الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 758
- بتاريخ: 12 - 01 - 1948
لا َتَملُّوا
للأستاذ محمود محمد شاكر
شد ما فزعت حين قرأت في صدر الأهرام (الاثنين 5 يناير 1948) نبا تلك المحاولة الجديدة للتوفيق بين فرنسا والمغرب (أي مراكش). وقد أثر الموحي بهذا المقال أن يسمى هذا الأمر (محاولة جديدة) ولكني أعلم أنها ليست سوى (حيلة) أخشى أن تغرر بكثير من قراء العربية، لقلة إطلاعهم على أنباء هذا الشعب الأبي السجين الذي ضربت عليه فرنسا نطاقا من الكتمان والصمت، لم يضرب على شعب قط في هذه الدنيا، ولا في بلاد السوفيت. وأنا أحب أن أكشف الغطاء عن هذه (الحيلة) التي يراد بها تضليل الناس عن حقائق كالشمس ظاهرة لكل من متعه الله بنعمة البصر. واحب أن أصفي هذا الكلام لقراء (الرسالة) لأنهم هم الفئة الحية التي لتعلم وتعمل بما تعلم.
فهذا الشيء الذي سماه بعضهم (محاولة جديدة للتوفيق بين فرنسا والمغرب) ليس شيئا سوى محاولة من فرد واحد يعاونه قليل من الناس على أحداث خرق إجماع أمة كاملة، وصدع بنيان مرصوص لم أعلم فيه إلا خيرا وتماسكا وبقاء على كلمة الحق التي لا تزول، وهي (مفاوضة إلا بعد الجلاء والاستقلال) أن كان ثمة حاجة إلى مفاوضة أو معاهدة.
وبلاد المغرب ثلاثة: يونس، والجزائر، ومراكش، وفي كل قطر من هذه الأقطار الثلاثة حزب له الكثرة الساحقة، بل لا يكاد يوجد فيه أقلية حتى نقول أن لهذا الحزب كثرة ساحقة بل الحزب هو الأمة وهو التعبير الصادق عنها. وهذه الأحزاب لا يمكن أن تسمى أحزابا بالمعنى المعروف في مصر والذي كان وليد الاحتلال البريطاني الذي فرق الكلمة وباعد بين القلوب.
ففي تونس الحزب الدستوري، ورئيسه الحبيب بور قيبة، وفي الجزار حزب الشعب، ورئيسه أحمد مصالي الحاج، ومندوبه في مصر والسودان هو الشاذلي المكي، وفي مراكش حزب الاستقلال ورئيسه محمد علال الفاسي. وفي المنطقة الخلفية عن مراكش حزب الإصلاح ورئيسة عبد الخالق الطريس. وهذه الأحزاب هي المعبرة عن بلاد المغرب كلها، ورؤساؤها جميعا مقيمون ألان في مصر، وجميعهم على رأي واحد قد أذاعوه في كل وقت وفي كل بلد وهو (لا مفاوضة إلا بعد الاستقلال). وهم جميعا لا يزالون إلى هذه الساعة
على هذا الرأي لم يتحول عنه أحد منهم، ولن يتحول بأذن الله. وإجماع هؤلاء الرجال هو إجماع أمم المغرب كلها، شعوبا وأفراداً وهؤلاء الرجال هم الذين شردتهم فرنسا أو أسبانيا وسجنتهم ونفتهم واضطهدتهم وباعدت بينهم وبين أهليهم وحلائلهم وأبنائهم وأرادت أن تعصم أعوادهم فلم تجد باساً ومضاءً ومصابرة وجهاد في سبيل الحق الأول لكل شعب وهو الحرية والاستقلال. وهؤلاء الرجال هم الذين بقوا إلى اليوم لا ينخدعون بما انخدعت به أمم من قبلهم من مفاوضات ومعاهدات ومحادثات، وسياسات خربة خراب ذمم اليهود. ومن هؤلاء الرجال وحدهم يؤخذ حديث ما بين فرنسا والمغرب، وعلى هؤلاء الرجال وحدهم يعتمد، والى هؤلاء الرجال وحدهم تلقى شعوب تونس والجزائر ومراكش بالمقادة، بعد أن جربتم وعرفتهم واطمأن قلبها إليهم والى ما يأتون وما يذرون. وهم رجال يعملون ولا يدعون ولا يتظاهرون ولا يخادعون الناس بشيء لم يكن، أو بسلطان لهم لم ترضه بلادهم وشعوبهم وهم قائمون على الدعوة إلى تحرير بلادهم ولهم مكاتب في مصر والشام وفي فرنسا وإنجلترا وأمريكا، لم تزل تتكلم بالكلمة الواحدة التي لا حول عنا وهي:(لا مفاوضة إلا بعد الاستقلال). فما هو أذن (حزب الشورى والاستقلال) الذي أتخذ لنفسه رئاسته محمد بن الحسن الوزاني هداه الله، خطاه أنه حزب كما تسمى الأحزاب، ولكني أعلم ويعلم كل من وقف على حقيقة النبأ في بلاد المغرب، أنه حزب لا يتبعه من شعب مراكش أحد إلا من شذ عن إجماع أمة قد جاهدت منذ سنة 1912. وظلت تقاتل فرنسا وإسبانيا إلى سنة 1933 لم تضع السلاح إلا بعد أن فنيت صفوة المجاهدين وقل الزاد وعز السلاح وحوصروا حصارا شديدا أكثر من إحدى وعشرين سنة كاملة.
وما أظن أحدا نسى جهاد البطل الذي أذل هامات الأسبان والفرنسيس حتى خدعوه وأمنوه ثم غدروا به وهو الأمير محمد أبن عبد الكريم الخطابي.
أن هذا الحزب الذي قدم إلى المقيم الفرنسي الباغي الجنرال جوان (مذكرة إضافية لتعمل حكومة باريس على تحقيق ما ورد فيها بما يحفظ حسن العلاقات مع فرنسا) لا يعبر البتة عن عزيمة شعب مراكش، بل يعبر عن رأي رئيس الحزب ونائبه وحدهما؛ فنحن نعلم علم اليقين أن حزب الاستقلال، وحزب الإصلاح في مراكش، هما صاحبا الرأي الأول والأخير في هذا الأمر الذي يتعلق بإجماع الشعب المراكشي، وأن الأمة المراكشية كلها من
وراء كلمتها: (لا مفاوضة إلا بعد الاستقلال) ونحن نعلم أن جلالة محمد الخامس ملك مراكش يعلم أن الشعب مجمع على أن لا مفاوضة إلا بعد الاستقلال، وانه هو نفسه الذي يتولى قيادة الدعوة إلى أن لا مفاوضة إلا بعد الاستقلال.
وقد استطاع نائب حزب الشورى هذا، أعني الأستاذ العلمي، أن يوجه نظر الصحافة المصرية إلى هذه البدعة التي مضت عليها شهور منذ قام محمد بن الحسن الزواني داعيا إلى الاتفاق مع فرنسا، أو على الأصح مظهرا رغبته في الاتفاق مع فرنسا بعد ابتعاده عن حزبه الذي نشا فيه، وهو حزب الاستقلال الذي يرأسه محمد علال الفاسي. وقد نجح الأستاذ العلمي مرتين، ولكن هذه الأخيرة هي أشدهما خطرا ولو علمت الصحافة المصرية أن شان حزب الشورى الذي ذكرناه، لا يكاد يكون شيئا في بلاد مراكش لطوت هذه الصحيفة مرة واحدة، ولرجعت في حديثها عن شان مراكش إلى رؤساء حزب الاستقلال وحزب الإصلاح وسائر الأحزاب المغربية في تونس والجزائر، ولو فعلت لعلمت أن هذه (المحاولة الجديدة) ليست سوى محاولة رجل فرد زعيم حزب، نعم، ولكن يغير شعب.
وكان حقا على هذه الصحف المصرية أن ترجع إلى كتب المغرب العربي لتقف منه على حقيقة ما تقول. وكان حقا عليها أن تعتبر هذا الحزب بأشباهه عندنا من الأحزاب التي لا شعب لها إلا رئيسها، وكان حقا على هذه الصحف أن تعرف أن سائر رؤساء أحزاب المغرب مقيمون في مصر منفيون عن بلادهم فكان لزاما أن ترجع إليهم قبل أن تنشر أشياء رئيس حزب الشورى المفاوض الجديد، فهو مقيم تحت ظل السلطان الفرنسي هناك في مراكش وهؤلاء سائر رؤساء الأحزاب المغربية مشردون منفيون مهاجرون إلى مصر، لكي يخدموا بلادهم هذين أولى بأن يكون هو المطالب بحق بلاده؟ وأيهما أولى بان يؤذن له ويستمع؟ وأيهما أصدق تعبيرا عن رغبة الشعب الذي ظل إحدى وعشرين سنة يقاتل في كل بقعة من بقاع المغرب وحيدا مجهولا حتى تفانى شيوخه وهلك كهوله وذبح فتيانه، وورثوا أبناءهم أحقاداً لا تموت على فرنسا وعلى الطغاة من أشباهها.
وهؤلاء الزعماء الذين ذكرناهم أنفاً هم بقية السيف، وهم المشردون المعذبون وهم العاملون الصادقون الذين أثروا الجهاد على أموالهم وأنفسهم وأهليهم وذراريهم، وخرجوا يطوفون في الدنيا ليؤلبوا العالم كله على بغي فرنسا وطغيانها وعدوانها وظلمها، وقد تركوا وراءهم
شعوبا تدين لهم بالطاعة، ولا ترضى أن تدين لأحد سواهم، لأنهم أنما يعبرون عن سر عزائمها ونياتها، أي عن الجهاد في سبيل بلادهم بلا هوادة، وإلى أن ينالوا حقهم كاملا ثم تخونه مكايد الاستعمار وخدعه، وقد أتعظ هؤلاء الأبطال الصناديد بما لقي بعض أخوانهم من أمم الشرق حين زلقت أقدامهم فزلوا في المهاوي المظلمة المتشعبة التي تسل القوى من نفس سالكها، إلا وهي هوة المفاوضات والمعاهدات والمحادثات، التي ابتدعتها شياطين الاستعمار الذين يعرفون باسم ساسة بريطانيا، ففرقوا بين الأخوين وباعدوا بين العشيرتين ومدوا المطامع الخائنة الأعين، فهب فريق من هنا يقاتل من أهله هناك ووقف بريطانيا بينهما تنظر وتضحك وتسخر، وتحرك هذه الدمى إلى أن تنقطع الحبال فتهوى في الهوة السحيقة الملعونة هوة المفاوضات والمعاهدات والمحادثات. لقد عرفوا ذلك فأبوا أن يكونوا طعاما لمستعمر جبار يريد أن يتلعب بهم، فاختاروا ما هو أهدى لأممهم وأبقى على وحدتها، واشد لقوتها وأنأى بها عن العداوات بين بعض الشعب وبعض لقد عرفوا أن قيادة الثوار، تفضي عليهم أن ينظروا إلى خير هؤلاء الثوار قبل أن ينظروا إلى خير أنفسهم وعرفوا أن الذي هم مقدمون عليه هو الجهاد الذي لا ينتهي حتى ينتهي هذا الاستعمار البغيض، وأن الأمم المجاهدة في سبيل حقها ينبغي أن تظل مجاهدة حتى تنال حقها وانه ينبغي أن ينشا الجيل من شباب الأمة بعد الجيل، وهو يرى أمامه مجاهدين لا يفترون ولا يضعون السلاح، فذلك أحرى أن يملأ قلب الجيل حمية وأنفة ورغبة في بلوغ الكمال في العلم والمال والسلاح، حتى يجاهدوا كما جاهد آباؤهم وإخوانهم من قبل. وعرفوا أن المهادنة في مثل هذا أنما هي مهادنة تورث الشعب ضعفا، وتمكن للدساسين الخبثاء أن يتخافتوا بينهم في الدعوة إلى ما يفت القوى ويضعضع العزائم، فلا يلبث أن ينفض عن المجاهدين من تخاذل واثر الراحة على لأواء الجهاد. وعرفوا أيضاً أن الشعب الثائر غير الشعب الذي يتبحبح في مسارح السلم، فأولهما ينبغي أن يظل ثائرا لا يعرف اللين أو التسليم أو الأخذ بيد والإعطاء بالأخرى. وفيم يلين أو يسلم أو يأخذ بيد ويعطي بأخرى؟ أفي الحرية والاستقلال والكرامة الإنسانية؟ أنبئوني أي شئ من هذه الثلاثة يتجزأ حتى يقبل اللين أو التسليم أو الأخذ بيد والإعطاء بأخرى، وهو جوهر المفاوضات والمعاهدات والمحادثات.
لقد عرف هؤلاء النفر الذين رضى الله عنهم ورضيت عنهم أممهم، أن الذي بينهم وبين فرنسا هو الحرية والاستقلال والكرامة الإنسانية، فعلى فرنسا أن تسلم وأن تلين وأن تعطى بيد ولا تأخذ شيئا، لأنها لن تأخذ إذا أخذت إلا ذلك الذي أعطت. وهذا بداهة العقل وبداهة النفس الطبية، وبداهة الفطرة والاستقلال، وأما الصراع في سبيل الحرية والاستقلال، ولا مفاوضة على شئ ينبغي أن يتم جميعا أو لا يتم البتة على نقصان وتخون وتمزيق، ولا معاهدة لحر على ترك شئ من حريته لغاصبه وسالبه والمهيمن عليه بالطغيان والجبروت، فهو أن شاء منع وان شاء أعطى.
كلا، أنه الحق فلا معاهدة ولا مفاوضة ولا محادثة إلا بعد الاستقلال وجلاء أخر جندي فرنسي وإسباني عن أرض المغرب كله: تونس والجزائر ومراكش. وإن في البلاء الذي ابتليت به مصر والسودان والعراق وشرق الأردن وسواها من البلاد. لعظة لكل امرئ أضاء في قلبه الإيمان بالحرية والكرامة الإنسانية.
وما الذي يريده حزب الشورى الجديد في مراكش؟ أيريد أن تلقى بلاد المغرب على يده ما لقينا من بلبلة وضياع وهلاك وضعف؟ أيريد أن يرى الشعب المراكشي أحزاباً يأكل بعضها بعضا، ويتشاحن ضعيفها وقويها على مناصب الحكم؟ أيريد أن يرى كل أسرة في بلاد المغرب قد مزقتها الأهواء وعصفت بها عواصف الشهوات الخفية إلى متاع قليل من متاع هذه الدنيا من مال أو سلطان؟ أيريد أن يرى الشعب يتلهف البائس المسكين على فتات ما تجود به عليه فرنسا في معاهدة يقال له اليوم أنها (معاهدة الشرف والاستقلال) ثم يقال له بعد غد أن هذه المعاهدة نفسها (حماية بالثلث)؟ أيريد أن يرى بعد قليل شباب بلاده وهم يتطاحنون على أسماء رجال لو أنكشف الغطاء عنهم لكانوا سوءة في كيان الشعب لو عقل لسترها كما يئد أهل الجاهلية بناتهم خشية الخزي والعار؟ أم يريد أن يرى هؤلاء الشباب وهم لا يثقون بأحد من رجالهم بعد كشف الغطاء عن فصائحهم، فيكونون حربا على بلادهم يطعنون أنفسهم كل طعنة نجلاء بقولهم:(إننا شعب لا يصلح للاستقلال)؟ أيريد هذا الذي لقيته أمم من قبلهم فاوضت وحادثت وعاهدت، فخرجت من ذلك كله منهوكة مجرحة معذبة تمتهن أشرف شرفها باخس قول وأرذله؟.
حاشا لله أن يريد حزب الشورى لبلاده مثل هذا. وأنا أعرف الوزاني منذ أكثر من عشرين
سنة، فأنا أسأله بالعهد الوثيق أن يفئ إلى ما فيه مرضاة الله، وما فيه خير بلاده وخير أمته، وأن يدع فرنسا بشر النظرين، لا يقربها إلا مقاتلا مجاهدا رافعا باسم بلاده وحريتهم واستقلالها وكرامتها، وما خلق الإنسان إلا للجهاد في هذه الحياة حرا كريما، فإذا سلب الحرية وذيد الكرامة، فعليه أن يجاهد في سبيلهما جهادا متطاولا هو وأبناءه وذراريه لا تداخلهم سامة ولا ضجر ولا ملل مستعينا بالله الذي ينصر المستضعفين في الأرض وينصر الذين لم يملوا الجهاد فيلجئوا إلى المهادنة أو المفاوضة.
أيها الإخوان الصناديد جاهدوا وصابروا ورابطوا ولا تملوا حتى يأتيكم نصر الله، ولا تعجلوا على ربكم فان الله لا يمل حتى تملوا فإذا مللتم يحيق بكم ما حاق بكل من هادن في حقوق بلاده.
محمود محمد شاكر
ذكريات وخواطر
على عتبة الأربعين
للأستاذ علي الطنطاوي
نزعت رجلي من الركاب، وطردت من ذهني هم السفر، ونفضت ما علق بذاكرتي من غبار الحاضر، ثم نفذت إلى ما احتوت من كنوز الماضي، من معجزات البطولة والنبل، من تاريخنا الواقع، الذي لا يصل إليه خيال غيرنا، ولا يتعلق به وهمهم وحاولت أن أكتب للعدد الممتاز من الرسالة فما سرت في الفصل غير بعيد، حتى تباطأ قلمي ثم تعثر، ثم وقف. . . وأحسست في نفسي بهذا الضيق الذي ما أنفك يلازمني منذ أكثر من عشر سنين فيطفئ وقد حماستي، ويعقل نشاطي ويغلق أبواب الإلهام دوني، فلا أكتب ما أكتب إلا لملء الفراغ، وتزجيه الوقت كالذي يمشي العشية يجر نفسه جرا لا يسوقه مقصد، ولا تجذبه غاية. . .
ونظرات فإذا أنا بعد شهرين، أتم الأربعين أربعين سنة قمرية درت فيها مع الفلك، وسايرت الشمس واستقبلت السنين ثم ودعنها كما استقبلتها وأستولدت الآمال، ثم دفنتها كما أستولدتها ورأيت أفراحاً ورأيت أتراحاً، وصادقت وعاديت، وأحسنت وأسأت، فما الذي خرجت به من ذلك كله؟
لقد قطعت في هذه السنين الأربعين أكثر الطريق ولكن لم أعرف بعد إلى أين المسير! ومشيت أكثر من أربعة عشر آلف يوم تباعا ولكن لم أدر إلى أين أمشي!
أنني أصحو كل يوم فاكلم أهلي، واكل طعامي واذهب إلى عملي، ثم أعود إلى داري فاكتب مقالتي أو أنظر في كتابي، أو أوزر أصحابي، أو ألهو بما يلهو به مثلي، ثم أنام لا صحو من الغد، فأعيد الفصل ذاته. . . ولأيام تكر، والسنون تطوى، والعمر ينصرم، وأنا (امثل الرواية) الأبدية صحو ومنام وشراب وطعام، وصمت وكلام، ووداد وخصام. أما أن أعرف نفسي وأخلوا بها ساعة كل يوم، واسأل من هي، ومن أين جاءت وفيم وجدت وإلى أين تمضي، فهذا ما لم أفعله إلى اليوم. بل أني لأفر منها فرارا وأخاف أن أخلو بها، فأتشاغل عنا بحديث تافه، أو كتاب سخيف أو لهو باطل وإذا أنا ألزمت صحبتها وعدمت الشواغل عنها، ضقت بنفسي وضجرت وأحسست كأني سأجن!
وأنا أصرف العمر في قطع العمر، واجعلي أكبر همي أضاعه يومي، كأني أعطيت الحياة
لأعمل على تبديدها فإذا لم أجد ما أمزق به الوقت، واضطررت إلى مواجهة الزمان، في ساعة كساعات الانتظار، ضقت بعمري، وضجرت، وأحسست كأني سأجن! أني أركض أبداً وراء المستقبل ففي المستقبل أبلغ آمالي وفيه أصلح نفسي، وفيه أنيب إلى ربي، وفي أكتب تلك المعاني التي طالما جاشت بها نفسي، ولم يجربها قلمي، وفيه أؤلف الكتب الكبار التي طالما أزمة تأليفها وفيه أصنع كل شئ. ولكن المستقبل لن يأتي أبدا، وحين يأتي يصير (حاضرا) واذهب أفتش عن (مستقبل) أخر، فأنا كالفرس الذي يعدو ويشتد ويكد نفسه ليدرك حرمة الحشيش، والحزمة معلقة في عنقه يبصرها أبداً أمامه، ولا يصل إليها فلا يزال يسعى حتى يدركه الكلال، فيقع أو تعترضه حفرة فيسقط فيها. . ولكن الحفرة التي أسقط فيها أنا لا قيام منها، ولا مناص من ورودها ولا يستطيع أن يجتنبها كبير ولا صغير ولا غني ولا فقير ولا أمير ولا أجير. . .
وإذا أنا وصلت إلى الأمل الضخم، هان علي، وذهب بهاءه، وامحت روعته، كأن الآمال سراب لا يلمع إلا من بعيد.
لقد كان أكبر أملي يوم كنت في الابتدائية أن أكون معلما، وكنت أتوهم حياة المعلم فأوجدها جنة أنزلت الارض، فيها ما تشتهي الأنفس. . . أليس المعلم يأمر فيطاع أمره وينهي فيجتنب نهيه، ويوفى التبجيل وينال، الإكبار؟ فلما صرت معلما لم أجد من تلك الجنة إلا الذي تجده من الفوطة في الشتاء، أرضاً موحلة ما فيها إلا الشوك وأشجاراً يابسة ما فيها إلا الحطب، ورأيت مدرس الثانوية أعلى قدرا، واقل عملا واكبر مرتبا وأوسع جاها، فأملت أن أكون خطيبا، وأن أكون كاتبا وأن أكون قاضيا وأن أكون خطيبا وان أسيح في البلاد. . فلم أجد في الأمل إلا الألم لانتظاره ثم الملل من بقائه فتيقنت الآن أني لو صرت رئيس الجمهورية أو صاحب (الأهرام) أو كان لي مال (عبود)، لذهبت الأيام بلذة ذلك كله، وهونه الاعتياد، فلم أستفد منه، إلا حسد الحساد عليه، والحسرة، أن فقد، لفقده. . . وأن متع الدنيا أوهام، من لم ينلها تشوق إليها وحسد عليه، ومن نالها ملها وتمنى غيرها: المتزوج يتمنى العزوبة، والعزب يشتهي الزواج، والمقيم يرجو السفر والمسافر يطلب المعاد، والريفي يحن إلى المدينة والمدني يتشهى الريف، ونحن كلنا أطفال. . . تشتري للطفل اللعبة النفيسة فيفرح بها، ويهش لها، ثم يلقيها ويطلب غيرها، ولو كان دونها ثم أن الآمال لا
تنتهي. . . فمن أعطى المليون أبتغي المليونين، ومن رفع في الوظيفة درجة طلب درجتين فلا يزال في سقاءين شقاء بالحاضر الذي لا يقنع به وبالآتي الذي لا يصل أليه. . .
أفلهذا وجدت وسعيت أربعين سنة؟ أسعيت لأدرك السراب؟
وتتالت على الفكر، وعاودني الضيق الذي طالما كاد يدفعني (لولا خوف الله) إلى طلب الموت من سنين، وما أشكو المرض فصحتي جيدة ولا أشكو الفقر فأجد من المال يكفيني، وإنما أشكو فراغا في النفس لا أعرف مأتاه وقوى في لا أجد لها مصرفا وحنينا إلى شئ غامض لا أدري ما هو على التحقيق. . .
وتركت القلم والورق وقمت أدور في الغرفة فوجدت على نضد إبريقا من البلور الصافي، طويل العنق واسع البطن فيه نحلة قد دخلت ولم تستطع الخروج، فهي تتحفز وتتجمع وتثب مقدمة بقوة وباس، فيضرب الزجاج رأسها ويردها فتعاود الكرة، وهي لا تبصر الجدار، وإنما تبصر ما وراءه فحسب أنه ليس بينها وبين الفضاء حجاب فجعلت أنظر إليها وهي تعمل دائبة كلما ضربت مرة عادت تحاول أخرى، لا تقف ولا تستريح، حتى عددت عليها أكثر من أربعين مرة، تجد الصدمة كل مرة فلا تعتبر ولا تدرك الحقيقة، ولا ترفع رأسها لتبصر الطريق وتعلم أن سبيل الفضاء، وباب الحرية هو من (فوق) لا عن يمين ولا عن شمال. . .
فتعلمت من هذه النحلة ما كان خافيا عني: تعلمت أننا مثل هذه النحلة نحسب أن الانطلاق أنما يكون على الأرض فنقدم، فتضرب العوائق وجوهنا وتردنا، فنقعد يائسين، أو تعاود الكرة مستميتين، نحسب الانطلاق في الشهرة أو في المال، أو في متع الجمال، وهيهات. . وهاهم أولاء السياسيون والممثلون والمغنون، تطبق الأرض باحثيهم، ويشتغل الناس بأخبارهم، ويرون صورهم ويسمعون أصواتهم فما الذي يحصل من ذلك في أيديهم، وماذا ينفعك أن يكون الناس كلهم يمدحونك إذا كنت منفردا في غرفتك مبتئسا، تعس النفس محزون القلب؟ وها هم أولاء الشباب الأغنياء يؤمون كل ملهى ويستمتعون كل يوم بجمال جديد، فهل ذهب ظمأ قلوبهم إلى ارتياد منابع جدد لك ظمأ؟
وها هم أولاء المحبون المدفون، يعانقون من يحبون والنفس لا تزال بعد مشوقة ليس يرويها عناق ولا أقترب، ولا يشبعها شئ من متع الجسد.
وها هم أولاء (الملايرة) المؤلفون، هل أشبعت ملايينهم نفوسهم ورزقتهم القناعة والاطمئنان؟
فما هذا طريق السعادة، أن الطريق على الأرض مسدود، والفضاء من حولك له حدود وما طريق الفضاء وسبيل الانطلاق إلا من (فوق)، هناك عالم النفس تنشط النفس كما برقت لها منه بارقة، أو لاح علم: كلما سمعت نغمة سحرية فيها رنة من ذلك العالم، أو قرأت قصة عبقرية فيها إشارة إلى ذلك المجهول، أو وعت موعظة علوية فيها قطرة من ذلك الينبوع.
الآن عرفت فيا ضيقة هذه السنين الأربعين!
لا تقولوا، أنك تكتب في الدين وفي الفضيلة، وإنك تدعو إلى الخير لأني عزمت على أن أقول الليلة الحق، ولو كان على نفسي. الحق يا سيادة، أن الدعاة اليوم إلى الله، لا أستثني واحدا ممن أعرف منهم، كلهم ممثلون، يلبسون في المجلة أو على المنبر ثياب المسرح، فيبدون بالجبة والعمامة فإذا انقضي (الفصل) خلعوها وعادوا إلى بيوتهم، فعكف عابد الدينار منهم على معبودة، ماله إلا جمع المال هم وعابد الشهوة عليها، وعابد الجاه، وعابد المنصب تعددت الأصنام والشرك واحد! أنهم ممثلون وأنا أول الممثلين.
ولو كنت صادقا لما الفت في سيرة أبي بكر وعمر، ثم عدلت عن سنتهما، وسرت غير سيرتهما، ولو كنت صادقا إذ أدعو إلى الإسلام، ونهيه، ولو كنت صادقا لما انغمست في حماة هذه الحياة التي سال علينا سيلها من الغرب، ولو كنت، كان عشرة مثلي صادقين، لما بقى في الأرض فساد. ولقد طهر الأرض من أوضارها منبر واحد من الخشب، ثلاث درجات ليس لها وازين، ولا عليها قبة، ولا لها باب، فلم تظهر الأرض مائة ألف منبر مزخرفة منقوشة محلاة لها أبواب جميلة وقباب؟
ألان الناس فسدت طبائعها؟ لأن الزمان قد دنا أخره؟ لا. بل لان القائمين عليها وعاظ من خشب يحملون سيوفا من خشب!
أما أن الحق، الذي لا بد الليلة من الصدع به. . . أنه. . . لا هذه المواعظ، ولا هذه المقالات، هي التي توصل إلى الله، ولكن يوصل أليه، أن يعود كل إلى نفسه، فيسأل من أين جاءت، وفيم خلقت، وإلى أين المصير؟
وأن يعلم كل أن الطريق من (فوق)، فيرفع رأسه ليرى الطريق. ومن منا يرفع اليوم رأسه، ونحن كالنحلة لا تمشي إلا على الأرض؟ بل أن منا م هو كالفراشة، تسمى إلى النار، يحسبها هي باب الانطلاق!
أن المسيحيين يصلون لربهم قبل الطعام على المائدة، وقبل الدرس في المدرسة، ويوم الأحد في الكنيسة، فتعلم أنهم مسيحيون، فما يصنع كثير من المسلمين، وأي علامة تدل على أنهم مسلمون، من ساعة يصبحون إلى ساعة يمسون! لا صلاة، ولا ذكر، ولا تميز الحلال من حرام، أن عملوا فضيلة فباسم الأخلاق والفضيلة ولاصحة، لا باسم الإسلام. فما الفرق بينهم وبين غيرهم؟
يقولون أن الدين المعاملة والصدق والقصد والاعتدال، وأن تعامل الناس كما تحب أن يعاملوك.
صحيح، ولكن هذا من الدين، وليس هو الدين!
وهذا شان كل شريف، يستوي فيه الشرفاء جميعا، فما معنى تفريقهم إلى مؤمنين وملحدين وعباد وثن؟
وهذا كله للحياة الدنيا، فما الذين نعمله للحياة الأخرى؟ لا، بل الذين، أن تتصل بالعالم العلوي، وأن تراقب الله، وان تعلم أنه مطلع عليك أبدا، وانه يرعاك بعينه فترعاه بقلبك وتطيعه بجوارحك.
هذه غاية الخلق، وهذا سر الوجود، ما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون، لا عبادة عادة، وصلاة رياضة، وصوم استشفاء، وحج سياحة؛ بل العبادة التي يحس بها القلب حلاوة الأيمان، ويذوق فيها لذة العبودية، ويستشعر فيها القيام بين يدي الله. ولتغامر مع ذلك في ميدان الحياة، ولتقحم لجها، ولتأخذ أوفر قسط من طيباتها، ومن علومها ومن فنونها، ولتكن قويا ولتكن غنياً.
هذي حقيقة الدين، وهذي غاية الحياة، فهل يصل إلى الغاية من مشى أربعين سنة مائلا عنها، ضالا طريقها؟
إلا يا ضيعة هذه السنين الأربعين!
(دمشق ص. ب 19)
علي الطنطاوي
الكندي ورجال الدين
للدكتور أحمد فؤاد الاهواني
بين الفلسفة والدين، وبين الفلاسفة ورجال الدين، خصومة قديمة تذهب إلى أبعد العصور، ولا تزال سارية حتى اليوم. فقد كانت التهمة التي وجهت إلى سقراط أنه أنكر آلهة اليونان، ومن أجل ذلك حكموا عليه بالإعدام. وتاريخ الحضارة الإسلامية يسجل صراعا مستمرا حادا بين الفلاسفة ورجال الدين، أشتهر بعضه، وخفي عنا بعضه الأخر. وأظنك لا تجهل كيف نهض الغزالي يهاجم الفلاسفة هجوما عنيفا في كتابه تهافت الفلاسفة، وانبرى له أبن رشد يفند أقواله في (تهافت التهافت) كما ألف في التوفيق بين الفلاسفة والدين، ويدعو إلى رفع الخلاف عنهما كتاب (فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال). ولا نحب أن نستعرض كل ما وقع في تاريخ الفكر، فالخصومة أشهر من الاستعراض ولا تحتاج إلى استرسال. غير أنا نحب أن ننشر صفحة طواها التاريخ أجيالا، وسعى الباحثون عنها فلم يجدوا إلا ظلا وخيالا، تلك هي صفحة الكندي، فيلسوف العرب، الذي ضاعت كتبه، وطويت في بطون المخطوطات، حتى كشف حديثا عن جملة من رسائله، تفصح عن فلسفته، وتلقى الضوء على مذهبه.
وسوف نحدثك في هذه الكلمة عن جانب واحد من جوانب فكره: هو موقفه من الدين ورجاله، فنذكر طرفا من احتجاجه وجداله.
فقد شاع عن الكندي أنه ينتسب إلى يونان، وانه كفر بعد اصطناع آرائهم في الفلسفة، كما روى المسعودي في مروج الذهب فقال: (وقد كان يعقوب الكندي يذهب في نسب يونان إلى ما ذكرنا: أنه أخ لقحطان، ويحتج لذلك بأخبار يذكرها في بدء الأشياء. . . وقد رد عليه أبو العباس عبد الله بن محمد الناشئ في قصيدة له طويلة، ووكد خلطه نسب يونان بقحطان على حسب ما ذكرنا أنفا في صدد هذا الباب، فقال:
أبا يوسف أني نظرت فلم أجد
…
على الفحص رأيا صح منك ولا عقدا
وصرت حكيما عند قوم إذا أمرؤ
…
بلاهم جميعا لم يجد عندهم عندا
أتقرن إلحادا بدين محمد
…
لقد جئت فينا يا أخا كنده أد
وتخلط يونان بقحطان ضلة
…
لعمري لقد باعدت بينهما جدا
ونحن نرى أن الكندي برئ من التهمتين جميعا: تهمة الانتساب إلى اليونان وتهمة الإلحاد. وإنما شاع ما شاع عنه بدافع أغراء الحساد والمنافسين. ذكر أبن النديم في الفهرست عند الكلام على أبي معشر المنجم (أنه كان أولا من أصحاب الحديث. وكان يتضاغن الكندي، ويغري به العامة، ويشنع عليه بعلوم الفلاسفة).
وأنصفه المغفور له مصطفى عبد الرزاق في بحث له عن الكندي فقال: (هكذا يبلغ العبث بالتاريخ حدا يشوه من خلق الكندي ومن عقله، وقد كان الرجل في خلقه وفي عقله من أعظم ما عرف البشر).
وأكبر الظن أن المعاصرين للكندي أضافوا إليه القول بالانتساب إلى يونان، لما رأوه من انصرافه إلى البحث في الفلسفة اليونانية، ونقل أراء الفلاسفة وكتبهم إلى العربية، مع تحبيذ هذه الآراء والدفاع عنها. القفطي في أخبار الحكماء أن الكندي هو المشتهر في الملة الإسلامية بالتبحر في فنون الحكمة طبقات الأطباء (حذاق الترجمة في الإسلام أربعة: حنين بن إسحاق، ويعقوب بن إسحاق الكندي، وثابت بن قرة الحراني، وعمر بن الفرخان الطبري).
كان الكندي أذن حذاق المترجمين عن اليونانية، وله في الدفاع عن الفلسفة اليونانية حجة لطيفة خلاصتها أن الفرد الواحد لا يستطيع بلوغ الحق وحده فلا بد من التعاون في الفكر والأخذ عن المتقدمين إلى أن قال:(وغير ممكن أن يجتمع في زمن المرء الواحد وان اتسعت مدته، واشتدت بحثه، ولطف نظره، واثر الداب، ما أجتمع بمثل ذلك من شدة البحث، وألطاف النظر وإيثار الدأب في أضعاف ذلك الزمان الأضعاف الكثير. فأما أرسطو طاليس، مبرز اليونانيين في الفلسفة فقال: ينبغي لنا أن نشكر أباء الذين أتوا بشيء من الحق، إذ كانوا سبب كونهم، فضلا عن أنهم سبب لهم. وإذ هم سبب لنا إلى نيل الحق، فما أحسن ما قال في ذلك).
ثم أضاف بعد ذلك: وينبغي لنا إلا نستحي من استحسان الحق، واقتناء الحق من أين أتى، من الأجناس القاصة عنا والأمم المباينة. . .).
ولسنا ندري هل كان الكندي هو الذي بدا الهجوم على رجال الدين، أم كان يدفع عن نفسه هجماتهم. ذلك أن الفلسفة لم تكن قد أوغلت في الحضارة الإسلامية، ولم يكن العهد بينه
وبين عصر المأمون بعيدا، والمأمون كما نعرف هو الذي شجع حركة النقل وأنشأ في بغداد دار الحكمة، وبعث في طلب كتب الطب والفلسفة وأجرى الأرزاق على المترجمين، وكان أغلبهم من السريان. والراجح أن الكندي هو أول فيلسوف عربي، وأول ناقل عربي، ولهذا قالوا عنه (فيلسوف العرب).
وكانت السنة رجال الدين حادة عنيفة ترمى المشتغلين بالفلسفة بالكفر، على الرغم من دفاع الخلفاء عنهم في صدر حركة النقل. وهذا هو السبب الذي دعا الكندي إلى الحذر في نقل جميع أراء أرسطو، وفي ذلك يقول: (توقيا سوء تأويل كثير من المتسمين بالنظر في دهرنا من أهل الغربة عن الحق، وإن تتوجوا بتيجان الحق من غير استحقاق؛ لضيق فطنتهم عن أساليب الحق، وقلة معرفتهم بما يستحق ذوو الجلالة في الرأي والاجتهاد في لانتفاع العامة الشاملة، ولدرنة الحسد المتمكن من أنفسهم البهيمية، والحاجب بسدف سجونه أبصار فكرهم عن نور الحق ووضعهم ذوي الفضائل الإنسانية - التي قصروا عن نيلها، وكانوا منها في الأطراف الشاسعة - لوضع الأعداء، ذبا عن كراسيهم المزورة التي نصبوها من غير أستحقاق، بل للترؤس والتجارة بالذين وهم عدماء الدين، لان من تجر بشيء باعه، ومن باع شيئا لم يكن له، فمن تجر بالدين لم يكن له دين.
ويحق أن يتعرى من الدين من عاند تقنية علم الأشياء بحقائقها وسماها كفرا؛ لان في علم الأشياء بحقائقها علم الربوبية وعلم الوحدانية وعلم الفضيلة.
وجملة كل علم نافع والسبيل أليه، والبعد عن كل ضار والاحتراس منه، واقتناء هذه جميعا هو الذي أتت به الرسل الصادقة عن الله جل ثناؤه، فإن الرسل الصادقة، صلوات الله عليها، أنما أتت بالإقرار بربوبية الله وحدة وبلزوم الفضائل المرتضاة عنده، وترك الرذائل المضادة للفضائل في ذواتها وإيثارها) فأنت ترى أن الخصومة كانت عنيفة بين الطرفين؛ فرجال الدين يرمون الكندي بالكفر والإلحاد، ويذهبون إلى أنه يجعل يونان أخا قحطان والكندي يرمي رجال الدين بأنهم يتجرون بالدين وهم عدماء الدين، ويطلب منهم الحجة أن كان عندهم برهان أو دليل.
يقول عنهم أنهم يتسمون بالنظر وهم أهل غربة عن الحق، وانهم يتتوجون الحق بغير استحقاق، يحجب الحسد أبصارهم عن نور الحق، بغير استحقاق، يحجب الحسد أبصارهم
عن نور الحق، ويتربعون على كراسي الدين طلبا للرئاسة وذبا عنها ثم يبين الكندي الصلة بين الحكمة والشريعة بل يذهب إلى أن الدين من الفلسفة، فهي قنية علم الأشياء بحقائقها وفي ذلك علم الربوبية والوحدانية والفضيلة فالفلسفة توافق الدين لان الرسل الصادقة أتت بالإقرار بربوبية الله وحده.
ثم يحتج الكندي لرجال الدين بحجة عقلية تضيق عليهم الخناق فيقول: أن اقتناء الفلسفة (يجب أو لا يجب، فان قالوا يجب وجب عليهم طلبها؛ وان قالوا أنها لا تجب، وجب عليهم أن يحصروا علة ذلك، وأن يعطوا على ذلك برهانا وإعطاء العلة والبرهان من قنبة علم الأشياء بحقائقها. فواجب أذن طلب هذه القنية بألسنتهم والتمسك بها اضطرار عليهم).
غير أن النصر في هذه المعركة كان لرجال الدين إذ شوهوا أثار فيلسوف العرب، وصرفوا عن قراءتها أغلب الناس. ويبدو كذلك أنهم أوغروا عليه صدر زعيم من أئمة الأدب في ذلك العصر هو الجاحظ الذي تناوله بالنقد والتجريح والسخرية اللاذعة في أكثر من كتاب، في الحيوان والبيان والتبين والبخلاء
ومن التهم التي رمى بها الكندي فساد الذوق الأدبي، وضعف الأسلوب والبعد عن البلاغة وهي تهمة لصقت به، لا نستطيع أن تحقق فيها إلا إذا تناولنا أسلوبه بناء على ما ظهر له من نصوص.
أحمد فؤاد الاهواني
موقف اليهود في مصر
للأستاذ نقولا الحداد
يدعى اليهود المقيمون في مصر أنهم مصريون وطنيون فمن الظلم أن يطلب منهم أن يحاربوا أخوانهم الصهيونيين. فإذا كانوا مصريين وطنيين بكل معنى الكلمة كما يزعمون فعليهم ما على المصريين كما أن لهم ما للمصريين. فهم يرتزقون في مصر ويثرون بل يستغلون جميع مرافق البلاد أكثر من غيرهم، فإذا يجب أن يكون عليهم ما على المصريين.
أن المصريين كسائر العرب في جميع البلاد العربية يعتبرون فلسطين قطعة من البلاد العربية بل هي مركز العروبة. ولذلك قرر العرب في مصر وغير مصر أن يدافعوا عن فلسطين بالمهج والأموال قرروا أن تبقى فلسطين عربية إلى الابد، وانهم يضحون كل غال ونفيس وبقائها لأجل استقلالها عربية لا قطره دم أجنبية فيها.
ولهذا السبب جعل المصريون كإخوانهم العرب في جميع البلاد العربية يتبرعون بالمال ويتطوعون بالرجال ويقتنون العتاد لتحرير فلسطين من الصهيونيين، فإذا كان يهود مصر مصريين وطنيين كما يزعمون فيجب أن يتبرعوا ويتطوعوا كإخوانهم المصريين. وإن كانوا صهيونيين فهم إذا أعداء العرب في قلب بلاد عربية، وبالتالي فهم أعداء مصر نفسها. وحكمهم في هذه الآونة الحاضرة حكم الأجانب الأعداء في مدة الحرب الأخيرة فيجب أن يعتقل الطابور الخامس منهم وكل من يشتبه بأنه معاون للصهيونيين وأن تصادر أموالهم كما فعلت مصر بأعداء الحلفاء. وأما أن يبقوا في البلاد يستغلونها ويترعرعون فيها ثم يبعثون بالأموال وبالمؤونة والعتاد إلى تل أبيب وكر الصهيونية فان هذا العمل خيانة لمصر ولجميع العرب.
وإما أن يقولوا أو يقول من يدافع عنهم أنه لظلم أن نطلب منهم أن يحاربوا أخوانهم في الدين، أي الصهيونيين فهذا أمر لا يحتمله الطبع البشري.
ولكن ليعلم اليهود في كل العالم وليعلم أنصار اليهود أن هذه الحب المبتدئة الآن في فلسطين ليست حربا دينية ولست حربا بين يهود ومسلمين ونصارى أنما هي حرب قومية بين صهيونيين وعرب؛ فإذا كان يهود مصر المقيمون في مصر من زمان طويل
صهيونيين فليخرجوا من البلاد لأنهم يعدون أعداء وإن كانوا مصريين فعليهم أن يشاركوا المصريين في الدفاع عن فلسطين.
وأما أن يقولوا لا يصح أن نحارب إخواننا في الدين فهو عذر غير مقبول. لما كان أيزنهور يقود الجيوش الأمريكية في الحرب المنصرمة لمقاتلة الألمان لم يقل أني من أصل ألماني وديانتي كديانة الألمان فلا يصح أن أحارب الألمان، بل قال أن وديانتي كديانة الألمان فلا يصح أن أحارب الألمان، بل قال أن أمريكا تحارب ألمانيا وأنا أمريكي فيجب أن أسحق ألمانيا. وهكذا فعل.
وحين كان جورج واشنطون يقود الجنود الأمريكان ضد الجنود الإنكليز لكي يحرر أميركا من نير بريطانيا، لم يقل أن هؤلاء الجنود البريطانيين إنكليز مثلنا ودمنا من دمهم ولغتنا لغتهم وديننا دينهم فلا يجوز أن نحاربهم، بل كان يقول: بريطانيا محتلة أميركا وأميركا تريد أن تستقل، فيجب أن نحاربها حتى نطردها من البلاد، وهكذا كان.
فيا أيها الاخوة اليهود! أن كنتم إخواننا في الجنسية والوطنية فاشتركوا معنا في قتل الصهيونية وإن كنتم صهيونيين فاخرجوا من البلاد لأنكم أعداء البلاد فاختاروا أحد هذين الموقفين
نقولا الحداد
من رسائل الشيخ شامل
(على هامش الثقافة العربية في الاتحاد السوفيتي)
للأستاذ برهان الدين الداغستاني
في شهر يونيو من سنة 1943 أذاع الأستاذ أغانوطيوس كراتشكوفسكي محاضرة عن الثقافة العربية في الاتحاد السوفيتي جاء فيها ما يأتي: (ولا يزال بعض سكان داغستان يتكلمون بلغة عربية قديمة إلى جانب لغتهم الأصلية، ويستخدمونها في التخاطب والكتابة، وحتى في نظم الشعر وفق الأوزان العربية القديمة الخ).
ونشرت خلاصة تلك المحاضرة في بعض الصحف المصرية يومئذ فقام أحد كبار الكتاب المعنيين بالشئون القوقازية، وكتب مقال في إحدى الصحف اليومية الكبيرة حاول فيه التشكيك فيما قاله المحاضر عن ذيوع اللغة العربية في بعض جهات الداغستان، وكتبت في ذلك الحين مقالا طويلا شرحت فيه مكان اللغة العربية في القوقاز وبينت أنها عماد الثقافة العامة في الداغستان من أمد بعيد. وقد تفضلت الرسالة الغراء فنشرت ذلك المقال في العدد الأول من سنتها الثانية عشرة (يناير سنة 1944).
هذه كلمة وجيزة أردت بها التمهيد قبل نشر بعض الرسائل التي عثرت عليها مما كتبه الشيخ شامل نفسه في شؤون مختلفة بلغة عربية سليمة فيها سلاسة العبارة، ووضوح الفكرة.
وهي أربع وسائل عثرت عليها اتفاقا عند أحد شيوخ الداغستانيين في حمص - سورية - في الصيف الماضي وهذه الرسائل تفيدنا أن شاملا كان يدعو نفسه - كما كان يدعوه أصحابه واتباعه في القوقاز - أمير المؤمنين. كما نعرف منها أن أسمه المعروف به هناك هو (شمويل) وإن أشتهر في خارج بلاد القوقاز باسم الشيخ شامل.
وهذه هي الرسائل
- 1 -
من أمير المؤمنين شمويل إلى والده الأعز جمال الدين وإلى أخويه الكريمين الحاج على العسكري والقاضي حجيو والى أهل بيته، فإلى كافة جماعة القريتين.
سلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
أما بعد فلقد وقع بيننا وبين الكفار وقائع وحروب بحيث لم يقع مثلها إلى الآن في ديار (ججان)، بل في ديار داغستان يومي الأحد والاثنين بالمدافع الكبار والصغار والسيوف الصوارم، ونصرنا الله تعالى وأيدنا تأييد النبي المختار محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، وخذل أولئك الملاعين أينما توجهوا ورجعوا من أمام باب شعيب إلى قلعة (أي سنقر) مقهورين منهزمين بحيث لا يرجعون إلى ديارنا بعد، فحمدنا الله تعالى وشكرناه على أياديه العظام، وإعانته لنا. وهذا بشرى لكم أيها الكرام، ولعل هذا التأييد بسبب بركات دعواتكم وخشوعكم وتضرعكم. ونحن نرجع إلى الأوطان بلا طول فصل، أن شاء الله تعالى. والباقي يخبركم الحامل بالتفصيل التام. هذا والسلام.
- 2 -
من الكتاب الفقير شمويل إلى إخوانه الكرام قاضي وعلماء وجميع جماعة (بن):
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، وصانكم الله تعالى من كل آفة ما ظهر منها وما بطن أمين أما بعد.
فاعلموا - يا أخواني - أني تركت أخذ كافلكم للرهن ثقة بكم أن لا تخونوا دين الله تعالى ورجاء أن يكون ذلكم الترك سببا لزوال الكدورة من بينكم، وزيادة الألفة والمحبة فيكم فلا تحاسدوا ولا تدابروا ولا تباغضوا، ولا يقصد بعضكم ضر بعض ولا تكونوا جواسيس (أنصال) لإيصال المضرة إلى بعضكم وكونوا عباد الله أخوانا.
هذه نصيحة من الفقير، فمن لم يقبلها ولم يعبا بها، وسعى بمخالفتها. فإن أصابه منا تعزيز بليغ - ولا شك أنه يصل أن شاء الله تعالى بعونه وقوته أما بالقتل أو ما هو أيسر منه - فلا يلومن إلا نفسه، والباقي يخبركم الحامل بأوضح بيان، بالمشافهة واللسان. والسلام
- 3 -
من أمير المؤمنين شمويل إلى خادم الكفار - ومحارب القهار. وخليل الشيطان الغرار (أغلار).
سلام على من أتبع الهدى ونهى النفس عن موادات العدى. أما بعد.
فأن هذا النصراني قد أختار دين الإسلام، من خدمة عبدة الأوثان والاصنام، وإن أخترتم
العكس. هذا.
- 4 -
من أمير المؤمنين شمويل إلى أخيه النائب أبي بكر. سلام كثير. فالذي يقوله هؤلاء الحاملون من أخذ مزارع البنات المتزوجة إلى الأخرى، مما لا يقبله العقل والنقل، فأحذر منه، فالسلام.
يوم السبت 3 من جمادى الأولى سنة 1271 هـ
هذا هو نص الرسائل التي عثرت عليها وهي - كما أرى القارئ - رسائل عربية الإهاب واضحة الأسلوب مع مراعاة أنها كتبت قبل محو مائة سنة، وأن كاتبها رجل لم يغدر بلاده إلى بلاد عربية فضلا عن أنه كان مدى ثلاثين سنة متواصلة في حرب مستمرة مع عدو قوي جبار.
والرسائل الثلاث الأولى كتبت في أبان الثورة وفي شئون متصلة بها أشد اتصال. والرسالة الرابعة كتبت ردا على استفتاء في شان من شئون الحياة. وتمتاز عن بقية الرسائل بأنها مذيلة بتاريخ وهو السبت الثالث من جمادى الأولى سنة إحدى وسبعين ومائتين وألف من الهجرة. أي قبل استسلام شامل بنحو خمسة أعوام، فقد أضطر إلى التسليم في صفر سنة ست وسبعين ومائتين وألف.
والشيخ شامل كان لا يعرف اللغة الروسية مع أنه عاش في بلاد كان نفوذ الروس فيها عاما شاملا في كثير من الأوقات بل كان لا يعرف إلى جانب لغته الأصلية إلا اللغة العربية التي كان يحسنها إحسانا فقد ذكر الفيكونت فيليب دي طرازي في تاريخ الصحافة. (ج2 ص173) عند كلامه عن سليم دي نوفل واستدعائه سنة 1861 م لتدريس اللغة العربية في جامعة بترستبورغ ما يأتي. (واتفق أن شاملا المشهور الذي حارب روسيا مدة 32 سنة خضع وسلم لها في ذلك الزمن، وكان لا يحسن اللغة الروسية، بل العربية، فكان سليم ترجمانا بينه وبين القيصر أسكندر الثاني).
وعلى ذكر القيصر أسكندر الثاني أقول: (ذكر الفريق محمد فاضل باشا الداغستاني الذي كان أسيرا لدى الروسيين مع الشيخ شامل - هذه الحادثة:
كان الشيخ شامل مدعوا إلى إحدى الحفلات المقامة في قصر الإمبراطور أسكندر الثاني،
وبينما كان جالسا بجانب القيصر أسكندر الثاني على المائدة التفت إليه القيصر واظهر له عظيم الاحترام والتقدير وقال له:
(إنني فخور جدا أن أرى في مثل هذا اليوم السعيد رجلا عظيما مثلكم في ضيافتي).
فلم يترك شامل هذه التحية تمر بسلام، فالتفت إلى القيصر وأجاب بهدوء:
(لو أن شخصكم الكريم كان في أسرى وضيافتي لكان سروري أعظم وافتخاري بذلك أجل!)
رحم الله شاملا ويرد أثره، فقد عاش كريما يناضل في سبيل دينه ووطنه أكثر من ثلاثين عاما حتى إذا أضطر إلى اللقاء السلاح والاستسلام إلى عدوه لم تفارقه روح الرجل المسلم المناضل الحر، ولو كان جليسه إمبراطور روسيا القيصر أسكندر الثاني.
برهان الدين الداغستاني
الفتوة الإسلامية
للأستاذ محمد فهمي عبد اللطيف
عرفوا الفتوة في اللغة بأنها: الكرم والسخاء، والشجاعة والمروءة، فإذا عرفنا أن هذه الفضائل الخلقية كانت جماع الشرف والحمد في البيئة العربية أدركنا أن (الفتوة) كانت دلالة النبل والسمو في تلك البيئة. ولقد قالوا (لا فتى إلا علي) يعنون أنه كرم الله وجهه كان غاية في أدراك هذه الفضائل والشمائل، على أننا نجد معنى (الفتوة) فيما بعد الصدر الأول للإسلام قد أتسع في دلالته فاصبح يضم إلى ما سلف من الفضائل الخلقية فضيلة الإيثار والتضحية وإنكار الذات، وبهذا انتقلت (الفتوة) من طور إلى طور، فالفتى في الطور الأول كان فردا غايته أن يفعل ما يكسبه الحمد في قومه، وان يحافظ على شرفه الذي هو شرف قبيلته، أما في الطور الثاني فانه أصبح فردا يعيش لغيره ويؤثره على نفسه أو كما نقول في اصطلاح العصر: فردا يعيش للجماعة، وقد حدد الشاعر العربي هذه المعنى إذ يقول:
فإن فتى الفتيان من راح واغتدى
…
لضر عدو أو لنفع صديق
ويظهر أن (الفتوة) قد ابتدأت تتميز في البيئة الإسلامية كظاهرة من ظواهر المجاهدة وكمرحلة من مراحل التصوف، على عهد الحسن البصري ومما يؤثر عن الحسن قوله:(كان الفني إذا نسك لم نعرفه بمنطقة وإنما نعرفه بعمله) وبهذه المعنى تلكم في (الفتوة) جعفر الصادق، ثم الفضل، ثم الإمام أحمد، ثم سهل، فالجنيد، وإضرابهم من الصوفية. قال علي بن أبي بكر الاهوازي (إن أصل الفتوة إلا أن يكون العبد أبدا في أمر غيره) وقال بعضهم في تفسير قوله تعالى (قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم) أن الفتوة هي كسر إبراهيم للصنم، وصنم كل أنسان نفسه، فمن خالف هواه فهو فتى على الحقيقة وهكذا نجد (الفتوة قد اتخذت في البيئة الصوفية مظهرا يلائم تلك البيئة في اتجاهاتها وفي أهدافها. . .
والكلام على ما كان من نظام (الفتوة) في محيط الصوفية يحتاج إلى حيز كبير، وقد يقتضي ذلك كتابا برمته، فحسبنا تلك الإشارة العابرة، لأننا نقصد في هذه المقال إلى الكلام عن (الفتوة) إذ تمثلت في المجتمع الإسلامي نظاما له أهدافه السياسية والاجتماعية والخلقية، وقد كان ذلك على عهد الخليفة العباسي الناصر لدين الله، فهو الذي فرغ لهذا
الأمر وتولى تدبيره بنفسه، فهدر ما كان من أوضاع الفتوة السابقة ووضع لها نظاما عاما ينتظم الأكابر والأصاغر والخاصة والعامة، وجعل نفسه القبلة في هذا والمرجع، وأرسل إلى الملوك والأمراء على أن يأخذوا بهذا النظام، قال (أبو الفداء) في حوادث سنة سبع وستمائة:(وفي تلك السنة وردت رسل الخليفة الناصر لدين الله إلى ملوك الأطراف أن يشربوا له كاس الفتوة، ويلبسوا له سراويلها، وأن ينتسبوا إليه في رمي البندق ويجعلوه قدوتهم. . .) ويقول أبو المحاسن أبن تغري بردى في النجوم الزاهرة: (وفي أيام الناصر لدين الله ظهرت الفتوة ببغداد ورمى البندق ولعب الحمام المناسب وافتن الناس في ذلك، ودخل فيه الإجلاء ثم الملوك، فالبسوا الملك العادل ثم أولاده سراويل الفتوة، ولبسها أيضا الملك العادل ثم أولاده سراويل الفتوة، ولبسها أيضا الملك شهاب الدين صاحب غزته والنهد من الخليفة الناصر لدين الله ولبسها جماعة أخر من الملوك. . .).
ولعل أبن الساعي هو المؤرخ الوحيد الذي فصل ما كان من عمل الناصر في ذلك، ولقد حفظ لنا هذا المؤرخ العظيم صورة من العهد الذي أذاعه هذا الخليفة على رؤساء الأحزاب بتعاليم الفتوة وما حدد لها من التقاليد والأوضاع حتى لا يتعدوها فيما بينهم وبين أنفسهم وفيما بينهم وبين الناس، وقد كان من خير ذلك العهد أن الفاخر العلوي كان رفيقا للوزير ناصر أبن مهدي وكان له رفقاء فاختصم أحد رفقائه مع رفيق لغز الدين نجاح الشرابي ووقعت بذلك فتنة عظيمة بين الفريقين، حتى تجالدوا بالسيوف فانتهى هذا إلى الخليفة الناصر فأنكره، وتقدم إلى الوزير يجمع رؤوس الأحزاب، وأن يكتب في ذلك كتاب يؤمرون فيه بالمعروف والألفة، وينهون عن التضاغن والتباغض، ويقرا بمحضر منهم ويشهد عليهم بما يتضمنه، فمن خالفه أخذت سراويله وأبطلت فتوته، وعوقب بما يستحق، ويعتبر هذا العهد وثيقة نادرة تكشف لنا عن الحدود التي رسمنها الخليفة الناصر لنظام (الفتوة) الذي أقامه، وتبين لنا ما وضع لهذا النظام من هدف وغاية ففي ديباجة هذا العهد يشير إلى شئ من تاريخ الفتوة ومرجعها واصلها فيقول: (من المعلوم الذي لا يتمارى في صحته، ولا يرتاب في وضوح براهينه وأدلته أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه هو أصل الفتوة ومنبعها ومعجما أصافها الشريفة وطلعها وعنه يروي محاسنها وآدابها، ومنه تشعبت قبائلها وأحزابها، وإليه دون غيره ينسب الفتيان وعلى منوال مؤاخاته
الشريفة النبوية نسج الرفقاء والأخوان، وإنه كان عليه السلام مع كمال فتوته ووفور رجاحته يقيم حدود الشرع على اختلاف مراتبها، ويستوفيها من أصناف الجناة على تباين جناياتها، ومللها ومذهبها غير مقصر عما أمر به الشرع المطهر وقدره، ولا مراقب فيما رتبة من الحدود وقرره، وامتثالا لأمر الله تعالى في إقامة حدوده وحفظاً لناظم الشرع وتقويم عموده فانه عليه السلام فعل ذلك بمرأى من السلف الصالح ومسمع ومشهد من أخبار الصحابة ومجمع فلم يسمع أن أحدا من الأمة لامه، ولا طعن عليه طاعن في حد أقامته، وحقيقة بمن أورثه الله مقامه وناط به شرائع الدين وأحكامه وانتمى إليه عليه السلام في فتوته، واقتضى شريف شيمته، وكريم سجيته أن يقتدي به عليه السلام في أفعاله، ويحتذي فيما استرعاه الله تعالى واضح مثاله غير ملوم فيما يأتيه من ذلك ولا معارض فتوة وشرعا فيما يورده ويصدره).
ثم يشير العهد إلى المراسم المفروض (على كل من تشرف بالفتوة برفاقه الخدمة الشريفة المقدسة المعظمة الممجدة الطاهرة الزكيه الأمامية الناصرة لدين الله تعالى) وكل هذه المراسم دعوة إلى الألفة والمحبة والى أن يكون الرفاق عون بعضهم بعضا فمن كان له رفيق قتل نفسا زكيه بغير أثم بادر بالخروج من رفقته لأنه بهذا الإثم خرج عن دائرة الفتوة ومن حمى قاتلا وأخفاه وساعده على أمره تنزل عنه كبيرة وتبرا منه، ومن حوى ذا عيب فقد عاب وغوى، ومن أوى طريد الشرع فقد ضل وهوى، وإذا قتل الفتى فتى من حزبه سقطت فتوته، ووجب أن يؤخذ منه القصاص عملا بقوله تعالى:(وكتبنا عليهم فيما أن النفس بالنفس) فإذا قتل غير فتى رفيقا من الرفاق أو عونا من الأعوان، أو منتسباً إلى ديوان في بلد الخليفة المفترض الطاعة على كافة الأنام، فقد عيب هذا القاتل وواجب القصاص منه على كل فتى راجح. .
وفي الختام يشير العهد إلى ما يجب على الرفقة من العمل بموجبه والجري على مقتضى المأمور به والوقوف عند المحدود فيه، قال أبن الساعي (وقد سلم إلى كل واحد من رؤساء الأحزاب منشور بهذا المثال فيه شهادة ثلاثين من العدول، ثم كبت تحت كل مرسوم ومنشور ما صورته: قابل العبد بما تضمنه هذا المرسوم المطاع وقابله بما يجب عليه من الانقياد والامتثال والاتباع، وهو الذي يجب العمل به فتوة وشرعا وهذا المعروف من سيرة
الفتيان نقلا وسمعا وقد ألزمت نفسي أجراء الأمر على ما تضمنه هذا المرسوم الأشرف، فمتى جرى ما ينافي المأمور به المحدود فيه كان الدرك لازما لي والمؤاخذة مستحقة على ما يراه صاحب الحرب ثبت الله دولته وأعلى كلمته. .).
لم تكشف لنا النصوص الواردة عن حقيقة القصد الذي كان يهدف إليه الناصر من إنشاء هذا النظام للفتوة، أو على الأصح من إنشاء هذه الجمعية التي كانت في نظامها أشبه ما تكون بالجمعيات السياسية والحربية، ولهذا يرجح الباحثون أن الناصر كان يقصد بذلك إلى أحياء الروح الحربية في النفوس، وإقامة قوة يمكن أن يفق بها في وجه أولئك الأعاجم الذين أخذوا يتخطفون الإمبراطورية العربية من كل جانب، ويعملون على إزالة معالم الخلافة الإسلامية غير أنا نرى جميع المؤرخين القدماء الذين كتبوا في سيرة الناصر وأعماله قد عابوا بالانصراف إلى هذا الأمر، حتى يقول أبو الفداء أنه (كان قبيح السيرة منصرف الهمة إلى رمي البندق والطيور في المناسيب ولبس سراويلات الفتوة) وانهم ليذكرون عنه في ذلك حكايات تصوره مثلا أعلى في اللهو وسقوط الهمة والانصراف عن مهمات الأمور. والمؤرخون القدماء لا شك معذورون في هذا التقدير لأنهم تعودوا أن يروا الخليفة مثالا للأرستقراطية المتعالية، فهو شخص لا عمل له إلا أن يجلس في صدر الديوان يأمر وينهي، ويمنع ويمنح، فكان من الغريب في تقديرهم أن ينصرف الناصر إلى هذا التدبير، وأن يبذل له كل هذه العناية وان يعني بتعميم ذلك النظام الحربي الرياضي بين الطبقات!!
على أي حال نستطيع أن نقول أن الناصر قد ضع نظاما للفتوة الإسلامية كان في الإمكان أن يجد شباب الدولة العربية وأن ينهض بها من عوامل الانحلال التي تسربت إلى جسمها، ولكن يظهر أن أحداث الزمن في تلك الأيام كانت أعنف واغلب. على أن هذا النظام قد امتدت أصوله في البيئات الإسلامية، وعمت أثاره آماداً من السنين فأننا نجد الرحالة أبن بطوطة بعد عهد الناصر بقرنين أي في القرن الثامن الهجري يتحدث عن جمعيات الفتوة وانتشارها في بلاد الأناضول، ويثني عليها ثناء مستطابا، وكانوا يسمون بالأخية الفتيان قال ابن بطوطة (وهم بجميع البلاد التركمانية والرومية، في كل بلد ومدينة وقرية، ولا يوجد في الدنيا مثلهم أشد احتفالا بالغرباء من الناس وأسرع إلى إطعام الطعام وقضاء
الحوائج والأخذ على أيدي الظلمة وقتل الشرط ومن لحق بهم من أهل الشر، والأخ عندهم رجل يجتمع أهل صناعة وغيرهم من الشبان الأعراب والمتجردين ويقدمونه على أنفسهم وتلك هي الفتوة أيضا، ويبني زاوية ويجعل فيها الفرش والسرج وما يحتاج إليه من الآلات ويخدم أصحابه بالنهار في طلب معايشهم ويأتون إليه بعد العصر بما يجتمع لهم فيشترون به الفواكه والطعام إلى غير ذلك مما ينفق في الزاوية، فان ورد في ذلك اليوم مسافر على البلد أنزلوه عندهم وكان ذلك ضيافة لديهم ولا يزال عندهم حتى ينصرف وان لم يرد وارد اجتمعوا على طعامهم فأكلوا وغنوا ورقصوا أجتمع لهم، ويسمون بالفتيان ويسمى مقدمهم كما ذكرنا الأخ، ولم أر في الدنيا أجمل أفعالا منهم، ويشبههم في أفعالهم أهل شيراز وأصفهان إلا أن هؤلاء أحب في الوارد والصادر، وأعظمهم إكراما له وشفق عليه. . .) ومن ثم نرى أن الفتوة الإسلامية قد تطورت إلى نظام اجتماعي إنساني أشبه ما يكون بنظام الماسونية من جهة وبنظام التعاون الاجتماعي من جهة أخرى، كما نرى أن الفتوة الإسلامية قد تغلغلت في البلاد الإسلامية وانتشرت بين الطبقات ولو كان هناك القائد المنظم الذي يعمل لاستغلال تلك الجماعات على وضع محدد الهدف والغاية لأجدت كثيرا من الخير على العالم الإسلامي، ولكنها انتهت في أخر الأمر إلى ما يشبه نام الزوايا الذي وضعه الصوفية، ويظهر أنها تلاشت في هذا النظام على مر السنين.
على أننا نرى في العصور المتأخرة نظاما شاع بين الطبقات، وهو الذي عرف في البلاد العربية (بمشيخة فتوة) وهو نظام كان يقوم على قوة الساعد والعضل ومزاولة بعض الأعمال الرياضية والفروسية.
وبعد، فهذه صفحة من تاريخ الفتوة الإسلامية، عرضناها على القراء مجلة لان المقام لا يحتمل الشرح والتفصيل ولعلنا نعود في فرصة أخرى إلى تجلية بعض النواحي في هذا الموضوع الذي عنى به المستشرقون أكثر مما عنى به أبناء العروبة.
محمد فهمي عبد اللطيف
اللغة العربية تصارع
للأستاذ وديع فلسطين
في مفتتح هذا القرن كان النشء يلحقون في معاهد مصرية خاضعة لوزارة المعارف المصرية (أو نظارة المعارف كما كانت تسمى) فلا يدرسون العلوم والرياضيات إلا بلغة أجنبية تلبية لرغبة المستعمرين ووكيلهم الداهية دنلوب.
بيد أن سعد زغلول باشا لم يكد يتقلد مهام وزارة المعارف في العام السادس من القرن العشرين حتى هب هبته المدوية، وأعلن ثورته وعصيانه على أساليب التربية ولا سيما تدريس العلوم باللغة الإنجليزية. وعلى حين غرة طالع سعد بنى وطنه بقراره الانقلابي، وعمم لغة الضاد بين جدران المعاهد، فأصبحت أداة والتلقين.
وليست هذه المهمة ميسرة كما قد يخال البعض، بل كانت تنطوي في تضاعيفها على تبعات شتى، لعل أبرزها تبعة توفير عدد صالح من الأساتذة يعهد إليهم في شق الطريق واستحداث طائفة من الكتب باللغة العربية تخلف زميلاتها الإنجليزية، وإعادة النظر في برامج التعليم على ضوء التجديد المستحدث. فكانت هذه أول معركة ربحتها اللغة العربية في ساحة صراعها، وعقد لواء الظفر فيها لزعيم سياسي مخلد الذكرى، أبت عليه مصريته أبت عليه قوة شكيمته أن لين للبغاة ويدعهم. يسممون الفكر ويسيئون التربية والإعداد.
وفي الربع الأخير من القرن التاسع عشر، أي في عام 1875 تقرر في اللائحة للمحاكم المختلطة استخدام اللغة العربية في المحاكم المختلطة بوصفها لغة رسمية مع قرينتين أخريين عما الفرنسية والإيطالية. ولكن عادة المحاكم جرت على اختيار اللغة الفرنسية لغة موحدة في مخاطبتها وإصدار أحكامها، وغضت الطرف عن سائر اللغات الأخرى.
ودرجت سفينة المحاكم المختلطة على السير في هذا المنوال حتى هل شهر فبراير من عام 1934 وفيه عين الأستاذ الدكتور عبد السلام ذهني بك مستشارا في محكمة الاستئناف المختلطة. وعز على القانوني المصري أن يرى لغة بلاده تهدر ويضرب عنها صفحا، فعمد عند كتابة أول حكم له إلى كتابته بالضاد وتقديمه بعد ذلك إلى رئيس الدائرة البلجيكي ليمضيه. فبهت القاضي واستعاذ بالله، وقال أن مجد المحاكم المختلطة يؤذن بالأقوال ونجمها في طريق الخبو، وكان لهذه الحادثة صدى مدو أفضى إلى أن يتعاضد الأجنبيين
من رجال المحاكم معا ويحولوا دون مضي الفقيه المصري فيما أختطه لنفسه من سبيل.
بيد أنه لم يحل عام 1937 حتى شهد إمضاء اتفاق مونترو الذي قرر إلغاء الامتيازات وجعل العربية ألغه الرسمية القضائية المكفولة المقام، ونطق الأحكام في الجلسات مشافهة بلغة يعرب وبلغة الفرنسيس. فكانت هذه ثاني معركة صارعت فيها اللغة العربية على يد فقيه مقدام فكان التوفيق حليفها.
وقبل خمسة أعوام. أي في شهر أغسطس من عام 194 كان على راس وزارة الشئون الاجتماعية شاب كفء ذو جرأة فهالة ما رأى وما سمع عن امتهان لغة البلاد في الشركات ودور الصناعة الأجنبية في أديم مصر، وصمم على رد الاعتبار للغة العرب وصون حقوقها ومقامها.
فاستصدر معاليه - وكان الأستاذ عبد الحميد عبد الحق - مشروع قانون لتعميم اللغة العربية في دور الشركات الأجنبية وجعلها اللغة الأصلية وما عداها دخيل لا يعول عليه. فكانت هذه الخطوة مثار تعليق متباين من الدوائر الأعجمية، ولكنها أجمعت جميعها على استنكارها.
غير أن الوزير الشاب مضى متجلدا صوب هدفه حتى أقر مجلسا البرلمان القانون واصبح واجب الاحترام مكفول النفاذ وتحدث صاحب المشروع عنه قائلا (إنني أرى أن لا فضل لي في هذا القانون لا من حيث الفكرة ولا من حيث صدوره. . . أما فيما يتعلق بالفكرة فهي فكرة كل مصري. وأما فيما يختص بصدوره فالفضل في ذلك إلى التمسك بحقوق البلاد).
وبسن هذا القانون أضحت لغة العرب سيدة اللغات في مصر وأمكنها أن تصرع أترابها في الميادين الرسمية. . .
بيد أن العربية ما فتئت تتعثر في المجتمعات وفي الأندية ودور المرح وبيوت ذوي الاحتساب والأنساب. ولا يزال عليها أن تواصل كفاحها بغير هوادة لتثبت أقدامها وتعزز مرتبتها. فإذا جلست في فندق من فنادق الحاضرة المصرية، تناهت إلى أذنيك (بقايا) كلمات عربية مختلطة بلهجات أجنبية، أو سمعت لغة فرنسية تتريث بين أوان وآخر لتزج بين ثناياها بكلمة عربية أو تعبير من تعبيرات السائمة.
وإذا زرت بعض البيوتات، رأيت الفتيات العذارى يؤثرن لغة أجنبية على لغة المهد، ويتراسلن بها في أحاديثهن في زهو وخيلاء وإذا قصدت بعض الشركات الأجنبية ذات النفوذ القوي أو التي يسندها نفوذ قوي، رأيت اللغة العربية منزوية في ركن من الأركان لتفسح للغتين أو لثلاث من اللغات الأعجمية مجال المحادثة والمكاتبة والمحاسبة.
أن اللغة العربية تصارع صراعا عنيفا، تتعرض حينا للبوار في بعض الدور، ولكنها سرعان ما تنهض من كبوتها، وتحاول الأيام أن تنال من جاهها فتفلح أنا ولكنها لا نفتا حتى تسترد عزها صراع مستمر كصراع الليل والنهار، ولكننا إذا استشففنا من تجارب الماضي مال اللغة العربية في المستقبل، بتنا مطمئنين إلى ظفرها في النهاية، وهي نهاية قريبة بأذن الله. . . .
وديع فلسطين
نقل الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
957 -
إنما سرقت مال ربي
في (رفع الإصر عن قضاة مصر) لابن حجر العسقلاني: حكي على بن سعيد في تاريخه أن رجلا سرق قنديلا من الجامع العتيق، فرفع للقاضي، فرفعه للحاكم، فقال له: ويلك! سرقت فضة الجامع؟
فقال: إنما سرقت ما ربي، وأنا فقير، ولي بنات جياع، والإنفاق عليهن أفضل من تعليق هذا في الجامع.
فدمعت عيناه، ورققه القاضي عليه، فأمره بإحضار بناته، فحضرن فأمر القاضي أن يجهزن بثلاثة آلاف دينار، ويزوجن وأعاد القنديل إلى الجامع.
958.
. . فأمهلته إلى شوال
في (تتمة اليتيمة) لأبي منصور الثعالبي:
أنشدني الشيخ أبو بكر لأبي نصر كاتب أبن قحطان صاحب اليمن في محمد بن حوشب، ولم أسمع في معناه أظرف منه:
قيل لي: ما أفدت ممن إليه
…
صرت تحدو قلائص الآمال؟
قلت: جئناه في شهور شراف
…
وهو فيها بنسكه ذو اشتغال
والفتى لا يجود إلا على السكر
…
فأمهلته إلى شوال
959 -
الطبيعة إذا وجدت طريقا استغنت به عن طريق ثان
شرح النهج لابن أبي الحديد: أعلم أن الناس اختلفوا في ابتدأ خلق البشر كيف كان، فذهب أهل أملل من المسلمين واليهود والنصارى إلى أن مبدأ البشر هو أدم الأب الأول، وذهب طوائف من الناس إلى غير ذلك، أما الفلاسفة فزعموا أنه لا أول لنوع البشر ولا لغيرهم من الأنواع، وأما الهند فمن كان منهم على رأي الفلاسفة فقوله ما ذكرناه ومن لم يكن منهم على رأي الفلاسفة ويقول بحدوث الأجسام لا يثبت أدم، ويقول أن الله (تعالى) خلق الأفلاك وخلق فيها طباعا محركة لها بذاتها، فلما تحركت وحشوها أجسام لاستحالة الخلاء كانت
تلك الأجسام على طبيعة واحدة، فاختلفت طبائعها بالحركة الفلكية، فكان القريب من الفلك المتحرك أسخن والطف، والبعيد أبرد واكشف. ثم اختلطت العناصر، وتكونت منها المركبات. ومما تكون منها نوع البشر كما يتكون الدود في الفاكهة واللحم، والبق في البطائح والمواضع العفنة، ثم تكون بعض البشر من بعض بالتوالد، وصار ذلك قانونا مستمرا، ونسى التخليق الأول الذي كان بالتولد. ومن الممكن أن يكون بعض البشر في بعض الأراضي القاصية مخلوقا بالتولد، وإنما أنقطع بالتوالد لأن الطبيعة إذا وجدت طريقا استغنت به عن طريق ثان.
960 -
أبو العتاهية. . .
الأغاني: محمد بي أبي العتاهية: قال: لما قال أبي في عتبة:
كأن عُتابة من حسنها
…
دمية قس فتنت قسها
يا رب، لو أنسيتنها بما
…
في جنة الفردوس لم أنسها
شنع عليه منصور بن عمار بالزندقية وقال: يتهاون بالجنة، ويبتذل ذكرها في شعره بمثل هذا التهاون. وشنع عليه أيضا بقوله:
إن المليك رآكِ أحسن خلفه ورأى جمالك
فحذا بقدرة نفسه
…
حور الجنان على مثالك
وقال أيضا: أيصور الحور على مثال امرأة آدمية! والله لا يحتاج إلى مثال، وأوقع له هذا على ألسنة العامة، فلقي منهم بلاء
961 -
. . . . وإلا فالطفل مسلم
في (طبقات الشافية الكبرى) للسبكي: أبو عبيد بن حربونة كان يرى أن الطفل إذ أسلمت أمه دون أبيه لا يتبعها في الإسلام، وإنما يتبع الأب، وهو رأي شيخه أبي ثور، فأسلمت امرأة ذمية، ولها ولد طفل، ولم يسلم الأب، ومات، فدس على أبي عبيد من يساله، فتفطن إلى أنه أن فعل ذلك (أي أن حكم ببقاء كفر الطفل تبعا لأبيه) قامت عليه الغوغاء. ونصحه أبو بكر (الإمام الجليل أبن الحداد المصري) وقال له: لا تعمل بهذا وإياك والخروج فيه عن مذهب الشافعي، فانك أن فعلت ذلك وأنالك الأذى من الخاصة والعامة. وعلم أنه أن لم
يفعل خرج عن معتقده. فلما جلس أبو عبيد في الجامع أجتمع الخلق بهذا السبب المبيت عليه بليل، وقام رجل على سبيل الاحتساب، وقال: أيد الله القاضي! هذه المرأة أسلمت ولها هذا الطفل، فيكون مسلما أو على دين أبيه؟ فقال: أين أبوه؟ - وقد كان علم أنه مات - فقالوا: مات، فقال: شاهدين يشهدان أنه مات نصرانيا وإلا فالطفل مسلم فكثر الدعاء له والضجيج من العامة، وستر علمه بفهمه. . . .
962 -
من أحاديث الزهر
في (الفصول والغايات) لأبي العلاء:
قالت البهارة لصاحبتها: ودعيني، فالبارحة طللت ولم أنتعش، ما أقرب مني قدم واطئ أو كف جان!
قالت الوردة لأختها: ما أشوقني إلى الماء!
قالت: ورقك يهف، والنسيم راكد، ستروين ولو من أدمع كئيب. . .
963 -
إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون
في (الموافقات) للشاطئ: حكى أبو عمر والداني في طبقات القراء له عن أبي الحسن بن المنتاب قال: كنت يوما عند القاضي أبي إسحاق إسماعيل بن أسحاق، فقيل له: لم جاز التبديل على أهل التوراة، ولم يجز على أهل القران؟ فقال القاضي: قال الله عز وجل في أهل التوراة (بما أستحفظوا من كتاب الله) فوكل الحفظ إليهم، فجاز التبديل عليهم. وقال في القران:(إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) فلم يجز التبديل عليهم. قال علي (أبو الحسن أبن المنتاب) فمضيت إلى أبي عبد الله المحاملي فذكرت له الحكاية، فقال: ما سمعت كلاما أحسن من هذا.
من أناشيد الحرية:
إلى أبناء الجنوب.
. .
للأستاذ محي الدين صابر
مشى على القيد أباء وأبناء
…
في السجن ينفضهم برد وظلماء
والجوع يأكلهم والعرى يلبسهم
…
يضج في روحهم جهد وإعياء
والذل يدفن في جبهاتهم أمماً
…
راحوا إلى المجد غلابين أو جاءوا
ترتد أنفاسهم في القيد ضارعة
…
تكاد تنكر أن القوم أحياء
مهدَّمون مساكين الخطى مِزَق
…
كأنهم في يد الجلاد أشلاء!
خمسون عاماً مشت فينا دقائقها
…
كالجيل فيه مصيبات وأرزاء!
تغلي الدماء على أحقادهن بها
…
وتستجيش من الثارات أحشاء
فاليوم حين يهد السجن مقتتل
…
ويحطم القيد ثوار. . . أشداء
واليوم حين يفيض الفجر من دمنا
…
وحين تمتد أفاق وأجواء
وحين نحشد في التاريخ مقدرة
…
لها إلى الخلد إسراء وإفضاء
وحين ينتقم الوادي لوحدته
…
وحين يثأر في الساحات فداء
من يخطب المجد لا يبخل بتضحية
…
وإن تكن دمه فالمجد حسناء!
يا نيل شعبك، أبطال وآلهة
…
لهم على الدهر شارات وسيماء
كم راية لك مثل الشمس ظافرة
…
سعى بها ظافر، للنار مشاء.!
وكم هياكل مثل الليل خاشعة
…
أطال فيهن سجَّاد ودعَّاء!
حبا عليك الزمان الطفل تنشئة
…
حتى نمت منه أحيان وإناء!
أما الحياة فكانت فكرة ومنىَّ
…
وأنت سجد وأحداث وأنباء!
أسميتها! فجرت الشوق في دمها
…
وقمت تحنو عليها وهي عذراء
يا نيل! يا ساحر الوادي وسامره
…
كأنما أنت في الشطآن صهباء
على النخيل ابتهالات وأخيلة
…
وفي الخمائل أنغام وأصداء!
وأنت حلم على الضفات مبتهج
…
وخاطر ملهم الإبداع. . . . وشاء
وشيتهن: فحقل مترف خضل
…
وجنة طلة الأفناء. . . لقاء
استبق ماءك تهتز الظلال به
…
فاليوم ساعة لا ظل ولا ماء!
فأنت تنبت للراضين ما بذروا
…
يغله لهم خصب. . . وإنماء
والدم ينبت للفادين معجزة
…
خير ما أستنبتوا، مجد وعلياء
ونحن نوشك أن نجني فقد رويت
…
حرية ضخمة الأعلام حمراء
تسع وعشرون مليونا لو احتشدوا
…
لأعجزوا الموت والأقدار لو شاءوا
لنا إلى مهبط الوادي ومطلعه
…
من صحوة الشوق حنات وإصغاء
وللكفاح وراء البحر منسرب
…
تهزنا منه اقباس. . . . وأضواء
وإن تغرب منافي الدماء دم
…
فللقلوب مع الفادين. . . إسراء
بنى الجنوب! وللأيمان غضبته
…
ولطواغيت. . . إزباد. وإرغاء
وللحوادث شدات ومعسرة
…
فينا. . . وللظلم تنكيل وإلواء
ماذا فعلتم وقد ألقى القناع لكم
…
وقد بدت منه أشياء وأشياء؟
خمسون عاما وفي السودان صفحته
…
دم ودمع وأحزان وبأساء
ففي الجنوب عراة في كيانهم
…
ذل وجوع وآفات وأدواء
لا أظلم القوم قد أهدوا لهم صُلبا
…
يمشي بهن على الأهوال أنضاء
وفي الشمال. . . جنايات تنظمها
…
يد تنكل بالأحرار، نكراء
فقيد الفكر: لا صوت ولا قلم
…
حتى الصحافة فهي اليوم شلاء
ومد للدرس والإرهاب ظلهما
…
كأنما عهده: ليل. . . وصحراء
فالسيف منصات والسوط منجرد
…
والسجن متسع والحكام أهواء
أين الضرائب يجبيها مضاعفة
…
ولا رقيب له عد وإحصاء!
ما فاته في القرى نبت ولا شجر
…
وفي البداوة لا أبل ولا شاء
والشعب يصرخ يا جهدي ويا عرقي
…
وأذنه عن صراخ الشعب صماء
يا شعب ما لك أجر الذل يأخذه
…
والذل، يا شعب، تسليم وإعطاء
ففي المصارف أوراق وأرصدة
…
وفي القصور. . لذاذات ونعماء
ولست تملك إلا أن تقول له
…
(صدقت) أن قال تعمير وإنشاء
سيقرأ الدهر للأجيال قصته
…
وأنها قصة سوداء. . شنعاء.
بني الجنوب فهذا حين محنتكم
…
وليس تغفر بعد اليوم أخطاء
يلوى بحقكم السجان معتديا
…
كأنه منح منه. . وآلاء
يقلب القيد، كالحاوي على يده
…
قالوا له: لعبة شمطاء خرقاء!
في كل يوم يسميه ويصقله
…
وليس للقيد ألوان وأسماء
فهو (الرفاهة) أحيانا
…
وآونة هو (المصير) وإن ينصف (فإفتاء)!
وبين ذلك (مشروع)(وسوْدنة)
…
و (مجلسان) وتلميح وإغراء!
فتلك رقصة مذبوح يحاولها
…
دعوه يسكن له حسن وأعضاء
وليبين ما شاء من أوهام باطلة
…
فلم يعد للنوايا السود إخفاء
سيهدم الشعب أعلاه وأسفله
…
والشعب والشعب هدام وبناء
بنى الجنوب؛ وقد أبلت طلائعنا
…
ولم ترعنا. . أعاصير. . وأنواء
ما حاكم جاءنا والسيف في يده
…
وفي جوانحه حقد وبغضاء
بأي منطق جبار يهددنا
…
كأننا (لمعاليه). . أرقاء؟!
قولوا له: لن ترى ما بيننا رجلا
…
له على صفعه الجلاد إغضاء
فليس يجمل في التاريخ منزلة
…
إن قال: لي فيكم صحب وأعداء!
قولوا له: قال هذا الشعب قولته
…
وأنها قولة كالفجر. . بلقاء
هي الجلاء عن الوادي بلا أجل
…
ووحدة في ظلال التاج شماء
بنى الجنوب لقد أزرى العدو بنا
…
وما تزال له في الظلم. . غلواء
انحن في كل حرب مرة شند
…
للعاجزين بدا والحرب هوجاء!
في (طبرق) دمنا يشكو وفي (كرن)
…
وفي الصحارى حشاشات وأحناء!
حتى إذا النصر واتى قام يجحدنا
…
فيه حليف لنا بالأمس بكاء!
هل كان غاية هذا الجهد ما صنعوا
…
من مجلس هو ثارت وشحناء!
للناب خلف القناع الزيف
…
صرصرة وللمخالب. توجيه وإيحاء!
هي المطامع أن جاروا وإن عدلوا
…
وليس من آفة الأطماع أبراء
وليس في شرعهم للعدل ناحية
…
وللظلامة. والتطفيف إيخاء
كبيرهم فيه حناث ومغتصب
…
أما الصغير فمعصوب ووفاء!
قد ثار بينهم (محمود) في يده
…
وثيقة من كفاح الشعب غراء
كأنما كل لفظ قام. . . يرسله
…
كبيبة حرة الأبطال شهباء!
نادى بحرية الوادي فانصفها
…
منه جرئ على العادين، أباء
ينازل الخصم أيمانا ومقدرة
…
والخصم داهية في الأرض دهياء
وراح بزار (إسماعيل) مقتتلا
…
كأنه طعنة في الظلم نجلاء
وحوله من صميم الشعب كوكبة
…
حمس، على نوب الأيام أكفاء
إن مال بالرأي ذو ضلع ومختلق
…
فما استلان لهم عزم وإمضاء
والشعب في شرف الأحرار يذكرهم
…
إن عد من حسنوا فيه، ومن ساءوا!
بنى الجنوب، إذا الحرية اختلفت
…
شاراتها فهي تضليل إغواء؟
عدوكم واحد، والقيد مشترك
…
اذن، ففيم اتجاهات وأراء؟
هو الدخيل، فإن تحطم سلاسله
…
فقد تناصر في الوادي الأشقاء
الأمر، ما بينهم شورى ومرحمة
…
كما يشاءون، تخيير وإرضاء
حرية الشعب أيمانا وتضحية
…
وقدرة والتزامات. . . وأعباء
بنى الجنوب، وفي الفاروق معتصم - كأنه قدر. . . بالخير مضاء
نذود عن عرش وادي النيل في شرف
…
فعرشه قمة في شعب عصماء
فاروق كرمة بالعدل فأنفسحت
…
منه ظلال رحيمات وأنداء
في عدوتيْ ملكه شعب يقدسه
…
حباً ويهديه رأى منه وضاء
(باريس)
محي الدين صابر
عضو بعثة فاروق الأول للسودانيين بفرنسا
الأدب والفن في أسبوع
استقبال عضوين بالمجمع اللغوي
احتفل مجمع فؤاد الأول للغة العربية يوم الاثنين الماضي لاستقبال العضوين الجديدين: معالي الأستاذ علي عبد الرزاق والأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني؛ ففي الساعة الحادية عشرة من صباح ذلك اليوم وفد على دار المجمع - عدا أعضائه - جمهور غفير م رجال العلم والأدب وبعض السيدات والآنسات، وبعد أن أفتتح معالي رئيس المجمع جلسة الاستقبال بالترحيب بالعضوين وقف الشيخ عبد الوهاب خلاف عضو المجمع ليقدم الأستاذ علي عبد الرزاق فقال أنه تثقف في الأزهر وتتلمذ على الشيخ محمد عبده الذي كان يبث في تلاميذه إلى الدروس العلمية، روح الحرية في التفكير والإصلاح، وانه كان يتردد على الجامعة المصرية وكان إلى جانب ذلك يجتمع بالأعلام في (ندوة آل عبد الرزاق) فاجتمع له من كل ذلك مزيج من الثقافة والإسلامية والثقافة الحديثة، ثم تحدث عن جهوده في الدراسات الإسلامية والأبحاث الأدبية واللغوية. وقد أفاض الأستاذ خلاف في الحديث عن الإصلاح الديني الذي دعا إليه الشيخ محمد عبده والذي صاحب إنشاء مدرسة القضاء الشرعي ومعهد الإسكندرية، كما أفاض في بعض المسائل الفقهية التي أهتم بها الأستاذ على عبد الرزاق.
ثم نهض الأستاذ على عبد الرزاق فقال أن أول ما يخطر على البال في هذا المقام هو ذكرى سلفه الذي حل في كرسيه وهو المرحوم الدكتور على إبراهيم باشا، ورثاه رثاء موجزا ثم توجه بالثناء إلى المجمع الذي حباه بعضويته، وقال أنه يشعر بالانشراح لرجوعه بذلك إلى مرحلة سعيدة من حياته عقب تخرجه في الأزهر حين أقبل على البحث في اللغة العربية وآدابها إذ تصدى لتدريس علم البيان وآداب العربية في الجامع الأزهر، وقد جذبته الظروف بعد ذلك إلى أنواع من الدراسات، وقال أنه كانت تشغله في تلك المرحلة مشكلات في النحو وفي البلاغة، إذ شعر بان في القواعد التي وضعها علماء النحو شيئا من التكلف جعلها معقدة ومتعسرة، وانه لا يبعد على من يواصل البحث أن يهتدي إلى استنباط قواعد جديدة للنحو الغربي، أما البلاغة فقال أنه وجد علماءها لا يختلفون في أن الغرض الأول من علوم البلاغة إنما هو اكتشاف الوسائل التي بها يستطيع المتكلم أن
يختار الطريقة التي تجعل كلامه فصيحا بليغا أي مطابقا للغرض وحالا في موضعه اللائق به، وذلك هو معنى قولهم في تعريف البلاغة: أنها مطابقة الكلام لمقتضى الحال. ولكنا لاحظنا أن أولئك العلماء قد انصرفوا منذ العصور الأولى إلى البحث عن هذه الوسائل، وتتابعت العصور فإذا مباحثهم قد انتهت إلى أن سر البلاغة قد وقف عند أبواب علم المعاني والبيان والبديع على أما انتهى إليه الجرجاني وما أستحدث بعده من بعض أنواع البديع ومن بعض مباحث أخرى، وكأنهم قد ظنوا أن الكلمة الأخيرة قد قيلت في هذا الفن. وقال أنه لا يشك في أن بلاغة الكلام لا تنحصر أسرارها في تلك الأبواب، وساق شواهد دلل بها على أنهم كانوا كثيرا ما يقفون مبهوتين أمام بلاغتها وروعتها، فيحاولون أن يردوها إلى باب من أبواب البلاغة المعروفة عندهم فلا يستقيم لهم ذلك إلا على ضرب من التعسف والالتواء.
ثم تلاه الأستاذ عباس محمود العقاد، فألقى كلمته في استقبال الأستاذ المازني، قال إني لا أسميها كلمة تقديم فإن المازني مقدم متقدم بأدبه إلى كل مكان تصل إليه لغة الضاد، ولكني أستطيع أن أقول شيئا جديدا فيما يتصل بي وشيئا طريفا فيما يتصل بالمجمع، لان صلة المازني بالمجمع صلة سابقة من جهة أعماله وجهوده وان طرت عليها الطرافة من جهة انتظامه بين أعضائه. ثم تحدث الأستاذ العقاد عن صداقته للأستاذ المازني منذ نيف وثلاثين سنة، ومشاركتهما في الأدب والصحافة والتدريس، ثم عرض للجانب الذي يتصل بالمجمع من أعمال عضوه الجديد، وهو جانب التمكن من اللغة في الترجمة والتعبير، فقال: ولست أغلو - ولا أحجم عن التحدي - إذا قلت أنني لا أعرف فيما عرفت من ترجمات للنظم والنثر، أديبا واحدا يفوق المازني في الترجمة من لغة إلى لغة، ويملك هذه القدرة شعراً كما يملكها نثراً، ويجيد منها اللفظ كما يجيد المعنى والنسق والطلاوة، ومثل لذلك ببعض ما ترجمه المازني من رباعيات الخيام، وعرض العقاد لبعض المباحث التي كتب فيها المازني كالحقيقة والمجاز، والتجديد والتقليد، إلى أن قال: وقد طاب للمازني منذ سنوات أن يدأب على الاستخفاف بعمله وبجدواه، فأنكر على نفسه الشاعرية وأنكر غناء ما يكتب وينظم وقد غالطته أحيانا فقلت له أن هذه البدعة منه ضرب من المكر الحسن، كأنه أراد أن ينزل عن مكانه ليجلسه عليه الناس، ولكنه قال في حصاد الهشيم: (واعلم أنك إذا
أنزلت نفسك دون المنزلة التي تستحقها لم يرفعك الناس إليها، بل أغلب الظن أنهم يدفعونك عما هو دونها أيضا) فالأرجح أنني غالطته وأن حقيقة الأمر أن المازني يستخف بعلمه وبغير عمله أحيانا لأنه يستصغر حياة الإنسان في جانب آماد الخلود ومصائر الأقدار ولأنه يقيس ما عمل بما أراد أن آخرون. وقد هون الخطب على نفسه بسليقة فيه، وهي أنه استطاع أن يقسم (أنانيته) قسمين متلازمين، يسخط أحدهما فيتناوله الأخر بالعبث والتعزية، ويشمخ الشامخ منهما فيغض منه المطمئن والوادع.
ثم وقف الأستاذ المازني فقال أنني أشعر بما يشعر به الواقف على عتبة قصر لا عهد له بمثله فهو يطرقه متهيبا محاذرا ويدخله مترددا متلفتا داعيا ربه في سره أن يستره ولا يفضحه وأن يعينه على أن يبدو لأهل القصر كأنه منهم واليهم في حاجة إلى وقت حتى آلف مجمعكم الموقر.
وقال: أصارحكم باني أشعر أني مظلوم لو كمنت قلتم اخترناك على عيوبك ولنا فيك أمل لقلت قوم أحسنوا الظن وان أسرفوا في الأمل فاستوجبوا مني أن أتحامل على نفسي حتى لا أخيب ظنهم، أما أن أقوم مقام الشيخ أحمد إبراهيم بك، عليه الف رحمة، فهذا هو المحال ثم أثنى على سلفه الشيخ أحمد إبراهيم وعلى جهوده العلمية والأدبية إلى أن قال: ليس يسعني إلا أن أهز رأسي أسفا لأني وضعت في موضع سيظل خاليا وأنا فيه. .
ومما قاله الأستاذ المازني: أن مرحلة التطور الطبيعي السريع للغتنا قد انتهت من زمان طويل بعد أن صارت لها حروف تكتب بها وقواعد مضبوطة وقوالب مقررة وآداب وعلوم، بل سعد أن نزل بها القران الكريم ودون وحفظ، ومتى استقرت قواعدها لغة من اللغات ودونت وصارت لها آداب. وكتبت بها العلوم، فإن من العسير تغيير شئ من قواعد واوضاعها، وقد تختلف طريقة الكتابة والهجاء والنطق وتتسع الألفاظ للتعبير أو تضيق، غير أن طريقة تأليف الكلام على معاني النحو لا تتغير، وكل ما يمكن أن يحدث هو أن يتسع نطاق اللغة أي أن يكثر محصولها اللفظي، ويتوسع الناس في المجاز والاستعارة والاشتقاق تبعا لدرجة الحضارة في الأمة، ومن هنا تنشا الحاجة إلى المجامع اللغوية لتتبع حركة الاتساع ومسايرتها وتزويدها بحاجاتها ومطالبها.
أيهما الحارس؟
أراد الأستاذ المازني أن يصطنع أسلوب التواضع إذ قال أنه يشعر بما يشعر به الواقف على عتبة قصر. . . الخ، ولكني - بغض النظر عن هذا التواضع - أطمئنه وابشره بما سيلقاه في القصر من الدعة والراحة. . ولعله يعلم أن المجمع أستقبل في العام الماضي عشرة أعضاء جدد صار بهم أعضاؤه (العاملون) عشرين مخلدا. . . وقالوا يومذاك أن المجمع في حاجة إلى أولئك العشرة ليستعين بهم على إنجاز أعماله ومواجهة مسئولياته، ولكن هؤلاء العشرة (تجمعوا) واخذوا أماكنهم على تلك الكراسي الفخمة إلى جوار زملائهم القدماء. ثم ماذا فعل الأربعون في العام الأخير وعفا الله عما سلف؟ ولكن عفو الله أوسع من أن يضيق بالعام الأخير وقد وسع ما قبله!
وعلى ذكر (الأربعين) أسوق الحقيقة التالية:
لاحظ الناس أن نشاط المجمع قل بعد وفاة الشيخ أحمد السكندري والشيخ حسين والي، والمطلع على محاضر جلسات المجمع في حياة هذين العضوين يرى أن أكثر المقترحات من عملهما وبقية الأعضاء موافقون. . والمتتبع المحصي لما أنجزه من أعمال منذ نشأته إلى الآن أن أغلبها من عمل ذينك الرجلين، وهما اثنان!
ولا نغض من أقدار الأعضاء الحاليين، فهم أعلام مصر في هذا العصر، ولكن هل المجمع مقبرة لجهودهم في داخله. .! كثيرا ما نسمع من بعض الساخطين: لم هذا المجمع؟ فيقال: أنه حارس على اللغة. ولكن الساخط يعود فيقول: أن هذا (الحارس) ينام ملء جفنية! ولا يبرر وجوده إلا مجرد القول بأنه يحرس اللغة العربية، فليت شعري، أيهما يحرس الأخر. . اللغة أم المجمع؟!
عضوان آخران:
وقد عقد المجمع جلسة خاصة في مكتب الرئيس قبيل جلسة الاستقبال السابقة، للنظر في ترشيح أعضاء ينتخب من بينهم عضوان عن العراق وفلسطين. وقد أعتمد ترشيح أربعة، هم الأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي والأستاذ خليل سكاكيني (من فلسطين) والشيخ محمد رضا الشبيبي والأستاذ محمد بهجت الأثري (من العراق) وقد تقرر أن يجري انتخاب عضوين منهم واحد عن العراق وواحد عن فلسطين في جلسة تعقد يوم الأحد 11 يناير
الحالي.
ترخيص الأهرام:
نشرت الأهرام، وهي في مستهل عامها الرابع والسبعين، نص الصيغة التي كتبت للترخيص بإصدارها سنة 1875، وهو:(رخصت الخارجية لحضرة سليم تقلا باشا بإنشاء مطبعة تسما (بالألف) الأهرام، كائنة بجهة المنشية بإسكندرية، يطبع فيها جريدة تسمى الأهرام تشتمل على التلغرافات والمواد التجارية والعلمية والزراعية والمحلية وكذا بعض كتب كمقامات الحريري التاريخية والحكمة والنوادر وما يماثل ذلك وقد أمرت الخارجية محافظ الإسكندرية بعدم المعارضة للمذكور في إنشاء المطبعة المحكي عنها)
ولا شك أن مقارنة هذا النص الذي كتب منذ نحو ثلاث وسبعين سنة، بما يكتب الآن تقفنا على مدى التقدم الكبير في أسلوب الكتابة وقد أتفق أن قرأت هذا عقب ما كتبته عن محاضرة الدكتور طه حسين بك إلى قال فيها أننا لم نتقدم في حياتنا الأدبية عما يقابل ركوب الحمر في حياتنا المادية وما أطن أحدا يشك في أن المدى بين ما يكتبه الآن الدكتور طه مثلا وبين تلك الكتابة أبعد بكثير مما بين ركوب السيارات والطيارات وبين ركوب الحمر.
ولست أدري لم خص كاتب ذلك الترخيص (مقامات الحريري) كأني به أراد أن يذكر (الأدب) في جملة ما ستطبعه (الأهرام) والكاتب التحرير يسمع أن مقامات الحريري من كتب الأدب، فعبر به عنه. ولكن هل نشرت الأهرام كتاب مقامات الحريري. .؟ لعلها لم تنشر عنه شيئا فيما مضى من عمرها المبارك.
الزهراء:
كنت قد قرأت في العدد (755) من الرسالة ما كتبه الأستاذ حبيب الزحلاوي في مسرحية (الناصر) وقد استرعى انتباهي منه قوله في صدد نقده للمسرحية من حيث ضعف الجانب العربي فيها وغلبة الشخصيات العربية سوى الزهراء زوج الناصر).
ولم تكن الزهراء زوج الناصر، ولا في أصل التاريخ ولا في المسرحية بل كانت جاريته، وهي بحكم هذا ليست من الشخصيات العربية.
وإذن يستطيع الأستاذ الزحلاوي أن يقول: لم يسلم من الضعف أحد من الشخصيات العربية في المسرحية. . .
(العباسي)
الكتب
الفلسفة القرآنية
تأليف الأستاذ عباس محمود العقاد
حين قرأت كتاب (الله) للأستاذ العقاد، وقفت طويلا عند بحثه براهين وجود الله وبخاصة عند الأدلة القرآنية؛ وذلك إذ أني رأيت العقاد في أصالته وضلاعته وسعة أفقه قد أجاد أيما إجادة إذ تناول هذا الجانب القرآني، وتمنيت يومئذ لو تناول العقاد حقيقة بهذا الكتاب الذي أقدمه للقارئ في غبطة عظيمة.
هو (كتاب عن مباحث الفلسفة الروحية والاجتماعية التي وردت موضوعاتها في آيات الكتاب الكريم) كما يطالعك بذلك عنوانه، وقد أراد الأستاذ المؤلف أن يبرهن فيه (على صلاح العقيدة الإسلامية أو الفلسفة القرآنية لحياة الجماعات البشرية) وأن الجماعات التي تدين بها تستمد منها حاجتها من الدين الذي لا غنى عنه، ثم لا تفوتها منها حاجتها إلى العلم والحضارة، ولا استعدادها لمجارات الزمن حيثما أتجه بها مجراه).
وفي رأي الأستاذ العقاد (أن القرآن الكريم يشتمل على مباحث فلسفية في جملة المسائل التي عالجها الفلاسفة من قديم الزمن وأن هذه الفلسفة القرآنية تغنى الجماعة الإسلامية في باب الاعتقاد ولا تصدها عن سبيل المعرفة والتقدم هي لذلك تحقق ضرورة حرية الفكر وحرية الضمير وليس للعلماء ولا للفلاسفة أن يطلبوا من الدين غير هذا).
بهذا الرأي الروح كتب المؤلف كتابه، وقد أحكم تبويبه لأن موضوعه كله كان قائما في ذهنه جملة قبل أن يسرد تفصيله، لذلك لم يدع شيئا (من جملة المسائل التي عالجها الفلاسفة من قديم الزمن) فبعد أن مهد للبحث بفصلين ممتعين بين في أولهما نظرة القرآن العلم وأورد الآيات التي تدل على أنه (يحث على التفكير ولا يتضمن حكما من الأحكام يشل حركة العقل في تفكيره أو يحول بينه وبين الاستزادة من العلوم ما استطاع حيثما استطاع. كما لم يكفل كتاب من كتب الأديان) وبين في الثاني (إن الحوادث كبيرها وصغيرها لا يمكن أن تحدث إلا بأمر الخلق المباشر من إرادة الله) أقول بعد ذلك تناول المجتمع بما فيه من الأسرة وشئونها والمرأة ومركزها والطبقات والحكم والأخلاق، ثم تناول العلاقات الدولية، ثم تجاوز الأرض وما عليها إلى البحث في الإله الخالق وتعرض
لمسالة الروح والقدر والعبادات ثم أختتم هذا البحث الجليل القدر بفصل في التصوف وآخر في الحياة الآخرة.
وبعد، فهذا كتاب يجب أن تقراه لتعرف مبلغه من الأهمية ومكانته بين ما آلف في الفلسفة الإسلامية، فما يغنى كلام مهما طال في التعريف به، ولا نقد مهما استفاض عن فصل واحد منه وقصارنا أن نتقدم بالتحية للأستاذ الجليل الذي أسدى إلى الفكر الشرقي بكتابه (الله) وإلى الدين الإسلامي بكتابه هذا (الفلسفة القرآنية) صنيعين لا يقدم مثلهما إلا الأفذاذ؛ وللمكتبة العربية أن تعتز بأمثال هذين البحثين الذين ينفيان عنا تهمة التقصير.
وحسب المسلم أن يخرج من هذا الكتاب الذي أحدثه عنه، وفي نفسه أنه (في هذا العصر الذي تتصارع فيه معاني الحياة بين الإيمان والتعطيل وبين الروح والمادة، وبين الأمل والقنوط، تلوذ الجماعات الإسلامية بعقيدتها المثلى ولا تخطئ الملاذ، لأنها عقيدة تعطيها كل ما يعطيه الدين من خير، ولا تحرمها شيئا من خيرات العلم والحضارة) وهذا ما بينه الأستاذ الجليل أحسن بيان في هذا الكتاب.
الخفيف
أنات غريب
تأليف الأستاذ حبيب الزحلاوي
شاءت صحيفة يومية أن تعرف كتاب (أنات غريب) فقالت أن مؤلفه الأستاذ حبيب الزحلاوي أودعه حنينه إلى وطنه وأشواقه إلى مغانيه ودياره، وهذا طبعا ما يوحيه عنوان الكتاب وقد تساءلت بعد أن طالعت الأقاصيص التي يتألف منها، ما معنى هذه التسمية، لأن العادة قد جرت أن تطلق على مجموعات الأقاصيص عنوان أولها، أو أبرزها، أو عدد القصص التي تتألف منها المجموعة. ولكني شئت أن أتلمس أسباب إطلاق عنوان (أنات غريب) على مجموعة قصص تجري حوادث أكثرها بمصر، والقليل منها ما ينتقل بالقارئ إلى غير مصر من بلاد الله، وخاصة سورية ولبنان، فهل يجب أن نرى في العنوان تلميحا مجازيا إلى أن المؤلف غريب بروحه عن هذا المجتمع الذي يعيش فيه، فهي أنات نفس معذبة كابدت إلا ما تتردد فيها (وجيعة مهذبة).
ولعل القارئ أن يتبرم بهذا الإلحاح في البحث عن تفسير لعنوان شاء مؤلف أن يتوج به كتابه، وأن يجد في هذا البحث إرهاقاً له وللمؤلف. . .
ولكنني في بعض الأحيان أتعلق بأمور صغيرة أسمى للكشف عما يقصد بها، في حين تفوتني أموركثيرة، أهم منها خطرا فلا أحاول فهم أغراضها.
وبعد، فإن قراء العربية يعرفون الأستاذ حبيب الزحلاوي قاضيا له طريقته في تأليف الأقاصيص، وأسلوبه في سرد الحواث، ومذهبه في وصف الشخصيات وتحليلها، وأغراضه الاجتماعية التي يرمى إليها في أكثر القصص التي يكتبها. واذكر أني قلت كل الخير الذي أعتقده في أدب الأستاذ الزحلاوي القصصي عندما نشر المجموعة الأولى من أقاصيصه بعنوان (شعاب قلب).
تلك الطريقة نفسها في سرد وشرح البواعث التي دفعت بأبطال الأقصوصة إلى إتيانها، والتوسل بهذا الشرح لتحليل نفسية بطل القصة. كل هذا في حبكة قوية، وربطة محكمة واسترسال قد يتعدى في بعض الأحيان حد الأقصوصة. ولا تخلوا أقاصيص الأستاذ الزحلاوي من وصف لحياة المجتمع أو نقد لبعض عاداته، وتستطيع أن تقرا أية واحدة من هذه الأقاصيص التي تتألف منها هذه المجموعة فانك واجد فيها غرضا اجتماعيا بارزا فهذه أقصوصة (لقيط) يصور فيها سريا متزوجا خفية عن أهله بفتاة يونانية أنجبت له غلاما، ولكنها عندما كانت بالمستشفى تضع أبنها، عرفت أنه تزوج بفتاة مصرية، وانقطع من زوجته الأولى، فاضطرت إلى العودة إلى أهلها، بعد أن أودعت أبنها أحد ملاجئ أبناء السبيل.
وكذلك نجد مثل هذه الأغراض في أقاصيص (بكارة) و (غاية المرأة) و (الغريق) و (يتيم) وفي أكثر هذه الأغراض نجده.
والأستاذ الزحلاوي في أكثر هذه الأغراض التي يتوخاها، ينحي ناحية إنسانية في عاطفة سليمة وإحساس مستقيم. ويجب أن نخص بالإشارة أقصوصة (ذكريات) التي وصف فيها بعض أبطال الثورة السورية الأولى، وقد اجتمعوا بالقاهرة، واخذوا يستعيدون ذكريات بطولتهم الماضية، وما تعرضوا له من أخطار.
ولا يقف أدب الأستاذ حبيب الزحلاوي عند التأليف القصصي، فإنه نقادة أدبي، ولعل النقد
الأدبي كان أول ما عالجه من فنون الأدب، إذ تقدم كتابه (أدباء معاصرون) غيره من الكتب. وقد ظهر ميله إلى النقد في أقصوصة (الدميم) لأنه عرض فيها للحبكة والعرض، والفكرة، والوحدة، وذكر أنه (ليست قيمة القصة في المادة التي تتألف منها، ولا في كيفية ترتيب تلك المادة، بل قيمتها في الكيفية التي تؤدي بها وفي عرضها عرضا خاصا بمهارة فنية، بالتشويق والترغيب وفي صدق الرواية عن الحياة. . .).
وقد أضطر لبيان ذلك، إلى حشر أقصوصتين في أقصوصة واحدة، وهما لا رابط بينهما غير فكرة العرض بمهارة وبغير مهارة! وهي حبكة واهية ضعيفة تخرج بالأقصوصة عن جوها الضيق المحدود، ناهيك عن أنها وسيلة مفتعلة لبيان فضل الأقصوصة الثانية عن الأولى.
تناول الأستاذ حبيب الزحلاوي النقد الأدبي في شئ من الجراة وكثير من العنف، مما جعل له خصومات أدبيه قديمة وحديثة كانت إحداها مع أديب له مقامه المرموق في عالم البحث والأدب والشعر، والتجديد الذي يحلوله هذا الأديب الفاضل لا يروق الأستاذ الزحلاوي، وهو حر في راية وكنت أعتقد أن هذه الخصومة تقف عند حد النقد الأدبي ولا تتعداه إلى التعريض في إحدى القصص بذلك الأديب والحق أني كنت أجل صديقي الأستاذ الزحلاوي عن أن يستعمل مثل هذه الوسيلة لينال من أديب نابه لا يرضى هو عن أدبه. . .
ولعلني لعدت بهذا الاستطراد عن جو الأقاصيص التي ضمها كتاب (انات غريب) وهو جو خليق بان يتدبره القارئ وإذا كان من الخطا الشائع أن القصص تطالع لتزجية الوقت فلأن أقاصيص (انات غريب) قديرة على أن تساهم في تبديد هذا الخطا لأنها تجمع بين المتعة والفائدة وتثير مسائل اجتماعية جديرة بان يتناولها الناس بالتفكير والتدبير. وقيمة الكتاب من الناحيتين الأدبية والاجتماعية. حرية بان تلفت اليها أنظار القراء، تمنيه بالثناء والإطراء
(الإسكندرية)
صديق شيبوب
على الأثير
تأليف الأستاذ عباس محمود العقاد
(كان يقال: كلام ذاهب في الهواء ليقال أنه كلام لا يبلغ الآذان وأنه من باب أولى لا يسلك سبيله إلى الهواء في زماننا هذا أكثر وايسر من كل كلام يتلقاه الناس على صفحة القرطاس). . .
عباس محمود العقاد
على الأثير
أحاديث مختلفة نضدها العقاد في كتاب واحد وهي تختلف في الألوان ولكنها تتحد في عمق الفكرة وصدق المنطق وفي أنها كلمات ألقيت عبر الأثير لتنساب إلى الآذان وتبلغ الناس رسالة فكرية تحل مشكلاتهم في أيسر سبيل.
تقلب صفحات الكتاب فتلمس علاجا لمشاكل الثقافة والاجتماع والتاريخ والوجود والنفس، وتلمح بعض المناسبات التي يتحدث فيها المسلمون بعضهم إلى بعض حديثا تدعو إليه صلات الرحم وهذا الود الكريم الذي يؤلف بين القلوب ويوجد بين النفوس ويجعل الحياة إخاء ومودة ورحمة.
ارأيت إلى حديثه عن قادة ثلاثة من قادة الشرق واعني بهم الحكيم جمال الدين الأفغاني والشيخ الإمام محمد عبده والزعيم الخالد سعد زغلول؟ ولو قدر لك الاستماع إلى هذا الحديث أو قراءته خلال صفحات الكتاب لوجد أن النقاد تسال عن مكانة الأستاذ الإمام بين زميليه العظيمين اللذين يذكران معه كلما ذكر. والرأي عند العقاد أن القيمة الحقيقية لكل منهم تختلف في التحديد فقد كان محمد عبده مصلحاً دينياً وجمال الدين داعيا عظيما، وسعد زغلول زعيماً خالداً، فهم أذن يتفقون في بعض خصال وبعض مشارب، ويختلفون في أساس الاستعداد.
وأنت ملاق في كتابه نوعا جديدا من فلسفة الوجود، صيغت قي مقال صائغ مشرق الديباجة رصين الأسلوب وهذا في مقال له دعاه (طفولة الإنسانية) يقول فيه: (ما دام الإنسان يريد الخير فهو ينشده ويبذل فيه ثمنه وإن غلا؛ وهو أذن رجل الروح والأخلاق. وما دام
الإنسان يراد على الخير فهو لا ينشده إلا إذا عرف الجزاء عليه وهو أذن طفل الروح والأخلاق وإن جاوز السبعين والثمانين).
ولا شك أن هذه فكرة بنى عليها الوجود. وحل سائغ لهذا البناء.
ولننتقل الآن إلى النفس، وهل هناك أقدر من العقاد على الكتابة عن النفس.
أنه يقول عن الأزمات النفيسة التي تعصف بنفوس الأفراد، وتطيح بهناء المجموع، وتزلزل كيان الدول:(الأزمات النفسية سببها الحيرة وصعوبة الاتجاه في طريق دون طريق وعلاجها هو اليقين والإيمان). . .
وهو جد حريص يحتاط لما قد يقال، بل يسرف في الإحاطة فيزعم نفسه ناقدا ويتخيل ما قد يلقى من أسئلة وما قد يثار من نقد. فهو يقول أن هذا الحل ليس من اليسر بمكان بل أن فيه صعوبة شديدة، فلن تستطيع أمة أن تعتنق الإيمان وتثير في نفسها الطمأنينة وتمضي إلى حيث الأمن والدعة بل أن هذا يحتاج إلى أجيال متعاقبة توحي إلى نفسها الثقة والاستقرار. . ولكني أقترح على أستاذنا الجليل أن يقدم كتابا تدبجه براعته يبحث في هذه المشكلة، وإن كتابا كهذا، لا يحتاج إليه الشرقي وحده، بل العالم بأسره.
ولننتقل الآن إلى غصن رطيب أخر مما تحفل له الدوحة ذات الأرج العطر والعبير الفواح. .
أنه لحديث عن اجتماع، أو الإصلاح الاجتماعي بالتحديد؟ والإصلاح الاجتماعي في هذا البلد كلمات ذات جرس موسيقي ولكنها كلمات فقط، لا تذهب عن هذا في كثير أو قليل.
وما دمنا بصدد الكلمات، فلنلمس رأي العقاد فيما يقول، فنجد خلاصة حديثه ينتهي بنا إلى نتيجتين لا تضيع في تحصيلهما الدقائق المعدودات، أولى النتيجتين أن الناس يستسهلون الإصلاح بالمنع والتحريم ولا يفكرون كثيرا في الإصلاح بالعمل والإنشاء، أما النتيجة الثانية فهي أدعى إلى التسلية والراحة لأنها تخفف عنا شيئا من أعباء الحياة، وينتهي من هذا أن مذاهب الإصلاح كورقة اليانصيب الخيري، أن أصابت فهي ثروة وإن أخطأت فهي إحسان.
وكلامه هذا يعيد إلينا صورة من حياتنا النيابية، ومن تلك المشاريع الضخام التي تروح في سبات عميق بين الملفات والقرارات. ومن تلك الخطب المسماة خطاب العرش التي تقول
وتقول وتقول. . . حتى إذا قذف السهم بالوزارة وأطاح بالكرسي المقدس ورحنا نلتمس مخلفات العهد فلا نجد إلا الأقوال والأقوال والأقوال. . .
وهذا غصن أخر، فيه فكرة وفيه منطق وفيه نفاثات من هذا العقل الكبير.
تراه يحدثك عن معنى الثقافة، فيبدو اللفظ رأسك ويتخذ له مئات من المدلولات وعشرات من الإشعاعات والظلال والأضواء.
وهل كانت للثقافة معان توضحها. . . وهل كانت للثقافة ثقافة أخرى تشرحها.
أن العقاد يبتسم. . وأظنه يعرف أن النقاد سيقولون هذا القول ويأخذون عليه هذا المأخذ. . وانه لقائل في معنى الثقافة أنها تنقسم إلى ثلاثة عناوين. مطالب الحس ومطالب الحركة ومطالب التفكير.
وينتهي من حدثه بخلاصة توضحها كما تعودنا أن نجد في هذه الأحاديث. فنجده يقول:
(وصفوة القول أن الثقافة هي استحياء عناصر الحياة جميعها ولكننا نستحييها بالمجهود الذي يلائمها فلا نزيد في بذله عن القصد النافع والقدر الصالح ولا تنسى الفوارق بين الملكات في تقدير هذا المجهود. .).
هذه صورة سريعة من هذا السفر الحافل، قد تعطيك فكرة عن الكتاب ولكنها لا تعطيك كل ما تريد أن تعرفه فما في مقال كهذا يمكنني أن أعطيك ما تشاء من فكرة وصورة وآراء.
صبحي شفيق
البريد الأدبي
الأحمدون الثلاثة: المتنبي، المعري، شوقي:
- قال: يقول الدكتور زكي مبارك: شوقي أعظم من المتنبي
- قال: الدكتور زكي مبارك (يعطى ويمنع لا يخلا ولا كرم) قال: شوقي يقول:
ولي درر الأخلاق في المدح والهوى
…
وللمتنبي درة وحصاة
وجاء في الشرح: يريد أن للمتنبي الجيد والردى من الشعر أما هو فله الجيد دائما.
قال: هل قال ذلك في شبابه، (إن الشباب جنون برؤه الكبر)
- قال لذي الرئاسيتين العلامة الدكتور محمد حسين هيكل باشا وقت المهرجان في أثناء الحديث عن الشعر والشعراء: شوقي بعد المتنبي.
قال: شوقي بعد أبي العلاء.
قال: إذا نزعت (غير مجد) من (سقط الزند) فشوقي بعد المتنبي
قال: لا أحذفها، كيف أحذفها؟ لم أحذفها؟
- قال: لا حول ولا قوة إلا بالله! شوقي أذن بعد أبي العلاء
إن الأحامد في القريض ثلاثة:
أحمد الأول (أبو الطيب أحمد بن الحسين المتنبي)
أحمد الثاني (أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان المعري)
أحمد الثالث (أبو على أحمد شوقي المصري).
ذلكم (قول الحق الذي فيه يمترون) واذكر في الكتاب مع الأحمدين حبيبا، والوليد، وعلي بن العباس، ومحمد بن هاني، وتمثل بقول أحمد الأول:
كُتبت في صحائف المجد بِسمُ
…
ثم قيس وبعد قيس السلام
الألفاظ الاصطلاحية في النجوم الزاهرة:
تفضل الصديق الكريم الأستاذ محمد عبد الغني حسن فأبدى دهشته لورود كلمة (كريمة) بمعنى الأخت في سياق عبارة لصاحب النجوم الزاهرة معتقدا أن الكريمة هي البنت كما هو متعارف اليوم. . .
والحقيقة أن الكريمة بمعنى الابنة والمخدوم للولد الذكر من اصطلاح الترك وأخذه العامة
عنهم فقالوا: كريمة فلان أي أبنته، وقالوا للولد الذكر مخدوم الخ. .
والكريمة في اللغة كل شئ يكرم عليك فهو كريمك وكريمتك كما في اللسان مادة كرم ج 15 ص 416. والكريمة الأهل وقيل شقيقة الرجل كما في المستدرك على شرح القاموس ص44 من الجزء التاسع. . .
ولما كان صاحب النجوم الزاهرة تركي الأصل فقد جمع بين العامي والفصيح معا فسمى أخواته جميعا كريمات شقيقات وغير شقيقات في كتابه المنهل الصافي والمستوفي بعد والوافي. . . ذكر أخته عائشة في ترجمة زوجها الاتا بك أقبغا التمرازي الذي مات عنا بقوله: وقد سالت كريمتي زوجته الخ أنظر المنهل الصافي ج1 صر234. وذكر أخته فاطمة في ترجمة أبيه تغربي بردي فقال: وكان الناصر فرج قد عقد عقدة على أبنته أختي فاطمة الخ. أنظر المنهل الصافي ج1ص393. وذكر فاطمة في ترجمة أينال النوروزي أمير سلاح فقال: وتزوج بكريمتي بعد موت زوجها الملك ناصر الخ أنظر المنهل ج1 ص295. وذكر أخته هاجر وهي شقيقة الوحيدة من أمه وأبيه في ج1 ص 395. فقال عنها في ترجمة أبيه أيضا: ولدت سنة 807هـ وتزوجت قاضي القضاة جلال الدين عبد الرحمن البلقيني ومات عنها إلى أن قال: توفيت سنة 846 هـ وهي التي عبر عنها بكريمتي في الموضع الذي أثار استغراب الأستاذ عبد الغني في النجوم الزاهرة.
وبعد فهذا التعبير عبر به كثير من المؤرخين كصاحب الأعشى في ج6 ص 171 في كتاب لأخت الملك الناصر حسن كما عبر به السخاوي وابن العماد في المواضع التي أشار إليها الأستاذ في كلمته، وكذلك قطب الدين في تاريخ البلد الحرام وغيرهم من اللغويين والكتاب. .
ولعل الصديق الكريم يكون قد عرف موضع الصواب في استعمال هذا اللفظ الاصطلاحي والسلام.
أحمد لطفي السيد
مصحح النجوم الزاهرة
إلى طلاب التوجيهية
سننشر ابتداء من العدد المقبل فصولاً شارحة لما قرر في مسابقة الفلسفة على طلاب السنة التوجيهية للأستاذ كمال دسوقي المدرس بمدرسة المنصورة الثانوية، فنلفت أنظارها إليه.
القصص
فينوس برانيزا
للكاتب الفرنسي جي دي موباسان
بقلم الأستاذ مناور عويس
لم يكن أحد في (برانيزا) كلها يجهل ذلك التلمودي. ولم يكن مرد تلك الشهرة الواسعة إلى حكمته وخوفه الله فحسب. بل كان لجمال امرأته نصيب كبير في تلك الشهرة إذ كانوا يلقبونها (فينوس برانيزا) وقد نالت هذا اللقب عن جدارة واستحقاق، فهي فضلا عن جمالها الباهر زوجة بحاثة في التلمود.
وزوجات الفلاسفة اليهود غالبا ما يكن دميمات أو ذوات عاهات جسدية. وكتاب التلمود يشرح تلك الظاهرة ويفسرها بما يأتي: (إن عقود الزواج تعقد في السماء، وحين ولادة مولود جديد يعلن صوت سماوي أسم زوجة ذلك المولود - أي زوجة المستقبل؛ وكما أن الأب الطيب يدع أدوات منزله الثمينة ولا يستعمل إلا الأدوات القديمة مع أولاده، فهكذا ينعم الله على الرجال التلمود بنساء لم يأبه لهن الرجال الآخرون!
ولعل الله أراد أن يبدل من هذه القاعدة ويخفف من وطاتها، ليثبتها، فاختار لصاحبنا التلمودي (فينوسا) فيها من الجمال ما يزيد في فخر العروس ويرفع من قيمة تمثال قائم على قاعدة في متحف. . . . كانت طويلة القامة، ممشوقة القد، جذابة الملامح، يقوم على كتفيها راس بديع رائع، وتتدلى على ظهرها ضفيرتان نجلاوان. . . ويداها. . كأنهما قطعتان من العاج!. .
وكأنما خلقت لتكون ذات سلطان لها رعاياها وعبيدها يسجدون عند قديمها، أو لتشغل ريشة فنان أو لتحرك قلم شاعر!.
لكنها عاشت عيشة زهرة جميلة نادرة في بيت خانق حار.
زد على ذلك أنها كانت تجلس معظم نهارها ملتحفة فروها الثمين تراقب الشارع من نافذتها.
لم يكن هنالك أبناء. . . . وكان زوجها الفيلسوف يجلس مصليا أو مطالعا من الصباح
المبكر حتى منتصف الليل ولم تكن معبودته سوى (الجمال المقنع) كما يسميها كتاب التلمود.
ولم تكن تعبا بشؤون المنزل هي غنية، وكان النظام سائدا مستتبا كنظام الساعة التي تديرها مرة كل أسبوع. لم يزرها أحد ولم تخرج لزيارة أحد. . . وكانت تجلس تفكر وكأنها تحلم. وكثيرا ما كانت تتثاءب!.
وهبة على المدينة ذات يوم عاصفة هوجاء وقصف الرعد وكأنه يلهب المدينة بسياط. أوى اليهود إلى منازلهم وفتحوا النوافذ ليستقبلوا مسيحهم الموعود!
وكانت فينوس اليهودية جالسة على كرسيها المريح لابسة فروها ترتجف، وفجأة صوبت عينيها المتوهجتين نحو زوجها الجالس أمام كتابه وهو يتأرجح!
سألته قائلة: أخبرني متى يأتي المسيح أبن داود؟
فأجابها: سيأتي عندما يصبح اليهود كلهم صالحين أو طالحين، هذا ما يقوله التلمود.
- وهل تصدق أن اليهود يمكنهم أن يكونوا صالحين؟
- وكيف يمكنني أن أصدق هذا؟
- إذن سيأتي المسيح عندما يصبح اليهود كلهم طالحين. وهز الفيلسوف كتفيه وتابع القراءة في كتاب التلمود، ذلك الكتاب الذي لم يخرج من قراءته رجل صحيح العقل خلا رجلا واحداً!
وظلت المرأة الجميلة تنظر إلى قطرات المطر المنهمر بعينين حالمتين وهي تعبث بثوبها الأسود بأسنانها البيضاء.
وفي أحد الأيام غادر الفيلسوف اليهودي بيته إلى مدينة مجاورة، إذ كان عليه أن يفصل في مسالة دينية. ونظرا لعلمه الواسع فقد حلت المشكلة بأسرع مما كان يتوقع. . وعاد مع صديق له أقل منه علما! عاد في نفس اليوم بدلا من أن يعود في اليوم التالي كما كان مقررا.
ترك العربة عند بيت صديقه وتوجه إلى بيته سيرا على الأقدام. لك يفاجأ حين شاهد نوافذ منزله مضاءة أو عندما رأى خادما لضابط يدخن غليونه ببساطة أمام منزله. تقدم إلى الخادم وسأله بادب، وبشئ من الفضول: ماذا تصنع هنا؟ أقوم بالحراسة لئلا يأتي زوج
اليهودية الحسناء على غير انتظار.
- حقا!. حسنا! أنتبه وراقب جيدا.
قال هذا وتظاهر بالذهاب، لكنه ولج البيت من مدخل خلفي. دخل الغرفة الأولى ورأى مائدة معدة لشخصين، ولاحظ أن صاحبيها تركاها قبل لحظات، وكانت زوجته تجلس كعادتها متدثرة بفروها وكانت وجنتاها محمرتين مريبتين ولم تكن عيناها متعبتين ناعستين بل كانتا تحملقان بزوجها وفيهما ترتسم علائم السخرية والرضا وفجأة عثرت قدم الفيلسوف بشيء على الأرض أحدث صوتا غريبا فانتفض وكان الذي عثر به مهمازا.
- من كان معك؟
وهزت اليهودية كتفيها لم تجب
- أأخبرك؟ كان عندك قائد فرقة الخيالة
- لم لا يكون معي؟
- أخرجت يا امرأة عن صوابك؟
- ما زلت مالكة لكل صوابي، وارتسمت ابتسامة على شفتيها الساخرتين وقالت. ولكني أليس على أن أقوم بدوري كيما يأتي المسيح فيخلصنا نحن اليهود المساكين.
مناور عويس