تصنعونه
ليلة عيد الميلاد
للأستاذ زهير ميرزا
حدقي أيتها الأرض، فقد عم البلاء
وانظري الأشلاء تطاير يذروها الفضاء
وأنصتي! فالكون أضحى محشراً فيه الجزاء
كل نفس أيقنت أن طال في الدنيا الثواء
والشباب اليافع البكر يواريه الفناء
ناشئ روعه الخطب وأصماه الشقاء
لم يذق من كوبة الدنيا سوى ما فيه داء
قدَّمته راحةُ الشيطان يحدوه الرجاء
وأقام اليوم أعراساً له فيها احتفاء
بعثت من فوهة المدفع نار وضياء
والأهازيج رعود وعويل. . . لا غناء
رقص الناس بها هولاً وذعراً كيف شاءوا
وتغنى عازف البارود والدمع سخاء
هكذا الأعراس في العالم يزجيها الفناء
ليلة الميلاد! أعيا منطقي الداء العياء
والتوى القولُ المبين اليوم إذ حم القضاء
لم يعد يُمشى بمجنوز. . . ففي ذاك الرخاء
حيث يقضى المرء يلقى قبره. فيه الثواء
كفن في السلم من خز، وفي الحرب دماء
يدفن الآباء أبناء لهم فيهم رجاء
ويوارون على - البعد - حشاشات أضاءوا
دمعة الشيخ جنون فاستعار فانطفاء
كم شرايين من العندم قدَّ الأبرياء
كي يروى منه أفراد من السلم ظماء
قذفوا بالفوج تلو الفوج هوجاً كيف شاءوا
فأحلوا الأرض أنهاراً بها العندم ماء
سخروا (المريخ) فانقاد. وتغريه الدماء
وهو الشرير في أعطافه دوماً ظماء
فإذا الأبحار والأرضون والجو سواء
كلها مذبح جزار له الإنسان شاء
كلما ضحى بفوج؛ سيق للموت الذماء
هكذا سكينه مخضوبة فيها اشتهاء
كلما قيل انتهينا. راعها ذا الانتهاء
ليلة الميلاد! إن الحرب شر وبلاء
لم نقل فيها ولكن طال في اللين الثواء
حسب الظالم أن الشبل يغريه الرياء
لم يعد في القوس صبر. . . أرهقتنا الثوباء
زمجري أيتها الريح. . . فلي منك ارتواء
وابعثي العنف بأوصالي ليحييها الرجاء
واعصفي في رأسي البكر كما شئت وشاءوا
وانفضي عن كاهل العزة ما أبقى البلاء
وابعثيها وثبة الحر على من قد أساءوا
عذبتني رقدة الغافي يغذيها ارتخاء
والزمان الطفل يطوينا كما يطوى المساء
نؤت بالأمس أداريه وفي النفس شقاء
واحتملت الإثم في جنبي. أنا منه براء
عجز الطب. . . فلم يبق لنا إلا الفداء
الأبي الحر لا يشرى كما تشرى الإماء
نحن إما لغد نحيا. . . وإما فالفناء
مصر في أحزانها غرقى. أما منها نجباء
أرهق المستعمر الجبس جناحيها يشاء
وطني حتى تنزى من أذاه الطلقاء
ظامئ لم يروه بالأمس (نيل) ودماء
شرب العندم في الكأس. . . فغص الأبرياء
إن من في لثتيه الترب لا يرويه ماء
ليلة الميلاد! هل عدت ببرديك الرجاء
هل يثير العام أن قد عاد للوادي الصفاء
وينار القلب بعد العين. . . أم يقضى الغلاء
ويشير الخير أنت الآن أم سر خفاء
أم ترى نمضي كما كنا وكان القدماء
وتوارى العام مثل العام. . . يؤذينا التجاء؟
أنت غيب! - مثلما كنت وتبقين. . . - وداء!
أسفي فالدمعة الحمراء يدعوها الوفاء
إنما يبكي بدمع المقلتين الشهداء
قد غفوا للحشر. . . والجزار يقظان يشاء
حسرتي حسرة من مثله يرجى العزاء
نحن صوت الحق والتاريخ. . . نحن الشعراء
ظمآن. . .
(القلب مصر. . وأنت. أنت سودان)
للشاعر محمد قوره
ظمآن. . والقلب في جنبي ظمآن
…
وأنت نبع وجنات وشطآن
ظمآن. والري في عينيك مؤتلق
…
ظمآن. . والسحر في جفنيك ربان
ظمآن. يا زهرتي. والكأس مترعة
…
وأنت خمر الهوى. والحسن ندمان
ظمآن. لا لوعتي تهدأ على كبدي
…
وكم يسعِّرها في الحب حرمان
ظمآن. هل قبلة عذراء من شفة
…
ما مسها في الهوى من قبل إنسان
لا أحتسي كأسها - يوماً - مشعشعة
…
ولا يعاقرها - في الحب - صديان
تذكري. موعداً - بالشط - جمعنا
…
والروح خفاقة. والقلب جذلان
وصوتك العذب ألحان مولهة
…
لها بروحي أهازيج وإرنان
كأن كل حصاة في الثرى صدحت
…
والموج قيثارة. والرمل ألحان
وكل عين رنت - بالشط - حاسدة
…
وكل صب - على الكثبان - غيران
الكون!!. ما الكون!؟ والدنيا وبهجتها
…
إذا التقينا وفي القلبين تحنان
نقل الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
946 -
فهذا عزم لا يفله إلا الله
لما بلغ قتيبة حد الصين قيل له: قد أوغلت في بلاد الترك والحوادث بين أجنحة الدهر تقبل وتدبر. فقال: بثقتي بنصر الله توغلت، وإذا انقضت المدة لم تدفع العدة، فقال الرجل: اسلك حيث شئت فهذا عزم لا يفله إلا الله.
لي مدة لابدَّ أبلغها
…
معلومة فإذا انقضت مٌت
لو ساورَتني الأٌسد ضاربَةً
…
لَغلبتها ما لمْ يَجِ الوَقتُ
947 -
كثرت السواد وحفظت المتاع
خرج سعيد بن المسيب إلى (الجهاد) وقد ذهبت إحدى عينيه فقيل له: إنك عليل صاحب ضرر، فقال: استنفدنا الله الخفيف والثقيل فإن لم يمكنى الحرب كثرت السواد، وحفظت المتاع.
948 -
وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم
الحسبة في الإسلام لأبن تيمية: العاجز عن الجهاد بماله، ومن عجز عن الجهاد بالبدن لم يسقط عنه الجهاد بالمال، كما أن من عجز عن الجهاد بالمال لم يسقط عنه الجهاد بالبدن.
949 -
وأخرج عشرة بدلاً عن نفسه
تاريخ بغداد للخطيب: قال الحافظ النيسابوري: لما وقع الاستنفار لطرطوس دخلت على (أحمد حسنيك) وهو يبكي ويقول: قد دخل الطاغي ثغر المسلمين طرسوس، وليس في الخزانة ذهب ولا فضة، ثم باع ضيعتين نفيستين من أجل ضياعه بخمسين ألف درهم، وأخرج عشرة من الغزاة المتطوعة الأجلاد بدلاً عن نفسه.
950 -
البدايات عنوان النهايات
نفح الطيب: قال الجاحظ القاضي أبو بكر بن العربي في أحكام القرآن عند تفسير قولة تعالى (انفروا خفافاً وثقالا) ما صورته (ولقد نزل بنا العدو وقصمه الله تعالى) سنة سبع
وعشرين وخمس مائة فجاس ديارنا، وأسر جيرتنا، وتوسط بلادنا في عدد حدد الناس عدده فكان كثيراً، وإن لم يبلغ ما حدده. فقلت للوالي والولي عليه، هذا عدو الله قد حصل في الشرك والشبكة، فلتكن عندكم بركة، ولتكن منكم إلى نصرة الدين المتعينة عليكم حركة، فليخرج إليه جميع الناس حتى لا يبقى منهم أحد في جميع الأقطار فيحاط بهم فإنه هالك لا محالة. وإن يسركم الله له فغلبت الذنوب، ورجفت بالمآسي القلوب، وصار كل أحد من الناس ثعلباً يأوي إلى وجاره، وإن رأى المكيدة بجاره - فأنا لله وأنا إليه راجعون، وحسبنا الله ونعم الوكيل!!!)
ولا خفاء أن هذا كان قبل أخذ العدو الجزيرة وشرق الأندلس وسرقسطة وسيورقة وغيرها، والبدايات عنوان النهايات.
951 -
ليس المروءة أن تبيت منعماً
أبو دلف:
ليس المروءة أن تبيت منعماً
…
وتظل مٌعتكفاً على الأقداح
ما للرجال وللتنعم إنما
…
خلقوا ليوم كريهة وكفاح
952 -
فلم أجد لنفسي حياة مثل أن أتقدما
الحصين المري:
ولست بمبتاع الحياة بسبة
…
ولا مرتق من خشية الموت سلما
تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد
…
لنفسي حياة مثل أن أتقدما
فلسنا على الأعقاب تدمى كلومنا
…
ولكن على أقدامنا تقطر الدما
953 -
أو عاش منتصفا
العبسي:
من عاد بالسيف لاقى فرصة عجباً
…
موتاً على عجل أو عاش منتصفاً
954 -
خير من الدنيا وما فيها
جامع محمد بن إسماعيل البخاري: لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها.
جامع مسلم بن الحجاج:
قال رجل: أي الناس أفضل يا رسول الله؟
قال: مؤمن يجاهد بنفسه وماله في سبيل الله.
955 -
. . . فاقتلوه بالسيف كائناً من كان
جامع مسلم بن الحجاج:
ستكون هنات وهنات، فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع فاقتلوه بالسيف كائناً من كان. . .
956 -
آيات
(يا أيها الذين آمنوا، هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم، ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون).
(انفروا خفافاً وثقالاً، وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم، ذلكم خير لكم لو كنتم تعلمون).
(وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم، واصبروا؛ إن الله مع الصابرين).
(ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات).
الله أكبر!
أين العرب، أين العرب، أين المسلمون؟ أين كماة وفداة مؤمنون؟ أين المجاهدون؟ أين أباة الضيم، أين أبطال الجهاد. .؟
الأدب والفن في أسبوع
الأدب المقارن:
ألقى الدكتور طه حسين بك محاضرة في نادي الخريجين المصري يوم الجمعة، عنوانها (الأدب المقارن وأثره في التقريب بين الأمم) بدأها بتصويب كلمة (مقارن) رداً على من يخطئونها فقال: إن القرن في اللغة الحبل الذي يقرن به بين بعيرين، فما الذي يمنع أن يقرن بين شاعرين أو فكرتين لنرى ما بينهما من أوجه الشبه والاختلاف؟ بل إن (المقارنة) أدق من (الموازنة) التي يدعون إلى استعمالها، لأن الموازنة تقتضي تفضيل شيء على شيء، وليس في المقارنة تفضيل.
ثم قال: إن الأدب المقارن ليس حديثاً كما يقولونه، لأن الناس منذ عصور قديمة قاسوا بعض الآداب إلى بعض، كما فعل هيروديت، إذ تحدث عن تأثر اليونانيين بعض الآداب المصرية القديمة، وكما فعل العرب في صدر العصر العباسي، إذ ترجموا الآداب، وتحدثوا عن التراث الفني للأمم التي نقلوا عنها. أما في العصر الحديث، فقد تعمق المحدثون النظريات القديمة في المقارنة بين الآداب، ووضعوا لها أصولاً وقواعد، حتى تكون فن الأدب المقارن الذي يرجع البعض نشأته إلى أوائل القرن الماضي، ويقول آخرون إنه نشأ في أواسط القرن الماضي، ويقول غيرهم إنه حديث جداً، فعهده أوائل هذا القرن.
وتحدث بعد ذلك عن تأثر أدب الرومان بأدب اليونان وأثره فيه، وعما نشأ من التفاعل بين الأدبين من ظهور ألوان في الأدب العربي بعد الإسلام يختلف عما كان قبله، فقد فتح العرب الأمم المجاورة لهم واتصلوا بها وهي ذات حضارة قديمة، فأثروا بها، وتغيرت حياتهم، وتمتعوا بالترف المادي والترف المعنوي، فلم يكتفوا بسكن الدور والقصور، بل استحدثوا ألواناً من الفن لم يكن لهم بها عهد. فشعراء الحجاز مثلاً رأوا أنفسهم أمام فنون وافدة عليهم من الفرس والروم وغيرهم، هي فنون الغناء والموسيقى والرقص، فكان لها في نفوسهم أبلغ الآثار، فيرعوا في الغزل واللهو على نحو لم يكن في الجاهلية، وحدث هذا في الحجاز وبه الأماكن المقدسة، فما بالك بالعراق وخاصة بغداد في عصر العباسيين الذي امتاز بالدراسات الثقافية والفلسفية، فلم يكتف الشعراء بملكاتهم، بل اخذوا بهذه الدراسات وانتفعوا بنتائجها وأفكارها واستعملوا مصطلحاتها في أشعارهم. وكذلك شأن العرب
بالأندلس، بل هم أكثر إمعاناً في هذا السبيل لمتاخمتهم ومعاشرتهم للأوربيين الذين تأثروا هم أيضاً بالآداب العربية الأندلسية. وقال إن الأمة الفارسية بعدما استعادت لغتها القديمة ظلت تتابع الثقافات والآداب العربية وتتأثر بها.
ثم انتقل إلى أوربا في عهد النهضة، فبين كيف ازدهرت الآداب والفنون بإيطاليا في القرن السادس عشر، وأخذت أوربا الشمالية عنها هذه الآداب والفنون، قم ما كان بعد ذلك من تطلع الفرنسيين إلى الأدب الإنجليزي وانشغالهم به.
ساق الدكتور طه كل ذلك ليصل منه إلى ما يحدثه تبادل الآداب والفنون بين الأمم من التقريب والتأليف، وأن ذلك حري أن يصد تيار الجنون الذي يعتري الأمم في فترات مختلفة، ثم ليصل أخيراً إلى ما ينبغي أن نفعله الآن، فقال إننا أخذنا بالحضارة الحديثة في حياتنا المادية، فلم نعد نركب الحمر وننتقل بالإبل، ولكننا لم نتقدم في أدبنا عن ذلك، فلا زلنا نكتفي بما عندنا، ونزهد في آداب غيرنا، ونعتمد في مترجماتنا إلى ما يقصد به اللهو والتسلية، فيجب أن نقبل على الآداب الأجنبية، نتفهمها، ونأخذ عنها، ونحاكيها، ثم نبتكر بعد الاستفادة منها، ليكون لنا أدب يؤخذ عنا كما نأخذ عن غيرنا.
تعقيب:
الذي نعرفه أن الأدب المقارن هو الدراسة التي تقوم على المقارنة بين أدب وأدب للبحث عما يتشابهان وما يختلفان فيه من الخصائص والموضوعات وما إلى ذلك. وقد كان حديث الدكتور طه في هذا في أول المحاضرة عندما قال إن القدماء كان لهم نظرات في قياس بعض الآداب إلى بعض، وإن المحدثين تعمقوا تلك النظرات ووسعوا ونظموا الدراسات للمقارن بين الآداب. ولكن حديثه بعد ذلك - وهو معظم المحاضرة وموضوعها - كان في شيء آخر - على ما نفهم - هو انتقال الآداب من أمة إلى أخرى وتأثير أدب في آخر، وأثر هذا في التقريب بين الأمم؛ وقد دعا في ختام محاضرته إلى أن لا نكتفي بأدبنا وإلى أن نأخذ من آداب غيرنا، فهل الأخذ من الآداب الأجنبية يسمى أدباً مقارناً؟ هذا وقد فجعنا الدكتور طه في أدبنا العصري الذي تكون من إنتاجه وإنتاج غيره ممن سائر أساتذتنا أدباء الجيل، فهم منذ عشرات السنين يطلبون الآداب الأجنبية ويتفهمونها ويترجمونها ويحاكونها، ونزعم إنهم ابتكروا بعد الاستفادة منها، وإذا الدكتور طه حسين يقول إننا مكتفون بما عندنا
وزاهدون في آداب غيرنا. . . بل يقول أنا واقفون في حياتنا الأدبية عند ما يقابل ركوب الإبل والحمر في حياتنا المادية! ففيم كان ما كان؟. . .
ومن ظريف المفارقات إنه يقول ذلك في نادي خريجي القسم الإنجليزي في كلية الآداب الذين يوجهون جهودهم الأدبية كلها إلى دراسة الأدب الإنجليزي وإذاعته بالإذاعة المصرية التي توليه من عنايتها ما لا يظفر به أدبنا!
الصفحات المزوقة
كانت صحفنا اليومية قبل الحرب تخصص كل منها صفحة من صفحاتها للآداب والثقافة العامة، وكانت تلك الصفحات تقدم للقراء زاداً فكرياً من ثمار الأقلام الناضجة، ثم كانت الحرب وكانت أزمة الورق واختفت تلك الصفحات. ولما فكت قيود تحديد الصفحات بعد الحرب عمد كثير من صحفنا إلى تخصيص بعض صفحاتها ل. . لأي شيء؟ لست أدري اسم الذي تنشره هذه الصفحات المزوقة المزركشة، فشيء أحمر، وشيء أخضر، وشيء أصفر. . . وكثير ما ترى في وسط هذا صورة فتاة في وضع مثير. . . وأختار لكل ذلك عناوين لا يتوخى في وضعها أن تدل على الموضوع، بل توضع على نحو يلفت الأنظار ولو لم يكن ذاع في الموضوع أهمية. . .
كنت وما زلت أنظر إلى هذه الصفحات وأقف عندها، أني مبتلي بأمرين. الأول تتبع ما يكتب شبيهاً بالآداب والفنون، الثاني الميل إلى تأمل معارض المحال التجارية (الفاترينات) رغم ما يفزعني من غلاء سلعها في هذه الأيام مما يحملني على الاكتفاء بالتأمل والمضي في طريقي. . . وكذلك حالي مع تلك الصفحات، إلا إن الذي يصدني هنا ويحملني على المضي هو رخص محتوياتها! ومن الغريب ما رايته مرة لأحد من يكتبون تلك الصفحات الملونة: أبيات، تحت صورة امرأة، يقول فيها فتاة أحلامه. . فهل هي صورة لفتاة يحبها وينشرها على الناس، أو هي صورة امرأة، أية امرأة!
ولم أكن مع كل ذلك مستريح الضمير، فكنت أتهم نفسي بغمط تلك (الآداب) التي قد تكون (رفيعة) ولكنها لا تلائم مزاجي، ولكن خفف عني هذا القلق النفسي الدكتور حسين مؤنس بما كتبه في (البلاغ) تحت العنوان الذي يتخذه لكتابته يوم الأربعاء وهو (ما سمعت وما رأيت وما قرأت) وخص الموضوع الذي نحن بصدده بالكتابة عنه فيما رأى لا فيما قرأ
قائلاً إن هذه المقالات ترى ولا تقرأ، وقد ندد بما يصنعه كاتبوها، لأن الواحد منهم كما قال (يلخص لك الكتاب لا يذكر لك شيئاً من هذا الكتاب ولا شيئاً عن مؤلفه. . . وهو يحسن إلى نفسه بهذا الأسلوب الغريب في السطو على كتب الناس. يحسن إلى نفسه لأنه يحول بينك وبين تعرف الأصل وتعرف مقدار الأمانة التي يعرض عليك الكتاب بها، وقد حاولت كثيراًأن أتعرف الأصول فلم أستطع) إلى أن قال: (وأغرب ما عند هؤلاء الشباب إنهم جميعاً مرضى العقول بشيء تستطيع أن تسميه (جنون الجنس) فكل مقالاتهم وفلسفاتهم تدور حول موضوع واحد: المرأة؛ فهم يعرضون عليك قطعاً غرامية ومخاطرات نسائية لا أعرف أين يلتمسونها اللهم إلا إذا كانوا يأذنون لأنفسهم في الاستقاء من صحف خليعة مما لا يطرأ في البلاد الأوربية إلا خفية وفي كثير من الحياء).
ثم جعل الدكتور مؤنس يسائل هؤلاء: لمن يكتبون هذا؟ أللعقلاء وهم لا يرتاحون لمثل هذا الفحش؟ أم للمجانين وهم ليسوا بحاجة إلى من يزيدهم جنوناً؟ ولماذا يكتبونه؟ ألتثقيف الناس بالكلام الفارغ. . . أم للتسلية والارتزاق والشهرة التي خير منها الخمول. .؟
توفيق الحكيم أخيراً
تبلغ - ولاشك - أذني الأستاذ توفيق الحكيم، ما يردد على الأقلام والألسنة من أنه شغل عن الإنتاج الأدبي القيم منذ سنوات بما يكتبه في (أخبار اليوم) من أشياء أقل ما توصف به أنها ليست كسابق إنتاجه، ولا بد أنه يشعر بهذا وإن لم يكن يسمعه؛ ولذلك كتب أخيراً في اليوم مقالاً بعنوان (فتاة بين جبلين) ساق الحديث فيه على لسان شاب وفتاة أديبين كانا في مكتبه، سألت الفتاة وأجابها الشاب، ومن السؤال والجواب نرى أن الأستاذ الحكيم يحاول أن يبرر ما اَل إليه من الركود الأدبي والابتذال الصحفي، بأن الناس يشعر بشعورهم ويدرس أحوالهم ويعرف أنبائهم ويعرض شكاواهم ويدافع عن حقوقهم، فإذا فعل عادوا فقالوا أين العزلة التي يكتب فيها لطائفة من الخاصة.
والمغالطة في هذا الكلام ظاهرة، لأنه لم يكن في البرج العاجي يوم كتب (يوميات نائب في الأرياف) وغيرها مما شعر فيه بشعور الناس ودرس أحوالهم، فلم الحيرة أليس هناك إلا العزلة في البرج وملء الصفحات بكلام لا نبضة للفن فيه. .؟
وأراد أيضاً أن يقول إنه لم يهمل فنه، وما عليه أن يسكت عامين أو ثلاثة أو خمسة أو
عشرة يدرس خلالها نفسه من جديد، ويزن تأملاته، ويختزن تجاريبه، ويراقب أحوال الناس وتطورات المجتمع، ويراجع أعماله القديمة، ويبحث عن طرائق للتعبير الفني جديدة، ليصل إلى نوع من الفن لا علاقة له بكل ما عالج من قبل.
ولكن هل هو ساكت. .؟ أو لديه فراغ يدرس فيه ويزن ويختزن ويقارب ويراجع ويبحث؟
لقد أراد توفيق الحكيم أن يطالع آلاف الناس، وقدمته إليهم (أخبار اليوم) الواسعة الانتشار، ولكنه كان (مقلباً) لتوفيق الحكيم. . . فلم يؤد هذا التقديم إلى تأخير. . . أغلى من ثمنه!
وليت شعري، هل الإشارة إلى البحث عن فن جديد، اعتذار أو إرهاص؟ وإذا كان الثاني فكل ما نرجو ألا يكون الجديد من نوع (الحمار) و (صينية البطاطس). . .
اللغة العربية في السوربون
جاء من باريس إن الشيخ أحمد الزموري قاضي الدار البيضاء ألقى محاضرة في قاعة الاحتفالات الكبرى بكلية الحقوق بباريس، عن مصادر للشريعة الإسلامية، وأن هذه أول مرة يتاح فيها لخطيب عربي أن يعتلي منبر (السوربون) ويخطب باللغة العربية والمعروف إن (السوربون) تلقى فيها محاضرات في مختلف الثقافات والآداب ولكنها لا تكون إلا باللغة الفرنسية، وعلى هذا قد خرق الذي جرت علية لأول مرة وباللغة العربية. والاستفهام التعجبي الذي يقوم بنفسي وبنفسك، هو: أبلغ حب أبناء السين للغة أبينا يعرب بن قحطان إلى هذا الحد؟ وهل يرون حقاً إنها اللغة الثانية في العالم الجديرة بأن تأخذ مكانها إلى جانب لغتهم في السوربون؟
ولعلك تذكر - كما أذكر - تلك الصيحة التي انبعثت في العام الماضي من المغرب - بلاد القاضي المحاضر بالشكوى من منع الفرنسيين المحتلين وسائل الثقافة الصادرة في البلاد العربية من كتب وصحف، من الوصول إلى تلك البلاد التي يريدون أن يفرنسوها - نذكر هذا فنعجب لمن يتظاهرون بالتمكين للعربية في باريس وهم الذين يعملون على كتم أنفاسها في مواطنها.
أليس حقيقة الأمر إنها مظاهر استعمارية؟ ستقول ومالو إنه كسب للغة العربية مهما تكن الدواعي إليه؟ ألا تستبشر لأن العربية تزحف؟ فأقول لك: الأمر كذلك، ولكن لابد أن نلقي ضوءاً على مثل هذه الحركات لاستبانة مراميها التي هي غير مظاهرها.
مسابقة المجمع الأدبية
كان آخر نوفمير الماضي الماضي النهاية التي حددها مجمع فؤاد الأول للغة العربية، لقبول الموضوعات التي تقدم للحصول على المسابقة الأدبية لسنة 1947 - 1948، وهي في الشعر وفي القصة وفي البحوث الأدبية، كما بينت ذلك في حينه.
وقد رأت لجنة الأدب بالجمع معظم الموضوعات المقدمة، وتوشك أن تفرغ منها، على أن تعلن نتيجة المسابقة وتحتفل بتوزيع الجوائز في أوائل السنة المالية القادمة.
ومما يذكر أنه قدم في الشعر 31 ديواناً أصحابها من مصر والسودان والعراق وسوريا ولبنان وفلسطين والحجاز ومن المهجر في الولايات المتحدة والبرازيل، ومنهم ثمانية معروفون. وقدم في القصة 35 فيها قصص تاريخية وأغلبها من الحياة الحاضرة، وأصحابها من مصر والعراق وسوريا ولبنان وفلسطين، منهم سبعة معروفون. وقدم في البحوث الأدبية عدد أقل مما قدم في القصة، وأصحابها كلهم مصريون، فيهم شخصية لامعة.
والملاحظ أن المتقدمين على العموم قليلون، والمصريون على الأخص اقل من المعتاد في مثل هذه المسابقة. وقد حدثني بعض الأدباء الذين دخلوا مسابقة المجمع في السنة الماضية، فعبروا عن ندمهم على دخولها، وأبدوا من هؤلاء معروفة صلاتهم ببعض الأعضاء البارزين في لجنة الأدب بالمجمع.
(العباس)
البريد الأدبي
حدث في الفكر الإسلامي:
أخي العباس الفاضل:
لم يسعدني الحظ بأن اقرأ في مجلة الثقافة بحث الأستاذ الجليل معالي
عبد العزيز فهمي باشا في مسألة تعدد الزوجات، ذلك البحث العظيم
الذي عددته أنت (حدثاً في الفكر الإسلامي)، ولكني سمعت بتلخيصك
له وتعليقك عليه في (الرسالة) الغراء.
وقد استرعى انتباهي في هذا الموضوع نقطة واحدة، هي من البحث كله بمنزلة الأساس من البناء؛ تلك هي تفسير الأستاذ الجليل لقول الله تبارك وتعالى (مثنى وثلاث ورباع)، إذ أنه ذهب في هذا التفسير مذهباً لم يسبقه إليه سابق فيما أعتقد، فقد ذكر (أن الكلام في الآيتين (وآتوا اليتامى أموالهم. . . وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى) سوق لتحقيق فضيلة العدل في المعاملة) بتحذير الأوصياء من الوقوع في الإثم العظيم بأكل أموال اليتامى ظلماً. . (ولما كان بعض اليتامى إناثاً في حجر المخاطبين، وكان لهن أموال تحت يدهم، وكان من عاداتهم السيئة أنهم يتخذون هؤلاء اليتامى زوجات لهم ويمسكونهن هن وأموالهن ضراراً، وكان هذا أشنع مظهر من مظاهر أكل مال اليتامى - فتعميماً لفكرة تحقيق العدل (في الآية الأولى) وتثبيتاً لها أشار (في الآية الثانية) إلى هذا المنكر، وأنى بأبلغ ما يكون من القول لصرفهم عنه؛ إنه يقول لهم: إذا فهمتم قولي في الآية السابقة، وعلمتم أن أكل مال اليتامى مطلقاً (من ذكور وإناث) إثم كبير، فلا تتذرعوا إلى هذا العبث بنكاح اليتيمات اللاتي في حجوركم، بل تعففوا عن نكاحهن المفضي بكم إلى أكل أموالهن، ولديكم ممن تستطيبوهن من غيرهن من النساء كثيرات، تستطيعون أن تنكحوا منهن ما تشاءون، لا واحدة ولا اثنتين (واحدة بعد أخرى)، ولا ثلاثاً (واحدة بعد الاثنتين الأولين)، بل حتى مثنى وثلاث ورباع، أي جزافاً بلا حساب ولا عدد).
وقد غضضت النظر عن كل ما قاله المفسرون في تفسير هاتين الآيتين، وما استشهدوا به من كلام الرسول الكريم وعمله، وما نقلوه من أقوال الأئمة عن الصحابة والتابعين،
ونظرت إلى المعنى مجرداً كما فسره الأستاذ الجليل، فإذا هو يتلخص في أن الله سبحانه وتعالى ينهى الأوصياء من المسلمين عن أكل أموال اليتامى ويحذرهم أن يحتالوا على أكل أموال اليتامى القاصرات بالزواج منهن، ويقول لهم: إن من الخير لكم أن ترعبوا عن هذا الزواج الذي يفضي بكم إلى الإثم العظيم، إلى زواج لا إثم فيه ولا حرج، فإن كنتم لابد راغبين بالزواج فأنكحوا ما طاب لكم من النساء من غير هؤلاء القاصرات، فإنكم واجدون بدل الواحدة اثنتين وثلاثاً وأربعاً وعدداً لا يحصى ولا يعد.
فليست الآية مسوقة في رأي الأستاذ الجليل لتحديد عدد الزوجات، ولا لإباحته بأكثر من واحدة، إنما هي مسوقة لتحذير الطامعين من الأوصياء في أموال اليتامى والمحتالين لأكلهم بحيلة الزواج منهن: ولفت أنظارهم إلى أن هذا التحايل لا يبعد بهم عن مزالق الإثم: فإذا كانوا راغبين في الزواج من أجل الزواج فالنساء من غير اليتامى كثيرات لا حصر لهن ولا عدد، فليختاروا منهن ما يشاءون، على أن لا يكون للرجل أن يتزوج بأكثر من واحدة.
فإذا كان الأستاذ الجليل يرى أن الآية لا تحمل معنى إباحة التعدد في الزوجات، وإنها لا تبيح للرجل أن يتزوج بأكثر من واحدة مهما طاب له من النساء، فما معنى قوله تعالى بعد ذلك: فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة؟ وما وجه الصلة بين هذا الشطر من الآية وبين شطرها الأول وهو قوله تعالى وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فأنكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع؟ أليس في الشطر الثاني من الآية ما يشعر إن لم يدل دلالة صريحة بأن شطرها الأول يحمل معنى إباحة التعدد حتى يمكن أن يكون للرجل عدد من الزوجات يطلب إليه العدل بينهن؟ وإلا فكيف يكون العدل ممكناً بين زوجة واحدة؟ وهل العدل إلا توزيع الحقوق بالقسط بين أصحابها؟ وإذا كان الله سبحانه لم يبح للرجل غير زوجة واحدة، فكيف يطلب إليه أن يقتصر على واحدة إذا خاف ألا يعدل؟ أليس هو مقتصراً على واحدة بحكم القانون الذي شرعه الله له؟ وهل يستقيم نهج الكلام إذا كان المعنى كما يقول الأستاذ الجليل: فأنكحوا ما طاب لكم من النساء مقتصرين على واحدة فحسب فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة؟
أحسب أن نهج الكلام حينئذ لا يستقيم، واحسب أن الشطر الثاني بهذا التفسير يكون لغواً، وكلام الله تبارك وتعالى منزه عن اللغو.
هذا هو جوهر الموضوع ولبابهم، أما أن القرآن يأتي بهذا الشأن الأساسي بصفة عرضية أو غير عرضية وجواباً لعبارة شرطية أو غير شرطية، فليس أمراً ذا بال، فالقرآن قانون شامل كامل يكمل بعضه بعضاً، ويفسر بعضه بعضاً، وقد يعلم الأستاذ الجليل إن القرآن قد استفرغ جهود المجتدهين من الأئمة والفقهاء، حتى استنبطوا الأحكام من كل كلمة من كلماته، بل من كل حرف من حروفه.
أمين دوبدار
كلمتي الأخيرة في الفضاء والعدم
أرجو من الأستاذ أحمد محمد حلمي أن يراجع مقالي الأول والثاني، وأن يدلني أين قلت إن الأثير موجود حتماً. لم أقل هذا القول. بل قلت إن الأثير مفروض فرضاً، ولم يسلك ببرهان علمي وعملي وأن أنيشطين قال إن نظريته النسبية لا تحتاج إلى الأثير، وسيان عنده وجد الأثير أم لم يوجد. وقد أوضحت هذا جلياً في المقال الثاني.
على إن بعض العلماء الكبار قالوا لا غنى عن فرض الأثير سواء ثبت علمياً أو انتفى، لأن فرضه يعلل بعض الظاهرات الطبيعية.
لم أحتم بوجود الأثير. وإنما حتمت بأن الفضاء ليس فراغاً عدما بل هو متدفق بالأمواج الكهرطيسية، لأن عيوننا ترى بعضها وهي أمواج النور ونحس بسائر الأمواج كأمواج اللاسيلكي والراديو والرادار الخ. وهذه الأمواج مادية لا روحية، هي شظايا الإلكترونات السلبية والبروتونات الإيجابية. وتسمى ضوئيات فوتونات. وطاقة المادة تأتينا فيها. ولا يهمنا إن كانت محمولة على أجنحة الأثير المفروض أو هي متدفقة أو من تلقاء نفسها بلا أجنحة. بعد هذا البيان الواضح في هذا المقال وفي مقالي السابقين لم يبق لشرح الأستاذ أحمد محمد حلمي لزوم عندي لأني أعرفه ولا أنكره.
نقولا الحداد
أبو نؤاس:
في مقال للأستاذ سلامة موسى بمجلة النداء تحت عنوان الأديب بين العزوبة والزواج جاء فيه إن أبا نؤاس الشاعر لم يكن متزوجاً ولذا كان ابتداعياً يهتف في شعره إلى الثورة على
ما سماه الأستاذ، أوهام المجتمع الزائفة وهذا خطأ محض إذ أن كل دارس لشعر الحسن بن هانئ يعرف أنه قد ذكر زوجه في أكثر من بيت في قصائده وخمرياته حتى ذهب بعض من أرخوا لأبي نؤاس من قدامى ومحدثين إنه قد أنجب أولاداً من زوجه.
محمد الشاذلي حسن