الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 759
- بتاريخ: 19 - 01 - 1948
عقدة منحلة!
للأستاذ عباس محمود العقاد
في رأي الأستاذ نقولا الحداد أن فيثاغورس لم يكن إلا مخرفا سخيفا حين قال أن الكون عدد ونغم!
وقد كان فيثاغورس يقول ذلك يوم كانت المادة عند الأقدمين جسما محسوسا أو كتلة كثيفة، لم يكن معروفا من تقسيم العناصر وقوانين الحركة شئ مما يعرفه العلماء الآن.
ثم عرفت العناصر، وعرف إنها كلها تركيبات من الكهارب وإنها تختلف بينها باختلاف أعداد الكهارب حول نواة كل عنصر، وأن الكهارب نفسها إذا ردت إلى الإشعاع فهي عدد من الذبذبات، كلما ميزتها بغير العدد جسما أو قوة أو طاقة عدت إلى العدد، والتناسب بينه، من جديد. . لأن أخر الأمر في القوة إنها حركة وأخر المر في الحركة إنها عدد من الذبذبات.
لا جرم نرى أناسا من اكبر أقطاب العلوم الطبيعية في هذا العصر، أن لم يكونوا أكبرهم جميعاً - أمثال مليكان وادنجتون وجينز أن الطبيعة حساب وياضة، ويتحدث جمينو خاصة عن (الله الرياضي) لأن قوانين الطبيعة مسائل ومعادلات.
فإذا كان الأستاذ نقولا الحداد لا يسخو على المسكين فيثاغورس بأكثر من صفحة التخريف والسخافة فليس معنى ذلك أن فيثاغورس المسكين مخرف سخيف فيما قال عن العدد والنغم، وإنما معناه إن الأستاذ نقولا الحداد لم يرزق بداهة فلسفية كبداهته، ولم يرزق نظرة علمية إلى ما وراء الظواهر كالنظرة التي نؤثرها أمثال جينز وادنجتون ومليكان.
ولو أن الأستاذ نقولا الحداد رزق تلك البداهة لا نحني إجلالا لتلك العبقرية التي نفذت من وراء الكثافة المادية، ومن وراء العصور المتطاولة، إلى حقيقة مجردة يسمعها الأستاذ ولا يفقهها وهو يعيش في عصر (العدد) الذي يصحب الوجود من أمواج الكهرباء والمغناطيس، إلى أجزاء العناصر ونسب الكهارب وجملة ما في الوجود بين الأرض والسماء.
والفرق بين تحية الإجلال الواجبة، وبين تهمة السخافة الجائرة، هو الفرق بين التقدير الصحيح والتقدير الخاطئ في أمثال هذه الأمور.
على أن هذا التقدير الخاطئ قد تجلى في هالة المع من هذه الهالة حين تصدى الأستاذ
لموضوع كتابنا عن (الله) وتناول مشكلة العقل فقال عنها في فصل من عدد المقتطف الأخير:
(إذ صرفنا النظر عن ذاتية العقل وحسبنا العقل عملا من أعمال خلايا الدماغ - الصنوبرية أو غير الصنوبرية - أو هو أهموظيفة لهذه الخلايا بل هو وظيفتها الرئيسة في الأقنوم الإنساني، انحلت العقدة حالا).
وهذه هي العقدة التي حلها الأستاذ حالا. . . . وبمثل هذه السرعة يستطيع ولا شك أن يحل كل عقدة من العقد بغير كثير أو قليل من العناء.
فأما أن يكون في هذا الوجود شئ عجيب أو ليس فيه شئ عجيب على الإطلاق، لأن وجوده فيه ينفي عنه العجب ويغنيه عن التعليل.
فإن لم يكن فيه شئ عجيب فقد انتهينا وانحلت العقدة حالا، بل لم توجد العقدة حتى تحتاج إلى حلول.
وإن كان فيه شئ عجيب فأي شئ هو هذا الذي يمكن أن يوصف بالعجب من ظهور الحياة في المادة، فضلا عن ظهور العقل وهو اعجب من الحياة!
كيف كسبت الخلية الحية خصائص الحياة؟ كيف انقسمت لتحفظ نوعها! كيف تطور هذا الانقسام إلى ذكورة بسيطة وأنوثة بسيطة؟ كيف تجمعت هذه الخلايا في أجساد تختلف فيما بينها اختلاف الأنواع والأجناس؟ كيف نمت هذه الأجساد وارتقت فارتفعت طباقا فوق طباق؟ كيف أصبحت كل خلية توافق كل خلية غيرها في البنية على العمل المشترك بين جميع الاعضاء؟ كيف بلغت مبلغ الإنسان وظهر فيها عقل الإنسان كيف اتفق هذا التطور في اتجاه واحد إلى هذا الاستعداد لظهور الحياة واستمرار أجيال الأحياء ثم ظهور التفكير في أرقى الأحياء؟.
أهو تدبير أم مصادفة عمياء؟
أن كان تدبيرا فهذا هو العقل الذي ينكروا الأستاذ! وإن كان مصادفة عمياء فان هو العقل الذي يستريح عندما يقال له: لا تعجب ولا تستفسر فإن العقدة منحلة لا تحتاج إلى إيضاح، وهل بعد المصادفة العمياء من حل تتطلع إليه العقول؟.
وهذا العقل نفسه كيف يقال انه عنصر محدود في الكون بعقل الإنسان دون سواه؟.
ما هو الكون ولا سيما الكون فينظر الماديين؟.
إنه ليس بإقليم من الأقاليم أو قطر من الأقطار فيقال أن العقل من حاصلات هذا الإقليم دون ذلك الإقليم، أو مزروعات هذا القطر دون ذلك القطر!
كلا. بل هو كل ما كان وما يكون من غير بداية وإلى نهاية. . فكيف يستريح العقل حين يقال له أن عنصر العقل في الكون كله أن هو إلا فتلة من فلتات المصادفة وجد على سبيل الاتفاق بعد وجود الإنسان؟.
كيف نحل مشكلة العقل المجرد الذي عرف الحقائق الرياضية تامة ولا يزال (العقل التجريبي) يتخبط في علوم الحس والمشاهدة؟.
كيف نحل مشكلة العقل الذي يعظم كما تعظم العبقرية بالاختلال في البنية لا بالاستواء المعهود في التكوين؟
كيف نحل مشكلة العقل الذي ينتقل بغير الوسائل المادية والصور المحسوسة من واعية إلى واعية ومن دماغ إلى دماغ؟.
إنك لا تستطيع أن تقول أن (المكنات) الكهربائية هي التي أوجدت الكهرباء في العالم. فكيف تقول أن الدماغ البشرى هو الذي أوجد الفكر في الكون كله بعد أن لم يكن له وجود؟.
وليس لك أن تزعم انك قد عرفت الكهرباء بعد أن عرفت المكنات، لأنك لا تعرف عن الكهرباء اكثر من فروض وتخمينات.
تزعم حينا إنها أمواج فلماذا تتموج ولا تستقيم؟.
تقول إنها في بحر من الأثير فما هو الأثير إلا انه فرض مزعوم؟.
تقيس سرعة النور فلماذا تجده بهذه السرعة وبماذا تعلل أنه لا ينقص أو يزيد؟.
تتكلم عن اتجاه النور فإلى أين ينتهي بعد هذا الاتجاه؟ أيقف فما الذي يقفه؟ ايسري إلى غير نهاية فأين هي مقاومة الأثير المزعوم؟
تعود إذن إلى الأثير لتطلق عليه أوصافاً لا دليل لها ولا يزال تصديق كل وصف للإله أهون من تصديقها.
هو جسم وليست له صفة واحدة من صفات الأجسام فان لم يكون كذلك فهو عدم تفسر به
جميع الموجودات!!.
وهكذا ترى أن المشكلة لم تنحل في شان المكنة التي تقتبس منها الضوء، وتستمع منها إلى أصوات الإذاعة، وتسميها بما شئت من الأسماء، وتعللها بما شئت من أمواج أو غير أمواج، وكهرباء أو غير كهرباء.
فكيف تنحل مشكلة العقل بكلمة واحدة: هي انه موجود ولا وجود له في غير الدماغ؟
ولا في الدماغ إذن يا أستاذ سامحك الله!!.
إن السلوكيين أصحاب القول بالعقل الدماغي لا يحسبون مسالة التفكير بهذه البساطة التي تنحل حالا على هذا المنوال، لأنهم يسلمون إنها (مشكلة) ثم يحاولون أن يفسروها فيخيل إليهم انهم قد فسروها بقولهم أن التفكير مستمد من الكلام.
وفيثاغورس سخيف عندك يا أستاذ.
فأعطنا الحق الذي سمحت به لنفسك لتقول على حق أن هؤلاء السلوكيين سخفاء. . .
فالمعقول أن الإنسان تكلم لأنه فكر، وليس بمعقول انه يفكر لأنه يتكلم إذ كان الحيوان خليقا أن يتكلم ثم يفكر كما فعل الإنسان.
أما أن قيل أن الإنسان قد تكلم بعد أن اصبح جهاز المنطق فيه صالحا للنطق وجهاز التفكير فيه صالحا للتفكير فهذا - هو العجبوليس هذا هو الحل الذي يبطل التعجب.
المصادفة العمياء تتم جهاز النطق، والمصادفة العمياء تتم جهاز التفكير ويمضي هذا في الظلام ويمضي ذلك في الظلام ليتلافيا معا في الظلام!!
وقد انحلت المشكلة حلا بغير إبطاء.
يا أستاذ
إن المشكلة معك هي انك لا تضع السؤال، ولا عقدة حينئذ ولا أشكال.
فإن شئت فضع السؤال أولا ثم فكر في الجواب، وأنت تغرف (حالا) أن الذين لم يسرعوا إلى الجواب مثل إسراعك يعرفون على الأقل ما هو السؤال وإن لم يعرفوا على التحقيق كل ما يستدعيه من جواب.
عباس محمود العقاد
في السياسة المغربية
للأستاذ محمد العربي العلمي
كبت الأستاذ محمود شاكر في العدد (758) مقالا بعنوان (لا تملوا) تناول فيه قضية الاستعمار الفرنسي في المغرب من بعض جوانبها، فلم يتعمق البحث، ولم يستقص الوقائع، ولم يتبع المقدمات إلى نتائجها، فأدى به ذلك إلى بعض ما لا تحمد عاقبته وأثره في الوطنيين من أهل المغرب، على حين انهم زعماءهم وأهل الرأي فيهم بالسفه والغفلة والتخاذل والتهاون في حقوق البلاد، أو ما يشبه ذلك من أنواع التهم ليخلص من ذلك إلى الإشادة برجل أو رجال من أهل المغرب اثروا البقاء في مصر مختارين فسماهم بذلك مجاهدين وأبطالا وقادة، حينما رمى غيرهم من زعماء المغرب بما رمى من أنواع التهم لأنهم اثروا أن يبقوا في مجال المعركة بين مواطنيهم يشدون عزائمهم ويقودونهم للكفاح وقد كنت ممن تعرض لهم الأستاذ شاكر في مقاله فحق لي بهذه الصفة أن أصحح بعض الوقائع التي ألقيت إليه فحكاها في مقاله بلا تحقيق ولا روية.
ولست أتهم الأستاذ شاكرا في عروبته ووطنيته وحذقه، ولكنه قد رضى أن يدخل في قضية ليس في يده من أسبابها إلا حديث ألقى إليه فاعتقده كل الحق واغفل ما وراءه من أسباب العلم إذ كان محدثه صديقا غير متهم عنده بالهوى.
وللأستاذ شاكر موقف مثل هذا في قضية المغرب نفسها منذ سنين وقد راجع فيه اليوم نفسه؛ فقد كتب في مجلة المقتطف منذ بضع عشرة سنة مقالا ضافيا يمجد فيه الشيخ عبد الحي ويصفه بما لم يوصف به الصديقون والشهداء والصالحون، والشيخ يومئذ وإلى اليوم شوكة دامية في جنوب الوطنيين. وقد عزف ذلك الأستاذ شاكر اليوم عن الزاهد العابد المحدث الراوية الذي وصفه بما وصف منذ بضع عشرة سنة بلا تحقيق ولا روية؛ ثم انكشف له باطنه وقد كان حسبه هذا مثالا يحمله على ضرورة التروي قبل أن يكتب مقاله الأخير يصف به من يصف من المجاهدين بالغفلة والضعف ليضفي صفات البطولة والمجد على القاعدين المترفين
ويتحدث الأستاذ شاكر في مقاله عن حزب الشورى والاستقلالبالمغرب فيزعم انه حزب بلا شعب لأنه رئيس ونائبه بلا أعضاء ولا أنصار، إذ الأعضاء والأنصار والشعب المغربي
كله لا يستمعون إلا لرأي الزعماء القاعدين في القاهرة؛ وهو يزعم إلى ذلك أن الزعيم محمد بن حسن الوازني الذي يقود قضية المغرب اليوم كان في سالف أيامه تبعا من اتباع هؤلاء القاعدين ثم الشعب وانشعب وانشأ حزبه. ويزعم أن حزب الاستقلال الذي يرأسه علال الفاسي في القاهرة. هو الذي يمثل الرأي الحق حين ينادي من القاهرة بان لا مفاوضة إلا بعد الجلاء والاستقلال وإنه صاحب رأي المغاربة لا يبرم أمر دونه ويزعم أن زعماء تونس والجزائر وممثليهم في القاهرة يرون رأي علال الفاسي في القعود وعدم المفاوضة.
يزعم هذا وغيره، وقد قلت أن ما ألقى إليه من ذلك غير الحق، وأن الحديث عن هذه المزاعم من شانه أن يفتح للقول أبوابا لعلها أن تفسد بين زعماء المغاربة وتضر قضية المغرب اكثر مما يفسد حديث المفاوضات وما يتوقع من منافسات الانتخاب وغير ذلك مما استوحاه الكاتب من الجو المصري الذي يعيش فيه غير متفطن إلى انه يتحدث عن بلاد لم يرها وليس له من أسباب العلم بها وبأهلها إلا القليل أو ما دون القليل.
أما زعمه أن حزب الشورى والاستقلال لا شعب له ولا أنصار فلست أستطيع أن أرد عليه رأيه في ذلك ما دام بعيدا عن البلاد؛ وهي على كل حال قضية حزبية ليس من حسن الرأي أن يشتغل بها قراء الرسالة، إذ كان البرهان العملي فيها في المغرب نفسه لا على صفحات جرائد القاهرة. وثمة برهان عملي آخر على مكانة حزب الشورى في المغرب هو ما بذل من تضحيات، وما لقي رئيسه وأعضاءه من نفي وتشريد، وما زهق من أرواح مجاهدين تحت سياط الفرنسيين في صحراء المغرب ولم يرجع آخر أعضائه من المنافي والسجون منذ سنة 1937 إلا في سنة 1946. ولو علم الكاتب أن المعاهد العلمية الوطنية التي أنشأها هذا الحزب (مضافة إلى أنواع الجهاد الوطني) تضم في مختلف بلاد المغرب اكثر من 35 ألف تلميذ لعرف ما في اتهامه لهذا الحزب من التجني والجحود.
أما أن حزب علال الفاسي يرى أن لا مفاوضة إلا بعد الجلاء يفاوض الفرنسيين في العام الماضي، ومضى في هذه المحاولة خطوات واتصل ما بينه وبين المقيم الفرنسي السابق قبل أن يأخذ حزب الشورى في مباحثاته الجارية، ولسنا بهذا ننكر على علال أو غيره محاولته وإنما نريد أن فكرة لا مفاوضة هذه إنما نشأت منذ قريب لأسباب لا أجد داعيا
لاشتغال قراء الرسالة بها.
وحزب الشورى وإن كان يمثل الأكثرية في المغرب لا يريد أن يقطع السبيل على أحد من المجاهدين أو يبرم رأيا لا تقتضيه البلاد ملكا وشعبا. وإذا كان هناك من ينبغي أن ترجع إليه الصحف المصرية في قضية مراكش فهو الأمير عبد الكريم الرجل الذي لا يدفع أحد في الشرق ولا في المغرب زعامته وإخلاصه ووطنيته التي ترتفع فوق الأهواء الحزبية المضللة. ولعلى لا أكون فضوليا أن زعمت أن الذين ذكرهم الأستاذ شاكر من زعماء تونس والجزائر ليسوا معه على الرأي الذي نسب إليهم. وارى من حقي بعد ذلك على الرسالة وقرائها وعلى الأستاذ شاكر نفسه وهو عندي ارفع منزلة مما وضع نفسه أن أبين له ولهم أن إفحام المثقفين من قراء الرسالة في قضية حزبية كهذه القضية التي نحن بصددها ليس من مصلحة المغرب ولا من مصلحة العرب، وليس فيه شئ من الحكمة وأصالة الرأي وبخاصة في هذا الوقت الذي اجتمعت فيه أحزاب المغرب جميعا على رأي مشترك وهدف موحد في لجنة التحرير التي أنشئت بالقاهرة منذ أيام بحسن راس سمو الأمير المجاهد محمد بن عبد الكريم وبرياسته، فقد كان الأمل أن يحرث أبناء العروبة جميعا على تدعيم هذا الائتلاف الوطني المغربي الذي تمثله هذه الهيئة الناشئة لا أن يحاول كاتب ذو مكانة مثل الأستاذ شاكر أن يجعل فيه ثلمة ويلقى حوله بذرة من بذور الشقاق.
أما حديث المفاوضة قبل الجلاء أو بعد الجلاء فأننا نأمل أن لا يتأثر إخواننا في مصر بالجو الذي يعيشون فيه حين يعرضون للحديث عنه وعن قضايا بلاد لا يعرفون على وجه التدقيق ولا التقريب عن جوها السياسي شيئا. وحسبي هذا التلميح دون التصريح خدمة لقضية المغرب العربي. وأحب أن أؤكد للأستاذ شاكر أن ما يجري الآن إنما هو مخابرات، وانه لن يدخل في أية مفاوضة إلا بعد إعلان استقلال البلاد.
محمد العربي العلمي
مسابقة الفلسفة لطلاب السنة التوجيهية (1، 2)
1 -
فيدون
للأستاذ كمال دسوقي
للمحاورة من المحاولات الأفلاطونية تاريخان: تاريخ حدوث وتاريخ تدوين، وقد تكون الواحدة منها من أولى المحاورات وقوعا وآخرها تدوينا - وقد تكون العكس - حسبما تصادف الرواية من ظروف الجدل على يد سقراط، والكتابة على يد أفلاطون.
وفيدون آخر المحاورات السقراطية وقوعا على التحقيق لأنها تنتهي بآخر مشهد من حياة سقراط؛ بتجرعه السم وموته، ولهذا يؤرخ لها بسنة تسع وتسعين وثلثمائة التي مات فيها سقراط على ارجح الآراء. ومع هذا فهي لست من أوائل المحاورات تدوينا عند أفلاطون - لما يبدو فيها من العمق والمثالية التي هي أدنى إلى الأفلاطونية - مع أن المؤرخين يسلكونها في المرحلة الأولى من تأليف أأأفلاطون: أو طيفرون، واحتجاج سقراط، واقريطون، وفيدون - التي يسمونها المرحلة السقراطية لقرب عهدها به؛ ولذلك فالمنتظر أن يكون فيدون قدوري هذه المحاورة - ودونها أفلاطونبالتالي، بعد زمن طويل من وفاة سقراط.
والمحاورة قسمان غير متعادلين يفصل بينهما انصراف سقراط إلى ذكر شئ من تجربة - حين بلغ الشك مبلغه في نفس محدثيه وكان من قبل قد استطاع أن يزيل كل شك في نفسيهما، أما هنا - فهو يتوقف عن الجدل مضطرا لكي يتحدث عن نفسه واشتغاله بالعلوم والمذاهب.
والقسم الأول هو إذن اكبر القسمين - ويتناول، بعد شئ من المقدمات تتعلق بظروف المحاورة وشهودها وما انتابهم من شعور، ثم زوجة سقراط - وفك أغلاله. الخ - تقول - يتناول الموت والانتحار وموقف الفيلسوف من كليهما، والحديث عن الموت بوصفه (انفصال الروح عن الجسد) يستتبع الحديث عن الروح والبدن والتفرقة بين المحسوس والمثالي المطلق حيث ينتهي سقراط إلى أن سبيل المعرفة الأوحد أن تعود الروح إلى مفارقة البدن وإلى أن واجب الفيلسوف أن يعد نفسه للموت. ويثير هذا خوفا على مصير الأرواح في نفس سيبيس فيطمئنه سقراط على خلود الروح بأدلة ثلاثة يتبعها رابع - تثير
مناقشتها مشكلات التذكر والتضاد وأزلية الروح وأبديتها. . . وتناسقها وتناسخها. . الخ. . .
ولنفصل القول بإيجاز في كل مشكلة من هذه.
1 -
الموت والانتحار
1 -
الحكيم لا يهاب الموت ولا يحفله - بل ينشده ويرحب به - فهل معنى هذا أن ينتحر؟ وهل له بدلا من أن ينتظر وقوع الموت ويستجديه من الآلهة أن يضع لحياته حدا؟ لا - أن عليه أن يضع نفسه حيث وضعته الآلهة، وألا يخلص روحه من سجن البدن إلا متى ارادت، فالآلهة وألا يخلص منه من سجن البدن إلا متى ارادت، فالآلهة أدرى بخيره منه - وهو حين يخرج على إرادتهم بفعل هذه الجريمة - كالثور أو الحمار يعصي صاحبه - فقد ارتكب اكثر من نكر واحد:
(ا) فهو أولا قد ظن في نفسه القدرة على الموت والحياة. وهو خلو منها.
(ب) وافتراض في نفسه حكة اكثر من الآلهة - ومعرفة بخيره منهم. . وعناية بنفسه اكثر من عنايتهم، حيث يكون الخير في الواقع ما أرادوه هم - ولو كان سجنا أو موتا هو الذي يفر من خيره في غير حكمة.
(ج) ثم هو يهب نفسه حرية واختيار أن يفعل ما يشاء أكثر مما له في الحقيقة.
والنتيجة أن واجب الفيلسوف أن يرغب الموت ولا يرتكبه، ولكن له أن يحاول فصل روحه عن بدنه وتعطيل حواسه عن فكره حتى يتهيأ له سبيل المعرفة الصحيح، ووسيلة التطهير والخلاص وعليه حتى حين الخلاص النهائي أن يمهد نفسه له، وأن يميتها مرة ومرات، فيعادي البدن ويتجنب كل ما يمت إليه بسبب، حتى تحصل روحه الحكمة من العالم الآخر قبل أن تصل إليه وحتى تالف الموت فلا تفرع له أو تفرع منه، وبهذا المران على تطهير الروح يصل إلى الاعتدال الذي لا تطرق معه في صفة من الصفات كما يصبح سعيه للحكمة وخلاص النفس وتطهيرها مقصودا لذاته، لا لمقايضة ومبادلة أو ترجح للذة أو خير ابعد - بمعنى أن يتطبعوا بالحكمة لا يبغونها لنفع أو غرض.
2 -
خلود الروح:
وهنا يسوق سيبيس على لسام العامة تشكيكا في مصير الروح بعد انفصالها عن الجسد،
وقولهم إنها تصبح هباء أو دخانا تذروه الرياح - فيقدم له سقراط الأدلة على بقاء الروح في العالم الأزلي - وسنسوقها بترتيب ورودها.
2 -
فأولا يقدم سقراط دليلا يبدو انه يريد به نظرية تناسخ الأرواح انتقالها من بدن إلى آخر بعد موته - وإلى هذا يرمز بقوله (المذهب القديم الذي كنت أتحدث عنه) أي الفيثاغورية؛ وعلى هذا فلا بد أن تظل الروح باقية كيما يخرج الحي من الميت. ولا تقوم صحة هذا دليل إلا إذا سلمنا بهذه النظرية الفيثاغورية، بمعنى إنه إذا قام الدليل على أن الحي لا يولد إلا من الميت، فقد صحت النظرية، وثبت بالتالي خلود الروح وتناسخها، وإذا لم يقم على ذلك دليل سقطت هذه الحجة
ب - ولكي يقدم سقراط دليلا أخر يبحث مسالة التضاد فيما بين الأشياء: الكبر والصغر. والعدل والظلم، واليقظة والنوم. . . الخ والفعل الذي به يتم الانتقال من الضد إلى الضد ذهابا وجيئة، وينتهي إلى أن الموت الذي نراه لا بد أن يكون ضده الحياة التي لا نراها موجودة - فأرواحنا لابد إذن موجودة في العالم الأدنى - والحي لابد أن يكون خروجه من الميت كذلك، وإلا لا نعدم توالد الأشياء واصبح مصيرها مصير (أنديميون) النائم أبدا - فهذا الدور أو التعاقب بين الأضداد هو الذي يؤكد لنا خلود الروح. . وهذا الدليل كما نرى وجودي فكرى اكثر منه حقيقيا فالتضاد بين الأشياء مقولة من مقولات الفكر، ومن عمل العقل والمنطق - نحن ندرك النوم باليقظة - ونميز الصحة بالمرض ولكن ليس محتوما أن يتولد المرض من الصحة ولا النوم من اليقظة. حقا أن الكون والفساد من نواميس الطبيعة - التي هي كما يقول - لا يفترض إنها تسير على ساق واحدة فحسب - وما نسلم بنظرية التناسخ السابقة - فإن هذه الحجة لا تدل وحدها على خلود الروح.
(ج) والحجة الثالثة هي نظرية التذكر، ويقصد بها أن أرواحنا قد أقامت قبل حلولها في البدن في عالم أخر نتذكر الآن الإجابة الصحيحة التي يدل بها شخص ما عن سؤال صحيح مينون - إليه - ويكون التذكر بالتلازم - كالمحبوب والقيثارة - وسيمياس وسيبيس - أو بالتشابه أو التضاد - كما في الحجة السابقة، أو بالتساوي الذي يوجد مثاله - ككل المثل - في عالم التجريد والذي نفيس عليه تساوي العصى أو الحجارة أو قطع الخشب - التي ليست في حقيقتها متساوية - بل تنزع إلى التساوي الحق دون أن تبلغه - وهذه المثل نحن
لم ندركها بالحواس بل الحواس هي التي تذكرنابها في عالم المثل. وقد ولدنا ومعنا هذه المعرفة - أي إننا قد حصلناها قبل أن نولد - وهانحن الآن نتذكرها بطريق الحواس؛ وإلا فلو إننا قد حصلناها ساعة الميلاد أو بعده - فكيف سلبت منا بعد أن أعطيت لما حتى ننساها ثم نعود فنتذكرها وإذن فأرواحنا قد كانت موجودة قبل أن نولد، وكذلك المثل المطلقة للخير والعدل والحق والتساوي. . . الخ، التي تذكرنا بها حواسنا ألان. وهذه الحجة نثبت أزلية الروح - ولا تثبت أبديتها - كما شك سيمياس، وعليه يرد سقراط بأنه من مجموع هذه الأدلة يقوم الدليل على خلود الروح.
(د) على أن أهم دليل يقدمه سقراط على خلود الروح - هو الحجة القائلة - بأنه إذا كان الجسم يفنى لأنه مركب يتحلل بالفساد - فالروح باقيه لأنها بسيطة لا تتحلل ولا يجوز عليها التغير - لأنها ثابتة خفية يدركها العقل ولا تقف عليها أي الحواس، وبذلك فهي أبدية خالدة شان كل ما هو الهي - حقا أن المادة الجسمية تغشى بكثافتها على صفاء الروح وتدنسها بمخالطتها ولكن الفلسفة كما قلنا هي وسيلة تطهير البدن من هذ1 الجسم وأماتته مرات قبل أن يموت نهائيا - فإذا سح هذا طاهرة، ورفلت في نعيم الهي مقيم. وأما إذا كانت الروح تجر وراءها دنس المادة وكدر الشهوة، لم تزل تحوم حائرة حول المقابر - جزاء إثم أصحابها الفجار في الحياة. ورما تقمصت هذه الأرواح الفاجرة الشريرة أجسام حمير أو ذئاب أو حدا يزاولوا فيها ميولهم وبائعهم ولذا كانت الفلسفة سبيلا لتحرير الفيلسوف، واعتداله، وتخلص روحه وخلودها سعيدة مع الآلهة ولذلك أيضا لم يكن سقراط اكثر اعتدالا أو هناءة أو تغريدا في أي وقت من حياته منه ساعة إعدامه - وهو يشبه نفسه بطيور التم التي تغريدها قبيل موتها.
(يتبع)
كمال دسوقي
المدرس بالمنصورة الثانوية
حول رسائل الصاحب بن عباد واعتزاله
للأستاذ محمد خليفة التونسي
قدم الدكتور احمد فؤاد الأهواني إلى قراء (الرسالة) في عددها 755 رسائل الصاحب بن عباد التي حققها وقدم لها الدكتور عبد الوهاب عزام بك عميد كلية الآداب بجامعة فؤاد الأول، والدكتور الأهواني - ومن قبله المحققان - نزعة الصاحب إلى الاعتزال، فقرر انه وقف طويلا عند قول المحققين للرسائل:(ونحن نجد في الرسائل نزعة واضحة إلى القول بالاعتزال والدعوة إليه) وأشار إلى أن البحث في الاعتزال والكلام وما يتصل بهما مما تهفو إليه نفسه، ليس هذا بغريب منه وهو معنى بالفلسفة، كما أشار إلى انه كان يحب أن يجد في الرسائل ما يشبع رغبته ويرى من نصوص الصاحب نفسه ما يؤيد قول ياقوت: أن الصاحب كان (مثل أبيه يذهب مذهب الاعتزال) وذكر أن ما اعتمد عليه المحققان في نسبة الاعتزال إليه ثلاثة نصوص في الرسائل نقلها الدكتور، وأشار إلى مواضعها من الرسائل، أحدها في الرسالة التاسعة من الباب العاشر وهو باب التعازي، ذكر فيها تعديل الله ولطفه في صنعه وصلاح فعله، وثانيها في الرسالة الثانية من الباب السابع عشر وهو باب الآداب والمواعظ، ذكر فيها الصاحب بلدا كان مستغلقا (على أهل عدل الله وتوحيده، والتصديق بوعده ووعيده) وثالث النصوص في الرسالة الثالثة من الباب العاشر ايضا، وهي رسالة إلى أهل الصيمرة وصفهم فيا بشهرتهم (بالذنب عن توحيد الله وعدله، وصدقه في وعيده ووعده) وكان بلدكم من بين البلاد كغرة ادهم، وشهاب في ليل مظلم، وما النعم اجل موقعا واهنا مشرعا من النعمة في القول بالحق والدعاء إليه، والتدين به والبعث عليه ومهانة من شبه الله بخلفة فتتابع في جهده أو جوره في فعله، فشك في حسن نظرة وطوله).
وقد علق الدكتور الأهواني على النص الثاني بقوله (وشهرة المعتزلة بأنهم أهل العدل والتوحيد، والوعد والوعيد، اعظم من شهرتهم بالتعديل والصلاح) كما علق على النص الثالث بقوله (وهذا نص آخر أكثر في الاعتزال بيانا، فيه العدل والتوحيد والصدق في الوعد والوعيد، ونفى التشبيه وامتناع التجوير) وقد وجد الدكتور في هذه النصوص بعد أن وضحها على هذا النحو ما يكفي في نسبة الاعتزال إلى الصاحب، فعقب عليها بقوله (وهنا نستطيع أن نطمئن إلى ما ذكره عنه ياقوت من انه كان يذهب مذهب الاعتزال) واستدرك
على محققي الرسائل ترددها فقال (ولكن الدكتور عزام بك والدكتور ضيف لا يطمئنان إلى أن الاعتزال (أكان هذا من عمله هو أم من عمل الدولة، فقد كان عضد الدولة يذهب - فيما يظهر - إلى الاعتزال)
ولي أربع ملاحظات على ما سردته هنا من كلام الدكتور الأهواني وما يتضمنه من كلام الدكتورين المحققين والعهدة عليه هو فينا نقلت عنهما وعن الرسائل إذ لم يتح لي حتى الآن الاطلاع عليها كما نشرها المحققان الفاضلان.
أولها: ما أشار إليه المحققان، ونقله الدكتور الأهواني من نصوص الصاحب الثلاثة - المشار إليها قبل - ولاسيما ثالثها يحمل الباحث على الاطمئنان إلى أن الصاحب كان يقول بالتوحيد والعدل، والعد والوعيد، وهذه - دون شك - أصول ثلاثة من أصول مذهب المعتزلة الكلامي، ولا داعي للتشكك في نسبتها إلى الصاحب مع ورودها في نصوصه، إذ ليس الباحث مطالبا ببينات أقوى ولا اكثر من هذه البينات، وإن كان مما يرحب به وجود بينات نصية كذلك تكون أكثر تفصيلا ليضمها إلى ما لديه، كما انه ليس على الباحث أن ينبش عن قلب الرجل ليرى ما في سريرته، ولا مبرر بعد ذلك للشك أو التردد حتى يثبت أن للصاحب نصوصا تعارض هذه النصوص، وهذا ما لم يثبت حتى الآن، والدكتور الأهواني لم يحد عن مسلك العالم حين اطمأن إلى نسبة هذه الأصول الثلاثة إلى الصاحب، ولم يتابع المحققين في شكهما وترددهما، وأنا أشاركه هذا الاطمئنان، ولكني لا اذهب معه إلى اكثر من نسبة هذه الأصول اليه، ولا أتعدى معه إلى القول باعتزال الصاحب على الإطلاق بهذه النصوص وحدها حسبما ذكر الدكتور اتباعا لرأي ياقوت فيه، وسأوضح هذا في الملاحظة الرابعة.
ثانيتها: ومن أجل هذا الاطمئنان حق للدكتور أن يستدرك على المحققين ترددهما الذي لا مبرر له، وعدم جوابهما على سؤالهما (أكان هذا (أي الاعتزال) من عمله هو، أم من علم الدولة، فقد كان عضد الدولة - فيما يظهر - يذهب إلى الاعتزال)
ولشك - كما يظهر من السؤال - لا مبرر له بعد النصوص لا سابقة - إلى ما ذكر ياقوت ونقل هنا - ولم لم يكن لدينا غيرها، فضلا عما سنذكر في الملاحظة الثالثة، كما أن السؤال لا موضع له على هذا النحو فماذا يطعن في اعتزال الصاحب أن كان من عمله هو أو من
عمل الدولة لأنه كما ذكر المحققان. - (قد كان عضد الدولة يذهب فيما يظهر - إلى الاعتزال) فهل يوهن ذلك من اعتزال الصاحب ويحملنا على الشك فيه؟ ليكن أن (عضد الدولة يذهب - فيما يظهر - إلى الاعتزال) أو لا يكن، فأي قيمة لاعتزال عضد الدولة في هذا الموضع لموج به فيه؟ أيطعن في إسلام ثابت لوزير أن يكون الملك الذي استوزره مسلما، وأن تكون دولته إسلامية؟ ثم ما قيمة اعتزال عضد الدولة أن كان منتهى الثقة في القول به إنه - كما ذكر المحققان - فيما يظهرلهما، لا فيما ثبت لهما ثبوتا قاطعا أو راجحا؟ ثم ما قيمته إذا لم يكن هناك دليل عليه؟ بل ما قيمته إذا لم يثبت أن عضد الدولة كان يؤثر المعتزلة دون غيرهم بامتياز يدل على ميله إليهم فضلا عن ذهابه مذهبهم؟
لقد قرأت مما كتب في تاريخ عضد الدولة - وما هو بالقليل - فلم أجد فيه ما يدل على أن عضد الدولة كان نؤثر مذهب الاعتزال أو المعتزلة بعطف خاص؟ فمن أين هذا الذي ظهر للمحققين الفاضلين حين أشاروا إلى اعتزاله؟ وكيف ظهر لهما؟
لا أزعم إني قرأت من تاريخ عضد الدولة اكثر مما قرأ المحققان، فلعل عندهما علم ما لا اعلم منه، وهما - دون شك - كثر اطلاعا وفهما مني - ولست ابغي من معرفة ما ظهر لهما من اعتزال الصاحب غير مصدره وكيفية ظهوره!
ومع هذا قد وفقت في دراستي لتاريخ الاعتزال على أن هذا المذهب كان ذائعا قويا في أيام عضد الدولة وفي دولته خاصة، إذ ظهر فيها كثير من شيوخ الاعتزال، وتولى بعضهم الأعمال لها، ومنهم من كان على صلة بعضد الدولة نفسه، وكانت الدولة تعرفهم وتعرف ميولهم واعتناقهم الاعتزال ومع ذلك لم تجد ما يدل من قريب ولا بعيد أن الدولة كانت تؤثرهم بعناية خاصة إلا في أيام الصاحبة نفسه، وهذا الإيثار كان من عمل الصاحب وحده لا من عمل الدولة، ومن المعروف أن عضد الدولة - هذا الذي يرى المحققان فيما ظهر لهما إنه يذهب إلى الاعتزال - جاءته رسالة من إلا أبا بكر محمد بن الطيب الأشعري المعروف بابن الباقلاني، أو الباقلاني، وابن الباقلانيكان - دون شك - متكلما على مذهب الأشعري شيخ أهل السنة، وكان من اشد خصوم المعتزلة آلف الكتب للرد عليهم والحط من أقدارهم. ويروى إنه أبى أن يخض لرسوم البلاط البوهي حين لقي عضد الدولة فلم يكفر له في مدينته أفلم يكن في دولة عضد الدولة من رجال المعتزلة الذين تعرفهم الدولة
وتعرف فضلهم من يحمل هذا الجواب كما حمله ابن الباقلاني السني خصم المعتزلة؟
لو أن الدولة البويهية عطفت على المعتزلة وآثرتهم بعناية خاصة لكان هذا موافقا لأصلها العام لأنها شيعية زيدية، والزيدية في كل زمان ومكان - منذ عهد زعيمهم زيد بن علي تلميذ واصل بن عطاء شيخ المنعزلة - يدينون بالاعتزال أصوله كلها أو بعضها، أو يعطفون عليه، وكانت الفتن كثيرة في عهد الدولة البويهية بين أهل السنة والشيعة، وكانت الدولة دائما تنصر الشيعة على أهل السنة، بل كان بعض هذه الفتن يثير أهل السنة تمردا على تشيع الدولة، ومع ذلك لم نقرا خبرا عن فتنة بين المعتزلة وأهل السنة نصرت الدولة فيها لا معتزلة على أهل السنة كما نصرت الشيعة عليهم
لقد ظهر إلى الصاحب في عهد ركن الدولة وعضد الدولة، ووزر لمؤيد الدولة ثم أخيه فخر الدولة، فأما ركن الدولة فلا نعلم من أمر نظره إلى الاعتزال إلا خبرا واحدا مؤداه انه أرسل مرة إلى الصاحب عينا من عيونه يشاكسه في مجلسه ويتحدى سلطانه ومذهبه الاعتزالي ويجادله في بعض تعليماته: وهو القول بخلق القران. وأما عضد الدولة فقد قدمنا مبلغ علمنا في نظرة إلى الاعتزال، وأما مؤيد الدولة فلا اعرف من أخباره ما يدل على ولاء ولا عداء للاعتزال وأما فخر الدولة فلا نعرف في نظره إلى الاعتزال غير خبر واحد ذكره الصاحب في صدد علاقته واحتشامه فقال ما استؤذن لي على فخر الدولة وهو في مجلس الأنس إلا انتقل إلى مجلس الحشمة فيأذن لي فيه، وما اذكر انه تبذل بين يدي ومازحني قط إلا مرة واحدة فانه قال لي في شجون الحديث:(بلغني إنك تقول: المذهب مذهب الاعتزال والنيل نيل الرجال) فأظهرت الكراهية لانبساطه، وقلت:(بنا من الجد ما لا نفرغ معه للهزل) ونهضت كالمغاضب، فما زال يعتذر إلى مراسلة حتى عاودت مجلسه، ولم يعد بعدها لما يجري مجرى الهزل والمرح) وليس في هذا الخبر ما يدل على أن فخر الدولة يشارك وزيره اعتزاله، ولا انه يرى للاعتزال امتيازا على غيره، وإلا لم يستدرك على الصاحب ميزه الاعتزال بعنايته من سائر المذاهب الإسلامية الكلامية.
هذا إلى أن فخر الدولة - كما يجب أن يعلم - كان يعرف خطر وزيره في دولته، وحاجته إليه في تدبيرها بل فضله عليه إذ جعله هو وأعوانه على أملاك أخيه مؤيد الدولة في أصفهان بعد موته سنة 373 هـ (984م) وأضاف إليها غيرها من حصون المتمردين
عليها، وكانت كلمته فوق كلمة ملكه في دولته ولم يكن ينزل عن جلاله وكبريائه وحشمته معه.
ومن هذا العرض الموجز تنكشف علاقة ملوك البويهية الذين عاصرهم الصاحب جميعا بالاعتزال والمعتزلة، وليس فيه من قريب ولا بعيد أية دلالة على تحيز من الدولة أيام الصاحب إلى الاعتزال فضلا عن اعتناقه.
ومن هنا يتضح لنا أن لا موضع للسؤال الذي سأله المحققان الفاضلان كما نقله عنهما الدكتور عزام بك الأهواني في استدراكه عليهما فقال (. . . فقال ولكن الدكتور عزام بك والدكتور ضيف لا يطمئنان إلى أن الاعتزال (أكان من عمله هو (الصاحب) أم من عمل الدولة، فقد كان عضد الدولة يذهب فيما يظهر إلى الاعتزال.
بل أن هذا السؤال الذي ترك المحققان الجواب عنه دون مبرر يتضح من وضعه على هذا النحو انه محاولة للإفلات من القضاء بحكم مع هذه المقدمات الواضحة، وهذه المحاولة لم تحل الإشكال الأصيل بل خلقت إشكالا آخر لم يكن داع لخلقه، وأقحمته في غير موضعه ثم تركته دون حل كما تركت سابقه وأثارت شكا لا موضع له ولا حاجة إليه وكان حل الإشكالين ميسورا.
(له بقية)
محمد خليفة التونسي
طرائف من العصر المملوكي:
الحركة العلمية
للأستاذ محمود رزق سليم
جميل بنا أن نعني بدراسة تاريخ مصر، ونتعرف إلى نواحيه المختلفة، لنشهد ما قدمه بنوها في أجيالهم المتعاقبة من جهود في مضمار العلم والأدب، ولنعرف مكاننا من المدينة، وموقفنا من الحضارة الفكرية. فان مصر في عصورها المتعددة كانت تشترك باستمرار وبرغبة ذاتية في بناء المدينة والحضارة، وتسعى دائبة لرفع لوائهما ونشر سلطانهما.
والعصر الذي نحن بصدده، عصر فريد من عصور مصر، وبخاصة في اتجاهاته العلمية، وهو لذلك جدير بالبحث والتمحيص اكثر مما بحث ومحص. بل لا أغلو إذا قلت أن الغموض لا يزال يكتفه من نواح عدة. بل لا تزال الفكرة المركزة في أذهان كثير من الأدباء عنه، مشوهة ظالمة. ولذلك يتأبى بعضهم على البحث فيه وتمحيص نواحيه. مع أن أبناءه حملوا من أمانة العلم والأدب ما يئود. ألقته المقادير على كواهلهم إلقاء فحملوا الأمانة وأدوا الرسالة، صابرين في الحمل، محسنين في الأداء.
نهضت بغداد من قبل، برسالة العلم، والأدب زهاء خمسة قرون وكانت - في الجملة - شمسا للبلاد الإسلامية شرقيها وغربيها تستضئ بهديها. وتسير على قبس منها. فلما دهمها التتار عام 656هـ، وأزالوا خلافتها، ونكلوا بأبنائها وعبثوا بمؤلفاتها، ضاعت بذلك ثمار كثيرة من ثمار هذه القرون الخمسة، ووقفت بها رحى العلوم والآداب إلا لماما. هنا لم تجد القاهرة بداً من الظهور في الميدان، أكثر مما كانت ظاهرة، وتقدمت لحمل أمانة العلم والأدب برغبة وشجاعة. ولولا تقدمها لخبا الزناد وكبا الجواد، وانقطعت سلسلة العلوم والآداب الإسلامية، وتوارت عن الأنظار أمداً طويلا.
وقد هيأ الله للقاهرة من الأسباب ما عاونها على بلوغ غايتها. فقد كانت حينذاك عاصمة لأقوى مملكة إسلامية، ورزقت ملوكا أحسوا أن عليهم واجب حماية الدين والحرص على بلاد المسلمين. فدافعوا عنها أعداءها، ووطئوا للعلماء أكتافهم، ورحبوا بالقادمين منهم إلى مصر. وأغرى العلماء ما في مصر من خير وكرم وحسن وفادة وطيب لقاء. فوفدوا إليها تباعا من كل فج، واتخذها بعضهم دار مقام، حتى أصبحت منتدى العرب وحج المسلمين،
وقبلة علمائهم وطلاب العلم فيهم من كل بلد ومحلة.
وقد دعمت هذه الحياة بتجديد الخلافة الإسلامية منذ عصر الظاهر بيبرس. فأصبحت الخلافة - على علاتها - ذات قوة أدبية لها تأثيرها الروحي في نشاط الحركة العلمية الإسلامية، وعاونت مصر على أن تكون بيئة دينية صالحة جليلة القدر، ينبت فيها ويفئ إليها علماء الدين على اختلاف مذاهبهم.
ولم يدخر السلاطين وسعا - كما نوهنا - في تبجيل العلماء وتعظيمهم أمام الخاصة والعامة، حتى اطمأنت نفوسهم، ولم يلههم عن الإنتاج العلمي شئ من جوع أو خوف، وحرصت أجيالهم الناشئة على متابعة جهودهم العلمية لتظل لهم هذه المنزلة السامية لدى السلاطين والشعب.
ونذكر منهم على سبيل المثال: عز الدين بن عبد السلام وكان يدعى بسلطان العلماء، وكان الظاهر بيبرس يهابه ويقدر رأيه. وتقي الدين بن دقيق العيد، كان السلطان لاجين يقبل يده. وعلاء الدين السيرامي فرش له السلطان برقوق السجادة بيده.
والى جانب هذا سرت في السلاطين والأمراء ومن إليهم، روح عجيبة قوية لإبقاء أثرهم وتخليد ذكراهم. واتخذوا إنشاء المساجد الجامعة في مقدمة وسائل هذا الإبقاء والتخليد، قربى إلى الله وزلفى، وليتعبد فيا الناس وليتفقهوا في دينهم؛ وقرروا فيا الدروس، وعينوا لكل درس شيخا، ورصدوا لذلك الأوقاف الطائلة، ليقضوا لهذه المدارس بقاء طويلا، واجروا على الطلبة المنقطعين فيها لطلب العلم نفقات وأطعمة وأكسية، والحقوا بكل مدرسة دار كتب قيمة حسدوا إليها الآلاف من المؤلفات الثمينة.
ولم تكن هذه الجهود مقصورة على مدينة القاهرة وحدها. بل اشتهرت إلى جانبها مدن أخرى كثيرة كالإسكندرية وأسيوط وقوص ودمياط ومنفلوط وبوتيج وأخميم وأسوان وبلببيس، هذه فضلا عن المدن الشامية والحلبية والحجازية.
وبلغ عدد مدارس القاهرة نحو خمسين فوق ما أنشأه الأيوبيون والفاطميون من قبل ولا يزال كثير منها مائلا للعيان في القاهرة حتى اليوم.
وفي مقدمة هذه المعاهد التعليمية مستشفى قلاوون. بناء عام 682 هـ. وكان عبارة عن مدرسة للطب كبيرة. به قسم للحميات، وقسم للرمد، وقسم للجراحة، وقسم للأمراض
النسوية، غير ذلك. وجهز بمن يهيمن عليه من الأطباء والموظفين والممرضين والصيدلانيين. كما زود بأدوات العلاج والصيدليات. واعدت به أسرة للمرضى، وقسم للعلاج الخارجي وكل ذلك بالمجان. وهيئت به قاعة محاضرات تلقى بها دروس الطب، كما زود بخزانة كتب جليلة القدر.
هذه العوامل جميعها من شانها أن توقظ الهمة وتشحذ العزيمة، وتهيئ السبيل إلى الاشتغال الجدي العلم. وقد انتهز العلماء هذه الفرصة النادرة، وتلك الموارد الشهية التي أتيحت لهم، فنهلوا منها وعلوا. وكان لهم مما أصاب العرب والمسلمين في ثرائهم الفكري، ببغداد وغيرها خير حافز على النهوض بتدوين العلوم تدوينا جديدا، وبالإضافة إليه كلما وجدوا مزيدا، حتى يعوضوا اللغة والدين شيئا مما فقداه في محنهما، وحتى يبرئوا الذمة أمام الله والتاريخ ويبرهنوا إنهم حملوا العبء بلقب ثابت ونفس راضية
وقد كان لهذه الحركة العلمية مظاهر متعددة، أهمها مظهران هما: الحركة التعليمية، والحركة التأليفية.
أما الحركة التعليمية فقد انتعشت انتعاشا محمودا. وكان بالبلاد نوعان من التعليم هما: التعليم العسكري، والتعليم الشعبي.
أما العسكري فقد كان مقصورة على طائفة المماليك، محظورا على أفراد الشعب. وهذه إحدى نقائصه على طائفة المماليك، محظورا على أفراد الشعب. وهذه إحدى نقائصه في نظر المؤرخ الوطني. وكانت طباق القلعة المقر الرسمي لجنود الدولة منذ عصر قلاوون. يجلبون إليها من الأسواق صغار ويقسمون فرقا حسب أجناسهم ويقيم في كل طبقة جنس يشرف عليه عدد من الزمامين (الأغوات) ويقوم هؤلاء الصغار بتمرينات رياضية سهلة مناسبة ويعلمون الكتابة والقراءة ويلقون آيات من الذكر الحكيم. ويعودون الصلات وبعض الفروض الدينية، ويحفظون شيئا من الأدعية وتحبب إليهم الأخلاق الفاضلة والدفاع عن الدين والجهاد في سبيل الله. ثم إذا بلغوا الحلم يعلمون تمرينات رياضية اشد قسوة، ويمرنون على السباحة واستعمال السيف والرمح، وقذف الأطواق وركوب الخيل والمبارزة ورمي النشاب ولعب الكرة. وفي هذه المرحلة تنضج مواهب المملوك وتبرز خصائصه وتبدو مهارته وشجاعته. فإذا عرف فضله وشهد بلاؤه صار في عداد المحاربين ثم قد يدفع
به حظه إلى العتق ثم الترقي في سلك الامارة، وقد تسوق إليه المقادير في أعقاب ذلك سلطنة البلاد.
وقد عنى السلاطين عناية بالغة بتنشئة مماليكهم تنشئة عسكرية صالحة، كما عنوا بطعامهم وشرابهم وصحتهم فتخرجوا - كما قال المقريزي - (سادة يدبرون الممالك، وقادة يجاهدون في سبيل الله، وأهل سياسة يبالغون في إظهار الجميل) وبتوالي الأيام تراخى السلاطين في بذل هذه العناية فاضطرب نظامهم شيئا فشيئا، وكان لذلك أثره السيئ في أخلاقهم، فانقسموا شيعا، وتدخلوا في سياسة الدولة فافسدوها، وشغلوها بأطماعهم غير المشروعة وقعدوا عن الجهاد الصادق، حتى صاروا كما قال المقريزي (أرذل الناس وأدناهم وأخسهم قدراً، وأشحهم نفساً، وأجهلهم بأمر الدنيا، وأكثرهم إعراضاً عن الدين، ما فيهم إلا من هو أزنى من قرد وألص من فارة، وافسد من ذئب).
أما التعليم الشعبي فقد كان مقره المساجد وما شابهها مما أنشأه السلاطين والأمراء ومن لف لفهم - كما ذكرنا - ومهما قيل في سبب انشائها، فهي لا شك كانت الدعامة الأولى من دعائم هذا التعليم. وقد كانت بمثابة جامعات علمية عظيمة الشان بها من الجامعات الحديثة خصائصها ومميزاتها، وإن افترقت عنها في الشكل والعرض بل لعل التعليم بها كان ميسرا اكثر مما هو ميسر اليوم. وكان الطالب بها حرات يندمج في إعداد من يشاء من الطلاب ويقعد أمام من يشاء من الأساتذة. ويضع جدول حصصه بنفسه، ويطوف على كل مسجد إذا شاء ليقتطف منه أشهى ثمراته. ولا يتحمل في سبيل ذلك من نفقات التعليم، بل بالعكس كان يجد البر والمعونة من كثير من أهل الفضل فإذا أتم إحدى مراحل تعليمه بقراءة كتاب في مادة أو بحفظ طائفة من الأحاديث أو نحو ذلك، منحه شيخه إجازة يشهد له فيها بتمام هذه المرحلة.
وكان السلاطين يعنون عناية دقيقة باختيار الشيوخ المدرسين في مدارسهم، ينتخبونهم من بين الأفذاذ المشهود لهم بالعلم والفضل والذين لا ينون يجعلون العلم ونشره غايتهم الكبرى. وكان بعض هؤلاء الشيوخ يستمر في مدرسته طويلا، ويلازمها، حتى لنستطيع القول - جملة - أن كل مدرسة كان بها منهم هيئة تدريس خاصة بها. لكل مادة من المواد المقررة بها أستاذ. ونذكر على سبيل المثال شيوخ الجامع المؤيدي وهم: شهاب الدين بن حجر
العسقلاني لفقه الشافعية. ويحيى بن محمد بن احمد البخائي المغربي لفقه المالكية. وعز الدين عبد العزيز بن علي بن الفخر البغدادي لفقه الحنابلة. وبدر الدين محمود العينتابي للحديث. وشمس الدين محمد بن يحيى للقراءات. وشمس الدين محمد بن الديري لفقه الحنفية وشيخ للصوفية. وهكذا.
أما مواد التعليم فقد كان طبيعيا أن تكون العلوم الدينية في مقدمتها، بدافع من رد الفعل الذي أحدثته حوادث اغتيال العلماء ومؤلفاتهم، في بغداد وسواها من عواصم المسلمين. وبدافع ما أشرنا إليه من أن البيئة المصرية تحولت إلى حد ما بيئة دينية ألقيت عليها تبعات الذود عن الدين وعلومه وأهله. ويليها علوم اللغة للحاجة الماسة إليها في درس العلوم الدينية وضبط شئون الدولة. ويليها غيرها من المواد لأنها تكمل المتعلم وتؤهله لتركيز علمه. وكانت مواد التعليم هي الفقه بمذاهبه الأربعة، وأصول الفقه، والحديث والتفسير والقراءات والوعظ والكلام والتصوف ثم درس النحو والصرف والأدب، ثم الطب والفلك والهندسة والتاريخ والتقويم والرياضة.
وقبل أن يدرس الطالب هذه الدراسة، يمر بأحد المكاتب المنشأة بجوار المساجد، ليحفظ به القرآن الكريم ويتعلم مبادئ القراءة والكتابة.
ولم يكن لدور التعليم مناهج خاصة في موادها المقررة. واغلب الظن أن منهج المادة كان رهنا برغبة أستاذها. فهو وحده يختار الكتاب الذي يقرؤه فيها لطلابه. ومهما يكن من شئ فقد سعدت كتب خاصة باتخاذها مناهج لموادها المقررة. نعرف ذلك إذا اطلعنا على تراجم الأعلام من علماء العصر؛ لذلك نستطيع القول أن من بين الكتب التي اتجهت العناية إليها لدراستها ما يلي: التنبيه. المنهاج الأصلي للنووي. الشاطبيتان في القراءات العمدة للحافظ النسفي في الأصول. والكافية لابن الحاجب في العربية. ومختصر القدوري في الفقه. وجمع الجوامع. والأربعون حديثا النووية وتلخيص المفتاح في البلاغة، والكنز في فقه الأحناف. والمنار في الأصول. وألفية ابن مالك في النحو. والملحة. والمختار والمنظومة كلاهما للنسفي في الفقه. ونظم قواعد الإعراب لابن الهائم. وايساغوجي في المنطق وكتب الحديث الستة.
وقد امتلأت المساجد بطلاب العلم على اختلاف مذاهبهم، واختلاف بلادهم، ممن وفدوا على
مصر يستظلون بطلها ويستمدون رفدها وينهلون من مواردها. حتى ضاف بهم بعضها على رحبة، وكان منهم (المنتسبون) وهم الدائمون الذين قيدت أسماؤهم لينالوا شيئا من الأوقاف بصفة مستمرة. أما غيرهم فأخلاط شتى من محبي العلم من الشعب.
وأهم ما يوجه إلى هذا الضرب التعليمي من النقد - إذا نظرنا إليه نظرة حديثة - أنه لم يكن سياسة للدولة مرسومة، بل كان نتيجة جهود فردية، وأنه لم يؤد إلى الشعب باعتباره حقا من حقوقه، بل باعتباره منحة له وتفضلا عليه، وأن الأساتذة عنوا بنشر العلم فحسب، ولم يتخذوه وسيلة إلى إيقاظ الشعب وتنبيهه إلى حقوقه وواجباته.
غير أنه - بلا شك - نظام قد انجب. واغلب بخبائه من رجال الدين. وبلغ بعضهم مرتبة الأئمة المجتهدين. قاموا بحركة تأليفيه مباركة، هي حلقة غريدة من حلقات العلوم والآداب كان لا بد لحياة العلم والأدب من وجودها.
أما هذه الحركة التأليفية فكانت المظهر الخالد للحركة العلمية. وشجعها السلاطيندعوا العلماء أحيانا إلى التأليف برسم الخزانات الشريفة. فمنهم المؤرخ أبو بكر بن ايبك، الف كتابه (كنز الدرر) للناصر بن قلاوون. والطبيب محمد القوصي ألف للغوري كتاب (كمال الفرحة) في الطب وعماد الدين موسى بن محمد الحروب) للسلطان جقمق.
على أن التأليف لم يكن وقفا على تشجيع السلاطين أو سواهم، بل كان غاية من غايات العلماء. لذلك نشطوا في ميدانه نشاطا هو مثار الدهشة والعجب، لبلوغه حدا من الإعجاز وتعددت مؤلفات بعضهم حتى عدت بالمئات، وفي فنون شتى. واتسعت أحيانا حتى صارت موسوعات جامعة امتدت فيها أفاق العلم. وعنوا بعلوم الدين أولا، ثم التاريخ وفنون العربية، ثم غيرها. وحظي تاريخ الأعلام والخطط بنصيب كبير من العناية. وهكذا ترى أن مؤلفاتهم لا غنية عنها للفقيه والمؤرخ واللغوي والأديب والمحدث والنحوي والبلاغي وغيرهم. وبعضها يعد فريدا في بابه منقطع النظير.
وأهم ما يوجهه الناقد إليها أن بعضها رسائل صغيرة، وأن منها ما يشوبه الجمع والنقل ويندر فيه الابتكار. وأن منها المتون وشروحها ومختصرات شروحها. غير أن هذه النقدات يسهل الرد عليها وتعليلها فيساق العصر كان يدعو إليها إسراعاً إلى تدوين المحفوظ وعجلة إلى تسجيله حذرا من أن تعبث به يد الزمان ثم هيهات أن تقلل هذه النقدات من خطر تلك
المؤلفات. وإلا فأين فيما ألفه السابقون كتاب كالإتقان للسيوطي، أو شرح البخاري ومقدمته لابن حجر، أو الفتاوى لابن تيميه، أو المدارج لابن القيم أو المغني لابن هشام، أو الجموع للنووي، أو تكملة للتقي السبكي. أو الخطط للمقريزي. بل اين مثل ما كتبه مؤرخ مصر في تاريخها وتاريخ أعلامها من أمثال الإدفوي وابن خلكان والتاج السبكي وصاحب الدرر، وأبي المحاسن والصفدي وابن إياس والسخاوي بل أين الموسعات التي تشابه موسعات القلقشندي والنويري وابن منظور وابن فضل الله؟
وبعد فهذا غيض من فيض وقل من كثر ولمحة خاطفة من شمس ضاحية، وقبس عاجل من سراج وهاج.
(حلوان)
محمود رزق سليم
سؤال ينتظر الجواب
لمهندس كبير
تأتينا مياه النيل سنة بعد أخرى بطريقة منتظمة متكررة، إلا أن مقدار ما يصلنا منها يختلف في الأوقات المختلفة من السنة نفسها كما يختلف من سنة لأخرى، ولسنا هنا بصدد البحث في أسباب هذه الاختلافات الموسمية أو السنوية أو معرفة النتائج التي ترتب عليها لأن هذه معناه دراسة نظم الري بالقطر المصري.
ولكننا بصدد أن نلفت النظر إلى ناحية واحدة من هذا الموضوع وهي المماطلة في تنفيذ المشروع الذي يدفع خطر الفيضانات العالية. إن الخسارة التي نتكبدها من جراء هذه الفيضانات العالية الخطرة ليست بالقدر اليسير الذي يمكن إهماله أو غض النظر عنه لأنها ليست قاصرة على ما يصيب هؤلاء الذين يطغى عليهم الفيضان فيكتسح زراعاتهم ويحرمهم أرزاقهم ويعدمهم أقواتهم، بل إن الحكومة تخسر ما تحصله من أموال هذه الجهات المنكوبة كما تتحمل مصروفات أخرى كبيرة فيما تتخذه من إجراءات لدره خطر هذه الفيضانات وهذا بجانب ما يستحوذ على الأمة من قلق واضطراب أن مشروع اتقاء الفيضانات العالية تدرسه الجهات المختصة؛ وقد حصل الدارسون على معلومات وأبحاث كثيرة بدئ بدرسها، ولكننا نتساءل ألم تكن هذه المدة كافيه للوصول إلى نتيجة يصح أن تكون أساساً لقرار ينفذ؟
إن هذه الفيضانات العالية الخطرة ليست خاصة بنيلنا وحده. لأن هناك كثيرا من الأنهر في البلدان الراقية تفيض على الأودية التي تجري فيها وقد كانت فيما مضى سببا في نكبات ساحقة وكوارث ماحقة، ولكنها عولجت على النحو الذي منع حدوثها أو حد من شدتها، وليس من الميسور أن نذكر هذه الطرق الفنية المختلفة التي تكيفت تبعاً لظروف كل حالة منها على حدة، ولكننا نعلم أن وجهة النظر الفنية في مصر تتجه إلى تصريف مياه الفيضان في موقع منخفض قريب من مجرى النهر يتسع لاستيعاب هذه المقادير الكبيرة من مياه الفيضان؛ على أن تحفر قناة لتصل النهر بهذا المنخفض، فكيف لا يقرر إلى الآن أين يكون هذا المنخفض وصيانة القناة وغير ذلك وما هي النفقات التي يطلبها تنفيذ المشروع؟
إننا لا نجد سببا يبرر هذا التأخير غير ما سمعناه من أن ملفات هذا الموضوع تظهر وقت
وقوع الكارثة حتى إذا ما مرت اختفت هذه الملفات لتظهر مرة أخرى عند حدوث الكارثة التالية. أن في الولايات المتحدة حالة في وادي التيس تشبه حالتنا، قد كانت الأمطار الغزيرة والسيول المدمرة تكتسح الوادي من وقتاً لأخر فتهلك الزرع وتجرف معها تربة الأرض نفسها فتتركها جرداء لا تصلح للزراعة إلا بعد مشقةوتبع ذلك حتما أن عاش سكان هذا الوادي في ذعر مستمر يحاربون الطبيعة ولا معين، ويتلقون النكبات ولا منقذ، إلى أن قام أولو الأمر فنفذوا المشروع المناسب لمواجهة هذه الحالة فحفروا القنوات لحصر جريان الماء حيث يريدون، وأقاموا الخزانات والسدود، وانشئوا الجسور فخلقوا من الذعر طمأنينة، ومن البؤس والفقر سعادة وثراء، وأصبحت هذه الجهات جنات خضراء يعيش أهلها ألان في نعيم مستديم وزيادة على ذلك فقد أمكن توليد القوة المحركة من مساقط المياه فيها فزادها رفاهية وخيرا عميماً. أما نحن فسوف يأتينا الفيضان الخطر التالي ونحن كما تجدنا ألان! فهل هذا يجوز؟
إذا كان هناك من الأسباب ما يبرر هذا الإبطاء أو التأجيل فلينبئنا به أولو الأمر إذا كانت الصعوبة مالية أو فينة حتى لا تصبح عرضة للوم أو التنديد.
إننا نريد أن نثبت للشعب أن الرجال الذين يشرفون على شئونه ساهرون على مصلحته يعملون على إصلاح هذه الشئون وهذه واحدة من عدة مسائل أخرى أرى ضرورة الكتابة عنا إذا ما أردنا الخير لهذا البلاد.
(مهندس)
2 - فن المسرح
(تحية للأستاذ الفاضل زكي طليمات)
للأستاذ عبد الفتاح البارودي
المسرح وقيمته التصويرية:
ماذا يصور المسرح؟ إنه بصور ما أودعه المؤلف في مسرحيته من أفكار وتجارب. ولما كان لهذا الفن - كما لكل فن - أسلوب خاص في التصوير كان من اللازم أن تكون تلك الأفكار والتجارب مما يمكن تصويره بهذا الأسلوب دون سواه. والمفروض أن طريقة التأليف المسرحي تجري - فينا - على النسق الآتي: يلتقط خيال المؤلف بعض احتمالات الحياة ويكون منها مجموعة مستقلة من الحوادث المتصلة تستحيل في ذهنه إلى حوادث مرتبة ترتيبا معينا وهذه يعبر عنها بواسطة شخصيات وهؤلاء يعبر عنهم شعورهم وتفكيرهم عن طريق ما يلفظون به من قول
فإذا جاز لنا أن نقارن بين الفنون عامة من حيث أساليب التصوير فماذا يكون شان المسرح؟.
المشاهد أن من الفنون ما يجنح للخيال المبهم ومنها ما يهبط إلى الواقع السطحي بينما المسرح - فيما يبدو - يشكل التجارب والأفكار المجردة في قوالب ملموسة دون أن يقلل من روعة ما كانت عليه (خيالا) أو يزري بما صارت إليه (واقعا) يقول (آبركرمبي) وهو يشرح رأي أرسطو بهذا الصدد ما مؤداه: (إن الفن المسرحي إنما وجد لكي يعطي صورةومادة لضرب خاص من التنبه الخيالي. ووجود الفن يستلزم وجود التنبيه الخيالي. . . ومن الممكن أن نصور الحياة كما هي تماما ولكن الأمر الذي يحرك الشعور هو أن نتصور الحياة كما يمكن أن تكون وهنا يصبح الخيال قوة قادرة على الإيحاء. . . وربما كان عمل الخيال لا يعدو مجرد تقطير الأحداث الواقعية باستبعاد جميع نواحيها السخيفة. .)
فهل لنا أن نتخذ من هذه الواقعية الفنية مبررا قويا لتفضيل الفن المسرحي على غيره؟ المصطلح عليه انه من الصعب - إن لم يكن من العبث - أن نفاضل بين الفنون
بإخضاعها كلها لمقاييس جمالية واحدة بل ينبغي أن نراعى (الخامة) التي يستعملها كل فن على حدة. ومع هذا فقد نستطيع المقارنة بينها بالمقارنة بين هذه الخامات المختلفة وحينئذ يتبين لنا بجلاء أن خامة المسرح أغناها عنصرا وأقواها قدرة على التصوير الحي. فالمسرح بعناصره الثلاثة - أي التأليف والإخراج والتمثيل وأدواتها ووسائلها الخاصة المتآلفة - يمتاز على الفنون التي تصور (الجسم) - كالنحت - بالحياة والحركة. . . ويمتاز على الفنون التي تصور (الشكل) - كالتصوير اليدوي والآلي - بأبعاده الثلاثة. . . ويمتاز على الفنون التي تصور - (الحركة) - كالرقص والبانتوميم والميم - بالإفصاح الذي لا يغنى عنه الإيماء. . . ويمتاز على الفنون التي تصور (الفعل) كالشعر والقصة - بالتجسيد والتحديد. . . . أكثر من هذا فالمسرح يمتاز على الفنون جميعا في تصوير (اللحظات الفنية) التي هي مناط الاهتمام من كل فن. بيان ذلك إننا إذا أردنا - فرضا - تصوير حقيقة كبرى كالموت - وليكن موت أحد الفنانين مثلا - بشتى الطرق الفنية فان الفنون المكانية أي التي تشغل من الوجود مكانا ما كالنحت - ستتمثل اللحظة الفنية في غمضه عينية. . . والفنون الزمانية - أي التي تشغل من الدهر زمانا ما كالموسيقى - ستتمثل اللحظة الفنية في صوته وهو يتهدج ويخفت قبيل موته. . أو نحو ذلك بينما المسرح ستمثل اللحظة الفنية في كل ما بينه وبين الحياة من صلة: فمشهد يظهر شعور تلاميذه وعارفيه بالألم. . . ومشهد يظهر احتفال الناس بآثاره ومشهد يظهر ما ألم به من ظلم في حياته ومشهد يظهر ما صار إليه من مجد وهكذا.
بمثل هذه المزايا التي لا تتوفر الفن آخر استأثر التصوير المسرحي دون غيره أو اكثر من غيره من الفنون بتصوير الطبيعة البشرية والدوافع الإنسانية على مدى العصور فمن تصوير للنزعات العنيفة قديما إلى تصوير للمثاليات في عهود الرومانتيكية إلى تصوير للواقعية المجردة من الرياء أو العرف الاجتماعي، ثم الكشف عن مكنونات العقل الباطن في العصر الحديث.
وبمثل هذه المزايا كان للتصوير المسرحي دون غيره أو اكثر من غيره من الفنون فضل احتضان الآراء والنظريات الفلسفية والنقدية على مدى العصور. وليس أدل على ذلك من أن المسرح أمكنه حتى في العصور الاستبدادية أن يردد - وحده - ما يشاء من الآراء
بفضل قدرته البارعة على تصوير ما يشاء من الأجواء. ولنضرب مثالاً واحد لذلك بعهد الديكتاتورية الرومانية القديمة فقد استطاع بعض المسرحيين وقتذاك أن يصوروا كثيرا من الأجواء الحرة الطليقة - نقلا عن اليونان - بينما تشكلت سائر الفنون الأخرى قسرا بما يوائم سياسة تلك الديكتاتورية البغيضة.
كذلك انفرد التصوير المسرحي دون غيره أو اكثر من غيره من الفنون بالتوغل في أعماق النفس البشرية وإظهار دفائنها التي لا نكاد نصدق بها أحيانا. من ذلك مثلا (عاطفة الكراهية) التي يقال إنها تتولد في الخفاء بين الأب وابنه تمشيا مع قانون البقاء. فهذه العاطفة لم يكتشف مجرد احتمال وجودها إلا منذ بدا فرويد واتباعه في القرن الماضي يهتدون إليها. . ومع هذا فالمسرح يصورها منذ مئات السنين! فبالرغم مما يبدو في المسرحيات - نقلا عن مظاهر الحياة - من توقير الأبناء لآبائهم وعطف الآباء على أبنائهم (أو ما يسمونه عقدة الكترا وعقدة أوديب نسبة إلى تعلق الفتاة الكترا بابيها القائد أجاممنون وتعلق الملك أوديب بابنته انتيجونا واسمينا في الأساطير والروايات الإغريقية) إلا إننا نجد بالاستقراء أن للآباء أو في نصيب من السخرية والتحقير في الروايات الهزلية كما نجد أن معظم الروايات - هزلية وغير هزلية - تدور حول شاب يحب فتاة ويقوم أبوها أو أبوه بدور (العاذل) أو ما شاكل ذلك. وربما لا نجد تفسيرا لهذا كله إلا عاطفة الكراهية التي أسلفنا الإشارة إليها.
ولكن. . . قد يقال أن التصوير المسرحي مهما بلغت قيمته في العصور السالفة ذات الطابع الهادئ فقد اصبح في العصر الحديث ذي الأساليب الميكانيكية اقل قيمة من بعض الفنون الأخرى - والسينما على الأخص - لأسباب كثيرة منها: انه يصور الحوادث تصويرا بطيئا ويحصرها في زمان معين ومكان معين، الفكرة الواحدة إلى فصول متقطعة. . ويصطنع التقديم والتأخير في ترتيب حوادثها والتضخيم في تعبيره عنها لفظا وحركة، وهذا في مجموعه لا يطابق الواقع ولا المعقول بل لعله يتنافى معها! بينما السينما تعرض للناس ألواناً مجهولة لهم وتروح عن نفوسهم وتؤثر فيهم بواقعيتهم ومنطقها المعقول. . . الخ.
والحق أن الأمر - من الناحية الفنية على الأقل - ليس كذلك.
فبطأ التصوير ميزة للمسرح لأنه يهيئ للمشاهد فرصة الانفعال في كل مشهد بينما السينما لتتابع اللقطات - التي لا تعد أن تكون مشاهد - تتابعا فظيع السرعة لا تتيح حتى مهلة التأثر.
وأيضا حصر القصة في زمان معين ومكان معين ميزة للمسرح. إذ يضطر المؤلف إلى قصرها على اعظم حوادثها دلالة وأثاره ومغزى وبذلك بكون مركزة وخالصة من الشوائب فتزداد روعتها.
وكذلك تجزئة الفكرة الواحدة إلى فصول متقطعة ميزة للمسرح. فمن المعلوم أن المسرحية تتطور دائما في مصطرع فكري وعاطفي وفني هو (الحبكة) لذلك فان تجزئتها إلى فصول تتيح للجمهور شيئا من الراحة واستعادة النشاط وتتيح للمؤلف - وهذا هو المهم فنيا - الانتقال من تيار إلى آخر واستئناف التصوير كلما وصل تطور الحوادث وتعقدها إلى ما يسميه الفنيون (الطريق المسدود) بعكس السينما التي تتخطى هذه الطرق المسدود بالانتقالات المفاجئة في قفزات آلية لا جمال فيها.
وأما ترتيب الحوادث ترتيبا يغاير الواقع بتقديم بعضها وتأخير البعض الآخر فميزة من ميزات المسرح الهامة لأنه لا يغار الواقع على هذا النحو إلا تنظيما لحوادثه التي قد تقع كيفما اتفق وانتشالا لها من الفوضى والتماسا لتعليل حدوثها منطقيا وتهيئة لما يتوخى في العمل الفني من انسجام وتناسق.
وكذا التضخم في الإلقاء والأداء من ميزات المسرح التي يعتد بها لأن في تضخيم الألفاظ والحركات - في الحدود الفنية - إجلالا لما تدل عليه من مدلولات وإظهار لملامح الشخصيات ومواطن الانفعالات تماما كما ينحت النحات تمثاله من مادة فخمة وكما يصبغ الرسام لوحاته بأصباغ فخمة وهكذا بل أن هذا لا يعدو أن يكون مقاربا لما نفعله في حياتنا العادية حين نقص نبا نظنه هاما فنتكئ على بعض الألفاظ ونتحرك حركات خاصة بقصد التفهيم والتأثير. المسرح على هذا النحو يعمل ما وسعه على التفهيم والتأثير لذلك يضفي بأساليبه جلالا على الحوادث يجعلها ذات وزن.
وقل مثل ذلك عما يأخذونه على الفن المسرحي من إيهام أو تخييل أو مبالغة لأن العبرة بمدى إحساسنا بالصورة النهائية التي يصورها لا سيما ونحن نعلم أن ما يجري فوق
المسرح أن هو إلا (تمثيل) بحت وليس واقعا. فقد نشاهد في نصف ساعة مشهدا يصور قرونا بأكملها. وقد نسمع تهامس ممثلين وبجانبها مباشرة ثالث لهما (يمثل) أنه لا يسمعهما. . إلى غير ذلك دون أن نصدم بمخالفة الواقع أو دون أن نحس من هذه المخالفة بنفور أو شذوذ طالما إننا نعلم أن للمسرح (اصطلاحات) لا تحول دون التأثر النهائي المطلوب.
ولهذا يجوز أن نشاهد في بعض الروايات سمات يكاد يستحيل وجودها بين البشر (كما في: رومير وجوليت) أو حلول للمشكلات غير معهودة الحديث في دنيانا (كما في: ولكننا ننتهي من المشاهدة متأثرين اعظم التأثر سواء بتصوير (شكسبير) في الرواية الأولى لقوة الحب الطاهر أو بتصوير في الرواية الثانية لمغزاها الرائع: (الظروف تغير الأحوال
وأياما كان الأمر الدفاع عن فن ما لا يستلزم الزراية على فم آخر. ويكفينا من الفنون جميعا أن تنهض بما تمارسه في حدود قدرتها على هذه الممارسة. غير أن هذه لا يبرر الأخذ بظواهر الأمور فنغتر بالسينما دون اعتبارات فنية ونجاري العامة وأوساط الناس في نظرتهم المتواضعة إلى المسرح العظيم. . .
(للبحث بقية)
عبد الفتاح البارودي
نقل الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشبي
964 -
إن الله جميل يحب الجمال
في (تيسير الوصول) وقد جمع (الأصول الستة)
لا يخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر. فقال رجل: أن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة فقال أن الله جميل يحب الجمال. الكبر بطر الحق وغمص الناس
أن رجلا جميلا أتى النبي فقال: إني أحب الجمال، وقد أعطيت منه ما ترى حتى احب أن يفوقني أحد بشراك نعل، أفمن الكبر ذلك يا رسول الله؟ قال لا، ولكن الكبر من بطر الحق، وغمص الناس.
عن أبي قتادة قال: قلت يا رسول الله، أن لي جمة أفأرجلها قال: نعم، وأكرمها. فكان أبو قتادة ربما دهنها باليوم مرتين من اجل قوله نعم وأكرمها.
أتى رجل النبي ثائر الرأس واللحية فأشار إليه كأنه يأمره بإصلاح شعره ففعل ثم رجع. فقال: أليس هذا خيرا من أن يأتي أحدكم ثائر الرأس كأنه شيطان. . .
عن أبي الأحوص عن أبيه قال: أتيت النبي وعلى ثوب دون فقال: ألك مال؟ قلت: نعم قال: من أي المال؟ قلت: من كل المال قد أعطاني الله. قال: فإذا أتاك الله تعالى مالا فلير أثر نعمته عليك وكرامته.
965 -
لما تكلم فوقنا القدر
ابن هانئ الأندلسي:
مما دهانا أن حاضرنا
…
أجفاننا والغائب الفكر
وإذا تدبرنا جوارحنا
…
فأكلهن الغين والنظر
لو كان للألباب ممتحن
…
ما عدّ منها السمع والبصر
أيُّ الحياة ألذ عيشتها
…
من بعد علمي إننا بشر؟
خرست لعمر الله ألسننا
…
لما تكلم فوقنا القدر
966 -
يا أبا صالح احفظها
في (تاريخ الولاة) للكندي: لما ولى (مصر) أبو صالح يحيى بن داؤد من قبل المهدي، وكان من اشد الناس سلطانا، وأعظمهم هيبة - منع من غلق الأبواب بالليل، ومنع أهل الحوانيت من غلقها حتى حطوا عليها شرائح القصب تمنع الكلاب منها. ومنع حراس الحمامات أن يجلسوا فيها وقال: من ضاع له شئ فعلي أداؤه فكان الرجل يدخل الحمام فيضع ثيابه ويقول: يا أبا صالح احفظها فكانت الأمور على هذه مدة ولاته.
في (تاريخ الولاة) للكندي: ولى مصر عيسى بن منصور سنة (216). فانقضت اسفل الأرض كلها عربها وقبطها واخرجوا العمال، وخالفوا الطاعة وكان ذلك لسوء سيرة العمال فيهم. وقدم المأمون مصر سنة (217) فسخط على عيسى بن منصور، وأمر بحل لوائه وبلباس البياض، وقال: لم يكن هذا الحديث العظيم إلا عن فعلك وفعل عملك: حملتم الناس مالا يطيقون وكتمتوني الخبر حتى تفاقم الأمر واضطرب البلد!
967 -
إن لاتصال حقا في أموالنا لا في أعراض الناس
وأموالهم
في (مواسم الأدب):
قال: الربيع للمنصور: أن لفلان حقا فان رأيت أن تقضيه، وتوليه ناحية فقال يا ربيع: أن لاتصاله حقا في أموالنا لا في أعراض (الناس) وأموالهم. أنا لا نولي للحرمة والرعاية بل للاستحقاق والكفاية. ولا تؤثر ذا النسب والقرابة على ذي الدراية فمن كان منكم كما وصفنا شاركناه في أعمالنا. ومن كان عطلا لم يكن لنا عذر عند الناس في توليتنا إياه، وكان العذر في تركنا له وفي خاص أموالنا ما يسع.
968 -
أدبنا الله قبل معرفتنا بحكمة ارسطاطاليس
قال أرسطو للإسكندر: ليكن ملكك في البلاد بالتودد إلى أهلها لا كقهر الراعي غنمه بالعصا، فانك في طاعة المودة احمد بدءا وعاقبة من طاعة والاستطالة.
فحدث بهذا القول المأمون فقال: لقد حث على التودد فاحسن، وقد أدبنا الله قبل معرفتنا بحكمة ارسطاطاليس (ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك).
969 -
قصيدة مبيدة. . .
في (نفخ الطيب):
لما استوزر باديس صاحب غرناطة اليهودي الشهير بابن نقولة، واعضل داؤه المسلمين قال زاهد البيرة وغرناطة أبو إسحاق الألبيري قصيدته النونية المشهورة التي منها في إغراء ضهاجة باليهود:
ألا قل لصهاجة أجمعين
…
بدور الزمان وأسد العرين
مقالة ذي مقة مشفق صحيح النصيحة دنيا دين
لقد زل سيدكم زلة
…
اقر بها أعين الشامتين
تخير كاتبه كافراً
…
ولو شاء كان من المؤمنين
فعز اليهودُ به وانتموا
…
وسادوا وتاهوا على المسلمين
فثارت إذ ذاك، صنهاجة على اليهود وقتلوا منهم مقتلة عظيمة. وفيهم الوزير المذكور. وعادة الأندلس أن الوزير هو الكاتب.
من وراء المنظار
الزواج سنة 1948
لعل هذه البلاغة التي أنا محدثك عنها قد سلف بها الزمن، ولكني لم
اهتد إليها إلا أمس وأنا جالس في ركن من أركان مقهى هادئ جميل
احسب أن أصحابه أعدوه لمن ينشد الهدوء ولشيء آخر أظنه عندهم
أحلى من الهدوء وأمتع. . .
جلست وحدي منكدر الخاطر بما ينعكس على ذهني من هذه الوحدة. . . ودرت ببصري وفي عيني شئ من أثرا لهم، أدرأ السام عن قلبي، وانفض الخواطر الكابية عن ذهني فانقلب إلى البصر محزونا فما يخلو ركن من رفقة وقلما رأيت شابا إلا ومعه صاحبته أو زوجه، ولم يكن هناك من يجلس مثلي وحيدا إلا اثنان أو ثلاثة لعلهم كانوا ينتظرون من يؤنس هذه الوحدة. . .
البهو هادئ على كظته، خال مما يحدث الضجيج والصخب من أدوات اللعب، والمقاعد منسقة تنسيقا جميلا، والندل يجيئون ويذهبون بما يشرب أو يؤكل في خفة وفي هيئة تغري بطلب المزيد والضحى دافئ ضاح، والوجوه كلها مستبشرة مطمئنة، وأنغام الموسيقى يصغي لها من يصغي ويصفق لها من يصفق ويلهو عنها بالحديث العذب من يلهو، وأنا وحدي على حالي من السام والضيق وانكدار الخاطر.
وجاء رفقة من الشباب فتحلقوا حول منضدة غير بعيد منى، واخذوا يتحدثون ويضحكون، وما فيهم فيما أرى من هو دون الثلاثين ولا من يزيد على الأربعين؛ وكان بينهم فتى يبدو لأول وهلة انه روح الحلقة ففي وجهه وإشاراته وحركاته ما ينطق بخفة روحه، وفي ضحك رفاقه من كل كلمة يقولها ما يدل على انه فارسهم المعلم. .
وتشقق الحديث بينهم في غير نظام حتى مال الكلام إلى الزواج فسال واحد منهم: لم كانوا جميعاً أعزاب؟ وإلام يظلون على هذه الحال؟ ورد أحدهم قائلا في لهجة المتحمس: (ينحصر ذلك في أمر واحد هو عندي علة العلل، فان بعض أسرنا وبخاصة ما سيمونها الأسرة الراقية وا أسفاه قد أخذت ببعض التقاليد الأوربية التي تنبو عن روحنا الشرقية،
فاندفع بناتنا إلى أما يعد في الغرب من مألوف الأمور، وما يعد الشرق مهما خادعنا أنفسنا من التدهور الخلقي والفوضى والأباحية، ولما انطلقت الأوانس من بعض القيود أغراهن ذلك بما سميته حرية فانزلق أكثرهن حتى وقفن على حافة الهاوية وسقط بعضهن فعلا، واعرض الشباب أو اقدموا ثم ما لبثوا أن طلقوا. . .).
وضاق فارس الحلقة بهذا الجد فقال لصاحبه: (دعنا من هذه الفلسفة: المسالة أن الزواج الآن زواج منفعة أيها العبيط؛ العبيط لا يملكها إلا الحزب الحاكم، وعلى ذلك فهذا يطلب عروسا وفدية إذا كان الوفد في الحكم، وآخر يطلبها سعدية إذا كان السعديون هم الحاكمين، ويحرص غير هذين وهو امهر منهما أن يأتي بها وفدية الوالد سعدية العم دستورية الخال كتلية الأخ، وامهر من هؤلاء من يأتي بها إنجليزية فتغنى عن الجميع على قاعدة ألمانيا فوق الجميع، ومن هذا صعب اختيار الزوجة يا عبيط)
وضحك الرفاق وقال أحدهم (مثال ذلك أن فلانا يطلب يد ابنة فلان باشا ولكنه يشترط على أبيها الدرجة الثالثة). . . وضحك الفارس وقال: (قل لأبيها أنا اقبل بالرابعة).
وعاد الفيلسوف يقول: (أف لم يطلب المال والدرجات! الجمال هو كل شئ) وقاطعة الفارس قائلا (والخلق يا حضرة الفيلسوف) وقال الفيلسوف (والخلق بالضرورة) فقال الفارس يقلد لهجته متهكما، ً يظهر انك تصنع العروسة على يدك جمال وخلق وأين ذلك وقد وصفت العصر بما وصفت؟).
والتفت الرفاق والتفت إلى الفتاة كالزهرة فتحها الربيع: فهي نضرة وفتنة وعطر وسحر وشعر، وقد وضعت كتابها على المنضدة وأخرجت إبرتها وغزلها وأعملت أناملها، دون أن تنظر إلى أحد. . . وسكن الشبان لحظة كان على رؤوسهم الطير ثم تخافتوا بينهم، وقال الفارس فيما يقرب الهمس:(أتزوج هذه ولو ذهبت درجتي ومالي. . بلا قيد ولا شرط) وقال الفيلسوف (أنا معك! أرأيت كيف يعلو الجمال على المال؟ ولكن. . . يا خسارة! تأتي هكذا وحدها إلى المقهى. . . من يدري؟) وآمن الرفاق بالجمال وقالوا نقبلها ولو كان أبوها طريد الأحزاب كلها) إلا واحدا منهم لم يتكلم قبل أبداً) كان صهيوني الملامح والنظرة فهز رأسه منكرا وقال (كلا لست معكم! والله لن اقبلها إلا ومعها الدرجة)
الخفيف
من التراب:
ماضي شهيد!
للأستاذ محي الدين صابر
هكذا دارت حواليه ولفته الحياهْ
فارتمي في السفح، في عينيه وحي صلاه
وعلى المنهل قد أنكره حتى الرعاه
هو حلم ظلّ يسّاقط ليلاً في ضحاهْ
ضلَّ في أعماقه معناه وأرتاب هُداه
وسوستْ أشواقُه من أفق ليس يراه
صاعداتٍ لضمير في دم الغيب مداه
دمعت جبهتُه آه وكم تبكي الجباه
قال، والذُّلُّ على عطفيه يا مجد إلهْ
هكذا دارت حواليه ولفته الحياهْ
وتلوَّى في طريق سارب بين الشَّعابْ
ذاهلاّ يدفنُ في عينه كوناً من عذاب
مهجةّ مجروحة الأقدار تاهت في ضباب
نشرت من شعره الريح وجاشت في الثياب
قدماهُ فوق ناب الصخر موتٌ في شبابْ
وهوَ سهوانُ كما يطردُ معنىً في كتاب
يتملى صوراً تْغُبرُ ما ضيه رطاب
قال في قهقة المجنون يا ذلَّ التراب
ورأى في وهمه الواثب في السفح، سراب
فتلوَّى في طريق سارب بين الشّعاب
وتهاوى تحت سرح شائخ الجذْع عتيدْ
ظُّلهُ الرَّاعش رحمانٌ على البيد طريد
شد من لحيته يرُقبُ طيفا من بعيد
من بعيد بين جبنيه رمادٌ وحصيد
واستوى يعزف للقمة لحناً من جديد
جحظت عيناهُ هذا النايُ صمتٌ وجليد
ذهب الوحيُ جميعاً من يديه والنشيدْ
مصه الجدبُ امتصاصاً فهو بيد فوق بيدْ
قال في حشرجة المذبوح يا قبر شهيد
وتهاوى تحت سرح شائخ الجذع عتيد
ومشت قافهُ تصعد من خلف السنينْ
في هواديها غناء وعلى الخلف أنين
هي من أين؟ إلى أين؟ أظن أم يقين
هي لا تعرفُ إلا إنها في السائرين
عبرت مصرع إنسان على الذَّكر دفين
كبرياءٌ ردَّها الفكرُ حطاماً من حنين
فهو راسٌ يثبُ الموتُ عليه وجبين
قال حاديها: غريبٌ قد دعانا منذ حين
فدعوه أن في الماضي حياة الخالدين
ومشت قافلةٌ تغرقُ في جوف السنينْ
(باريس)
محي الدين صابر
الأدب والفن في أسبوع
الأديب والسياسة:
هذا عنوان المحاضرة التي ألقاها الدكتور طه حسين بك في مساء يوم الاثنين بقاعة الليسيه فرنسيه، وقد بدأ بالتساؤل عن معنى الأدب والسياسة، فانتهى إلى الكلام لا يكون أدبا إلا إذا زيد فيه على تأدية المعاني العادية الإمتاع الفني الذي يتحقق في المعنى واللفظ وطريقة الأداء حين يريد الأديب أن يؤثر في النفوس ويثير فيها العواطف المختلفة، كما انتهى إلى أن السياسة اعم مما يفهم منها حين يراد بها العلاقة بين الحكومة والشعب، أو بين البرلمان والحكومة وحين يراد بها النزاع بين الأحزاب على الحكم ونظمه لان السياسة تشمل شئون الشعب من حيث علاقات أفراده وجماعاته وطبقاته بعضها ببعض كما تشمل علاقة الشعب بالشعوب الأخرى في شتى نواحي الحياة، أي إنها تشمل الحياة الاجتماعية كلها. وقال الدكتور: أن هذا هو المعنى الذي افهمه للسياسة حين أتحدث إليكم في العلاقة بين الأديب والسياسة.
وعلى هذا الوضع نستطيع أن نتبين هل يمكن للأديب أن يعيش في عزلة عن المجتمع؟ أن ذلك لا يمكن لأن الأدب ظاهرة اجتماعية والأديب أداة اجتماعية لا يستطيع أن يعيش بنفسه ولنفسه، ساق حياة المعري مثلا على العزلة الظاهرية التي تدل على عدم إمكان الانقطاع عن حياة الناس؛ لأنه لزم داره حقا، ولكنه أنشأ أدبه في شئون الناس؛ ينتقد حياتهم ويسفه اراءهم؛ فاعتزال الأديب غير ممكن، وما مسالة البرج العاجي غير خداع وأوهام. وقال انه عرف بعض الأدباء الذين يزعمون انهم يعتصمون بالبرج العاجي من المصريين وغير المصريين فلم ير أحداً اشد منهم تهالكا على نشر آدابهم وحرصا على رضا الناس عنهم وخوفا من سخطهم على إنتاجهم.
فلندع إذن هذه المسالة الوهمية لننظر فيما يضطلع به الأديب؛ فهو أما أن يكون مترفا في أدبه يخلص من مشاغل الحياة إلى إمتاع العقل والقلب بفن رفيع وهذا الحقيقة لا يتجنب مسائل الحياة، وإنما يعالجها على نحو لا يدركه إلا الخاصة، أو يكون الترف بالتلهية والتسلية كالذي يقصر الوقت بين الاستلقاء على الفرش والاستغراق في النوم، أو يعمد الأدب إلى جد الحياة فيشارك في التوجيه والتثقيف وبصور الآلام والآمال.
والأديب على كل حال من هذه الأحوال فرد في المجتمع يعمل كل يعمل أفراده ويتحمل نصيبا من التبعات قل أو كثر حتى أديب التسلية فانه يعين على التخفف من التبعات في بعض أوقات الفراغ.
وبعد أن استعرض الدكتور بعض العصور الماضية مبينا اثر السياسة في الأدب وانشغاله بها، خلص إلى الوقت الحاضر فقال أن أدباءنا جميعا - وأنا منهم - غارقون في السياسة إلى الأذقان، فهم جميعا يتحدثون في كتبهم وفي الفصول التي تنشرها لهم الصحف. والمجلات. عن شئون الحياة ومشاكل العصر، ولو لم يفعلوا ذلك لكانوا طفيليين في الحياة، وغاية ما في الأمر إننا نستطيع أن نحدد ما ينفع وما لا ينفع ومن الثاني الاشتغال بخصومات الأشخاص وأغراضهم ومطامعهم، وفي غير ذلك لا يجعل بالأديب أن يتجنب السياسة. ويحدث أن يلقاني بعض الناس أو يلقوا غيري من الأدباء فيقولوا: لو تركت السياسة وخلصت للأدب! وهؤلاء لا يفهمون السياسة ولا الأدب.
تعقيب:
رأيت أن الدكتور طه وسع معنى السياسة حتى جعلها تشمل كل شئون الحياة، وليس هذا هو مدلولها الذي جرى الناس عليه وقد انساق في هذا التوسيع - كما يخيل إلى - ليدخل السياسة في اختصاص الأديب. وكن هل هذا الفرض في حاجة إلى التوصل إليه بذلك المزج؟ أن الأديب يتناول كل شئ في الحياة بطريقته الفنية فيكتب الأدب السياسي والأدب الاجتماعي وغيرهما؛ وليس معنى هذا أن كل شئون الحياة سياسة، وإلا فهل تعد القصة التي يكتبها الأديب ممثلا ويدبر فكرتها وحوادثها على زوجين لم يسعدا لاختلافهما في العمر اختلافا كبيرا هل يعد مثل هذا سياسة؟
أما هل يكتب الأديب في السياسة أو لا يكتب فيها فهذه مسالة أخرى وان كان مما لا شك فيه انه حين يكتب في السياسة فيمتع ويشعر بجمال الفن، لا يبعد عن الأدب، ولكن أدبه سياسي يختلف عن ألوان أخرى من الآداب.
مؤتمر المجمع اللغوي:
احتفل مجمع فؤاد الأول للغة العربية يوم الاثنين بافتتاح مؤتمره السنوي أي الجلسات التي
تنعقد بحضور الأعضاء الأجانب شرقيين وغربيين، وقد جرى المجمع على أن يحتفل في أولى هذه الجلسات بافتتاح هذا المؤتمر.
افتتح الحفل معالي رئيس المجمع احمد لطفي السيد باشا ثم ألقى معالي وزير المعارف عبد الرزاق السنهوري باشا كلمة لا احسبني مغاليا أن قلت إنها ثورة لغوية. . . فقد أشار إلى ما ذكره في خطاب العام الماضي من أن هناك علامتين لسلامة اللغة، هما اقتراب لغة الخاصة من لغة العامة، وابتعاد لغة الحاضر عن لغة الماضي. ثم قال أن لغتنا العربية في الوقت الحاضر قد تطورت تطور كبيرا لأنها اليوم اقرب إلى لغة العامة وابعد عن لغة الماضي إلى حد كبير، فهي لغة سليمة، وليست اللغة السليمة هي التي تقراها في كتب القرون الماضية، فهذا صورة تاريخية من صور تطور اللغة الغربية؛ والذين يقولوا أن اللغة العربية قد دخل عليها الفساد وركبتها البدعة يعتقدون أن اللغة العربية ليست إلا هذه الألفاظ والعبارات التي جرت بها الألسن في القرون الأولى ودونتها الكتب والمعاجم في العصور السالفة ولكنا نذهب إلى غير رأيهم فلا تملك الأموات من هذه اللغة اكثر مما تملك الأحياء.
ووصلت الثورة إلى مداها عند ما قال معاليه: هأنذا استعمل لفظ (التطور) وهو لفظ عربي لا أخال انه يستند إلى نص أو قياس ولكنه لفظ اجمع عليه كتاب العربية في عصرنا الحاضر، فهل يجوز لأحد اليوم أن يخطئ في استعماله؟ وقد أكون استعملت في كلمتي هذه أو في غيرها ألفاظا قد تكون مضبطة على القاموس أو غير منضبطة وقد تكون واردة في المعاجم الأولى أو غير واردة فسواء كان هذا أو ذاك فأنها ألفاظ عربية سليمة متى انعقد عليها إجماعنا في العصر الحاضر.
ونوه معاليه بأهمية الإجماع في اللغة وتطورها وحياتها، ثم نبه على انه لا يقصد به الفوضى التي تأتى من استعمال ألفاظ بعيدة عن أصول اللغة وقواعدها
وألقى الأستاذ عباس محمود العقاد بحثا في (موفق الأدب العربي من الآداب الأجنبية في القديم والحديث) فأوضح معالم الموضوع وبينه بيانا حسنا على اضطراره إلى الإيجاز فيه. قال أن الأدب العربي تأثر بمخالطة الأمم الأجنبية قديما كما تأثر بها حديثا، غير أن تأثره بها في القديم كان على أكثره - من ناحية الحضارة بملابسة الأمم في أصول المعيشة
وعادات المجتمع، وان تأثره بها حديثا كان - على أكثره - من ناحية الثقافة بالاطلاع على آداب الأمم في لغاتها والتوفر على دراستها.
قال الأستاذ في بيان التأثر القديم: كان اعتزاز العرب بلغتهم صافا لهم عن تعلم اللغات الأجنبية منذ أيام الجاهلية فلما جاء الإسلام أضاف الاعتزاز بالعقيدة إلى الاعتزاز باللسان، لكنهم خالطوا الأمم في حضارتها وان لك يتكلموا بألسنتها فاثر ذلك في أدبهم وطهر أثره في أوزان القصيدة ومعانية، وفي الإسلام زاد الاتصال فدخل في أغراض الشعر كثير من مظاهر الحضارات التي تجمعت في بلاد الدولة الإسلامية كوصف المهرجانات والمواسم.
ثم قال في بيان التأثر الحديث: أن موقف الأدب العربي من الأمم الأجنبية في العصر الحديث هو على الأغلب موفقه من الأمم الأوربية، وصبغة الثقافة فيه اظهر من الحضارة على وجه التعميم، ولقد كانت اللغتان الفرنسية والإنجليزية اقرب مسالك الثقافة الأوربية إلى البلاد العربية، واتفق أن كان هذا الاتصال في عهد النهضة العلمية أو عهد التحقيق والتمحيص فقرا أدباء العرب كتب القوم وهي تضيف مزايا التعبير العلمي إلى مزايا التعبير الأدبي في أقلام البلغاء، فكان من اثر ذلك دقة الأداء وتخصيص اللفظ بمعناه وكان من أثره اتساع أفق الكتابة والشعر، وبخاصة ما كتب أو نظم في تمثيل الجوانب النفسية وتحليل دواعي الحس والعاطفة.
وألقى الشيخ عبد القادر المغربي كلمة عن (مجامعنا اللغوية وأوضاعها) تحدث فيها عن المحاولات الأولى في إنشاء هذه المجامع فالمجمع الأول أنشئ سنة 1892 برياسة السيد توفيق البكري والمجمع الثاني أنشئ سنة 1917 برياسة الشيخ سليم البشري وكان الأستاذ لطفي السيد (باشا) مقررا له وقد انتج هذان المجمعان نتاجا لم يكد يولد حتى مات لأسباب منها ما يرجع إلى طبيعة الألفاظ التي وضعت ومنها ما يرجع إلى التغافل عن الطرق المؤدية إلى استعمال تلك الألفاظ واستمالة أنظار الجمهور إليها. وعد الأستاذ المغربي من تلك المحاولات، ما كان منه ومن المغفور له احمد تيمور باشا إذا اتفقا على العمل على استعمال ألفاظ فصيحة بدلا من العامية والدخيلة وانتقى تيمور باشا عشرين كلمة من الفصيح ونشرها في المؤيد سنة 1908 ونصح الجمهور باستعمالها، ثم كتب الشيخ المغربي تطبيقا عليها مقالا في المؤيد بعنوان (تمرين على الكلمات العشرين).
ثم تحدث الأستاذ عن المجمع العربي بدمشق ومجمع فؤاد الأول بمصر أثرهما في اللغة وما يرجى منهما.
وألقى الأستاذ محمد كرد على بحثا في (عجائب اللهجات) بين فيه اثر اختلاط العرب بغيره وخاصة بعد الإسلام في تعدد اللهجات، واستمر في بحثه حتى وصل إلى العصر الحاضر فساق أمثلة كثيرة لاختلاف اللهجات في الأمم العربية.
ووقف الأستاذ جب المستشرقين الإنجليزي فاعتذر من عدم حضوره مؤتمر المجمع في السنتين الماضيتين لانشغاله مع زملائه أساتذة الثقافة الشرقية في الجامعات الإنجليزية بتنظيم الدراسات الشرقية وقال انهم ألفوا جميعه خاصة بهم في السنة الماضية.
أعمال المجمع:
وقد ألقى الدكتور منصور فهمي باشا كاتب سر المجمع كلمة في (أعمال المجمع خلال الدورة الماضية) وأرهفت الآذان لتلقى أنباء هذه الأعمال فإذا هي تتلخص في إلقاء بحوث في الجلسات من بعض الأعضاء وفي النظر في بعض المصطلحات العلمية وتقرير تعريفها والنظر في منهاج العمل بالمعجم الوسيط والمعجم الكبير، وفي مواصلة اللجان أعمالها، فلجنة الأدب أنجزت مسابقة الإنتاج الأدبي في العام الماضي وتعمل في مسابقة العام الحالي، ولجنة الأصول أمامها مقترحات في تيسير الكتابة العربية لا تزال تبحثها.
وكل تلك الأعمال عدا المسابقة الأدبية لم تظهر لأعين الناس بعد، ولم يزل المجمع يتحدث عنها منذ سنين كما يتحدث عنها الآن حتى المجلة، التي قالوا منذ اكثر من عام إنها على وشك الظهور لا تزال طي الخفاء. . وقد فاتني أن اذكر من أعمال المجمع انه قرر نشر المجلة مرتين في السنة
أشعر الشعراء:
كانت مجلة الهلال قد نشرت في أكتوبر الماضي استفتاء لقرائها عن الشعراء الخمسة الأول بين العرب الأحياء، وعمن هو أجدرهم بلقب الإمارة الآن. وكنت قد عقبت على ذلك ببيان عدم الحاجة إلى هذه الإمارة، وتفنيد طريقة استفتاء قراء أكثرهم ليس أهلاً لمثل هذه الأحكام الأدبية.
وقد أحسنت الهلال إذ أعلنت في الشهر نتيجة الاستفتاء خالية من (أمير الشعراء) قاصرة على (الشعراء الخمسة الأول) واصطنعتن اللباقة في (دغم) مسالة الإمارة، إذ ذكرت أن المشتركين في الاستفتاء (قالوا أن آثار كبار شعرائنا تكاد تكون في مستوى واحد من القوة والإبداع، ويكاد لا يوجد وجه لتقديم بعضهم على البعض الأخر) وهكذا خلصت إلى ما عرف عن دار الهلال من الاتزان وإرضاء الجميع. ثم أعلنت (إن الشعراء الخمسة الأول بين الشعراء الأقطار العربية هم بالترتيب الذين حازوا اكثر الأصوات: خليل مطران بك. علي الجارم بك. السيد بشارة الخوري. الأستاذ علي محمود طه. الأستاذ أحمد رامي).
وقد جاءت هذه النتيجة - كما ترى - وفقا لما ينتظر من قراء يتوخون اكثر الأسماء شهرة في المحيط العام دون التفات أو دراية بما تستحق من تقديم أو تأخير - وأنت تعلم - كما اعلم - أن ثمة شعراء يرجحون بعض هؤلاء في الموازين الأدبية. وقد نشرت المجلة تعقيبا على هذا الاستفتاء للدكتور عبد الوهاب عزام بك قال فيه أن الناقد لا يستطيع أن يوازن بين جماعة من الشعراء (إلا أن يقرا ديوان كل واحد منها قراءة ناقد مثبت ويكون قد عنى بها وقراها واستقر على رأي فيها على مر الزمان. . . . وليت شعري من فعل هذه من النقاد؟) أقول: إذا كان هذه مستبعدا على النقاد فما بالك بالقراء. . . .؟
ملك الشعراء:
ومما قاله الدكتور عزام بك في ذلك التعقيب: (وإذا نظرنا في تاريخ الآداب الشرقية. وجدنا ألقاب الإمارة والملك معروفة بين شعراء إيران مثل ملك الشعراء معزى. وقد تلقب بلقب ملك آخرون من شعراء الفرس من بعده وفي عصرنا هذا يعرف الشاعر الكبير بها بلقب ملك الشعراء وهو أستاذ في جامعة طهران، وأما في تاريخ الأدب العربي فلم تعهد الألقاب. . . وبعد فان لم يكن بد من بيعة أحد الشعراء المعاصرين بالإمارة أو الملك فايسر وسيلة لذلك أن يجتمع الشعراء وحدهم ويختاروا لأنفسهم ملكا أو أميرا عليهم. فان فعلوا فليس بعد رأيهم مقال لقائل) وأنا لا أرى أن هذه وسيلة يسيرة فضلا عن أن تكون ايسر وسيلة. فمن يضمن لنا أن كلا من شعرائنا سينتخب غيره وأن سيكون لهذا الانتخاب نتيجة سوى أن يكون عدد الفائزين مساويا لعدد الشعراء وخاصة إذا كان المطلوب صاحب جلالة في الشعر لا أميرا فحسب.
ولم كل هذه وعندنا (ملك الشعراء) الدكتور زكي مبارك وقد كفى سائر الشعراء مشاق الاجتماع والنزاع والاختيار، فأعلن نفسه ملكا عليهم ولعلة كان قد انتظر أن يشعروا بأحقيته لهذا المنصب الخطير فلما رآهم مشغولين كلبنفسه وجد من حق نفسه هو أيضا أن يتقدم إلى مكانه.
والدكتور زكي مبارك أو ملك الشعراء، يفوق الشعراء جميعا بالحرية التامة في التعبير عما يريد فيشعر صورة صادقة لنفسه ليس فيها مداجاة ولا تزوير وهو رجل سليم الطوية لا يخشى - إذا ملك - أغن يجور وفيم يجور.؟
(العباسي)
رسالة النقد
أدب المليم المزيف
للأستاذ حبيب الزحلاوي
إلى صدقي الكريم الأستاذ صديق شيبوب:
يعسر على الكاتب في النقد الأدبي ما يسهل على الكاتب المنشئ في كتم خليقته وستر سريرة نفسه، لأن النقد بيان وتفصيل ولئلا محيد للناقد عن التجرد الذاتي لينطلق حرا، يقول الحق وبصور الحقيقة.
الناقد المتجرد تمام واش، يشي بنفسه على نفسه، ويعترف بما في قرارتها من اسرار، وينشر ما تتطور عليه ضلوعه من سجايا وخلائق ومن كوامن دفينة أيضا لأن طبيعة التجرد توجب ذلك ولان التجرد والانطلاق صفتان بعيدتان كل البعد عن خلال المواربة والختل والمداورة والنفاق التي تعسر كل العسر على الكاتب في النقد الأدبي
قرأت ما كتب النقاد في كتابي (أنات غريب) وأصخت بسمعي إلى ما ساقه البعض إلى من لوم وتجريح من ناحية، وثناء وإطراء ومغالاة في التقدير من البعض الآخر من ناحية ثانية، فلم اقف طويلا عند واحد من أولئك المسرفين في اللوم أو الإطراء، ولكني اشعر ألان بما يدفعني إلى الوقوف طويلا - وجها لوجه - من صديقي الكريم الأستاذ صديق شيبوب، الكاتب الهادئ النفس، المنكر لذاته، القانع بالقليل القليل من الشهرة وذيوع الصيت، الدؤوب على المطالعة والدرس والتنقيب والتعقيب المثابر على نشر فصل في (الحياة الأدبية) مرة واحدة في كل أسبوع، في صحيفة يعبد أربابها المال، ويروجون للمضاربة في أسواق المال، وقد لا يقراها أديب واحد غير يوم الجمعة، لأنه ليس في الأدباء ممن اعرف غير يهودي واحد يضاربان ليكسبا المال في سهولة الكسول ومغامرة المقامر المضارب، في هذه الصحيفة المالية يختبئ صديق الكريم وراء حرفين متواضعين من حروف الهجاء (صاد شين) فبينا نراه في فصل من فصوله الأسبوعية يدرس كتابا في تاريخ قدماء المصرين أو الرومان واليونان، نجده في بوادي الجاهلية وصحاري الإسلام يقارن ويوازن وينسق ويعادل هؤلاء بأولئك. وبينا نسمعه يروى أسطورة أو خرافة نراه ينشر قصة تصويرية لواقعة حال أو بحثا تحليليا لأديب جرى عليه النسيان أو يلخص كتابا
في الأدب الفرنسي أو رواية عصرية وهو بين هذا وذاك يكتب فصولا بارعة في دراسة الكتب التي تهدي اليه، فيقرظها تقريظ المشجع أو المحبذ تقريظ الأديب الغيور الذي يدفع بالمؤلف إلى الاستزادة والإجادة. ولكني ما قرأت في فصول في النقد كان يخص بها الأصدقاء والمعارف من المؤلفين ولعلي انصف صديقي شيبوب إذا قلت أن فصوله في النقد الأدبي هي المتفوقة في قيمتها والمتقدمة في شانها على بقية فصول يكتبها (في الحياة الأدبية).
على هذا الأساس إذن اقف من صديقي الناقد البارع أساجله مساجلة الراغب في بلوغ الحق، القاصد وجه الحقيقة: قال الأستاذ شيبوب في العدد السابق من الرسالة:
(. . . . ولا يقف أدب الأستاذ حبيب الزحلاوي عند التأليف القصصي، فانه نقادة ادبي، ولعل النقد الأدبي كان أول ما عالجه من فنون الأدب، إذ تقدم كتابه (أدباء معاصرون) غير هـ من الكتب وقد ظهرميله إلى النقد في أقصوصة (الدميم) لأنه عرض فيها للحبكة، والعرض والفكرة، والوحدة؛ وذكر انه (ليست قيمة القصة في المادة التي تتألف منها، ولا في كيفية ترتيب تلك المادة، بل قيمتها في الكيفية التي تؤدي بها، وفي عرضها عرضا خاصا بمهارة فنية، بالتشويق والترغيب وفي صدق الرواية عن الحياة. . . .).
(وقد اضطر لبيان ذلك، إلى حشر أقصوصتين في أقصوصة واحدة، وهما لا رابط بينهما غير فكرة العرض بمهارة وبغير مهارة).
يعلم صديقي ولا شك أن مجال القصة واسع سعة الفضاء الذي يضم الكون، وأن القاص إذا قصر في تجواله بأجوائه، إنما يكون تقصيره نتيجة لضعف في خوافيه وقوادمه، وفقر إلى الخيال المنسرح والذهن المبتدع. وأن المجالات الضيقة التي رسمها نقاد القصة ليست في الضيق إلى الحد الذي يصد المبتكر عن شرح درس في بناء القصة وتعليم من لا يعلمون إنها تسع كل ضرب من ضروب العلوم والفنون، وكل رسم وصورة للحياة بكامل ظواهرها وبواطنها فكيف تضيق القصة إذن بالنقد الأدبي؟.)
أقول القاص المبتكر تمييزا له عن أولئك (الهلافيت) الذين يملئون الصحف (السوقية) بقصص فاجرة يضل القارئ في مبتداها ومنتهاها، ويتيه قاص الأثر البارع في تتبع معالم وأغراض كاتبيها، هذه إذا كانت لهم أغراض ومقاصد ثم أي حرج على القاص وقد جعل
بطل قصته معلما حكيما يعلم تلاميذه الأصول والقواعد ويهديهم سواء السبيل؟ أيعاب عليه إبراز مثل ناطق يشهد على العشرات من القصصيين الذين يرتجلون القصة ارتجالا ولا غاية لهم سوى الغرائز والهاب الشهوات! كيف، بل لم يؤاخذني يا صديقي على بيان (يميز بين قصة معروضة بمهارة، وقصة لا مهارة في عرضها؟.)
على هذا الأساس كتبت قصتي (الدميم) وبهذا الرباط ربطت بين القصتين، قصة مرتجلة لا ضوابط لها ولا قواعد، مرماها إثارة الشهوات الجنسية، وقصة تتفاعل فيها عوامل الحياة الزاخرة بالصدق، ويه معلومة الحدود والمعالم، واضحة الطريقة والمذهب والغرض والأسلوب أيجوز لك يا صديقي بعد هذا أن تقول أن القصة مفتعلة لبيان فضل الأقصوصة الثانية على الأقصوصة الأولى)؟؟
لا أحسب أن هذه التجني من صديق الكريم جاء عفوا، بل اعتقد انه كان وسيلة لغالية، لأن المقال الذي تفضل بكتابته عني، إنما كتب بروح من النقد، والناقد كما علمنا نمام واش يشي على نفسه بنفسه: قال الأستاذ شيبوب:
(تناول الأستاذ حبيب الزحلاوي النقد الأدبي في شئ من الجراة، وكثير من العنف، مما جعل له خصومات أدبية قديمة وحديثة كانت إحداها مع أديب له مقامة المرموق في عالم البحث والأدب والشعر، والتجديد الذي يحاوله هذا الأديب الفاضل لا يروق الأستاذ الزحلاوي، وهو حر في رأيه، وكنت اعتقد أن هذه الخصومة تقف عند حد النقد الأدبي ولا تتعداه إلى التعريض في إحدى القصص بذلك الأديب. والحق إني كنت اجل صديقي الأستاذ الزحلاوي عن أن يستعمل مثل هذه الوسيلة لينال من أديب نابه لا يرضى هو عن أدبه).
هنا مربط الفرس كما يقولون، هنا يتجرد الناقد الذاتي المنطلق حرا في القول والتصوير، هنا تظهر وشاية النفس بالنفس، هنا تبدو الكوامن وتطفو مخبآت السرائر وهنا اقف من صديقي الناقد وجها لوجه أساله، من هو ذلك الأديب صاحب المقام المرموق في البحث والأدب والشعر والتجديد؟ ما قيمة أدبه وشعره وتجديده، وكيف صح لصديقي الأستاذ شيبوب السكوت عن الإشادة بهذه الفضائل المطمورة تحت الأطلال والملقاة في الدمن؟ هل استحي صديقي الناقد من ذكر اسم ذلك الأديب الشاعر المرموق؟ أيرضى صديقي الناقد أن
أشفق على صاحبه فلا اذكر اسمه بل ارمز إليه بالإشارة؟ أليس ذلك الأديب المرموق هو الذي مات مختنقا عند وصيد باب مجلة (المقتطف) ولم يرثه زجال ماجور؟ اليس هو الذي أضناني شعره فرصدت مبلغا من المال أغرى به أصحاب العقول السليمة على شرح شعره المضني فلم يظفر بمالي أحد؟
قد يعوزك الدليل يا صديقي تدحض به ما رميت به أديبك المرموق، أما أنا فلا اعدم الحجة استمدها من شاعرك المجدد لأزيد الطين بلة.
نشر الشاعر المجدد قطعة عنوانها (نهار وليل) قال فيها:
(بودي لو انهض والنهار باسم، فالمح إلى عجائب فاستملي، ولكني أخو العجز، لا أزال ظلا للنعاس المتثائب.
(ذات مساء إلى وليجة نفسي تحدرت - بدوه من بدوات - هل أردت تصفح البستان لا ثمر فيه ولا زهر؟ تحدرت وما استطعت الصعود، لوجهي صرعني هول ما دريت ما يكون.
(الحب وحده كان يقوى أن يسعفني فاصعد، لكنه جاء من بعد، من على، من مغيب البعد، اقبل علاجا مترعا بالضوء فيضئ غير مستحق شد ما فتنني فذو بته في خاطري وفي الخاطر ظللنا روحا لصق روح كلانا جاثم مخفق.
(هل كان في وسعي أن أدرك قبل أن اغفوا واذهب في الغفوة - يا له من سبات لطيف في ضميره خصب ونشاط - هل كان في وسعي أن احلم باليقظة الناعمة، بالأعجوبة يعانقها النور؟.
(في البدء داخل الليل نهاري وأسرف فغلظت العتمة، ولكني أصررت على التبصر، أحر، وألان الآن اذكر كيف لفت العتمة خاطري، يا لله! يا ظلمة تجري الحذارق في وليجة نفسي يا ظلمة أصبحت منبت مصير محير مصيري الوهاج). هاهي ذي قطعة كتبها الأديب المرموق الذي تطوع للدفاع عنه صديقي الأستاذ صديق شيبوب أقدمها له راجيا منه أن يتفضل علينا بترجمتها إلى اللغة العربية التي يفهمها أمثالي من عباد الله المتواضعين.
ليسمح لي صديقي الأستاذ شيبوب أن اذهب معه في التسامح كل مذهب في الافتراض الجدلي فأساله هل إذا استطاع تذليل الصعاب، وحل الطلاسم، وفك الرموز، هل في مقدوره
أن يرسم لنا صورة واضحة لمعاني هذه الكلام الذي قاله صديقه الشاعر المرموق؟ هب أن المعاني كانت سامية حقا، ولكن ما هي قيمة المعاني إذا صيغت صياغة متشابكة متضاربة متنافرة؟ لنفرض جدلا أن لكلمات هذه القطعة الفنية بمفردها وبمجموعها معان طيبة ودلالات إنسانية ولكن ما هو آثرها الفعال في النفس هل هزتها وأسرت الرعشة فيها، وهل علق معنى واحد في ذهن قارئها؟ لنفرض جدلا انه قدم المتأخر من الكلمات وأخر المتقدم ووضعها في وضعها الصحيح وأقحمها على الذهن إقحاماً وحشرها فيه حشرا فما هن قيمة هذا الأدب وما هو قدر هذا الكاتب؟ ولم هذا العناء المضني؟
أردت يا صديقي خصومة بين الأدباء لا عداوة، ورفعت لواء هذه الخصومة عاليا في كتابي (أدباء معاصرون) وما برح علمي يخفق فوق سيارته ليراه كل كاتب أو شاعر طمل يفاتك بالكذب والشر على الأدب والفن فيسمى الهرف تجديدا واللوثة حصافة وأعيذك يا صديقي أن تكون طبيبا في مصحة الأمراض العقلية.
تستوي عندي خصومة وعداوة من يعتدي على كرامة الأدب أو يحاول الدنس الأدبي بنهضتنا التي لم يعرف تاريخ الأدب العربي لها ضريباً في كل عصره.
وليعلم صديقي الكريم الأستاذ صديق شيبوب أن أدب صديقه الشاعر المرموق لا يساوي في سوق الناقدين المتجردين غير المتحيزين مليماً زيفه مراب خسيس.
حبيب الزحلاوي
البريد الأدبي
1 -
أنطوان الجميل باشا:
رزئت الصحافة العربية هذا الأسبوع في ركن من أركانها، وخسر الأدب علما من أعلامه، وهو المغفور له الأستاذ أنطوان الجميل باشا. فكانت الفجيعة بفقده قاسية أليمة على ابنا العروبة عامة، وعلى رجال الصحافة والأدب خاصة.
ولقد زاد في هول الفجيعة به رحمه الله أن قضى بموت الفجاءة وهو في ميدان العمل يناضل ويجاهد في أداء واجبه، حتى لقد خرجت (الأهرام) إلى أيدي قرائها وفيها أثار قلمه وتوجيهه، ولكنها لم تدرك نعيه، لأنه كان قد أتم عمله فيها، وانصرف إلى داره متمتعا بالعافية التامة، وفي الصباح الباكر ليوم الثلاثاء الماضي وافته المنية ولم يشعر بثر من مقدماتها إلا بضيق خفيف في التنفس، ثم كان السكون الأيدي، وهكذا نفض الرجل يده من الحياة في رفق وسهولة وهدوء، وقد كانت هذه هي اظهر خلاله في الحياة ودستوره في العمل وفي صلاته بالناس.
لقد أمضى أنطوان باشا في الحياة نيفا وستين عاما، أو قل على التحديد ثلاثة وستين عاما، ولكنه لم يأخذ من هذا العمر الطويل لنفسه وشخصيته شيئاً يذكر إلى جانب ما بذل في سبيل المصلحة العامة، وانفق للخير والإنسانية وضحى لخدمة الشرق العربي والوطن جميعه، وإنه ليخرج من الدنيا وليس من ورائه زوج تندبه أو ولد يبكيه ولكنه لا شك قد ترك من ورائه مئات من الإخوان والتلاميذ الذي أضفى عليهم من روحه وطبعهم بطابعه، وألوف بل ملايين من أبناء العروبة عاش ينشد لهم المجد والسعادة على مدى الأيام فهو في نفوسهم ذكرى باقية وأثر خالد على كر السنين والأعوام.
وفد أنطوان باشا وهو شاب في ريعان العمر من لبنان على مصر، ولقد خرج من وطنه الأول تبرما بالجبروت السياسي الذي كان مسلطاً على الأحرار في تلك البلاد، وجاء إلى مصر وطنه الثاني لعله يتنسم نسيم الحرية، وكان أديباً موهوبا، فحمل القلم ونزل إلى الميدان، فاصدر مجلة (الزهور) لتكون حلقة اتصال بين أدباء العروبة في جميع الأقطار والأمصار، وما هي إلا جولة حتى برز إلى الطليعة وظهر في الرعيل الأول وظل يصدر مجلته أربع سنوات ثم كان أن قامت الحرب العالمية الأولى، وكان من قيودها ما حمله على
وقف إصدار المجلة والدخول في خدمة الحكومة، ولقد صعد في هذا المجال درجات وتبوأ مكانة مرموقة، ولكن هذا لم يغلبه على طبعه إذ اثر اعتزال الخدمة والعودة إلى ميدان الأدب والصحافة، وكان أن تولى رئاسة تحرير (الأهرام) واسهم بجهده وبقلمه في تشييد ذلك الصرح العظيم، وكان إلى جانب ذلك أن اختير عضوافي الشيوخ ثم عضوا في مجمع فؤاده الأول للغة العربية، كما هو معروف في الفترة الأخيرة من حياته. .
لقد كان أنطوان باشا صحفيا عف القلم، نزيه التعبير، يرعى آداب اللباقة دائما فيما يكتب، ويعرف كيف يسيطر على أعصابه في الموقف الحرج، وكان هذا سر عظمته الصحفية، قال لي في مرة حكم أخلاقك دائما فيما تكتبه عن الناس، وأسال نفسك وأنت تكتب عن غيرك، هل تحتمل أن يقال عنك هذا الذي تقوله عن غيرك وحذار من طغيان القلم وأنت في خلوتك بل تمثل أن أمامك من تكتب عنه وانك تقرا عليه ما تكتب.
وكان رحمه الله أديبا قلبه وعاطفته، وكان في بيانه يؤثر الأسلوب الأنيق، والتعبير المشرق، والديباجة الموسيقية، وكان رواية يحفظ كثير من الشعر القديم، كما كان يحفظ جميع شعر الشعراء المحدثين، أمثال شوقي وحافظ ومطران وإسماعيل صبري وولى الدين يكن، وكان لا يطرب لشيء مثل ما يطرب لسماع الشعر الجيد، وكان لا يسر بشيء مثل ما يسر بشاب أديب يظهر في أدبه مخايل النجابة والنبوغ فيتعهده كأنه ولده. قابلته رحمه الله قبل وفاته بيوم واحد وهو منصرف من احتفال المجمع اللغوي، فسألته لماذا لم يتكلم في الحفل؟ فقال وكأنه كان ينعى نفسه: وماذا تريد أن اقول، وقد أنهكتنا الأيام ومتاعب الحياة؟ لقد قلنا كثيرا فقولوا انتم فو الله انه ليس أطيب إلى نفوسنا من أن نراكم تقولون. . . .
وبعد، فليس اليوم مجال القول في شخصية ذلك الرجل العظيم، ولكنها كلمة يجري بها القلم من خلال الدمع، فإلى فرصة أخرى حتى نؤدي واجب الوفاء نحو فقيد الوفاء، نضر الله قبره، اكرم مثواه
2 -
أدوار لامبير:
نعت الأنباء البرقية في هذا الأسبوع العالم الفرنسي الأستاذ أدوار لامبير، وإن في مصر لكثيراً من رجال القانون وأعلام السياسة لا يزالون يحملون بين جوانحهم أطيب الذكرى لذلك الرجل الذي كان أستاذا لهم والذي وقف فيوجه الطاغية (دنلوب) منتصرا للعلم
والكرامة حتى لقد ضحى بمنصبه في هذا السبيل، وضيع على دولته فرنسا مركزا علميا كانت تستأثر به في مصر.
ذلك أن مدرسة الحقوق في مصر كان يتولى نظارتها عالم من أبناء فرنسا، وكانت فرنسا تعتز بهذا المركز وتعتبره مظهر شرف لها إلى جانب ما كان قائما من تسلط الإنجليز على التعليم في مصر، وحدث أن أسندت نظارة هذه المدرسة إلى رجل فرنسي يدعى (تستو) وكان هذا الرجل ينزع إلى حب السيطرة والتغلب، وكان المسيطر على شئون التعليم في مصر يومذاك الطاغية (دنلوب) ونزعته الاستعمارية معروفه مشهورة، فتلاقى الرجلان في اتجاه واحد، وكان كل منهما أداة طغيان وبهتان. ومما يذكر أن (تستو) هذا هو الذي فصل الزعيم مصطفى كامل من مدرسة الحقوق فاضطر إلى السفرلإتمام دراسته في فرنسا، وحدث في عام 1896 أن اجتمع فريق من طلاب المعاهد العالية والثانوية في مطعم بالأزبكية واحتفلوا بعيد جلوس الخديوي عباس الثاني. وصادف أن دخل (تستو) ليتناول العشاء فنقل أسماءهم إلى دنلوب ففصلهم جميعا من مدارسهم.
ثم تولى (أدوار لامبير) نظارة مدرسة الحقوق وكان رجلا يعرف للعلم كرامته ويرتفع به عن تلك الأساليب الغاشمة، فكان من الطبيعي أن يتصدى (دنلوب) لهذا الرجل لا يجاريه في إذلال المصريين ومسخ روحهم وتشويه ثقافتهم ولكن (لامبير) لم يخنع ولم يطأطئ رأسه وظل دائما عند عقيدته واتجاهه، فلما أعياه الأمر استقال وضحى بمنصبه وضيع نظارة مدرسة الحقوق المصرية على فرنسا، إذ تولاها من بعده رجل إنجليزي يدعى (هيل) وكان رجلا لا يدري من الحقوق شيئا، ولكن السياسة الإنجليزية شاءت ذلك في تلك الأيام
إنها ذكريات تحتل جانبا من تاريخنا الوطني، وهو جانب يجب أن يكتب ويروى، ولعل نعي الأستاذ لامبير قد أثار ألواناً من هذه الذكريات في نفوس أبناء الجيل السابق ممن كانوا من تلاميذه ومريديه. . .
محمد فهمي عبد اللطيف
القصص
إنه ضوء القمر
للكاتب الفرنسي جي دي موباسان
بقلم الأستاذ جمال الدين الحجازي
كانت مدام جولي روبير تنتظر أختها مدام هنرييت ليتور التي عادت من سويسرا منذ خمسة أسابيع، بعد أن سمحت لزوجها بالبقاء وحده في كالفادوس لإنجاز بعض الأعمال التي تطلب وجوده، واتت لتقضي بعض أيام مع أختها في باريس للترويح عن نفسها، وفي الصالون الهادئ، جلست مدام روبير تقرأ وهي شارة الذهن، ترفع عينيها بين وقت وأخر كلما سمعت صوتا. وأخيراً سمعت دقا على الباب، فظهرت أختها حالا وكانت تلبس معطف السفر، وفجأة وقبل التحية تعانقتا بشدة ثم بدا الحديث عن الصحة والعائلة وأشياء أخرى تجيدها النساء. . .
كان الوقت مساء. فأضاءت مدام روبير المصباح، ولما رأت وجه أختها رغبت في عناقها مرة ثانية، فاقتربت منها، ولشد ما كانت دهشتها عندما رأت ضفيرتي أختها الطويلتين قد ابيضتا، بينما كان القسم الآخر من شعرها اسود لامعا وظهر شعرها الأبيض كالفضة تحوطه هالة من السواد.
كانت مدام هنرييت شابة لم تتجاوز الرابعة والعشرين من عمرها، فما هو السر في ابيضاض شعرها! إنها لم تره هكذا إلا بعد عودة أختها من سويسرا.
نظرت مدام روبير إلى أختها بدهشة والدمع يترقرق في ما فيها لأنها اعتقدت بان حادثا مخيفا ألم بأختها فسألتها بابتسامة حزينة:
- ماذا حصل لك يا هنرييت؟
- لا شئ يا شقيقتي. . . أكنت تنظرين إلى شعري الأبيض؟
ولكن مدام روبير قبضت على ذراعيها بشدة وكررت عليها السؤال:
أخبريني ماذا حصل لك. . . أخبريني بالحقيقة وإياك والكذب: ومكثتا برهة تنظر إحداهما إلى الأخرى وقد امتقع وجه هنرييت وكان دمعتان تبللان وجنتيها فسألتها أختها بلطف:
ألا تودين إخباري بما ألم بك؟
وفي صوت خافت قالت بعد أن أخفت جبهتها بين ذراعي شقيقتها:
لي. . . لي حبيب!
وهناك الكنبة جلست الأختان في أحد أركان الغرفة تتحادثان وقد وضعت الأخت الصغرى ذراعها على عنق أختها الكبرى بدلال وأخذت تنصت إلى حديثها:
إنك تعرفين زوجي وتعرفين كم احبه! فهو رقيق الشعور طيب، باسم الثغر، لطيف ومستقيم إلا أن به عيبا واحدا وهو انه لا يستطيع أن يطرى محاسن المرآة! ولست ادري لماذا؟ آه كم كنت أتمنى أن يضمني بين ذراعية بشدة، ويقبلني قبلات حارة تمتزج بها أنفاسنا! وكم تمنيت أن يكون ضعيفا بين يدي فيحتاج إلى رقتي وعطفي ودموعي! قد يظهر أن ما قلته لك تافه ولكننا نحن النساء جبلنا على هذا فما العمل! ومع ذلك لم أفكر لحظة في خيانته حتى على شاطئ بحيرة لوكيرن!
هناك على شاطئ البحيرة، كان القمر يرسل أشعته الفضية على الكون فيملأ بهجة وحبورا، وشعرت حينئذ بشيء لست اعرف كيف أفسره! ففي الشهر الذي قضيناه نتنزه في سويسرا ونمتع أنفسنا بجمال تلك البلاد، أثار زوجي احساساتي بهدوئه وصمته وتركني وحدي سابحة أهيم في الحسن والجمال! إلا يثير الجمال النفوس ويبعث فيها الحب إلا تثير ممرات الجبال الضيقة والأودية العميقة والغابات الواسعة والجداول الرقراقة والقرى الصغيرة الجميلة كل حب للجمال!
أجل لقد سحرتني هذه المناظر بجمالها فقلت لزوجي وقد ارتميت بين أحضانه ما اجمل هذه المناظر يا حبيبي. . . انظر إلى القمر المنير والبحيرة الجميلة. . . . إلا تدعو هذه المناظر الساحرة المحبين للقبل!! قبلني الآن وفي هذا المكان قبلة حارة وامزج أنفاسك بقلبي المذاب! ولكنه أجابني بابتسامة لطيفة باهته: (لا يوجد سبب يدعو إلى القبل) فتأثرت جدا من كلماته.
غاظني زوجي بمسلكه هذا، فقد منع تلك الخيالات الشعرية والسبحات الفكرية من أن تخرج إلى دنيا الجمال وأبقاها مكنونة في نفسي عديمة الجدوى.
وفي إحدى الأمسيات ذهب روبير إلى فراشه بعد العشاء، وكان قد أصابه صداع، فذهبت
في نزهة على البحيرة وهل لي غير البحيرة وشاطئها الجميل؟
كانت الليلة مقمرة كتلك الليالي التي نقرأ عنها في أساطير الخيال؛ وكان القمر يزهو باكتماله في كبد السماء ويحي الأرض بأنواره الفضية، فيكسبها جمالا وبهاء. وظهرت الجبال العالية بثلوجها البيضاء كملوك تلبس تيجانا فضية، ولمعت مياه البحيرة لمعانا أخاذاً في ضوء القمر الجميل، وكان النسيم عليلا يهيج الذكريات ويبعث الشوق في القلوب.
جلست على العشب، ونظرت إلى البحيرة وقد استولى علي سحرها، فمر بي طيف عابر، وأحسست أن الحب قد تملكني وأصبحت في حاجة اليه، فتذكرت حياتي الأولى وما بها من سآمة ويأس فحزنت وتساءلت: ترى هل يبسم لي الزمان فأجد نفسي على شاطئ البحيرة ف ضوء القمر الساطع بين أحضان حبيب يلهبني بقبلاته فأنتعش بتلك القبلات الحارة التي ينعم بها العشاق!! وعندها شعرت بحبات لؤلؤية تتساقط على وجنتي لم ادر بسببها وسمعت من يقول: (لم هذا البكاء يا سيدتي؟ خففي عنك ما تجدين. . . فعلا الحزم وعلام البكاء) وكنت مضطربة فقلت إني مريضة فسار إلى جانبي وكان طيب القلب وبدا يحدثني عما رأيناه في رحلتنا من المناظر الجميلة، وترجم كل ما أحسست به إلى كلمات جذابة وشعرت بأنه فهم احساساتي وشعوري كل الفهم، وفجأة اسمعني بعض الأبيات الشعرية لألفرد دي موسيه فشعرت كأنني في عالم غير عالمنا وخيل إلي إن الجبال والبحيرة وضوء القمر تغني وتسبح مبدع هذه المناظر الجميلة الساحرة.
وفي الصباح بينما أنا غارقة في هذه النشوة تركني هذا الحبيب واختفى بعد أن قدم إلي بطاقته! وهنا تأوهت مدام ليتور وكادت تصيح. . .
فقالت مدام روبير وقد سرها ما سمعت:
(لتعلمي يا شقيقتي العزيزة إننا لا نحب الرجل دائما ولا يستطيع أن يثير أشواقنا؛ فلا غرور أن حبيبك الحقيقي وأنيسك الذي سحرك بحلو ألفاظه ورقة شمائله وأثارك وبعث فيك الحب والغرام في تلك الليلة وأنار لك السبيل هو ضوء القمر. . . أجل إنه ضوء القمر!)
جمال الدين الحجازي