المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 757 - بتاريخ: 05 - 01 - 1948 - مجلة الرسالة - جـ ٧٥٧

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 757

- بتاريخ: 05 - 01 - 1948

ص: -1

‌المسلمون في معترك الخطوب

كأن الحلفاء يوم عقدوا ألوية الحرب قد عقدوا غيب ضمائرهم على الغدر بأنفسهم وبالناس، فلم يكادوا ينفضون أيديهم من تراب هتلر وحليفيه حتى أخذ بعضهم بتلابيب بعض، يتصارعون على أسلاب الحرب ويتكالبون على جثث الضحايا؛ فهذا يريد أن يغرز أنيابه هنا، وذاك يحاول أن ينشب أظفاره هناك؛ واللحوم طعوم، والذبائح أجناس؛ فوقف كل وحش بازاء منافسة تهدده بما يملك من أسباب الحياة وبما يعلم من أسرار الموت، حتى خشع المهيض، واستكان الضعيف، واستخذى الجبان، وأقرت الأمم بالضيم، واعترفت الدول بالرق، وانتهى النزاع على ملكوت الأرض إلى قوتين متعارضتين: قوة الرأسمالية في أمريكا، وقوة الشيوعية في روسيا، كلتاهما تريد أن تبسط سلطانها على المستضعفين في الأرض دون الأخرى، والدولة التي كانت تنافسها في استرقاق الشعوب نتفت ريشها الحرب فتأخرت عن صفها وهبطت عن مستواها، فتركت لها تصريف الأمر وغفت في ظلال السكينة ترجو لأجنحتها أن ترتاش ولجروحها أن تندمل؛ فلم يبق العالم اليوم من يقف أمام هاتين القوتين العارمتين موقف الأبي الذي يتكرم عن الذل ويتجافى عن المهانة إلا قوة واحدة تستمد بأسها من روح الله، وتقتبس هديها من نور الحق، هي قوة الإسلام. وبحسبك أن تسمع مذياعك في أي ليلة، أو تقرأ في أي يوم، لتعلم أن هذه القوى الثلاث هي التي تتصارع وتتقارع في الغرب والشرق وما بينهما، وسائر الأمم محتبون بهامش الميدان يشهدون هذا الصراع شهود المتفرج أو المهرج لينسخوا بمبادئهم دياناته وفلسفاته، والأمريكيون يقيمون من دونهم السدود ليظلوا مستأثرين وحدهم بخيراته، والمسلمون في تركية وإيران وباكستان وأفغانستان وإندونيسيا، وفي أقطار العروبة من الخليج الفارسي إلى المحيط الأطلسي، يجأرون بالشكوى، ويصرخون من الظلم، ويغضبون للكرامة، ويثورون للحق، وينادون بالجهاد؛ ولكن أصواتهم الإنسانية اللينة تذهب في عواء الذئاب ونباح الكلاب كما تذهب النسمة الرخية في الأدغال الشواجن!

كأنما الحرب لم تخلف من المشكلات غير مشكلة الشرق الأوسط! وكأنما لم يتركوا من التراث غير تراث الإسلام! وكأنما الأسرى في نظام هيئة الأمم المتحدة هم المسلمون! فمن لم يكن له من شذاذ الأمم جعلوا له موطناً من أرض العرب! ومن ضاقت عليه مذاهب العيش في بلده وسعوها عليه من أرزاق العرب! ومن نقت ضفادع بطنه من المستعمرين

ص: 1

لازدراد بقعة حرام سكنوا جوفه المسعور بقطعة من أملاك العرب! ومن نازع المسلمين أو العرب! فالروس تتحلب أشداقهم على ابتلاع تركية وإيران. والهندوس يجدون العطف الأوربي على عدوانهم الوحشي على أهل باكستان. وهولندة تحاول أن تمزق بجديد الأمم المتحدة إندونيسيا، وهذه الدولة لا تزال تشعر بمسامير النعل الهتلري الثقيلة تغوص في ظهورها الوطيئة البضة. وإنجلترا العجوز أن تخلى لحاميتها أمريكا طريق الشرق فتقرر الجلاء عن فلسطين لتقتطع السودان من مصر، وهو إنسان عينها ومهجة قلبهان لتجعله نقطة ارتكازها في أفريقيا، وحقيقة مجازها إلى الشرق. وفرنسا المنحلة ما زالت تفرض الباقي من سلطانها على الشمال الأفريقي كله فتقيم بينه وبين أبويه الإسلام والعروبة حاجزاً من الظلام والحصر والرقابة والتجسس، وترغمه على الاندماج بها والفناء فيها، فيستظل بغير علمه، ويتكلم بغير لغته، ويؤمن بغير دينه. ولولا ممالأة الدول ومواطأة اللصوص ومناوأة الخطوب لما ثبتت هذه القدم الناعمة في رمال الريف وصخور أطلس! وأمريكا التاجرة الطموح تصمم على أن تحول بين الشيوعية وثروة الشرق فتجعل من الإنجليز واليهود سداً كسد ذي القرنين يأخذ السودان من مصر، وفلسطين من العرب، وبقية امتداده من الإسلام. ولولا هذه النية الخبيثة لما ساعدت انجلترة على مصر في مجلس الأمن، وعاونت اليهود على العرب في جمعية الأمم المتحدة.

هاهي ذي تقسم فلسطين وبها إحدى القبلتين وثاني الحرمين قسمة ضيزى بين العرب الأصلاء واليهود الدخلاء، وتحمل الصهيونية على ضمائرها وبواخرها من أركان الأرض إلى فلسطين لينصبوا للحق كما نصبوه من قبل لعيسى، ويبذروا في القدس الشقاق للناس كما بذروه في يثرب لمحمد!

ليت شعري ما جريرة العرب والمسلمين على الأمم الأوربيين والأمريكيين. هل جريرتهم عليهم أنهم فتحوا العالم وطهروه، وأعلنوا دين الله ونشروه؟ قد يكون مع الفتح ترة العنصرية، ومع نشر الدين تعصب الكنيسة، ولكن ترة المقهور وتعصب الكاهن لم يكونا وحدهما السبب في ذلك الاستخفاف الدولي بالإسلام والعروبة؛ إنما السبب الأقوى فيما أعتقده أن المسلمين اعتمدوا على الحق دون القوة، وعولوا على القول لا على الفعل، واعتقدوا في الشخص لا في المبدأ، ونسوا أن دينهم قرآن وسيف، وتاريخهم فتح وحضارة،

ص: 2

وشرعهم دين ودنيا، وحربهم جهاد وشهادة، وزعامتهم خلافة وقيادة.

فهل آن لأبناء الأمة الوسطى ووراث الدعوة الكبرى أن يذكروا ما نسوا، ويحددوا ما طمسوا، ويعلموا أن الحق هو القوة، وأن القوة هي الوحدة، وأن وحدة العرب كانت معجزة دين التوحيد، قام عليها تاريخهم القديم ولن يقوم على غيرها تاريخهم الجديد؟!

أحمد حسن الزيات

ص: 3

‌في عالم الروح

للأستاذ عباس محمود العقاد

تلقيت من الأستاذ صاحب التوقيع رسالة جاء فيها: (أن العالم الطبيعي أدوين ريد تحدث مستخفاً برؤيا رآها في منامه وهي صليب كتب عليه أسمه ويليه أنه توفى في 7 نوفمبر سنة 1910 ولم يحن ذلك اليوم حتى فارق الحياة وكتب على صليب فبره اسمه بذلك التاريخ.

ثم نقل من كتاب الأرواح للشيخ طنطاوي جوهري كلاماً فحواه أن الدكتور جيبية رأى في منامه مكتبة عامرة لجاره لم يرها ولم يسمع بها من قبل، وتصفح عناوين الكثير من كتبها، ثم ذهب إلى الدار ليرى مبلغ صحة رؤياه، فإذا تلك المكتبة بعينها والكتب بعناوينها حتى أثاثها كما شاهده في النوم بلا اختلاف.

ثم نقل عن الجزء الخامس من مجلد الهلال الخامس والخمسين حلماً فصله الكاتب الخطيب المبين الأستاذ محمد توفيق دياب بك وذكر أنه رآه بتفصيله في اليقظة بعد ذلك بيومين.

وأضاف الكاتب إلى ما تقدم خلاصة حلم رآه فقال: (ولي رؤيا عجيبة وهي أنني تحدثت مع صديق في أمور اجتماعية وإذا به يستشهد بمقطوعة من أرصن الشعر وأسلسه وأبلغه. حفظت بعضها مع العلم بأنني بطيء النظم لا أكثر من تعاطيه، وكنت متوجهاً بكليتي للاستماع مع الإعجاب الشديد. ويقال أن ليس للإنسان إلا عقله الباطن عند النوم، وكان عقلي الباطن كما علمت متوجهاً للإصغاء وتتبع ما يلقى عليه لا غير، ويقال أن الإنسان لا يفكر بشيئين في آن واحد. . . تصور أنك تسمع لخطيب وأنت متتبع لأقواله بكل إعجاب: هل يجوز الادعاء بأن ما تسمعه من بنات أفكارك؟ إذن من هو الناظم؟ وهل هو أنا؟ وقد برهنا على استحالة ذلك؟. . وكيف يتم صدق الرؤيا لحوادث المستقبل البعيدة عن المصادفات، والتي لم تكن أصداء لماض قريب أو بعيد ولكنه تنبؤ بمستقبل مجهول؟. .

عبد الجبار محمود الوائلي

(بغداد) خان الشبندر الجديد

شيء واحد يمكن أن يقال على سبيل التحقيق في الجواب عن هذه الأسئلة: وهو أن الجزم

ص: 4

ينفي هذه الروايات على اعتبار أنها مستحيلة الوقوع إنما يكون نفياً باطلاً لا يعتمد على سند من العلم ولا من البراهين المنطقية.

فوقوع الأنباء على هذه الصورة ليس بالمستحيل.

ومن قال باستحالته وجب أن يثبت لنا أنه على علم تام بأسباب الاتصال بين كل نفس ونفس وكل مادة ومادة أو كل نفس ومادة في هذا العالم الذي نعيش فيه.

وليس في وسع أحد أن يزعم أنه على علم تام بأسباب الاتصال بين مادة ومادة في عالم المكان، ودع عنك صلات النفوس والعقول التي لا تقع تحت الحصر ولا يحيط بها العيان.

ففي هذا الفضاء الشاسع أشعة من النور لا تراها العين وهي مع ذلك تنفذ في المعادن الصلاب وتؤثر في الأحياء وغير الأحياء؛ وبعض هذه الأشعة يعرف بالآلات وبعضها لا يعرف بغير التقدير والترجيح، وكلها لا تغنينا شيئاً في بيان سبب التأثير الذي يقع من جرم على جرم آخر في أجواز الفضاء الرحيب. فما هي قوة الجذب؟ وما هي قوة الدفع؟ وما هي قوة الإشعاع؟ ولماذا يكون الإشعاع حركة سارية تنطلق من الذرة المشطورة فتعصف بالقوى؟ وما الذي يتحرك حين يحدث هذا الإشعاع؟ هل الحركة هي القوة أو الحركة نتيجة القوة؟ وكيف تحدث هذه أو تلك أو تنتقل بالمقدار الذي يرصده الراصدون؟

كل هذه أسئلة لا يقطع المجيب عنها بجواب مفروغ منه متفق عليه، وهي مع ذلك أسئلة عن النور أي عن المثل الأعلى للوضوح والظهور فيما تقع عليه العين ويتمثل به اللسان.

فالذي يزعم لنا أن أسباب الاتصال بين نفس ونفس، أو بين عقل وعقل، محصورة محدودة يمتنع كل ما عداها، فهو مدع بما ليس في علمه ولا في أحد من البشر، ويلزمه دليل ما يدعيه ولا دليل هناك.

لكن هل يجوز لنا أن نبني على هذا أن تلك الأنباء قطعاً من إيحاء عقل لعقل أو رسالة روح إلى روح؟

أن أسئلة كثيرة تلزمنا قبل أن نخلص إلى هذا القول على وجه التحقيق، ولنضرب المثل بما رواه صاحب الخطاب عن إدوين ريد.

فهل رأى إدوين ريد نبوءات أخرى غير النبوءة بيوم وفاته؟ وهل رأى غير نبوءات مثل نبوءته بيوم الوفاة؟

ص: 5

إن كانت إدوين ريد هي النبوءة الوحيدة التي صدقت فهناك محل للسؤال: لم لم تتهيأ روحه لمعرفة الغيب إلا في هذه الحالة؟

وإن كانت هي واحدة من نبوءات كثيرات كذبت كلها ما عدا هذه النبوءة فاحتمال المصادفة هنا يخطر على البال إلى جانب الاحتمال الآخر: وهو تلقي الرسالة من عالم الروح. ويوم (7 نوفمبر سنة 1910) كأي يوم آخر في أيام السنين، لا موجب لاستثنائه ولا موجب للقطع بأن الإنباء به من توفيق المصادفات وقد يجوز أن ألف إنسان غير إدوين ريد هذه التواريخ كما سجل تأريخ (7 نوفمبر سنة 1910)؟

وإنما تخرج هذه الأنباء من عالم الغرائب والمصادفات إلى عالم الحقائق المتواترة إذا أمكن تطبيقها تجارب العلوم؛ وليس هذا التطبيق بالميسور في مسائل العقل والروح، لأنك تستطيع أن تحكم مادة ككل مادة، وأن التجربة فيها تتكرر على منوال واحد أو مع اختلاف جدة يسير. ولكنك لا تستطيع أن تحكم بأن كل عقل ككل عقل في الخصائص والآثار. فيجوز أن روحاً تتلقى وروحاً أخرى لا تتلقى. ويجوز أن حالة التلقي لا تطرد في جميع التجارب على نمط واحد.

وههنا موضع الإعضال في تعميم الحكم على مسائل العقول والأرواح.

فغاية ما ينتهي إليه اليقين في هذه المعضلة أن الاتصال بين العقول أو بين الأرواح غير مستحيل، ولكنه كذلك غير محتوم من الأمثلة التي تذكر في هذا السياق، وبخاصة إذا نحن أحضرنا أن الرواية عن المنام تتسع لكثير من التحريف والانحراف، لأن المنام بطبيعته غير مثبت للمراجعة والتأكد من الصور الغامضة التي تتلاحق فيه، وقد يتممها الخيال بعد وقوع الحوادث التي تشبهه في عالم اليقظة، وإن تقاربت المسافة بين رؤية اليقظة ورؤية المنام.

فيجوز أن الرؤى التي أشار إليها الكاتب رسائل من روح إلى روح، أو من العقل المحيط إلى عقول الآحاد. ولكن الجزم لا تكفي فيه هذه الرؤى ولا تلك الروايات.

أما نظم القصيدة في المنام وتخيل الإصغاء إليها من صديق فهو ظاهرة مختلفة تكفي التجارب النفسانية لتفسيرها ولا استحالة فيها على الإطلاق.

لأن نظم الشعر في النوم يحدث لغير قليل من الشعراء، وقد روى عن كولردج الشاعر

ص: 6

الإنجليزي أنه نظم قصيدة مطولة من أجود شعره وهو نائم، ولست أستبعد ذلك. لأنني تتفق لي أبيات من الشعر أنظمها في المنام وأنا مشغول الذهن بالنظم أو غير مشغول، ولإن لم يتفق لي في هذه الحالة نظم المطولات.

أما استحالة النظم والإصغاء في وقت واحد فليس بواقع. لأن الإصغاء تخيل لا حقيقة له في الخارج، وكل ما فيه أنه هو الصورة الرمزية التي اتخذها الوعي الباطن لظهور تلك الأبيات فيه.

ومن طبيعة الأحلام أنها رمزية تتخيل المعاني والمؤثرات في صورة المحسوسات. فيبدو للمكروب في حلمه أن عدواً مطارداً يشدد عليه الخناق، وأن وحشاً مفترساً يبطش به في مكان لا مهرب منه وهكذا يتخيل الوعي الباطن أنه يصغي إلى متكلم وهو الذي ينظم ما يصغي إليه في الخيال.

وبعد فلا استحالة - حتى أثناء اليقظة - في تسجيل العقل الباطن شيئاً والتفاته مع الحس إلى شيء آخر.

فقد جربنا جميعاً أن نستغرق في التفكير ويمر بنا إنسان نعرفه فلا نلتفت إليه. ثم نذكر أنه قد مر بنا بعد انتهاء حالة الاستغراق، وقد نذكر أنه قد حيانا بكلمات نحفظها ونحسب أننا لم نسمعها حين فاه بها، ونحن قد سمعناها وسجلناها على غير انتباه.

ولا حاجة بنا في هذه الظاهرة إلى فرض المصادفات، لأن الواقع في أمثال هذه الظاهرة متكرر متواتر يمكن القياس عليه. أما الإنباء بالمجهول فشاطئ الأمان فيه أنه لا إثبات بغير دليل يقبل التكرار والتواتر، ولا إنكار بغير دليل كذلك الدليل. وقد نرجح الإثبات بغير دليل على الإنكار بغيره. لأن المنكر المتعسف يغلق الباب على ما سيعلم في المستقبل، ولا يزيد المثبت المعتسف على الخطأ في الواقع كما رآه أو تخيل أنه رآه. . .

عباس محمود العقاد

ص: 7

‌النساء في القرآن الكريم

لصاحب الفضيلة الأستاذ محمود شلتوت

كثر كلام الناس قديماً وحديثاً حول منزلة النساء في الإسلام، فمنهم من زعم جهلاً أو تجاهلاً أن الإسلام اهتضم حقوقهن، وانتقص مكانتهن، وأخذ يغري المرأة بالثورة على الإسلام بحسب ما صور لهم من تعاليم نسبها إليه وأقنعها بأنها السبيل الذي رسمه لها، والواقع أن الإسلام منح النساء كل خير وصانهن عن كل شر، ولم يأب عليهن سوى ما دفعتهن إليه هذه المدنية الكاذبة من (حرية) جعلت الغربية من النساء إذا ما خلت إلى ضميرها الإنساني تبكي دماً على الكرامة المفقودة، والعرض المبتذل، والسعادة الضائعة. وسيعلم النساء متى ثبن إلى رشدهن أن لا منفذ لهن، ولا حافظ لكرامتهن وحقوقهن سوى هذه التعاليم الإلهية التي يحاول المغرضون والمخادعون لهن أن يصوروها في أعينهن بصورة الأغلال التي تطوق الأعناق وتحول بينهن وبين ما لهن من حق في الحياة.

وأرجو أن أقدم للنساء عامة وللمسلمات خاصة تحت هذا العنوان، وعلى صفحات الرسالة الغراء، خطوط هذه الجولات الواسعة التي رسمها القرآن الكريم في سبيل الإرشاد إلى حقوقهن، وبيان أحكامهن ومنزلتهن في حياة الأسر التي تعتبر بحق اللبنات الأولى في بناء الأمم، والتي تخلع على الأمة مالها من كيان قوي أو ضعيف.

والقرآن هو المصدر الأول للتشريع الإسلامي، والحكم الأعلى الذي يحكم على غيره ولا يحكم الغير عليه.

قرأت القرآن وتتبعت أبرز مواقفه في جانب النساء، فوجدته خير ما يصور للناس عناية الإسلام بالنساء، وحظوتهن في تشريعه، وليس بعد كلام الله كلام، ولا بعد تشريعه تشريع.

عرض القرآن للنساء في أكثر من عشر سور، وكلها من المدني الذي كان شأنه وقت التنزيل فرض الحقوق، وبيان الواجبات، وتنظيم الشئون، والإرشاد إلى ما ينبغي من شئون الأسر، وشئون الأمم.

عرض لهن في سورة البقرة في ربعين عظيمين هما (يسألونك عن الخمر والميسر)، (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة).

بين فيها حكم تزوج المسلمة للمشرك الذي لا يؤمن بكتاب ولا رسول، وأبطل بعض

ص: 8

المعاملات الضارة التي كان يعتاد أهل الجاهلية مع النساء، وبين الطلاق الذي يملك الرجل فيه رجعة الزوجة والذي لا يملك به الرجعة، كما بين أن لها الحق في افتداء نفسها من سوء العشرة بما تملك من مال، وبين مساواتها للرجل فيما لها وعليها من الحقوق الزوجية، كما أمر بإمساكها بمعروف أو تسريحها بإحسان، وحذر القوم من عضل النساء ومنعهن أن يتزوجن بمن يردن طمعاً في مالهن وضراراً لهن، ثم بين أن المرأة شريكة الرجل في شأن الولد وإرضاعه، وأنه لا يصح للرجل أن يبت في هذا الشأن برأي دون (تراض منهما وتشاور) ويبين في هذا السياق الخطبة وأدبها كما بين حق المطلقات في المتعة، وهي ما يبذله الرجل للمرأة بعد طلاقها مما تتعزى به ويخفف عنها وقع الفراق، (وللمطلقات متاع بالمعروف حقاً على المتقين).

وبين عدة المتوفي عنها زوجها، وحث الأزواج على الإيصاء لهن بعد الوفاة بأكثر مما تستحق إحداهن بالعدة.

وعرض لهن في سورة المائدة، وبين حل تزوج المحصنات الكتابيات منهن، وسوى في ذلك بينهن وبين المحصنات المؤمنات.

وعرض لهن في سورة النور، وبين ما يردعهن عن ارتكاب ما يزري بالكرامة ويخل بالشرف والمكانة، كما بين حكم من تعدى عليهن بالقذف زوجاً كان أو غير زوج، وشرع الأدب الواجب حين الدخول عليهن في بيوتهن، وذلك حفظاً لهن من أن تقع عليهن الأنظار، وهن في حالة التبذل والقيام بالمصالح المنزلية. كما خص هؤلاء الذين نضبت وجوههم من ماء الحياة بشديد من التحذير مما اعتادوا في إكراه الفتيات على البغاء تكسباً بعرضهن (لا تكرهوا فتياتكم على البغاء أن أردن تحصناً لتبتغوا عرض الحياة الدنيا).

وعرض لهن في سورة الأحزاب وعالج كثيراً من المشاكل المنزلية وما يجب عليهن من آداب، وقد اتخذت السورة زوجات الرسول مثالاً حياً فيما ينبغي أن تتخذه الزوجة أساساً لحياتها المنزلية الفاضلة.

وعرض لهن في سورة المجادلة فاستمع إلى رأي المرأة واحترمه، وقرره مبدأ يسير عليه التشريع العام الخالد، وبذلك كانت آيات الظهار التي بدئت بها السورة المذكورة أثراً من آثار الفكر النسائي، وصفحة إلهية خالدة نلمح فيها على ممر الدهر صورة احترام الإسلام

ص: 9

للمرأة وأن الإسلام ليس كما يظن أعداؤها يراها مخلوقاً يقاد بفكر الرجل ورأيه، وإنما له رأيها وللرأي قيمته ووزنه.

يقول أوس بن الصامت لزوجه خولة بنت ثعلبة (أنت على كظهر أمي) وكان المعروف في الجاهلية أن الرجل إذا قالها لزوجته حرمت عليه. ثم دعاها فأبت وقالت: والذي نفس خولة بيده لا تصل إلي وقد قلت ما قلت حتى يحكم الله ورسوله. ثم أتت رسول الله فقالت: يا رسول الله. أن أوساً تزوجني وأنا شابة مرغوب في، فلما خلا سني ونثرت بطني جعلني كأمه وتركني إلى غير أحد، فإن كنت تجد لي رخصة يا رسول الله فحدثني بها. فقال عليه السلام: ما أمرت في شأنك بشيء حتى الآن، وما أراك إلا قد حرمت عليه، فأخذت تجادل رسول الله مراراً وتقول: أنه ما ذكر طلاقاً فكيف أحرم عليه؟ أن لي منه صبية صغاراً إن ضمهم إليه ضاعوا، وإن ضممتهم إلي جاعوا. وجعلت ترفع رأسها إلى السماء تقول: اللهم أني أشكو إليك. وما برحت هكذا حتى نزلت الآيات (قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما أن الله سميع بصير). نزلت الآيات تشنع على المظاهرين من نسائهم، وتضع طريقاً للخلاص من الظهار، وتبين أنه ليس طلاقاً ولا موجباً للفرقة، كما كانت ترى خولة بنت ثعلبة.

وهذا أسمى ما تصبو إليه النساء في احترام رأيهن متى صادف الحق والمصلحة. وليعتبر بهذا المرجفون المعتدون.

وعرض لهن في صورة الممتحنة وبين حكم النساء يهاجرن مؤمنات من بلاد الأعداء إلى بلاد الإسلام، وحكم حلهن لأزواجهن السابقين، وحكم زواجهن بالمؤمنين، وبينت حق النساء في المبايعة على السمع والطاعة، والقيام بحدود الشريعة وأحكامها، وأنهن في المبايعة كالرجال، وقد روى المفسرون قصة هذه المبايعة التي شغلت مركز الرياسة فيها عن النساء (هند بنت عتبة، زوج أبي سفيان، وهي قصة طريفة تعلوها ظاهرة عظيمة من حرية الرأي في النقاش والحوار. حرية لا يظفر بها الرجال عند أعظم ملوك الأرض ديمقراطية.

وعرض لهن في سورة التحريم في شأن جرى بين زوجات الرسول، ويقع بين كل الزوجات في كل زمان ومكان، وفيها تقررت مسئولية المرأة عن نفسها مسئولية مستقلة

ص: 10

عن مسئولية الرجل، وأنه لا يؤثر عليها، وهي صالحة، فساد الرجل وطغيانه، ولا ينفعها، وهي طالحة، صلاح الرجل وتقواه (وضرب الله مثلاً للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانت تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئاً وقيل ادخلا النار مع الداخلين)(وضرب الله مثلاً للذين آمنوا امرأة فرعون إذ قالت رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين).

وعرض القرآن الكريم بعد هذا للنساء في سورتين: سورة النساء وسورة الطلاق؛ وكثيراً ما يطلق على الأولى أسم (سورة النساء الكبرى) ويطلق على الثانية (سورة النساء الصغرى).

وكم تنبض قلوب النساء فرحاً بتكريم الله لهن وعنايته بهن حينما يسمعن أو يعلمن أن في القرآن سورتين سميتا باسمهن، وعالجتا كثيراً من شئونهن في أطوار حياتهن كلها من عهد الطفولة إلى عهد الزوجية والأمومة، وأن إحدى السورتين وهي الكبرى تبدأ بخطاب الناس جميعاً، وأن الأخرى وهي الصغرى تبدأ بخطاب الرسول، وفي هذا وذاك حث شديد للحاكم والمحكوم، أو الرئيس والمرءوس على مراعاة ما يفرض بعد الخطاب في أمر النساء من أحكام وإرشادات. ولا ريب أن منزلة النساء من العاطفة ومركزهن الاجتماعي في الأمة جديران أن تستأثرن في أمرهن عاطفة الرحمة التي يحملها وصف النبوة (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم) ووشيجة الرحم التي تجمع بين الناس ذكوراً وإناثاً (واتقوا الله الذي تساءلون به الأرحام).

وهذا وضع يجدر بالذين يرمون الإسلام بأنه يحط من قدر النساء أن يلتفتوا إليه وأن يكفوا عن زعمهم أن الإسلام لم يمنح المرأة من العناية والاهتمام ما منحته لها المدنية.

هذا وقد عرضت سورة (الطلاق) لبيان الوقت الذي يجب على الرجل مراعاة إذا أراد أن يطلق زوجته اتقاء للإضرار بها، كما عرضت لبيان أنواع عدة المطلقة وما يجب فيها من النفقة والسكنى.

أما سورة النساء الكبرى فقد عرضت لمبادئ هي أساس سعادة المرأة وهناءتها، وبالتالي أساس السعادة الزوجية والحياة المنزلية ونستطيع أن نجملها فيما يلي:

1 -

أعلنت سورة النساء أن المرأة أحد العنصرين اللذين تكاثر منهما الإنسان، وجعلت

ص: 11

ذلك نعمة توجب على الناس تقوى الله ومراقبته (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام أن الله كان عليكم رقيبا).

2 -

وقررت مساواة النساء بالرجال فيما هو من خصائص الإنسانية فشرعت الكسب للنساء كالرجال، وأرشدت كلاً منهما إلى تحري الفضل والخير من الأموال بالعمل دون التمني والتشهي، وأنه ليس للرجل أن يسلب المرأة من العمل الذي خلقت له، كما أنه ليس للنساء أن يطمعن فيما وراء مؤهلاتهن الطبيعية وفي ذلك يقول الله:(ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض، للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن).

3 -

وقررت أن للنساء ثواب أعمالهن الصالحة كالرجال وفي ذلك يقول الله تعالى (ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا).

4 -

ورفعت شأن المرأة عن أن تكون متاعاً يورث كما تورث الأموال، وفرضت لها حرية في ذاتها وأموالها (يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن).

5 -

وشرعت نظاماً للزواج فيه تكريم للمرأة والأسرة، فحظوت التزوج بأصناف حفظاً لروابط لا ينبغي أن تعرض بالزواج إلى الفساد: حظرت زواج الابن من زوجة الأب، وزواج الأب من حليلة الابن، وزواج الأمهات والبنات والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت والمرضعات والأخوات من الرضاعة وأمهات النساء والربائب. وحظرت لجمع بين الأختين، وزواج المتزوجات والمعتدات. وذلك كله في قوله تعالى (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء) إلى قوله (والمحصنات من النساء).

6 -

وأشارت إلى تخير الزوجات من وسط الحرائر المؤمنات وأنه لا يجوز العدول إلى غيرهن إلا عند العجز عنهن وخوف العنت، وذلك شأن له قيمته في إنجاب الولد، واختيار البيئة الصالحة لتربيته، وضمان التوافق والسعادة في الحياة الزوجية، وذلك في قوله تعالى (ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فيما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات).

ومن هنا أخذ الفقهاء أن الشريفة مقدمة في الزواج على غير الشريفة، وأن حسنة السمعة

ص: 12

مقدمة على سيئة السمعة. وفي هذا إيحاء قوي إلى النساء بأن يعملن جهدهن على تحسين سمعتهن وتحليهن بالأخلاق الفاضلة التي ترغب فيهن الأزواج، ولعل ما اتخذته الفتاة لنفسها من حرية واسعة في هذه الأيام كان له نصيب كبير فيما نرى من أزمة الزواج، فعلى الفتاة أن تتدبر في أمرها، وعليها وحدها أن تحل تلك الأزمة إن أرادت لنفسها الخير والسعادة.

7 -

وأفرغت السورة على عقد الزواج صبغة كريمة أخرجته عن أن يكون عقد تمليك كعقد البيع والإجارة، أو نوعاً من الاسترقاق والأسر كما كانت المرأة قبل الإسلام عند العرب وغيرهم وسمته (ميثاقاً غليظاً) ولهذا التعبير قيمته في الإيحاء بمعاني الحفظ والرحمة والمودة، فالزواج في نظر القرآن عهد شريف وميثاق غليظ ترتبط به القلوب وتختلط به المصالح، ويندمج به كل من الطرفين في صاحبه فيتحد شعورهما، وتلتقي رغباتهما، وآمالهما، هو علاقة دونها علاقة الصداقة والقرابة، وعلاقة الأبوة والبنوة (هن لباس لكم وأنتم لباس لهن).

8 -

وأوجب على الرجل أن يبذل للزوجة مالاً سماه الله (صدقة) ووصفه بأنه نحلة - والنحلة ما يمنح عن طيب نفس بدون مقابلة عوض - ولا ريب أن الصلة بين الزوجين أعلى وأشرف من أن يجعل عوضها دراهم معدودة، فليس المهر ثمناً ولا في مقابلة شيء في المرأة كما يظن كثير من الناس، وإنما هو آية من آيات المحبة والتقدير وأنه لذلك كان واجباً على الرجل، وأن أتفق الزوجان على أن لا مهر للزوجة (وآتوا النساء صدقاتهن نحلة، فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً فكلوه هنيئاً مريئاًُ). وقد كان المهر بذلك حقاً للزوجة لا يحل أن يأخذ الزوج منه شيئاً إلا بطيب نفسها. بذلك تقرر لها حق الملكية الصحيحة الخالصة من رقابة الزوج وهيمنته. ومن درجة منحها الإسلام للمرأة منذ أربعة عشر قرناً في حين أن النساء في أوربا في القرن العشرين لا يتمتعن بهذا الحق الذي تتمتع به المرأة في ظل الإسلام.

9 -

وبينت السورة الدرجة التي جعلها الله للرجال على النساء بعد تساويهما في الحقوق والواجبات، وأنها لا تعدو أن تكون درجة الإشراف والرعاية بحكم القدرة الطبيعية التي يمتاز بها الرجل عن المرأة، وبحكم المال الذي ينفقه قياماً بما تحتاج إليه حتى تقوم بما

ص: 13

عليها من حقوق الزوجية. وليست تلك الدرجة بدرجة الاستعباد والتسخير كما يصورها المخادعون المغرضون، وذلك في قوله تعالى (الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم).

10 -

قد أرشدت السورة بعد هذا إلى أن النساء أمام هذه الرياسة منهن صالحات، ومنهن غير صالحات، وأن من شأن الصالحات القنوت وهو السكون، والطاعة لله فيما أمر به، ومنه القيام بحقوق الزوجية والرياسة المنزلية، والاحتفاظ بالأسرار التي لا ينبغي أن يطلع عليها أحد غير الزوجين، وأن هذا الصنف من الزوجات ليس للرجال عليهن شيء من سلطان التأديب.

أما غير الصالحات، وهن اللاتي يحاولن الخروج عن حقوق الزوجية ويحاولن الترفع والنشوز عن مركز الرياسة، بل على ما تقتضيه فطرهن، فيعرضن بذلك الحياة الزوجية للتدهور والانحلال - فقد وضعت السورة لردعهن وإصلاحهن وردهن إلى مكانتهن الطبيعية والمنزلية طريقين واضحين: وكلت إحداهما إلى الرجل بحكم الإشراف والرياسة، وهو أن يعالجها بأنواع من العلاج لكل صنف من النساء ما يليق به، ويكفي في ردعه، وهي الوعظ والهجر والضرب، فالتي يكفيها الوعظ بالقول لا يستعمل معها الهجر والضرب، والتي يصلحها الهجر لا يتهاون في جانبها بالوقوف عند حد القول والوعظ ولا يسرف فيصل به الأمر إلى حد الضرب. وهناك صنف من النساء في بعض البيئات لا تؤثر فيه الموعظة ولا يكترث بالهجران ولا يصلحه إلا نوع من التأديب المادي. وقد جعل الله الضرب آخر الوسائل التأديبية إشارة إلى أنه لا يلجأ إليه إلا عند الضرورة، وقد أساء المتحضرون من أبناء المسلمين أنفسهم فهم هذا النوع من التأديب وجعلوه نوعاً من الطغيان الذي لا يتفق وكرامة الزوجة، وهم في الواقع يتملقون عواطف المرأة، ويتظاهرون بالحرص على مصلحتها وكرامتها، ونحن نسائل المرأة العاقلة: أي الأمرين أحفظ لحياة الزوجة؟ أأن تنال بشيء من العقوبة عند نشوزها فيردها إلى صوابها؟ أم تترك لتسترسل في نشوزها فتهدم بيتها وسعادتها وتشرد أطفالها؟

أما الطريق الثاني فهو التحكيم وجاءت آيته بعد آية الطريق الأول للإشارة إلى أنه إنما يكون في حالة عجز الرجل عن لعلاج وعند تطور الحالة من النشوز إلى الشقاق، وفي

ص: 14

حالة ما إذا كان النشوز واقعاً من الزوج نفسهن وقد خاطب الله بهذا العلاج الأخير جماعة المسلمين تركيزاً لما يجب أن يكون بينهم من التكافل على حفظ الأسر والبيوت. وعلى الحكام أن يقوموا بمثل هذا الواجب نيابة عن جماعة المسلمين.

وطلبت الآية أن يكون الحكمان في هذا الشأن من أهل الزوجين؛ وذلك نظراً إلى أن الشأن في الأهل أن يكونوا أدرى الناس بأحوال الزوجين وأحرصهم على سعادتهما، وأقدرهم على التأثير في نفوسهما، وأحفظهم لما قد يجدون بينهما من أسرار.

وإنك لتجد كل هذا في قوله تعالى من هذه السورة (الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله، واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا أن الله كان علياً كبيراً، وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما أن الله كان عليماً خبيراً).

وبعد: فهذه صفحات النساء في القرآن الكريم أقدمها للقراء إجمالاً وتفصيلاً، وهي صفحات كما نرى ويرى كل ناظر فيها، بيضاء نقية تبسط ظل السعادة والهناءة على الحياة الزوجية، وتكون أسرة قوية فاضلة، وتبني مجتمعاً صالحاً يخوض غمار الحياة بقواه الذاتية وشعوره النفسي الدقيق. ولقد كان بودي أن أبسط القول في شرح تلك الصفحات الإلهية ولن الإنسان في هذه الحياة مسخر لسلطان الظروف، وحسب من يريد الحق هذا الإرشاد، وكتاب الله قائم بين أيدينا ميسر للذكر والنظر فليرجع إليه من شاء والله ولي التوفيق والهداية.

محمود شلتوت

ص: 15

‌من آثار الإسلام في الهند

تاج محل

للدكتور عبد الوهاب عزام بك

وزير مصر المفوض في المملكة السعودية

ملنا عن الجادة الكبرى في أكرا صوب المشرق فرأينا حجرات وقباباً متفرقة ثم دخلنا ساحة واسعة في جانبها من الشرق والجنوب رواقان كبيران كأنهما أعدا لإيواء الزائرين والحراس. والى الشمال مدخل المزار وهو كالمداخل الأخرى، عقد رفيع تتصل به حجرات في طبقتين.

وهو أصغر من مدخل مزار جلال الدين أكبر الذي وصفناه قبلاً؛ ولكن فيه من الضخامة والعلاء والجمال ما يؤهله أن يكون مطلعاً للقصيدة الرائعة التي وراءه.

وعلى طاق المدخل الداخلي كتبت سور من القرآن: الضحى، وألم نشرح، والتين. وقد خطت الآيات بخط يختلف كبراً وصغراً على نسبة بعده عن الناظر فيرى القارئ ما بعد منه وما قرب بمقدار واحد.

فإذا التفت القارئ إلى الحديقة وأحواضها ونافوراتها وهذا الهيكل الجميل المائل في وسطها، ازدحمت على بصره وعقله وقلبه مناظر وأفكار وعواطف تقفه معجباً مرتاعاً.

حديقة فسيحة ناضرة يزدحم فيها الشجر، وتتشابك الأغصان والتاج في الوسط، وفي أقصى الحديقة إلى اليمين والشمال بناءان تطفو قبابهما من بعيد على هذه اللجة الخضراء، وسنذكرهما بعد. ويشق الحديقة من مدخلها إلى التاج حوض مستطيل اصطفت فيها نافورات يخر ماؤها في الحوض فتسمع وسوسة تخالها موسيقى هذا الجمال أو قصيدة تصف هذا المزار يهمس بها شاعرها.

ويمتد على جانبي الحوض خندقان فيهما نبت وزهر تناسب نضرتهما واهتزازهما صفاء الماء وترقرقه، ووراء هذين على الجانبين ممشيان عريضان.

فإذا سار السائر على أحدهما وقفه في نصف الطريق حوض عال من المرمر يصعد إليه خمس درجات في جوانبه الأربعة. وله حافة واسعة يقف عليها الزائر أو يجلس على أحد

ص: 16

المقاعد الرخامية الأربعة في جوانبها فيتأمل في هذه المرآة الرائعة صورة التاج. فيحار طرفه بين المنظرين، وينقسم إعجابه بين الصورتين. فإذا راقه هذا المنظر جلالاً وجمالاً وملأه روعة وإعجاباً، هبط إلى التاج، إلى حرم الجمال المائل أمامه فينتهي المسير إلى دكة فسيحة من الحجر الوردي تحيط بالبناء تعلو عن الحديقة خمس درجات يتقسمها أحواض للماء ومجار. وفوقها الدكة العليا الرخامية التي هي قاعدة هذا التمثال المسمى بالتاج، فيخلع نعليه إكباراً لهذا الجمال وإجلالاً فيصعد إحدى وعشرين درجة إلى الساحة العليا فوق الدكة الرخامية الرائعة. وعلى زوايا هذه الدكة أربع منارات عالية ضخمة كلها من الرخام الأبيض وهي منفصلة عن البناء في منظر متناسب متناظر، ثم يتقدم إلى الحرم الرائع في جملته، المحير في تفصيله؛ إذا نظرت إليه كله راعتك القبة البيضاء وحولها قباب صغيرة في أركان البناء بينها منارات صغيرة في جوانبه الأربعة ومنظر الباب والشبابيك الرخامية، أبدعت فيها الهندسة وتم فيها التناسب والتناسق.

وإذا تأملت تفصيله، رأيت من دقائق الصنعة في النحت والتشكيل والتحلية والترصيع والكتابة إبداع الصنعة وإعجاز الفن.

وتصعد أربع درجات أخرى، وتقف أمام الباب فتقرأ أعلى الطاق العالي أول سورة يس كأنها تعويذة لهذا الجمال من العين، ولكن جمال الخط في حاجة إلى تعويذة كذلك. وترى حول الباب سورة تبارك. وتحتها: (كتبه الفقير الحقير أمانت خان الشيرازي سنة هزار وجهل وهشت هجري مطابق دوازدهم سنة جلوس مبارك وترجمة التاريخ:

(سنة ثمان وأربعين وألف هجرية المطابقة السنة الثانية عشرة من الجلوس المبارك)(يعني جلوس شاه جهان).

وتدخل وفي النفس ما فيهان فتخطو خطوات إلى درج يهبط إلى حجرة واسعة فيها قبران. في وسط الحجرة ضريح (ممتاز محل). ومن أجلها بنى زوجها شاه جهان هذا البناء كله، والى جانبه قبر أكبر منه هو قبر هذا الزوج الوفي. ويقال إنه أراد أن يبني لنفسه مزاراً آخر من الرخام الأسود على الشاطئ الآخر من نهر جمنه كأنه أراد أن يقوم مزاره أمام هذا التاج في ثياب الحداد أبد الدهر. ولكن ابنه وخليفته أورنك زيب (زينة العرش) وكان مقتصداً زاهداً آثر أن يدفن أباه بجانب زوجه.

ص: 17

وترجع إلى الدرج صاعداً لتدخل حجرة فوق الحجرة التي فيها القبران، وفي الحجرة مقصورة من الرخام المخرم نفيسة المادة جميلة الصورة. كان لها باب من حجر اليشب نهب في ثورة الجات.

وفي وسط المقصورة مثالان للقبرين، وعلى هذين المثالين وجدر الحجرة من الأحجار الثمينة المنزلية في الرخام على صور زهار وأشجار، ومن الكتابة الجميلة ما يود الزائر أن يقف أمامه لا يبرحه، وأن يعود إليه عاجلاً إذا برحه. وأما الخبراء بالصنعة فلا ينقضي عجبهم وإعجابهم بهذا الإعجاز.

وعلى قبر ممتاز محل هذه العبارة:

(مرقد منور أرجمند بيكم مخاطب ممتاز محل توفيت سنة 1040)(المرقد المنور للأميرة الفاضلة الملقبة ممتاز محل الخ).

وعلى قبر شاه جهان:

(مرقد منور وروضة مطهر بادشاه رضوان استكاه. خلد آرامكاه أعليحضرت عليين مكاني، فردوس آشياني صاحب قران ثاني شاه جهان بادشاه غازي طاب ثراه وجعل الجنة مثواه.

درشب بيست وششم شهر رجب سنة هزار وشست وهفت هجري) وترجمتها:

(المرقد المنور والروضة المطهرة للسلطان ساكن الرضوان، نزيل الخلد من مكانه عليون، ومأواه الفردوس، صاحب القران الثاني، السلطان شاه جهان الغازي طاب ثراه وجعل الجنة مثواه.

في ليلة السادس والعشرين من شهر رجب سنة 1067).

وإذا ترك الزائر هذا المقام الجليل وهبط على درجات الدكة الهائلة فتوجه نحو الشمال رأى نهر جنة وراعه المسناة العظيمة التي بنيت على النهر لتدعم هذه الروضة وما فيها من أبنية، ورأى درجاً داخل السور يهبط إلى الماء. وكم أعجب التاج بجماله في هذا النهر وأولع المصورون بتصوير البناء وعكسه في الماء.

وعلى النهر، في منتهى الروضة إلى الغرب مسجد جميل أمامه ساحة فسيحة مرتفعة لها درج. وهو أسلوب آخر من أحكام الهندسة وإتقان الصنع والتصرف في هذا الحجر الوردي الذي بني به. ولا أشق على القارئ بوصفه.

ص: 18

ويقابل هذا المسجد على النهر في الجهة الشرقية بناء آخر يشبه المسجد في جملته وتتصل به أبراج ومنظرات مشرفة على النهر.

وقد بنى مناظرة للمسجد ولهذا يسمونه (الجواب). وهندسة الأبنية التيمورية كلها قائمة على التناظر والتشاكل فلم يجيزوا أن يبنى المسجد في زاوية من الحديقة دون أن يناظره بناء على الزاوية الأخرى.

زرت التاج ثلاث مرات في يوم وليلة. وأود الآن أن أعود إليه فأقيم عنده أياماً. وقد وصفت بعض ما بقي في الذاكرة منه ووراء هذا ما لا يستطيعه الوصف، ولا يحيط به البيان. ولعل الصور التي مع هذا المقال تعين القارئ على تصوره.

في مقال (أكرا) من دائرة المعارف البريطانية:

(عظمة أكرا مستمدة من أجمل أبنية العالم: البناء الشعري تاج محل. . . صور ومثل أكثر من أي بناء آخر في العالم. وصوره لا عد لها. وغاية ما يوصف به أنه حلم من الرخام.

وهو في التلوين والرسم وصناعة التحلية والتزيين يفوق كل عمارات العالم. ومظهره المتناسب إذا رئى مرة لا ينسى أبداً ولا تنسى رشاقة قبابة التي تعلو في الهواء كفقاقيع من المرمر في زرقة السماء.

يقول فرجسون في كتابه تأريخ العمارة:

(هذا البناء مثال من الترصيع بالأحجار الكريمة الذي صار من أكبر خصائص الفن المغولي بعد موت أكبر.

كل زوايا التاج وكل الأركان والأجزاء المهمة مجملة بالحجار الكريمة.

إنه أجمل وأنفس أسلوب من التزيين عرف في فن العمارة وهذه الزينة مفاضة على القبرين وعلى المقصورة المحيطة بهما ولكن يقتصد فيها في المسجد الذي يمثل أحد جناحي التاج وعلى النافورات والأبنية المحيطة.

والمقدرة التي لاءمت بين هذه الزينات في الأجزاء المختلفة عظيمة كالزينة نفسها تدل على مستوى عال في الذوق والمهارة لصناعة ذلك العصر.

ويقول اللورد روبرت في كتابه (إحدى وعشرون سنة في الهند):

لا اللفظ ولا الريشة يستطيعان أن يوحيا لأوسع القراء خيالاً أصغر الفكر عن الجمال

ص: 19

والصفاء في هذه الفكرة المجيدة.

وأني أقول لمن يروه: (أذهبوا إلى الهند فالتاج وحده أهل لهذه الرحلة).

وأما أنا فقد سطرت الكلمات التالية بعد أن زرت تاج محل وعدت إلى دهلي:

وقفة على تاج محل

كم تمنيت أن أقف هذا الموقف، وكم تخيلت أني أسرح الطرف في هذا المشهد وكم قرأت حديث التاج، وسمعت قصة التاج ورأيت صورة التاج فالآن فلتر العين جهرة ما شاقها إليه القراءة والسماع:

أشجار خضراء ناضرة، تحيط ببنية بيضاء ناصعة، وتشق هذه الخضرة إلى هذا البياض طرق وأحواض، وفي مطمح البصر إلى اليمين والشمال قباب عالية وردية مطلة على نهر جمنه.

أما هذا البناء الأبيض المشرف وسط هذه الخضرة، الذاهب في الهواء بقبته الكبيرة حولها قباب صغيرة، وقد لاحت نوافذه وشبابيكه وعقوده تتنازع العيون والقلوب وقامت حوله هذه المآذن الأربع العالية الجميلة - وهذا البناء العجيب لا أدري ما هو!!

أقصيدة من الجمال معانيها، ومن الرخام ألفاظها، ومن دقائق الصنعة قوافيها وتفعيلاتها؟ ما أجمل الشعر وما أبلغ الشاعر!

أألحان مجسمة، وأنغام ممثلة، وأغاني مصورة؟؟

ما أجمل الألحان وما أعذب الألحان، وما أحسن الغناء!!

أأماني أبدع فيها الخيال، وآمال انفسح فيها المجال، ثم استحالت حقائق، وانقلبت هياكل؟! ما أبعد الأماني وأعظم الآمال! وما أشد تحقق المحال!!

أم تلك أحلام، أم بدائع أوهام؛ ليست أفانين الرخام.

وما هذه الخطوط الجميلة، والنقوش المحكمة الدقيقة التي تحاول أن تشغل العين عن هذا البناء الضخم؟ أهي تعاويذ ورقي أم هي محسنات البديع في هذا الشعر البليغ!

وهذه الطرق التي يستبق فيها الماء والنبت إلى هذا البناء. وهذه المرايا التي تفرح بما تحوي من صور. وهذه المرآة العاجية العظيمة التي رفعت إلى هذا الوجه الجميل فيها جماله وسحره وفتنته.

ص: 20

ما تلك كلها في فنون الشعر؟ ما هي في ضروب الموسيقى؟ بل ما هي في غرائب الأحلام، وعجائب الآمال والأماني؟

إنما هذا كله، هذا الذي تراه بناء، أو لحناً أو غناء، أو أحلاماً أو أماني أو أوهاماً - ظاهر باطنه أروع، ولفظ معناه أجمل، وعلانية سرها أجل، وصوت دلالته أدق، وصورة معناها أرق.

وإنما باطنه هذان القبران. قبر السيدة التي شيد لها كل هذا الفن، وقبر الزوج المحب الوفي الذي ترجم عن حبه ووفائه بهذه الأشعار، مصوغة من الأشجار والمياه والأحجار. ومثل الفكر البشري والحضارة الإنسانية، وعظمة الدول الإسلامية في بناء كعنوان الكتاب، تقرأ وراءه تأريخاً وتأريخاً، وقصصاً وعبراً، على هذا البناء الذي بقي على الدهر تمثال للجمال والحب والوفاء.

عبد الوهاب عزام

ص: 21

‌بين القديم والجديد

للأستاذ محمد فريد وجدي

منذ أن أعلن العلم الحرب على الدين في القرن السادس عشر، لم ين عن مناوأته حيث ثقفه، اعتقاداً منه أن الدين لا يقوم على أصل ثابت له علاقة بإيصال الإنسان إلى كماله ولكنه قائم على الأهواء التي يبعثها حب الذات في النفوس، وعلى الأوهام التي لا يمكن أن يقام على وجودها دليل، والتي يكفي في دفع سحرها عن العقول نشر العلم الصحيح بين الناس، والعلم قد بنى على أساس دستوره المعروف، وهو أن لا يقام لمعقول وزن إلا إذا أيده دليل من الحسن، وأني للعقائد الدينية أن تجد دليلاً محسوساً لتقيم عليه وجودها؟

وقد وفق رجال العلم إلى جانب هذا لكشف الكثير من مساتير الوجود، ودرسوا نواميسها، وأقاموا عليها مخترعات ووسائل ذات أثر بالغ في كل فرع من فروع المحاولات الإنسانية؛ فكما ترى أثر العلم في المدن بادية في مصنوعاتها ومنتجاتها المحيرة للعقل، وفي علاجاتها وذرائعها المخففة للآلام، المزيلة للأمراض، ترى في القرى في آلات الحرث والري ةالبذر والتسميد والحصاد والنقل الخ الخ، فهذه المظاهر كلها أثرت في العقلية الإنسانية، وخاصة عقلية المتعلمين تأثراً عظيماً جعل للعلم فيها منزلة للقوامة عليها؛ فإذا بدا لهم مجهول، أو أعوزهم ترجيح، رجعوا فيه إلى العلم، ووقفوا منه عند حكمة، وقد علمت رأي العلم في الدين، فماذا تنتظر أن يكون عليه الناشئون بين حضنيه، المعولون في بناء أحكامهم عليه؟

هذا الأثر قد لحظناه في أنفسنا ونحن في دور الدراسة، وكابدنا للتوفيق بين عقيدتنا والعلم مشاق مضنية، وعملنا لنشر ثمرات ما حصلناه كتباً، ولا نزال جادين في هذا الطريق ثقة منا بأن مستقبل الإسلام بموافقته للعلم، أن الذين لا يتطلبون هذه الموافقة ولا يتكلفون لإيجادها مثل ما تكلفناه، تساورهم الشبهات والشكوك من كل مكان، وينتهي بهم الأمر إلى الإلحاد.

أن أشد ما يصادفه طالب الأيمان من طريق العلم هي ما في الأديان من شئون ما فوق الطبيعية، فالعلم الرسمي لا يزال قائماً على ما كان عليه من نفيها نفياً باتاً، وحسبان كل ما يتعلق بها من بقايا الخرافات الساذجة، فالتوفيق بين العلم والأيمان من المحالات البعيدة الوقوع، لذلك يشيع الإلحاد في طلبة العلوم الكونية في أساتذتهم؛ ومن كان منهم يعطف على

ص: 22

الأيمان بها، يكون مقوداً إليه بعاطفة لا بدليل، ولا يعتبر هذا أيماناً في نظرنا.

فهل من مخرج من هذا المأزق؟

نعم، وقد وجد منذ مائة سنة وهو ما كشفه العلماء العالميون من خصائص الروح الإنسانية وعلاقتها بعالم ما فوق الطبيعة بعد دراسات عميقة وجهود مضنية صرفوها في تتبعها في جميع حالاتها ودونت في مئات من المؤلفات القيمة.

أن هذه الدراسات العلمية المحضة التي عاداها ولا يزال يعاديها ممثلو الأديان في جميع الملل، قد محصت تمحيصاً لم تنله العلوم الطبيعية ذاتها، وذلك لغرابتها وشدة ما كانوا يكذبون بها. فقد أثبتت هذه الدراسات والتجارب العلمية وجود عالم فوق الطبيعة متحكم في عالمنا الأرضي، ومصرف له على مقتضى النظام الخاص به. عالم تعلل بعوامله جميع ما عجز الفلاسفة والعلماء عن تعليله في العالم الأرضي، وتخيلوا له عللاً وهمية أو سكتوا عنه حيرة وعجزاً.

كانت الحاجة ماسة جداً في النصف الثاني من القرن التاسع عشر إلى هذا الفتح العظيم في العلم، فقد كانت المعلومات التي لم تقبل التعليل قد بلغت حداً مؤيساً، واكتشفت النقدة العلميون جهات ضعف في العلم نفسه لا يمكن الإغضاء عنها.

وقد بين هذا الأمر الأستاذ الكبير (جوستاف لوبون) بأوفى بيان في كتابه القيم (تحول المادة) الذي ظهر في سنة 1910 فقال:

(إذا اتفق أن فيلسوفاً من المنصرفين إلى دراسة الموضوعات ذات الحدودية المبهمة، قرأ منذ عدة سنين كتاباً في العلم الطبيعي كان يدهش من وضوح التحديدات فيه، وصحة البراهين، وضبط التجارب، فكان لا يسعه إلا الانحناء أمام هذه النتائج الفخمة.

(دامت هذه العقيدة في المقررات الكبرى حافظة لقوتها في العلم العصري إلى أن حدثت في الأيام الأخيرة مكتشفات غير منتظرة قضت على التفكير العلمي أن يكابد من الشكوك ما كان يعتقد أنه قد تخلص منه أبد الأبيد. فان الصرح العلمي الذي كان لا يرى صدوعه إلا عدد محصور من العقول العالية، تزعزع فجأة بشدة عظيمة، وصارت التناقضات والمحالات التي فيه ظاهرة للعيان بعد أن كانت من الخلفاء بحيث يكاد لا تبلغها الظنون.

(وقد صدرت مؤلفات على مثال الكتاب الثمين المسمى (العلم والافتراض) لهنري

ص: 23

بوانكاريه، تؤتينا بالبرهان على ما نقول في كل صفحة من صفحاتها، فلقد أرانا هذا الرياضي المشهور أننا نعيش وسط الافتراضات والاتفاقات حتى في مجال العلوم الرياضية.

(وقد كتب الأستاذ (لوسيان بوانكاريه) من جهته يقول: أنه لا توجد لدينا نظريات كبرى الآن يمكن قبولها قبولاً تاماً، ويجمع عليها المجربون إجماعاً عاماً، ولكن يسود اليوم العلوم الطبيعية ضرب من الفوضى. . ولم يظهر أن ناموساً من النواميس الطبيعية يعتبر ضرورياً ضرورة مطلقة. والآراء التي كانت تظهر لمن سبقنا أنها تأسست تأسساً ثابتاً صارت اليوم لدينا موضوعات تحت المناقشة.

وجتم الأستاذ (جوستاف لوبون) الآراء التي أوردها لكبار العلماء بقوله:

(من حسن الحظ لا شيء أكثر ملاءمة للرقي العلمي من هذه الفوضى، فالوجود بمجهولات لا نراها، والحجاب الذي يحجبه عنا منسوج غالباً من الآراء الضالة أو الناقصة التي توجبها علينا تقاليد العلم الرسمي. . . الخ)

نقول وفي أثناء هذه اليقظة من الغرور العلمي ظهر علم ما فوق الطبيعة، ودرست ظواهره، ومحصت تمحيصاً دقيقاً، وتولاها رجال من ذوي الكفايات الممتازة أوصلوها إلى غايات بعيدة، وأقعدوها على أصول وطيدة، بحيث صارت أهلاً لأن تخصص لها دراسات في بعض الجامعات الكبرى كجامعات أكسفورد وكمبريدج ويورك، وجامعات أمريكية أخرى.

هذه البحوث الروحية التي أمضت قرناً كاملاً تحت فحص أعتى العقول البشرية، وأشدهم شكيمة في العقيدة المادية، قد أثبتت وجود عالم روحاني، وشاهدت حوادث من قبيل تحكم الروح في المادة تحليلاً وتركيباً، وخرقاً للنواميس الطبيعية خرقاً لا هوادة فيه، فاتسعت أمام أنظارهم منادح النظر العالي، وأدركوا بالحس فساد النظرية الآلية التي كانوا يعللون بها وجود الكون المادي ونظامه واتساقه، والحياة نفسها وما إليها، وأصبحت النواميس الطبيعية في نظرهم ليست بالقوى الأزلية الأبدية التي صاحبت الكائنات في وجودها، وكلنها مظهر لقوى مدبرة أرفع منها.

هذه المستكشفات الحديثة تفتح أمام العقل الإنساني حقائق كانت فلسفة العلم المادي قد جعلتها

ص: 24

من المحالات العقلية، مثل وجود قدرة عالية تدبر الكون والكونيات، ووجود روح في جسم الإنسان مستقلة عنه تخلد بعد انحلاله، ومثل بعثة أرواح عالية للأمم في فترات من الدهر سموهم الناس بالرسل ليهدوهم إلى الخيور، ويزغوهم عن الشرور، ويمهدون لهم سبيل الارتقاء.

هذه البحوث لم تجتز عتبات الجامعات وتأخذ مكانها في مصاف العلوم، إلا لأنها قد جاوزت دور الفحص العلمي، وأصبحت حقائق لا يمكن التماري فيها.

فالسد الوحيد الذي أراه يقاوم تيار الإلحاد المندفع الذي يكتسح أمامه الأمم والشعوب ويلقي بها إلى مكان سحيق من الفوضى والفساد الخلقي والتناحر، هو أن يتضلع علماء الدين من هذا العلم الجديد، ويستخدموه لحل شبهات المشتبهين، وكبح جماح المستهترين. وما المانع له من ذلك وهو يزيد في دعوتهم تأثيراً ويلقي على حججهم نوراً، ويقدع من معاطس المتفلسفة الذين يتخيلون أنهم وحدهم الذين خلصوا من أوهام العقائد، وكل من عداهم يرسف في أغلالها ويتعثر في أذيالها، ويحمل عقله تصديق خيالات لا وجود لها.

هذا الموقف وحده يحفز المدافعين عن العقائد أن يحذقوه لكم أفواه المتحذلقين من الماديين. فما ظنك والضرورة أصبحت تقتضيه.

نعم تقتضيه لأن انتشار التعميم في الأمة الإسلامية تتسرب معه كثير من الشبهات القوية على وجود الروح والملأ الأعلى، وهذه الأمور كلها أحاطها الماديون بشبهات لا يقوى على محقها إلا هذا النور الجديد، الذي أشرق من صوب المباحث النفسية. فإذا أهملوا الاستفادة منهم اضطروا للاقتصار في دفاعهم عن الدين على استعمال الأسلحة القديمة وقد أصبحت لا تغنى حيالها شيئاً فيكونون قد رضوا لأنفسهم في هذا الصراع العنيف بين الإسلام والإلحاد بهزيمة ساحقة.

محمد فريد وجدي

ص: 25

‌مرحباً بالتقسيم! مرحى للصهيونية

للأستاذ أحمد رمزي بك

جاء وعد بلفور ونحن في غفلة من الزمن، وجاء وعد التقسيم والعالم العربي يتحرك ويتذمر، مر الأول ولم يشعر به أحد منا، وجاء الثاني فإذا نحن في يوم مظلم للصهيونية وساعة قائمة عليها، فبراءة من العهود والمواثيق والمعاهدات، وأذان إلى الأمم العربية أن تقاتل في سبيل الأرض المقدسة، فمرحباً بالتقسيم ومرحى للصهيونية!

أن يوم التقسيم يوم أسود عليها، إنه يوم الفصل، إذ فيه يبدأ الكفاح الحقيقي للعرب في سبيل كيانهم ووحدتهم وتحقيق آمالهم في نظام هذا العالم الجديد.

ولا يغرنكم أيها العرب ما ترون من فتور فإني واثق من أن سعة أعشار الإنسانية معنا وفي صفنا، وأن الداء الذي نشكو منه ونئن، يشكو ويئن منه ملايين من الخلق مثلنا وهم ليسوا بعرب ولا مسلمين ولكنهم إما ذاقوا من اليهودية العالمية ما جعلهم أعداء ألداء لها، وإما أنهم في وضع سياسي واقتصادي واجتماعي لا يختلف عن الوضع الذي نشكو منه في كثير أو قليل.

فهم جميعاً لهذا السبب أو لغيره من الأسباب حلفاء لنا. ولقد جاء التقسيم فكان خير دعاية لنا، وجاء كفاح العرب ووقفتهم إزاءه لكي يشعر كل طرف من أطراف الإنسانية الواعية الراشدة أن هناك ظلماً يحيق بالعرب وأن هناك كفاحاً وقتالاً في سبيل الحق فمرحباً بالتقسيم مرة أخرى!

وهناك أكثر من ذلك، لقد أمضى أسلافنا وقتاً طويلاً وهم في حالة ركود وإغماء عقلي لا يشعرون بما كان يحالك حولهم، بل كانوا ينظرون إلى العالم الخارجي نظرة الرجل المطمئن إلى غده الواثق من جاره وصديقه، القانع بالتسليم والرضى، لقد جاء التقسيم فأعلمنا أن هناك قوات تهيم في الأرض، أكثر تلاعباً بالألفاظ منا، فأصبح حتماً علينا تطليق النظريات الأولى والفلسفات الشرقية والجمود والخضوع، والهدوء والرضا. أصبح حتماً علينا مواجهة العالم بنظرة جادة وقوة متوثبة، وعقل جديد، وهذا من فضل التقسيم علينا إذ أعلمنا أن أي تراخ أو نكوص أو تراجع، هو جناية منا في حق أنفسنا، لأن الأجيال القادمة ستحاسبنا على أي خطأ حساباً عسيراً، فالويل لنا إذا لم نقف أمام التقسيم

ص: 26

ونحاربه.

لقد عاش الشرق في سنوات الفوضى والجمود والتخاذل، فإذا بطارق غريب عليه استخف العرب بأمره في بادئ ذي بدء، وإذا هو أشد وطأة من حملة نابليون وجنوده، وأخطر من بريطانيا وجبروتها، وأعمق من إيطاليا وجحافلها السوداء، وأقوى من فرنسا وقوادها. لقد تشجع هذا الطارق فإذا به يدق الأبواب بشدة لم تعهدها آذان أهل الشرق منذ الإسكندر وقيصر، ظناً منه أنه يرعب الشعوب التي وقفت تحارب أوربا، وقضت على ملك الإغريق وبيزنطة ورومية، وساقت الأسرى من الحروب الصليبية لتزين بهم قصور الهند وآسيا، فإذا بالنائم يستيقظ وإذا بنا نبعث بعثاً من جديد، وإذا بالطارق يدفعنا دفعاً ليحرك الجموع ويرتب الصفوف ويخلع علينا حلة جديدة من الكفاح، فمرحباً به! أن النفوس التي وقفت تقارع الاستعار الأوربي بأساليبه المختلفة تتقدم اليوم لتقارع الصهيونية بأساليب وأسلحة لم يكن يحلم بها واضعوا قرار التقسيم فأهلاً به.

لقد كنا نقنع بأن الأعمال التي في هذا الركن من العالم في غضون هذه السنوات كافية، وكنا نقارن أنفسنا بما كان عليه أسلافنا. فنقول ها قد أصبحنا أكثر انطلاقاً منهم في أشياء، وها قد حققنا لبلادنا ما يشبه بعض ما تتمتع به المجموعات الراقية من مظاهر السيادة والقوة والسلطان، فأصبح لنا دستور وجيش ونظام مالي. أما اليوم فلم نعد نقنع بالأقوال ولا بهذه المظاهر: إننا نصارح الدنيا والتاريخ ونقول:

إذا كانت حملة نابليون بداية سيطرة أوربا علينا بنفوذها المادي، فأن مجيء الصهيونية بداية الوثبة الكبرى، بداية التطور المادي والعقلي معاً استعداداً لكسب معركة الشرق في أرض فلسطين والتحرر النهائي من سيطرة أوربا علينا.

إننا ذقنا طعم الانتصارات الحربية ولمع فيها أسم صلاح الدين وبيبرس، وقدمنا الضحايا بالملايين في مدى قرنين من الزمن، وبرهنت المعارك أن الدماء التي تجري في عروق أبطالنا وشهدائنا أقوى وأشد من دماء فرسان أوربا، ونحن على استعداد لخوض معارك جديدة، وتقديم الضحايا بالسخاء الذي عرفته الحروب الماضية، ولكننا نرحب مرة أخرى بالصهيونية، ونقول لها مرحى! لماذا؟ لأن حكم الغرب وجبروته وسنوات الاستعمار لم تدفعنا إلى الأمام إلا في الطريق المادي. أما الحرب القائمة الآن مع الصهيونية والمنظمات

ص: 27

اليهودية العالمية فستدفعنا إلى ما هو أبعد وأقوى إلى تحطيم الجمود العقلي الذي فرض نفسه علينا. نعم لأجل فلسطين ولكي نكسب حربها ومعاركها سيسترد الشرق استقلاله الفكري وحريته العقلية، وسيخرج من ربقة الاستعمار الذهني وهو بعقل أوربي أكثر قضاء وتعمقاً مما يتوهم الأعداء، نعم سينشئ ويبني وينظم ويقود لينتصر انتصاراً يهز العالمين: أوربا وأمريكا.

فقال للذين يشكون في هذا أن يخرجوا أقلامهم وأوراقهم ويقيدوا ما أقول: لم تعد تبهرنا السياسة التي تصب لنا الأشياء في القالب الذي يرضى الاستعمار وأهله وأذنا به وتقول لنا هذا من عند أنفسكم.

لم تعد تجدي معنا أساليب تحريك الأطماع والغرائز وتقديم أشباه الرجال ودعاة التفكك. لقد شببنا عن هذا الطوق!

ونهمس مرة أخرى في آذانهم فنقول:

إذا كان الاستعمار الأوربي لم يجعل منا بعد مائة وخمسين عاماً رجال عقل وفكر وإرادة، فقد تكلفت الصهيونية بهذا إذ نقلتنا نقلاً من عالم أشباه الإنسان إلى عالم الإنسان، كان ذلك بمحض إرادتنا للتغلب عليها وإقصائها عن أوطاننا.

فإذا ترك الاستعمار بلاد الشرق فوضى وأهلها يحطمون بأيديهم ما بنوه واتهمنا بأنا نسير على غير هدى ونعمل تحت وحي تيارات الساعة، ومصلحة الأحزاب وإيحاء صحافة هدامة، فليطمئن دعاة الاستعمار وأذناب الصهيونية علينا: من هذا أو أكثر بعد اليوم.

ألا فليؤمنوا أن دروس الحقائق الكبرى التي ألقتها علينا الصهيونية في فلسطين تعدل ألف درس مما ألقاه علينا الاستعمار الأوربي. فإذا كنا لم نحطم الأصفاد والأغلال التي وضعتها أوربا يوماً في أيدينا وأعناقنا فأن قضية فلسطين أصبحت جديرة بأن نكسبها، وفي سبيل كسبها حطمنا الأغلال والأصفاد ووثبنا الوثبة التي لا يمكن أن ترد.

أندري ماذا علمتنا فلسطين؟

علمنا الصهيونيون أن العلم قوة ثورية هائلة على الأرض ولهذا ملكتنا عقيدة الاقتدار والانتصار بالعلم.

نعم سيكون العلم في حياتنا سلاحاً قاطعاً فيصلاً لحل مشاكلنا معهم.

ص: 28

لقد تعلمنا أن الظروف المحيطة بنا لا تخلق حسب أهوائنا حتى نحل متاعبنا طوع إرادتنا ووفق أهوائنا. وعلمتنا فلسطين كيف ندرس كل حالة ونتعرفها، وتعرف الشيء تكييفه بناء على طريقة منظمة وتبعاً لمنهج منطقي تحليلي. فالفضل لكم يا أهل صهيون ولأطماعكم إن أصبح الشرق قوة يحسب لها حساب. لقد أخذنا عنكم أن المنهج هو القوة الوحيدة النهائية الفاصلة التي لا تحد والتي لا يمكن أن يثبت أمامها شيء في الوجود أو تعترضها معضلة من غير أن تجد لها حلاً، لقد أخذتم عن الغرب روحه وعقله وأتيتم إلينا تطبقون هذا على أراضينا.

أما نحن فقد وقفنا نفكر علمياً ومنطقياً لندفع بالفكر العربي حتى يتعرف نفسه في كل شيء، وليبسط نفوذه ومضاءه وقوته حتى نعيدكم إلى الأقطار التي جئتم منها:

إنكم دفعتم العرب إلى الثورة مرات قبل اليوم وكنتم تنظرون إليهم نظرة المتفرج، أما اليوم: فستكون الثورة الكبرى في هدوء ونظام تسير على برامج وتضبط في المعامل وتقرن بالأرقام.

ستكون ثورتنا وليدة المصائب التي حلت بنا، وخاضعة للعقل الذي قيد كل ما فرطنا فيه فوضع الخطط لسنوات قادمة ولأجيال مقبلة.

ولذلك سنجعل لكل يوم عراكاً يناسبه، ولكل شهر كفاحاً يتفق مع مراميه، ولكل سنة حرباً تتطلبها تلك السنة.

لقد جربتم حظكم معنا في وقت لم نكن نفهم فيه أو ندرك شئون عالم يتطور. أما اليوم فاسمعوا واكتبوا ما أقول:

إننا سنتبع التفكير بالمنهج، وسنعرف كيف نسيطر على الظروف، لا بل كيف نستبق الزمن ونلين الطبيعة ونتعرف قوانينها وعلاقاتها بالأشياء، لأننا سنلاقيكم ليوم وغداً وبعد غد، وسترون أننا في كل مرحلة سيكون التلاقي على صعيد أنسب لنا وأقرب إلى جعل النصر تحت متناول يدنا. وتلك سنة جديدة لنا لم تعهدوها في الماضي عنا.

لقد طالما سمعنا كم ترددون: وماذا تصنع بلاد العرب التي تهدمها عوامل التفكك والانقسام ويؤخرها التشيع الذي يقتل جهودها ويقصي النافعين من أبنائها، ألم تروا كيف تحكمت فيهم الأغراض والمساوئ: فأصبحت بلادهم ضعيفة مستامنة خاضعة طائعة.

ص: 29

ونحن الذين عانينا ما تقولون نؤكد لكم أن قتالكم فرض علينا، وأن هذا القتال سيجعل من كل قطر عربي مجتمعاً منسجماً أننا أخذنا أسلحتكم كما أخذتم عن الغرب أسلحته، فالويل لكم منا بعد اليوم. إننا نسلم بأن فيكم رجالاً كانوا قادة وبناة من الطراز الأول، وأن هذا الوطن الذي تحاولون إنشاءه على نهر من الدماء هو من صنع تفكيرهم.

ولكن حلمهم لن يتحقق، ولن تقسم البلاد العربية إلى شطرين الشطر الإفريقي والشطر الأسيوي، هذا لن يكون أبداً. لأن منا رجالاً قد اخذوا على أنفسهم العهود والمواثيق لكي يحولون دون ذلك، وهم من مدرسة جديدة لن تجدوا لها قبيلاً في منظماتكم. أتدرون كيف هم: إني آتيكم بنبأ عنهم: هم قوم فيهم التضحية إلى أقصى حدود التضحية، ولكن بغير نفسية الاستحداء والضعف، حماستهم ثبات وهدوء، ووقفتهم في القتال رائعة، سيقدمون البذل كفرض عليهم، كما فرض المسلمون الأول الجهاد والتضحية والبذل على أنفسهم ولذلك لم يعرف عنهم أنهم ولوا الأدبار؛ كذلك رجالنا.

نفوسهم عالية: يعلمون ويتعلمون، يدربون ويدربون، يحاضرون الغير وينصتون للغير، ويلقون الدرس ويتلقونه عن الغير. فيهم قوة الملاحظة وهدوء الأعصاب، تلمس اليقظة مع الوعي فيهم، وقوة الإرادة مع التواضع، ولذلك يسيرون إلى الموت بالتهليل والتكبير والفرح والغبطة: إنهم الطليعة الأولى.

أعرفتم أيام الإسلام فيفجره؟ أعرفتم أنه بدأ غريباً وقامت قيامة الدنيا عليه، فتغلب على الدنيا وقيامتها، كذلك طلائعنا اليوم سنعيد أمجاد الطلائع الماضية: سيكون فيها المتحمسون والرواد والمحاربون والشهداء، نعم نسير لننتصر، ونموت لنحيا.

قلوبهم عامرة تشبه قلوب الطلائع الأولى، ستأتي زرافات إليكم من الأرض والهواء والبر والبحر طلباً للشهادة في الأرض المقدسة التي وعدنا بها. أليست أرضنا وبلادنا ومنزل الوحي عندنا؟

فأين أنتم منا؟

أحمد رمزي

ص: 30

‌دين الله واحد

لصاحب الفضيلة الأستاذ محمد محمد المدني

أن جميع الرسالات الإلهية التي أرسل الله بها الرسل لهداية الناس إنما يقصد بها أمران: أحدهما: تقرير الواقع في شأن الألوهية وما يصدر عنها من إرسال الرسل، وتنزيل الكتب، والبعث والجزاء. . .

والآخر: هو التدرج بالناس في مدارج الكمال، ومدهم بالحكام التشريعية لتي تصلح بها أحوالهم، وتستقر بها سعادتهم ومن الطبيعي أن تتفق الرسالات كلها في الأمر الأول لأنه رجوع بالبشر إلى شيء متقرر ثابت لا يختلف باختلاف العصور والأحوال، وان ينحصر الخلاف في دائرة المناهج والشرع التفصيلية التي تتغير بتغير الزمان، ويتدرج الإنسان في مراتبها بحسب أطواره وبيئاته ودرجة رقيه في العقل والتفكير. ولذلك كان (الدين) واحداً على لسان كل رسول بعث، وكانت (الشرائع) مختلفة في تفاصيل الأحكام والتعبدات (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً)

وقضية اتحاد الدين على اختلاف الرسل قضية يقررها القرآن الكريم في كثير من المواضع، ويكررها على أساليب مختلفة، لتستقر في النفوس، وتؤمن بها القلوب، ويعلم الناس أنهم جميعاً على كلمة سواء، وأنه لا مبرر للتفرق والتنازع والعصبيات.

يقول الله تعالى: (أن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصائبين من آمن الله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم اجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون).

وهذه الآية تفيد أن أصول الدين ثلاثة:

1 -

الأيمان بالله على وجهه الصحيح الذي بين في آيات أخرى، بأن يشهد الإنسان أن لا إله إلا الله، ولا يعبد إلا إياه، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يوالي ولا يعادي إلا فيه، ولا يعمل إلا لوجهه. . .

2 -

الأيمان باليوم الآخر، بأن يعتقد أن الله سيبعث الناس من الأحداث ليحاسبهم على ما قدموا من خير أو شر فيكافئ لمحسن على إحسانه، ويجزي المسيء بإساءته.

3 -

العمل الصالح الذي من شأنه أن يسعد المجتمع البشري ويزيل الشرور والفساد، وينشر الطمأنينة والأمن، ويمكن كل إنسان من أداء واجبه وأخذ حقه على وجه سليم لا

ص: 31

يفضي إلى نزاع، ولا يؤدي إلى ظلم.

هذه هي أصول الدين التي يتفرع منها كل ما سواها، وقد تضافر رسل الله أجمعون على تبليغها، وبذل كل واحد منهم في سبيل تقريرها والتمكين لها ما ملكه الله من جهد وآتاه من عمر، وتلقوها عهداً من الله يبشر فيه سابقهم بلا حقهم. ويؤيد لا حقهم سابقهم، وفي ذلك يقول الله عز وجل (وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً)(وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما أتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري؟ قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين).

والقرآن الكريم يسوق لنا قصص الأنبياء الذين أرسلهم الله أقوامهم فنجد الرسالة التي جاءوا بها تكاد تتفق حتى في الألفاظ التي تحدث بها كل رسول:

ففي سورة (هود) يقص الله علينا أن نوحاً قال لقومه: (يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إن أنتم إلا مفترون) ز

وأن صالحاً قال لقومه: (يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها).

وأن شعيباً قال لقومه: (يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان).

ويقص القرآن علينا مثل ذلك أيضاً في سورة الشعراء: يذكر نوحاً وقومه فيقول: (كذبت قوم نوح المرسلين إذا قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون، إني لكم رسول أمين، فاتقوا الله وأطيعون. وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين).

ويذكر هوداً وقومه فيقول: (كذبت عاد المرسلين إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون، إني لكم رسول أمين، فاتقوا الله وأطيعون، وما أسألكم عليه من اجر إن اجري إلا على رب العالمين).

ويذكر بهذا النص نفسه صالحاً وقومه، ولوطاً وقومه، وشعيباً وقومه، فيبين لنا أنه لا اختلاف حتى في التعبير، ولذلك يقول الله عز وجل:(ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة).

ص: 32

وكما نجد هذه الوحدة فيما دعا إليه الرسل قد تناسقت حتى ظهرت في الألفاظ والعبارات التي عبر بها عنها، نجد أقوام هؤلاء الرسل جميعاً يكادون يتفقون في الرد على هؤلاء الرسل ومعارضتهم في دعواهم، وفي مقدمتهم السادة والكبراء:

فالملأ من قوم نوح يقولون: (ما نراك إلا بشراً مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادئ الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين).

ويصل الأمر بهم في التحدي إلى أن يقولون: (يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين).

وعاد يقولون لنبيهم (يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين).

وقوم صالح يقولون له متهكمين: (يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما كان يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء؟ إنك لأنت الحليم الرشيد).

ويصل بهم الأمر إلى أن يقولوا له: يا شعيب ما نفقة كثيراً مما تقولون وإنا لنراك فينا ضعيفاً ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز).

وهكذا تشابهت قلوبهم، وتوافقوا على رفض الدعوة بأسلوب واحد ومعنى واحد، ولذلك يقول الله عز وجل:(وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون)

ويقول: (كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحراً أو مجنون، أتواصوا به بل هم قوم طاغون).

ومالنا نذهب هذا المذهب والقرآن الكريم يعلن في كثير من الآيات وحدة الدين على نحو قاطع إذ يقول: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى: أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه).

ويقول: (إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهرون وسليمان وآتينا داود زبورا، ورسلاً قد قصصناهم عليك من قبل ورسلاً لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما).

ص: 33

بل يذهب إلى أبعد من ذلك في التحديد والتوحيد فيعلن أن دين الله منذ كان هو (الإسلام)، ولن يقبل الله سواه، وأن الذين اختلفوا فيه من أهل الكتاب إنما كان اختلافهم بغياً وتجاوزاً وكفراً (أن الدين عند الله الإسلام، وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم، ومن يكفر بآيات الله فأن الله سريع الحساب، فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن، وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم، فإن أسلموا فقد اهتدوا، وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد)(ومن يبغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين).

والإسلام في الأصل معناه الانقياد والخضوع، وقد استعمل بهذا المعنى في القرآن الكريم، فكل من (أسلم وجهه لله وهو محسن) أي أستسلم لأمر الله ورضى به وعمل صالحاً، فهو في نظر القرآن مسلم، ولذلك جعله الله مقابلاً للشرك في مثل قوله:(قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله لما جاء في البينات من ربي وأمرت أن أسلم لرب العالمين) وجعله مقابلاً للكفر في مثل قوله (أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون) كما وازن بين المسلمين والمجرمين في قوله: (ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله وهو محسن) والقول القويم بقوله (ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين) وتحدث عن عباده المؤمنين الذين سيدخلهم الجنة يوم القيامة من سائر الأمم بقوله (يا عباد لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون).

وقد جاء في القرآن الكريم وصف كثير من الأنبياء ومن أرسلوا إليهم (بالإسلام): فنوح يقول: (وأمرت أن أكون من المسلمين) وإبراهيم وإسماعيل يدعوان ربهما قائلين (ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك)، ويقول الله بأنه (كان حنيفاً مسلماً)، ويوسف يدعو ربه فيقول (أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلماً وألحقني بالصالحين)، وسليمان يكتب إلى أهل سبأ (أن لا تعلوا علي وأتوني مسلمين) ويقول لقومه (أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين) وملكة سبأ تقول:(وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين) وموسى يقول لقومه (يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين) وفرعون حين يدركه الغرق يقول (آمنت بالذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين) وقد وصف الله

ص: 34

قرية لوط بقوله (فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين) وقص علينا فيما حكاه عن الجن انهم يقولون: (وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون فمن أسلم فأولئك تحروا رشداً).

بهذا كله يتبين أن (الإسلام) على لسان هؤلاء جميعاً، وفي هذه الاستعمالات كلها، هو الانقياد لله والخضوع له في العقيدة والعبادة والعمل خضوعاً لا يعرف الشرك ولا الواسطة، ولهذا يعتبر الله جميع الأنبياء وجميع الذين أوتوا الكتاب مسلمين بهذا المعنى فيقول عن الأنبياء (يحكم بها النبيون الذين أسلموا) ويقول عن أهل الكتاب (الذين أتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون وإذا يتلى عليهم قالوا إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين) ويقول عن الذين كفروا بعيسى وزعموا أن ما جاء به من البينات سحر (ومن اظلم ممن أفترى على الله الكذب وهو يدعي إلى الإسلام).

ولهذا أيضاً يقول القرآن الكريم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم: (إنما أمرت أن أعبد رب البلدة الذي حرمها وله كل شيء وأمرت أن أكون من المسلمين).

ويأمر المسلمين أن يقولوا (آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وما أوتى موسى وعيسى وما أوتى النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون).

ويأمر بتوجيه الدعوة إلى أهل الكتاب على هذا النحو فيقول (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا أشهدوا بأنا مسلمون).

هذا هو دين الله الذي جاءت به كل الرسل، ونزلت به كل الكتب، وقد كان دين محمد صلى الله عليه وسلم هو خاتمة هذه الرسالات كلها، وهو الذي أثبتها، ولولاه ما عرف أمر الرسول عن طريق تطمئن إليه القلوب، وهو الذي نقاها مما أضيف إليها، ولولاه ما عرف صحيح من زائف، وهو الذي أتى بالشرعة الصالحة المناسبة لما وصل إليه الإنسان من وقى في العقل والتفكير والمعرفة، ولولاه لظلت البشرية تتخبط في ظلمات الأهواء والشهوات والعصبيات، ولهذا كله تمخض معنى الخضوع لله والانقياد لأمره على ما رسم لعباده في دين محمد صلى الله عليه وسلم فصار لفظ (الإسلام) علماً عليه، وأنبأنا الله أنه هو الذي أرتضاه بقوله في أواخر ما نزل على الرسول، اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت

ص: 35

عليه نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً) فلم يعد لأحد من البشر بعد ذلك أن يرفضه زاعماً أنه مؤمن بسواه، فإنه هو الدين وليس له (سوى)، ومن آمن به فقد آمن برسالات الله كلها، ومن رفضه فقد رفض رسالات الله كلها تلك هي الحقيقة ولن يستريح أهل الأرض حتى يؤمنوا بها، ويبنوا حياتهم وعلاقاتهم على أساسها (قل يا أيها الناس إنسي رسول الله إليكم جميعاً الذي له ملك السموات والأرض ولا إليه إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته وأتبعوه لعلكم تهتدون).

محمد محمد المدني

المدرس في كلية الشريعة

ص: 36

‌ويحكم هبوا!

للأستاذ محمود محمد شاكر

أيتها العرب! أيها المسلمون! إنكم لا تغلبون اليوم عن قلة، ولأن كتب الله عليكم أن تغلبوا فإنما تغلبون بإثم ما اقترفت نفوسكم، وما اجترحت أيديكم، وما فرطت عقولكم، وما نسيت قلوبكم، وما أضعتم من حق تؤدونه لأنفسكم وأسلافكم وذريتكم، ووالله ما أراكم تغلبون عن جهالة فقد وهبكم الله عقولاً راجحة، ونفوساً حرة، وعزائم قد أذلت لكم أعناق الأمم منذ كان لكم في الأرض شأن يذكر.

وأن الله مبتليكم بمحنة لا تصيب الذين ظلموا منكم خاصة، بل هي محنة لعامتكم وخاصتكم في نواحي الأرض، فإن أحكمتم الرأي وصدقتم العزم، وعرفتم عدوكم من صديقكم - ولا أرى لكم في هذه الدنيا صديقاً - فقد آن لكم أن تنهجوا للبشرية منهجاً مستقيماً وصراطاً سوياً. فلا تقولوا إنما نحن ضعفاء، فالضعيف من ظن في نفسه الضعف وإن كان أقوى الأقوياء، ولا تقولوا إنما نحن جهلاء، فالجاهل من استهزأ بالعلم وتهاون في طلبه وأن كان أعلم العلماء، ولا تقولوا إنما نحن فقراء، فالفقير من جهل أن الله قد آتاه العزم والجلد والعقل، وإن كان أغنى الأغنياء. فاصدقوا أنفسكم وثقوا بالله الذي امتحنكم بهذه المحنة، فإنه ناصركم على عدوكم، ومخرج لكم من خبء أنفسكم خيراً كثيراً قد غاب عنكم وعن الناس دهراً طويلاً. وإياكم والخوف فأنه الآفة الملتهمة، وما استشعر الخوف عزيز إلا ذل، ولا قوي إلا خار، ولا أبي إلا تضرع لكل خسف يراد به.

انظروا! فهذه فلسطين قد اجتمعت الأمم على أن تمكن فيها لأنذال يهود مكاناً يتبوأه طغاة المال وطواغيت الفجور وأبالسة الشر، وقد اخذوا يمدونهم بالمال والسلاح ليقهروكم وتكون لهم الكبرياء في هذه الأرض.

وانظروا! فهذه دولة الباكستان قد اجتمعت فيها كلمة المسلمين على أن يكونوا أمة عدتها مئة مليون، فإذا عباد البد (بوذا) قد دمروا عليهم من كل مكان يذبحونهم ويقتلونهم ويفتكون بالنساء والأطفال، ويهتكون أعراض الحرائر، ويدخلون على المصلين في مساجدهم فيضعون السيوف على رقبهم والخناجر في ظهورهم، ويغتالون الآلاف من الآمنين، والدنيا كلها تسمع وتبصر، فلا تجد فيهم منكراً ولا مستبشعاً ولا معترضاً على ضراوة عباد البد.

ص: 37

وانظروا! فهذه إندونيسيا تجمع هيئة الأمم متحدة على تركها فريسة للطغاة البغاة من شر ذمة الخلق الذين يسمون بالهولنديين. ويزعمون لكم أن مجلس الأمن قد أمر بوقف القتال، فإذا هولندا تضرب صفحاً عن حكم هذا المجلس، وتوغل في تقتيل هؤلاء المساكين بالنذالة المعهودة في المستعمرين الذين لا يفرقون شيئاً بين هؤلاء البشر وحيوان الغاب، بل لعلهم بحيوان الغاب أرحم، وعليه أحرص، إبقاء على جلده أو فروه مما يرتفقون به في صناعة أو تجارة.

وانظروا! هذه بلاد المغرب من حدود مصر إلى أطراف المغرب الأقصى قد ضربت عليها فرنسا بالأسداد، وحمت عنها كل بارقة من خير، وسامت أهلها عذاب التقتيل والاضطهاد، وسلبتهم كل قوة تتيح لهؤلاء الأبطال الصناديد أن يعيشوا في بلادهم عيشة الكفاف، وشردت كل من دعا قومه إلى المطالبة بالحق المغصوب، وأراغت أن تجعل هذه البلاد الشريفة ذيلاً ملحقاً بالجمهورية الفرنسية.

وانظروا! فهذه مصر والسودان قد فغر لها الوحش البريطاني يريد أن يقضم السودان قضمة واحدة ليجعله قطعة من أوغندة وجنوب إفريقية، ويدع مصر ترعه إن شاء منع عنها الماء حتى يقتل أهلها جوعاً وظمأ، وقد قضى في ديارنا أكثر من خمس وستين سنة حتى هدم كيانها. وسلط عليها لصوص الأجانب واليهود، حتى ما تكاد تجد مصر حيلة في سن القوانين التي تحمي بلادها من استبداد اللص الطارئ بصاحب البلد المقيم.

انظروا لكل بلد تنطق فيه العربية، أو يذكر فيها أسم الله مقروناً باسم محمد صلى الله عليه وسلم، تروا حرباً تشن على أهل العربية والإسلام بلا هوادة، وبأوقح الأساليب وأخفاها:

أيتها العرب! أيها المسلمون! أنها الحرب. أنها المذابح! أنها الحالقة التي أجمعت أمم أوربة وأمريكا أن تستأصل بها قوتكم وتجعلكم عبيداً أذلاء في أرض الله. أنها الفتن المظلمة التي أطبقت عليكم من كل مكان، فجعلت إخوانهم، جهلاً وعناداً وتقليداً وسوء رأي. . .

أنه لم يبتل قوم في تأريخ هذه الدنيا بمثل ما ابتليتم به، فقد مضت القرون وأنتم في غفلة عن عدو قد استفحل أمره واستوت قوته واستمر مريرة، فدخل عليكم بلادكم فاستعبدكم فيها وحاربكم بعلمه وجهلكم، وقوته وضعفكم، واجتماع كلمته وتخاذلكم، فلما أفقتم من الغفوات الطويلة لم تجدوا في أيديكم مالاً ولا سلاحاً ولا علماً، فليس لكم منذ اليوم إلا الشيء الذي

ص: 38

هو أقوى من المال والسلاح والعلم: الإيمان بحقكم، والصبر على لأواء هذه الحرب الضروس. فآمنوا واصبروا، فأن قوة الإيمان وحدها تدمر حصون البغي، وتدفعكم إلى طلب المال والسلاح والعلم، وتطهر قلوبكم من كل ضعف، ولا تأسوا على قتيل في هذه الحرب، فأن كل دم يراق من دمائكم إنما هو غيث تغاثون به يغسل عنكم أدرانكم، ويسقي ثرى جف، فينبت لكم أبطال الوغى وصناديد القتال في كل ميدان من ميادين هذه الحرب.

أيتها العرب! أيها المسلمون!

اطلبوا المال من وجوهه، ودبروا أمركم في حياتكم، فأن المال قوة غاشمة تضارع أقوى قوى الطبيعة التي لا يقف دونها شيء. اطلبوا السلاح من حيث استطعتم، فأن السلاح ناصر من لا ناصر له إلا قوته، فأنشئوا المصانع والمعامل وأخفوا أمركم حتى لا يطلع عليه العدو الذي يعيش بين ظهرانيكم من الأجانب واليهود. واطلبوا العلم حيث استطعتم، فالعلم حياة أبن آدم، لا حياة له بدونه، وهو عون المال والسلاح والحافظ عليهما والقائم بأمرهما. وكل طالب علم فهو مجاهد في سبيل الله وفي سبيل أهله وبلاده، فلا تفتروا عن طلبه. وليعلم كل طالب علم أو مال أو سلاح أنه إنما يفعل ذلك لأمرين: أولهما تحقيق معنى الكرامة الإنسانية، والآخر تحقيق الحرية لبلاده وأمته.

أيتها العرب! أيها المسلمون!

لست أكتب لكم لتقرأوا، ولكني أنذر قومي في ساعة لا ينبغي للمرء فيها إلا أن يصدق أهله. أنذركم بعداوة الأمم لكم ولمجدكم وتاريخكم، فرببوا لهم أضغانكم وغذوها وحوطوها، ونشئوا صغاركم على بغض هذه الأمم التي حشدت لكم عصبية الجاهلية، وعصبية الصليبية، وعصبية الاستعمار، وعصبية الألوان. أرضعوا كل مولود لبان الأضغان والأحقاد على هؤلاء الطغاة، وأمروهم أن يعيشوا في هذه الأرض لشيء واحد هو أن يقاتلوا أهل البغي والعصبية حتى تستأصلوا هذه الشأفة الخبيثة من أرض الله التي أورثهم إياها قائمين بالقسط والعدل والرحمة وإيتاء كل ذي حق حقه. وإنه لا ينجيكم من هذه البلية إلا أن تتمرسوا بصدق العداوة، فهي التي توقظ فيكم كل عزيمة غافلة، وتهديكم إلى مواطن الضعف في نفسه كان خليقاً أن يصاب منها، ومن عمى عن مكامن الغدر في نفس عدوه كان قميناً أن يرتكس في مهاويها. لقد فضح الصبح أعداءكم وأضاء لكم عن خبايا قلوبهم،

ص: 39

فلا يكن أمركم عليكم غمة، فأنتم بين اثنتين: إما المكاشفة بالعداوة السافرة في غير مداورة أو سياسة، وإما أن ترضوا لأنفسكم أن تصيروا طعمة لهذه الأمم الباغية على الشر ذمة اللئيمة من إسرائيل. وما أظنكم ترتضون الثانية، فليس لكم إلا الأولى.

أيتها العرب! أيها المسلمون!

لقد انقضت دهور وأنتم تساقون إلى قدر لا يعلم غيبه إلا الله، فاستبد بكم قوة أولى ضرار وبأس شديد، فأفسدوا قلوب جمهرة من أبنائكم وذراريكم، فنشأت تحت ظلال هؤلاء الطغاة ناشئة من أنفسكم تعاظم أمرها، وصار لها فيكم مكانة تتبوأها، وكل ذي مكانة أو سلطان أو ثروة فهل ملئ بأن يخدع الجماهير، وهم أسرع إلى طاعته ومتابعته فيما يخدعهم به، فاحرصوا على ألا تتبعوا الرجال على أسمائها بل اتبعوا الهدى وإن جاءكم على يد المحتاج الراغب، وتبينوا المدلس عليكم من الناصح لكم. ولا تقولوا هؤلاء سادتنا وكبراؤنا، فما أضل البشر إلا سادتهم وكبراؤهم. ولا تترددوا إن رأيتم معوجاً تقوموه مهما بلغ من الشأن، فأن تقويمكم إياه أبقى له وأجدى عليه. ولا تخرجوا على آراء السادة والكبراء صماً وعمياناً، بل أسمعوا نبضات القلوب، قرب لسان ينطق بالخير وهو ينبض بما فيه فسادكم وفساد أمر بلادكم. وأبصروا وتبصروا، فإن لا يعطي المقادة إلا السائمة التي تقودها عصا الراعي لا العقل والإدراك. احملوا سادتكم وكبراءكم على وضح الصراط، فكل ضال منهم سوف يضل خلقاً منكم كثيراً ويورده موارد الهلاك.

أيتها العرب! أيها المسلمون!

إنها ساعة في تاريخكم ليس يعدها إلا النصر أو الهزيمة، وكل امرئ منكم يحمل تبعة لا يسقطها عنه عذر، ولا يعذره أداء حقها شيء. وانتم أربعمئة مليون نسمة لا عصابة قليلة في الأرض، فإن كنتم صفاً واحداً وبنياناً مرصوصاً، فاعلموا أنه لن يغلبكم شيء، ولن تهد هذا البنيان قوة مهما بلغت على ظهر هذه ا {ض، فتماسكوا وتقاربوا وتعاونوا، ولا تدعوا ثغرة يدخل منها عليكم عدوكم لينقض هذا البنيان الذي بناه آباؤكم وأسلافكم في آلاف السنين، وأنتم الأعلون إن شاء الله، وليهود الذلة والمسكنة مضروبة عليهم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

أيتها العرب! أيها المسلمون!

ص: 40

لا تهابوا أهل العصبية في أمريكا وأوربة، ولا تثقوا بأحد منهم، ولا تهادنوهم في حقكم، ولا تناصروهم كما ناصرتموهم من قبل فغدوا بكم وتألبوا عليكم وامتهنوكم وقابلوا حقكم بالازدراء والتحقير في هيئة الأمم المتحدة، وأنكروا كل يد أسديتموها إليهم، ومزقوا أوطانكم، وأن ينشئوا لجراثيم اليهود وكراً خبيثاً في الأرض المقدسة في سرارة بلادكم ، فإن فعلتم فيومئذ يعلم هؤلاء الأخباث والأشرار أن العرب وأهل الإسلام وأهل دين المسيح في الشرق، كلهم على قلب رجل واحد يريدون أن يقيموا في هذه الأرض شريعة الإنسان العادل لا شريعة الوحش الضاري في ظلمات الأدغال والغابات.

ياساسة العرب!

إياكم وخداع الناس، ولا تخادعوا ربكم الرقيب عليكم، فيوشك أن يحل عليكم غضب من ربكم ثم غضب الناس عليكم، ولا تبيعوا تاريخكم وتأريخ آبائكم وذريتكم بعرض زائل ومجد مزيف، واعلموا أن قومكم قد ثاروا من مضاجعهم ليطلبوا حقهم بحد السيف، فلا تكونوا مخذلين ولا واعظين ولا متهاونين. واعلموا أنها الحرب! شذاذ الأمم وصعاليك اليهود بين ظهرانيكم، والبغاة الطغاة عن أيمانكم وعن شمائلكم يلتمسون الفرصة ليمحقوا العرب والمسلمين ويطحنوهم طحناً.

فهبوا جميعاً إلى الجهاد فمن نجا فقد فاز بالنصر وبرضوان الله عليه، ومن قتل فقد فاز بالشهادة وجنة المخلد والذكر الذي لا يفنى. (كل نفس ذائقة الموت، وإنما توفون أجوركم يوم القيامة، فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز، وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور).

محمود محمد شاكر

ص: 41

‌يا شرق!

للأستاذ محمود الخفيف

(مهداة إلى أديب العربية الكبير الصديق الكريم الأستاذ

النشاشيبي

ما شاء فليسخر بي الساخر

بالغرب، ما عشت، أنا الكافر

يزيدني الحق جحوداً به

ما زوّر الحقَّ به فاجرُ

إلا نجوماً فيه رجَّافةً

يكاد يخفي لمحُها الحائر

ما غده؟ هيهات يرجى غد

من أمسه مات الذي يُحمد

والحاضرُ الكاشرُ يا هوله

يا سوء ما يطغى وما يجحد

للشر في الأرض على رحبها

في كل ركن آمن مرصد

دنيا من المأكول والآكل

لا شيء من حق ولا باطل

الغابة اللفاء ديناهمُ

فالعيش للفاتك والخاتل

يا ويحهم هذا الذي بشروا العصر به من بشر كامل!

الدينُ حيران الخطى هائب

مروَّعٌ في بُرْدِه شاحبُ

والرحمة السمحة مذعورة

من كل صوْب حولها ناعب

يا عجباً وهو ألدْ الخصام

يردد الإنسان لحن السلام

يهتف بالأمن وفي روحه

أنشودة الذرةُ تلقى الهيام

والأرض أشلاءٌ تُرى ها هنا

وتلك أطلالٌ وهذا حطام!

مهزلة يلهو به الأقوياء

يخجل منها اليوم حتى الرياء

حبالة القانص كم أوقعت

في الشرك الأغفال والأذكياء

كم بشر الأرض بآماله=مُبشرٌ حتى جرت بالدماء

يا شرق كم غرتك بيض الوعود

ألفْتها حتى ألفت القيود

تخطر في القيد على ذلة

تلوك في الأغلال مجد الجدود

إهنا بماضيك وفاخر به

ولُكهُ يا مسكين حتى يعود!

ص: 42

يا ظامئاً يطلبُ ماء السراب

إشرب على الغلة مُرَّ العذاب

يا حالماً أغراه طيب الكرى

أبشر مع الصبح بسوء المآب

يا لاهياً ويك أما تتقي

النابُ والمخلبُ طبعُ الذئاب

قومُك بالموت أعزوا الحياة

وأفزعوا بالبأس بغْي الطغاه

في السيف والمصحف برهانهم

تعنو له في العالمين الجباه

لا السيف ظلاَّمٌ عتيٌ ولا

يُروَّعُ المصحف عات عصاه

فاوت بين الناس خوضُ الردى

يا شرق هل أصرخ أين الفدا؟

رِدوا فقد جدَّ بكمْ دهركم

أو فارتضوا الخسف لكم مورداً

ما من قلوب ألفت قيدها

إلا غدت تعبُدُ من قيَّدا

دين العلا إن كنت لا تعلم

دينك يا ابن الشرق يا مُسلمُ

دينك بين الناس سوى فما

بالك للطغيان تستسلم؟

دينك إن عدْت لأحكامه

حكمت لا دنْتِ لمن يحكم

عقيدةٌ دينك لا تُغلب

لا تعرفُ البطش ولا ترهبُ

شريعةٌ خالدةٌ فُصلت

دستورها الخالدُ لا يُسلبُ

روحٌ من الله سماويةٌ

شرقيةُ المطلع، لا تغربُ

يا شرق حتام تلوم القدر

ولا تنى ترنو إلى من غبر؟

أنت الملوم اللائمُ المشتكي

كم صرخت حولك شتى العبرْ

رضيت، لو أنكرت ما تشتكي

منه، تهاوى عمره واحتضر

إلام يا شرق حياة الجسد

في ذلها طال عليك الأمدْ

يا موطِنَ الروح أما هزةٌ

تُشعلُ من أرواحنا ما خمدْ؟

ويحك يا عاني أما غضبَةٌ

لشدَّ ما تذعنُ إذ تُضطهد!

يا أمةً تهضمُ أوطانها

ولا يني يمرَحُ فتيانها

أترتضون الذُلَّ؟ ما خطبكم

ذات نفوس مات إيمانها

تالله ما البعث سةى رجفةٍ

يُمحصُ الأْنفسَ بركانها

واأسفاه كل حمى مستباح

هيض الحمى منذ فقدنا السلاح

ص: 43

يا فتية الشرق ألا خالدٌ

وقد تداعى قومنا، أو صلاح؟

حِطَّينُ هذا وقتها فاحشدوا

أبطالكم، هذا أوان الطماح

أما يهز الشرق بغيٌ عتا

بعد خفاء سيفًهُ أصلتا؟

الطمع الغاضبُ بعداً له

كلَّ فؤاد لؤمُه أعنتا

متى أرى الشرق لظى حوله

ويلاه! كم تلهبُ صدري متى!

أيةُ نارٍ أوقد الطامعُ

وأي بغي ذلك غِيلةٍ وازع

بيعت فلسطين فيا موطناً

في علَن غاضبهُ البائع!

بيعت وما أعجب بيع الشعوب

فيما وعى التاريخ أدهى الخطوب

سوق بها السواس كم زاولوا

تحاسةً هانت إليها الحروب

كم أعتم الغربُ وفي أفقه

كم بهر الأبصار برقٌ كذوب!

قائمةٌ من عهدها الأسبق

حربُ الصليبيين في المشرق

لم يفتر الغربُ ولم يألنا

من حربه أو كيده المرهق

لا تلم الغرب على بغيه

اللوم للمستسلمك الموثق

اللوم للجاثم في كنَّه

في ميعة القوة من سنَّه

يضنُّ بالمال أما حفنةٌ

للغاصب الواغل من ضغنه؟

باع فلسطين حماة الأمم

أهل المواثيق رعاة الذمم

الكاشفون الضر عن أرضنا

حين تغشى الناس فيها الظلم

الكارهون البغي من أنقذوا

بالنار حرياتهم والقلم!

بالذهب الباغي اشترتها يهود=وعصبةُ الأمن عليها شهود

الأمنُ؟ ما الأمنُ سوى غاية

تُنمى لا تلقوا إليها الوقود!

عز يهوذا حول قبر المسيح

غداً له في الشرق ملكٌ فسيح

آه من المال به الباطل اللجلج إذ يعوي مبينٌ فصيح

بالمال كم جادوا وكم آكل

للسحت فيهم أشعبيّ شحيح

في الأرض ملعونون ما طوفوا

كم بخسوا الكيل وكم طففوا

في كلَّ رُكن للربا آكلٌ

باغٍ وفي كل حمى مصرف

ص: 44

تالله لن يفلح كيدٌ لهم

ما أشعلوا الفتنة أو أرجفوا

قل لبني المشرق من واجد

يبكي ومن مستصرخ جاهد

قل لرعاة الشرق من علية

تشاوروا في مجلس حاشد

خوضوا المنايا الحمر أو فاقعدوا

ما من طريق غيرها قاصد

صبوا على النار هناك الدما

لا تبتغوا غير الردى مغنما

جد العدو اليوم في بغيه

فأطفئوا النار التي أضرما

من دمكم إن صال أعداؤكم

وصمموا فالحر من صمما

يا ابن الكماة الغر جدَّ الزمن

واستصرخ اليوم بنيه الوطن

يا ابن الأولى النجدة كانت لهم

ديناً وكانوا عصبة في المحن

أفق على الصيحة طال الكرى

شرٌ من الأجداث هذا لوسن

في الأفق الشرقي لون الدم

منورٌ بعد الدجى المعتم

أفق على الإصباح وانشد له

لحناً إلى مجد الردى ينتمي

وانهض إلى الموت وخض لجه

مبتسماً في وجهه الأقتم

ص: 45

‌عبد الله بن عباس

للدكتور جواد علي

لم يكن في طبع عبد الله بن عباس ميل إلى السياسة. فلم يشترك في إدارة شؤون الدولة الإسلامية الحديثة، ولم يترأس حزباً من الأحزاب السياسية، ولم يتول منصباً من المناصب الكبرى خلا مرة واحدة تولى فيها منصب إمارة البصرة في عهد خلافة ابن عمه علي بن أبي طالب في سنة 39 للهجرة - ولعله فعل ذلك إرضاءاً لإبن عمه - غير أنه لم يبق في منصبه هذا غير عام ثم اعتزل السياسة وقفل راجعاً إلى الحجاز حيث اعتكف في (الطائف) لسبب لا زال موضع بحث في كتب التاريخ.

وقد عاش في الحجاز قربة ثلاثين عاماً على غلة أملاكه الكثيرة حتى توفى بالطائف عام 68 أو 69 أو 70 للهجرة وقد زار في خلال هذه المدة بلاد الشام فوفد على معاوية وتحدث إليه ولكنه صرف أكثر هذه المدة في الحجاز في دراسة الموضوعات العلمية ولا سيما ما يختص بتفسير القرآن وأخبار الأوائل وأيام العرب. وقد بعثت هذه الدراسة نشاطاً عظيماً في عاصمة (الثقفيين) حولات إليه الأنظار. فجاءت إلى (الطائف) جماعات تلتمس العلم من (الحلقة) التي كونها ابن عم الرسول ومن المدرسة التي أنشأتها في الطائف فغدت بعد مدة قصيرة أكبر مدرسة (للتفسير).

ولم يشترك ابن عباس في العهد الأموي في الأحداث السياسية التي وقعت فيما بين الأمويين وخصومهم. ووقف من كل ما حدث موقف رجل محايد ناصح. فكان ينصح من تحدثه بالخروج على الأمويين بالتروي وعدم الاندفاع. ولما وقع الخلاف بين عبد الله ابن الزبير وعبد الله الملك بن مروان وجد الحكمة في العزلة والابتعاد عن الناس واتباع سياسة الصمت والسكوت فكان إذا سئل في موضوع سياسي يقول: يا لسان قل خيراً تغنم، واسكت عن شر تسلم، فإنك إن لم تفعل تندم. وقد أوقعته هذه السياسة عند البعض في مواطن الشبهات فقالوا إنه كان على اتصال خفي بمعاوية الذي أغدق عليه الأموال وبالأمويين؛ وأنه تفاهم معهم وأيد جانبهم بهذه السياسة. وقد صادفت هذه التهمة هوى في نفوس بعض المستشرقين فاتخذوها مغمزة للكيد للمسلمين.

والحقيقة أن هذه السياسة التي اتبعها عبد الله بن عباس تمثل وجهة نظر فريق أدرك أن من

ص: 46

العبث مقاومة الأمويين وأن من الخطأ الانحراف في تيارات السياسة وفي الفتن التي ظهرت بعد وفاة الرسول؛ فاتبعوا سياسة (العزلة) ورأوا فيها خير وسيلة من وسائل النجاة. وقد قويت هذه النظرية بعد المعارك الإسلامية التي وقعت فيما بين المسلمين فأصبحت مبدأ من المبادئ القوية ذوا قواعد وأحاديث وأتباع ورجال يدعون إليه ويبشرون.

ومن الذين فضلوا العزلة واجتنبوا الأحزاب سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر، وكان ينهي ابن الزبير عن طلب الخلافة والتعرض لها كما نهى آخرين عن الخوض في السياسة والانهماك بها، إلا أنه لم يؤيد جانب الأمويين ولم يبدأ رأياً في سياسة فترك الأمور تجري في مجاريها إلا ما كان يخص مبدأ من مبادئ الأخلاق أو الدين.

وقد كان من مصلحة الأمويين بالطبع إعراض الناس السياسة والانصراف عن التفكير في الملك ولا سيما إذا كان ذلك من الأسر الرفيعة والبيوتات ومن أهل الحرمين؛ ولذلك حاول الأمويين مراراً بذل الأموال في المدينة ومكة وتعويد الناس على عيشة اليذخ والراحة والتلذذ بملاذ الحياة الناعمة وفي ذلك ضمان في صرف السادات عن التفكير في الحكم. ولو أن هذه السياسة لم تنجح ولم يتمكن الأمويين مع ذلك من تحويل أهل المدينة عن التفكير في مصير الحق والناس.

ولقد كان من مصلحة الأمويين أيضاً أن يذاع فيما بين الناس بأن كل ما حدث إنما حدث بحكم الله وقضائه، لأن في ذلك تثبيتاً لمركزهم وتأييداً لحجتهم؛ فإذا كان الله قد قضى ذلك فلا مرد لحكمه ولا قوة تمكن الناس من زحزحتهم عن الحكم. وإذا كان الله قد قضى أن يكونوا ملوكاً فله حكمه وعلى الناس الصبر والانتظار.

على كل حال فقد أوجد عبد الله بن عباس في مدينة الطائف جواً علمياً وكون مدرسة حقيقية بفضل هذه النزعة الفلسفية اغلتي كان يميل إليها منذ صغره فكان (يجلس يوماً لا يذكر فيه إلا الفقه، ويوماً لا يذكر فيه إلا التأويل، ويوماً لا يذكر فيه إلا المغازي، ويوماً الشعر ويوماً أيام العرب). وقد ألتفت حوله جماعة من طلاب العلم كانت تتلذذ بالاستماع إليه. فكان يجيبهم ويسألهم ومن هذه المناقشة العلمية يتولد منهج البحث.

ولم يجد عبد الله بن عباس شأن سائر علماء الصحابة غضاضة من الأخذ عن أهل الكتاب أو عمن أسلم منهم. مثل (كعب الأحبار) و (عبد الله بن سلام) وإن كان قد حذر منهم ونهى

ص: 47

من لا علم له عن الأخذ عنهم لما أشهر عنهم من الوضع والدس (لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء)(ألا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألهم). ويظهر مما ورد في الكتب أن أبن عباس كان قد سأل (كعب الأحبار) عن مسائل كثيرة منها ما يخص المسائل الإسرائيلية، ومنها ما يخص القضايا الإنجليزية، ومنها ما يخص مسائل تفسير القرآن الكريم. وحتى في القراءات، كالذي ورد من أن ابن عباس أختلف مع عمرو ابن العاص في قراءة (لدنى - أو لدنى) فذهبا إلى كعب الأحبار لتسوية ذلك الخلاف.

وإذ دققنا هذه الأخبار والروايات التي ذكرها الرواد عن ملاقاة ابن عباس لكعب الأحبار تدقيقاً علمياً فأننا سنخرج من هذا البحث ونحن غير مطمئنين من وقوع هذه الملاقاة. ولا تستطيع أقوى رواية تأكيد رؤية عبد الله لكعب الأحبار وعلى الرغم من تأكيد الرواة من أن عبد الله وأمثاله من كبار المسلمين كانوا يلجئون إلى كعب وأمثاله في مسائل كثيرة إلا أني لا أستطيع أن أسلم بأكثر ما رووه وما ذكروه عن عبد الله بن عباس وصلاته بمن أسلم من أهل الكتاب.

وقد زعم جماعة من المستشرقين استناداً على بعض الأخبار أن عبد الله بن عباس كان يجالس يهود الحجاز يتحدث إليهم، وأنهم كانوا يزورونه في بيته، وأن ما رواه عن الخليقة والتكوين والأنبياء هو من وحي هذه الجلسات. وقد فاتهم أن الخليفة عمر ابن الخطاب كان قد أمر في خلافته بإجلاء جميع أهل الكتاب لأنه لا يجتمع دينان في جزيرة العرب؛ فكيف يمكن مجالسة اليهود لعبد الله بن عباس في بيته بالطائف أو اجتماعه معهم في الحجاز والظاهر أن هذه الأخبار إنما دخلت على ابن عباس، وأن الذين أسلموا من أهل الكتاب، والذين اجتمعوا به قد استغلوا فرصة اجتماعهم به فادخلوا ما أرادوا إدخاله باسم عبد الله بن عباس، وقد وجدت أرضاً صالحة في العهد العباسي لأسباب سياسة اقتضتها مصلحة الدعاية في ذلك العهد ظناً من ساسة ذلك العهد أن في رواج هذه الأخبار زيادة في منزلة جدهم الذي كان يجادل أهل الكتاب وينتصر عليهم ويفسر لهم أخبار كتبهم وأمور دينهم، ويروي لهم ما في التوراة والإنجيل. وقد اقتضت مصلحة السياسة في ذلك العهد وضع أحاديث كثيرة حتى على لسان الرسول في الثناء على هذه الدولة وعلى أرض بغداد وفي التبشير بملامح بعض الخلفاء.

ص: 48

وقد تمكن من أسلم من أهل الكتاب من تكوين دعاية طويلة عريضة فصوروا في الكتب الإسلامية على أحسن صورة. صوروا على أنهم أعلم أهل زمانهم، وأنهم أفقه أبناء دينهم في التوراة، وأنهم (الأحبار) حقاً، وأنهم كانوا يعرفون أصل التوراة ومحتواه من أسرار. ولهذا السبب قالوا عن أحدهم وهو (كعب) أنه (كعب الأحبار) وأنه (ملجأ العلماء)، وأنه درس عامر ابن عبد الله بن عبد القيس الأنباري الزاهد المعروف التوراة في نصها الأول وأنهم كانوا على جانب كبير من الزهد والتقوى، وأنهم فوق التهمة والكذب. ولكن جمهرة من المحققين ارتابت من هذا القول وشكت في أكثره. والواقع أن أكثر ما روى عن هؤلاء من أخبار وأقوال يشير إلى أنهم لم يكونوا على نحو ما قيل عنهم من العلم، وأنهم لم يكونوا أصحاب علم بالتوراة وأنهم ما أوردوه بثوب إسلامي لم يكن سوى أشباح ضعيفة لما ورد في بعض الأماكن من أسفار التوراة.

وأنه كان في الواقع نوعاً من القصص الشعبي الإسرائيلي الذي كان شائعاً بين يهود اليمن والحجاز وأنهم بيهوديتهم هذه يختلفون كثيراً عن يهود فلسطين أو العراق. وأنهم حاولوا إدخال (اليهوديات) في الإسلام وهو ما عرف فيما بعد باسم (الإسرائيليات) أو (القصص الإسرائيلية)، والتي حذر منها المفسرون. وأن بعضهم تآمر على الخلفاء؛ بينما كان يتظاهر بخلاف ذلك.

جواد علي

ص: 49

‌مصرع البغي

للأستاذ محمد سعيد العريان

قال الشيخ لفتاة وهما يسلكان طريقهما في بعض أرباض الكوفة: مل بنا يا بني عن هذا الطريق؛ فليس يطيب لي يومي إذا وقعت عيناي إلى أنقاض تلك القلعة المهدومة؛ كأنما يجثم وراء كل حجر من أحجارها المتناثرة نحسن يتربص لكل عابر سبيل. . .

قال الفتى منكراً: وي! كأنك تزعم يا أبتي أن في بعض الجماد ما ينفع وما يضر!. .

قال الشيخ وقد أخذ طريقاً آخر إلى الوجه الذي يقصده، وقد استند كفاً إلى كتف الفتى وكفاً إلى عصاه: نما هو يا بني ما قلت، وأنه لا نافع ولا ضار إلا الله؛ وأعوذ به من كفر بعد أيمان؛ ولكن ذكريات تتراءى لي من هذه الخربة كلما نالتها عيناي فتتجسد لي في النوم واليقظة صوراً حمراء دامية؛ لقد عمر أبوك طويلاً يا فتى ورأى ما لم ترى؛ ولعلك إن تعمر مثل عمري فتتحدث إلى بنيك بما رأيت وما سمعت من أنباء هذه القلعة المشئومة!. .

استشرفت نفس الفتى إلى جديد يقصه عليه أبوه من أنباء الماضي، وأن أباه لراوية أخبار ومحدث تهفو النفوس إلى حديثه ويرهف السمع؛ ولكن الشيخ مما أهوى الزمان منه لم تكن به قوة على حديث طويل وهو يمشي؛ فلما بلغ داره وتخفف من ثيابه جلس إلى وسادته ليستأنف حديثه عن تلك القلعة قال: لقد رأيتها يا بني منذ بضع وخمسون سنة، وكنت يومئذ فتى في مثل سنك، والمسلمون حديثو عهد بهذا المصر، وأميرهم فيه سعد بن أبي وقاص، فلما بصر البلد وشرع طرائقه ونظم ديوانه أمر أن تنشأ هذه القلعة وأتخذها داراً للحكم؛ وقد كان يعد مستجاب الدعاء يا بني؛ وكأني به حين حفر أساسها قد دعا الله أن يجعلها عصمة للمسلمين من عدوهم؛ ولو أنه أطلع على الغيب لكان دعوته إلى الله أن يجعلها عصمة للمسلمين من شر أنفسهم؛ إذن لارتدت عنها شهوات المبطلين وعصمة أهل هذا المصر من أن يسفك بعضهم دماء بعض كما عصمتهم من عدوهم؛ فما طرق الكوفة عدو مناهل الشرك منذ مصرها سعد وأنشأها بها هذا الحصن أو يسفك بها كافر دماً؛ ولكن اتخذوها مطمعة يسفك بها بعضهم دماء بعض. . . قال الشيخ:

في هذه القلعة يا بني، شهدت رأس الحسين بعد أن قتله أهل البغي دون الفرات شهيداً مظلوماً وحالوا بينه وبين الماء، لا يشرب من ظمأ، ولا يجوزه إلى مأمن، ولم يكفهم ما

ص: 50

فعلوه به وبأهله وولده، ففصلوا رأسه عن جسده وحملوه إلى عبيد الله بن زياد الدعا، فكأنما أراه الساعة والرأس الشريف بين يديه المخصبتين بالدم لا يكاد يكتم فرحته بموته؛ كأن قد ضمن به الخلود في الحياة حيث ضمن به الخلود في أمارته!

ثم حمل الرأس إلى دمشق ليطيب يزيد بن معاوية بالنظر إليه ويطمئن مالاً باستقرار الأمر له.

هل رأى قط واحد من أهل الكوفة أو من أهل هذه القلعة رأس الحسين في الطست بين يدي عبيد الله ثم غابت هذه الصورة عن خياله؟. . . قال الشيخ:

ومضت يا بني من ذلك اليوم سنوات، ومضى يزيد إلى ربه بما حمل من أوزار الناس وأوزار نفسه، وتعاقب على عرش بني أمية في الشام أمير بعد أمير، وظن عبيد الله أبن مرجانة أن العيش قد طاب له، وأحسبه قد نسى يوماً له بقلعة الكوفة وبين يديه رأس الحسين الشهيد، ولكن الأقدار لا تغفل عن أهل البغي؛ ولم ينس المؤمنون من شيعة بني هاشم جناية بني أمية وبني سمية على عترة النبي المصطفى من خير خلقه؛ فمضت الدعوة إلى الثأر لهم تتنقل من فم إلى فم وتتقاذفها الفلوات والأبصار حتى نهض لها المختار من أبي عبيد يهتف في شيعة الحق: يالثارات الحسين!

واجتمعت له الجموع وتكتبت الكتائب ودانت لدعوته البلدان؛ وخرج ابن زياد ليلقاه، أو ليلقى حينه؛ فألتقي بجيش المختار في أرض الموصل على شاطئ نهر خازر؛ ونالته ضربة سيف باتر فقد نه نصفين، فيداه في المشرق ورأيه في المغرب، وكما حمل رأس الحسين من حيث قتل على الفرات إلى قلعة الكوفة - حمل رأس عبيد الله من حيث هلك على شاطئ نهر خازر إلى قلعة الكوفة كذلك. .

وفي هذه القلعة يا بني، شهدت للمرة الثانية في طست بين يدي أمير القلعة؛ وكأني يومئذ بالمختار بن أبي عبيد إلى رأس ابن مرجانة بين يدي وهو في مجلسه ذاك من تلك القلعة وعلى شفتيه مثل تلك الابتسامة!. .

ولعل كثيرون غيري قد رأوا ما رأيت يومئذ وفي ذلك اليوم الآخر، فانطبعت في أنفسهم صورة الحسين ومنظر الأميرين؛ فمنهم من نسى صورة بصورة ومنظراً بمنظر؛ ولكنني لم أنس! قال الشيخ:

ص: 51

ومضت يا بني سنوات أخر، وتقلبت الأحوال بالناس ما تقلبت، وجدت أمور بعد أمور؛ ولكني رجلاً من أصحاب الأمر لم ينس أن له ثأراً عند المختار بن أبي عبيد؛ ذلك مصعب ابن الزبير يا بني، أمير تلك الجهات من قبل أخيه عبد الله المتأمر بمكة؛ فقد كان يرى المختار دعياً في شيعة علي، يتلصق بهم ليطلب لنفسه ملكاً وإمارة؛ وقد سبقت له بيعة لعبد الله ابن الزبير في مكة على أمل يأمله، فلما خاب أمله ذاك زعم أنه شيعة علي والثأر لولده، ليصل بذلك إلى مناوأة الأمويين والزبيريين جميعاً؛ فنهد مصعب لحربه بالجيش اللجب، تشايعه قبائل وبطون وجماعة من أهل الرأي وطائفة من أولي البأس في الحرب؛ والتقى الجيشان في معارك، ودارت الدائرة على المختار فلجأ إلى دار الإمارة بالكوفة معتصماً في طائفة قليلة من أصحاب لا قوة لهم على المقاومة؛ وحصرهم جيش الزبيريين حتى لم يجدوا أبداً من البروز لحربهم أو النجاة بأنفسهم؛ ونالت المختار ضربة كانت فيها نفسه، فاجتز رسه وحمل إلى الأمير مصعب بن الزبير في قلعة الكوفة.

وكما شهدت من قبل رأس الحسين ورأس ابن مرجانة بين يدي أمير القلعة، شهدت رأس المختار. . .

وكأنما هجس بنفسي وقتئذ هاجس وأنا أنظر إلى مصعب بن الزبير وبين يديه رأس المختار وتمثلت لي صورة غير التي تراها عيناي في تلك الساعة؛ فكأن الذي في الطست ليس هو رأس المختار بن عبيد، ولا رأس ابن مرجانة، ولا رأس الحسين؛ ولكنه رأس مصعب نفسه؛ وكأن الأمير الجالس على الكرسي رجل آخر غيره، ولكنه رجل لا أعرفه، لأن عيني لم تقع عليه قط.

هذا منظر تكرر على عيني ثلاث مرات، في صورة واحدة، ومكان واحد، ولأسباب تكاد تتشابه؛ فكأنما رأيت منظراً رابعاً لم يره أحد بعد، وكأن هاتفاً من وراء الغيب يهتف بصوت أكاد احكي نبره: لكل باغ يوم!. . .

واستقرت هذه الصور الأربع في واعيتي لا أكاد أغفل عنها طرفة عين؛ أما ثلاث منها فرأيتها رأي العين ووعيتها وعي اليقظة؛ وأما الرابعة فكانت وهماً تجسد حتى قارب أن يكون حقيقة مما يدرك بالحس! قال الشيخ:

لست أدري يا بني أكانت هذه الصور الأربع في واعيتي أنا وحدي أم كان غيري يعيها؛

ص: 52

ولكن الذي أرويه يقيناً هو أن رجلاً واحداً من الذين شاركوا في هذه الحوادث الدامية لم تخطر على باله قط الصورة الرابعة؛ ذلك هو مصعب بن الزبير نفسه! وتوالت الأعوام يا بني وهذه الصور تتراءى لي في يقظتي وفي منامي، حتى حرمت على نفسي أن أجوز ذلك الطريق حتى لا تقع عيني على تلك لقلعة المشئومة فتجد لي ذكريات وتبعث تلك الصور البغيضة إلى نفسي. . .

وكان عبد الله بن مروان على عش بني أمية في الشام، وقد تفانى أعداؤه ومناوئوه طائفة بعد طائفة وأهلك بعضهم بعضاً فلم يبق ثمة من يخشى خطره غير ابن الزبير؛ فهيأ جيشاً سيره نحو العراق لحرب مصعب؛ وأنظم إليه فلول من أصحاب المختار ابن عبيد، لا يحملهم على الحرب معه إلا الرغبة في الثأر من قاتل صاحبهم. . .

والتقى جيش الزبير وجيش الزبيرين وجيش بني أمية في مسكن، على نهر الدجيل، عند دير الجاثليق؛ ونشبت المعركة، فشد على مصعب رجل من أصحاب المختار وهو يقول: يا لثارات المختار! وطعنه فأبلغه أجله. . .

واحتز رأس مصعب وحمل إلى عبد الملك بن مروان في قلعة الكوفة. . .

وشهدت الصورة الرابعة عياناً، وكنت أراها رأى المتوهم منذ بضعة سنين. ورأيت عبد الملك بن مروان جالساً على كرسيه وبين يديه الرأس في الطست. . .

وكان بين مصعب وعبد الملك مودة حين كانا في المدينة قبل أن ينزغ بينهما الشيطان. . . وأحسبني رأيت دمعة في عين عبد الملك وهو يقول محزوناً وينظر إلى رأس مصعب: (متى تغدو قريش مثلك!؟)

وغامت على عيني غائمة، فقلت ولا أكاد أعي ما تلفظه شفتاي:(أني رأيت بهذه القلعة رأس الحسين أمام عبد الله بن زياد، ورأس ابن زياد أمام المختار، ورأس المختار أمام مصعب، ورأس مصعب أمام أمير المؤمنين!. .)

وبلغت كلماتي أذن الأمير، فكأنما تطير مما سمع، فأمر بنقض بنيان القلعة؛ فهي من يومئذ أنقاض يا نبي!

قال الفتى:

فما يفزعك منها يا أبت وقد صار إلى ما ترى؟

ص: 53

قال الشيخ:

- لست أدري يا بني؛ ولكني أتوقع كلما وقعت عيناي على أنقاضها أن أحداثاً ستحدث في هذا المكان، وتزدحم على ذكريات الماضي وصوره الحمراء الدامية. . .

ثم صمت الشيخ وأطرق، وسرحت خواطر الفتى إلى واد بعيد.

وتعاقبت السنون، ومات الشيخ، وأيفع الفتى ثم اكتهل وبرقت في فوديه شعرات بيض؛ ونسى كل ما كان من حديث أبيه؛ ونسى أهل الكوفة ما مر بهم من أحداث وما وقع في القلعة من حوادث؛ ولكن أنقاض القلعة ظلت مركومة حيث كانت. . .

(ومر الفتى ذات يوم بالمكان فتذكر، ووقع في وهمه أن شيئاً ما سيحدث. . .

(ومضت أيام، وحدث شيء. . .

من وراء أنقاض القلعة المهدمة بالكوفة بدأت طلائع الزحف العباسي إلى دمشق، لتحطيم عرش بني مروان!!

وتنفس الفتى نفساً عميقاً حين بلغه النبأ، وقال في ثقة واطمئنان: آمنت بأن لكل باغ مصرعاً. .!

محمد سعيد العريان

ص: 54

‌من خطايا التائهين

محمود حسن إسماعيل

من هؤلاء؟ دوَّخوا الترابا

وأشبعوا وجهَ الثرى عذابا

في كلَّ يومٍ يطرُقون بابا

ويفجأون الزمن المنايا

فيمسخون الخُلد والشَّبابا

ويُثكلون سِحرهُ الوثابا

سيَّان إن هُمْ نادموا الأترابا

أو عاشرُوا الوُحوش والذَّئابا

سيَّان يلقوْن المنى قبابا

أو يرضعون حظها ببابا. . .

صار الوجودُ حولهم سرابا

وسحرهُ أضحى لهم عذابا

ونارُهُ صُبَّت لهم شرابا

فأينما حَلُّوا رأوْا خرابا

وصادفُوا الهمُوم والأوصابا

والغُمَّةَ الهوجاء والضَّبابا

ونِقمةً لا تعرفُ المتابا

ولا تذوقُ الندم الصَّخَّابا. . .

وأينما طافُوا رأوا حِجابا

وظُلمةً لا ترفعُ النَّقابا

سدَّت عليهم سدلها المُرْتابا

وضيعت في قلبها المآبا. .

سُبْحان من فرَّقهم شعابا

ص: 55

وهشهم في مُلْكِه ذُبابا

وقدَّر التيهُ لهم عقابا

ويْلي عليهم عبدُوا الترابا

وأَلَّهُوا من الحصى أربابا

وقدَّسوا من زيْفه كتابا

وبعثروا صلاتهم أسرابا

في كلَّ أرِض تنشد المحرابا

وترصدُ الدينار أين غابا

ولو طوت لمعته الشهابا

ودفنت في برقها السَّحابا

العرضُ من أجسادهم تحابى

وقبَّل الأبواب والأعتابا

وشق عن مزارِه الأثوابا

ومسَّهُ تيهُ الهوى فذابا

مدَّت فلسطينُ لهم رحابا

وأَفسحت لضيْفهم جنابا

فأترعوا السمَّ لها والصَّابا

وحَيَّرُوا في أمرها الألبابا

أَمضت إليهم سيْفها الغلاَّبا

فساقهم في نارها أَحطابا

فليجعلوا التيه لهم ركابا

ويتركون الله والأعرابا

ص: 56

‌نملتان في الفلفل

للدكتور زكي نجيب محمود

جلس الشيخ في دكانه محزوناً؛ اعتمد رأسه على راحتيه وجعل يفكر: ماذا أنا صانع يا رباه في جحافل النمل التي تهجم على سكري في ظلمة الليل؟ إنها لتأكلني أكلاً إذ هي تأكل قوت عيالي، وإني لعائل أسرة أكاد أنوء بحملها الثقيل؛ لو كانت النمال مما يرعى مبادئ الأخلاق، لناشدتها الضمائر ألا تسطو على ملك غيرها، فحرام عليها أن تستريح بياض النهار في أعشاشها، حتى إذا ما سترها الليل بعتمته، ملأت بطونها مما كد غيرها في جمعه وكدح، حتى تندى منه بالعرق الجبين. لكن - وا أسفاه - ليس للنمل أخلاق يراعيها.

وتحير الشيخ في أمر هذا النمل، كيف يعرف موضع السكر وإنه لخبئ في علبة محكمة الغطاء؛ وأن الشيخ ليغير مكان العلبة كل مساء، فيضعها على الرف مرة، وتحت النضد مرة، ويكسوها باللفائف تارة، ويعلقها في الهواء طوراً. . . لكن النمل يعرف!!

ولمعت فكرة في رأس الشيخ كاد يثب لها من مقعده: أما والله إني لأحمق مأفون، أضع إصبعي في الفخ حتى إذا ما ضغط الفخ على إصبعي، صرخت من ألم! ألم أكتب على الصناديق بيدي هذه البطاقات، تعلن عما في بطونها فلمن كتبت - يا أحمق - هذه البطاقات، إن لم تكن للنمل يقرؤها في الليل، وإنه لذو بصر حديد، فيعرف موضع السكر من الدكان في حندس الليل! لأنزعن من فوري هذه البطاقات عن أماكنها، وكفاني من بلاهتي ما لقيت كفاني. . . ونهض الرجل في حماسة لينزع. . .

لكن لا! لقد لمعت عيناه بفكرة أخرى، فكرة افترت لها شفتاه بابتسامة عريضة، ثم انفجرت بقهقهة عالية. . . أأنا الرجل الذي يغلبه النمل على أمره، وإن عد النمل بالألوف لا بآحاد وأفراد؟ أأنا الرجل الذي يغلبه النمل على أمره ثم لا ينتقم؟ فيم إذن كل مقامي في حلقات العلم أعواماً إن قصرت بي عن ختام العلم فقد دنت منه؟! ويحك الليلة مني يا نمال!.

ونزع الرجل في زهو الظافر السكر ووضعها على علبة الفلفل وكتب الفلفل على علبة السكر.

- سيأتي النمل الليلة أسراباً كهده، وسيقرأ العنوان فيظنه دالاً على مضمون الكتاب، وسيدخل علبة الفلفل وفي وهمه أنه سيجد حلاوة كل يوم، وما كل ما يتمنى المرء (يا نمل)

ص: 57

يدركه، تأتي الرياح (يا نمل) بما لا تشتهي السفن. . .

وأوشكت الخطة أن يصيبها الفشل، إذ جاء النمل ولم يقرأ، بل وشم وأنصرف، إلا نملتين حفظتا القراءة في مدرسة من مدارس الإلزام، فقرأتا وضحكتا من جهل الأخوات، وتسللتا إلى السكر الموهوم، فإذا داخل العلبة ديجور لم تعهداه فيما سلف من الليالي. وبيناهما تسعيان راء الرزق، صدمت نملة منهما نملة في بعض الطريق:

- ما بالك ماذا دهاك؟

- عتمة لم أعهدها ها هنا يا أختاه.

- لست أرى في الأمر اختلافاً عن المألوف.

- بل ألفت أن يتسرب من سماء هذا المكان شعاع ضئيل من الضوء يعكس شيئاً من بياض، وإذا الأمر كله الليلة في عيني سواد في سواد؛ ثم ألفت أن أسير على منبسط فسيح، فإذا بي الليلة أدور مع موطئ القدم حيث يدور، ثم. . . لست أدري يا أختاه ماذا دهاني، لعله مرض في جوفي تغيرت معه طبيعة دنياي ثم ألفت على اللسان حلاوة فإذا بالشيء يلسع الليلة لساني لسعاً أليماً، حتى ليكاد اللسان من حدة اللسع يحترق.

- لك الله يا مسكينة، ألا إن الأرض هي الأرض والسماء هي السماء، والمأكل كعهدنا طيب به حلو المذاق، غيري من جوفك تتغير الدنيا في عينيك.

- أواثقة أنت أننا في علبة السكر.

- قرأت العنوان بعيني، وأذوق الطعم الآن بلساني، وليس إلى الشك عندي من سبيل. وفيم الريبة والسؤال؟ دونك المكتوب فاقرئيه، وليست الرحلة إليه بشاقة ولا عسيرة

- سأفعل، لا ارتياباً في صدق ما تقولين، ولكن ليطمئن قلبي.

وخرجت النملة إلى ظاهر العلبة ثم عادت والتقت بأختها بعد تعثر في الطريق وبحث في الثنايا هنا وهناك.

- صدقت، إنه السكر لا شك فيه.

- لا (يا أختاه) بل كل الشك فيه.

- وي! ماذا تقولين؟ ماذا تظنين؟

- كأنه (يا أختاه) حب فلفل، أني لأحس الآن ما تحسين؛ فسواد شديد حالك يسد علي مسالك

ص: 58

الطريق، وانبعاج في الأرض لا يكاد يمكنني من السير، ثم طعم لاذع يذبب اللسان ويمزق الأحشاء.

- لكنه السكر، والبدال لا يخطئ الترقيم.

- نعم، لا بد أن يكون سكراً، لأن البدال لا يخطئ الترقيم؛ فصبراً جميلاً، حتى نملأ جوفينا مما رزقنا الله وإنه الحلو مستساغ، وإن كره البصر واللسان والأحشاء جميعاً!

وأصبح الصباح وعاد النمل إلى عشه، لا لتستريح النملتان هذه المرة من عناء الليل، بل لتتلويا من عذاب أليم كلما مغصت في جوفيهما الأمعاء، والتقت المسكينتان في منبطح من العش:

- ليتنا ما اكلنا السكر.

- السكر؟!

- وماذا عساه في ظنك أن يكون؟

- اسمعي يا أختاه، لقد ذهبت مع ظلمة الليل غفلتي، وعادت إلي مع ضوء النهار حكمتي، أن هؤلاء الناس لأصحاب خدعة فما فتئوا الدهر يخدعون ويخدعون، وإني لأعلم من أمرهم ما لا تعلمين، بل لعلي أعلم منه ما ليس يعلمون.

- ماذا تريدين؟

- سأوضح لك الليلة ما أريد.

وجاء المساء ورجت النملتان، نملة تهدي وأخرى تهتدي.

تعالي معي فادخلي خزانة الكتب، امسكي هذا الكتاب ما عنوانه؟

- في الفلسفة الإسلامية.

- ومن كاتبه؟

- شيخ جليل في طليعة الشيوخ.

- دونك فأقرئيه، ماذا ترين فيه؟

- لست والله أطالع فيه إلا فقهاً وما إلى الفقه.

- نعم، وسماه فلسفة ليدخل المريدون خلال العنوان إلى فلسفة، فإذا بهم في فقه يتقلبون، كما دخلنا ليلة أمس على بطاقة من سكر، فإذا الفلفل يملأ منا الأمعاء والبطون. . . وهذا

ص: 59

الكتاب الآخر، ما عنوانه؟

- خواطر أديب.

- ومن كاتبه؟

- علم من أعلام القلم.

- دونك فأقرئيه، ماذا ترين فيه؟

- لست والله أرى فيه إلا خليطاً من معرفة لا هي إلى العلم في دقته ولا إلى الأدب في جمله وصورته.

- نعم، وجعله الكاتب أدباً ليتسرب إليه الراغبون في أدب، فإذا هم في مرج آخر يمرحون. . . اخرجي من بطون الكتب وهيا بنا إلى الحياة العريضة في المنازل والشوارع، انظري هناك، ماذا تبصرين؟

- كومة من قمامة. . . لا بل هو آدمي يتحرك.

- هذه القمامة البشرية يسمونها مدنية شرقية.

- كلا، لا تمزحي، بل. . .

- وانظري هناك، ماذا تبصرين؟

- شرطي يضرب إنساناً في عرض الطريق.

- وهذا الطغيان الساري يسمونه مدنية شرقية.

- كلا لا تمزحي، بل. . .

- وانظري هناك، ماذا تبصرين؟

- كأني به مريض محموم أحاط به ذووه.

- وهذه الجهالة يسمونها مدنية شرقية.

- كلا لا تمزحي، بل. . .

- وادخلي هذه الدار وانظري، ثم ادخلي جماجم الرءوس وانظري، وسترين شيئاً عجيباً يسمونه مدنية شرقية.

- كلا، لا تمزحي، بل المدنية الشرقية شيء غير هذا كله سمعتهم هكذا يقولون.

- وأنا سمعت آخرين يقلون أن المدنية لا تكون شرقية ولا غربية، إنما هي علم يعلمه

ص: 60

الإنسان أنى كان، وفن يخلقه الإنسان أنى كان فحيثما وجدت الجهالة والمرض، وجدت ماذا؟

- لكنهم يقولون. . .

- ويحك من نملة حمقاء، أفتنصتين بعد لما يقولون؟

أن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين، ألا يكفيك ليلة واحدة تقضينها في علبة الفلفل؟

زكي نجيب محمود

ص: 61

‌وامعتصماه!

للأستاذ عمر الدسوقي

عربية كريمة، تنمي إلى أمة تألف الذل مرة، ولكن رحب البيد أحكم أعزها فما شئت من قلب أبي، ومنطق سليم، وعقل أنضجته التجارب، ونفس ترى الدنيا لديها رخيصة، إذا كان في الدنيا هوان يشينها: إلى كل شهم أريحي تزينه، خلال كروض الزهر طاب عبيرها:

إذا سيم ضيماً كان للضيم منكراً

وكان لدى الهيجاء يخشى ويرهب

وإن صوت الداعي إلى الخير مرة

أجاب لما يدعو له حين يُكرب

أبى على هذه العربية جدها النكد إلا ترسف في ذل الأسر غب حرب من تلك الحروب الطويلة التي ظل أوارها مشتعلاً حقباً مديدة بين العرب، الذين حملهم الله رسالة الإسلام، لينقذوا بها البشرية الكليمة، وبين الروم الذين أدال الله منهم ووضع أنوفهم في الرغام، وإن لم ينسوا أعزهم الغابر، فظلوا يغيرون على أطراف الدولة العربية الشاسعة كلما هبت عليهم نسمة من قوة، أو غرتهم من المسلمين غفلة عارضة.

وفي ذات يوم لطمها سيدها الرومي على وجهها الحر الكريم فوخزها ألم الذل وخزة صاحت على أثرها تستنجد الخليفة العربي العظيم: وامعتصماه! وامعتصماه! فضحك اعلج ملء شدقيه ونظر إليها نظرة الشامت الجبان، وقال: وماذا عساه يفعل المعتصم؟ أيجيء على أبلق وينصرك؟! إنك ذليلة كسيرة، وقد كتبت عليك الشقوة، وهيهات أن يستجيب لندائك الوقح هذا الذي تنادين! ثم أشبعها ضرباً ولطماً، وهي تنادي وامعتصماه! وامعتصماه!

جاء رجل إلى المعتصم، وبلغه نبأ هذه العربية الكريمة، فانتفضت نفس الخليفة الجليل انتفاضة الألم، وسأل الرجل: وأين هذه المرأة؟ فأجاب: إنها في عمورية يا أمير المؤمنين، فقال المعتصم: وفي أي جهة عمورية؟ فأشار الرجل إلى جهتها، فنادى المعتصم بأعلى صوته: لبيك يا ابنة الكرام! لبيك! ثم لبيك! هذا المعتصم بالله أجابك!

وتجهز المعتصم من فوره إليها في أثنى عشر ألف أبلق تطوي سنابكها الأرض طياً لتغيث الملهوف وتستجيب للنداء الأبي.

وكانت عمورية مدينة عانية، قد أحكم تحصينها، وبها من جنود العدو تسعون ألفاً أو

ص: 62

يزيدون، فحاصرهم المعتصم، وطال حصاره لها، وأخبره المنجمون أنها لن تفتح إلا في الصيف حين ينضج التين والعنب، وكان قدومه إليها في زمهرير الشتاء، والأرض مسجاة في كفن أبيض من لثلج، وقد صوح ما عليها من شجر، وقل الماء والثمر، وأجهد الجيش، كما أجده العدو العنيد. بيد أن المعتصم أبى أن يستمع لصوت المنجمين المثبطين الذين أنذروه شراً مستطيراً إن هو استجاب لرغبة فؤاده وأقتحم أسوارها:

وخوفوا الناس من دهياء مظلمة

إذا بدا الكوكب الغربي ذو الذنب

وشد على المدينة شدة بطل مغوار فدك أسوارها، وأشعل النار فيها، فذلت له وما ذلت قبل

لأحد:

من عهد اسكندرٍ أو قبل ذلك قد

ثابت نواصي الليالي وهي لم تشب

بِكرٌ فما افترعتها كف حادثة

ولا ترقت إليها همة النُّوَبِ

ودعا المعتصم بالرجل الذي بلغه حديث الجارية العربية المستغيثة فدله على الموضع الذي رآها فيه تذل وتهان، وبحث عنها حتى وجدها، وقال لها: هل أجابك المعتصم؟! وصار سيدها الرومي لها عبداً ذليلاً وأفعم قلبها عزة وأنفة. ورحم الله أبا تمام حين مدح المعتصم إثر هذا الفتح المبين بقوله مستهزئاً بآراء المنجمين:

السيف أصدق أنباء من الكتب

في حده الحد بين الجد واللعب

بيض الصفائح لا سود الصحائف في

متونهن جلاء الشك والريب

أبقت بني الأصفر الممراض كاسمهم

صفر الوجوه وجَلَّت أوجه العرب

تسعون ألفاً كأساد الشرى نضجت

جلودهم قبل نضج التين والعنب

واليوم، وعلى مرأى منا ومسمع تنادي بلدة عربية كريمة، وهي فلسطين الجريحة: وامعتصماه! وامعتصماه!. وقد أبى لها الجد العاثر إلا أن ترزأ بشر ذمة من صعاليك الأمم، وأفاقي الأرض الذي لفظتهم ديارهم، ومجهم مواطنوهم. يريدون أن يسلبوها عروبتها ويهدروا كرامتها، وقد مالأهم من لا أخلاق لهم من تلك الدول التي باعت ضمائرها للشيطان، وخنعت لصوت الذهب الرنان، وصفعت الإنسانية المهيضة على وجهها دون حياء، أو شعور بعظم الجريمة، وتنكرت لكل تعاليم الحضارة الحقة، فلا شرف، ولا ذمة، ولا مروءة، ولا عدالة. بل اتخذت شرعة الغاب، وقانون الكهوف لها إماماً، فتباً لهم وخزياً.

ص: 63

!

أحقاً إننا أمة هازلة لا تدرك الخطر الداهم، ولا تقدر الخطب الجاثم، ولم تخبر العدو الظالم؟ هل ستمثل مأساة الأندلس على مسرح التاريخ ثانية، فيلقي بعرب فلسطين في البحر، كما ألقى عرب غرناطة من قبل. ويومئذ نجهش بالعويل والبكاء، وننتحب كما تنتحب النساء: نقلب الأكف أسفاً وندماً، ونعض الشفاه حسرة وألماً، فيقال لنا كما قيل لأولئك: ملك لم تحافظوا عليه محافظة الرجال فابكوا عليه اليوم بكاء النساء. ألا تعساً لأمة هازلة وسحقاً!.

أن الأمر جد، فنصرة فلسطين لا تدعو إليها لحمة القرابة والنسب، ولا صلات التاريخ والأدب، ولا حرمة الجوار ونخوة العرب فحسب، ولكن تحثنا إليها فضلاً عن كل ذلك - وما ذلك بالقليل - زعامة مدعاة، ومصلحة مرجاة. فمصر اليوم تغص بالرجال والأموال، وتتبوأ في قلوب أبناء العروبة لمكانتها العلمية، ونضجها الفكري أسمى منزلة. ثم أن دولة يهودية في فلسطين مؤيدة بأموال اليهود في العالم، وبخبرتهم العلمية وثقافتهم الواسعة لهي الوباء الذي يقضي على كل ما تفكر فيه مصر من مشروعات وإصلاحات، وما ترجوه من تجارة عريضة دولية، وصناعة ضخمة تغنيها عن سواها، وأساطيل مدنية تجوب البحار وتجلب الخيرات، ومواني تحتل مركز الصدارة على سيف البحر، وغنى يكفل لبنيها الذين أرهقوا طوال حقب التاريخ نوعاً مقبولاً من معيشة الأناسي ذوي الحضارة. كل هذا مهدد بكارثة على يد الصهيونية ودولتهم المنتظرة لا قدر الله!

ثم أن هؤلاء الأفاقين - وهم قلة وسط البلاد العربية - سيطلبون العون حتماً من حلفائهم الذين ناصروهم وستظل فلسطين على أيديهم مباءة للمستعمرين الغاصبين، يهددون الحريات، ويمتصون دماء الأبرياء، ويوقعون يبن الأخوة العرب العداوة والبغضاء.

فدفاع مصر عن فلسطين ودفاع عن أخ شقيق، ودفاع عن مصلحة مشتركة، ودفاع عن كسرة الخبز، وموارد الحياة، وأسباب العزة والحياة، ودفاع عن الحرية والسلطان، وعن كريم بهان، وعزيز يذل، ومال يسلب، وعرض ينتهب، وتراث يغتصب.

لتجد مصر بالمال غنيها وفقيرها، صغيرها وكبيرها، وشبابها وكهولها، رجالها ونساؤها، فالمعركة فاصلة، وقد عجم الغرب الغشوم عيداننا فإما وجدها صلبة قوية فارتد خاسئاً وهو

ص: 64

حسير، وإما وجدها لينة رخوة تحرص على المال ولا تحرص على الحرية، ولا الكرامة، ولا المستقبل، فتمادى في شرته وأفصح عن جبروته وسطوته، في ذلك ذل الأبد لا قدر الله!.

لتجد مصر برجالها وشبابها، وفي ميدان فلسطين فرصة ذهبية لتدريب ذلك الشباب الذي قلمت أظفاره سني البغي والعسف والجهل، فتخنث ونسي محتده الكريم وتاريخه العظيم، وتطرى وأمعن في الهزء والحياة العابثة. أن هذا الشباب لو أحكمت مرنه ميادين القتال، وحياة الخشونة، ومصارعة الأعداء، لعاد بعد هذا الجهاد إلى مصر وحسب له أعداؤها ألف حساب.

أن فلسطين اليوم تنادي:! وامعتصماه! وامعتصماه!

فليكن كل مصري، بل كل عربي - أين كان محله - معتصمها الذي تناديه، وفارسها الذي ترتجيه.

يتلقى الندى بوجه حيي

وصدور القنا بوجه وَقاح

هكذا هكذا تكون المعالي

طرق الجد غير طُرْق المزاح

عمر الدسوقي

ص: 65

‌الجزار الشاعر

للأستاذ العباس خضر

نشأ بين الساطور والوضم، يصيب المحز ويطبق المفصل في اللحم وفي الشعر وكان ذلك في مدينة الفسطاط، وفي القرن السابع الهجري، في فترة من الزمان انتقل فيها حكم الديار المصرية من الأيوبيين إلى المماليك، وعاش شاعرنا الجزار (أبو الحسين يحيى بن عبد العظيم) مخضرماً ما بين الدولتين، آناً يطوف بالمدائح على الملوك والأمراء وحيناً ينطوي على نفسه لما يلقاه من إخفاق فيما يؤمل من من هذا الطواف، ولما يبلوه من أخلاق الناس، ملتجئاً إلى حرفته راضياً عنها، فهو أبداً بين الكلاب: كلاب آدميين يقصدهم بمدحه لينال رفدهم، وكلاب حقيقية من آل قطمير تحوم حوله متطلعة إلى ما يلقى إليها من العظام، وهو يؤثر حاله مع الثانية كما ترى في قوله:

لاتعبني بصنعه القصاب

فهي أذكى من عنبر الآداب

كان فضلى على الكلاب فمذ صر - ت أديباً رجوتُ فضل الكلاب

كان أبوه وقومه قصابين بالفسطاط، ونشأ بينهم محترفاً حرفتهم، وقد دفعه شغفه بالأدب إلى التعلق به، وأول ما عرف منه في ذلك، وهو صغير، أنه نظم أبياتاً قلائل، فأخذه أبوه وتوجه به إلى شاعر مشهور في ذلك العصر، هو ابن أبي الإصبع وقال له: يا سيدي، هذا الولد قد نظم شعراً واشتهى أن يعرضه عليك. فقال: قل. فلما أنشده قال له: أحسنت، والله إنك عوام مليح. فراح الوالد مسروراً بابنه الذي يوشك أن يغشى بشعره مجالس الملوك والكبراء. وأراد أن يعبر عن شكره لابن أبي الإصبع، فصنع طعاماً وحمله إليه. ولكن ابن أبي الإصبع كان قد طابت له (التورية) التي كانت جل هم أدباء ذلك الزمان، فقال له: لأي شيء فعلت؟ فقال: لثنائك على ولدي. فقال: أنا ما أثنيت عليه. فقال: ألم تقل إنك عوام مليح؟ فقال: ما أردت بذلك إلا أنه خرج من بحر إلى بحر!

ولكن الصبي الجزار دأب على قرض الشعر، يضرب في بحوره ويغوص على غرائب المعاني، ويكسوها أصداف الألفاظ، حتى استبان طريقه وتوضحت له الجادة.

كان يتطلع إلى حياة أخرى يتمتع فيها بلذات العيش غير حياة الجزارة التي يشقى فيها على غير طائل، كما يقول:

ص: 66

أعمل في اللحم للعشاء ولا

أنال منه العشا فما ذنبي

خلا فؤادي وفي فمي وسخ

كأنني في جزارتي كلبي!

وكما يقول:

أصبحتُ لحاماً وفي البيت لا

أعرفُ ما رائحة اللحم

واعتضت من فقري ومن فاقتي

عن التذاذ الطعم بالشحم

جهلته فقراً فكنت الذي

أضلهُ اللهُ على علم!

لم يكن أمامه إلا أن يرتاد سوق المدائح، فانتجع القصور، وأنشد ساكنيها، ولم يغفل - مع مدحهم - وصف حاله وما يعانيه من الحرمان، قال في آخر قصيدة مدح بها الملك الناصر، وأنشده إياها في يوم النحر:

كيف يبقى الجزار في يوم عيد الن - حر دهر الإفلاس والعيد عيده

يتمنى لحم الأضاحي وعند النا - س منه طريهُ وقديده

ولقد آن من لقائك أَن تبـ - يض أيامه ويخضر عوده

وأتصل أيضاً بالملك الكامل والملك العادل ومدحهما كما مدح غيرهما من الحكام والأعيان. وأكثر من التنقل بين أقاليم القطر من الإسكندرية إلى أقصى الصعيد، يقصد الممدوحين، ويصف النيل وأسفاره فيه وما يلاقي بها من العناء، ويقدم ذلك في مطالع القصائد بين أيدي المدائح، قال من قصيدة في مدح ناظر الإسكندرية يصف رحلته في النيل:

لا تسلني عما لقيت من البيـ - ن فحال الغريب حال ذميم

كنت في ككة تطير بقلع

وهي طوراً على المنايا تحوم

أنظر الموج حولها فإخال الـ - جيم تاءً لخيفتي وهي جيم

لم أجد لي فيها صديقاً حميماً

غير أني بالماء فيها حميم

شنقوا قلعها مراراً على الريـ - ح ولا شكَّ أنه مظلوم

وإذا ما دنت إلى البر أمسى

عندنا منهُ مقعدٌ ومقيم

يسجدُ الجرف كلما ركع المو - ج فدأبي هنالك التسليم

وقبيحٌ علىَّ أن أشتكي براً

وبحراً وأنت برٌّ رحيم

ويقول فيه صاحب كتاب (المنهل الصافي والمستوفي بعد الوافي) إنه كان (بديع النظم،

ص: 67

عذب التراكيب، غواصاً على المعاني، فصيح الألفاظ، حلو النادرة، وكان صاحب مجون ولطافة)

وقد رأيت حقاً أنه يمتاز بالغوص على المعاني، من شعراء عصره المتهالكين على التصنيع في الألفاظ، ومكانه بينهم يشبه مكان ابن الرومي بين شعراء عصره، مع ملاحظة الفارق الكبير بين الشاعرين وبين العصريين.

ولكنا نريد أن نتصفح أبا حسين الجزار من وجه آخر وهو طبيعة شاعريته، ومدى صدقه الفني فيما قاله من الشعر. وأراني مضطراً هنا في هذا المقام المحدود الذي يجمل فيه القصد إلى الأهم، إلى أن أضرب صفحاً عن القصائد الطويلة الكثيرة التي أنشأها في المدح بدافع الرغبة الملحة في رفع مستوى عيشه وهي لا تختلف كثيراً عن أمثالها مما تحشد فيها صفات المدح حشداً للممدوحين؛ وهذه القصائد وإن كانت كذلك إلا أننا لا نعدم فيها أبياتاً هنا وهناك تظهر فيها ظلال الشاعر وأثر شخصيته، وهي التي يصف فيها حاله وسوء عيشه.

وإذا أردنا أن ننتقل إلى الميدان الذي كان يركض فيه مجلياً فإننا نضم تلك الأبيات إلى شعر كثير آخر قاله في التعبير عن مشاعره وتصوير ما يحيط به، ولست أدري أكان من حسن الحظ أم من سوئه أن السوق التي راجت فيها مدائحه لم تدم، إذ انتهى ما كان يظفر به من صلات الملوك الأيوبيين التي لم يبق تبذيره على شيء منها ولما عانى من كساد مدحه وجفاف أيدي الممدوحين ما عانى جعل يندب حظه الذي ضاع بين الشعراء والجزارة فيقول:

واللحم يقبح أن أعو - د لبيعه والشعر بائر

يا ليتني لا كنت جزَّا - راً ولا أصبحت شاعر

ولكنه حزم أمره ورجع إلى الجزارة، وجلس بدكانه للكلاب، كما كان يجلس الممدوحين له ولأمثاله من الشعراء وهو يقول في خطاب من يدعي (شرف الدين) وقد لامه على العودة إلى الجزارة:

لا تلمني يا سيدي شرف الد - ين إذا ما رأيتني قصابا

كيف لا أشكر الجزارة ما عشـ - ت حفاظاً وأرفض الآدابا

ص: 68

وبها أضحت الكلاب ترجيـ - ني وبالشعر كنت أرجو الكلابا

وراح يفاخر بحرفته، ويمزج المفاخرة بالظرف والفطاهة فيقول:

ألا قل للذي يسأ - ل عن قومي وعن أهلي

لقد تسألُ عن قوم

كرام الفرع والأصل

ترجيهم بنو كلب

وتخشاهم بنو عجل

ويقول:

إني لمن معشر سفك الدماء لهم

دأب وسل عنهم إن رمت تصديقي

تضيء بالدم إشراقاً عراصهم

فكل أيامهم أيامُ تشريق

واستخدم الشاعر الجزار صناعته في معانيه وتورياته، فرق وظرف، ومن ذلك غير ما تقدم ما قاله في الدم:

لا تلمني إذا سطوت عليه

فهو تيس يهينهُ جزاره

وما قاله في التطاول على المتنبي:

تعاظم قدري على ابن الحسين

فذهني كالعارض الصَّيَّب

وكممرة قد تحكمتُ فيه

لأن الخروف أبو الطيب

وقد نهج هذا النهج في استخدام الحرفة في الشعر شاعران آخران كانا معاصرين للجزار وصديقين له، هما السراج الوراق والنصير الحمامي، وقد برع الثلاثة في التورية بحرفهم، وبلغ (فن التورية) على أيديهم غاية الإجادة التي انحسر عنها في الأزمان التالية، قال الحموي في (خزانة الأدب):(ولم يزل ابن سينا الملك يتلاعب في التورية باختراعاته ويسكنها في عامر أبياته، إلى أن ظهر بعده السراج فجلا غياهبها بنور مشكاته، وتعاصر هو وابو الحسين الجزار والنصير الحمامي وتطارحوا كثيراً وساعدتهم صنائعهم وألقابهم في نظم التورية حتى انه قيل للسراج الوراق لولا لقبك وصناعتك لذهب نصف شعرك).

ولئن جازت الاستهانة بالتورية باعتبارها إيغالاً في التصنيع لقد كان لها شأن آخر في شعر هؤلاء، فقد أكسبتها حرفهم طلاوة وروتها بماء الظرف، قال الوراق:

يا خجلتي وصحائفي سود غدت

وصحائف الأبرار في إشراق

وموبخ لي في القيامة قال لي

أكذا تكون صحائف الوراق

ص: 69

وكتب الحمامي إلى الجزار:

ومذ لزمتُ الحمام صرت به

خلا يداري من لا يداريه

أعرف حر الأشيا وباردها

وآخذ الماء من مجاريه

فأجابه الجزار بقوله:

حُسن التأني يعينُ على

رزق الفتى والحظوظ تختلف

والعبد مذ صار في جزارته

يعرف من أين تؤكل الكتف

وقد كان الجزار مطبوعاً على المرح، وشعره يزخر بالملح والفكاهات وخاصة في (قافية الجزارة) كما يعبر (أولاد البلد) في مصر، وهو في ذلك وفي طريقة دعابته بالسخرية من سوء أحواله في ملبسه ومطعمه ومسكنه وبعض أفراد أسرته وفي مجونه واستعمال التورية في كل ذلك يمثل الروح المصرية التي لا نزال نلقاها في القاهرة لدى (أولاد البلد) وأصحاب الحرف، قال يصف نصفية له:

لي نصفية تعد من العمـ - ر سنيناً غسلتها ألف عسلة

ظلمتها الأيام حكما فأضحت

في العذاب الأليم من غير زلة

كل يوم يحوطها العصر والدق

مراراً وما تقر بعملة

وفي البيت الأخير إشارة إلى ما كان في عصره من ضرب الناس وتعذيبهم (في جباية الضرائب) ليقروا بما عندهم من (العملة) فهو يقول أن نصفيته تعصر وتدق على الحجر عند غسلها وهي مع ذلك لا تقر بأن لديها نقوداً. . .!

وقال يصف داره:

ودار خراب بها قد نزلت

ولكن نزلت إلى السابعة

طريق من الطرق مسلوكة

محجتها للورى شاسعة

فلا فرق ما بين أنى أكون

بها أو أكون على القارعة

تساورها هفوات النسيم

فتصغي بلا أذن سامعة

وأخشى بها أن أقيم الصلاة

فتسجد حيطانها الراكعة

إذا ما قرأت إذا زلزلت

خشيت بأن تقرأ الواقعة

وفي الأبيات التالية صورة للفكاهة المصرية الأصيلة:

ص: 70

سقى الله أكناف الكنافة بالقطر

وجاد عليها سكر دائم الدر

وتباً لأوقات المخلل إنها

تمر بلا نفع وتحسب من عمري

ولي زوجة إن تشهي قاهرية

أقول لها ما القاهرية في مصر

وقد بلغ غاية الظرف في قوله يهجو زوج أبيه:

تزوج الشيخ أبي شيخة

ليس لها عقل ولا ذهن

لو بررت صورتها في الدجى

ما جسرت تبصرها الجن

كأنها في فرشها رمة

وشعرها من حولها قطن

وقائل قال فما سنها

فقلت ما في فمها سن

ومن نوادره ذات الموضوع أنه كان مع جماعة من أصحابه، فرغبوا إليه أن يشتري لهم لحماً من أحد الجزارين رجاء أن يكرمه بحق الزمالة، فذهب وعاد إليهم بلحم رديء، فلما سألوه في ذلك قال لهم: أن الجزار حلف على أن أقطع اللحم بيدي كما أريد مبالغة في إكرامي، فلما أمسكت بالسكين ووقفت بإزاء اللحم (أدركني لؤم الجزار!).

وقد كان التصنيع طابع الشعر وهم الشعراء في ذلك العصر، ولم يكن للجزار فكاك منه، ولكنه كان مستظرفاً في صناعته لم يسف فيها ولم يبرد كما أسف وبرد غيره وخصوصاً من اتى بعده في العصور التالية. وكان مع ذلك ينطلق محلقاً مستجيباً لشاعريته عندما كان يصور حياته الخاصة ويتحدث عن حرفته وملايساتها ويلذع من يعرض به من أجلها، ويداعب إخوانه، ويرسل فكاهاته؛ فقد كان يبلغ في هذه الموضوعات ما يريد، وما يقتضيه فن الشعر، من تصوير ما يحيط به والتعبير عن ذات نفسه المطبوعة على المرح المحبة للهو، ولعله كان يبدد بفكاهته ما يتكاثف في سمائه من سحب الهموم والأكدار في بعض الأحيان.

العباس خضر

ص: 71

‌مبادئ ومبادئ

للأستاذ محمد عبد الغني حسن

بانت تباشيرُ الصباح المنجلي

ألق الستار على الظلام وأسدِل

يا مطلع الشمس المضيئة بالهدى

يكفي رقادُك بعد ليلٍ أليل

كنتَ الدليل على صباح مشرق

للحائرين، ونور فجرٍ مقبل

حررتُ عبدان النفوس فأنزلوا

من قمة الأيام أكرم منزل

ومشوْا على هام الليالي هامة

تطأ السماء كبدرها المتهلل

ومضوْا بأرواح كرام لا تني

عند اللقاء وأنفس لا تأتلي

إيمانهم بالله غيرُ مزعزع

وضميرهم في الله غير مزلزل

الحق في يدهم وضئ الملتقى

والسيف في يدهم حديد المنصل

قحموا على الرومان أحصن دارة

وعلى ملوك الفرس أمنع معقل

قد أرخصوا في الله كل عزيزة

ثم استقلوا فيه كل مدلل

حملوا القلوب على السيوف وأمعنوا

في حملهنَّ على الرَّماح الذبَّل

كانوا على الأعداء أضأل قلة

لكنها عزَّت فلم تتقلَّل

هم حرروا الإنسان من أصفاده

واستنقذوه من المحل المهمل

أعلوا مكانته وكان محله

في ذلك تادَّرْك الدنيء الأسفل

حكموا فكان العدل شرعة حكمهم

ما الحكم؟ ما السلطان إن لم تعدل؟؟.

سارت مبادئهم وسارت خلفها

أفعالهم في موكب متمثل

ليست مبادئهم حديث منمَّق

زيف اللسان ولا كلام مجمَّل

لم يخْدعوا بالقول كل محيَّر

أو يخلبوا باللفظ كل مؤمَّل

قل للسياسيين دينُ محمد

فيه مبادئ حرة لم تنكل

تلك الوعود المسرفاتُ بعهدكم

لا تمنع الإشكال إن لم تشكل. . .

غنيتمو بالسلم وهي خديعة

فالحرب بالأبواب قيد الأنمل

ووضعتمو (الميثاق) فوق محيطكم

ورميتموه بمائه المتحول. . .

غَسلَتْه أمواج المحيط وكفنت

أوراقه في مهدهن الأول

ص: 72

واحسرتاه لوعده الممطول. . . أو

واضعيتاه المتبلل!!

المسلمون اليوم صح مُرادهم

قل للمريد على مرادك أقبل

هذا صراع ليس فيه موضوعٌ

لمؤمَّل أو منزل لعلل. . .

يكفي البكاء على تراث ضائع

يكفي الفخار بذاهب متنقل

والمجد لا يشرى بقول كاذب

إن كنت تبغي المجد يوماً فافعل!

ماذا ادخرتم من جهود في غد=ماذا صنعتم منه للمستقبل؟

النصر لم ينزل على متخاذل

والرزق لم يبعث إلى متوكل

فانزع لواَءك من يد المستقتل

وانزع طعامك من يد المتطفل

واطلب محلك بالسيوف فأنه

بالسيف تنجاب الغماز وتنجلي

إنا سئمنا من كلام باطل

إنا شبعنا من لسان مِقْول. .

الشرق علته القديمة أنه

وسنان بين تصوف وتأمل. . .

غرقان في الأوهام نعسان المنى

متقيد الأيدي عثور الأرجل

الجهل آفته، ورب جهالة

شر من الداء العياء المعضل

لا تستعيروا السيف من يد غيركم

بل فاصنعوه بكف أروع صيقل

والسيف تصنعه بكفك يتقي

ويصيب في الأعداء أسوأ مقتل

ص: 73

‌الاستيراد والتصدير في النظم الإسلامية

للأستاذ لبيب السعيد

الاستيراد والتصدير من أهم ما يشغل بلدان العالم في السنوات الحاضرة وأزماتها (لا ريب) من أشد الأزمات التي تواجهها الحكومات والشعوب، فما يطامن من شدتها إلا الكثير من حكمة السياسة وسلامة الوطنية.

وهؤلاء الأسلاف من رجال الأمة الإسلامية مدوا بأبصارهم في هذه الناحية أيضاً إلى آفاق بعيدة، فبلغوا في نور شريعتهم الهادية وفي ظل هممهم العالية مجداً تجارياً لو أدخلنا في الاعتبار ملابسات زمانه لحق لنا أن نضعه غير متهيبين بجانب ما بلغته أرقى الدول الحديثة من نجاح تجاري عظيم.

عني هؤلاء الأسلاف بالاستيراد والتصدير عناية أوفوا بها في زمانهم على الغاية. ولعل من أجمل غايات هذه العنايةان يتناولها التأليف الإسلامي تناولاً فيه تفصيل نافع ومعرفة مشرفة.

فالجاحظ يفرد في كتابه (التبصر بالتجارة) باباً لـ (ما يجلب من البلدان من طرائف السلع والأمتعة والجواري والأحجار وغير ذلك).

وأبو الفضل جعفر بن علي الدمشقي الذي عاش في القرنين الخامس والسادس الهجريين يضع كتاباً اسمه (الإشارة إلى محاسن التجارة) يوضح فيه ما يجب على أنواع التجار مراعاته، فيذكر أن على المستورد الذي يبيع بالجملة - واسمه في مصطلح ذلك العهد: الخزان - تقديم المعرفة بأحوال البضائع في بلادها وانقطاع الطريق أو أمنها، وعليه تقسيم شراء الصفقات الكبيرة في أربع دفعات توقياً من الخسارة، وعليه تأمل أحوال السلطان الذي هو في كنفه. . . الخ، أما المصدر - واسمه وقتئذ المجهز - فعليه أن يعين وكلاء له في البلاد التي يصدر إليها ليبيعوا بضاعته ويشتروا الأعواض عنها، وذلك مقابل حصة في الربح. ويناقش أبو الفضل مسائل الاقتصاد النظرية كتحديد أسعار السوق ومتوسط السعر مما يدل على معرفة بالاقتصاد عريضة.

وابن خلدون يعقد لموضوعات التجارة عدة فصول في مقدمته يضمها توجيهات حصيفة، ومن هذه الفصول فصل في نقل السلع دعا فيه المستوردين إلى تحري جهدهم في استيراد

ص: 74

المواد الوسط التي يحتاج إليها الغني والفقير، وأوضح كيف أن السلع التي ترد من البلد البعيد المسافة أو شديد خطر الطرقات أعظم ربحاً.

وظاهر أن لفتات الدمشقي وابن خلدون هي إلى اليوم بعض سنة المستوردين والمصدرين، بل أن روح ابن خلدون إذ يرغب في استيراد ما ينفع الطبقات جميعها هي نفس الروح التي ينزغ عنها الحذاق من موجهي سياسة الاستيراد في أيامنا هذه.

ومن مظاهر عناية المسلمين الصادقة بالتجارة الخارجية أنهم سهلوا طرقها، فهيأوا الآبار حيث تسير القوافل، وفي الثغور أقاموا المنائر. والأساطيل بنوها لحماية السواحل من إغارات لصوص البحار، فلا غرو إذا كانت تجارة المسلمين حقبة طويلة سيدة التجارات، ولا غرو إذا أضحى للإسكندرية وبغداد من الشأن ما جعلهما وقتئذ تحددان أسعار البضائع في الدنيا.

وكان أهل البصرة ممن اشتهروا قديماً بالأسفار التجارية. ومن الأمثال التي عرفت: (أبعد الناس نجعة في الكسب بصري وخوزي (نسبة إلى خوزاستان)، ومن دخل فرغانة (في أقصى الشرق) والسوس (في أقصى الغرب) فلا بد أن يرى بها بصرياً أو خوزياً أو حيرياً.

وكان في (سيراف) مستوردون ومصدرون واسعوا الثراء يجوز مال أحدهم ستين مليوناً من الدراهم اكتسبها من تجارة البحر من العود والكافور والعنبر والجواهر والخيزران والعاج والأبنوس والفلفل وغيرها.

ومن نماذج النشاط الكبير في التصدير أن تنيس (من بلاد مصر) كانت تصدر من الثياب الدبيقية إلى العراق وحدها ما تتراوح قيمته سنوياً بين عشرين ألفاً وثلاثين ألفاً من الدنانير.

وكانت مدينة كابل مشتهرة بنسج القطن الذي كانت تصدره إلى الصين.

ومن التجار من كانوا ينقلون من بلاد الروس الشمالية إلى بلاد المسلمين جلود الخز وجلود الثعالب والسيوف والشمع والعسل.

وكانت البذور تستورد من مختلف البلاد، فقد استورد عبد الله بن طاهر حاكم مصر في عهد المأمون بذور البطيخ (العبد اللاوي) من خراسان.

ص: 75

وكان عضد الدولة ينقل إلى بلاده ما لا يوجد بها من الأصناف، ومما نقله إلى كرمان حي النيل.

وفي عهده استوردت إلى بغداد الغروس من فارس وقد حمل الاترج من الهند بعد سنة 300هـ، فزرع بعمان، ثم نقل إلى البصرة والعراق والشام حتى كثر في دور الناس بطرسوس وأنطاكية وسواحل الشام وفلسطين ومصر.

وكان التمر في العراق وشمال أفريقية ينتج بكميات كبيرة، فكان يجفف ثم يصدر إلى البلاد الأخرى.

ومن الحقائق المعروفة أن العرب أدخلوا إلى أوربة أنواعاً شتى من الحاصلات كالحنطة والقنب والتوت والأرز والزعفران والليمون والبرتقال والبن والقطن والأزهار. . . الخ.

واختصت مدينة جور باستخراج ماء الورد وتصديره إلى الصين والهند واليمن ومصر والمغرب والأندلس.

وكان الإنتاج الحيواني أيضاً موضع استيراد وتصدير، فمصر كانت تستورد من برقة الكثير من الماشية للذبح كما تفعل الآن، والعراق كانت تستورد الخيل من بلاد العرب، وخاصة إقليم الحسا، كما كانت تستورد الجاموس من الهند في القرن الرابع الهجري.

وكانت مصر سنوياً تبيع إلى بلاد الروم من الشب ما تتراوح قيمته بين ثمانية وأربعين ألفاً واثنين وسبعين ألفاً من الدنانير.

وقد أثبتت النظم الإسلامية في سياسة التصدير حذقاً اقتصادياً لا نحسبه مسبوقاًن ففي كرمان كثر التمر كثرة كانت أكبر من أن يواجهها التصدير العادي، فعمد السلطان إلى تشجيع التصدير بمنح المصدرين جوائز كانت تبلغ في العام نحو مائة ألف دينار.

والفقه الإسلامي في رشده ويقظته يوجب مراقبة المواضع التي تنفذ إلى بلاد الأعداء، فالفقهاء على أنه (ينبغي أن يكون للأمام مسالح على المواضع التي تنفذ إلى بلاد أهل الشرك، فيفتشون من يمر بهم من التجار، فمن كان معه سلاح أخذ منه ورد، ومن كان معه رقيق رد، ومن كان معه كتب قرئت كتبه، فإن كان فيها خبر من أخبار المسلمين قد كتب به أخذ الذي أصيب معه الكتاب، وبعث به إلى الإمام ليرى فيه رأيه)

وقد حكى (المقدسي) أن المراكب في فرض مصر كانت تفتش عنها إقلاعها.

ص: 76

والصادرات خاضعة في النظم الإسلامية للضرائب. وفي جنوب جزيرة العرب كان لا يؤخذ بمدينة (عثر) إلا عما يخرج

وكافح النظام الإسلامي تهريب الواردات من التفتيش. وقد روي ابن جبير الأندلسي ما شاهده من دقة متناهية في تفتيش بعض القادمين إلى الإسكندرية، حيث (أدخلت الأيدي إلى أوساطه، بحثاً عما عسى أن يكون فيها، ثم استحلفوا بعد ذلك هل عندهم غير ما وجدوا لهم أم لا).

وقد عرفت النظم الإسلامية نظام تراخيص التصدير، ولكن في نطاق ضيق بالطبع، ففي (ما وراء النهر) لم يكن يكتفي بتقاضي ضريبة الصادر عن الرقيق الذين كانوا يعبرون نهر جيحون، بل كان لا بد لهم - باستثناء الجواري التركيات - من جواز من السلطان.

والشريعة الإسلامية يعنيها أن تتوفر في بلاد المسلمين حاجياتها من الحاصلات الخارجية، فمع أن العشور وهي - في مصطلح عصرنا - الضرائب الجمركية تبلغ العشر عادة، بل تجاوزه أحياناً بالنسبة لبعض الأصناف، فأن للأمام (عند الشافعية) أن ينقصها إلى نصف العشر، بل له أن يرفعها كلها إذا رأى المصلحة في شيء من ذلك. وقد كانت التعريفة الجمركية تتفاوت من بلد عن بلد، فهي في جدة مثلاً غيرها في الإسكندرية، غيرها في البصرة، غيرها في الموانئ الإسلامية الأخرى، كما كانت هذه التعريفة تتفاوت بحسب البلد الواردة منه البضاعة، فبضائع الهند مثلاً غير بضائع السند، وهكذا.

والشريعة لا تغفل عما يتبع كثرة العشور من نقص في واردات المسلمين يمسهم بالضر، ولذلك ترى أن لا يزيد أخذ العشور من كل قادم بالتجارة على مرة واحدة في كل سنة ولو تكرر قدومه، إلا أن يقع التراضي على غير هذا.

على أن الشريعة تأتي تشجيع استيراد مالا ينفع الناس، فهي بصدد الخمر مثلاً تتمسك بالعشر.

ومما يجدر ذكره أن نظام العلامات التجارية بالنسبة للصادرات وجد بصورة ما عند المسلمين، فالمقدسي يروي أن أصفاط الثياب الشطوية التي كانت تصنع بمصر كانت توضع عليها في الموانئ علامات المصدرين.

ويتردد الآن كثيراً أن أغلب المستوردين والمصدرين هم من اليهود، ومن يخط في أغوار

ص: 77

الماضي ير أن اليهود كانوا في القديم أيضاً مبرزين في ذلك الميدان فقد كانوا لا ينفكون ينتقلون بالتجارات شرقاً ومغرباً، فكانوا يجلبون من الغرب تلجواري والغلمان والديباج وجلود الخز والفراء والسمور، وكانوا في عودتهم من الهند والصين يحملون سلع الشرق كالمسك والعود والكافور والدارصيني.

وقد كان لهم بمدينة أصبهان حي يسمى باليهودية، وكانوا هم أغلب تجار مدينة تستربخوزستان، وكانوا يشرفون على تجارة اللؤلؤ الذي يستخرج من خليج فارس.

وكان المسلمون يتعاملون بالدينار، وهو يساوي أربعة عشر درهماً، ولكن قيمته تختلف من حين إلى حين، ومن بلد إلى بلد، فهو تارة يعادل عشرة دراهم وتارة ثلاثة عشر درهماً وتارة أخرى خمسة عشر درهماً.

ومن وسائل التعامل وقتئذ الصكوك (الشيكات) والمقايضة.

ولقد واجه المسلمون في عهد عبد الملك بن مروان مشكلة نقدية تستحق الذكر فقد رأى عبد الملك أن تكتب على رؤوس الطوامير (الصحف) عبارات إسلامية ساءت الروم، وسدى ما حاولوا ثنيه عنها، فهددوا بأن يأتي المسلمين في الدنانير من ذكر نبيهم ما يكرهون وصدفوا عن شراء الورق من العرب، ومن ثم انقطعت العلاقات التجارية بين الدولتين. وكانت الدنانير البيزنطية والدراهم الفارسية مستعملة لدى العرب، فسحبها عبد الملك وسك بدلها عملة جديدة تحمل بعض آي القرآن، فلما أديت هذه العملة إلى الروم غضبوا، وفسد ما بينهم وبين العرب، مما أدى إلى وقوع الحرب.

وبعد، فقد أنعقد للمسلمين لواء الزعامة التجارية في العالم حيناً من الدهر غير قصير، كان فيه الغرب حميلة على الشرق. لم يسترح المسلمون وقتئذ إلى الهين من المقاصد، ولم يثقل عليهم الكدح الدائب، ولكن مضوا في سبيلهم إلى السيادة والمجد في عزم وجلد، وعلى بصيرة واستواء. . . يحكي ابن خلدون أن ما كان يقال في عهده عن أهل الشرق الأقصى من عراق العجم والهند والصين في باب الغنى غرائب تسير الركبان بحديثها، وربما تتلقى بالإنكار في غالب الأمر! ويعي التاريخ أن أحد تجار البصرة في القرن السادس الهري، وأسمه حسن بن العباس كانت له مراكب تسافر إلى أقصى الهند والصين. وقد بلغ مقدار ما يؤخذ من ضرائبها مائة ألف دينار!.

ص: 78

ألا أن لنا في ميدان الاقتصاد كما لنا في ميادين الحضارة الأخرى ماضياً يستحق أن نأسى عليه، فهل يكون لنا المستقبل الذي نتشوق إليه؟.

لبيب السعيد

رئيس قسم المنسوجات بالمراقبة العامة للاستيراد

ص: 79

‌الطريقة العلمية في تحري الأحاديث النبوية

للأستاذ قدري حافظ طوقان

حين رأى العرب أن من الناس من يستبيح لنفسه وضع الأحاديث ونسبتها كذباً إلى رسول الله، ولما كان الحديث من أغزر المنابع للتشريع الإسلامي في العبادات والمسائل الدينية والجنائية، لهذا ودفعاً لكل فوضى في وضع الأحاديث فقد وضع جماعة من العلماء الصادقين طرقاً لتنقية الحديث مما ألم به وتمييز صحيحه من موضوعه. وقد سلكوا في ذلك طرقاً دقيقة علمية يصعب معها التلاعب أو الاختلاق كما وضعوا قواعد للتوصل إلى الحقيقة في الحديث (تتفق في جوهرها واتجاهها والأنظمة التي كشفها علماء أوربا فيما بعد في بناء علم الميثودولوجية. . .).

قال علماء الحديث بالأمانة في نقل الحديث وفرض وجود تحري نص لأجل الوقوف على اللفظ الأصلي. ولقد وضع القاضي عياض رسالة في علم المصطلح هي أنفس ما صنف في مجموعها (وقد سما بها القاضي إلى أعلى درجات العلم والتدقيق. . .) ويعترف الدكتور أسد رستم بفضلها فيقول (. . . وعلى الرغم من مرور سبعة قرون عليها فأنه ليس بإمكان رجال التاريخ في أوروبا وأمريكا أن يكتبوا أحسن منها في بعض نواحيها. وإن ما جاء فيها من مظاهر الدقة في التفكير والاستنتاج تحت عنوان تحري الرواية والمجيء باللفظ يضاهي أدق ما ورد في الموضوع نفسه في أهم كتب الإفرنج في ألمانيا وفرنسا وأمريكا وإنكلترا. . .).

وطالب علماء الحديث بتعيين رواة الحديث والتدقيق في معرفة قيمة المحدث ووضعوا قواعد لتجريحه وتعديله. فلقد جاء في بعض مصنفاتهم ما يلي: قال الإمام مالك بن أنس، وكان ذلك قبل أثني عشر قرناً:(. . . لا يؤخذ العلم من أربعة ويؤخذ ممن سوى ذلك: لا يؤخذ من سفيه ولا من صاحب هوى يدعو الناس إلى هواه، ولا من كذاب يكذب في أحاديث الناس وإن كان لا يتهم على أحاديث الرسول، ولا من شيخ له فضل وصلاح وعبادة إذا كان لا يعرف ما يحدث به. . .).

وهناك أقوال لغير هؤلاء تبين القواعد التي على أساسها يؤخذ الحديث وتوضح الصفات التي يجب أن يتحلى بها الراوي لقبول روايته. وقسم العلماء الحديث بحسب قوته والأخذ

ص: 80

به إلى أقسام وأطلقوا على كل قسم إسماً فقسموه إلى متواتر وآحاد. فالمتواتر ما رواه جماعة يؤمن من تواطئهم على الكذب عن جماعة كذلك إلى رسول الله. والآحاد هي الأحاديث غير المتواترة وقد قسموها أيضاً بحسب قوتها. وهكذا صار العرب والمسلمون في الحديث. ومنهم من كان يتركه إذا عارض القياس. ومنهم من كان يتركه إذا خالف المعقول.

وكان للحديث أثر كبير في أسلوب العرب وتفكيرهم، فهو من أكبر العوامل في نشر الثقافة في العالم الإسلامي. أقبل عليه الناس يتدارسونه ودارت عليه حركة الأمصار العلمية ولا سيما في صدر الإسلام، وعن طريقه انتشرت في العالم الإسلامي أنواع من الثقافة عدة. . . (فالتاريخ الإسلامي بدأ بشكل حديث كالذي تراه في كتب الحديث من مغاز وفضائل أشخاص وفضائل أمم. ثم تطور التاريخ إلى أن صار كتباً قائمة بنفسها. ودليلنا على ذلك أن كتب التاريخ الأولى كسيرة أبن هشام وما يروي أبن جرير عن أبن إسحق، والبلاذري في فتوح البلدان يكاد يكون نمطها وأسلوبها نمط حديث وأسلوب حديث. وقصص الأنبياء وما إليهم جاءت في القرآن وتوسع فيها الحديث ثم توسع القصاص. فكان القصص. . .).

وفوق ذلك فقد ثبت أن المسلك الذي أتبعه العرب في تنقية الحديث وتمييز صحيحه من موضوعه قد أثر إلى حد في أساليب العلماء إذ أبان لهم أهمية أتباع الطرق التي تؤدي إلى الحق كما أوضح لهم منهاجاً دقيقاً للسير بموجبه للوصول إلى الحقيقة والى الصحيح من الوقائع والأخبار والأقوال. وكذلك كان للأساليب التي أتبعها علماء الحديث فضل كبير على التاريخ (وأصبحت القواعد التي ساروا عليها في تحري الحقيقة هي المعول عليها لدى المؤرخين المعاصرين) ومحل تقديرهم وإعجابهم.

ولقد كان لعلماء الحديث فضل على التاريخ وأثر على الأسلوب الذي يسير عليه المؤرخون المعاصرون، وكذلك كان لعلماء التفسير فضلاً وأثر لا سيما وأن الأسس التي أتبعوها في أصول التفسير علمية وصحيحة، يتجلى ذلك في رسالة شيخ الإسلام ابن تيمية في أصول التفسير وفي تفسير الزمخشري. ولولا الخوف من الإطالة لأتينا على بعض نصوص تؤيد ما ذهبنا إليه.

ووضع العرب مصنفات في علوم الدين سار بعضهم فيها على منهج علمي. وكان الشافعي

ص: 81

أول من وضع مصنفاً في أصول الفقه على أسس علمية. قال مصطفى عبد الرزاق: (إذا كان الشافعي هو أول من وجه الدراسات الفقهية إلى ناحية علمية فهة أيضاً أول من وضع مصنفاً في العلوم الدينية على منهج علمي بتصنيفه في أصول الفقه. . .) واعترف الرازي بفضل الشافعي فقال. . . (اتفق الناس على أن أول من صنف في هذا العلم رأي أصول الفقه - الشافعي. وهو الذي رتب أبوابه وميز بعض أقسامه من بعض وشرح مراتبها في القوة والضعف. . .) ويقول جولد زيهر: (وأظر مزايا الشافعي أنه وض نظام الاستنباط الشرعي في أصول الفقه، وحدد مجال كل أصل من هذه الأصول.

وقد ابتدع في رسالته نظاماً للقياس العقلي الذي ينبغي الرجوع إليه في التشريع من غير إخلال بما للكتاب والسنة من الشأن المقدم. رتب الاستنباط من هذه الأصول ووضع القواعد لاستعمالها بعد أن كان جزافاً. . .)

ويتجلى أسلوب الشافعي العلمي رسالته فهو يسلك في سرد المباحث وترتيب الأبواب نسقاً مقرراً في ذهن مؤلفها (وقد يختل اطراده أحياناً ويخفي وجه التتابع فيه، ويعرض له الاستطراد ويلحقه التكرار والغموض ولكنه على ذلك كله بداية قوبة للتأليف العلمي المنظم، في فن يجمع الشافعي لأول مرة عناصره الأولى). . .

وتتجه الرسالة اتجاهاً منطقياً إلى وضع الحدود والتعاريف أولاً ثم الأخذ بالتقسيم مع التمثيل والاستشهاد لكل قسم. (وقد يعرض الشافعي لسرد التعاريف المختلفة ليقارن بينها وينتهي به التمحيص إلى تخير ما يرتضيه منها. . .).

وكذلك تمتاز الرسالة بالأسلوب الذي اتبعه في (الحوار الجدلي المشبع بصور المنطق ومعانيه حتى لتكاد تحسبه لما فيه من دقة البحث ولطف الفهم وحسن التصرف في الاستدلال والنقض ومراعاة النظام المنطقي حواراً فلسفياً على رغم اعتماده على النقل أولاً بالذات واتصاله بأمور شرعية خالصة).

(نابلس)

قدوري حافظ طوقان

ص: 82