المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 76 - بتاريخ: 17 - 12 - 1934 - مجلة الرسالة - جـ ٧٦

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 76

- بتاريخ: 17 - 12 - 1934

ص: -1

‌أثر السياسة الحزبية في الأخلاق

للأستاذ عبد العزيز البشري

لقد عاهدت نفسي من عهد غير قريب ألا أعالج عملاً سياسيا من أي نوع كان، وأن أكتم قلمي فلا يتنفس بحديث السياسة أبدا، فأنني لم أصب من هذه السياسة إلا شراً كبيراً، ولعلي لم أجد بها على وطني خيراً كثيراً، بل لقد يراني بعض الناس صنعت في هذا الباب شراً كثيراً. فان كنت كذلك حقاً فأسأل الله أن يغفر لي ما أسأت من حيث ابتغيت الإحسان. والله ذو الفضل العظيم.

ومهما يكن من شيء فإنني عاهدت نفسي على ألا أعالج حديث السياسة، وقد صدقتها ما عاهدت. على أنني أرى صدري يجيش اليوم بكلام يقتضيني واجب الذمة الوطنية أن أنفثه نفثاً وإلاً مزق صدري تمزيقاَ. وهذا كلام قد يظهر لبعض الناس في صور أحاديث السياسة، ولو قد تفطن هؤلاء إلى ما أريد لأدركوا أنه ليس كذلك، أو أنه، على الأقل، ليس من ذلك النوع الذي أخذت نفسي بألا أخوض فيه أو أتناوله بأي علاج

إنما أخذت نفسي، في الواقع، بهجران السياسة الحزبية، فلا أخب في فتنة ولا أضع. وليس معنى هذا أنني لا أدلي برأي أراه في مصالحة بلدي، أو أنصح به لقومي، أو أنصح به عن معشري إذا كانت الجلى وتربدت وجوه الحادثات. فأنني إن فعلت فقد عطلت مصريتي، وأتمت في حق بلادي، وكنت مختلسا لشرف الانتساب إلى هذا الوطن. وأستغفر الله العظيم من هذا الذنب العظيم!

على أنني من يوم ذلك العهد لا أدع فرصة للحديث في شأن الوطن إلا تحدثت، وهذا الراديو أحاضر منه كل أسبوع، وهذه صحف شتى، ومجلات مختلفة الألوان أرسل القول فيها كلها، فأتناول الموضوعات الاجتماعية، والأخلاقية، والأقتصادية، بل إنني لألح على بعض موظفي الحكومة بالنقد القاسي على تصرفهم فيما بين أيديهم من الشؤون العامة. فإذا عد هذا كله من السياسة، فهي ليست السياسة التي جمعت العزم على هجرها من ذلك العهد البعيد

والموضوع الذي أتناوله بالكلام اليوم هو أثر السياسة في الأخلاق العامة، لا ألحظ في حديثي حزباً معيناً ولا أظاهر شيعة من الشيع السياسية القائمة في البلاد. وسيرى القارئ

ص: 1

أنه أشبه بالبحوث الاجتماعية منه بالبحوث السياسية:

مما لا شك فيه أنه كان لتلون الحكومات التي تعاقبت على مصر في السنين الخيرة، واختلافها في النزعات السياسية وتفرقها في الأهواء الحزبية أثر بعيد جداً في الأخلاق العامة. وأشد ما كان هذا الأثر في الموظفين عامة وفي بعض أعيان البلاد

تعاقبت الشيع السياسية الحزبية في الحكم، وتداولته مرات متعددة. وكان من سوء الحظ أن المسألة السياسية الكبرى لم تستقر على حال، فكان هذا مدعاة إلى التناحر والتطاحن بين النزعات المختلفة، فكلما وليت طائفة أمر الحكم، والحكم عندنا أصبح في هذه الظروف يدخل فيه معنى الحرب، رأت نفسها في أشد الحاجة إلى الاستعانة بمن تثق بهم، وتعتمد على صدق ولائهم لها من الموظفين. وسرعان ما تعمد إلى إقصاء قوم وتقريب قوم، ورفع جماعة وخفض آخرين، لا تأخذها في هذا أية هوادة، وهل تأخذ القائد الهوادة فيمن قبله من الجند إذا حمى الوطيس واستحر القتال؟

فإذا زالت عن الحكم هذه الطائفة أو أزيلت، أسرع من يليها فيه فأقصى من قربت، وقرب من أقصت، ووضع من رفعت، ورفع من وضعت، وهكذا دواليك. وربما تطاولت القسوة في هذا التناحر الحزبي إلى تخريب الدور وتجويع العيال، حتى أصبح الموظفون وكأنهم ليسوا مستوين في الدواوين على مكاتبهم، بل على منضدة قمار، تدور الحظوظ فيها في اللحظة بالفقر واليسار، وبالغنى والإعسار!.

اللهم إن الموظف المصري قبل كل شيء إنسان يحرص كل الحرص على أن يعيش. وإنما وسيلته إلى العيش ما يجري عليه من الوظيفة الشهرية يقيم بها شأنه ويعود بها على شمله

ثم إنه لا يرى سبيلاً إلى عصمة المنصب إلا إذا استراح رؤساؤه بالثقة اليه، وهو لا يظفر بهذه الثقة منهم إلا إذا أرضاهم وطاوعهم، وعمل بكل جهده على استخراج عطفهم وإيثارهم. وقد عرفت أن الحكم الحزبي، وخاصة في هذه المرحلة التي تجوزها البلاد، قد يقتضي الموظف الإداري، على وجه خاص، شيئاً من الانحراف عن النهج والعنت على القوانين. فان هو فعل فقد فسق عن واجب الذمة وخان الأمانة، وإن هو آثر الصدق في الخدمة العامة، وتهد في جميع أسبابه بهدى القانون فلأمه الهبل!.

ثم إنه ليعلم ليس بالظن أن دوام الحال من المحال، وأن هذه الحكومة التي يعمل في ولايتها

ص: 2

لا بد زائلة إن في قريب وإن في بعيد. وأنه ستخلفها حكومة أخرى تعاقب أولياء هذه الحكومة على ما شيعوا وما صانعوا. ولقد تكون هذه الحكومة عادلة نزيهة، فهي إن تجاوزت عن هوى الموظف إلى الحكومة السابقة، فأنها لا تتجاوز عما قارف في سبيل مصانعتها من إيذاء الناس والكيد لهم والخروج على أحكام القوانين

أما أن نطلب إلى الموظفين جميعا أن يصبروا على المكروه أشد المكروه في سبيل الحق وإيثار طاعة القانون، وأن يعصوا أمر رؤسائهم في طاعة الواجب، فيستهدفوا بهذا لطردهم، وحبس أرزاقهم عنهم، وإجاعة من يعولون من الأهل والولد، أما أن تقتضي هذا جميع الموظفين فضرب من العبث، وأقول إنه ضرب من العبث لأنه قد شهد بكذبه الواقع المحسوس، فأكثر الموظفين الكثير جداً، مع الآسف العظيم، قد نزلوا عند ما تطلب منهم الحكومات المختلفة، وفي بعض هذا الذي يطلب منهم ما لا يرتضيه العدل، ولا يستريح إليه القانون، وأقلهم القليل جداً الذين صبروا على الأذى وصابروا، وآثروا على متاع الدنيا إراحة الذمة وإرضاء الضمير

إذن فالموظف، واعني من تتصل الوسائل السياسية الحزبية بعمله، مضطر في سبيل عصمة عيشه إلى مصانعه الحكومة القائمة، ولو أدت هذه المصانعة إلى مخالفة حكم الذمة والقانون. ثم إنه في الوقت نفسه ليحسب للمستقبل كل حساب، فتراه لا يني عن العمل له أيضا. أي أنه لكي يعيش ويسلم من المكروه يجب عليه أن يجمع بين الضدين، وأن يسعى في وقت واحد في طريقين متخالفتين، وإنه لن يبلغ هذا المدى إلا إذا بذل في سبيله ما شاءت ضعة النفس، وفسولة الطبع، وإهدار الكرامة، وتميع الأخلاق، وإهراق ماء الوجوه، وفساد الذمة، أن تبلغ!

هذا الموقف لقد يقتضي هذا الموظف المسكين أن يكون له وجهان، ولسانان، وذمتان، وهويان؛ يلقى هؤلاء بواحد من أولئك، ويلقى أولئك بواحد من هؤلاء. فهو يظاهر الحكومة القائمة في إعلانه وجهره، وهو يمد أسباب الهوى للشيعة المقبلة في خفائه وسره، ولا يزال هذا شأنه ما تعاقبت الحكومات الحزبية، حتى كادت تفرى الأخلاق فريا، وتبرى الكرامات بريا، وحتى لقد نجم في بلادنا هذا الفن المحقور المرذول: فن الحرص، بكل ما اتسع له الذرع، واتسع له الخلق والكرامة، على المناصب الحكومية، فشاع به فينا أبلغ ما عرف من

ص: 3

خلة النفاق والرياء، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم

لست، شهد الله، ألوم في هذا أحداً، ولا أحمل الوزر فيه قوماً، ولكنني إنما أحيل الأمر كله على الظروف، ولعنة الله على هذه الظروف!

حسبي اليوم هذا القدر، وإني لعائد إلى الكلام في هذا الباب كرة أخرى إن شاء الله.

عبد العزيز البشري

ص: 4

‌2 - كلمة وكليمة

للأستاذ مصطفى صادق الرافعي

رب قانون تحكم به أمة؛ ولو أنهم حاكموه لاعتبروه كالشروع في قتل هذه الأمة

إذا كان القاضي صاحب دين وذكاء وفهم وضمير؛ فكثيراً ما يرى نفسه محكوماً عليه أن يحكم على الناس. . . .

أصبحت الأخلاق الشرقية في هذه المدينة الفاسدة كمرقعة الفقير المعدم، حيث لا تجد رقعة لا بد أن تجد فتقا. . . .

أضيع الأمم يختلف أبناؤها. فكيف بمن يختلفون حتى في كيف يختلفون. . . .؟

من مضحكات السياسة إنشاؤها أحزابا يقوم بعضها كما تغرس الخشبة لتكون شجرة مثمرة. . . .

يأتي الغرور من ضعف النظر إلى الحقيقة؛ لو أن للنملة عيناً وسئلت عن الذبابة كيف تراها؟ لقالت هذا فيل عظيم. . . .

في الضرورات السياسية لا يحفل أهل السياسة أن يصدقوا أو يكذبوا فيما يعلنون إلى الناس؛ ولكن أكبر همهم أن يقدموا دائماً الكلمة الملائمة للوقت

إذا كانت المصلحة في السياسة هي المبدأ؛ فمعنى ذلك أن عدم المبدأ هو في ذاته مصلحة السياسة

ليس الفقر اختلالاً في الناس؛ إن الفقر على التحقيق هو اختلال في القوانين

معنى فرض الزكاة في الشريعة الإسلامية أن أفقر الصعاليك في الدنيا له أن يقول لأعظم ملوك المال: قدم لي دفاترك. . .

مثل مذهب الاشتراكية في وهم توزيع المال، ومذهب الإسلام في الزكاة، مثل رجلين مر أحدهما بغريق يختبط في اللج، فاستغاثة الغريق، فنظر فإذا حبل ملقى على الشاطئ، ولكنه صاح بالهالك: أنت والله في نفسي أكبر منزلة من أن أخرجك بالحبل فأنا ذاهب أبحث لك عن زورق. . . . ومر الثاني فألقى له الحبل فنجا

التمدن والفقر كصاحبين معا ذي رجلين وأعرج يمشيان في طريق؛ كلما انفسحت خطوات الأول زادت عثرات الآخر

ص: 5

التلسكوب العظيم في استكشاف معاني الحب قد يكون دمعة

ينظر الحب دائماً بعين واحدة، فيرى جانباً ويعمى عن جانب؛ ولا ينظر بعينيه معاً إلا حين يريد أن يتبين طريقه لينصرف. . . .

تتكبر المرأة على كل ما يشعرها بضعفها؛ فمن هنا تبلغ المرأة آخر كبريائها في أوائل حبها

إذا صاحبت عاشقاً فليس لك أن تبدأه كلما لقيته إلا بأحد سؤالين: ما هي خرافتك اليوم؟ أو ما هي حماقتك اليوم. . . .؟

متى نظرت المرأة إلى رجل تعجب به كانت نظراتها الأولى متحيرة قلقة غير مطمئنة؛ معناها: هل هو أنت؟

فإذا داخلها الجب واطمأنت جاءت نظراتها مسترسلة متدللة، متأنثة، معناها: هو أنت

لا يضحك الحيوان إذ كان لا يفهم إلا فهماً واحداً؛ ويضحك الإنسان لأنه حرم هذا الفهم الواحد. أهو البلاء وعلاجه؛ أم النعمة وبلاؤها؛ أم هذا مرة وهذه مرة؟

لا يكثر الضحك إلا الأبله الذي يفهم الشيء فهما يمسخه شيئا آخر؛ وإلإ العامي الفارغ الذي لا يفهم الأشياء إلا ممسوخة؛ وإلا الفيلسوف الساخر المركب في طباعه من الفيلسوف والأبله والعامي. . .

يمنع الهم ونحوه من الضحك إذ كانت هذه حقائق صريحة في النفس لا تفهم أبداً على وجهين

لا تكون امرأة معشوقة رجل إلا وهو يراها وحدها النساء جميعاً؛ ولا يكون رجل معشوق امرأة إلا وهي تراه وحده كل الرجال. فالحب وحدانية لا تقبل الشرك، ومن ههنا يتأله

يولد المولود من رجل وامرأة ولن يكون من ثلاثة؛ ولهذا لن يكون في الحب الصحيح ثلاثة أبداً

قد تحب المرأة رجلين، أو يحب الرجل امرأتين، ولكن هذا ليس حباً، إن هو إلا كبر في العربة جعلها تحتاج إلى جوادين. . .

لعل من حكم الحجاب في الإسلام أن العشق إذا انتهى إلى الزواج فقلما يكون إلا تمهيداً لولادة إفراط عصبي في قوة أو ضعف أو بلادة أو. . أو رذيلة

ابن المرأة العجوز عجوز حتى في الطفولة، وابن الشابة شاب حتى في الكهولة؛ فيا ضيعة

ص: 6

الإنسانية من تأخير الزواج!

اكثر النساء على نصف الذكاء الساحر في الرجل ينبغي أن يكون في عقله، ويكون النصف الآخر في البنك. . .

عندما ما تكون الساعة هي ساعة انتظر الشيء المحبوب، يكون قلب المنتظر من زحمة الدقائق كالذي يشق طريقاً زاحمه الناس فيه

الذليل في رأي الحب من إذا هجرته المرأة كان هجرها إياه عقوبته، والعزيز في رأي الجب من إذا هجرته المرأة كان هجرها إياه عقوبتها

اليوم الذي يكون قلبياً محضاً يبقى له دائماً باق لا ينتهي؛ ولهذا لا يزال الحب الطاهر كأنه في بقية من أوله مهما تقادم

لا يعرف الطفل تاريخه من الزمن وما فيه، ولكن من بيت أهله ومن فيه؛ فأمس واليوم وغدا هي كلها عنده أمس الذي يكبر شيئا فشيئا. . . ابن الطفولة إنما هو ابن حالة من حالات الحياة لا ابن زمن، وهذا سر السعادة

يالها عجيبة! إن الصوفي إذا فاز في حبه الإلهي رأى نفسه باقياً في الزمن بلا بقاء يعلمه، وفانياً عن الزمن بلا فناء يشعر به؛ وذلك بعينه ما يراه العاشق إذا خاب في حبه الإنساني. . .

الفرق بين كاتب متعفف وبين كاتب متعهر أن الأول مثقل بواجب، والآخر مثقل به ذلك الواجب. . .

كانت الشفقة هي الأصل في كل موضع استهزاء فما تستهزئ إلا بخطأ أو ضعف أو عجز؛ ولكن شعور الحيوان بقدرته على حيوان آخر، أو بانتصاره، أو بامتيازه؛ هو في الإنسان أصل ذلك الاستهزاء

كما يضر أهل الشر غيرهم إذا عملوا الشر، يضر أهل الخير غيرهم إذا لم يعملوا الخير

طنطا

مصطفى صادق الرافعي

ص: 7

‌الدعوة إلى القصص

علام تقوم وماذا أنتجت؟

للأستاذ محمد عبد الله عنان

يجوز الأدب العربي اليوم حركة تطور وتجديد لا ريب في قوتها وأهميتها؛ والحركات الفكرية، كالحركات السياسية، عرضة للإغراق والتطرف، ولا سيما قبل أن تبلغ مرحلة النضج والاستقرار؛ وقد كانت حركتنا الأدبية عرضة لبعض هذه المظاهر المتطرفة؛ فقد أفرط البعض مثلا في التحدث عن الجديد والقديم دون أن يسفر هذا الجدل الخالد عن معان واضحة أو نتائج عملية؛ وقد زعم البعض أن التجديد هو إغفال الماضي كله، والسير وراء التفكير الغربي في حركة تقليد عمياء؛ وظهرت في الأعوام الأخيرة في حركتنا الأدبية خاصة تطرف أخرى، هي الإغراق في التحدث عن القصة وكتابة القصة، وفي تقدير المكانة التي يجب أن يتبوأها القصص في أدبنا؛ ويذهب بعض أصحاب هذا الحديث إلى أن القصص هو اعظم وأجمل وأقيم ما في الأدب الغربي، فيجب أن يكون له مثل هذه المكانة في أدبنا، ويجب أن ينصرف الكتاب إلى تأليف القصة حتى يصبح لنا تراث قصصي عريض مثلما في الأدب الغربي

وهذا قول يحتاج إلى بيان ومناقشة. نعم إن القصص يتبوأ في الآداب الغربية الحديثة أسمى مكانة؛ ولكنه ليس كل شيء في هذه الآداب، وليس هو أعظم شيء فيها؛ وإنما يتخذ القصص هذه المكانة في آداب عظيمة تفتحت فيها جميع نواحي التفكير والفن ونضجت، واتصلت مراحل نموها وتطورها مدى عصور. وللقصص الرفيع في هذه الحضارات والآداب العظيمة مهمة سامية أخرى غير متاع القراءة والرياضة العقلية، هي المعاونة في تربية النشء وتكوينه، وتكوين الأخلاق والخلال الفاضلة، والدعوة إلى المثل العليا. والقصص يتخذ أداة للتعبير عن خفايا النفس البشرية، وصياغة العواطف النبيلة والعبر المؤثرة، كما يتخذ أداة لعرض ما في اللغة القومية من كنوز البيان الساحر. وإنا لنتساءل أولاً: هل يفهم القصص في أدبنا على هذا النحو؟ وهل استطعنا بعد كل هذا الضجيج أن نخرج في ميدان القصص ما يمكن أن يرتفع، في فنه وفي قيمته الأدبية، إلى هذا المستوى؟ وهل نضجت حركتنا الأدبية واستكملت كل ما ينقصها من النواحي والعناصر التي يجب

ص: 8

أن تمثل في كل الآداب العظيمة فلم يبق أمامنا إلا أن نعالج القصص وان نحسنه؟

إن القصص لم يتبوأ مكانته الرفيعة في الآداب الغربية ألا في العصر الحديث حينما ازدهرت هذه الآداب، واستكملت عناصرها الجوهرية. نعم إن القصص وجد في الآداب القديمة منذ اقدم العصور؛ ولكنه لم يشغل في الآداب القديمة ذلك الفراغ الشاسع الذي يشغله في الآداب الحديثة، وقد كان فوق ذلك من نوع خاص، قصصاً دينياً أو قصص بطولة أو فروسة قومية، ولم يخرج قصص العصور الوسطى في الآداب الغربية عن هذه الدائرة. ولنا مثل هذا القصص في أدبنا العربي القديم؛ ولكن الحركة الفكرية اضمحلت في الشرق في الوقت الذي نهضت فيه في الغرب وأخذت تتفتح في سائر النواحي وتنمو بخطى عظيمة؛ وبينما كانت الآداب الغربية تغزو ميادين جديدة، منها ميدان القصص، إذا بالحضارة الإسلامية والآداب العربية تخبو وتتراجع أمام الغزوات البربرية التي قام بها التتار والترك في سائر أنحاء العالم الإسلامي؛ ولما افتتح الترك مصر، وهي يومئذ ملاذ التفكير الإسلامي، لقيت الآداب العربية ضربتها القاضية، وركدت ريحها زهاء ثلاثة قرون، وتخلفت عن الآداب الغربية في كل نواحي التقدم؛ ولم تستطع أن تنهض من سباتها الطويل إلا بعد أن تقلص عنها ظل هذا النير البربري

وما نراه اليوم من نقص في نواحي حركتنا الفكرية، إنما هو من أثر هذا الاضطهاد الذي أصابها مدى هذه الأحقاب الطويلة؛ والقصص إحدى هذه النواحي، بيد انه ليس أهمها وأحقها بالعناية؛ فهنالك نواح أخرى في أدبنا لم تنضج ولم تستقر، وهنالك في ميادين العلوم والفنون نقص واضح، والقصص الرفيع عنوان حركات فكرية نضجت واستقرت وازدهرت فيها مختلف نواحي الثقافة والفنون. وقد يظهر القصص في آداب أمم وحضارات متأخرة، ولكنه يكون قصصاً ساذجاً تنقصه عناصر الفن والتفكير. وإذا كان من المسلم به أن حركتنا الفكرية لا زالت بحاجة إلى استكمال كثير من العناصر الجوهرية، فليس مما يقويها ويدعمها، أن ننصرف إلى نواح دون أخرى، وأن نؤثر بعض هذه النواحي بالأهمية والخطورة، وأن نصورها خلاصة الفن والأدب، وكل شيء فيهما، على نحو ما يصور البعض كتابة القصص، فمثل هذا الإغراق لا يخدم قضية الأدب والثقافة؛ ولكنه بالعكس يجنى عليها إذا أثمر ثمره في الأذهان والأقلام الناشئة. وهذا ما يلوح لنا أنه

ص: 9

يحدث اليوم في حركتنا الأدبية؛ فقد ذهب أصحاب الدعوة إلى القصص في تصوير أهميته وقيمته الأدبية إلى حدود بعيدة، وتأثر بهذه الدعوة المغرقة كثير من الشباب الذين لم يستكملوا كل عناصر الثقافة القوية، فانصرفوا إلى قراءة القصص والى كتابته، حتى أصبحنا أمام سيل من القصص الساذج الغث يشغل وقت الشباب والناشئين

والآن لنر ماذا كانت نتائج هذه الدعوة، وهل أسفرت حقاً من الوجهة الأدبية عن نتائج تذكر. وأول ما يلفت النظر هو كثرة القصص التي تغمر الصحف والمجلات. ولكن الكمية ليست هي كل ما في الإنتاج الأدبي، وإنما يهم النوع قبل كل شيء؛ ومن الزعم الباطل أن يقال إننا استطعنا أن نخرج حتى اليوم آثاراً قصصية ترتفع في قيمتها الأدبية والفنية إلى مستوى القصص الغربي؛ وقد نظفر بآثار قليلة تمتاز بشيء من القوة والطرافة، ولكنها مع ذلك تحمل طابع المجهود الأول، وينقصها كثير من العناصر الفنية؛ أما الكثرة الساحقة من هذا القصص الذي يغمر اليوم ميدان أدبنا، فليست لها أية قيمة أدبية تذكر؛ ويلاحظ أولاً أن كثيراً من القصص الذي يبدو في ثوب التأليف إنما هو قصص منقول عن الأدب الغربي، يصاغ في أثواب مصرية لكي تضيع معالمه، ولكنه ينم دائما على حقيقته؛ ولا نلمس في هذا القصص الناشئ أية لمحة من الفن الحقيقي أو الخيال الشائق؛ ثم هو لا يكاد يحظى بأي قسط من البيان القوي، بل يعرض دائماً في أساليب ضعيفة ينقصها روح التعبير القوي، ويبدو فيها أثر التقليد والنقل واضحاً؛ ولسنا ندري ماذا تكون القيمة الأدبية لقصص عاطل عن مزايا الفن والخيال والبيان معاً، وكل ما فيه أنه قصص فقط؛ أضف إلى ذلك أن هذا السيل المتصل من القصص ينقصه عنصر التوجيه والثقافة، فهو لا يتجه إلى غاية ثقافية معينة، ولا تحدوه أية مثل اجتماعية، أو أخلاقية محترمة

ولقد قام القصص الغربي في معظم الأحيان على تراث التاريخ والحضارة، وما زال في كل أمة معرضاً قوياً للتاريخ القومي والحياة الاجتماعية القومية، ولكن ما هي المواد التي يستقي منها كتاب (القصص) عندنا؟ وأي نواح من حياتنا الاجتماعية أو تاريخنا القومي استطاعوا أن يعرضوه؟ إنهم في الواقع يعرضون صوراً باهتة من الحياة الاجتماعية الغربية، ويحاولون أن ينسبوها للحياة الاجتماعية المصرية. ذلك لأنهم مقلدون ناقلون في الغالب، يندفعون وراء نزعة لم تقم على الدرس الصحيح؛ وهل قصص الحب المبتذل،

ص: 10

ومناظر المسارح والملاهي والمراقص، ومقابلات السينما والشاطئ (البلاج)، والمراسلات الغرامية السخيفة، هي كل ما في الحياة الاجتماعية المصرية؟ ولقد كان لنا ثمة مادة بديعة للقصص في تاريخنا القومي، فهو حافل بصنوف المآسي الملوكية والشعبية، والحوادث والمواقف الشائقة، فهل فطن أحد من كتاب القصص إلى هذا الكنز الزاخر والمورد الخصب؟

ولقد قلنا انهم يزعمون أن الرجوع إلى الماضي ينافي دعوة (التجديد) التي يضجون بها، ولا يستطيعون فهمها أو تحديد معانيها، فهم لذلك لا يعنون بالتنقيب في تراثنا الغابر؛ ولكن الواقع انهم لا يفعلون ذلك تعففاً أو قصداً وإنما هو القصور وانقطاع الصلة الروحية لديهم بين مراحل الأدب الذين يزعمون أنهم طلائعه. والبحث يجشمهم جهوداً لا يستطيعون الاضطلاع بها. على أن القصص الرفيع في الآداب الغربية يفسح أكبر مجال لمآسي التاريخ وحوادثه. ويكفي أن نذكر بعض الأسماء لتأييد هذه الحقيقة، فقد كان التاريخ وحده تقريباً مادة شيللر في جميع قصصه المسرحية؛ وكان أروع ما أخرجه سنكيفتش قصته التاريخية الرومانية (كوفاديس) التي تعتبر من أعظم ما أخرج القصص الغربي؛ وكتب لورد ليتون (أيام بامبياي الأخيرة)، وكتبت جورج اليوت (رومولا) وعرض إسكندر ديما مراحل التاريخ الفرنسي في سلسلة من القصص التاريخية البديعة. بل لقد ألفى بعض أكابر كتاب الغرب في تاريخنا، وفي التاريخ الإسلامي مادة نفيسة؛ فكتب تشارلس كنجسلي (هيباسيا) عن العصر اليوناني الروماني في مصر، وكتب اسكوت (ايفانهو) عن بعض حوادث الحروب الصليبية، وصاغ فون هامار ولاهارب مصرع البرامكة في قالب قصصي بديع، وكتب شاتوبريان (آخر بني سراج) إلى غير ذلك مما يضيق المقام بذكره

والخلاصة أننا كلما تأملنا هذه الدعوة الصاخبة إلى كتابه القصص واعتباره كل ما في الأدب من قيم ونفيس، وتأملنا ما انتهت إليه من النتائج العملية، ألفينا فراغاً في كل ناحية، وألفينا فشلاً مطبقاً. والفشل دائماً حليف كل نزعة أو حركة لا تقوم على قواعد صحيحة، ولا تتوسل إلى غاياتها بالوسائل الطبيعية؛ وقد فشلت هذه الحركة المغرقة، لأنها قصدت أن تبتدئ حيث يجب الانتهاء، ولم تسر في مراحل التدرج؛ جنباً إلى جنب مع باقي نواحي الحركة الأدبية؛ ولم تقم بالأخص على الدرس والبحث، وإنما قامت على عوامل وبواعث

ص: 11

مصطنعة. أراد فريق من كتابنا أن يصبحوا بين الأمس واليوم من أساتذة القصص، وأن يناهضوا كتاب القصص الغربيين الذين كونتهم حضارة وآداب وثقافات مؤثلة متصلة المراحل، وتصورا أنهم يستطيعون تحقيق هذه الغاية بإخراج هذه القطع الركيكة الذابلة التي تنقصها كل عناصر الفن والخيال والبيان

ونحن نقدر قيمة القصص ورفيع مكانته في الأدب الغربي، ولكنا نود فقط أن نعرض الأمور على حقيقتها، وأن نلفت النظر إلى ما يترتب على هذا الإغراق في شأن القصص من الآثار السيئة في حركتنا الأدبية، وهي لم تستكمل بعد كل عناصر النضج والاستقرار. ولقد كان الاندفاع في هذا التيار على هذا النحو من وجوه الضعف في حركتنا الأدبية؛ لأنه يستغرق جهوداً كان خليقاً أن تصرف في نواحي أخرى؛ ولقد كان الجهد كبيراً مستفيضاً، ولكن دون تبصر وتمكن، فجاء الغم ضئيلاً يدعوا إلى الرثاء. ومن المبالغة أن نقول إننا قد استطعنا أن نغزو بعد ميدان القصص الرفيع، أو إننا أخرجنا تراثاً قصصياً يجدر بالتقدير والاحترام.

محمد عبد الله عنان المحامي

ص: 12

‌أين انتم يا أحبائي؟

للأستاذ محمد سعيد العريان

الغد. . . . إن الغد ليتراءى لي خلف ضباب المنى كأني من توهمه أستعيد تاريخا غبر لا يفصلني منه إلا ما فات من أيامي: وإني لأرى من خلفه ثلاثة أحباب كأنما كنا معاً ثم افترقنا إلى ميعاد!

هأنذا في الفلك مرتفق إلى حافته، والموج من حولي يعج ويصخب، والنسيم يصافح خدي فأسمع في دمدمته أصداء ذكرى بعيدة، طوفت ما طوفت ثم عادت تترامى إلى أذني خافتة من طول ما أعيت في مجاهل الزمان. . .!

وهاهي ذي إلى جانبي في الفلك مرتفقة إلى ذراعي، قد عطفها علي خوف البحر لتلتمس الأمان من قربي، فما ركبت البحر من قبل ولا كان لها بهدهدة الفلك عهد

قلت لها: (أتخشين البحر؟)

قالت: (بل أخشى الفراق!)

قلت: (فإنني إلى جانبك فما يفزعك؟)

قالت: (حبذا أن يكون هذا حقيقة! أهذا هو البحر، وتلك هي السماء، وهذا أنت؟ فما بي خوف البحر وإنك إلى جانبي، ولكني أريد لك أن تعيش!)

وهدأ البحر واملست صفحته، وراح الفلك يشق الماء في لين وخفة، وإن له لموسيقى هادئة فيها عذوبة الأمل الواثق ونشوة السعادة الراضية

وثابت إلى نفسها، فراحت تنقل الطرف من هنا إلى هناك وفي ابتسامتها معان من الغبطة وفي عينيها نظرات. . .

قالت: (أتسمع إلى هذه الموسيقى؟ فإنها لمن نفسي وفي نفسي!)

قلت: (ما أحب إلي أن أبقى إلى جانبك الدهر نستمع إلى أغاني الحب في خرير الماء وهمس النسيم، ونمتد في أحلام السعادة ما امتدت بنا الحياة!)

قالت: (أئنك لتقرأ ما في نفسي، فما أعدل بما نحن فيه أن يكون لي الملك! أرأيت في الحياة ملكاً يعدل قلبين يؤلف بينهما الحب؟)

ورأيت على الشاطئ القريب قصراً قائماً، تلوح النعمة من شرفاته ويستعلن الغنى

ص: 13

قلت: (أفلا تودين أن يكون لنا هذا القصر، نعيش للحب في افيائه ونستظل منه بوارف السعادة؟)

قالت: (ما أتمنى لهذا الحب أن يتعلق من أوهام الأرض بمثل ذاك! ليتني وإياك على رمث في البحر ليس لنا إلا البحر، أو في كوخ من قش على حدود الدنيا ليس لنا إلا حدود الدنيا، أو كهف من جبل في طريق الصحراء ليس لنا إلا الصحراء، فهناك سمو الحب لا حيث ترى الآن. .! ما لنا وللناس يا حبيبي نطاولهم بالطين والتراب؟ وإنما الحب قلب لقلب، ودنيا من وراء الدنيا. أنا وأنت هما كل الناس، ويومنا هو الزمان، ومجلسنا العين في العين، والجنب إلى الجنب، هو الدنيا كلها ما تتسع لغيره، ولا تمتد لسواه؟

ورسا بنا الفلك على خضراء مزهرة، فانسابت هي في الطريق على حذر ورقبة، وخلفتني هناك أنتظر. . .

باويح الشباب من أحلامه! متى تعود إلى جانبي، فنعيش الروح للروح، والنفس للنفس؟ لقد طالت بها النوى وما آبت

ومضيت أتوكأ على نفسي في ظلال الروض، أتمثلها في كل منعطف وكل ثنية، وإن عيني لتأخذان الطريق، وإن الزهرة لتهمس في أذن أختها:(لقد كانت هنا ثم لم تكن!)، وإن الغصن الناضر ليشير بإصبعه إلى هناك؛ وكل شيء من حوله قد مسته الحياة، ونفخ فيه الحب روحا من روحه، إلا. . . إلا قلبي؟

وتهاويت على مقعد بين ملتف الحدائق، فأغمضت عيني وإنني ليقظان، وسمعت من خلل الغصون حمامة تقول لأختها (انظري! هل يعرف السلام من عرف الحب؟)

ودقت بجناحيها فطرفت عيني، ثم علت فأمعنت في الجو تصعيدا، وإن عبارتها لترن في آذني؛ وفتحت عيني فإذا هي إلى جانبي. .!

قلت: (أهذا أنت يا حبيبي! ما أصبرك على البعاد!)

قالت: (فانك ما تزال هنا، لقد كنت على يقين بأنك تنتظر!)

قلت: (وأين لي أن ألتمس السعادة في غير دنياك، وكيف لي أن أمل الثواء هنا، ومعي خيالك، وأنا منك على ميعاد؟)

وذهبنا نخطر جنبا إلى جنب، وإن قلبي ليتحدث، وإن قلبها ليجيب، وإن المنى لتبتسم!

ص: 14

وطوينا الطريق في خطوات، وإذا نحن في بيت يجمع من أمرنا ما تفرق، نطل من شرفاته على ذلك النهر الذي شهد بكرة هذا الحب ووعى ذكريات هذا الغرام، وإن له لحديقة تزهر فيها الأماني وتتفتح الأحلام

ورحنا نمرح في جنبات الدار كأسعد عاشقين أتم عليهما الحب نعمته وأسبغ أمنه. فإذا دنا المساء فذراعها إلى ذراعي في الحدائق الفينانة والملاعب الساهرة؛ فما في الناس إلا من يعرفنا فيتمنى ويرانا فيغبطنا!

وكنا في البيت فجاءت تسعى إلي ضاحكة مزهوة

قالت: (كيف ترى هذا الثوب يا حبيبي؟)

قلت: (إنك به لأكثر فتنة!)

قالت: (إنما صنعته بيدي، ولقد أدمت الإبرة إصبعي، ولكني بما أصابها لسعيدة! أرأيت يا حبيبي إنني لا أشتري جمالي من السوق، ولا ألتمسه عند الخياطة؟)

قلت: (إنني بك فخور!)

قالت: (بل قل بربك إنك تحبني، وأترك لي وحدي نعمة الفخر بحبك!)

ثم لوت لتهيئ لنا الطعام. ما أشهى ما أكل من صنع يديها الجميلتين!

ومضيت في سبيلي إلى المجد اقتحم الصعب وهي من ورائي تدفعني إلى الجهاد وتضاعف في الأمل. فإذا أعياني الجهد ونالني التعب وتكاءدتني عقبات الطريق - مالت علي تهمس في أذني عاتبة:

(كيف تضيق بنفسك يا حبيبي وأنا إلى جانبك!)

يا الله! أكان هذا كله خيالاً من تلفيق الأحلام، تجمع من صورة إلى صورة دنيا تموج، ومن جزء إلى جزء عالماً مصوراً من المنى التي نلتمسها في اليقظة فلا نراها. . .؟

لا أكاد أصدق من طول ما تتراءى لي هذه الصور أنها غير حقيقية! فهأنذا ما أزال أفتش عنها. . . عنها هي، واثقاً أنني سأجد عندها تعبير أحلامي. . .!

ويحي؟ أين هي الآن مني؟ أتراني ألقاها في الخيال على غفلة منها، أم أنا من فكرها في مثل موضعها من فكري فنحن نلتقي على ميعاد؟

ألا كم يفعل الحب من معجزات! أنه ليضاعف وجود العاشقين إذ يلتقيان على البعاد في دنيا

ص: 15

الوهم، فهي معي هنا، وأنا معها هناك. . .!

ومضيت على وجهي أتنفس في الحقول المبسوطة مد البصر وهرول إلي صبي ضاحك مبسوط اليدين

قال: (أبي! أنت هنا؟ لقد نشدتك طويلاً فما بلغت إليك نفسي!)

قلت: (أهذا أنت يا ولدي؛ ما بيدك؟)

قال: (هي زهرة جميلة، سأغرسها في حديقة الدار تنفح العطر وتبعث البهجة والجمال؛ سيسر أمي أن تراها. . . أين أمي، لماذا لا أراها هنا؟)

قلت: (أمك؟ حسبتها معك، أتعرف أين ألقاها؟ فقد نشدتكما طويلاً؛ إن الدار من دونكما خلاء!)

قال: (آه، سأذهب لأدعوها فأنها في انتظارك من زمان. . .!)

ويلي! هي هناك تنتظر وأنا هنا؛ فما لنا لم نلتق من زمان؟

ومضى الصبي يبحث عن أمه، وإن عينيه لتنظران إلى الخلف يستوقفني إلى أن يعود!

إن الولد لأبويه هو الجب والحنان والرحمة؛ هذا هو يسعى ليجمع الحبيبين وما التقيا قبلها مرة، فإذا تم له أن يخرج إلى الحياة يمرح بين أبويه فانه لعقدة الحب ووثائق الأبد

أرأيت إلى الزوجين إذ ينفث الشيطان نفثته فتفترق أجسادهما؛ أتراهما يفترقان حقيقة وبينهما غلام؟ ألا إن خواطرهما لتلتقي عنده على طواعية ورضى في كل لحظة مرات، وإن لم يتراءيا وجها لوجه. . .!

مضى الصبي يبحث. . . وأنا لا أزال أبحث

أنا إلى الآن رجل عزب يحلم. . . وابني إلى الآن لا يزال في الغيب، يستجديني الحياة مني ومن أمه التي لم أعرفها بعد، ولا أزال أبحث عنها، وهي لا تزال تبحث عني. . .!

أين أنت يا ولدي؟

أتراك تعود إليّ حياً كأولاد الدنيا، أم كنت ومضة أمل برقت لعيني خاطفة في الحلم، ثم توارت كلمحة البرق في ظلال السماء!

أي زوجتي التي لم أعرفها لأني لم أرها بعد!

أي زوجتي التي تنتظر وراء الستر حالمةً ترقب الميعاد!

ص: 16

أي ولدي الذي يتوارى خلف الغيب ينادي أباه وأمه!

يا أحبائي الذين يبحثون عني كما أبحث عنهم منذ سنين وسنين وسنين؛ أما آن لنا أن نلتقي حتى ألقى النعم الثلاث في زوجتي وولدي وفتاتي؟

أين أنتم يا أحبائي. . .؟

طنطا

محمد سعيد العريان

ص: 17

‌عظمة الكون بسعة وأنظمة

ربنا ما خلقت هذا باطلاً!

للأستاذ قدري حافظ طوقان

قد يستغرب القارئ إذا قيل له إن شمسنا ما هي إلا واحدة من شموس لا عد لها، وقد يزيد استغرابه إذا قيل له أيضا إنه بتلسكوب جبل ولسون الذي قطر عدسته العاكس متران ونصف متر، وبالوسائل المتعددة للتصوير بالفوتغراف استطاع العلماء أن يكتشفوا أن مجرتنا تتكون من ألوف من الملايين من النجوم، وأن وراء ذلك مجرات وجزرا كونيه أخرى يربو عددها على ملايين عديدة

قد يظن البعض أن الكون على هذه الحال مزدحم وليس فيه فراغ، وأنه ملآن بالعوالم والأجرام، ولكن الثابت أن كل هذه العوالم والأكوان لا تشغل إلا حيزاً صغيراً جداً بالنسبة للكون الأعظم، وأننا في خضم من الفراغ، وأن الفضاء أفرغ من أي شيء نستطيع تصوره. ليتصور القارئ وجود ثلاث نحلات في قارة أوروبا وعندئذ يكون هواؤها لا يزال أكثر ازدحاماً بالنحل من ازدحام الفضاء بالنجوم في أجزائه التي نعرفها. إن الأمواج اللاسلكية التي تسير بأعظم سرعة نعرفها (سرعة الضوء وقدرها 186000 ميل في الثانية)، هذه السرعة تصل المريخ في دقيقتين، ولكن قد يذهل البعض إذا علم أن هذه الإشارات تحتاج إلى سنين، بل إلى مئات وألوف منها لتصل إلى سيارات بعض النجوم الموجودة خارج مجرتنا؛ وقد لا يصدق البعض الآخر إذا قيل له إن أقصى السدائم التي نراها في الفضاء يبلغ بعدها (140) مليون سنة ضوئية، أي أن ضوءها يستغرق 140 مليون سنة في الوصول إلينا. وسيكشف لنا العلم بوسائله المتعددة عن سدم أبعد من هذه بكثير

يظهر مما مر أن المسافات التي تفصل بين الأجرام السماوية شاسعة جداً قد لا يستطيع العقل البشري تصورها، وأن الكون أعظم مما نتصور، وكلما تقدم الإنسان في ميدان المدنية على اختلاف مناحيها تتجلى له عظمة هذا العالم وروعة هذا الكون، وتتجلى له غرائبه بما يخلب اللب ويدهش العقل ويحير الفكر

ومن يبحث في هذا الكون العظيم ويسع في الوقوف على أنظمته والقوانين التي تسيطر

ص: 18

عليه يجد أن لا شيء فيه ألا ويسير ضمن دائرة من القوانين لا يتعداها، وأن لكل شيء سبباً، وأن ما يسيطر على أصغر أجزاء المادة يسيطر على أكبرها. . . فالمادة تتألف من الجواهر الفردة، وهذه تتألف من كهربائية سالبة تسمى كهرباً، وكهربائية موجبة تسمى نواة؛ والكهارب تدور حول النوايا في أفلاك، وهذا التركيب وما فيه من نظام وما يسوده من قوانين يشبه النظام الشمسي، فهو مجموعة شمسية مصغرة، فالنواة تقابلها الشمس، والكهارب تقابلها السيارات دائرة في أفلاكها حول الشمس، وتصدق هذه المقارنة على حجوم الكهارب والنوايا وعلى المسافات؛ فلقد ثبت أن نسبة حجم الكهرب إلى النواة تقارب النسبة بين حجم أحد السيارات المتوسطة والشمس. مما تقدم ومن نتائج بحوث علماء الفلك يظهر أن الكون متسق في نظامه، متناسق في أجزائه، متشابه في تركيبه، والنظام الموجود في السيارات والشموس هو بعينه في الجوهر الفرد: في الكهارب وفي النوايا؛ والقوانين التي تسيطر على الأولى تسيطر على الأخيرة، أي أن الكون في أصغر موجوداته وأكبرها سار ويسير حسب نظام مخصوص وحسب قوانين ثابتة اكتشف الإنسان بعضها، وأن موجودات هذا العالم أيضا متصل بعضها ببعض لا يستغني أحدهما عن الآخر، وأنه ما من شيء خلق لنفسه أو يقدر أن يعمل شيئا بدون غيره، والجوهر الفرد بألكتروناته ونواياه هو أصل كل شيء في الوجود، في الأرض، في السيارات، في الشمس، في النجوم. . . . والعلاقة بين كل هذه متينة والرابطة أمتن، علاقة التشابه ورابطة التركيب؛ فمن الذرات الكهربائية تكونت الجواهر الفردة، ومن الجواهر الفردة تكونت الدقائق التي منها تتكون المادة، ومن ذلك أصل النظام الشمسي والأنظمة الشمسية الأخرى وما فيها من نجوم وسدم وسيارات ومذنبات وشهب الخ. . . .

والآن. . . نأتي إلى الإنسان. . . . ما علاقته بهذا الكون؟ ما مقامه؟ بينما نرى الإنسان كبيراً جداً جدا بالنسبة إلى الجواهر الفردة، إذ وزنه يعدل ألف مليون مليون مليون مليون جوهر فرد، نراه في الوقت ذاته صغيراً جداً جداً بالنسبة إلى أحد الكواكب المتوسطة القدر التي وزنها يعدل عشرة آلاف مليون مليون مليون مليون رجل. . . . . . . . . .

من هنا نرى أن الإنسان يكاد يكون متوسطاً بين الجواهر الفردة والكواكب، ومن هذه النقطة المتوسطة يستطيع (الإنسان) أن يكشف عن طبيعة الأشياء الصغيرة من جهة،

ص: 19

والأشياء الكبيرة من جهة أخرى بفضل ما وهبه الله من الصفات العقلية والروحية

قد يقول البعض إن الإنسان استطاع أن يصل إلى نقطة قد تساعده على فهم أسرار هذا الوجود، وعلى الكشف عن غوامضه والوقوف على حقيقته

ولكن مهلاً. . . . كلما تقدم الإنسان في الكشف عن قوانين الطبيعة وفي تفهم أسرارها، رأى نفسه أمام أسئلة عديدة لا يستطيع الإجابة عنها، وقد زاد اعتقاداً بضالته وجهله وبأنه لم يكتشف شيئاً بعد، وأنه لا يزال في فجر يقظته العقلية، وفي أول مراحل التفكير الجدي في الوقوف على أسرار الوجود. وكلما قلب بصره في هذا الفضاء وزاد معرفة به، شعر بأن الوداعة تقترب منه، وأن من الواجب عليه أن يكون في الذروة العليا من التواضع وسمو الخلق؛ ولا عجب في ذلك، فحسبه أن يعرف أن الأرض إزاء الأجرام السماوية التي لا عد لها أشكالاً وأنواعا كذرة من الغبار سائرة إلى الفناء لا تأبه للحياة

وفوق ذلك فأجزاء هذا العالم مرتبط بعضها ببعض ارتباطا وثيقا لا يستغني أحدهما عن الآخر، ولا يستطيع أي جزء أن يسير بدون غيره، والإنسان مرتبط بأخيه الإنسان، وهذه كرته التي يعيش عليها وما فيها من حيوان وجماد ونبات، لها علاقات مباشرة وغير مباشرة مع غيرها من الكواكب والنجوم؛ فلولا الشمس لما عاش النبات والحيوان والإنسان، ولولا القمر لأختل نظام التجارة، ولولا الكواكب والنجوم وجذب بعضها لبعض لما استطاع أن يحفظ كل نجم أو كوكب مركزه في هذا الوجود، ولسادت الفوضى وعم البلاء. وعلى هذه الحال، فالعالم مترابطة أجزاؤه، تسيطر عليها أنظمة وتتولاها قوانين لا تتعداها ولا تشذ عنها. والذي لا ريب فيه أن هذا الكون لم يوجد من تلقاء نفسه، إذ لو كان كذلك لما رأينا فيه (أي في الكون) هذا النظام وهذا التنسيق، بل إن هناك قوة خارقة منسقة منظمة، لا يحيط بها عقلنا، بل هي تحيط بنا وبهذا الوجود من كل نواحيه. أوجدت هذا الكون الأعظم وجعلته يسير ضمن نواميس ثابتة. ومهمتنا نحن البشر أن نزيد معارفنا عن هذه النواميس ونبحث في أصولها، وكلما زدنا معرفة بها زدنا اعتقاداً بقدرة الله الخارقة المنظمة، وأيماناً بعظمته وقوة إبداعه، وظهر لنا بجلاء مقام الإنسان في هذا الكون الذي لم يخلق باطلا

هذا الاعتقاد، وذاك الإيمان إذ رسخا عن طريق الدرس والبحث فانهما يسموان بصاحبهما

ص: 20

إلى عالم أسمى من عالمنا، وفي هذا لذة روحية هي أسمى أنواع الملذات. . .

(إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولى الألباب. الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض، ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك. . .)

قدري حافظ طوقان

ص: 21

‌2 - من أدب الزراعة

للأستاذ محمد محمود جلال

تمر اليوم بالحقل فتقر عيناك ببساط سندسي وقد نبت البريسم فحلى عاطل الأرض بعد أن كان حباً ميتاً يوم جيء به من المحزن فبذر في ظل الذرة نامية السوق ناضرة اللون فتتمثل بقول الصانع الحكيم (يخرج الحي من الميت). . . ولكل نبت من شعرات البساط مهما دق روح وخصائص للنمو والتزاوج والأزهار والأثمار

يروقك المنظر بعد أن انجلى عنه ما كان يشوبه منذ أيام من سوق يبست فثقلت على النفس، وهانت على الزمن، فناداها أجلها فانتهت أشبه ما تكون بعهد الظلم أو بالظلام عفي ضياء العدل أو ضوء الشمس آثاره

حبذا الحدود تضع لكل مخلوق دوراً، وحبذا التزامها، وما أنكر الطغيان!

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من أخذ من الدنيا فوق حاجته أخذ حتفه وهو لا يشعر)

ولكن الخير المحض لا وجود له في الدنيا، وكذلك لم يخل الله مخلوقا من نفع، فذاك اليبس في السوق، وتلك الضآلة في منظر الذرة حين تجف، إنما تحمل مادة الحياة وغذاء الغالبية العظمى

تلك الأمطار المثقلة أشبه بثمار التجارب وعميق الفكر، لا تنضج إلا في استواء العمر وأواخر الحياة، فيكثر الإطراق والإغضاء اتساعاً للناس على علم من الحياة، ورحمة بالعاني والخاطئ، وتحبب إلى النفس العزلة والانزواء، فيسعى إلى أهل الرأي والتجربة رائدو الحكمة وطالبو العلم كما يسعى الناس إلى التمون من تلك الثمار الجافة حيثما وجدت

وفي مظاهر الهدوء والإطراق سمة الاتعاظ والبعد عن الزهو والصلف، وهي مظاهر لا تلقاها إلا حيث تلقى الفضل والنبل، بل هي سياجهما وشارتهما كما يقول المرحوم شوقي بك:

ومن لمّ يجمل فضله بتواضع

يَبِنْ فضله عنه ويعطل من الفخر

على أن هذا البساط الذي يأخذ بالأبصار، ويضفي اليوم على الوادي ثوباً قشيباً حبيباً، إنما نبت في كنف غيره، وإنما كفله واخذ بيده سواه

ص: 22

ففي دفء (الذرة) يوم كانت حلية الأرض تغذى، وفي حمى سوقها التي تزدري اليوم ازدهر. فكانت له الأب البار، أو الوصي الأمين، حتى تم الدور فتخلت ناعمة لسعيها راضية. قدمت الخير واطمأنت، وما خلفته إلا حين رأت فيه القدرة على بدء دوره

معان للتعاون وربط أدوار الحياة ببعضها. (وفي الأرض آيات للموقنين). ومنذ آلاف السنين تمر قوافل الأجيال منا في كنف الوادي الأمين بتلك العظات، وتتصفح أخراها تاريخ أولاها، وتتبين العز يكلل جبين القوم متحداً، وسيف الذل مسلطاً على رقابه متفرقاً:

عظة قومي بها أولى وإن

بعد العهد فهل يعتبرون

أجل، لا يعتبرون ولو تكررت العظة في كل موسم. .!!

فإذا أشحنا عن منظر لا يروق، ردنا إليه الذكر حين ندرك يده فيما يروق، وفاء للغابر، وعرفاناً للجميل:

ومن شكر المناجم محسنات

إذا التبر انجلى شكر الترابا

والحياة مزيج، فهنا تلقى بقعة من منضور النبت حالية، وهناك تلقى قطعة من بهجة الأرض عاطلة، بل قد ينفر سمعك من الاسم الذي يطلقه عليها (أدب الزراعة) فهي تسمى في العرف بوراً

هذا (البوار) مقدمة الخطبة، وهذه (البائرة) كثيرة الخاطبين فعطلها اليوم مؤقت، وخلوها قصير الأمد (وبورها) فأل الخير الدافق في المستقبل القريب

هذه القطع الخالية هي المعدة لزراعة القطن في الموسم القادم، فهي اليوم رهن التهيؤ والأعداد

(وبورها) كيوم الجمعة عندنا، تستجم فيه العافية، وكيوم الأحد عند غيرنا، جعلوه للراحة والتسلية، فإذا أقبل يوم السبت أو الاثنين فنشاط يفوق نشاط الأيام الأخرى

عاطلها اليوم كذوي النفع والخير المستخفين، أو الذين تقصيهم الأوضاع السقيمة وطغيان المتحكمين في البيئة كما قسمت الأرض لمحض فكرة الزارع في الكسب - حتى يأتي عدل الله، فيقيم المعوج، ويقصي الضار، ويظهر الحق، ولكل أجل كتاب

هذه القطع (البور) غمرها ماء النيل رجاء إخصابها، ولتجدن من بينها اليوم ما يأنس بالمحراث أنس الطروس بالأقلام، تسيل علماً وحكمةً وأدباً مروحاً، حتى إذا نظرت إليها

ص: 23

نظرت إلى سطور خير في أسرع الصحف تلبية وإنتاجا

ولقد شاد بتلك الروعة الضابط العيوف (محمد توفيق علي) حين اضطر إلى ترك الصفوف وخدمة الجيش، وعكف في مزرعته يغذي ميداني الأدب والزراعة فقال:

ويا سطوراً بمحراثي أدبجها

لا يستقل بها القرطاس والقلم

أما (المحراث) الذي يشق لنا الأرض اليوم ليفتح سيل الخير غداً فقد جاءنا بأكثر من احتلال واحد

فإذا ذكرت (قصر النيل) ومآله، (وقشلاق العباسية) وعاره، فإنك واجد في أعماق الريف وأينما سرت فوق التربة المصرية (فوردسن) و (لانس) و (هوفر) من معادن غريبة عنا، وبائعين لا يذكرون لنا من حسنة الاسداد (القسط)، فإذا أردنا للمحراث حركة، فلا بد من (البنزين) من أمريكا، (والقار) من رومانيا، والزيوت من أصقاع نائية

وأما تلك الأوراق التي يوقعها الزارع. فغذاء للمحاكم المختلطة، وجن يحمل المال من مصر إلى أوربا، وآفة من آفات الإهمال قضت على إحدى صناعات الزراعة، وهي تربية الماشية، ودهورت أسعار الحبوب والزروع من فول وشعير وعلف، كانت تحمل من أرضنا إلى موانينا، ونؤدي الثمن في المنيا والخرطوم، فلا تعدو خيراته الإسكندرية، ثم يعود في أبواب أخرى إلى المدينتين وسواهما من مدن القطر المصري السوداني وبلاده وقراه!

محمد محمود جلال المحامي

ص: 24

‌الشاعر والطبيعة

بقلم نظمي خليل

. . . كل شيء في هذا العالم محاكاة، والفن هو أكثر الأشياء محاكاة للطبيعة. والشعر هو أسمى أنواع الفنون، لأنه لا يعطينا الصوت فقط كما تفعل الموسيقى، أو الشكل فقط كما يفعل النحت، أو اللون فقط كما يفعل التصوير، ولكنه يمزج هذه كلها ويقدم لنا صورة حية تؤثر في الحواس كأنها الحقيقة بعينها، بل ربما كانت أكثر حقيقة من الحقيقة ذاتها، لأن الشيء الذي لا نراه إلا بالعين يكون خارجا عنا ولا يقع تحت إدراكنا، ولكن عندما يصفه شاعر موهوب تراه وتشعر به ايضا، وتقف على ما دق وصغر من كنهه الدفين. بل قد يتفتح هذا الشيء من تلقاء نفسه عند ما تسلط عليه عين شاعر نافذة فتكشف عن دخائله في غير تستر ولا استخفاء

. . ولكن الشاعر لا يحاكي ما يراه من مظاهر الطبيعة ومناظرها كما يحاكيها الرجل العادي، بل هو لا ينظر إليها نظرة سطحية ساذجة كتلك التي يلقيها الرجل العادي، ولكن نظرة الشاعر أوسع وأشمل، لأنه يعيش في عالم أوسع وأشمل وأعمق من عالمنا، وينفذ ببصيرته إلى جوهر الأشياء ولها. بل إن أذن الشاعر أكثر موسيقية وحساسية من أذن الرجل العادي لأنه يشعر ويسمع كل ما يحيط به من عالم الحس والموسيقى، ويتبين أنغامه ويستمع أصواته المتوافقة الجميلة. فهو وحده الذي يستطيع أن ينفذ إلى قلب هذا العالم الذي يهتز دائماً بأنغام موسيقية متزنة، وهو وحده الذي يمكنه أن يفصح عن هذا الجمال الموسيقي في صوت قوي جذاب، لأن صوت الشاعر أقدر الأصوات وأصلحها لأداء هذه المهمة السامية الجليلة

فقد يقف إنسان على صخرة عالية وينظر إلى البحر الذي أمامه فيراه يتحرك ثم يصطفق ثم يعلو ثم يفيض ثم يهتز ثم يلمع فلا تهيج فيه هذه الصور الجميلة المتتابعة شعوراً ولا تهز منه قلباً، ولعله لا يفطن إلى هذه التغيرات السريعة المتعاقبة، ولا يفقه لهذه الحركات والتموجات المائية جمالاً، ولكن هذه الصور المتحركة الجميلة لا تمضي دون أن تثير في الشاعر نوعاً من الإحساس العميق القوي فتدفعه إلى تحريك اللسان، كما حركت لسان تنيسون من قبل فقال:(إن البحر المتجعد يدلف تحته) أو كما حركت لسان بيرون في

ص: 25

المحيط فقال: (مرحى! مرحى! أيتها الأمواج الزرقاء. مرحى مرحى أيتها المغاور والفجاج! إلى الأمام أيها السفين إلى الأمام! إن أرض الوطن قد توارت. أيها الوطن سلام عليك! أصطخب أيها المحيط الأزرق العميق، أصطخب أيها المحيط لقد أحببتك. وعلى صدرك كانت ملاعب صباي، ومواطن سروري؛ كنت أعبث بأمواجك صبياً وكان ذلك أعظم سروري. فأن جعلها البحر رعباً فما أحبه رعباً! كنت ألجأ إليك كأنك أبي، وأخلد إلى أمواجك القريبة والبعيدة، وأمر بيدي على لبدك المتكاثفة كما أفعل هنا الآن.)

وقد يقف إنسان بجانب ماء آخر ليس لامعاً ولا متحركاً، ولكنه مظلم عميق، فلا يفكر في جمال هذه الصورة ولا يشعر بها، لأنه لم يوهب حساسية غزيرة أو شعوراً قوياً عميقاً يدفعه إلى أن يديم النظر في مثل هذه الصورة الطبيعية الأخاذة، ولكن الشاعر الذي يشعر بهذا الكون ويفكر في هذا الكون، لا يفوته هذا الجمال الطبيعي الساذج فيصيح من تلقاء نفسه كما صاح تنيسون من قبل إذ يقول:(إنها عين ماء نائمة)

. . . فالشعراء يشعرون بما حولهم من عالم الحس والطبيعة وهم لا يقنعون بهذا العالم الأرضي، بل يشركونه بالعالم السامي، عالم الخيال، دون أن ينفصلوا عن عالمهم الأول. أما أولئك الذين لا يحسون بهذا العالم السامي، عالم الفكر الدقيق، والخيال البعيد، فانهم لن يكونوا شعراء وإن كانوا يستطيعون النظم ونحت القوافي

وقد يتمادى بعض الشعراء في شعورهم بهذا العالم الآخر فينسون أنفسهم وهم يحلقون إليه فيضلون الطريق ولا يستطيعون الرجوع إلى أوكارهم الأولى فيمضون يضربون بأجنحتهم في الفضاء على غير هدى حتى ينالهم التعب ويلحقهم اليأس فيهوون من سماء عليائهم محطمين. . . .

. . . فالشعراء حقاً هم الذين يصلون العالمين، ويجمعون بين الحياتين: حياة الواقع وحياة الخيال. الشعراء حقاً هم الذين يتأثرون بما حولهم ويأخذون جانباً كبيراً من عواطفهم من العالم الظاهري، من نسائه وأزهاره وأجوائه ودقائقه، ثم هم يلقون على هذه العواطف ألواناً من العالم الخفي حتى تظهر كأنها غريبة عنا. . .

فالشاعر لا يرى الأسد كما يراه عالم الحيوان، ولكنه يخلع عليه صوراً تجمع بين ضروب المشابهة والضد، فيتأمله في حالات عدة كالذعر والخوف والإعجاب، وقد يأتي وصفه بعيداً

ص: 26

عن الحقيقة، ولكنه وصف شعري جميل على كل حال.

فليس المهم في الأمر هو صدق الوصف ومطابقته للواقع أو عدم مطابقته، بل الشيء المهم هو صدق عاطفة الشاعر. فإن لم يكن الشاعر صادق الشعور والعاطفة جاء شعره رديئاً. . . ووصفه غثاً

. . . ونظرة الشاعر لزهرة السوسن الأبيض ليست كنظرة البستاني لها، وليست نظرة هذين الاثنين كنظرة عالم النبات الأخصائي. فإذا سألت البستاني عن هذه السوسنة لم يزد على أن يذكر اسمها؛ هذه حقيقة، ولكن الشاعر لا يقف عندها بل قد يجيبك كما أجاب (سبنسر)(إنها سيدة الحديقة) وهنا نبتدئ نحس ببعضها ما في هذه الزهرة من جمال شعري وحسن، وقد يأتي شاعر آخر (كبن جونسون) وينظر إلى هذه السوسنة متأملاً فيقول (إنها نبتة الضوء وزهرته) وهكذا يظهر لنا الشعر الجميل هذه الزهرة في حلل بهائها وسرها الدفين

الآن وقد عرفنا أن مادة الشعر هي الحياة، كما هي مادة كل فن آخر من الفنون السامية، وأن غذاءه من الطبيعة، وهي غذاء سائر الفنون، نريد أن نعرف مدى تأثير طبيعة إقليمنا المصري في شعرائنا المصريين

لقد قدمت أن الشاعر الحق هو الذي يشعر بما حوله، أي هو الذي يحس بطبيعة بلاده أو البلاد التي يعيش فيها، فيتأثر بجوها، ويستلهم سماءها ومناظرها، فتوحي إليه بروائع الأشعار

هذا ما كان عليه ذلك الشاعر الجاهلي الذي عاش في الصحراء، والذي افصح عن حياته البسيطة الساذجة في أسلوب شعري دافق

عاش الشاعر العربي القديم تحت سماء صافية سافرة، وفوق رمال مترامية متصلة، وجبال تتفاوت علواً وانخفاضا. يجيل بصره فيما حوله فلا يرى إلا كثباناً من الرمال، وأودية ممرعة نبتت حول بعض الآبار، وقطعاناً من الإبل تروح وتغدو على هذه المراعي الخضراء هذا ما كان يراه، وهذا ما ألف رؤيته كل يوم، فلم يحاول له تغييراً. . .

لم يعرف حياة الاستقرار والطمأنينة، ولم يتعود حياة الرفاهية والكسل، بل كانت حياته حرباً مع الطبيعة، لا ينفك عن الصراع معها. لذلك جاء شعره صدى لتلك الحياة القوية

ص: 27

العنيفة التي كان يحياها قوياً عنيفاً، يعبر عما كان يعصف بقلبه من أشواق ولهب، وما يتنازعه من ثورات ونزوات. ومن أجل هذا نرى الشعر الجاهلي أصدق أنواع الشعر لسلامة نفوس قائليه. فهو شعر الفطرة والسذاجة لا شعر الصنعة والتكلف. هو خال من كل فن ورياء، يكشف عن نفسية عربية سليمة، وروح أبية كريمة. ومن أجل هذا نجد كل ما في هذا الشعر من صور قد أخذها الشاعر مما حوله، فهو يستهل قصيدته بوصف الأطلال، ودار الحبيبة التي أقفرت وخلت بعد أهلها. ثم يصف النؤى والأحجار التي حول هذه البيوت، وكيف أن هذه النؤى قد أعانته على معرفة هذه الديار بعد غياب دام سنين طوالاً. ثم يذكر حبيبته وما كان بينهما من حب، وينتقل من هذا إلى وصف ناقته وصفاً دقيقاً، ويصف جسمها وسرعتها، وصبرها على وعورة الطريق وبعد السفر. ثم ينتقل بعد هذا إلى موضوع القصيدة من مدح أو فخر

هذا شأن الشاعر الجاهلي الذي عاش في قلب الطبيعة، والذي تأثر بالطبيعة، ففاضت نفسه بحبها والإشادة بجمالها.

فأين شعراء مصر اليوم من أولئك البدو الذين صوروا لنا تلك المناظر الجافة من رمال وجبال وأطلال قد لا تثير إعجابا، ولا تهز قلب من يراها اليوم في صور شعرية كلها صدق وجمال

ما بال شعرائنا المصريين قد جهلوا الطبيعة وتغافلوا عن أثرها القوي في حياة الشعر وخلوده؟

. . . إن أدبنا المصري الحديث على ما يزخر به من دواوين شعرية لا تعد، وكتب نثرية لا تحصى، أعجز من أن يقف بجانب غيره من الآداب الغربية كالفرنسي أو الإنجليزي في وصف الطبيعة. فإذا عرضنا إلى الأدب المصري الحديث فأننا نجده خلواً من الأوصاف الطبيعية والصور الريفية

أليس من النقص المعيب في أدبنا العصري ألا نرى فيه أغاني شعبية تمتزج بالطبيعة المصرية وتصطبغ بالصبغة القومية؟ أليس من العيب أيضا أن نجد شاعراً إنجليزيا (كلي هنت) يصف النيل ويستمع إلى ضحكات كليوباطرة وسط خرير مائه العذب ويستوحي طبيعة مصر الشاعرة فتأتيه الصور متزاحمة فيندفع شعوره مع تيار النهر ويمتزج بطبيعته

ص: 28

ثم يفيض على جانبيه شعراً قوياً جميلاً؟ بل أليس منظر الفيضان وجريان مائه في قلب الوادي مما يثير في كل مصري شعور العزة والمجد والفخار، ويهز قلب كل شاعر مصري فيترنم بأناشيد الحب والجمال. . ليس من شك في أن طبيعتنا المصرية طبيعة جميلة، شاعرة، وليس من شك في أن طبيعتنا المصرية طبيعة هادئة تبعث على التأمل والتفكير. . ولكن لم لم تلهم شعراءنا المصريين هذا الشعور القوي والإحساس الغزير الذي نحسه في شعراء الطبيعة الغربيين ولا سيما الإنجليز؟ إن الذي يقرأ ورد زورث وبيرون وشلي وكيتس، وغيرهم من الشعراء الابتداعيين الذين ظهروا في أوائل القرن التسع عشر يشعر بقوة هذا الشعر وأثر الطبيعة فيه، بل يشعر بأن روح الشاعر قد امتزجت بما حولها من الجبال والوديان والبحيرات والبحار فصارت جزءاً منها

. . ومن يقرأ (شلي) يقف على سر إحساسه بالجمال. فهو لم يرض بهذا العالم ليكون مأوى صالحاً لروحه، ولكنه لم يجعله عدواً لمثله الأعلى. فهو يتساءل لم لا يكون جميلاً كالبحار والنجوم والبحيرات والغابات والجبال. فطبيعة شلي كانت ميالة دائماً إلى ازدراء الحقيقة

وإن من يقرأ مناجاة شلي للقبرة يقف على تلك العاطفة القوية، عاطفة الحب التي تسلطت على جميع مشاعره، فهو يقول:(سلام عليك أيها الطائر السامي الذي لم تلامس الأرض، ولكنك تحلق في أطباق السماء العامرة بينابيع الفن الأصلية حيث تنسكب في قلبك. ترتفع عن الأرض وتسمو عالياً وعالياً كسحابة من نار، وترفرف بجناحيك في أعماق الجو الصافي. ثم تشدو وأنت تغني، وتغني وأنت تشدو. . . في الأنوار الذهبية للشمس الغارقة في بحار السحب تطير وتسبح. أيها الطائر إنك وإن كنت بعيداً عن أنظارنا، ولكني أسمع أنشودة سرورك، تملأ الأرض والجو بصوتك إذا ما خلع الليل رداء السحب وسقطت أشعة القمر الباردة فغمرت الكون. . . أيها الطائر إنك شاعر مختبئ في ضوء الفكر يترنم بأناشيد الخلود، حتى يتنبه له العالم فيحنو على الآمال ولا يبالي بالمخاوف. . . خبرني من أي الينابيع تستقي سعادتك؟ أمن الحقول، أم من الأمواج؟ أم من الجبال، أم من الأجواء، أم من السهول؟ إن سرورك الصافي العميق لن يفتر ولن يقل، وإن شبح الكدر لن يحوم حولك، إنك تحب، ولكنك لم تشرب قط ثمالة الحب المحزنة. . . . . .)

وقد تحس وأنت تقرأ شعر بيرون بذلك التجاوب القوي بين روح الشاعر وروح الطبيعة.

ص: 29

تلحظ ذلك واضحاً في سياحته الثانية في أوربا عندما يترك الآثار والتاريخ والمجد والشهرة والشعوب وماضيها وينحاز إلى جانب الطبيعة، فيتحدث إليها في شعر عذب رقيق، فيقول: (إن الطبيعة المحبوبة لا تزال أبر أم بنا، ومع أنها دائمة التغير فهي باسمة دائماً، فدعني أرتمي على صدرها العاري الحنون، فإنها لم تفطم ابناً وإن لم يكن عزيزاً لديها. . . إنها أجمل ما تكون في مظاهرها الوحشية حيث لا شيء إلا السذاجة والفطرة والبعد عن كل زينة وصنعة. أنها تبتسم لي دائماً، ليل نهار، مع أني أرقبها حيث يخلو الطريق من الناس، وأبحث عنها في دأب وصبر، وأحبها في شغف وكلف عند الغضب. . . . أيتها البحيرة الساكنة السطح الراقدة الماء. لقد لجأت إليك في هذا العالم الصامت. إن فيك لدفئاً لفؤادي، وإن في مياهك الهادئة لراحة لنفسي وسلواناً. . طالما أحببت اصطخاب البحر وزئيره ولكن وسوسة مياهك الناعمة والهدير المردد بين ضفافك يرن في أذني حلو الأنغام كأنه صوت أختي أتاني خلال مياهك. . . إن أقوى اللذات لا تبعث بروحي هكذا. . .

. . . هاهو الليل. . أيها الليل الجليل. إنك لم ترسل للنوم. دعني أقاسمك أنسك ووحشتك، وأتلاش في العاصفة وأفن فيك. . كيف تضيء البحيرة، وكيف يلمع البحر ويأتي المطر راقصاً مهتزاً إلى الأرض. .)

. . . قد يقول قائل إن الطبيعة المصرية خلو من مناظر سويسرا، مفتقرة إلى الجبال الشامخة والوديان العميقة والبحيرات الجميلة. فهي طبيعة هادئة لينة أقرب إلى الضعف منها إلى القوة. وقد يشتط في القول فيعلل ضعف أثر الطبيعة في نفوس شعرائنا المصريين بعدم وجود الهيارات الثلجية والجو القارس الذي يبعث النشاط والحركة. قد يكون لهذا الاعتراض بعض وجاهته. وقد تكون الطبيعة المصرية مفتقرة إلى هذا العنصر من عناصر القوة، وقد تكون الطبيعة المصرية متشابهة المناظر موحدة الصور. فقد لا يشعر المسافر من الإسكندرية إلى أسوان باختلاف كبير في طبيعة وادي النيل، فقد يجد سهولاً مترامية تكسوها النباتات الخضراء في أراضي الدلتا. وقد يجد وادياً ضعيفاً تكتنفه على الجانبين جبال تتفاوت في البعد والقرب في إقليم الصعيد

قد تكون وحدة الصور هي التي عملت على أضعاف اثر الطبيعة في نفوس شعرائنا فجعلتهم ينصرفون عنها، ويستوحون طبيعة أوربا ذات الصور المتعددة والأشكال المتباينة.

ص: 30

قد يكون لوحدة الطبيعة المصرية، وقرب تشابهها بعض الأثر. ولكن هذا الأثر لا يجعل شعراءنا وكتابنا ينسون أو يتجاهلون أثر الإقليم المصري كله، أثر ذلك الجو الصافي والسماء الزرقاء والحقول المنبسطة

إني لا أنكر أن بيننا كتابا وشعراء طبيعيين قد أحسوا بما جهله غيرهم، وانهم قد شعروا بهذا النقص المعيب في أدبنا فأرادوا أن يسدوه

. . . ولكني أتساءل في صراحة غير جارحة، هل كان شعورهم بطبيعة بلادهم آتياً من طبيعة نفوسهم. هل أووا إلى طبيعة بلادهم يستلهمونها هذا الفن الخالد، فن الأدب السامي الرفيع بدافع نفسي خالص، أم أن أثر الثقافة الغربية والتأثر بالشعراء الابتداعيين في فرنسا وإنجلترا كان هو الموجه لهم إلى ذلك. . .

. . . إني أخاف أن يكون هذا صحيحاً. وأخاف أن تكون طبيعتنا المصرية الجميلة الساحرة، طبيعتنا المصرية المتأملة المفكرة قد عجزت عن أن تلهم شعراء مصر الشعور بالجمال والغبطة والهدوء. أخاف أن تكون طبيعتنا المصرية الشاعرة عاجزة عن أن تستأثر بأبنائها الكتاب والشعراء فتجذبهم نحوها وتفني فيهم ويفنون فيها كما تفعل الطبيعة الإنجليزية مثلاً. . .

أرجو أن تكون طبيعتنا المصرية قوية كما هي جميلة، ساحرة كما هي هادئة. وأرجو أن يكون هذا النقص راجعاً إلى شعرائنا الذين لا يكادون يشبون حتى يتركوا أمهم الرءوم وينسون موطنهم الأول ويدلجون في ظلم الحياة فتلهيهم عن ذلك المستودع الغني بفنون الحسن والجمال

نظمي خليل كلوريوس في الأدب الإنجليزي

ص: 31

‌آخر طلق من بندقيتي

للامارتين

خرجت ذات يوم للصيد، فلمحت على بعد ظبياً تلوح عليه دلائل الطهارة والغبطة وهو يقفز مرحاً فوق الخضرة التي بللها الندى

ويظهر أن الغريزة التي تخلقها العادة تتغلب دائماً على الطبيعة النفور من القتل، ولذلك لم أشعر إلا وقد فتنت رصاصتي إحدى كتفيه. وعندئذ أخذت أقترب منه وقد هرب دمي واضطربت نفسي، لآن ذلك الحيوان الوديع كان ورأسه ملقى فوق العشب ينظر إلى بعينين تسبح في مآقيهما الدموع

نعم إنني لن أنسى تلك النظرة التي جمعت بين دهشته وألمه، لأنها كشفت لي عن مبلغ شعوره الناطق وإن كان أبكم. شعرت كأنها توجه إلي مرير العتب على قسوتي التي لم تقم على سبب، وكأنها تقول لي:

(من أنت؟ إنني ما أسأت إليك. بل ربما كنت من الصابرين على حبك. فلم طعنتني تلك الطعنة القاتلة؟ ولم تطمع في حصتي من السماء والهواء والنور وتحول بيني وبين الحياة والشباب؟ ماذا يكون حال أمي وأخوتي وصغاري وصحبي وهم يرقبون عودتي إذا لم يروا بعد ذلك إلا بعض نتف مبعثرة من صوفي على أثر اعتدائك، وهذه النقط من دمي الذي لطخت به وجه هذا العشب النضير؟ أفاتك أن في السماء منتقماً لي وقاضياً لك؟ ومع ذلك فقد صفحت عنك، وهاهماتان عيناي لم يعد فيهما أثر للحقد، لأنني فطرت على التسامح، حتى مع قاتلي!)

محمود خيرت

ص: 32

‌أسطورة حديثة

قلب الشاعر

للأديب حسين شوقي

لما فرغ الآلهة من خلق العالم السفلي، دعوا إلى حضرتهم الشاعر الذي كان قد سئم الإقامة بجوارهم وقالوا له:(إن الحياة هنا كما نرى عابسة لا تسرك أيها الشاعر، إنك في حاجة إلى التسلية. . إذهب إلى العالم السفلي الذي فرغنا من خلقه عساك تسر بما تشاهد هنالك من مناظر وملاه، ولسوف تدهشك أخلاق الذين أسكناهم إياه. . إنما يجب أن نحذرك تعاطي مخدر يتناوله بنو البشر يدعى الحب، لأن هذا المخدر قتال وإن كان لذيذاً، وبخاصة لقلب شاعر رقيق. .)

انصرف الشاعر من حضرة الآلهة بعد أن سجد لهم شكراً على هذا العطف، ثم تناول مظلة ففتحها ثم هوى بها في الفضاء آخذاً طريقة إلى الأرض. . ما كاد شاعرنا يهبط حتى عرف أن البشر مقسمون إلى ثلاث طبقات: العظماء، والأوساط، والفقراء. . قصد الشاعر طبقة العظماء على ظن أن هذه الطبقة تجمع ولا شك خلاصة الناس وأرقاهم. . وهنالك وجد الشاعر قصوراً فخمة حليت جدرانها بالذهب وكسيت بالحرير، ولكن اشتدت دهشته حينما وجد حجرات هذه القصور قد انقلبت إلى معامل للدسائس يديرها الحقد، والطمع والغرور. . كما أنه شاهد في هذه القصور أناساً تبهر ثيابهم الأنظار بوشيها الفاخر العجيب، ولكن قلوبهم ويا للأسف! صيغت من النحاس. . أنصرف الشاعر عن هؤلاء العظماء وهو خانق لما شاهد فيهم من أخلاق لا تتفق ومثله العليا. . ثم قصد الطبقة الوسطى. . فوجد قوماً يجدون ويكدون في جمع المال، فإذا حصلوا عليه أخذوا يحاكون طبقة العظماء محاكاة القرد للإنسان. . عاف الشاعر هذا المنظر أيضا فانصرف إلى عالم الفقراء عساه يجد في النهاية مثله العليا لدى هذه الطبقة القانعة المتواضعة. . فوجد الشاعر قلوبا تحاكي الماس صفاء، ولكن وجد بجانبها ويا للأسف! بؤساً وانحطاطاً وأموراً لا تتفق وروح الشاعر الأرستقراطية. .

ضاق الشاعر بالبشر ذرعاً فقصد الخلاء، فرأى فيه أودية ناضرة، وأنهاراً زاخرة، وزهوراً بهيجة الألوان، وبلابل تكاد تنفجر حناجرها الصغيرة من كثرة الألحان. . حقا، ً كلها مناظر

ص: 33

جميلة، ولكن أين هذه الطبيعة المتواضعة من حدائق الآلهة الغناء حيث كان مباحاً للشاعر النزهة والتروض في أي وقت شاء؟. . يئس الشاعر من العالم السفلي وكاد يعود إلى السماء، إلا أنه فكر في اللحظة الأخيرة في تناول مخدر الحب الذي حذرته منه الآلهة، لأن النفس تواقة بطبيعتها إلى استيعاب المحظور وكشف المستور

كان الشاعر كلما قصد صيدلية يسألها هذا المخدر شبعه أصحابها إما بالسخرية، وذلك إذا ظنوه مجنوناً، وإما بالغضب، وذلك إذا ظنوه عابثاً. . . ولما يئس من الحصول عليه، رجع إلى الخلاء فجلس هناك فوق ربوة في مكان تظلله شجرة صفصاف متهدلة الأغصان، وهو مطرق الرأس، فأطل عليه حينئذ ررزور فضولي من فوق غصن وقال: فيم تفكر أيها الشاعر الصديق؟ فقص عليه الشاعر قصته لعل هذا العصفور يهديه إلى ما يريد، فهو دائم الحركة والتنقل في حدائق البشر وحقولهم، فلا شك أنه يعرف عنهم أشياء كثيرة. . .

أغرب العصفور في الضحك من قول الشاعر حتى كاد يسقط من فوق غصنه وقال: تبحث عن الحب؟ هاكه! ثم أشار إلى مكان آخر من الربوة ظلله كذلك الشجر الكثيف، فنظر الشاعر حيث أشار فوجد فتاة آية في الحسن، تجلس وحدها تغزل الصوف. . أخذ الشاعر لجمالها الرائع وأدرك معنى الحب من نفسه حينما حل هذا الإكسير العجيب في قلبه. .

ثم أخذشاعرنا يتدفق في إنشاد الشعر فعجب من السهولة التي صار ينشده بها، ومن أن هذا الشعر أصبح أرق وأعذب من قبل. . ودهش من أمر هؤلاء الآلهة الذين يحرمون مثل هذا المخدر العجيب. .

ولما كانت الفتاة تختلف كل يوم إلى هذا المكان تقضي فيه ساعة أو ساعتين في غزل الصوف كان الشاعر يأتي لينظر إليها متأملا ملامح وجهها الفتانة في خشوع وإجلال، فإذا انصرفت أخذ ينشد هذه المحاسن في صوت جميل أيضاً، لأن أوتار صوته صارت ذات رنين كرنين الذهب من جراء الحب، حتى أن بلابل الوادي كانت تسكت إذا مر بها الشاعر لتصغي إلى قلب الشاعر وهو يبوح بأول حب له. .

ونقل الآلهة صوت الشاعر بواسطة الراديو وأخذوا يستمعون إليه وأخذوا يستمعون إليه في سرور عظيم. .

ثم انقطعت الفتاة عن المجيء إلى الربوة، فانقطع الشاعر عن الإنشاد. .

ص: 34

قلق الآلهة حينما انقطع إنشاد الشاعر، فأرسلوا رسولاً إلى الأرض يأتيهم بالخبر، وقد خيل إليهم لأول وهلة أن الانقطاع نشأ عن عطب في محطة الإذاعة. . فعاد الرسول بعد قليل من الزمن يقول: إن المحطة لم يصبها عطب، وإنما العطب وا أسفاه أصاب قلب الشاعر قتمزق قطعاً تحت شجرة الصفصاف!

كرمة ابن هاني

حسين شوقي

ص: 35

‌بين فن التاريخ وفن الحرب

12 -

خالد بن الوليد

في حروب الردة

للفريق طه باشا الهاشمي رئيس أركان الجيش العراقي

(لقد شهدت مائة زحف أو زهاءها وما في بدني شبر إلا وفيه ضربة أو طعنة، وهأنذا أموت على فراشي كما يموت البعير! فلا نامت أعين الجبناء)

خالد بن الوليد

الصفحة الثالثة

جرى القتال في هذه الصفحة حول الحديقة، والحديقة تشمل بساتين القرية المسورة بالجدران. وهذه البساتين كثيرة في قرى اليمامة. والكثير من قرى العارض والوشم والقصيم والسدير له بساتين. فبساتين القرية على ما يتراءى لنا واقعة في بطن الوادي، ولا يعقل أن تكون على صدفة لصعوبة استقاء الماء لأرواءها، لأن الآبار على ما نعلم في بطن الوادي تتصرف إليها مياه الأمطار

ويذكر المستر فلبي عندما يبحث في الجبيلة إنها واقعة على الضفة اليمنى من الوادي، وأن قبور الصحابة الذين قتلوا في عقرباء موجودة في الضفة المقابلة لقرية الجبيلة وعلى مسافة ربع ميل منها. وهذا مما يدل على أن الحديقة واقعة في الوادي تحيط بها الجدران المبنية بالحجر والطين وعلوها، أكثر من قامة كما هو شأن الجدران التي تحيط بالبساتين عندنا

ولبي الحنفيون نداء المحكم فهجروا ميدان القتال تاركين قتلاهم فيه لدخول الحديقة واعتصموا بها مؤملين المقاومة فيها

وطارد المسلمون بني حنيفة إلى الحديقة فأحاطوا بها وتوقفوا مدة من الزمن مترددين. وكان التجاء الحنفيين إلى الحديقة وبالاً عليهم

ويظهر من أخبار الرواة أن مسيلمة قتل في أثناء الهزيمة إلى الحديقة برمية حربة. وقد ادعى عدة أناس قتله. وكل فرقة من فرق المسلمين أرادت الاشتراك في قتله. وكان للحديقة باب أغلقه المنهزمون بعد أن دخلوها وقرروا المقاومة فيها إلى اللحظة الأخيرة

ص: 36

وبعد أن تريث المسلمون ردحاً من الزمن، مترددين فيما يفعلون، صرخ فيهم البراء بن مالك قائلاً:(احملوني إلى الجدار حتى تطرحوني عليه). فساعدوه على التسلق ومع أن رواية ابن إسحاق تزعم أن البراء وحده تسلق الجدار فاقتحم الحديقة وقاتل الحنفيين على الباب حتى فتحه للمسلمين، إلا أننا نجزم أن رجالاً آخرين تسلقوا معه الجدار وكان بعضهم على الباب

وبعد أن دخل المسلمون الحديقة أوقعوا بالحنفيين إيقاعا ذريعاً، وكانت مذبحة لم يشهد المسلمون مثلها وقد سموها حديقة الموت، ومع أن روايات الطبري جميعاً تروي أن المسلمين قتلوا جميع الحنفيين في الحديقة، إلا أن رواية ينقلها ابن حبيش تزعم أن بعض الحنفيين فر من الحديقة بعد أن دخلها المسلمون

وفي رواية يذكرها ابن حبيش والبلاذري أن نساء المسلمين أيضا اشتركن في المعركة. ولقد كسب المسلمون المعركة بعد أن حاربوا من الصباح إلى العصر، ولم يعلموا بهول المصيبة إلا بعد أن توقفت رحى القتال وراحوا يكشفون عن القتلى في الميدان

وفي رواية عن أبي سعيد الخدري الذي اشترك في القتال أن خالداً أمر السقاة بعد صلاة العصر أن يسقوا الجرحى، وكان أبو عقيل بين الجرحى فيه خمسة عشر جرحاً. أما بشر بن عبد الله فكانت أمعاؤه خارجه من بطنه. وكل هذا يدل على شدة القتال

الخسائر

يبالغ المؤخرون في تقدير خسائر الحنفيين. فسيف بن عمر مثلاً يزعم أن قتلى بني حنيفة بلغوا عشرة آلاف في المعركة وفي القتال في حديقة الموت. وفي رواية أخرى يزعم أن عدد قتلى بني حنيفة بلغ واحداً وعشرين الفاً، سبعة آلاف منهم في المعركة وسبعة آلاف في حديقة الموت وسبعة آلاف في المطاردة

ولكننا نستبعد هذا العدد، إذ سبق أن ذكرنا أن قوة الحنفيين في معركة عقرباء بلغت عشرة آلاف مقاتل. والثابت أن بني حنيفة كابدوا خسائر فادحة سواء في ميدان المعركة لثباتهم في محلهم، أم في الحديقة لأنهم بالتجائهم إليها مكنوا المسلمين من أن يقطعوا عليهم خط الانسحاب فقضوا عليهم القضاء المبرم. ولعل عدد قتلاهم بلغ اكثر من ثلاثة آلاف. ومما يدل على كثرة القتلى في بني حنيفة اندثار اسمهم بعد هذه المعركة وعدم اشتراكهم في

ص: 37

الفتوح. ويقول البرنس كاتياني في كتابه الآنف الذكر (إن محدثي المسلمين يبالغون في ذكر خسائر بني حنيفة. فانهم يذكرون أن كل ذكر بلغ سن الرشد قتل في المعركة. ومع ذلك فان أحد الأدلة التي تدل على أن الحنفيين كابدوا خسائر لا تتناسب مع عددهم هو أن هذه القبيلة التي كانت قبل الإسلام كثيرة النفوس مرفهة العيش إن لم يكن لديها شيء فان كثرة عددها وحده يجب أن يجعلها ذات حصة كبيرة في المعارك التي نشبت بعد ذلك. ولكننا نرى أن ذكر هذه القبيلة يكاد يدرس تماماً من تاريخ الإسلام، وأن اسم الحنفيين لا يذكر على الإطلاق حتى على انفراد)

أما خسائر المسلمين فكانت كثيرة بالنسبة إلى عددهم أو مقدار الخسائر التي كابدوها في المعارك السابقة. فالروايات في عدد قتلى المسلمين مختلفة، فهي متفاوتة بين. 500 و1700. ويروي عيسى بن سهل عن جده رافع أن قتلى المسلمين بلغ عددها نصف قتلى الحنفيين، وأن الأنصار وحدهم (وكان عددهم خمسمائة مقاتل) خسروا سبعين قتيلاً ومائتي جريح. أما أبو سعيد الخدري فيزعم أن عدد قتلى الأنصار بلغ سبعين، ويقول زيد بن طلحة أن قتلى المهاجرين بلغوا السبعين وقتلى الأنصار بلغوا السبعين أيضا وأن مجموع قتلى باقي المسلمين بلغ الخمسمائة.

أما سالم بن عبد الله بن عمر فيذكر أن مجموع قتلى المسلمين بلغ الستمائة. وأما البلاذري فيقول: (وقد اختلفوا في عدة من استشهد في اليمامة فأقل ما ذكروه من مبلغها سبعمائة وأكثر ذلك ألف وسبعمائة. وقال بعضهم إن عدتهم ألف ومائتان، والذي يلوح لنا أن هذا العدد الأخير هو الأصح. وهو يؤيد الرواية التي يرويها الطبري نقلاً عن سهل إذ يقول: (قتل من المهاجرين والأنصار من أهل قصبة المدينة يومئذ ثلاثمئة وستون، ومن المهاجرين من أهل المدينة والتابعين بإحسان ثلثمائة من هؤلاء وثلثمائة من هؤلاء ستمائة أو يزيدون.)

وذكر المؤرخون أسماء الشهداء من المهاجرين والأنصار ونظموا قائمات بذلك. ويتضح من مطالعتها أن بين القتلى زيد بن الخطاب قائد القلب، وأبا حذيفة بن عتبة قائد الميمنة وشجاع بن وهب قائد الميسرة وقيس بن ثابت قائد الأنصار، ويدل كل ذلك على شدة القتال في المعركة

ص: 38

يقول ضرار بن الأزور في يوم اليمامة:

ولو سئلت عنا جنوب لأخبرت

عشية سالت عقرباء وملهم

وسال بفرع الواد حتى ترقرقت

حجارته فيها من القوم بالدم

بعد المعركة:

بدأت المعركة صباحاً على ما ذكرناه فيما تقدم وانتهت عصراً ولم يبق وقت للمطاردة. وقد نهك التعب قوى المسلمين وأضاعوا خيرة رجالهم، واستشهد اكثر حفظة القرآن. لذلك نجزم أن المسلمين قضوا ليلتهم في جوار الحديقة للترويح عن أنفسهم من عناء الحرب، تأهباً للمطاردة في اليوم التالي. ومع أن نتيجة المعركة كانت فاصلة لم تزل أرياف اليمامة في الخلف (وفيها المؤن والذخائر والقسم الذي لم يشترك في القتال من بني حنيفة)، والقرى في الأرياف جميعاً منيعة وفيها الحصون والأبراج

ويذكر الطبري نقلاً عن سيف بن عمر أن عبد الله بن عمر وعبد الرحمن بن إبي بكر طلبا من خالد أن ينزل بالناس على الحصون. وكانا يقصدان بذلك ألا يترك مجالا للبقية الباقية من بني حنيفة لتستعد للمقاومة. أما خالد فلم يشأ محاصرة الحصون، بل رجح أن يوفد سريا الخيالة إلى الأطراف لتلتقط من ليس في الحصون، وكان يعلم أن منازلة الحصون تكبد المسلمين ولا سيما انهم اطلعوا على كبر المصيبة بعد أن تفقدوا القتلى. وكان من رأيه أن يلقي الرعب في قلوب بني حنيفة ويدهشهم بسرايا الخيالة التي تتجول في حيهم وتقبض على كل من تلقته. وشأنه في ذلك شأن القواد الذين لا يريدون أن يضيعوا الوقت في الحصار، ويتركوا فلول أعدائهم يفلتون من يدهم.

ولقد أصاب خالد في رأيه، لأن سريا الخيالة أصابت فحوت ما وجدت من مال ورجال ونساء وصبيان، فضمها إلى الغنائم في المعسكر

الصلح

اثبت خالد في عقده الصلح مع أهل اليمامة أنه سياسي حازم بقدر ما كان قائداً محنكاً

انتهت المعركة وقد خسر المسلمون خيرة رجالهم من الصحابة

أما القبائل فقد قتل منها رجال كثير. فالعراك من الصباح إلى العصر بتلك الشدة والمقاومة

ص: 39

التي أبدأها الحنفيون، مما زاد في حنق المسلمين عليهم. وكانت القبائل تريد غنماً يوازي التضحية التي تحملتها. أما الصحابة فأقل ما أرادوه العمل بوصية الخليفة وهي (ومن لم يجب داعية الله قتل وقوتل حيث كان) والداعية الأذان - فإذا آذن المسلمون فأذنوا، كفوا عنهم، وإن لم يؤذنوا عاجلوهم، وإن آذنوا سألوهم ما عليهم، فان أبوا عاجلوهم، وإن أقروا قبل منهم، وحملهم على ما ينبغي لهم)

فبنوا حنيفة لم يجيبوا الداعية، بل قاتلوا المسلمين وقتلوا نخبة الصحابة وقضوا على حفظة القرآن. فكان عقابهم القتل عملاً بوصية الخليفة، فالروايات جميعاً تدل على أن الأنصار والمهاجرين كانوا يلحون على خالد بمعاملة بني حنيفة بصرامة

أما خالد بن الوليد فنظر في الصعوبات التي لقيها في التغلب على الحنفيين وتأمل عاقبة الشدة التي يظهرها نحوهم إن هم أبوا وقاوموا في حصونهم فامتنعوا بها. وقد دلت المعركة على انهم متفانون في التضحية. ولا بد من أنه علم أن حزباً من الحنفيين وعلى رأسه سليمة بن عمير يريد المقاومة حتى الموت. لذلك لم يتردد قط لما عرض مجاعة بن مرارة توسطه لعقد الصلح. وكان هذا أسيراً عند المسلمين وقد احتفظ به خالد ليستفيد منه. وكانت الشروط التي فرضها على مجاعة ثقيلة وهي تتلخص في أن يعطي الحنفيون كل ذهبهم وفضتهم وسلاحهم وخيلهم، وان يسبي جميع الأسرى

حمل مجاعة هذه الشروط وهو يضمر الخير لبني قومه ويريد أن يخفف حملهم بعد أن أصابهم ما أصابهم، لذلك أقام النساء والشيوخ على الحصون ليحمل المسلمين على الاعتقاد انهم يريدون الدفاع عن حصونهم. فرجع مجاعة وأخبر أن القوم لا يقبلون بهذه الشروط الثقيلة، وانهم عازمون على الدفاع حتى الموت. وبعد ذهاب وجيئة استطاع مجاعة أن يستميل الحزب المخالف إلى جانبه من جهة ويخفف من شدة الشروط من جهة أخرى

يتبع

طه الهاشمي

ص: 40

‌إلى مؤتمر الفردوسي

2 -

بين القاهرة وطوس

من قصر شيرين إلى همذان

للدكتور عبد الوهاب عزام

سرنا من قصر شيرين تلقاء كرمانشاهان، فمررنا بعد خمسين دقيقة بقرية ذهاب، ثم أصعدنا في جبل شامخ فسيح، فلبثنا بين قممه ووهاده نصف ساعة. وذلكم (كوة باطاق) أي الجبل ذو الطاق. سمي بطاق قديم قائم في منتصف هذه الطريق الجبلية (ثم انبسط بنا السهل نصف ساعة إلى قرية كرند، وهي قرية خضراء مشجرة، وبعد أربعين دقيقة وقفنا في شاه آباد، وهي قرية ذات بساتين فيها ضياع لجلالة الشاه، وباسمه سميت) وله بها دار صغيرة نزلنا بها، فاسترحنا قليلاً وشربنا الشاي، وأكلنا فاكهة طيبة، فيها عنب صغير جيد، وكان ذلك أول ما طعمنا من فاكهة إيران

ثم استمر بنا المسير فاجتزنا جبالاً أخرى إلى كرمانشاهان بعد ساعة وثلث من شاه آباد

وكرمانشاهان (قريسين) مدينة عامرة فيها شوارع جديدة واسعة، وأسواق كبيرة. وموقعها على درجة 34 من العرض، و47 من الطول، في بقعة طيبة الهواء يسقيها نهر قره صو. وهي على الجادة الكبرى من بغداد إلى همذان، تبعد عن كل منهما خمسا وستين ومائة كيلو. أنشأها الملوك الساسانيون، وكانوا يقيمون بها أحيانا. ونزلها في العصر الإسلامي الخليفة هارون الرشيد، وعضد الدولة البويهي، ولم تبلغ مكانة عظيمة إلا في القرن العاشر حين اتخذها الملوك الصفويون قاعدة لمحاربة الدولة العثمانية

والمدينة في وسط والية كرمانشاه. وهي الأرض التي قامت عليها الدولة الميدية القديمة، وفيها من المدن والقرى قصر شيرين وكرند وأسد آبار وكنكاور أو كنكور (وكانت تسمى في العصور الإسلامية الأولى قصر اللصوص) وبيستون ونهاوند وخرائب الدينور. وبها آثار عن الأكمينيين والساسانيين. وهي من أغنى ولايات إيران

نزلنا من المدينة في دار أحد كبرائها - معتمد الدولة. وهي دار جميلة ذات حديقة كبيرة. وفيها بناء على يسار الداخل استرحنا به وغسلنا عن وجوهنا غبار الطريق. ثم سرنا في

ص: 41

الحديقة في مستوى به حوض كبير فصعدنا درجات كثيرة إلى مستوى آخر فيه حوض يسيل الماء منه إلى المستوى الأسفل مترقرقاً على درجات السلم فيملأ العين رواء. وعلى المستوى العالي بناء آخر صعدنا إليه درجات، فاجتمعنا للغداء وخطب معتمد الدولة مرحباً بنا، وأجابه أستاذنا سير دنسن رس. ثم أخذت صورتنا على الدرجات التي بين المستويين (وقد نشرت هذه الصورة في جريدة البلاغ). وانتقلنا من بعد إلى دار أخرى في أقصى المدينة لأحد الأعيان - أمير الكل، وهي دار واسعة بها حديقة جميلة، فيها أحواض ونافورات كثيرة، فتقسمنا حجراتها للمبيت. وهاتان الداران تشهدان بما لأهل إيران من كلف بالحدائق والمياه، وبراعة في تنسيقها

وخرجنا في المساء لنرى الآثار (طاق بستان) على أربعة كيلات من المدينة في لحف جبل شاهق مشرف على الجادة. وهو طاق من آثار الساسانيين يقابل داخله تمثال فارسي منحوت في الصخر، وهو فيما يظن تمثال كسرى برويز على فرسه شبديز، وبجانبه تمثال شيرين زوجه، وعلى جانبي الطاق نقش كثير يمثل الصيد في اليبس والماء وغير ذلك. وفي أعلى الجانب الأيسر صورة فتحعلي شاه وجماعة من رجاله منحوتة في الحجر. أراد ذلك الملك أن يزاحم كسرى برويز في داره والجبل فسيح، وأرض الله واسعة. وشبديز ومعناه (هادي الليل) فرس لكسرى برويز مشهور في قصص الفرس وشعرهم، وفي الشعر العربي أيضاً. ومما يقص عنه ما رواه ياقوت في المعجم: (وكان سبب صورته في هذه القرية انه كان أذكى الدواب، وأعظمها خلقة، وأظهرها خلقا، وأصبرها على طول الركض. وكان ملك الهند أهداه إلى الملك ابرويز. فكان لا يبول ولا يروث ما دام عليه سرجه ولجامه؛ ولا ينحز ولا يزبد، وكانت استدارة حافره ستة أشبار. فاتفق أن شبديز اشتكى وزادت شكواه، وعرف ابرويز ذلك، وقال لئن اخبرني أحد بموته لأقتلنه. فلما مات شبديز خاف صاحب خيله أن يسأله عنه فلا يجد بدا من أخباره بموته فيقتله، فجاء إلى البلهبذ مغنيه، ولم يكن فيما تقدم من الزمان ولا ما تأخر أحذق منه بالضرب بالعود، والغناء - قالوا كان لأبرويز ثلاث خصائص لم تكن لأحد من قبله: فرسه شبديز، وسريته شيرين، ومغنيته بلهبذ - وقال: اعلم أن شبديز قد نفق ومات، وقد عرفت ما أوعد به الملك من أخبر بموته. فاحتل لي حيلة ولك كذا وكذا؛ فوعدها الحيلة. فلما حضر بين يدي الملك غناه

ص: 42

غناء وورى عن القصة، إلى أن فطن الملك وقال له: ويحك مات شبديز، فقال: الملك يقوله، فقال له:(زه) ما أحسن ما تخلصت وخلصت غيرك! وجزع عليه جزعا عظيما، فأمر تنطوس بن سنمآر بتصويره، فصوره على احسن وأتم تمثال، حتى لا يكاد يفرق بينهما إلا بإدارة الروح في جسدهما. وجاء الملك فرآه فاستعبر باكياً عند تأمله إياه الخ) - ومما رواه ياقوت عن الهمذاني، أن بعض فقهاء المعتزلة قال: لو أن رجلاً خرج من فرعانة القصوى، وأخر من سوس الأبعد قاصدين النظر إلى صورة شبديز ما عنفا على ذلك -

وأما أنا فلم أر التمثال من الإتقان والأحكام على النحو الذي وصفوا. ولا ريب أن الزمان قد ذهب بروائه، وقد كسر رأس الفرس وبقي سائره

وقد نظم خالد الفياض قصة شبديز التي تقدمت. ومما قيل في شبديز من الشعر قول أبي عمران الكردي:

وهم نقروا شبديز في الصخر عبرة

وراكبه يرويز كالبدر طالع

عليه بهاء الملك والوفد عكّف

يخال به فجر من الأفق ساطع

تلاحظه شيرين واللحظ فاتن

وتعطو بكف حسَّنتها الأشاجع

يدوم على كرّ الجديدين شخصه

ويُلفى قويم الجسم واللون ناصع

وعلى الجبل إلى اليسار الطاق صور أخرى ساسانية، منها صورة تمثل أردشير بن بابك مقيم الدولة الساسانية، وقد داس عدوه أردوان، وصورة أخرى تمثل الملك سابور، وأمامه أسيرة الإمبراطور فلريان جاثياً

برحنا كرمانشاهان صباح الثلاثاء، فنزلنا عند طاق بستان مرة أخرى لنعيد النظر إلى برويز وشبديز وما هنالك من الصور، ثم استأنفنا المسير والساعة ثمان ونصف، فوقفنا بعد نصف ساعة على آثار الملك دارا في جبل بيستون. وهو جبل شاهق يكاد يعيا الطرف دون قمته. وقد سويت فيه على ارتفاع عظيم صفحة صور فيها الملك دارا وأمامه وفود الأمم المغلوبة. وتحت الصورة نقوش كثيرة بالفارسية القديمة، والآشورية. وكانت هذه النقوش مفتاح اللغة الفارسية القديمة كما كان حجر رشيد مفتاح اللغة المصرية. وعلى مقربة من هذه الآثار موضع في الجبل منحوت يظن انه أريد تسويته للنقش عليه ثم عدل

ص: 43

عنه. ولكن الروايات الفارسية تقص في ذلك قصة عجيبة عن فرهاد عاشق شيرين الذي ذكرته آنفاً. وسأعود إلى هذه القصة حين الكلام عن مرورنا بجبل بيتسون ليلاً ونحن قافلون من طهران

يتبع

عبد الوهاب عزام

ص: 44

‌4 - محاورات أفلاطون

معذرة سقراط

ترجمة الأستاذ زكي نجيب محمود

قد يعجب بعظكم لماذا أطوف بالناس آحادا، فأسدى إليهم النصح واشتغل بأمورهم، ولا أجرؤ أن أتقدم بالنصح إلى الدولة بصفة عامة؟ واليكم سبب هذا: كثيراً ما سمعتموني أتحدث عن راعية أو وحي يأتيني، وهي معبودتي التي يهزأ بها مليتس في دعواه، ولقد لازمني ذلك الوحي منذ طفولتي، وهو عبارة عن صوت يطوف بي فينهاني عن أداء ما أكون قد اعتزمت أداءه، ولكنه لا يأمرني بعمل ايجابي، فذلك ما حال دون اشتغالي بالسياسة، وأخال ذلك آمن الطرق، فلست أشك أيها الأثينيون - في أني لو كنت ساهمت في السياسة للاقيت منيتي منذ أمد بعيد. ولما قدمت خيراً لكم أو لنفسي، وأرجو ألا يؤلمكم الحق إن أنبأتكم به، فالحق أنه يستحيل على من يرافقكم إلى الحرب أو أي اجتماع آخر ويقاوم فساد الأخلاق وأخطاء الدولة أن ينجو بحياته. فان من يحارب مخلصاً في سبيل الحق لن يمتد به الأجل إلى حين، إلا أن كان مشتغلاً بالأعمال الخاصة دون العامة، وأن أردتم لذلك برهاناً لما سقت إليكم كلاماً فحسب، بل لذكرت لكم حوادث بعينها، وهي أقوى حجة من الألفاظ، فاسمحوا لي أن أقص عليكم طرفاً من حياتي الخاصة، ينهض دليلاً على أنني لم أخضع قط لظلم خشية الموت، حتى لو وثقت بأن العصيان سيعقب من فوره موتاً محققاً. سأقص عليكم قصة قد تشوقكم أو لا تشوقكم، ولكنها مع ذلك حق. إنني لم أشغل منصباً إلا مرة عضواً في مجالس الدولة، وكانت رياسة المجلس عند محاكمة القواد الذين لم ينقذوا جثث القتلى بعد موقعة أرجنيس، لقبيلة أنتيوخس - وهي قبيلتي - فرأيتم أن تحاكموهم جميعاً، وكان ذلك منافياً للقانون كما أدركتم ذلك جميعاً فيما بعد، ولكني كنت إذ ذاك وحدي بين أهل بريتان أعارض الافتئات على القانون، وأعلنت رأيي مخالفاً لكم. ولما تهددني الخطباء بالحبس والطرد، وصحتم جميعاً في وجهي، آثرت أن أتعرض للخطر مدافعاً عن القانون والعدل على أن أساهم في الظلم خشية السجن أو الموت؛ حدث ذلك في عهد الديمقراطية، فلما تولى زمام الأمر الطغاة الثلاثون، أرسلوا إلي وإلى أربعة معي، وكنا تحت السقيفة، فأمرونا أن نسوق إليهم ليون السلامي من بلده سلامس لينزلوا به الموت -

ص: 45

وذلك مثل لأوامرهم التي اعتادوا أن يلقوها لكي يشركوا معهم في جرائمهم اكبر عدد ممكن من الناس، فبرهنت لهم قولاً وعملاً، أني لا أعبأ بالموت، وأنه لا يزن عندي قشة، إن صح هذا التعبير، وأن كل ما أخشاه هو أن أسلك سلوكاً معوجاً شائناً، فلم أرهب طغيان تلك العصبة الظالمة، ولم تضطرني إلى ركوب الخطأ. فلما أخرجنا من السقيفة حيث كنا، ذهب الأربعة الآخرون إلى سلامس في طلب ليون، أما أنا فقد أخذت سمتي نحو الدار في هدوء صامت، وكنت أتوقع أن أفقد حياتي لقاء ذلك العصيان، لولا أن دالت دولة الثلاثين بعد ذلك بقليل، وما أكثر من يشهدون بصدق ما أقول

وهل تظنون أن قد كان يمتد بي الأجل إلى هذه السن، لو قد ضربت في الحياة العامة بنصيب، على فرض أني - كما ينبغي للرجل الصالح - لزمت جانب الحق، وأحللت العدالة من نفسي ما هي جديرة به من مكان رفيع؟ كلا ثم كلا! فلو قد عولت، أو عول كائن من كان، على ذلك، لما أتيح لي - بني أثينا! - البقاء، ولكني لم أجد فيما فعلت - عاما كان أم خاصاً - عما رسمت لنفسي من جادة، فلم أنغمس فيما انغمس فيه هؤلاء الذين أشيع بين الناس أنهم تلاميذي، أو من عداهم، فلم يكن لي في حقيقة الأمر تلاميذ دائمون، إذ أبحت الحضور لكل من أراد حضوراً وأسماعاً؛ إني كنت مؤدياً رسالتي، لا فرق عندي بين شيخ وشاب، لم أتخذ شرطاً، ولم ألتمس أجراً، فكان الحوار مشاعاً لمن أنقد ومن لم ينقد، فلمن شاء أن يوجه إليّ سؤالاً، أو يجيب لي عن سؤال، أو يصغي إلى ما أقول من حديث، أما أن ينقلب أحد أولئك بعد ذلك خيراً أو شريراً، فليس عدلاً أن أحمل تهمته، لأنني لم أعلمه شيئاً. وإن زعم امرؤ أني ربما علمته أو أسمعته شيئاً في خلوة خاصة خفيت على الناس جميعاً، فاعلموا أنه إنما يزعم لكم باطلاً

فإذا سئلت: لماذا يصادف الناس من حوارك المتصل لذة ومتاعاً؟ أجبت أيها الأثينيون بالحقيقة التي أنبأتكم بها، وهي انهم يستمتعون بشهادة أدعياء الحكمة في امتحانهم، فلهم في ذلك لذة، وذاك واجب أمرني به الله، كما علمت يقيناً من الرسل والرؤى، وكل طريقة أخرى يمكن لإرادة القوة الإلهية أن تفصح بها عن نفسها لكائن من كان. أيها الأثينيون! ذلك حق، فان كان افتراء فما أهون أن تكذبوه، ولو كنت أفسد الشبان حقاً، وكنت قد أفسدت بعضهم فعلاً، لوجب أن يتصدى منهم للانتقام أولئك الذين تقدمت بهم السن، فأدركوا ما

ص: 46

نفثت لهم في نصحي من سوء أيام الشباب، فان لم يفعلوا ذلك بأنفسهم، وجب أن ينهض ذوو قرباهم أو آباؤهم أو إخواتهم، أو من إلى هؤلاء، فيقتضيني ما أنزلت بأبنائهم من سوء، ها قد حان حينهم، وإني لأرى منهم في المحكمة كثيراً، هاهو ذا كريتون وهو يعدلني سناً، وهأنذا أرى ابنه كريتوبوليس، وذاك ليسانياس السفيطي أبو أشنينس ألمحه بين الحضور، وذاك أنتفون السيفيس أبو أبجينوس، وهؤلاء أخوة كثير ممن التفوا حولي، فهناك نيكوستراتوس ابن تيوسدوتيد وأخو تيودوتس (وقد اختار الله تيودوتس إلى جواره، فهو على أية حال لن يستطيع لي معارضة) وذلك بارالوس بن ديمودوكس، وقد كان له أخ يدعى تياجس، وأديمانتوس بن أرستون الذي أرى أخاه افلاطون بين الحاضرين، وكذلك أرى بينكم آنتودروس وهو أخو أبولودورس. ويمكنني أن أذكر غير هؤلاء كثيرين ممن كان لزاماً على مليتس أن يقدم منهم للشهادة من يشاء في سياق دعواه، ومع ذلك فادعوه الآن يستشهدهم إن كان قد فاته ذلك أولاً، وسأفسح له الطريق. سلوه هل بين هؤلاء من يشهد له فيقدمه؟ كلا أيها الأثينيون، فنقيض ذلك هو الصحيح، إذ هؤلاء لا يأبون أن يؤيدوا بالقول ذلك المتلاف الذي أفسد ذويهم - كما يسميني مليتس، وأنيتس، إني لا أستشهد الشبان الذين أفسدتهم فحسب، فقد يكون عند هؤلاء ما يحيد بهم عن الحقن ولكني أستشهد ذويهم، وهم بعيدون عن إفسادي، ويكبرون أولئك سناً، فلماذا يظاهرونني بشاهدتهم، إلا أن يكون ذلك تأييداً للحق والعدل؟ فهم يعلمون أني أقول الصدق، أما مليتس فمفتر كذاب

أيها الأثينيون! هذا وما إليه هو كل دفاعي الذي وددت أن القيه، ولكني أرجو أن أضيف إليهكلمة أخرى: قد يكون بينكم من يصب علي نقمته إذا ما ذكرت كيف استجدي الشفاعة والرحمة بعينين باكيتين في مثل هذا الموقف أو ما هو دونه خطراً، وكيف ساق أبناءه إلى المحكمة في جمع من أصدقائه وأقربائه لعله يحرك بذلك الرحمة في النفوس، ثم ينظر فلا يراني أهم بمثل ذلك، على ما يتهدد حياتي من الخطر؛ قد يطوف بذهنه هذا فيقف مني موقف العداوة، ثم يصوت وهو في سورة من الغضب لأن موقفي لا يرضيه، فان كان ذلك الرجل بينكم، ولا أحسبه كذلك، فإليه أسوق الحديث رفيقاً: أي صديقي! إنني رجل ككل الناس خلقت من لحم ودم لا من خشب وحجارة، كما يقول هومر، ولي أسرة ولي أبناء، عدادهم - أيها الأثينيون - ثلاثة، بلغ أحدهم الصبا وما يزال الآخران طفلين، ومع ذلك

ص: 47

فلن أسوق إليكم منهم أحداً يستجديكم براءتي. ولم لا؟ لست أصدر في ذلك عن اعتداد بنفسي أو ازدراء لكم، وسواء خشيت الموت أم لم أخشه فذلك شأن آخر لن أتحدث عنه الآن، وإنما دفعني إلى ذلك عقيدة أن ذلك تصرف يضع من قدري ويحظ من شأنكم ويصم الدولة بأسرها وصمة العار، فلا يجوز لرجل قضي من العمر ما قضيت، وذاع صوته في الحكمة بحق أو بغير حق، أن يحقر من نفسه. فمهما يكن من أمر، فقد استقر رأي الناس أجمعين على أن سقراط يفضل من عداه في إحدى نواحيه، فان كان أولئك الذين يقال عنهم انهم يفضلونني حكمة وشجاعة وما شئت من فضيلة، يمتهنون أنفسهم بمثل ذاك السلوك، فوا خجلتاه مما يفعلون! فقد شهدت ناساً من ذوي الصوت الذائع يفعلون ساعة الحكم عليهم عجباً عجاباً فبدوا كأنما خيل إليهم انهم ذاهبون، إذا قضيتم عليهم بالموت، إلى حيث الرعب والجزع، كأنهم حسبوا أن لو خليتم بينهم وبين الحياةالسبيل فيسكنون من الخالدين، إنما هؤلاء في حسابي وصمة عار في جبين الدولة، ولو أبصرهم وافد غريب لا نقلب إلى أهله يروي عن أثينا أن أعلام رجالها الذين يرفعهم الأثينيون فوق الهام ويسلمونهم زمام الأمر، لا يفضلون الناس في شيء، ولا يجوز في اعتباري أن يكون ذلك من هؤلاء الذين بلغوا بيننا شأوا عظيماً، فان وقع فلا تدعوه حادثاً يمضي، ولا تأخذنكم بهم هوادة وخذوا بالشدة كل من يقف منكم هذا الموقف المتوجع، لأنه بذلك يعرض المدينة للسخرية، ولا كذلك الصابر الوديع

ودعوكم من العار، فيلوح لي أن في استرحام القاضي واستجدائه العفو في مكان إقناعه وأنبائه بالنبأ الصحيح خطلاً، فليس واجب القاضي أن يمنح العدالة منحاً، بل عليه أن يحكم حكما عادلاً، وقد أقسم أن يحكم وفق القانون، دون أن يميل مع الهوى، ولا يجوز له ولا لنا أن نتعود الحلف باطلاً، فلا أحسب في ذلك شيئاً من الورع والتقوى. فلا تريدوني إذن على أن أفعل ما أدعوه فجوراً وشيناً وخطلاً، ولا سيما وأنتم تحاكمون فيما ادعاه مليتس عني من فجور، فلو استطعت أيها الأثينيون أن أحيد بكم بالأغراء والرجاء عن قسمكم لكنت بذلك معلمكم الكفر بالآلهة، ولا نقلب دفاعي علي التهاماً بالزيغ عن الأيمان، ولكن الواقع غير هذا، فعيقدتي في الآلهة قائمة على شعور أسمى جداً مما تقوم عليه عقيدة أي من المدعين. وأنا أضع قضيتي أمامكم وأمام الله لتحكموا فيها بما هو خير لي ولكم

ص: 48

وهنا حكم على سقراط بالموت

أيها الأثينيون! لقد قضيتم بادانتي، فلم يثر شجني هذا القضاء، وعندي لذلك أسباب كثيرة، فقد كنت أتوقع ذاك؛ ولشد ما أدهشني أن كادت تتعادل الأصوات، فقد ظننت أن فريق الأعداء لا بد أن يكون أوفر من ذلك عدداً، وإذا بكفة البراءة لو زاد مؤيدوها ثلاثين صوتاً لرجمت، أفلم أظفر بهذا على مليتس؟ بل أني لأذهب إلى ابعد من الظفر فأزعم أنه لولا أن ظاهره أنيتس وليقون لما ظفر بخمس الأصوات الذي يحتمه القانون، ولاضطر تبعاً لذلك إلى دفع غرامة قدرها ألف دراخمة، كما ترون

ولذلك يقترح أن يكون الموت جزائي، فماذا أقترح بدوري أيها الأثينيون؟ بالطبع ما أراني جديراً به. فماذا ينبغي أن أبذل من غرم أو نال من غنم؟ ماذا أنتم صانعون برجل لم يوفقه الله أبداً ليصطنع البلادة طوال أيام حياته، وأهمل ما عنيت به كثرة الناس - أعني الثروة ومصالح الأسرة والمناصب الحربية، ولم يقل في جمعية الشعب قولاً ولم يشترك في مجالس الحكام، ولم يساهم في الدسائس والأحزاب بنصيب؟ كلما فكرت أني كنت رجلاً بلغ من الشرف حداً بعيداً فسلكت من سبل الحياة ما سلكت، لم أقصد إلى حيث لا أستطيع أن اعمل خيراً لكم ولنفسي، بل التمس طريقاً أمكنتني أن اقدم لكل منكم على حدته خيراً عظيماً، وحاولت أن أحمل كل رجل بينكم على وجوب النظر إلى نفسه لينشد الفضيلة والحكمة قبل أن ينظر إلى مصالحه الخاصة، وأن يضع الدولة في اعتباره فوق مصالحها، فيكون ذلك دستوراً لأعماله جميعاً. ماذا أنتم صانعون بمثل هذا الرجل أيها الأثينيون؟ لا إخالكم إلا مجازيه خيراً أن كان لا بد من الجزاء، ويجدر بإحسانكم أن يجيء ملائما لحالته، فماذا يحسن برجل فقير احسن إليكم الصنيع، ويرغب في الفراغ ليتمكن من تعليمكم، سوى أن يضل أبداً في مجلس الدولة؛ وانه أيها الأثينيون لأجدر بهذا الجزاء ممن كوفئ في أوليمبيا في سباق الخيل أو سباق العجلات، سواء أكان يشد عجلته جوادان أو أكثر، لأنني فقير محتاج، وذاك غني عنده ما يسد منه العوز، على أنه لا يعطيكم إلا سعادة ظاهرية، إما أنا فأدلكم على الحقيقة. فإذا كان لي أن أقدر لنفسي عقوبة عادلة ما قلت بغير البقاء في مجلس الدولة جزاء أوفى

يتبع

ص: 49

زكي نجيب محمود

ص: 50

‌من شعر الشباب

مصر

بقلم فريد عين شوكه

مصر يا آيةَ الخلو - د ويا غُرَّةَ الزمن

حبذا أنت في الوجو - دِ إذا اعتزَّ من وطن

أشرق المجد والسنا=منه والكون في الظلَمْ

نيلك العذب كوثرُ

جنة الخلد ساحلُهْ

كلما جاء يخطِرُ

وتهادت جداوله

هَلَّل القطر بالمُنَى=وشدا الطير بالنغم

وصحا التُّرْبُ باسماً

في تَهاويله الوضاءْ

وسرى الريح ناظماً

فيكِ أنشودة الَرخاء

وهَفَا الزرع وانثَنى

لكِ يا كعبة الأمم

مصُر، كم عقَّك البنو - نَ وهم معقد الرجاءْ

وعصوا قلبك الحنو - نَ إذا ضجَّ بالنداء

ولكم صِحْتِ من ضَنَا - كِ وهم عنك في صممِ

بل لقد كان منهمُ

من بَغَى غير محتشم

وقضى الحكم يهدمُ

فيك ما شِيدَ من نُظُمْ

ورآى الجُرْم هيناً

فيك يا مصر فاجترم

أيها النيل لا جرى

عذبك السائغ النميرْ

إنما نحن في الورى

ميّتو العزم والضَّمير

فارْوِ يا نيل غيرنا

من أُولِي البأس والهمم

ضاق واديكَ بالعذابْ

من بنيكَ الأصاِغرِ

الالَى أغرَوا الذئاب

بالشياهِ الضوامِرِ

فنزا الذئب بيننا=نزوة الفاتك النَّهِم

وإذا الشعبُ كلُّهُ

يَغْتَدِي طوعَ فاجرِ

ص: 51

إن رآى يستذِلُّهُ

لم يخَفْ زجر زاجرِ

بل رآنا كأننا

فيك لحمٌ على وَضَمْ

لعنةُ الله والوطن

لك يا عهداً انقشعْ

كم دهى مصر بالمحن

ورمى النيل بالفزعْ

وسَرَى في ربوعنا

يَنفُثُ السمَّ في الدَّسَمْ

كان حُمَّى تعاورَت

مصر في الأربع السنين

وأهاويل ساَوَرَتْ

قلبها الموجَع الحزين

وَتَفَشَّتْ نفوسَنَا

كاللَّظَى تبعث الحَمَمْ

كان في مصر راجفَهْ

زلزلت ركنها المشيد

وأعاصير عاصفهْ

مزَّقت شملها النضيد

وكتاباً تضمنا

سُبَّه النيل والهرم

سطِّري مصر سطَّري

كيف يعثو بك البَنون

أنتِ لو لم تقصِّري

في أذى الآثِمِ الخئون

ما رأى النيل خائناً

فيك يطغى ويجترم

ص: 52

‌الحق

للمرحوم أبي القاسم الشابي التونسي

ألا أيّها الظلم المصعّر خده:

رويدك إنَّ الدَّهر يبني ويهدمُ

أغرّك أنَّ الشعب مغضٍ على قذًى؟

لك الويل مِن يوم به الشرّ قشعَمُ

ألا إنَّ أحلام البلاد دفينةٌ

تجمجم في اعماقها ما تجمجم

ولكن سيأتي بعد لأيٍ نشورها

وينبثق اليوم الذي يترنَّمُ

هو الحق يبقى ساكناً فإذا طغى

بأعماقه السخْط العصوف يدمدم

وينحطُّ كالصخر الأصمَّ إذا هوى

على هام أصنام العتوِّ فيحطم

إذا صعق الجبار تحت قيوده

سيعلم أوجاع الحياة ويفهم

ص: 53

‌في الروض المحزون

بقلم امجد الطرابلسي

يا روضُ ما لشبَابكَ النَّضِرِ

جارتْ عليهِ فواجِعُ القَدَر؟

أَفأَنتَ مِثلي تَشتكي - حَدَثاً -

عِبَْء السَّنين وعادِيَ الكِبَرِ؟

ماذا جَنَيْتَ وكنتَ مُزْدَهِراً

حتى رُمِيتَ بأَفدحِ الغِيَرِ؟

أَيْنَ القيانُ الصّادحاتُ على

عُرُشٍ مُكَرَّمَةٍ منَ الزَّهَرِ؟

يَبكينَ إن نَزَلَ الدجى - فرقاً

منهُ - وأَسْبَلَ حالِكَ السُّتُرِ

ويكدْنَ يملأْنَ الفضا فَرَحاً

إن أَزْمعَ التَّرْحَالَ في السَّحَرِ

بل أينَ، كالأَمْسِ الهنِيِّ، مَهاً

يَمْرحْنَ في الآصالِ والبُكَرِ؟

أَو لمْ تكن بالأمْس تمْطِرُني

إمّا أتيتكَ أَطيبَ الثَّمَرِ؟

واليومَ كلُّ نَداكَ من وَرَقٍ

ذاوٍ مَعَ الأَرياحِ مُنْتَثَرِ!!

يا روضُ لَا يَأْخُذْكَ بي عَجَبٌ

إن جِئْتُ تَحْتَ الرِّيح والمَطَرِ

أشكو إليكَ هواجِساً حُلُكاً

كالليلٍ قَد غَشَّت على بصري

الآنَ طابَ لِيَ المُقامُ هُنا

يا روضُ تحت ثوا كِلِ الشَّجَرِ

يُلْقينَ بالأوراقِ ذابلةً

مِثلَ المُنى في هَبَّةِ القَدَرِ

ما حاجَتي بالرَّوْضِ مُزْدَهِراً

إنْ كانَ قَلْبيَ غَيْرَ مُزْدَهِرِ!؟

في خافِقي يا رَوضُ عاصِفَةٌ

غَضْبى تَهيجُ كوامن الفِكَرِ

نارٌ تَوَقَّدُ فيَّ لاهِبَةً

تَرْمى حَنايا الصَّدْرِ بالشَّرَرِ

وخَواطِرٌ سُودٌ تَدَفَّقُ في

عَقْلي الشَّتيتِ تَدَفُّقَ النهرِ

حتى كأَني جَذْوَةٌ شَرَدَت

مِنْ قبلِ يومِ الحَشْرِ عن سَقَرِ

فَلَعلَّ إحدى السُّحْبِ تُطْفِئُهاَ

يوماً بغيث جِدِّ مُنْهَمِرِ

أمّا تجِدْني هازِلاً أَبَداً

أَجْزى حُقُودَ الدَّهْرِ بالسَّخَرِ

وأَسيرُ في دُنيايَ مُتَّئِداً

بينا المنونُ تجِدٌّ في أَثري

لا الدَّهْرُ تُنْسيني غوائِلُهُ

يَوْماً مَغاني الأُنْسِ وَالسَّحَرِ

فَلَرُبَّماَ ابْتَسَمَ الفتى وَبهِ

أَلَمٌ يُفَتِّتُ أَصْلدَ الصَّخَرِ

ص: 54

ولَرُبَّ عَهْدٍ كانَ أَعْذَبُهُ

لَوْ كانَ يَعْذُبُ غايةَ المَقَرِْ

وَلرُبّ ليلاتٍ لَبِثْتُ بها

سَهْرَانَ أَرْقُبُ طَلْعةَ الْقَمَرِ

أشكو لهُ همِّا يُساوِرُني

وَأَبُثُّ بَعْضَ مظاَلمِ البشَرِ

تِلكَ الطُّفولةُ مَا عَرَفْتُ بها

إِلا الدُّموعَ وَأَكْؤُسَ الصَّبرِ

يا ليتَ شِعْريَ والحياةُ أَسىً

ما جاَء بي للعاَلِمِ النُّكُر

أَأَتَيْتُ أَقطعُ رِحْلَتي عَبثاً

أم جئتُ للأَحزانِ والضّجَرِ

أَنا في زمانٍ قد تَنَكّرَ لي

مُنُذ الوِلادِ بأَبْشع الصُّوُرِ

فعلامَ أَجْزَعُ من نوائِبِهِ

وأخافُ مِنْ أحْداثِهِ الكُثُرِ

يا موتُ جِئ أو لا تَجئ أبداً

سيّانِ طالَ أو انطَوى عُمُري

أنا حائرٌ ما عِشْتُ في زَمَني

ومتى رَسولُكَ يَدْعْني أطِرِ

أتُرى وراَءكَ يا ردى قَبَسٌ

أمْ لَيْسَ إلاّ ظُلْمَةَ الحُفَرِ؟

(دمشق)

امجد الطرابلسي

أصداء البيئة

ص: 55

‌شيطاني

بقلم عبد اللطيف النشار

شيطاني لا تبحث عني=لن تظفر بي يا شيطاني

الوحدة من أدب الجن=والوحشة داب الإنسان

الجمع الحاشد لي مأوى=والعزلة مأوًى للجان

ضحك الشيطان وأضحكني=من فلسفتي للشيطان

شيطاني لا تهرب مني=وتعال أبثك أشجاني

لن أملأ شعري بالشكوى=فلديك دخائل وجداني

قال الشيطان أأنسيٌ=ينجو من شر الإنسان؟

فأبت نفسي شكوى جنسي=ومشيت أردد ألحاني

شيطاني لا تبحث عني=لن تظفر بي يا شيطاني

الإسكندرية

عبد اللطيف النشار

ص: 56

‌فضول ملخصة في الفلسفة الألمانية

2 -

تطور الحركة الفلسفية في ألمانيا

للأستاذ خليل هنداوي

نقد العقل

ليست غاية هذا النقد إحباط نتائج العلم النظري، ولكن غايته أن يسيره في مناهجه الواضحة، فالعلم النظري الذي كان في عهد ما ملك العلوم قد فقد تأثيره، لأنه قد آلى على نفسه أن يتوجه لمباحث تكاد لا تغنى شيئاً، يريد من ورائها التحقيق، وهي - كل يوم - ينقضها من عالم الواقع ألف برهان وبرهان، ثم انتهى (كانت) إلى الشكوكية، ثم الحيادية التي يقول عنها: (هذه التي تظهر عند تفتح العلوم، وتعمل على إظهار العلم الذي حانت ولادته؛ أليست هذه الحيادية من الأشياء التي تسترعي انتباهنا؟ أنها والحق ليست بوليدة الخلفة، ولكنها وليدة محاكمة عصر طويل، شاء ألا ينخدع بظواهر المعرفة كثيراً، أنها دعوة عنيفة تدعو عقلنا إلى عمل عنيف، إلى معرفة نفسه،، وإنما هي تهذب مجلس يذود عنها ويصون تعاليمها الصحيحة، ويحكم عليها إذا ظلمت حسب شرائعها ونظمها الثابتة، وما هذا المجلس إلا مجلس العقل الخالص

والعقل الخالص عند (كانت) هو العقل نفسه، قبل أن يدخل الامتحان في تلافيفه شيئاً، هو العقل المجرد قبل أن ينطبع فيه شيء، وفيه ثلاث قوى نفسانية: الأولى قوة المعرفة التي تنطوي على الإدراك والحكم العقلي، وترتيب الأحكام، وهي تبحث عن أكناه الأشياء وحقائقها، والبحث فيها يتعلق بنقد العقل الخالص. والثانية خاصة الإرادة، وهي تبحث عن الخير، ومرجعها إلى نقد العقل العملي. والثالثة هي الشعور بالسرور والشقاء، وموضوعها الجميل، ومرجعها إلى نقد الحكم

وماذا أستطيع أن أعرف؟ هذا هو السؤال الذي يضعه الفيلسوف أمام نفسه، وهو ينبغي حله. أن كل معرفة تبدأ عن طريق الاحساس؛ ففي كل إحساس يجب أن نفرق بين مادتين: بين المادة التي تهدينا إليها حواسنا، وبين الهيئة التي لا يختلقها العقل من الخارج، ولكنه يجدها في نفسها متعلقة بهذه المادة؛ إن في عقلنا إدراكات خالصة ملهمة، كالصور الأصلية

ص: 57

المنطبعة في اذهاننا، ومن بين هذه الصور الداخلة في كل امتحان دخولاً اضطرارياً صورتان، وصفهما (كانت) بدقة ومهارة وحكمة. وهما:(معرفة المكان والزمن) فان هذا المقياس ليس له قياس، أو كما يقول هو عنه ليس له حقيقة مدركة، وعلمنا المبني على مثله لن يكون نصيبه من الحقيقة اكبر منها، إذ ليس للزمن والمكان حقيقة ذاتية ممكن إدراكها، وما الزمن والمكان إلا مقاييس نسبية ابتدعناها تساعدنا على إدراك الاشياء، فهي كالمرآة التي تعكس لنا صورة العالم كما نراه نحن محدوداً بمقاييس الزمان والمكان لا كما بني على حقيقته.

وفي جهة أخرى نرى علمنا كله ليس إلا مظاهر، يضعف ويقوى بحسب الملاحظة، ولا يكون قوياً إلا بنا، لأنه لا يملك شيئاً من الجزم والقوة بنفسه، وليس ببعيد أن يكون وراء عالمنا هذا عوالم يدرك أصحابها معنى هذا الوجود، بخلاف ما أدركته عقولنا، ويحدونه بمقاييس تتباين عن مقاييسنا، والحقيقة إننا فهمنا العالم كما نود أن نفهمه، وأدركناه كما تستطيع مداركنا إن تدركه، وهذه الحقيقة التي نسجنا نحن خيوطها ستظل محاطة بالروعة والجلال، ولن تغبر الطبيعة نظرتنا إليها حتى تغير أوضاع تفكيرنا وتبدلنا بها أوضاعا أخرى

وهذه النظرة العميقة هي النقطة التي ترتكز عليها فلسفة كانت، ومثله الأعلى الذي يفترضه مثلاً أسمى من المثل الشائعة، فهو يجحد حقيقة العالم الخارجي، ويرتفع بذاته عن المادية، ويعتقد أن أدوات معرفتنا أداة للإدراك، لا تقع تحت سلطان الحواس، لأنها منعزلة عنها وأسمى منها. وبهذه الأداة نراه ينتقل إلى عالم الله والروح والوجود، ويؤسس على كل عالم منها فكرة، ولكن حقيقة هذه العوالم برغم إنها شغلت العقل وتشغله وسوف تشغله لا تزال محجوبة عنا، بل يجد كانت أن تشبثنا بإدراكها عن طريق التجربة لا يغنينا نفعاً، بل يتركنا فريسة الخيالات والاعتراضات المتتالية

الله، والروح، والوجود: ثلاثة أكون متعاقبة لا تبدو للعين حقيقتها

نقد العقل العملي

للشاعر هنري هاين دعابة لطيفة ذكرها في كتابة (ألمانيا) قال في جملة بحثه عن كانت: (ولما وصل - أي. كانت - إلى هذه النقطة التفت وراءه فوجد خادمه الكهل (لامب) يبكي،

ص: 58

فقال كانت: إن لامب ليس له إله. . . ولكن لابد له من إله يضمن سعادته في العالم) فكتب كانت إذ ذاك نقد العقل العملي، وما العقل العملي إلا نفس العقل النظري منتحياً للعمل، وهو يستمد أصوله من نفسه كالعقل النظري مجرداً من كل تجربة؛ ترى الشريعة التي يرتبها على نفسه تصير شريعة عامة، وليست هذه الشريعة محدودة بفكرة الخير والشر، وإنما هي فكرة محدودة بنفسها، تنبثق من ذاتها وتعود إلى ذاتها، فما تراه الأخلاق خيراً يكون خيراً وما تراه شراً يكون شراً، وهذه الشريعة تولد رأساً من الشعور لا تفتقر إلى شيء من المنطق، ولا تحتاج إلى نظرة من نظرات العقل، وإنما هي تفرض نفسها بنفسها إذا فرضت، كأنها صيغة أمر شامل مطلق، والشريعة الأخلاقية هي لغة الطبيعة السامية في الإنسان، وقد يسمو الإنسان بقدر ما تتجلى فيه هذه الشريعة على قدر ما توائم أعماله قواعدها

وهكذا جرب كانت أن يجمع كل ما تحتوي عليه الشريعة الأخلاقية في دستور واحد يضم إليه جميع ما يركب الإنسان من واجبات في المجتمع، وهذا هو الدستور أو الكلمة الجامعة التي يريدها الفيلسوف (أعمل دائماً عملك وأنت تتمنى أن الطريق الذي سلكته يصبح شريعة عامة) أليست هذه الكلمة هي صدى الكلمة القديمة القائلة (عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به) إن هذه الكلمة لا تحدد إلا علاقة الفرد مع الفرد، وكلمة (كانت) تضع الإنسان الفرد إزاء المجتمع كله، فإذا قدر للخير أن يمتد سلطانه ويظهر أمره في الأرض فإنما تظهره جهود الناس المتضافرة وسمو طبيعتهم العالية، وهكذا بني (كانت) على هذه القواعد نظرية جديدة في عالم ما وراء الطبيعة ووجد مجالاً جديداً ليبحث عن الحرية والخلود ووجود الله بعد ما ترك العلم النظري هذه العوالم كلها فراغاً يباباً. فإذا كانت الشريعة الأخلاقية فرضاً على الإنسان وديناً لا مفر منه، وإذا كانت هذه الشريعة واجباً مطلقاً عنده، فهي ذلك لأنه قادر على إتمامها، إذا فالإنسان حر، والحرية هي ابنة الشعور الطبيعي، والحرية هي ضالة العقل العملي. وقد لا نستطيع أن نثبت وجود الحرية نظرياً، ولكنها تستمد وجودها من وجود الشريعة الأخلاقية التي يتوقف فهمها على وجودها. وكذلك الأمر في بقاء الروح ووجود الله

العقل العملي يبعث فينا نشاطاً غريباً يدفعنا إلى مثل الكمال. هذا المثل الذي يملك علينا

ص: 59

سلطانه كل شيء هو سلطان الخير المطلق. وإذا كان الخير المطلق شرطه الأول هو الفضيلة فهو إذا داع من دواعي السعادة، بل يوجب العقل أن تكون الفضيلة والسعادة من عنصر واحد

لنترك الخير المطلق، ولنعتبر الشريعة الأخلاقية وهماً أو خرافة، أفلا نؤمن بأن هنالك نظاما شاملا للأشياء مؤسسا على معنى السعادة والفضيلة، وأن هنالك في قلب الكون علة عاقلة تحكم وتسيطر وتربط بين الأجزاء وتؤلف وتفكك، وهذه العلة تحتم وجود الله؟

وهكذا نرى العقل العملي يقدر له الإثبات بغير برهان، والعقل النظري يعجزه أن يبرهن، ويتساءل (كانت) عن سر التنازع بين العقلين:

ولكن أليست الطبيعة التي ابتلت أحدهما بالعجز والوهن هي القاسية؟ ولكن لنفرض أن الطبيعة قد وافقتنا على أمانينا، ومنحتنا ما تمنيناه منها، ووهبتنا أنوار الهداية التي نهيم فيها، ولنفرض أن البعض مناقد ملك عليها، فماذا تكون النتيجة؟ أتدرونها؟ سيكون الإله بعظمته وروعته متمثلاً في أعيننا وفي أنفسنا، نطيع شريعته المرسومة طاعة عمياء لا نحيد عنها ولا نعتسف طريقها، ولكن أعمالنا هذه لا يقودنا إليها إلا عصا الرهبة تأتيها خالية من الفضيلة المبتغاة لذاتها، وهل يكون كل إنسان في كل ما يأتيه إلا كالآلة الميكانيكية تأتي ما يطلب منها وتؤمر به غير واعية ولا شاعرة؟ إن كل شيء يمشي في السبيل القويم؛ ولكنك تتلمس باطلاً نسمة الحياة تلفح هذه الوجوه الشاحبة التي أكلها السأم. . .

والآن، ونحن على هذه الحالة قد دلتنا الكائنات على عظمة المبدع ونزل فينا شرائعه الأخلاقية من غير أن تمنينا بالوعود أو تروعنا بالوعيد، وانفسح لكل واحد منا سبيله يبلغ به المثل الأعلى في الوجود

وفي النهاية يقول كانت إن النظام الإلهي مؤسس على شريعة الأخلاق، فإذا وجد الله، وإذا خلدت الروح فذلك لأنني أشعر بأني أحيا حراً، وأن حريتي بدون وجود الله وخلود الروح تغدو وهماً باطلاً. الإله الحقيقي - عند كانت - هو الحرية، ومما إله الديانة إلا وزيره الأول، وهو يحترم الدين بقدر ما يرعى للأخلاق والفضيلة عهودهما وذممهما، ويرى أن ممارسة الخير هي أسمى عمل يحبه الله

ص: 60

يتبع

خليل هنداوي

ص: 61

‌تاريخ الأدب الألماني

بقلم إبراهيم إبراهيم يوسف

تمهيد:

عنى أبناء العروبة في عشرات السنين الأخيرة بدراسة الآداب الغربية دراسة توحي الاطمئنان نوعا إلى ما سوف يكون عليه الجيل المقبل من تنوع الثقافة. وكانت آداب لغرب في نظر المتأدبين منا في بادئ الأمر هي الآداب الفرنسية وحدها، ثم انتهى بهم الأمر، وذلك منذ ربع قرن أو نحوه، إلى الأخذ بدراسة الآداب الإنكليزية أيضاً، وبذلك اتسع نطاق معرفة الآداب الغربية بعض الشيء. ولكن برغم هذا فإننا ما زلنا في مستهل الطريق. ولعل الخطوة الطبيعية التي تتلو ذلك ويتبعها المتأدبون في الشرق الأدنى والأوسط، ولا تكون إلا دراسة الآداب الألمانية دراسة جامعة، بعد أن أخذوا بقسط غير قليل من الآداب الفرنسية والإنكليزية. . . نعم لقد ظهرت بوادر هذه الدراسة في مصر منذ عشر سنين أو تزيد، إلا أنها كانت دراسات موجزة لا تتفق وعظمة الآداب الألمانية ووفرة كنوزها وارتباطها بالآداب الغربية والشرقية على السواء، ومن أجل ذلك كله حق لبعض من عكف على دراسة الحياة الأدبية في مصر وبقية بلاد الشرق العربي أن يقول عنا بأننا اقل الشعوب المتمدنة إلماماً بالآداب الألمانية. . . والواقع أن هذه الظاهرة لا تلائم بغية المتأدبين، إذ أول واجباتهم نحو الأدب بالذات أن يحيطوا علماً بالآداب العالمية، وليس من ينكر بأن للألمان صرحاً فيها مازال، وسيبقى، موضع فخر الأدباء في كل صقع. . .

لهذا كله ونزولاً على إرادة بعض من أجلهم، رأيت أن أكتب في هذا الباب، عسى أن أوافق إلى إثارة الرغبة عند كرام القراء في الإطلاع على الآداب الألمانية، بقدر توفيقي إلى استمالة الأدباء للإكثار من نقل غرر الآداب الألمانية

مقدمة:

لا تخلو الآداب الألمانية في أطوارها التاريخية من صفات عامة مشتركة بينها وبين الآداب الأوربية الأخرى. نعم إن عصور ازدهار الآداب الألمانية وعصور سقوطها لا تسير مع العصور التي تماثلها في آداب فرنسا أو إنكلترا أو إيطاليا، ولكن ليس معنى ذلك إن الآداب

ص: 62

الألمانية في تطورها لم تكن مرتبطة بالحركات الدينية والثقافية والاجتماعية التي غمرت القارة الأوربية. فقد كانت ألمانيا قبل دخول المسيحية إليها في حالة أقل ما توصف به إنها حالة غامضة مهمة، وكان الناس إذ ذاك يكادون ألا يعرفوا شيئاً غير الجمود والنسك، شأنهم في ذلك شأن بقية الناس في البلاد الأوربية الأخرى. ثم تلا ذلك عصر آخر اضطر فيه فرسان الحروب الصليبية إلى التقهقر أمام المدن الثائرة. وجاء عصر الإصلاح ممهداً لعصر النهضة. وكانت ألمانيا أسرع من جيرانها استجابة للحوادث الجسام التي كانت تنتاب أوربا من وقت إلى آخر. وإذا كان من المسلم به أنه لا يوجد أدب أوربي كان في كل تطوراته مستقلاً تمام الاستقلال عن آداب جيرانه، فانه مما لا شك فيه أن الآداب الألمانية مدينة بالشيء الكثير إلى آداب الغير. لهذا كانت دراسة الآداب الألمانية هي، إلى حد بعيد، دراسة ما يطلقون عليه اليوم اسم (الأدب المقارن)، وإذاً فمن المهم معرفة مركز الآداب الألمانية بالنسبة للآداب الأوربية، وعلاقة هذه بتلك. وستؤدي بنا طبيعة هذا البحث إلى التمييز بين الوطني من آداب الألمان والأممي منها. وكذلك سنقف على مدى تشعب كل من النزعتين في تطور الآداب الألمانية وما ينتسب منها إلى الوطنية، وما له صلة بالتاريخ السياسي أو الاجتماعي

ولكل من مؤرخي الآداب الألمانية طريقه الخاص في استعراضه لتاريخ هذه الآداب. وكذلك كانت نظرة كل منهم في تقسيم تاريخه إلى مراحل. وموقفنا هنا يضطرنا إلى الأخذ بالسهل منها؛ ولذلك يمكننا القول بأن تاريخ الآداب الألمانية ينقسم إلى ثلاثة أقسام بينة، لثلاثة عصور مختلفة، لكل عصر منها لغته وطابعه. فالقسم الأول يشمل العصر القديم للألمانية الرفيعة الذي يبدأ حوالي سنة 750 ميلادية، وينتهي حوالي سنة 1050. والقسم الثاني يشمل العصر الوسط لآداب الألمانية الرفيعة، يبدأ من سنة 1050 وينتهي سنة 1350 ميلادية، ثم العصر الأول لجديد آداب الألمانية الرفيعة الذي يبدأ من سنة 1350 وينتهي سنة 1700 ميلادية، ثم تلي تطورات الآداب الألمانية في هذه المراحل الثلاث تطوراته الأخيرة في كل من القرون الثامن عشر والتاسع عشر والعشرين

وسنعالج كل طور من هذه الأطوار التي مر بها الأدب الألماني في باب خاص، جاعلين بغيتنا في ذلك إيضاح النزعات الفنية في الآداب الألمانية وأثر كل منها في تاريخه

ص: 63

العصر القديم للألمانية الرفيعة

الثقافة الألمانية الأولى

نجد في تطور كل أدب عهداً مرتبطاً بما اتفق على تسميته في التاريخ السياسي (بعصر ما قبل التاريخ). وفي ذلك العصر لم تكن للشعوب ثقافة عامة، كما لم يكن لها أدب مخطوط، ولم يكن للألمان في ثمانية القرون الأولى المبتدئة من يوم مولد المسيح شيء ينم عنه تاريخهم السياسي من ثقافة عامة. كذلك لم يكن لهم أدب مخطوط يمت إلى الحوادث الواقعية حتى عهد كارل العظيم. والواقع أن التاريخ القديم للعشائر الجرمانية لا زال موضع جدل بين المحققين، ولا يمكن الإجابة القطعية على سؤالك من أين جاءوا، ومتى أتوا إلى الجهات التي استوطنوها. ولكن من الثابت انهم ينحدرون من الأسر الجرمانية الهندية وموطنها الأصلي أواسط آسيا. وكانوا في نفس الوقت الذي أخذت فيه روما توطد مركزها في جنوب أوربا يقطنون البلاد الواقعة على شواطئ بحر الشرق الممتد فيما بين بحر البلطيق وبحر الشمال. وكان أول من جاء بأخبارهم إلى العالم المتحضر في القرن الرابع قبل المسيح، رجل رحالة مغامر اسمه بييتس فأثبت انهم يتكلمون بلهجات ألمانية دون شك، إذ هي تختلف عن بقية اللغات الأوربية الهندية ، -

وربما كان أول حدث سياسي هام بدل من كيان تلك الجماعات التي كانت تسكن المناطق الواقعة على بحر الشرق، هو ذلك الذي أثار التفرقة بينهم وجعلهم فريقين: فريق الجرمانيين - ، وهم الغوط ، والعشائر التي استوطنت اسكندنافيا وفريق الجرمانيين الغربيين - ، وهؤلاء كانوا يؤلفون الجنسيات الوطنية التي عرفت فيما بعد ، الإنجليز - والجرمانيين البحريين - وهم الذين يتكلمون اليوم اللغة الهولاندية واللغة العامية الألمانية ثم الجرمانيين العلويين ، ومضت بضعة قرون قبل أن تستقر هذه العشائر في موطنها الجديدة. وكانت غزوة الجرمانيين لأسكندنافيا قد تمت قبل مولد المسيح ببضعة قرون. ثم حفزتهم غريزة الترحال فيهم إلى الرجوع ثانية إلى الجنوب فأسسوا دولة الدانوب البحرية

أما الجرمانييون الغربيون فكانوا أقل من زملائهم سرعة في التطور، إذ لم يدعهم يوليوس

ص: 64

قيصر القرن الأول قبل المسيح يستقرون في مكان، وظلوا أشبه بالقبائل الرحل حتى كانت غزوة ، أواخر القرن الرابع، التي ربكت عامة الجرمانيين

وكان النزاع بين الجرمان والدولة الرومانية قد استمر نحو نصف قرن، مما دفع مؤرخي الرومان إلى حب الوقوف على أحوالهم. فكان منهم تاكيتوس وهو في كتابة كثير التدقيق والتحقيق، وقد قال فيه أن الأبجدية لم يستعملها الجرمان في مراسلاتهم بشكل عام إلا في القرن الثالث. وهم ككل شعب مبتدئ ليس لهم شعر مخطوط. وفي أغانيهم القديمة، وهي المستند الوحيد، يحيون إلاههم تيستو الذي أنبتته الأرض كما يحيون ابنه ما انهما أي الجنس الجرماني. وللبطل أرمينوس في أغانيهم. وكان له نشيد وطني معروف بأسم ينشدونه والدروع إلى أفواههم ليكون له دوي عظيم. وكانت أناشيدهم الدينية وأغاني تمجيد أبطالهم تقرن بالرقص ويسيرون في مواكب تشبهاً بالجرمانيين الأقدمين كما جاء في ذلك الشعر؛ وكان قدماء الجرمان يطلقون على هذه الحفلات أسم لايكاس وكانت هذه هي الخطوة الكبرى نحو وأضاف تاكيتوس إلى ذلك القول بأنه لا بد أن يكون للجرمانيين أدب له سحره وجماله الذي نجده عند الأوربيين الهنود كافة. وللجرمان غير ما ذكرنا أغان للموتى، وأخرى لانتصار الشمس على الظلام والزوبعة، وغيرها عن الحدث الأكبر: موت النهار، أو عن ذبول الصيف. وهذه الأغاني بقايا خرافاتهم القديمة عن الطبيعة

وكان الغوط أول من نهض من الجرمان بحياة ثقافية. وفي دولتهم التي أنشئوها في المنطقة القريبة من الدنواب خطوا خطوات سريعة نحو الثقافة ونحو المدنية. ولعل مركزهم الجغرافي هو الذي ساعدهم على الاتصال بالفكر الإغريقي وبالمسيحية، بينما كان إخوانهم في الشمال ما يزالون همجاً وثنيين

ويعتبر فولفيلا - الذئب الصغير أول من وضع أساس الأدب في لغة الغوط

(للبحث صلة)

إبراهيم إبراهيم يوسف

ص: 65

‌البريد الأدبي

أعمال الاستكشاف في قلب أفريقية

قررت أكاديمية العلوم الفرنسية أن تنمح جائزة (البردى موناكو) الشهيرة وقدرها مائة ألف فرنك (نحو ألف وثلاثمائة جنبة) إلى العلامة الجغرافي المكتشف الأفريقي الجنرال تيلهو، أحد أعضاء بعثها الجغرافية، وذلك لما قام به من الاكتشافات الخطيرة في منطقة بحيرة تشاد والأنهر المتصلة بها، ومعاونته بذلك على وضع هذه المنطقة تحت الحماية الفرنسية

وقد كانت فرنسا تعنى منذ بعيد بشأن هذه البحيرة الشاسعة التي تقع في وسط أملاكها الصحراوية الأفريقية، وتؤثر أعظم أثر في مستقبلها الاقتصادي؛ فجهزت إليها عدة بعوث علمية منذ أوائل هذا القرن، ولما زادت أملاكها في تلك المنطقة باستيلائها على أملاك ألمانيا، وتوغلها في السودان الغربي، زاد اهتمامها باكتشاف هذه المنطقة وتحديدها وتأمين حمايتها؛ ويمكن تقدير أهمية بحيرة تشاد متى علمنا أنها تغطى مسطحاً قدره 18 ، 000 كيلو متر، ويصب فيها نهران كبيران هما (شاري) و (لجوني) وعلى مائها تقف حياة الملايين من سكان المناطق المجاورة، وكان الجنرال تيلهو، منذ كان ضابطاً فتي في أواخر القرن الماضي، يهتم باكتشاف هذه المنطقة، وينوه بأهمية مستقبلها الاقتصادي والسياسي، وقد كان أول من استطاع أن يضع لها خريطة دقيقة؛ وقد بدأ بارتيادها منذ سنة 1898 ليحقق أبعادها بالنسبة لنهر النيل ونهر النيجر، ولكنه لم يستطع أن يتوغل يومئذ في تلك الأنحاء لخطر قبائلها الهمجية. ولكنه عاد بعد بضعة أعوام فالتحق ببعثة الجنرال مول التي أوفدت لضبط حدود الينجر بين فرنسا وبريطانيا، وفي سنة 1906 عين رئيساً لبعثة جديدة أوفدت لاكتشاف المنطقة الواقعة بين الينجر وبوركو، فاستمرت في تجوالها في تلك الأنحاء مدى ثلاثة أعوام. وفي سنة 1912 عاد على رأس بعثة أخرى، وقضى في تجواله خمسة أعوام اكتشف أثناءها كثيراً من أسرار المنطقة الواقعة شرق بحيرة تشاد، ومنطقة بركو، وبيستي ودارفور، وضبط وسائل المواصلة بين مستعمرات فرنسا الأفريقية الغربية والسودان الفرنسي (السودان الغربي)؛ وعلى أثر هذا الاكتشاف العظيم عين الجنرال تيلهو عضواً في أكاديمية العلوم ومنح مدالية الاستحقاق الذهبية؛ ثم أنعم عليه بعد ذلك بلقب عضو في المجمع العلمي؛ والجنرال تيلهو جندي باسل، وعلامة جغرافي ومحقق أخصائي

ص: 66

في جغرافية أفريقيا الوسطى، وقد قرر أن يخصص الجائزة التي منحت له لمتابعة أعماله واكتشافاته العلمية في تلك الأنحاء

ولم ينفذ العالم الأوربي إلى تلك الأنحاء إلا منذ أوائل القرن الماضي، منذ اكتشافات منجو بارك الاسكتلندي، ورنية كاييه الفرنسي؛ ولكن يبدو من دراسة رحلة أبن بطوطة الرحالة المغربي الشهير أنه ارتاد كثيراً من تلك الأنحاء، على أثر عودته من رحلته في الشرق الأقصى (في أواسط القرن الرابع عشر)؛ وهو يذكر أسماء مدن ومواقع لم يعرفها الغرب إلا منذ قرن مثل سكوتو، وغيرها

دائرة المعارف الفرنسية

كان الأدب الفرنسي أول ما ظفر بإخراج الموسوعات الأدبية والعلمية والحديثة؛ ويرجع تاريخ هذه الموسوعات الحديثة إلى أواسط القرن الثامن عشر، حيث ظهرت جماعة العلماء المعروفة (بالأنسيكلوبيدين) وعلى رأسهم ديدرو، ودالمبر، وهولباك وغيرهم

وقد ظهرت دائرة المعارف الفرنسية الكبرى منذ أواسط القرن الماضي، وتمت في أواخره؛ ولكنها لم تطبع من ذلك الحين مرة أخرى، وأضحت في عصرنا أثراً قديماً تنقصه عناصر هامة من العلوم والفنون والاختراعات الحديثة، وتاريخ العالم منذ أواخر القرن الماضي، وفد تقدمت الموسوعات الأجنبية على الموسوعة الفرنسية من هذه الناحية تقدماً عظيماً، فصدرت الطبعة الخامسة عشرة من دائرة المعارف البريطانية سنة 1930، وأضحت أثر عظيما شاملاً لآخر ما أخرج العصر من آداب وفنون وعلوم؛ وصدرت دائرة المعارف الإيطالية الجديدة منذ عامين أو ثلاثة؛ وصدرت دائرة معارف روسية حديثة. وقد اهتمت وزارة المعارف الفرنسية والهيئات العلمية الفرنسية منذ بضعة أعوام بأمر الموسوعة، وألفت لجنة من أكابر العلماء والكتاب للأشراف على إخراجها في طبعة جديدة وعلى رأس هذه اللجنة، المسيو دي مونزى وزير المعارف السابق، ومسيو لوسيان فابر الأستاذ بالكوليج دي فرانس، وهو المدير العلمي للموسوعة، ومسيو هنري دي جوفنل الكاتب والسياسي، والأستاذ بايان نقيب المحامين السابق، ويوسف بدييه مدير الكوليج دي فرانس، وفرانسوا ميلان عضو الشيوخ، وغيرهم من أكابر العلماء والمفكرين. وقد أتمت اللجنة تنظيم الأعمال التحضيرية؛ وبدأت أعمال التحرير فعلاً، والمرجو أن يصدر الجزء

ص: 67

الأول في سنة 1935، ثم تصدر الأجزاء تباعاً بعد ذلك، حتى تغدو الموسوعة الفرنسية لائقة بما للأدب الفرنسي من مكانة ممتازة في عالم الآداب الحديثة

مدام آدم وعصرها

مدام جولييت آدم من أعظم كاتبات فرنسا، وهي اليوم في الثامنة والتسعين، وقد لبثت مدى النصف الأخير من القرن التاسع عشر تتزعم الحركة الأدبية في فرنسا، وكانت بينها منذ أواخر القرن الماضي وبين زعيم الوطنية المصرية مصطفى كامل رسائل سياسية وعلائق صداقة وثيقة استمرت حتى وفاته

وقد أصدرت أخيراً كاتبة فرنسية أخرى هي مدام مانون كورمييه عن مدام جولييت آدم وعصرها كتاباً كبيراً استعرضت فيه حياة الكاتبة الكبيرة منذ تحريرها (للمجلة الجديدة) في شبابها، وما كان بينها وبين أكابر عصرها من علائق الصداقة أمثال جورج ساند الكاتبة الشهيرة، وليون جامبتا السياسي الكبير، وبيير لوتي الكاتب الأشهر، وكان يسميها (بأمه العزيزة)، وما كان لها من زعامة روحية وفكرية على كثير من المفكرين والكتاب داخل فرنسا وخارجها

الاحتفال بتوزيع جوائز نوبل

أقيم في استوكلهم عاصمة السويد في العاشر من ديسمبر الجاري الاحتفال السنوي الكبير الذي تمنح فيه جوائز (نوبل) وقد رأس ملك السويد بنفسه الحفلة كالمعتاد، وتولى بنفسه تقديم الجوائز الممنوحة لممثلي الدول التي ينتمي إليها الكتاب والعلماء الفائزون؛ فناب عن الكاتب الإيطالي بيراندللو الفائز بجائزة نوبل للأدب سفير إيطاليا، وناب السفير الأمريكي عن الأساتذة جورج مورفي وهوبيل ونويث الفائزين بجائزة نوبل للطب، وكذلك عن الأستاذ هارولدادري الفائز بجائزة نوبل للكيمياء؛ ومقدار كل جائزة منها 162 ، 607 كوروناً سويدياً (أي نحو أربعة آلاف جنيه) ويعتبر هذا الاحتفال أعظم الاحتفالات العلمية

المصور (سم)

توفي أخيراً في باريس أستاذ من أساتذة التصوير الرمزي (الكاريكاتور) هو الرسام (جورسا) المعروف في عالم التصوير باسم (سم) وهو الاسم الذي يوقع به صوره. وقد

ص: 68

بلغ هذا النوع من التصوير في العصر الأخير ذروة قوته وخطره، وأصبح فناً قائماً بذاته، يشترك مع القلم في التعبير عن الحوادث والمشاعر، ولا سيما أحداث السياسة، وقد كان (سم) من أقطاب هذا الفن، وكانت صوره الرمزية التي تنشرها جريدة (الجورنال) من أسمى ما أخرج الفن؛ وكانت تمتاز بقوة التعبير والفكاهة اللاذعة المحتشمة معاً. ولبث (سم) يعمل في قلم تحرير (الجورنال) أعواماً طويلة، وقد توفي كهلاً لم يجاوز الخمسين في عنفوان قوته وفنه

ص: 69

‌القصص

من الأدب التركي

العذراء الدميمة

ترجمة عبد اللطيف أحمد

لم يتجاوز التفاوت بينهما في السن غير عامين، ولكنه في الجمال وحسن الخلق كان جد عظيم. لازم النحس (عصمت) منذ رأت النور، فقد ولدت وأمها تكاد تفقد الحياة من معاناة مرض خطير، بله آلام الوضع، ولم يكن للأسرة هم إلا إنقاذ الأم من براثن الموت، ومحاولة إصلاح ما أفسده مرض ذات الجنب من جسمها الرطيب، فلم يرحب أحد بالقادمة الجديدة، أو يفكر في أمرها حتى الأم - وا أسفاه - كأنها في هذه اللحظة قد فقدت غريزة الأمومة، فلم تنظر إليها حينما تلقفتها يد القابلة إلا كما تنظر إلى خرقة بالية!

ولم يكن حظها من عناية أبيها بأوفر منه عند أمها، فكثيراً ما كان يراها وهي ملقاة على الأرض تشارك الكلب في مزجره، وفي يدها هنة تشبه قطعة الخبز دون أن تتحرك في قلبه عاطفة الأبوة نحو التي أتى بها إلى الحياة على كره منها؛ وهكذا سرت العدوى إلى سائر أفراد الأسرة وكأنها وترتهم جميعاً قبل أن تأتي إلى هذا العالم، فلما واتتهم الفرصة ثأروا لأنفسهم بإهمالها والحط من شأنها، ولولا وشيجة الإنسانية لقضت هذه التعسة جوعاً فأراحت واستراحت

اسندوا أمر العناية بها إلى ظئر حامل كسول، فلم تعطها من الرعاية إلا المقدار الذي يسمح لها بالحياة، فشبت إلى أسفل، وكأنها كانت تسير في نموها نحو مركز الأرض!

شاء القدر أن يصور للناس صورة ناطقة للقبح الجسماني، وينصب تمثالاً حياً للتنافر الجسدي، فكانت (عصمت) كما أراد: عينان غائرتان لا يكاد يبدو منهما نور الحياة، وخدان شاحبان بل عظمان عاريان إلا من ذلك الجلد الحائل، بينهما نتوء يشبه الأنف، تحته شفتان ضل سبيله إليهما الدم!! يضم كل هذا وجه أشبه بوجوه الموتى، إن فقد معالم الحسن فلم يفقد معاني الرحمة والرثاء، ينوء بذلك جذع ناحل وأطراف هزيلة

وهنا يجدر أن نسأل أنفسنا: أيكون القبح عقبة في سبيل حب الوالدين لفلذة كبديهما؟؟!. . .

ص: 70

هذا ما لا نستطيع الجواب عنه، ولكن الذي نعلمه أن عاطفتهما نحو (عصمت) كانت أشبه بالرحمة منها بالحب، وحسبنا مصداقاً لهذا محاولتهما البعد عنها تحت تأثير غريب كان يستولي عليهما كلما لمحاها

استردت الأم صحتها بعد جهاد عنيف، ودبت العافية في جسمها دبيب الراح في جسم شاربها، فشبا خداها، وبرقت عيناها، وغمرت الهناءة وجهها، وجرى ماء الحياة في جميع أطرافها، وبينما هي على وشك الظفر بالنصر الحاسم على عقابيل المرض المنهزم؛ إذا هي تحس حركة في أحشائها تؤذنها بزائر جديد، فاستخفها السرور، وحملت البشرى إلى زوجها باسمة، ثم ذاع المخبرين أفراد الأسرة، فعمهم البشر كأنه يولد في هذا المنزل لأول مرة، وكأن (عصمت) المنكودة الحظ لم تكن في الحسبان!

أخذوا في أعداد العدة لاستقبال هذا الوليد، وطفقت الوالدة تهيئ الأقمطة الناعمة، والأقمشة الفاخرة، وذهب الوالد يبحث في الأسواق عن أحسن مهد وأثمن هدية، وكان شغله الشاغل في شهور الحمل البحث عن كل ما يسعد الوالدة والمولود

وبينما (عصمت) تعبث في غرفة الخدم، تحبو كأنها الحشرة لا يعبأ بها أحد، ولا يعيرها التفاته إنسان، والجميع في شغل شاغل - فقد جاء الأم المخاض - إذا القابلة تقول: كأنها قطعة من نور. .! يا أم ابنتي هلا نظرت إليها.؟ وكان هذا إيذانا منها بانتهاء الأمر. . . لم تصدق الأم بادئ بدء، وسألتها جازعة: تشبه من يا ترى؟ وكأنها تخاف أن ينكبها القدر مرتين، ولما يزل شبح (عصمت) يتراء لها. إجابتها بلهجة الظافر. تشبه من.!؟ لمن يحتمل أن تشبه سوى أمها وأبيها. .!؟ وشاع البشر في وجه الأم حينما وجدت مصداق قولها في وجه ابنتها الجميل التكوين

علم أهل الحي فجاءوا مهنئين، وحفلت الدار بهم، فصارت الأم بما ملكها من الزهو بوليدتها الجميلة تكشف لهم عن وجهها، وهم يرتلون آيات الإعجاب بها ويكررون كلمات التهنئة، وأخذوا يتخيرون اسماً لطفلتهم، وأي اسم يؤدي كل هذه المعاني التي تنم عنها ملامحها من الحسن الرائع؟ إن كل ما نذكر من الأسماء غير واف بتلك المعاني. فليبحث أبوها إذن في المعاجم، وليسأل الغادي والرائح عله يظفر بضالته التي ينشدها. . . بعد جهد، خطر له اسم لبطلة قرأ عنها في إحدى القصص، فأطلق عليها (لمعان)

ص: 71

تعاقبت الأيام، وشبت (عصمت) فبدأت ترقب طفولة أختها المرحة المترعرعة، وترى من إعزازها وإعجاب الأسرة بها ما لم تظفر في يوم من الأيام ببعضه فتعجب، ولكن سرعان ما تهديها غريزتها إلى أن بها نقصاً، فيعتريها شعور مهم غامض؛ أهذا هو السر في إنها ليست محبوبة، وأنها أدنى منزلة من تلك التي تتبوأ ذراعي أمها مفترة الثغر باسمة الملامح؟ كانت (عصمت) مرهفة الحس إلى حد بعيد، وكأنما عوضها الله سبحانه ما نقص من خلقها بكمال حسها ودقته - ويا ويل من دق حسه وقصرت يده عما يريد. .!

كانت ترى الفارق كبيراً في معاملة أبويها لهما فيعتريها من الألم والحسرة ما دونه وخز الإبر ووقع السهام، ينظر الوالد إلى أختها التي لا تفارق ذراعي أمها فيشع من عينيه السرور، حتى إذا وقع بصره على (عصمت) أطلت الشفقة من وجهه، وكأنها تسخر من هذا من هذا المخلوق العجيب، وربما تصدق عليها بقبلة تدرك معناها فتشعر برعدة المحموم من فتورها وبرودتها، وقد يخيل إليها إن الثلج طفق يذوب من موضعها، فتذوب حسرة وألماً، وتجر جسمها الهزيل جراً وتنزوي في ركن قصي، ويعوزها البكاء فلا تجرؤ عليه؛ وقد تحاول التمرد على أخذها بجناية لا يد لها فيها فيقعدها العجز عن السير في هذه السبيل

بقيت (عصمت) تعاني من أمرها ما تعاني، و (لمعان) تتفتح كزهرة الربيع، ترعاها عناية الأب ويكفلها حنان الأم وعطف الأسرة. . . أكسبها كل هذا نضارة فوق نضارتها، ونشاطاً فوق ما طبعت عليه من الخفة والمرح ودوام الابتسام، ولا عجب، فهذا شأن كل من اطمأن على أنه استوى على عرش القلوب وتملك ناصية الأفئدة

أقبل العيد، وأشترى الوالد لكل من ابنتيه ثوباً من المخمل القرمزي الجميل، فكان لهذا - في أول وهلة - من الأثر الطيب في نفس الأختين ما سرهما، ولكن شد ما اختلف شعورهما بعد ذلك! رأت (عصمت) أختها وهي تختال في ثوبها الجديد، وقد افاضت عليه من حسنها ما ضاعف بهاءه ورونقه، ثم تأملت نفسها فكادت تصعق. . . . . أنهما من نوع واحد! ولون واحد! ومن صنع يد واحدة! فما بال أحدهما يصعد إلى قمة الحسن، وينزل الآخر إلى أحط دركات القبح!؟ هل شارك الجماد أبويها في إذلالها والزراية بها؟ هل يميز الثوب بين الوسامة والدمامة حتى يصدمها هذه الصدمة الأليمة. . .!!؟

ص: 72

إذن أف له ما أقبحه، وما أشد بغضي له!. ناجت نفسها بكل هذا، والألم يحز في أحشائها حزاً تحس أثره اللاذع في السويداء من قلبها، وكأنها نسيت نتوء عظام كتفيها، وهزال جسمها، وشحوب لونها الأسمر الذي ضاعفه لون ثوبها الجميل؛ على حين تخلع (لمعان) من روعتها ونضارتها على ثوبها ما يزيده جمالاً وروعة

هتفت بالأختين مربيتهما: هيا قبلا أبويكما وهنئاهما بالعيد. . . لبتا الأمر، ومشت (عصمت) على استحياء والهم يملأ فؤادها المكلوم، وقد سبقتها (لمعان) - وكأنها ظبي أهيج - في خفة ورشاقة، ولكنها انتظرت مقدم أختها لتتقدمها في أداء هذا الواجب

مشت البائسة مطأطئة الرأس، مكتئبة النفس، في وجوم يكاد يكون بلادة، ثم تناولت أيدي أبويها وقبلتها، فبادلها كل منهما بقبلة، وكأنما يقبلان جثة هامدة لما غشيهما من الحزن والكآبة، ولكنهما ما لبثا أن تهللا حينما جاء دور (لمعان). .

يا لله للمحدود التعس.!! حتى في اليوم الذي يفرح فيه الناس جميعا، ويتناسى كل حزين حزنه، وكل بائس بؤسه، تطعن هذه الشقية تلك الطعنة النجلاء!

ظلت (عصمت) شاخصة، وسرى من روحها الحزين تيار قوي شل حركات الجميع فجمدوا كأنهم التماثيل، ولم يخرجهم من هذه الحال إلا (لمعان) حينما تحركت، وكأنها أدركت فجأة مقدار ما أصاب أختها من غبن وما نالها من شقوة، فجاش قلبها بالرحمة والحب، فاحتضنتها وتعلقت بها، وبذلت جهدها حتى طبعت قبلتها على جبينها، ولكن (عصمت) لم تبادلها إياها، وكان هذا عن غير عمد منها، فقد كانت شاردة اللب، كليلة الذهن، يضطرب صدرها بشتى الآلام وضروب الأوجاع، وقد أيقنت في هذه الساعة بماكانت لا تشعر به إلا محاطا بالغموض والإبهام، وحاولت أن تجزي أختها بما فعلت، فاحتضنتها وأرادت أن تقبلها، ولكنها انفجرت باكية في نشيج محزن، وأخذ صدرها يعلو ويهبط، وعيونها تفيض بغزير الدمع وهي تحاول منعه، ولكن هيهات فقد أفلت من يدها الزمام

منذ تلك الساعة (وعصمت) في هم دائم، حتى الابتسامة التي كانت تزور شفتيها لماما، وكأنها ضلت طريقها إلى الثغور الفرحة، فأوقعها سوء الحظ في هذا الثغر الحزين. . . حتى هذه الابتسامة غادرتها إلى غير رجعة، فقد أزالت تلك الدمع الحارة التي ذرفتها عيناها يوم العيد الغشاوة التي طالما حجبت عنها الحقيقة في أيامها الأولى

ص: 73

وأيقنت أن جرحها عميق بعيد الغور لا يرجى له برء، ولا يعرف له دواء، وكلما تقدمت سنها قوي عندها الشعور، وضوعف الألم. . . . . .

أما (لمعان) ففي شغل عنها بزينتها ولهوها ومرحها

كبرت الأختان، وأشرفتا على سن الزواج، وأصبحت (لمعان) فاتنة المدينة، وغادتها الفريدة، وشرع الأبوان في إعداد ما يلزم لزفاف فتاتيهما، كسبا للوقت واستعدادا للطوارئ، فكانت (لمعان) تجلس الساعات الطوال، تصور لنفسها ذلك المستقبل السعيد الذي ينتظرها، بينا (عصمت) تتخيل في كل أداة تهيأ لها حية تنهش فؤادها، أو سهما يسدد إلى قلبها، فكل شيء يذكرها بذل الخيبة، ومرارة الفشل. . . .

الزواج! نهاية الأمل، ولقد فقدت الرغبة، وهل عاش لها أمل أو بقيت لها رغبة؟

لقد فقدت الأمل، ولقد فقدت الرغبة، ولم يبق لها إلا إحساسها، وكم كانت تجاهد المسكينة نفسها حينما تعرضها أمها إلى جانب (لمعان) على الخواطب. . . .

وهل تنتظر منهن كلمة الإعجاب التي لم تظفر بها في يوم ما من أبويها؟ وهل هن أشفق على إحساسها وأرحم بفؤادها منهما؟. . . . إذن فليذب كبدها، ولتتقطع أوصالها، وهي تساق إلى ذلك الموقف سوقا، ولتتحمل على الرغم منها تلك المخالب التي تنشب في أحشائها وتمزقها تمزيقا، ولتتقبل كارهة ذلك الأعراض الساخر وقتما يأتلق للخواطب نور (لمعان) بجانب دمامتها

هاهي ذي أمامهن تدور بعينيها في الغرفة تلتمس الخلاص كما يلتمسه الطائر السجين فلا تجده، وقد خيل إليها أن الفلك قد وقف عن دورانه في هذه اللحظة الطويلة، حتى إذا أذن لها بالخروج بادرت متهالكة وقذفت بنفسها إلى غرفتها وكأنها فرت من الجحيم فتغلق عليها بابها، وتنزوي في ركن من أركانها جامدة الحركة، كسيرة الجناح، واهنة القوة، لا تستطيع نزع ثيابها ولا النظر في مرآتها، وتظل شاخصة ببصرها إلى نقطة وهمية، وعواطفها تلتهب بين جوانحها حتى يكاد يحترق جسمها النحيل

أما (لمعان) فتذهب متهللة إلى غرفة الخدم، وتسر إلى فتاة لعوب منهن كانت تصطفيها - ما كان من أمر الزائرات معها، وكيف كن يحدقن فيها ويداعبنها، خصوصا تلك السيدة الشابة ذات المخمل الأزرق المكسو بالفراء؛ كانت تقص هذا على صاحبتها وهي مفترة

ص: 74

الثغر، مشرقة الجبين، تنطق أساريرها بما استولى عليها من الزهو

ظل الخواطب يترددن على منزل الأسرة عامين كاملين، و (عصمت) تكتوي بنار العرض عليهن، إلى أن صهرتها الآلام وحولتها إلى مخلوقة أخرى، إلى قديسة تنشد الصبر، وتطلب من الله العزاء، وكانت تسمع عقب كل زيارة همسا ينبعث من غرفة والديها لم تتبينه بادئ الأمر، إلى أن سمعت أباها ذات مرة يقول للمعان وهي تدخل عليهما الغرفة بغتة: لاشك يا ابنتي في أنك تقبلين الانتظار حتى تتزوج أختك بصدر رحب، أليس كذلك؟

فصمتت (لمعان) خجلا، ولكن هذه الكلمة فعلت في نفس (عصمت) ما فعلت فاعتزمت أمرا. وما زالت ترقب الفرصة لما اعتزمت حتى لاحت لها عقب زيارة بعض الخواطب، وقد طلب الوالد من ابنتيه أن يذهبا إلى مخدعهما، وحينئذ لم يخف على (عصمت) أن أباها يريد أن يخلو إلى أمها ليحادثها فيما جاء من أجله الخاطبات، فاختفت بحيث تنصت لحديث والديها دون أن يرياها

سمعت أباها يقول: لا لا. لا يمكن أن نزوج الصغرى ونترك (عصمت) فريسة للهواجس، فتقول أمها وهي تحاوره:

لقد انتظرنا طويلا، وليس من الحكمة أن نغامر بمستقبل (لمعان) في سبيل أمل دلت الشواهد على أنه لا يتحقق، وإذا لم تتزوج (لمعان) فلا سبيل إلى زواج (عصمت) وتكون العاقبة تضحية الاثنتين؛ وهذه جريمة لن أوافق على اقترافها أبدا. . .

لم يجر أي حديث في شأن (عصمت) في زيارة من تلك الزيارات العديدة، ولم تذكر على لسان أحد بزواج، بينما تلح الخواطب إلحاحا شديدا في طلب (لمعان) فلم هذا العناد جريا وراء سراب خادع ووهم باطل؟

ولو أن سهما أصاب فؤاد (عصمت) لما تألمت كل هذا الألم الذي اعتراها عندما صك سمعها هذا الكلام. أي بلية جديدة وأي نكبة.!؟؟ أتكون عقبة في سبيل إسعاد أختها؟ لقد شربت كأسها وحدها صابرة محتسبة، فهل تكون سببا في شقاء غيرها. .؟؟. لا. إن هذا لن يكون أبدا

هذا ما تحدث به ضمير (عصمت). أما أبوها فأخذ يقول لأمها:

تحاولين عبثا إقناعي بزواج (لمعان) أولا، وإني لأفضل تضحية الاثنتين على أن أرى

ص: 75

كبرى بناتي تموت غما، وأكون مع القدر عليها

واستمر في حديثه و (عصمت) ترتجف خلف الباب تأثرا، ولم تستطع كبح جماح عواطفها طويلا، فاقتحمت الباب عليهما صائحة:

كلا يا أبتاه. إن (عصمت) لن تتزوج، فهي لم تخلق للزواج؛ أنها دميمة، ولن يبحث الأزواج عن الدميمات، ارحمها يا أبتاه، ولا توقفها ذلك الموقف المؤلم، ودعها تحيا في ظلك ما قدر لها، إنني بائسة فلا تجعلني حائلا بين أختي وبين سعادتها ومستقبلها، وأجهشت باكية، فبكى أبواها رحمة بها وإشفاقا عليها

مرت الأيام ولم يجد الأبوان أمام إلحاح (عصمت) وإصرارها بدا من زواج (لمعان)، وقد اغتبطت عصمت لذلك اغتباطا شديدا، وكانت ترى في خدمة أختها وزوجها بعض السلوة

انقطعت زيارة الخواطب منذ تزوجت (لمعان). وناءت (عصمت) بعبء ما مر بها من خطوب، فأصبحت وهي في عقدها الثاني كأرملة في الثمانين، وقد زهدت الحياة وملتها حتى وضعت (لمعان) طفلا جميلا فاتخذته ولدا لها، ولم تكن لتتركه لحظة واحدة، جعلت له من صدرها مهدا، ومن عنايتها حارسا فشب على حبها، ووجدت لذلك برد الراحة، فحببت إليها الحياة، وكانت تعتقد أنها جوزيت على جميل صبرها خير الجزاء حينما تداعب الطفل فيطوقها بذراعيه الصغيرتين، ويغمر وجنتيها الجافتين اللتين لم يسعدهما الحظ لثما وتقبيلا وهو يقول: خالتاه. . . ما أحيلاك يا خالتاه. . .!

اسكندرية

عبد اللطيف أحمد

ص: 76

‌من الأدب الفرنسي

هنرييت البائسة

للكاتب الفرنسي أندريه موروا

لشد ما كانت دهشتي عندما دعاني صديقي روبير بالتليفون إلى زيارته بمنزله، لقد جالت في نفسي خواطر كثيرة أثارت على حربا من الشكوك والريب. لقد كنت أشعر بحنان شديد وعطف خالص لزوجته هنرييت، وكان روبير حسن الذوق لطيف المعشر، يميل إلى المداعبة في شيء من المجون، وهو يعد عاشق من عشاق الخمر الذين يتهافتون على الكأس ولا يتركونها إلا إلى الكأس

ما عهدت في حياتي ولاء مثل ذلك الولاء الذي كانت هنرييت تتعهده به طوال خمسة عشر عاما لم تذق خلالها يوما واحدا من السعادة

لقد لقيته في اليوم نفيه وتصافحنا ثم جلست قبالته، وظل صامتا ثم حرك يده في هدوء، وأخرج علبة سجائره وتناول إحداها ثم أشعلها وأومأ إلي برأسه ثم قال:

- إن لي عندك حاجة فهل لك أن تقضيها. .؟ وعليك في الحالين أن تصدقني الوعد. . . إنني لن أسيئك في مادة، ولن أجهدك في عمل، وإنك تعلم أن هنرييت تحترمك وتأخذ بآرائك من غير تفكير، وحسبك هذا منها دليلا على ثقتها بك. إنك رجل قد خبرت الحياة ولا بستها وعرفت عنها كثيرا. . . وهنرييت عاقلة تفهم عنك ذلك بقدر ما أفهم أنا عنك. لقد عرفت بتجاربي الخاصة أنك رجل سديد الرأي، ولا يفوتن صواب قريحتك أن نصائح الزوج لا تلقي من الزوجة أذنا صاغية، ثم نفث من فمه نفثة غليظة من الدخان، ونظر إلي بعينين يفيض منهم الحنان والألم، وعقب قائلا

- فكر معي يا عزيزي - لقد قيضت لي الظروف عند عودتي من المؤتمر لقيا امرأة، أو لتقل فتاة، ولعت بها لساعتها، هي من أهل الشمال، وقد تبين لي ذلك من لهجتها وصوتها، وقد تعجب يا صديقي إن قلت لك إن هذه اللهجة وذلك الصوت الأبح، هما اللذان أسر لبي وملكا علي قلبي. . لقد بعثت في هذه الفتاة حياة جديدة. . أوه يا صديقي ما أشد قسوة الظروف وما أمرها! لا يكاد الإنسان منا يتناول الكأس إلى شفتيه الظامئتين حتى يعيدها مجبرا قبل أن ينال منها رشفة

ص: 77

هكذا كانت رحلتنا في الطائرة. . لم يتسع الوقت لأن نجرع من الكأس ولو جرعة. . إنك تعرفني يا صديقي. . أنا لا أطيق صبرا على شيء تداعبه نسمة من الشك. . وتعرف أن لذة الانتصار يدفعها جنون الغرام تحملني على أن أركب متن الشطط حتى أنتهي. . .

ولقد دعاني المؤتمر إليه في الشتاء القادم - وستبقى هنرييت - هنرييت المسكينة. . ستبقى هنا يا صدقي، وستبقى بجانبها أنت لتقوم بدورك فقلت:

- بينك وبين زوجتك!. . ومن أين لي ذلك.!

فقاطعني قائلا:

- رويدا يا عزيزي. . هون عليك فالأمر سهل يسير ولن أذهب بك إلى شيء غير ما يصلح من شأن هنرييت، لقد أخذ يتسرب إليها الشك في تلك الرحلة حتى صممت على مصاحبتي. . . وإن ذلك لأمر قريب المحال. . كل ما أريد أن أستمده منك من معونة لا يكلفك إلا أن تفوه ببضع كلمات، وستحدثك هنرييت في هذا الموضوع وتصارحك بكل شيء. . .

فسر لها يا صديقي حاجة الكاتب إلى الظهور في مثل هذا البلد الغريب الذي سأرحل إليه حتى تسوغ سفري. ثم قل لها إن الوقت سيكون قسمة بين ولائم تورث النفس السأم، ومقابلات رسمية تبعث فيها الضجر والملل، ولا يفوتنك ذكر تكاليف الرحلة، فكيف بها إذا صاحبتني وأنا أحرص على راحتها، وأخيرا حل بينها وبين مرافقتي، وخفف من غلوائها فهي لابد لنصحك مستمعة، ولرأيك خاضعة، ولسؤالك مجيبة، ولا تنس - لا تنس أن تقرب إلى ذهنها أني لا أزال باقيا على حبها، وأني سأسهر على سعادتها ما حييت، وفي الغد ستسنح الفرص لأشهر طوال أعيد إليها خلالها ذكرى أيامنا الماضية الجميلة

لقد دام حديثه قرابة ساعة، بينما كان صوت أصابعي وهي تنقر على المائدة التي جلسنا حولها في غير انتظام يتجاوب صداه في أنحاء الغرفة، وأخيرا تركني من غير أن يطمئن إلى وعدي، وبعد الظهيرة بقليل لم أشعر إلا ويدي تحمل آلة المسرة ولقد كانت مصادفة غريبة عندما سمعت صوت هنرييت تناديني

- برتراند!. . . كيف حالك يا عزيزي الصغير؟. . . أظن أن في وقتك بقية اليوم متسعا للقائي، فهل تسمح بزيارتي!. . سأعد لك فنجانا من الشاي، وربما يكون هناك مشورة بيني

ص: 78

وبينك. . . أسرع يا عزيزي

لقد كانت ممسكة بكتاب (باخ) تحركه في يدها في طفولة بريئة، لم تكن هنرييت تقل عن الأربعين، ولم تكن تزيد عليها، ولكنها ظهرت لي في هذه الليلة في ثوب فضفاض، وقد شاعت على قسماتها أشعة من نور الشفق الأحمر الحائل كامرأة في الثلاثين

قالت لي في غير تكلف:

- يا صغيري برتراند! - سأكلفك أمرا تؤديه إلي - واعلم أني سأكون لك مطيعة. . . ولأمرك سميعة. . .

- إنك تعلمين علم اليقين يا هنرييت. . .

فقاطعتني قائلة:

- هيه يا عزيزي برتراند! ليس في الوجود رجل أوليه ثقتي غيرك، ولكن الأمر خطير. . . عزيزي برتراند. . . إني. . . أحب. . . شابا يصغرني بكثير. . . إني أعم أنك ستمقت هذا الشاب وستحقد عليه وسيتملكك السخط علي إذا قلت لك أن بينك وبينه تباينا كبيرا. . . هو شاب سلافي جميل طالب بكلية باريس، وهو فوق ذلك راقص ماهر ومثقف إلى حد كبير، وبرغم ذلك لا أرتاح إليه كثيرا، إذ هو مجنون، دنيء الأصل كما يتبين لي. . ولكني على الحالين أحبه. . وأنا سعيدة به

فقلت:

- أوه. . . وروبير. .!!

- روبير لا يعرف شيئا عن هذا الحادث. . . روبير يرعاني كمن يرعى امرأة مسكينة، أو كمن يشفق على خادمة بائسة عضها الدهر. . . لقد صرت بغيضة إليه وهو بعد في شغل عني بفتاة دانيمركية

- كيف؟ أتعلمين هذا الخبر؟

- هوه!. . . منذ أمد بعيد، وكيف عرفت أنت ذلك؟!

- لقد كان روبير عندي اليوم صباحا

- أحدثك عن هذا الموضوع. . . يا له من نذل جبان!. . . إن صراحتي تجيز لي التماس ضراعتك. . استمع لي يا برتراند. . سيسافر روبير، وسيقضي في رحلته خمسة عشر

ص: 79

يوما من شهر أكتوبر القادم، وسأطوف أنا و (فيدين) الجزر الإغريقية

فقلت:

- هنرييت: لا حاجة إلى أن أعيد على مسمعك ليس هناك أمنية لروبير غير السفر، ولكنه لا يعتقد. . .

فقاطعتني قائلة:

- استمع يابرتراند، إني على يقين من سفره. ولقد أخبرني أنه صمم على ذلك، ولكني عارضته، وبكيت وتوسلت إليه، وأخاف أن يوهن ذلك من عزمه

- لقد عسر علي الفهم. . لم هذه الكوميدية. . .؟

- إن ابتسامة واحدة مني يا برتراند لكافية أن تكشف الستار عن نصف رغائبه على الأقل، وأن تخلق في نفسه الشك في علمي بأمره. . . وكل ما أرجوه منك يا عزيزي الصغير أن تحبذ له فكرة السفر وأن تحمله على الاعتقاد بأن في هذه الرحلة ضمانا لمستقبله وعظمته، وإذا ما غير من رأيه وفضل البقاء على الرحيل فلا بد أن يغير من هذه الطريقة في معاملته لي، وأن يزيل من نفسه هذا النوع من الشفقة الخسيسة علي، وقل له إن هو هجر البيت مرة فانه سيعود فيجده خرابا. . ألق في ذهنه هذه المعاني وقل له إن سبيل التعزية الوحيد في غيبته - هو الرحلة الصغيرة التي أفهمتك عنها

فقلت: مسكين أنت يا روبير!

فقالت في هدوء: حقا. . انه مسكين!

1

ص: 80