الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 760
- بتاريخ: 26 - 01 - 1948
بلاغة الرسول
كلفتني الإذاعة في احتفالها بذكرى مولد الرسول الكريم أن أكتب كلمة في بلاغته تذاع في عشر دقائق، وهذا تكليف بالمحال، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها. فإن عشر دقائق لا تتسع للحديث الموجز عن بلاغة كاتب وسط، فكيف تتسع للحديث عن بلاغة رسول اصطفاه الله لرسالته، واصطنعه لوحيه، وعلمه من علمه؟
إن بلاغة الرسول من صنع الله، وما كان من صنع الله تضيق موازين الإنسان عن وزنه، وتقصر مقاييسه عن قياسه؛ فنحن لا ندرك كنهه وإنما ندرك أثره، ونحن لا نعلم إنشاءه وإنما نعلم خبره. هل يدرك المرء من آثار الشمس غير الضوء والحرارة؟ وهل يعلم من أسرار الروض غير العطر والنضارة؟ وهل يجد في نفسه من أغوار البحر غير الشعور بالجلالة والروعة؟ إن البلاغة النبوية هي المثل الأعلى للبلاغة العربية. وإذا كان كلام الله كتابَ البيان المعجز، فإن كلام الرسول سُنة هذا البيان. وإذا كان البلاغ صفة كل رسول، فإن البلاغة صفة محمد وحده. تجمعت فيه صلى الله عليه وسلم خصائص البلاغة بالفطرة، وتهيأت له أسباب الفصاحة بالضرورة، فقد ولد في بني هاشم، ونشأ في قريش، واسترضع في بني سعد، وتزوج من بني أسد، وهاجر إلى بني عمرو وهم الأوس والخزرج، وهذه القبائل التي تقلب فيها الرسول هي بالإجماع أخلص القبائل لساناً وأفصحها بياناً وأعذبها لهجة. والوسيلة الطبيعية لاكتساب اللغة والمنطق إنما هي المخالطة والمحاكاة. ثم تولى الله عز وجل تأديبه، فكمله برجاحة العقل وسجاحة الخلق وصفاء الحس وقوة الطبع وثقوب الذهن وتمكن اللسان ومحض السليقة، ليكون لساناً لكلمته ومظهراً لنوره. ثم أخذ يتصرف في التجارة على عادة قومه، فضرب في الآفاق وتنقل في الأسواق، فرأى المناظر الجديدة، وسمع المناطق المختلفة، وحصَّل المعارف العامة. والأسفار والأخطار والهجرة بعد توفيق الله تفتق الذهن وترفد العقل وتزيد المعرفة. ثم كان بخلي ذرعه من صوارف الدنيا الليالي الطوال فيعتكف في حار حراء يتعبد ويتأمل ويتجه بروحه الصافي اللطيف إلى الملأ الأعلى. ثم كان من طبعه أن يديم التفكير ويطيل السكوت، فإذا تكلم اختصر من اللفظ، واقتصر على الحاجة، وألقى الكلام بيناً فصْلاً يحفظه من جلس إليه، ولوعده العادَّ لأحصاه، كما قالت السيدة عائشة. كل أولئك قد مكن للرسول من ناصية البلاغة، فأسلس له الألفاظ، وأسمح له المعاني، فلم يندْ في لسانه لفظ، ولم
يضطرب في أسلوبه عبارة، ولم يعرب عن علمه لغة، ولم ينْب عن خاطره فكرة؛ حتى كان كلامه كما قال الجاحظ (هو الكلامَ الذي قل عدد حروفه وكثر عدد معانيه، وجل عن الصنعة وتنزه عن التكلف. استعمل المبسوط في موضع البسط، والمقصور في موضع القصر، وهجر الغريب الوحشي، وتنزه عن الهجين السوقي، فلم ينطق إلا عن ميراث حكمة، ولم يتكلم إلا بكلام قد حف بالعصمة وشُد بالتأييد ويُسر بالتوفيق، ثم لم يسمع الناس بكلام قط أعم نفعاً، ولا أصدق لفظاً ولا أعدل معنى، ولا أجمل مذهباً، ولا أكرم مطلباً، ولا أحسن موقعاً، ولا أسهل مخرجاً، ولا أفصح من معناه، ولا أبين من فحواه، من كلامه صلى الله عليه وسلم لذلك قال وقوله الحق: (أنا أفصح العرب، بيْد أني من قريش ونشأت في بني سعد بن بكر. وقد قال له صاحبه أبو بكر: لقد طفت في بلاد العرب وسمعت فصحاءهم فما سمعت أفصح منك، فمن أدبك؟ قال: أدبني ربي فأحسن تأديبي)، ومن أولى بذلك كله ممن يخاطبه الله تعالى بقوله: وعلمك ما لم تكن تعلم، وكان فضل الله عليك عظيماً؟
إن أخص ما يميز الأسلوب النبوي الأصالة والإيجاز. فالأصالة وهي خصوصية اللفظ وطرافة العبارة تتجلى فيما كان ينهجه الرسول من المذاهب البيانية، ويرتجله من الأوضاع التركيبية، ويضعه من الألفاظ الاصطلاحية، كقوله عليه الصلاة والسلام: مات حتف أنفه، والآن حمى الوطيس، وهدنة على دخَنْ؛ وقوله لحادي النساء: رويدك! رفقاً بالقوارير. وقوله في يوم بدر: هذا يوم له ما بعده. ولتمكن الأصالة فيه كان يقتضب ويتجوز ويشتق ويبتدع، فيصبح ما أمضاه من ذلك حسنة من حسنات البيان، وسراً من أسرار اللسان، يزيد في ميراث اللغة، ويرفع من قدر الأدب.
والإيجاز وهو تأدية المعاني الكثيرة بالألفاظ القليلة غالب على أسلوب الرسول، لأن الإيجاز قوة في التعبير، وامتلاء في اللفظ، وشدة في التماسك؛ وهذه صفات تلازم قوة العقل وقوة الروح وقوة الشعور وقوة الذهن، وهذه القوى كلها على أكمل ما تكون في الرسول، ومن هنا شاعت جوامع الكلم في خطبه وأحاديثه حتى عُدَّت من خصائصه.
على أن الرسول عليه السلام كان يطيل إذا اقتضت الحال ذلك. فقد روى أبو سعيد الخُدري أنه خطب بعد العصر فقال: (ألا إن الدنيا خضرة حلوة! ألا وإن الله مستخلفكم فيها فناظر
كيف تعملون. اتقوا الدنيا، واتقوا النساء. ألا لا يمنعن رجلا مخافةُ الناس أن يقول الحق إذا علمه. . . قال أبو سعيد ولم يزل يخطب حتى لم يبق من الشمس إلا حمرة على أطراف السعف، فقال:(أنه لم يبق من الدنيا فيما مضى إلا كما بقى من يومكم هذا فيما مضى)،
والمأثور من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم خطب وكتب وأحاديث، وكلها تتسم بالإلهام والإبداع والعبقرية، وتمتاز بالجزالة والجلالة والسبك. وهو في بعضها يستعمل الغريب ويلتزم السجع تبعاً لما جرى على ألسنة الوافدين عليه من مختلف القبائل. من ذلك حديثه مع طهفة بن أبي زهير النهدي، ومع لقيط بن عامر بن المنتفق، وذلك من حسن أدبه وسمو بلاغته وقوة تأثيره.
وللرسول قدرة عجيبة على التشبيه والتمثيل وإرسال الحكمة وإجادة الحوار. وتلك ميزة الرسل من قبل، لأن المرسلين في مقام المعلمين، وأنجح ما يكون التعليم إذا كان على طريقة التمثيل والمحاورة، كقوله عليه السلام: (إن المنبتَّ لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى. المؤمن هين لَيَّن كالجمل الأنف إن قيد انقاد، وإن أنيخ على صخرة استناخ. أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم. لو توكلتم على الله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً. إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم. إياكم وخضراء الدمن: المرأة الحسناء في المنبت السوء. المرأة كالضلع إن رُمت قوامها كسرتها. الناس كلهم سواسية كأسنان المشط. جنة الرجل داره. ومن روائع تشبيهاته عليه السلام قوله: إن قوماً ركبوا سفينة فاقتسموا، فصار لكل رجل منهم موضع. فنقر رجل منهم موضعه بفأس؛ فقالوا له ما تصنع؟ قال هو مكاني أصنع فيه ما أشاء. فإن أخذوا على يده نجا ونجوا، وإن تركوه هلك وهلكوا.
والسفينة التي ضربها الرسول مثلا هي اليوم دنيا الإسلام والعروبة، تقسمها الإخوان والبنون في عهود الضعف والانحلال فصار لكل منهم وطن ودولة، ولكن هذه الأوطان المتعددة تجمعها دنيا واحدة، كما تجمع السفينة مواضع الركاب؛ فكل وطن وإن استقل بنفسه مرتبط في قوام حياته بغيره؛ فهو حري ألا يوبق بحريته الوطن الجمع حري ألا يُغرق في عبابه الوطن المفرد. وكأن الرسول صلى الله عليه وسلم بما آتاه الله من ألمعية الذهن وإشراق الروح كان ينظر إلى الغيب من ستر رقيق، فضرب هذا المثل لجامعة
الدول العربية لعلها تتذكر فتتدبر. وهذه هي بلاغة الإلهام والفيض، تكشف الحجب بنور الله، وتخترق الغيوب بنفاذ البصيرة، وترسل الكلمة من فيض الخاطر وعفو البديهة فتكون حكمة الحاضر ونبوءة المستقبل!
صلى الله عليك يا رسول التوحيد والوحدة، ونبي الحرية والديمقراطية، وإمام السياسة والتشريع، وأمير الفصاحة والبلاغة، وداعية السلام والوئام والمحبة!
احمد حسن الزيات
كلمة أخرى
للأستاذ محمود محمد شاكر
قرأت كلمة الأستاذ محمد العربي العلمي في عدد الرسالة (759) يردَ على ما كتبته في قضية الاستقلال الذي تطالب به بلاد المغرب، ومن حق الأستاذ أن يردَ، ومن حقه أن يعلمني ما أجهل، ومن حقه أن يرشدني إلى وجه الصواب فيما زعمت أو رأيت، كلّ هذا من حقه، ولكن ليس من حقه أن يخرج الكلام عن جادّته، أو أن يستنبط منه أشياء ليست فيه كقوله إني عرضت للوطنيين من أهل المغرب (فاتهمت زعماءهم وأهل الرأي فيهم بالسفه والغفلة والتخاذل والتهاون في حقوق البلاد أو ما يشبه ذلك من أنواع التهم)، فهذا شئ مردُّه إلى ما كتبتُ لا إلى ما يقول به الأستاذ العلمي. والسفه والغفلة وما يشبه ذلك من أنواع التهم!! كلمات كبيرة لا يحل للأستاذ أن يدّعى أنى أردتها بغير برهان من نص كلامي الذي كتبته.
ثم كرر الأستاذ العلمي أن الذي جاء في كلمتي إنما هي أشياء ألقيت إلى فحكيتها بلا تحقيق ولا روية، أو ألقيت إلى فاعتقدتها كل الحقّ وأغفلت ما وراءها. وأظن أيضاً أن هذا شئ غير لائق به أن يقوله، فضلا عن أن يكتبه. ولم أكن أظن أن الأستاذ العلمي يجترئ على أن يصفني بأني أُذُن تصرفه عن الحق صداقة صديق أو عداوة عدو، ولكنه فعل، فلا أقل من أن أجزيه بالصفح عنه إكراماً لصديقي الأستاذ محمد بن الحسن الوزّانى، فهو رسوله وسفيره والنائب عنه.
ثم رأيت الأستاذ أكرمه الله يزعم أنى بما كتبت إنما كنت أحاول أن أحدث في الائتلاف الوطني المغربي (ثلمة) وأن ألقى حوله (بذرة من بذور الشقاق)، وهذا شئ كثير، ولكنى أعود فأصفح عن الأستاذ، لا لشيء إلا لأني أترك الحكم في هذا الأمر لمن يقرأ فيفهم، وما أظن أحداّ ممن يطلع على ما كتبت يستطيع أن يقول أني (حاولت) هذا الذي زعمه الأستاذ.
ثم رأيت الأستاذ يقول: (ولعلى لا أكون فضولياّ إن زعمت أن الذين ذكرهم الأستاذ شاكر من زعماء تونس والجزائر ليسوا معه على الرأي الذي نسب إليهم)، وأنا لم أنسب إليهم شيئاً قالوه إلا قولهم (لا مفاوضة إلا بعد الاستقلال)، وليس يهمنى أن يكون الأستاذ العلمي
فضولياً أو غير فضولي، ولكن الذي يهمني ويهمّ قراء الرسالة وسائر العرب والمسلمين هو أن الذي حكيت عن زعماء تونس والجزائر صحيح قد اتفقوا عليه وقيدوه بالكتابة كما جاء في بيان سمو الأمير الجليل محمد بن عبد الكريم الخطابي الذي نشره في صحيفة الأهرام. وقد جاء فيه أن الأمير أعزّه الله خابر جميع (رؤساء الأحزاب المغربية ومندوبيها) فاتفق رأيهم على تكوين (لجنة تحرير المغرب العربي) من كافة الأحزاب الاستقلالية في كل من تونس والجزائر ومراكش على أساس مبادئ الميثاق التالي: ثم جاء في نص هذا الميثاق (د - لا غاية يسمى لها قبل الاستقلال - هـ - لا مفاوضة مع المستعمر في الجزئيات ضمن النظام الحاضر - و - لا مفاوضة إلا بعد إعلان الاستقلال) وقد وقع هذا الميثاق جميع من ذكرتهم في كلمتي ومن لم أذكرهم من رجال الأحزاب المغربية في تونس والجزائر ومراكش، ومن بينهم الأستاذ محمد العربي العلمي، والأستاذ الناصر الكتاني نيابة عن حزب الشورى والاستقلال.
والعجيب الذي لا يقضى منه عجب هو أمر الأستاذ العلمي، فقد كتبت كلمتي للرسالة بعد أن قرأت في الأهرام (الاثنين 5 يناير 1948) تحت عنوان (محاولة جديدة للتوفيق بين فرنسا والمغرب) وقد جاء في هذا النبأ ما نصه. (ويقول الحزب في مذكرته إنه يعتزم تحقيق المطالب الوطنية وهى استقلال البلاد - في نطاق وحدته الجغرافية والسياسية، وفى دائرة ملكية دستورية - من طريق المفاوضات، ولاتجاه بالمغرب في مرحلة انتقال تسمح له بأن ينظم شئونه تنظيماً حراً وبأسرع الطرق إلى تحقيق سيادته التامة واستقلاله المضمونين بمعاهدة تحالف وصداقة تبرم في ظل الحرية والمساواة بين المتحالفين. ويمكن تهيئة الجو السياسي الملائم لتحقيق ما تقدم، بأن يعلن رسمياً باسم فرنسا حق الشعب المغربي في تدبير شئونه في وقت قريب، وبأن تعتبر مصالح المغاربة ذات أسبقية في بلادهم، مع الصيانة التامة لسيادة البلاد واستقلالها الوطني)،
هذا ما جاء في المذكرة التي قدمها حزب الشورى والاستقلال إلى الجنرال جوان المقيم الفرنسي، وهو صريح في النص على تحقيق (استقلال البلاد من طريق المفاوضات)، وهذا الذي دفعني إلى كتابة ما كتبت عن حزب الشورى والاستقلال، وهو الذي دفعني إلى أن أتوسل إلى الصديق محمد بن الحسن الوزاني (أن يفئ إلى ما فيه مرضاة الله، وما فيه
خير بلاده وخير أمته، وأن يدع فرنسا بشرّ الناظرين، لا يقربها إلا مقاتلا مجاهداّ رافعاً باسم بلاده وحريتها وكرامتها واستقلالها)، كما جاء في آخر كلامي. وقد تحدث الأستاذ العلمي إلى مندوب الأهرام بما يطابق هذا المبدأ، بيد أنى رأيته في اليوم الثاني يوقع على ميثاق لجنة التحرير الذي ينص نصاً صريحاً على أنه لا مفاوضة إلا بعد إعلان الاستقلال. فهذا تناقض بين لا ينقضي منه العجب، كما ينقضي عجب القارئ حين يقرأ كلمته في الرد علىَّ فيراه يقول إني أزعم (أن زعماء تونس والجزائر في القاهرة يرون رأى علال الفاسي في القعود وعدم المفاوضة)، ثم قوله إنه يؤكد لي (أن فكرة لا مفاوضة هذه إنما نشأت منذ قريب لا أجد داعياً لاشتغال قراء الرسالة بها)، ومعنى ذلك أنه يرى أن عدم المفاوضة قعود عن الجهاد، وأن كلمة (لا مفاوضة) كلمة مستحدثة لا عهد لحزب الاستقلال ولا لحزب الشورى والاستقلال بها، ثم يختم مقاله بأن يؤكد لي بأنه (لن يدخل في أية مفاوضات إلا بعد إعلان الاستقلال)!! فهذا تناقض مُرٌّ شديد المرارة.
وأنا لا أكتب هذا لأرد على الأستاذ العلمي، فإن هذا التناقض العجيب المر الشديد المرارة، جعلني أرى أن لا فائدة من الرد، ولكنى آثرت أن أعرض على القراء سيئاً كنت أخشى أن يفوتهم الاطلاع عليه، وهم في حاجة إلى الاطلاع على مثله.
وأما ما جاء في كلامه من ذكر فلان وفلان من رجال المغرب، فلست أنبري، ولا يحق لي أن أنبري، للدفاع عنه، لأني كما قال الأستاذ:(غير متفطن إلى أنى أتحدث عن بلاد لم أرها، وليس لي من أسباب العلم بها وبأهلها إلا القليل أو ما دون القليل)،
بقى شئ واحد يشق على مثلى أن يرضى عنه، وهو إقحام الأستاذ لأسد الريف محمد بن عبد الكريم الخطابي في معرض هذا التناقض المر الشديد المرارة. فهذا البطل الذي نشأنا منذ الصغر ونحن نمجد اسمه، ونسمو بأبصارنا إليه، ونحوطه بقلوبنا وإيماننا، ونجعله المثل الأعلى للعربي الأبي الذي لا يقبل ضيماً ولا يقيم على هوان، هو نفسه الذي علمنا بفعله لا بلسانه أنه (لا مفاوضة إلا بعد الجلاء والاستقلال)، فقد هبّ أسد الريف وانطلق يجاهد بالسيف. وأنى أن يسلم للفرنسيس والأسبان شيئاً إلا سيفه بعد أن تقطعت أسباب الجهاد بالسيف. وأعرض عن كل مهادنة بينه وبين الفرنسيس والأسبان. واحتمل بلاء النفي والتعذيب صابراً راضياً مستعيناً بالله على أعدائه. أفلم يكن مما يرضى الفرنسيس
والأسبان أن يهادنهم هذا الأسد ويفاوضهم ولا شك. ولكنه لم يفعل. فمعنى ذلك كما فهمناه وكما فهمه الناس هو أن أسد الريف يرى رأياً واحداً هو أن (لا مفاوضة إلا بعد الجلاء والاستقلال)، ولذلك احتمل، وصبر صبر المؤمنين الذين لا يفتهم عن الحق عذاب ولا نفى ولا تشريد. وإذا لم يكن الأستاذ العلمي قد فهم هذا من بطولة أسد الريف، فليحدثنا إذن ما فهم؟ وفيم كان صبر أسد الريف وبطل العرب على البلاء الغليظ عمراً طويلا تحيا فيه رجال وتموت رجال؟ وفيهم كان جهاده وقتاله واحتماله رؤية أبنائه وهم يسقطون في ميدان الوغى بين يديه؟ أفعل كل ذلك ليفاوض، فيأخذ شيئاً ويغضي عن أشياء؟ حاشا لله.
أما الأستاذ محمد بن الحسن الوزاني، فأنا لم أرده بإساءة كما أراد الأستاذ العلمي أن يقول، بل كان كل كلامي منصباً على المبدأ الذي جاء في المذكرة المرفوعة إلى القيم الفرنسي الجنرال جوان، وهو مبدأ المفاوضة في الاستقلال، وهو مبدأ فاسد لن يسكت قلمي عن هدمه وتقويضه، ولو قال به أعز الناس علي وأكرمهم في قلبى، وهو عندي مذهب أقلية، ولو قالت به أمة بأسرها. وسأبقى ما حييت أدعو الأمم التي ابتليت بالاستعمار إلى مبدأ واحد هو أن (لا مفاوضة إلا بعد الجلاء والاستقلال)، فهو عندي مذهب أكثرية، ولو لم يقل به إلا فرد واحد طريد شريد لا يجد في الأرض مكاناً يؤويه، أو عشيرة تنصره، أو أذناً تسمعه. وكل حزب يدعو إلى المفاوضة، فهو عندي حزب بغير شعب ولو تبعته الجماهير المضللة، وكل زعيم يدعو إليها فهو زعيم بغير شعب، وأن استطاع أن يجمع الألوف تصرخ من ورائه مؤيدة وناصرة. وقد كتبت هذا مرات في قضية مصر والسودان، وفي قضية العراق، وفي قضية الهند. فكل ما جاء في كلامي عن حزب الشورى والاستقلال، فهو مبني على هذا الأصل، وأظن أن الأستاذ الوزاني يعرف هذا مما قرأه من كلامي منذ قديم، وأظن أنه فهم من كلامي عنه غير الذي فهم الأستاذ العلمي، وأظن أنه لم بغضب حين قرأ ما كتبت مثل الغضب الذي احتمل الأستاذ العلمي حتى كتب ما كتب، ما كان ينبغي أن ينزه عنه قلمه البليغ الجريء.
وأنا أختم هذه الكلمة بأن أدعو صديقي محمد بن الحسن الوزاني إلى صراط الحق، إلى أن (لا مفاوضة إلا بعد الجلاء والاستقلال)، وأتوسل إليه مرة أخرى أن ينسي نفسه، وأن يملأ قلبه إيماناً بالحق الأعظم، وهو حق شعبه وبلاده في الاستقلال والحرية والكرامة، ذلك
الحق الذي لا يتجزأ ولا يقبل مفاوضة ولا مهادنة، وأدعوه إلى الجهاد الشديد في سبيل هذا الحق الذي لا تستطيع فرنسا ولا إسبانيا ولا بريطانيا ولا الدنيا كلها مجتمعة أن تمحو منه شيئاً أو تغير منه قليلاً أو كثيراً.
أيها الزعماء كونوا يداً واحدة، ولتكن دعوتكم واحدة، واصبروا في جهادكم، ولا تفاوضوا عدوكم في حق شعوبكم، ولا تخاذلوا ولا تدبروا ولا تقاطعوا فتذهب ريحكم، واعلموا أن المفاوضة ليست سوى ملل من طول الجهاد ومشقته، وأن الملل من كاذب الأخلاق، وأن الزعيم لا يكون زعيماً إلا بأخلاقه، وقوام أخلاقه الصدق في كل شيء - في العداوة والصداقة، وفي الحب والبغض، وفي الرضى والغضب. سدد الله خطاكم، ومهد لكم سبيل الهدى، وطهر قلوبكم من كل كذب لا خير فيه.
محمود محمد شاكر
-
في مستشفى الكلب
للأستاذ نقولا الحداد
قصدت بعد أن عضني الكلب إلى مستشفى الكلب المجاور للقصر العيني. وكان أول ما أنعش نفسي أن رأيت على باب المكتب الداخلي لوحة كُتب عليها ما مفاده: - أنشأ هذا المستشفى الدكتور محمد باشا شاهين لعهد وزارة دولة صدقي باشا، وقد افتتحه رسمياً المغفور له الملك فؤاد الأول في أبريل سنة 1932. فقلت في نفسي: كم كانت لشاهين باشا غفر الله له من مآثر جسام في مصلحة الصحة قبل أن صارت وزارة! وكان أول وزير لها، ثم توفاه الله إلى جواره بعد بضعة أسابيع مأسوفاً عليه. (أقول هذا لأني كنت على صلة صداقة خالصة به كل حياته. وكنت أذيع مآثره في الجرائد والمجلات كما يعلم كثيرون من أصدقائه وأصدقائي.
قدمت نفسي إلى مدير المستشفى؛ وكم كانت دهشتي عظيمة حين علمت أن هذا المدير هو الدكتور إبراهيم بك شاهين نجل المغفور له مؤسس هذا المستشفى. وعجبت أن ملامحه الرضية وسماحة محياه ووداعته استظهرت في مخيلتي صورة أبيه محمد باشا - سبحان من خلق وسوَّى.
وكان الدكتور إبراهيم يتوقع قدومي لأني رأيت أن نبأ عقر الكلب لي قد سبقني إلى المستشفى وسُجل في سجل (الحجاج) إليه. ورأيت فيه اسمي وعنواني وحادث الكلب نفسه الذي عقرني. فعجبت من هذه العناية والتدقيق في تناول المعلومات عن حوادث الكلب من المستشفى الكلاب في العباسية تلفونياً كل يوم. فقلت له: (هب أني لم آت إليكم للعلاج) قال (نطلبك أولاً وثانياً فإن لم تأت كان ذنبك على جنبك)،
قلت: وهب إني لم آت لظني أن الكلب سليم ثم ظهرت علىَّ الأعراض، أفلا يخشى أن أعدي أحداً؟ قال: نعم يحتمل أن يتلوث شخص آخر بلعابك فيصاب. فقلت: وهل يجدي العلاج حينئذ؟ قال كلا. لا يجدي علاج بعد ظهور الأعراض. وما جنت ألا على نفسها براقش. ولكن ما من أحد اشتبه بعقر الكلب إياه إلا أسرع إلى المستشفى إذا لم يكن غبياً. وستنزعج قليلاً من الحقن بالمصل كل يوم مدة 15 يوماً. قلت أليس العذاب في سبيل الحياة خيراً من العذاب في سبيل الهلاك، العذاب الذي لا يطاق والذي لا يريحني منه إلا
الموت.
وجعلت أتردد كل يوم في الميعاد المعين 15 يوماً إلى أن أمنت الداء وحصلت على مناعة سنة كاملة. وعلمت أن ذلك الكلب التعس نفق في اليوم الثاني في المستشفى.
قلت يوماً لمدير المكتب، إن هذا المستشفى نعمة عظيمة للناس لا تقدَّر بمقدار. قال: ليت الناس كلهم يعرفون هذا. نأتي بكثير منهم بالوعد أو بالوعيد لكي نعالجهم مجاناً لوجه الله فلا يلبثون أن يهربوا. والذين يُجاء بهم من الأرياف ينزلون في المستشفى فيعالجون من جراحهم ويحقنون بالمصل ويأكلون ويشربون وينامون مجاناً ومع ذلك لا يرضون!
قال لي أحد أطباء المستشفى وهو الدكتور عزمي توفيق إن في المستشفى نحو 170 سريراً في طابقين من البناء، وإذا زاد عدد المصابين على عدد الأسرَّة دبرناهم بالتي هي أحسن. فنضع الطفل منهم مع شخص آخر في سرير كبير مثلاً، وقد يكون عندنا في وقت واحد نحو 220 مصاباً أو أكثر. ومن كان له أقارب في القاهرة ينزل عندهم ويتردد على المستشفى فيبقى محله لغيره.
قد يدهش القارئ إذا علم أن هذا المستشفى يعالج أكثر من عشرة آلاف مصاب في السنة يعطيهم فيها نحو 150 ألف حقنة من اللقاح الذي يحضر في المستشفى عدا معالجة الجراح. لا تكون الإصابات من عضة كلب فقط، بل تكون من الحيوانات الأخرى كالحمار أو الجمل أو الحصان أو الدجاج. لأن هذه تسعر كالكلاب ويعدى بعضها بعضاً وتعدى الإنسان، فإذا عقر الحيوان الكبير إنساناً فقد يكسر ساقه أو يسحق ذراعه أو كتفه. وهذه الجروح تستغرق وقتاً طويلاً وعلاجاً متواصلاً فضلاً عن الحقن بالمصل.
والمصل يحضر في معمل المستشفى فيُستعمل طازجاً في اليوم الثالث من تحضيره النهائي. ويحضر اللقاح من مخ الأرنب أو دماغه. ويمكن أن يحضر من مخ أي حيوان مصاب. ولكن الأرنب أرخص الحيوانات ثمناً وأسهلها مراساً. ويستعمل لهذا الغرض كل يوم نحو 50 أرنباً تقريباً يقدمها متعهدون للمستشفى.
وأما كيفية تحضير المصل فدراسة فكهة، وهي أن تجرح جلدة قمة رأس الأرنب جرحاً بقدر سنتيمترين وتقلب إلى الجانبين ليظهر من الجمجمة قدر القرش الصغير. ثم تثقب الجمجمة ثقباً صغيراً، ثم يحقن النخاع بنقطة من سائل فيه ميكروب الكلب، ثم يضمد
الجرح ويعاد الأرنب إلى مأواه. وفي اليوم الرابع أو الخامس تظهر عليه أعراض الداء. يبدأ بشلل في قوادمه، ثم تتزايد الأعراض بضعة أيام إلى أن يدنو الموت فيذبح الأرنب ويؤخذ نخاع رأسه لتحضير المصل منه.
وبينما كانت هذه العملية تعمل أمامي قلت: مسكين هذا الأرنب! ما ذنبه حتى تثقب جمجمته لكي تزرع في دماغه جرثومة الكلب ثم يقاسي آلام الداء وأخيراً يُقتل.
فقال الدكتور عزمي توفيق الذي كان يريني سلسلة عمليات المصل: حقاً إنه لظلم. ولكن إذا علمت أن الأرنب يفدى ثلاثة أو أربعة من المصابين بهذا الداء العقام لا يعود يصعب عليك أن يؤلم أرنب لكي يوقي أربعة أشخاص من آلام لا تطاق. ويظن أن الأرنب أقل إحساساً من الإنسان بالآلام.
يوضع خمسون جراماً من نخاع الأرنب في هاون وتدهس دهساً شديداً حتى تصبح كالعجين الرخو. ثم تمرث بواسطة شاشة سميكة في محلول من الملح النقي 7 بالألف، وعشرة بالألف من المغنبول. تمرث رثاً دقيقاً حتى تخرج من الشاشة مستحلباً دقيقاً جداً ليس فيه كتل البتة، ثم يصب في زجاجة خاصة بسعة لتر وتكمل الزجاجة من المحلول الملحي نفسه. بعد ذلك تودع الزجاجات في ثلاجة مدة 24 ساعة. وفي أثناء ذلك تفحص (عيَّنة) منها فحصاً بكتيريولوجياً لئلا يكون قد تطرق إليها مكروب آخر أجنبي. ومتى ثبت أن ليس فيها مكروب ولا جراثيم حية يصبح المصل صالحاً للاستعمال.
قال الدكتور عزمي: ولكن في جميع عملياتنا لم نجد المصل ولا مرة ملوثاً بأي مكروب. على عملية الفحص البكتيريولوجي لابد منها للاطمئنان على سلامة من نعالجهم.
في هذا المصل مادة مولدة من نمو المكروب في مخ الأرنب تسمى أنتجن هذه المادة تولد في جسم الشخص المحقون أخرى تسمى (ضد الجسيمات) ولها وظيفتان: الأولى أنها تتلف المادة السامة التي تولدت من مكروب الكلب بأنها تتحد معها فتتكتلان أو ترسبان، وفي كلتا الحالتين تبطل قوتهما السامة والثانية أنها تحرض كريات الدم البيض على التمام المكروب، أو بالأحرى أنها تهيئ المكروب أو تطبخه ليكون غذاء لهذه الكريات التي تعتبر جنود الجسم المدافعة عنه في مدة العلاج التي تتراوح بين عشرة وعشرين يوماً حسبما يتراءى للطبيب من ظروف الإصابة، يهلك الميكروب وينعدم سمه وينجو المصاب من العذاب
والموت، وقاك الله.
مكروب الكلب لا يرى تحت الميكروسكوب ولا تمنعه مصفاة
ويقدر حجمه بنحو15000 من الملليمتر فتأمل: ذرة لا ترى
بمجهر (ميكروسكوب) ولا تفرز بمصفاة تفعل هذا الفعل
الفظيع بهذل الإنسان الجبار! بالله ما أضعف هذا الإنسان تجاه
أحقر المخلوقات. فحتى متى هذه النفخة يا إنسان! إن جرثومة
صغيرة جداً كجرثومة الكلب أو الكولرا أو الملاريا تبيد من
البشر إذا لم تتق أكثر مما تبيد القنبلة الذرية.
ليس في القطر المصري غير هذا المستشفى للكلب. وإنما توجد وحدة صغيرة في الإسكندرية بإدارة الهلال الأحمر. وقد تقرر أن تتخذها وزارة الصحة وتجعلها مستشفى تاماً تحت إدارة مستشفى القاهرة. وسينشأ أيضاً مستشفى آخر في أسيوط أو في الأقصر، وآخر في بور سعيد أو السويس ويكونان بإدارة مستشفى القاهرة - فألف شكر للحكومة الجليلة!
وكنت أود أن أعيذ القارئ من تصديع خاطره بوصف أعراض هذا الداء الخبيث لولا أن البحث يبقى ناقصاً. فأوجز الوصف ما أمكن لكي يعرف الجمهور خطر هذا الداء العقام ويتخذ الحذر الشديد من التعرض له وتعريض الآخرين. وعند أقل شبهة في كلب أو حيوان يجب أن يعرض الحيوان على الطبيب البيطري، والطبيب وضعه تحت المراقبة حتى إذا اشتدت الشبهة أعدمه.
ومن نكد الدنيا أن هذا المكروب اللئيم لا يتبوأ عرشه إلا في دماغ فريسته، فيجعل جميع الجهاز العصبي تحت سلطانه. وهذا هو سر ما ينجم عنه من الآلام؛ لأن الجهاز العصبي مصدر اللذة والألم. وتكون العدوى بعقر المخلوق المعدي إنساناً أو حيوانا أو تلويث أي غشاء مخاطي فيه كالفم أو أي جرح أو خمش أو سجح بلعاب الحيوان المسعر (المسعور)، وفي بحر أسبوع إلى أسبوعين تظهر الأعراض وأحياناً ندرة تتأخر شهراً أو أشهراً.
في الإنسان تبتدئ الأعراض بهبوط عقلي وخوف شديد وهلع وترديد الكلام اللغو. ثم الهياج العصبي والاضطراب الجسدي. ثم تفقد الشهية للطعام ويستمر الأرق والصداع والشعور بما لا يطاق من الاضطراب الفظيع.
ثم يتعذر الازدراد بسبب شلل الحلقوم والبلعوم إلى أن يستحيل البلع، فيكره المصاب السوائل ويخاف منها وينزعج من رؤية الماء ومن سماع خريره من صنبور. ويصبح حساساً جداً لكل باعث خارجي أو حركة أو صوت أو منظر.
ثم يتشنج ويتلوى ويمتد الشلل إلى أطرافه وأحياناً يشخر ونخر فيحسبه المشاهدون نابحاً أو عاوياً. وأحياناً يعض أي شيء، ولكن لا يلبث أن يرتخي فكه الأسفل ويتدلى، ويمتلئ فمه لعاباً كثيفاً لزجاً لا يستطيع أن ينفثه أو يبتلعه، وبالطبع يشتد عطشه، ولكنه لا يستطيع الشرب ولا المضغ؛ وتطرأ عليه حمى عالية. ومتى بلغت هذه الأعراض أشدها تضعضع العقل وذهب الوجدان وأشرف المصاب على الموت الساعة بعد الساعة.
ولو كان فقد الوجدان يبتدئ مع الأعراض لكان المصاب قليل الشعور بالألم ثم عديمه. ولكن وا أسفاه يبقى واعياً شاعراً متعبا إلى أن يقترب ملاك الموت. وقد تدوم هذه الأعراض يومين أو ثلاثة أو أكثر قبل أن يرحمه الله ويريحه من هذا الجحيم بسل روحه من جسده - اللهم رفقاً بعبادك - ترى لو أعطى المصاب جرعات من المورفين في العضل أما تخفف عنه هذه الآلام؟
أما وقد عرف القراء عذاب هذا الداء وعجز أي دواء عن تخفيف آلامه أو عن شفائه، أفلا يجدر بهم أن يأخذوا حذرهم من كلابهم المحبوبة ومن اختلاطه بكلاب أخرى؛ أو ما يجب عليهم أن يقضوا عليها في الحال بلا شفقة ولا أسف إذا ظهرت بعض الأعراض للطبيب البيطري سواء كانت الأعراض مشككة أو مؤكدة لئلا يقع البلاء في الأهل؟ أو ما عليهم إذا لامسهم لعاب الكلب المصاب أن يسرعوا إلى هذا المستشفى الكريم لاتقاء المرض؟
نقولا الحداد
في مراكش:
ذكرى الجهاد الوطني
للأستاذ عبد الكريم غلاب
تستقبل مراكش ذكرى جهادها الوطني وهي أشد ما تكون حماسة وأقوى ما تكون إيماناً بعدالة قضيتها، وأحقيتها في أن تنال حريتها واستقلالها، كاملا ناجزاً، غير مشروط بقيود، ولا مغلل بأغلال.
وتستعرض الأمة المراكشية في هذه الذكرى السنوات الأربع التي مرت منذ أن قدمت (وثيقة الاستقلال) في 11يناير من سنة 1944 فتجدها حافلة بالكفاح المجيد من اجل حرية الوطن واستقلاله.
وتتلفت حول نفسها لترى ما قطعته من أشواط في سبيل هذا الكفاح فتجد نفسها وقد تقدمت قضيتها إلى الأمام، حتى أصبحت من القضايا العربية الهامة في المحيط العربي، والمحيط الدولي. كما أصبح مركزها في داخل البلاد أقوى من أن تقف فرنسا أمامه مكتوفة اليدين، تنظر إلى نفوذها يتحطم، ثم يتقلص ثم يصبح مهدداً بالزوال بين غمضه عين وانتباهها.
أليس في ذلك كله ما يجعل مراكش تستقبل هذه الذكرى وقد تضاعف إيمانها بأن الحق سيتغلب وإن أعوزته القوة المادية؛ وسينتصر وإن تغلبت عليه قوة الشر وطغيان الرجعية الاستعمارية، وتجمد عقلية المسيطرين على هذه البلاد.
لقد كانت الأمة المراكشية تكافح في صمت، وتناضل في شجاعة، وسيف المعتدين مصلت فوق رؤوس الأحرار، وسياط الرجعيين تلهب ظهورهم، وأبواب السجون مفتحة في وجوههم، والمنافي السحيقة معدة لاستقبالهم، والعالم كله في غفلة عما يجري في هذه البلاد النائية من ظلم واضطهاد وقال تشريد، وأبواق المعتدين تبشر العالم بما قدموه للإنسانية وللحضارة البشرية وللديانة الإسلامية من خير وبركة، في هذا البلد الذي أسعده الحظ فوقع تحت سيطرتهم، وشملوه برعايتهم وحمايتهم.
ولكن مراكش الحية المكافحة تحدت كل هذه القوى - والحرب مشتعلة الأوار - وأعلنت عن مطالبتها بالاستقلال التام، واتحدت كلمة أبنائها حول هذه الغاية. فكانت الدهشة التي غمرت الفرنسيين، وكان الانتقام الذي دفعتهم إليه جراحهم الدامية التي سببتها الهزيمة المنكرة. وكانت مدافعهم وعتادهم الحربي وجيوشهم - البيض منهم والسود - في خدمة
الطغيان المنتقم، وكانت المجازر البشرية الكبرى التي شهدتها فاس وسلا والرباط وغيرها من المدن والقرى المراكشية.
ولكن ذلك كله لم يكن غير وقود ألهب عزيمة المراكشيين وقوى إيمانهم. وكانت محنة امتحن بها صبر هذه الأمة المجاهدة المكافحة فاجتازت الامتحان وخرجت منه وهي اصلب عوداً وأقوى شكيمة وأشد مراساً.
ولم تكن المحنة التي ابتليت بها الأمة المراكشية محنة الشعب وحده، ولكن جلالة ملكها الشاب كان أول من خفق قلبه لما يبيته الفرنسيون لشعبه؛ فأعلن تأييده لوثيقة الاستقلال، ووقف مع أمته يكافح لتحقيق الحرية والاستقلال، ويتزعم الحركة بنفسه، فيدفع عنها الأذى، ويلتف الشعب من حوله فيعلن رئيسه الأعلى إرادة أمته في شجاعة وعزم وإيمان، على رغم ما تعرض له جلالته من تهديد، وما حف حول العرش العلوي من أخطار. ولكنه الإيمان - الذي امتلأ به قلبه الكبير - بحق بلاده في الحياة الحرة الكريمة دفع به إلى الميدان، حيث واصل جلالته الكفاح إلى أن زار مدينة (طنجة) لا ليؤكد وحدة مراكش فحسب، ولا ليتصل بشعبه في شمال البلاد فقط؛ ولكن ليعلن للعالم كله أيضاً أن مراكش تريد أن تستقل، وأنها بلاد عربية مسلمة ستربط مصيرها بالبلاد العربية في الشرق، وستعمل جاهدة على أن تنال حريتها وتحافظ على استقلالها. وبذلك تزعم المليك المحبوب الفكرة الاستقلالية. ويكفي أن يتزعم المليك الحركة لنضمن لها وسائل النجاح ولتسير على هدى وبصيرة إلى الغاية المقصودة.
وهكذا كانت الأمة المراكشية بزعامة ملكها تطلب شيئاً واحداً، وتسعى لغاية واحدة، هي الاستقلال التام الناجز.
واليوم ومراكش تحيى ذكرى جهادها، وتستعيد مراحل هذا الجهاد أثناء السنين الماضية، لتبتهج بما آلت إليه القضية المراكشية بعد هذا الكفاح الصادق الذي يقوم به أبناؤها المخلصون داخل البلاد وخارجها، تحت راية الوطني الأول جلالة الملك محمد الخامس. فقد كان من فضل هذا الجهاد أن آمن الشعب المراكشي بأن حياته لن تستقيم ما دام الأجنبي يسيطر على موارد هذه الحياة، ويخنق فيها الحيوية المتدفقة، ويميت فيها الشعور الحي. وكان من ذلك أن جند الشعب نفسه لمكافحة هذا الطغيان الأجنبي الذي يتشبث بأذيال
مراكش تشبث الحريص ولمناهضة وسائله التي يتخذها حتى فشلت كلها؛ برغم تغيير المشرفين عليها، وبرغم الخطط التي اتبعها هؤلاء المشرفون وما أحاطوا به مشروعاتهم من ضمانات النجاح. ولأول مرة في مراكش شعر الفرنسيون بأنهم في حاجة إلى أساليب جديدة لمواجهة الشعور الوطني ولمقاومة الفكرة الاستقلالية التي تمكنت من قلوب الشعب، فأصبحت خطراً على كيانهم ووجودهم في مراكش. ومن ثم بدأ المقيم العام يفكر في تغيير معاهدة الحماية لا لتتخلص منها البلاد، ولكن ليستطيع أن يحكم وهو في حل من أية معاهدة تقيده، ومن أية سلطة تعطيها هذه المعاهدة للملك، وذلك هو الذي أوحى إليه بفكرة (فترة الانتقال) الذي وضع مشروعه الجديد على أساسها. وهكذا يحلم المقيم أن يحكم مراكش وقد تخلص من القيود التي تتمثل في سلطة الملك العليا. ولكن الشعور القومي في البلاد قد تنبه إلى هذه الألاعيب وأعلن (حزب الاستقلال) على لسان الشعب أن (لا مفاوضة إلا بعد إعلان الاستقلال) وبذلك سقط المشروع الجديد الذي أراد المقيم الفرنسي أن يحكم البلاد على أساسه. وكانت الضربة القاضية التي ذهبت بالمشروع وأصحابه مذكرة جلالة الملك إلى رئيس الجمهورية الفرنسية التي أذيع خبرها أخيراً، وارتجت لها الدوائر الفرنسية؛ فقد شعر جلالة الملك بأن المقيم يريد أن يلعب لعبة يقضي بها على ما بقي لمراكش من كيان، فأرسل جلالته مذكرته هذه يحتج على تصرفات المقيم ويؤكد مطالبته باستقلال بلاده. وهكذا تنهار السياسة الفرنسية في مراكش أمام عزم المليك، ويقظة الشعب؛ وحرص الأمة على استقلالها التام الناجز.
وكان من فضل هذا الجهاد الوطني أيضاً أن أصبحت قضية مراكش قضية البلاد العربية كلها، وأصبح لها دوي في الشرق العربي وفي أوربا وأمريكا. فقد كان الاستعمار من قبل يقوم باعتداءاته الصارخة دون أن يسمع لهذه البلاد صوت، ودون أن يتردد صدى أنينها في خارج البلاد، وذلك بفضل النطاق الحديدي الذي ضربته فرنسا على بلاد المغرب العربي حتى تمكنت من كبت كل صوت يرتفع، والقضاء على كل حركة تحررية. ولكن الحركة الاستقلالية في المغرب العربي أخذت عدتها هذه المرة فأصبح لها مكاتب عدة في الشرق العربي وفي أوربا وأمريكا. وقامت هذه المكاتب بفضح أعمال الاستعمار الفرنسي، فأصبح صوتها مدوياً في البلاد العربية، وربطت قضية مراكش بالقضايا التي تكافح
الجامعة من أجلها، وأصبح صوتها أيضاً في أوربا وأمريكا مسموعاً. وبذلك استحال على الإدارة الفرنسية أن تقضي على الحركة الاستقلالية، أو أن تخلق في البلاد اتجاهاً يرمي إلى الإصلاح بدل الاستقلال، دون أن تثير عليها الأمة العربية جمعاء ودون أن يتردد صدى ذلك في العالم كله.
وكان هذا سبباً في انهيار المشروعات الاستعمارية التي طالما بيتتها الإدارة الفرنسية لبلاد المغرب العربي.
وهكذا أخذت الحركة الاستقلالية في مراكش تضرب نطاقاً من حديد على الاستعمار الفرنسي فتحطم صروحه واحداً بعد الآخر، وتعد البلاد المراكشية لتحمل أعباء الاستقلال والتحرر من طغيان الرجعية الاستعمارية.
وتحل ذكرى الجهاد الوطني اليوم والمراكشيون منهمكون في كفاحهم، يقودهم وببارك حركتهم مليكهم الذي تزعم الحركة الاستقلالية فدفع بها إلى الأمام ورسم خطتها، فأصبحت تهدف إلى غاية واحدة.
عبد الكريم غلاب
فاس عاصمة الأدارسة
للأستاذ مصطفى بعيو الطرابلسي
بقيام الخلافة العباسية تبدأ صفحة جديدة في تاريخ العلويين تختلف تمام الاختلاف عما ألفناه في عهد بني أمية؛ فهم في هذه المرة يلجون إلى وسيلة جديدة لمناهضة أعدائهم وتحقيق أغراضهم.
هذه الطريقة الجديدة هي الانتشار في الأقطار الإسلامية بعيداً عن العاصمة وعيون الخلافة ومحاولة إنشاء خلافة علوية.
وربما كان العلويون في ذلك قد اهتدوا بهدي العباسيين عندما بعثوا بدعاتهم إلى البلاد الشرقية ولا سيما خراسان حيث نمت دعوتهم وترعرعت. وإذا كانت الخلافة العباسية قد وجدت من الظروف والملابسات ما ساعدها على القيام في المشرق فإن العلويين قد وجدوا في بلاد المغرب ظروفاً أخرى مشابهة ساعدتهم على تحقيق أغراضهم؛ فهي بعيدة عن مركز الخلافة بعداً كافياً يساعدهم على العمل والحركة بالإضافة إلى ما كان يسود تلك الجهات من تذمر بين اهلها الذين رأوا الغبن ينزل بهم رغم ما أبدوه من مساعدة فعالة للعرب في فتوحاتهم في أسبانيا، ولكنهم لم يقاسموهم الأغنام بل ولم يخفف الولاة ما كانوا يفرضونه عليهم من ضرائب. وبجانب هذا كله كانت النزعة الاستقلالية عند البربر في شمال أفريقية مازالت متحفزة تتحين الفرص لإظهار نفسها. وقد عانى العرب الكثير من جراء ذلك في سبيل إخضاع هذا الإقليم. لذلك كان أهله على استعداد للترحيب بأي داع للخروج على الخلافة العباسية في بغداد، وهذا ما نستطيع أن نعلل به انتشار مذهب الخوارج هناك وبالتالي المذهب الشيعي.
أما متى وكيف وصل الأدارسة إلى المغرب الأقصى وكيف استطاعوا إنشاء دولتهم هناك فهذا ما يمكن تلخيصه في السطور التالية.
على أثر فشل الحركة التي قام بها الحسين بن علي بن الحسن المثلث في عهد الخليفة الهادي تفرق أتباعه ومن بينهم عمه إدريس ابن عبد الله الكامل الذي فر إلى مصر صحبة مولاه وأمينة راشد ابن مرشد الزبيدي ومنها إلى شمال أفريقية بمساعدة الواضح صاحب بريد مصر الذي كان يبطن العقيدة الشيعية. وهناك أخذ يتنقل بين مدن المغرب الأقصى
حتى انتهى به المطاف في مدينة وليلى حيث أكرمه أميرها إسحاق بن محمد زعيم قبيلة أوربة البربرية وأكثرها عدداً.
ولما علم إسحاق بحقيقة أمره وتأكد من صحة نسبه تنازل له عن إمارته وطلب من قبيلته وبقية القبائل الأخرى مبايعته فأجيب إلى طلبه.
وهنا يحق لنا أن نتساءل هل فعل إسحاق ذلك لاعتقاده أحقية إدريس في الإمارة دونه فأقدم على هذه التضحية في سبيل مبدئه، أم فعل ذلك لأغراض سياسية؟ ربما كان السبب الثاني أقوى للأخذ به؛ ذلك أن مظهر التضحية في سبيل العقيدة يتنافى مع ما كان عليه هذا الأمير من اعتناق لمذهب الخوارج في أول الأمر ثم تحوله إلى المذهب الشيعي. والواقع أن هذا الأمير أراد بسلوكه هذا أن يكسب لقومه أكثر مما خسر؛ فهو يأمل أن تقام هناك دولة في شمال أفريقية يكون له فيها ولأتباعه من البربر نفوذ كبير بعد أم يئسوا من إنصاف العرب لهم. فكأنهم كانوا يرمون إلى إنشاء دولة يكونون فيها العماد الرئيسي كما كان للفرس النفوذ الأكبر في العصر الأول للدولة العباسية. ويمكننا أيضاً تعليل هذا النجاح الذي صادفه إدريس في أول أمره بأنه كان قد اصطحب معه مولاه راشد بن مرشد الزبيدي وهو على ما قيل بربري الأصل أُسر أبوه في إحدى غزوات موسى بن نصير، فلما رجع مع إدريس إلى موطنه الأصلي كان خير مساعد له على بسط نفوذه هناك. هذا إلى ما كان عليه إدريس من ذكاء خارق وحسن سياسة؛ يتجلى لنا ذلك عندما أراد أن يشغل أتباعه حتى يضمن ولاءهم له، فخرج غازياً ناشراً الدين الإسلامي في البقاع المجاورة التي لم ينتشر فيها بعد.
هكذا وضع إدريس النواة الأولى لدولة الأدارسة في مدينة وليلى، واستطاع أن يكتسب صداقة الحكم بن هشام أمير الأندلس الذي أرسل إليه وفداً يهنئه بالأمارة الجديدة ويطلب إليه التحالف على من يناوئهما؛ فقابل الوفد بالحفاوة والإجلال. ولا شك أن الأغراض السياسية هي التي وحدت وقاربت بين نظريهما.
خاف الرشيد استفحال خطر إدريس بالمغرب الأقصى فسعى للتخلص منه؛ ولكن كيف السبيل إلى ذلك وهو على بعد لا يساعده على إرسال الجيوش للقضاء عليه؟ استشار في ذلك يحيى بن خالد البرمكي فأشار عليه بإرسال من يستطيع قتله فلقيت هذه الفكرة قبولاً
في نفس الرشيد فعول على تنفيذها. وإذا كانت الروايات قد اختلفت في طريقة دس السم لإدريس، وهل أرسل إليه الرشيد مباشرة شخصاً لتنفيذ ذلك أو كلف إبراهيم بن الأغلب لإرسال من يقوم بهذه المهمة فإنها قد أجمعت كلها على وفاة إدريس مسموماً.
وعلى أي حال لم ينقرض حكم الأدارسة بموت إدريس الأول على رغم أنه لم يترك من يخلفه، وربما كان ذلك راجعاً لإخلاص البربر وحسن تدبير راشد السابق الذكر الذي استطاع أن يقنعهم بضرورة الانتظار حتى تضع كنزة جارية إدريس البربرية طفلها فإن كان ذكراً بايعوه، وإن كان أنثى أجمعوا رأيهم على من ينتخبوه. وتحقق الأمر ووضعت كنزة طفلاً هو إدريس الثاني الذي قضى عصر الوصاية كله في فتن لما كان يظهره إبراهيم بن الأغلب من تحرش بأتباعه. ولما كبر ذاع اسمه وأتته الوفود من سائر البلاد. وكان ممن وفد عليه خمسمائة فارس من أفريقية والأندلس من القيسية ولأزد والخزرج ومدلج وبني يحصب. فأكرم الإمام وفادتهم وأجزل صلاتهم وقربهم ورفعهم وجعلهم بطانته دون البربر. وربما كان هذا راجعاً إلى أنه كان يرى نفسه وحيداً بين البربر. ولكن الأمر ما لبث أن تطور إلى تفضيلهم علانية على البربر الذين انقلب عليهم فاستوزر رجلاً من العرب هو عمير بن مصعب الأزدي بدل إسحاق بن محمد الذي أنزل به غضبه فقتله رغم ما أداه لوالده من جلائل الأعمال بحجة موالاته لإبراهيم ابن الأغلب. وربما كان إدريس في عمله هذا غير محق؛ فهو قد اعتمد على البربر وتأييدهم ولولاهم ما وصل أبوه ولا هو من بعده إلى هذا المركز. ثم هو أيضاً يمت بصلة القربى إلى القبائل البربرية من جهة أمه، فتمرده عليه مظهر إن دل على شيء فهو يدل على حب التحرر من القيود والشعور بالخوف من البربر؛ وليس هذا بغريب في تاريخ قيام البيوت الإسلامية؛ فالخلافة العباسية في أول قيامها اعتمدت على العنصر الفارسي حتى إذا ما وثقت من نجاحها انقلبت عليه. وكذلك الحال في الخلافة الفاطمية؛ فالعوامل السياسية والأهواء الشخصية تتحكم كثيراً في مجرى الحوادث التاريخية.
ولما رأى إدريس الثاني أن الأمر قد استقام له، وأن مدينة وليلى لم تعد صالحة لأن تكون عاصمة لدولته عزم على الانتقال منها إلى مدينة يقوم بتخطيطها فيسكنها هو وخاصته وجنوده ووجوه أهل بيته. وربما كان إدريس في بنائه لهذه المدينة الجديدة وأعنى بها مدينة
فاس مدفوعاً بعامل آخر هو ما اعتدنا ملاحظته عند قيام أي خلافة أو دولة إسلامية جديدة حتى يكون التجديد عاماً شاملاً. واختيار العواصم الجديدة ليس من الأمور السهلة؛ فهو يحتاج إلى دراسة وخبرة بالأمكنة المختارة حتى تؤدي العاصمة الغرض من إنشائها.
وقع بصره على جبل زالغ فأعجبه ارتفاعه وطيب تربته واعتدال هوائه فأمر ببناء العاصمة في سفحه. وبدأ العمل بسورها، ولكن ما لبث أن انحدر سيل من أعلى الجبل فهدم ما كان قد بناه من السور وحمل معه ما كان حوله من خيام العرب، فاضطر أن يرحل عن هذا المكان فانتقل إلى وادي سبوا فأعجبه المكان ولكنه خاف كثرة مياهه حتى لا تتكرر الحوادث. وأخيراً ترك أمر اختيار مكان عاصمته الجديدة لوزيره عمير بن مصعب الذي وفق كل التوفيق.
ذلك أن عميرا قد استمر يختبر البقاع حتى انتهى به المطاف إلى العيون التي ينبع منها نهر فاس، فلفت نظره كثرة عددها وقد سالت مياهها فسار مع مسيل الوادي حتى وصل إلى موضع مدينة فاس فأعجبه المكان إذ هو في وسط منبسط يفصل تلال الساحل عن جبال الأطلس الكبرى، وعلى الطريق الرئيسي الذي يعبر هضاب الأطلس، وحيث تلتقي أهم طرق مراكش البرية، وحيث يبدأ المخرج النهري لهذه الناحية وأعني به نهر سبوا الذي يصب في المحيط الأطلس والذي يعتبر أكبر أنهار مراكش. نظر عمير إلى ما بين الجبلين فإذا غيضة ملتفة الأشجار بها خيام من شعر لقبائل من زناته يعرفون بزواغة وبني يزغة فرجع إلى مولاه وأخبره بنتيجة بحثه فتفاءل إدريس باسم مالك هذه الجهة عندما عرف أنها ملك لقوم من زواغة يعرفون ببني الخير فاشتراها منهم.
(البقية في العدد القادم)
مصطفى بعيو الطرابلسي
ليسانسيه في الآداب من جامعة فاروق الأول
معاني الفلسفة
للدكتور أحمد فؤاد الأهواني
تفضل صديقي الأديب الشاعر الأستاذ محمد عبد الغني حسن فكتب عن كتاب (معاني الفلسفة) كلمة، فلا يسعني إلا أن أشكره على ذلك، فقراءة الكتاب دليل على العناية، ونقده أدل في الرعاية.
وصديقنا يمتاز بخصلة حميدة هي التواضع، فما كاد يقرأ الرأي الذي دعوت إليه من أن إنسان ما دام يفكر فهو صاحب فلسفة، حتى نظر إلى نفسه فأدرك آخر الأمر أنه (ككل إنسان عادي ليس فيلسوفاً مشتغلاً بالفلسفة. وأدرك أن نظرة كل إنسان إلى الحياة لا تسمى فلسفة، ولا يسمى صاحبها فيلسوفاً)،
ولا شك عندي أن التواضع هو الذي صرف الأستاذ عبد الغني عن الانتساب إلى الفلسفة، والدخول في زمرة الفلاسفة، لأنه يقنع بصحبة الأدب والانتساب إلى الشعراء؛ كأنه يريد أن يقول إن الشعر والفلسفة يتعارضان فلا يلتقيان ولا يجتمعان، ولهذا ضرب المثل بشاعرين وقال (وإلا لكان زهير بن أبي سلمى الشاعر الحكيم فيلسوفاً بسبب هذه الحفنة من النظرات التي وضعها في معلقته، أو كان أبو العلاء المعري فيلسوفاً بما له من وجهة نظر خاصة في الحياة)،
الشعر لا يتنافى مع الفلسفة، فقد عبر الفلاسفة الأقدمون عن آرائهم نظماً، وفي اليونان كثير من الفلاسفة سجلوا فلسفتهم في قصائد، مثل اكسانوفان الذي دعا إلى الوحدانية، وبارمنيدس صاحب الفلسفة المثالية. وإذا كان الأمر كذلك فلم يجد كثير من النقاد بأساً أن يسمعوا أبا العلاء المعري فيلسوفاً، حتى لقد اشتهر بفيلسوف المعرة، وجرت هذه العبارة على الألسن وشاعت بين الأدباء.
وعندي أن النزعة الجديدة التي نجدها عند فلاسفة اليوم من الاتجاه نحو تعريف الفلسفة بمعناها الواسع، فتشمل جميع الناس والخلاف بينهم في الدرجة، ومن الانصراف عن المعنى التقليدي الذي ساد في العصور القديمة والوسطى، هذه النزعة ترجع إلى قرنين من الزمان. ذلك أن ديكارت، أبا الفلسفة الحديثة، دعا في القرن السابع عشر إلى أفكار جديدة، كانت أساساً للحياة الاجتماعية والسياسية والعلمية والعقلية التي نحياها الآن. فهو يستهل
أعظم كتبه أثراً، مقال عن المنهج، بقوله:(العقل السليم أكثر الأشياء توزعاً بين الناس بالتساوي)، وإنما يقع الخلاف بينهم في المنهج الذي يسلكونه في التفكير. ولقد أدت هذه الدعوة إلى المساواة القائمة على أساس من المساواة في العقل، إلى الثورة الفرنسية التي نشبت تطلب الحرية، والإخاء، والمساواة. ونجحت الثورة، وأصبحت المساواة في الحقوق السياسية وأمام القانون حقيقة ثابتة اعتنقتها جميع الدول، وقامت عليها الدساتير.
أليس غريباً بعد ذلك أن نبيح الحقوق السياسية لجميع الناس، ثم نقصر حق التفكير على بعض الناس دون بعضهم الآخر، لأن التفكير هو النظر ومعرفة حقائق الأشياء، فيترتب على ذلك سلوك كل إنسان في الحياة بمقتضى تلك المعرفة، ولا يهمنا أن يكون ما يعرفه زيد صحيحاً أو فاسداً، وإنما يهمنا أنه يعتقد بما يعرف، وأنه يزعم أنه يعرف.
وهل يوجد من هو معصوم من الخطأ، أو يبلغ مرتبة الكمال في التفكير؟
ولقد كان هذا التعريف مقبولا عندما كانت الفلسفة تشمل كل فرع من فروع المعرفة، أو بمعنى أصح عندما كانت العلوم فروعاً من شجرة الفلسفة. فلما بدأت العلوم تستقل وتنفصل واحداً عن الآخر، لم يبق للفلسفة موضوع في زعم بعض المفكرين، وأن موضوعها عند البعض الآخر هو البحث في العقل، ذلك الذي يبحث في العلوم نفسها وفي المسائل الإنسانية التي تتعلق بالسلوك وقيمته من خير وشر.
فإذا كان الأمر كذلك فقد ارتدت الفلسفة إلى ما كانت تبحث فيه أيام سقراط، إذ انصرف عن البحث في الطبيعة إلى البحث في الإنسان.
ولذا قيل إن سقراط هو الذي أنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض. فإذا عرفنا ذلك لم نعجب إذا رأينا سقراط يعلم حكمته في الأزقة والملاعب والأروقة وفي كل مكان، ويلقيها على كل إنسان. ذلك أنه كان يعد المعرفة صادرة عن باطن النفس، ولهذا يكفي أن ينعطف المرء على نفسه ويتأمل فيها ليصل إلى الحقيقة؛ وهذا هو السبب الذي من أجله اتخذ الشعار المكتوب على معبد دلفي (اعرف شعار نفسك) شعاراً له.
فالفلسفة السقراطية لم تقصر هذا الفن على فئة دون فئة، بل ذهبت إلى أنها حق مشاع لكل إنسان، يهتدي إليها بالتفكير والنظر.
ولقد كانت الفلسفة في عهد سقراط حية، تدور على الألسنة وتصيغ حياة الناس في أعمالهم.
وهذا هو الذي نريده ونرمي إليه: أن تكون الفلسفة حية تخرج من (الأبراج العاجية) حيث تنحصر في اصطلاحات يعلم الله إذا كان أصحابها يفهمونها أو لايفهمونها، لتنزل إلى ميدان الحياة، فإن كانت جديرة بالوقوف على أقدامها بحيث تقبلها (العقول السليمة) التي حكي عنها ديكارت، كانت جديرة بالحياة. والرأي الذي أدعو إليه الآن من إشاعة الفلسفة في كل إنسان، هو أجدر الآراء ملاءمة للعصر الذي نعيش فيه، عصر الديمقراطية والحرية.
ومهما يكن من شيء فالمسألة خلاف بين القديم والجديد: رأى القدماء أن الفلسفة جماع الأفكار المنظمة عن الكون والإنسان، ورأي كثير من المحدثين أنها الأفكار عن الكون والإنسان، أما تنظيمها باصطلاحات خاصة وبشكل خاص فليس هذا ضروريا.
ذكر الأستاذ آدم نوكس، أستاذ الأدب بجامعة اكسفورد في مقدمة كتابه عن أفلاكون وكيف ينبغي أن نقرأ محاوراته، يقول ما فحواه: إن الذين كانوا يقرءون أفلاطون كانوا يهدفون طول الوقت إلى استنباط قصده وفكره، ويحملون النصوص فوق ما تطيق. وليست هذه الطريقة هي أجدر الطرق في معالجة كبار المؤلفين. ولن تكون هذه الطريقة هي الطريقة المثلى لفهم شكسبير مثلاً، ولو أنه كان فيلسوفاً كبيراً على طريقته. ولكنه لم يكن الفيلسوف صاحب المذهب أو الفيلسوف قبل كل شيء)
)
فالأستاذ آدم ذوكس يعد شكسبير فيلسوفاً، وفيلسوفاً على طريقته الخاصة، وهي أن لكل إنسان نظرة في الحياة. ولا بعده فيسلوفاً على المعنى الضيق المصطلح عليه.
وهو كذلك يعد أفلاطون فيلسوفاً حسب النزعة القديمة، ويريد أن يجعل منه أديباً فناناً قبل أن يكون فيلسوفاً، لأن محاوراته تعد من روائع الأدب والفن الرفيع.
وإني أعتقد أن الأستاذ عبد الغني لو عاد إلى نفسه وتأمل فيها على الطيقة السقراطية لتبين له أنه على هذا المعنى، فيلسوف. . . ولكن إلى حد ما.
أحمد فؤاد الأهواني
الوكر المهجور.
.!
للأستاذ عبد العزيز الكرداني
هذا العش الوداع الجميل لمن يا أخت تهجرين؟! هذا الوكر الدافئ من يؤرث مسراته ومن يخمد جذوات أحزانه. .؟!
من يستقبل رواده ومن يشيع ضيفانه ومن يقف ببابه يهش لمقدم راعيه؟!
من يرفع بأنامله الدقيقة ستائر منافذه الشفيفة، ويطل من خلالها بعينين زائغتين لهيفتين، تترقبان أوبة حاميه_والقلب واجف، والدمع مهراق. .؟!
من يهون عليه رحلاته الجاهدة في خضم الحياة؟ من يبارك فتوته وينضد عقود أمانيه؟. .
من يكفكف عبرته، من يضم رأسه المثقل العاني إلى صدره الرحيب الحاني؟ من يزيل عن جبهته أو ضار الكلالة والسآمة والكمد. . .
من؟ من غيرك يا أخت؟!
هذا العش الودع الجميل، لمن يا أخت تهجرين؟! من غيرك يدب في أرجائه دبيب الروح في الهيكل المبعوث؟ من غيرك يحيل (الكلمات) بين جدرانه الصماء كائنات حية، تضفي على جمادات الحياة، وبفيض على أحيائه الحيوية، وتنسكب في النفس بلسما للجراحات، وتكون للمشاعر المضطربة والأهواء الحائرة مثابة، وتكون للقلوب عن كل خطب داهم موجع سلوى وتعزية؟
من؟! من غيرك يا أخت؟!
هذا الوكر الدافئ الجميل - يا أخت - هو (الطيف) الذي يغازل تهاويل الصبا المراهق. . هو (الفجر) الذي يعانق آمال الشباب الوضئ اليافع، هو (الفكرة) الملحة المخامرة لذهن الرجولة الواعية العاقلة، هو (العزاء) للكهولة الجاهدة الصابرة، هو (الرحمة) الهابطة على حطام الشيخوخة العاجزة الفانية، هو (الحلم) الذهبي السرمدي لكل عذراء استهدت فطرتها الكاملة!
هذا الوكر الدافئ الجميل - يا أخت - هو موضع السويداء من قلب الإنسانية، هو جوهرها وحقيقتها الخفية، هو الملاذ لها في كل أحوالها، هو الغطاء الساتر لضعفها، هو النشيد المستحث لخطاها، هو المحط الذي ترتد إليه بعد كل سعي دؤوب، وإثر كل إخفاق أو
فلاح. . .!
فمَن غيرُك - يا أخت - يخلع على هذا الوكر معناه؟ من غيرك يعطيه مغزاه ويهبه قداسته؟!
من؟ من غيرك يا أخت؟
هذا الأصوات الناعبة بالحرية المزعومة، هي الشبح الذي يطارد هناءتك، هي المعول الذي دك أنوثتك، وأوهن بناء عزتك هي (الديدبان) الراصد لمميزاته وخصائصه، يحصيها واحدة واحدة، ليفنيها واحدة إثر واحدة. . .!
هذه الأصوات الناعبة بالحرية الموهومة - يا أخت - هي ذلك (الساحر الخبيث)، الذي أر تخص معدنك النفيس. . .!
عبد العزيز الكرداني
مسابقة لطلاب السنة التوجيهية (1، 2)
فيدون
للأستاذ كمال دسوقي
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
- وهنا - وبعد هذه الأدلة على خلود الروح التي قدمها سقراط - ما يزال بسيمياس وسيبيز بقية من شك تبدو في تهامسها - حتى إذا استوضحهما سقراط جلية رأيهما في تدليله على خلود الروح تقدم سيمياس، فشكك في إمكان البحث عن حقيقة الروح ما دمنا في هذه الحياة، ورأى مع هذا أن البحث عن كنه الروح ومصيرها أمر لابد منه - ثم قدم للتشكيك في أدلة سقراط نظريتهم الفيثاغورسية القائلة بأن الروح هي انسجام عناصر البدن واتساقه - والتي لو أخذنا بها لجاز أن تفتى الروح قبل فناء الجسد - على نحو ما يفنى النغم المنسجم الإلهي لمجرد تمزق أوتار القيثارة أو تحطمها مع بقاء مادتها.
وهنا يشاء سقراط أن يعارض فيثاغورية بفيثاغوري، فيحث سيبيز على مناهضة زميله، ويقول هذا إنه يؤمن بأزلية الروح في عالمها الأول - ولكنه لا يعتقد بخلود الروح في عالمها الآخر. وهو إذ ينكر عليها الخلود لا ينكر قوتها وسموها وبقاءها على ضعف البدن وخضوعه وفنائه، وليس ينهض لديه دليلاً على هذا الامتياز ما يقول به العامة من ضرورة بقاء النساج بعد موته زمناً أطول لأن آخر معطف قام بنسجه لم يزل باقيا. بل كل ما يدل عليه هذا التشبيه أن كل روح تفنى عدة أجساد كما أفنى النساج عدة أثواب - ومن يدري - فلعلها لكثرة ما تعاني من إرهاق التولد والوفاة وتكررهما تفنى ذات مرة إلى الأبد. دون أن نحس بها يكون لنا بمصيرها علم - إذ لا قدرة لنا على تتبعها في كل جسد جديد تحل فيه. وعلى هذا - فما لم نستوثق من خلود الروح إلى الأبد - لم نزل نرهب الموت.
ويأخذ هذا القول من نفس السامعين، ومن نفس الذين يقص عليهم فيدون بعد - كل مأخذ - فيرتابون ويشكون في كل ما قيل، ويعاودهم الجزع والإشفاق على مصير الروح، ولكن سقراط يستجمع فطنته ولباقته ليستأنف الجدل أقوى مما كان. وليطمئن المجتمع على أن أرواحهم بعد الموت لن تذروها الرياح، فيداعب خصلات شعر فيدون، ثم يحذر من المغالاة في كره المنطق، وعدم الثقة بالناس نتيجة الجهل بالعلم، وقلة الخبرة في اختيارهم - وكون أكثرهم شريرين وأقلهم أخياراً - والمآل كذلك في البراهين والأدلة، التي يظهر لنا كبار
المجادلين أكثرها باطلاً وأقلها حقاً فيكرهون إلينا الأدلة فلا نثق بها أو نوقن بمعرفتها - ويحاول سقراط أن يبين لمحدثيه حقيقة موقفه من الجدل، وبعُده عن أن يخدعهما أو يخدع نفسه، ثم يطلب إليهما أن يقوِّماهُ إذا أخطأ، وأن يعملا معه لنصرة الحقيقة.
ويعود سقراط إلى تلخيص شكوك صاحبته في قضية أو قضيتين، ثم ينتزع منها إقرارا أكيداً على ما في قوله بالتذكر وأزلية الروح من طرافة وصدق لا يشكان فيه، ثم يناقض هذا التسليم منها برأيها في الروح كاتساق للبدن، قائلا إنه إذا كانت الروح تشبه انسجام النغم، وكان البدن هو أوتار القيثارة ومادتها فلا يعقل أن يكون للروح توافق قبل وجود البدن الذي هو القيثارة في مذهبهما. بل لابد - لو صحت نظريتهما - ألا يتم توافق الأصوات والنغم إلا بعد الأوتار وتنافرها - كما أنه يفني قبلها جميعاً. وينتهي بهما سقراط إلى ضرورة إسقاط أحد الرأيين، فيطرح سيمياس مبدأه لأنه ظني، ويسلم بنظرية التذكر لأنها عنده يقينية - ويستطرد به سقراط فيبين له أن الانسجام نتيجة تناسق الأجزاء، ولهذا كان يتدرج بين التناسق التام والتناسق الأقل - تبعاً لتفاوت تناسق الأجزاء في ذاتها كعناصر - مكونة لهذا المركب، وأن الروح إذن تصبح تنافراً فيما لو اتصفت بالرذيلة، لأن الروح هي دائماً التي تقود الجسد، وتفرض عليه رغباتها - فلا هي إذن في انسجام معه - ولا هي نتيجة له كالأنغام للقيثارة.
ويردد سيبيس مخاوفه الأولى من فناء الروح لحلولها في عدة أجساد، فيرى سقراط أن هذا يمت بصلة إلى موضوع الكون والفساد. ويقترح أن يدلي إليهم فيه بتجربته. ومؤداها أنه فتن منذ حداثته بالعلم الطبيعي ظناً منه أنه العلم الذي يبحث علل الأشياء - من أين توجد - إلى أين تصير، وفيم كان وجودها وفسادها، وما العنصر الذي تفكر به. . الخ ولكنه لم يجد لدى هذا العلم ما يقوله في هذه الأمور، وطبيعي ألا يجدها - فما يريده هو ليس من مباحث علم الطبيعة - ولكنه إلى الميتافيزيقا أدنى - والنتيجة أن تحثه عن علل هذه الأمور في علم الطبيعة قد شككه في أبسط معارفه - ثم إنه وجد بغيته في عبارة قيل له إنها توجد في كتاب لأنكساغوراس (وهي أن العقل هو العلة المدبرة لكل شيء) فراح يسعى وراءه ويعلق عليه آمالا كباراً - حتى إذا جاءه لم يجده سيئاً. . . لقد كان سقراط يبحث حينئذ عمن يقول له، إن الكون في أحسن صورة له - وأن ليس في الإمكان أبدع
مما كان - ولكنه - يا للأسى!. وجد أنكساغوراس بعد أن ألقى بعبارته الجميلة - هذه جزافاً - يبعد في تفسيرها عما كان يريده سقراط أن يفعل - فأين إذن قوله بالعقل - وفيم إذن رجوعه إلى ما قال الأولون من خلط؟ لقد كان ينبغي عليه أن يعلل بقاء سقراط قابعاً هكذا في سجنه - بأن العقل هو الذي يشير عليه بهذا ما دام الأثينيون قد أرادوا ذلك ولو ظلماً - لا أن يأتي بتعليلات أخرى ولو كانت هي العلل الحقيقة في على الطبيعة، هو يريد من علم الطبيعة أن يبحث عن العلل الخفية والأسباب البعيدة - لا القريبة. . التي يسميها هو حالة - وبالجملة يريده أن يعلل كل شيء يرده إلى قوة عليا مدبرة تتصف بالعقل والخير والكمال، وهو ما لم يجد سقراط من يستطيع أن يعلمه إياه.
وعاد سقراط من دراسة هذه المذاهب خاوي الوفاض، وكل همه أن يبقى على عين بصيرته، ونقاء روحه - أو (عيانه) - الذي يستطيع به أن ينفذ إلى باطن الأشياء يتأملها ويتعرف حقيقتها، ويفض يده من الأشياء ليبحث عن صورها الكاملة في عالم المثل - وقولة:(هذا سبيلي التي سلكتها: فرضت بادئ الأمر مبدأ. . . . ثم أخذت أثبت صحة كل ما اتفق معه. . . الخ ص264 من الترجمة العربية) حجة يجب أن يقف عندها طويلا طلاب المسابقة - لأنها تثبت لسقراط السبق في القول بنظرية المثل كما عرضت لأول مرة في محاورة برمنيدس، باعتراف أفلاطون - وهو كاتب الحوار - ولكن مناقشة زينون وبرمنيدس إلايليين لهذه النظرية الجديدة التي يعرضها سقراط وهو في العشرين من عمره (سنة 450 ق. م - كما تدل عليه ظروف المحاورة) - قد حملت هذه المناقشة سقراط على التراجع والحذر، والعمل على أن يجمع لنظريته الأدلة التي تقويها - حتى لا يهاجمها أحد آخر غير هذين، دون أن يتحدث عنها إلا في ظروف خاصة، وفي هذه الحجة وحدها ما يكفي للرد على المؤرخين الذين لا يريدون أن يعترفوا لسقراط بنصيب في نظرية المثل.
إن الأشياء الجميلة توحي إلينا بالجمال المطلق، والخِّيرة بالخير المطلق، والعادلة بالعدل المطلق؛ فهذا مثل كلية مطلقة تذكرنا بها الأشياء الجزئية النسبية التي تدركها حواسنا، وهذه الأشياء جميلة وخِّيرة وعادلة بقدر مشاركتها في مثال الجمال والخير والعدالة، وكذلك مثل الكبر والصغر والتساوي، وبهذا نكون قد أثبتنا نظرية المثل ومشاركة الأشياء المحسوسة فيها مشاركة نسبية تتفاوت بين الكبر والصغر أو تجمع بينهما بالنسبة إلى شيء وآخر. أما
المساواة التامة فلا يمكن أن تصلها الأشياء لأنها لا توجد إلا في مثال التساوي المطلق الذي تنزع إليه هي أبداً.
والكبر والصغر إن أمكن اجتماعهما في شخص بعينه بالنسبة إلى شخص وآخر، فإن مثالي الكبر والصغر لا يمكن إلا أن يكونا متضادين، لأن المثل كلية مطلقة بينما الأشياء المشاركة فيها جزئية نسبية. وبهذا يصح أن يتولد الصغير من الكبير، أو الحي من الميت، دون أن يعني ذلك تولد الكبر من الصغر والحياة من الموت - هي أن الأشياء التي تشارك في مثلها إلى حد كبير فتعارض مع أضدادا تعارض مثلها ذاتها - لأن جزيئاتها تصبح هي الأخرى مشاركة في المثال - كالنار والثلج - كل ذرة أو جوهر فيها مشارك في مثال الحرارة والبرودة. وكالزوجي والفردي من الأعداد - كل وحدة مما يدخل في تركيبها من العدد إما واحد واحد، أو زوج زوج - فالثلاثة ثلاث وحدات، والأربع وحدتين زوجيتين،. . الخ وهذه الأضداد تتعارض وتطارد، حتى يتراجع أحدها ويثبت الآخر. وتراجعه لا يدل على فنائه بل هو مجرد تراجع أمام خصم - أو التسليم له -.
وقس على هذا الموت والحياة، فهما متنافران متطاردان أبداً لا يتضمن أحدهما الآخر، وإن أمكن نشوء الحيِّ من الميت كما كان قرر سقراط - وإذا تأملنا الحياة وجدنا أن لها مبدأ ملازماً وشرطاً ضرورياً لا توجد إلا به هو الروح - وهو لمشاركته الكاملة في مثال الحياة لا يقبل الموت بدوره. فالروح كمثاله الذي يشارك فيه - مثال الحياة - غير قابل للفناء، اي أنه أبدي خالد - ولكنه يتوارى ويختفي - ولا يزول. إذا غلبه خصمهُ: الموت. فالروح الشاركة في مثال الحياة يتصارع عليها مبدأ الخلود والفناء ، وحين يتغلب هذا الأخير تتراجع الروح وتختفي ولا تزول - لأنها بطبيعتها خالدة باقية يستحيل عليها أن تقبل ضدها: الفناء - أما البدن فهو الذي يفنى لأنه مشارك من قبل في مثل الموت والفناء.
الروح إذن خالدة أبدية. وهي أحق بالرعاية من البدن الفاني لأن كل خطر يتهدد مصيرها يهددها إلى الأبد - وإذا جاز لنا أن نفرح بخلاص أرواحنا من أجساد=هـ فيجب أن نكون قد هيأنا لها أسباب السعادة بمزاولة الحكمة والفضيلة. فهما زادها إلى الآخرة.
والطريق إلى الآخرة عسير ملتو، لا تهتدي له إلا الروح الفاضلة الحكيمة، حيث تخلد في نهاية في النعيم السرمدي. أما الأرواح الفاسدة الشريرة فتضل طريقها وتمضي متعثرة حتى
تستقر في الشقاء الأبدي.
والحياة الآخرة يتقدم سقراط في وصف منازلها ومواضع الأرواح الخيرة والشريرة منها والمراحل التي تمر بها كل من هذه وتلك في نعيمها وسعادتها، أو في عذابها وهو أنها وبألمها، وهو يطلق لخياله العنان في هذا الوصف على ما وقف عليه من كتب الأساطير اليونانية وأقوال الشعراء. ولا يريد أن يقطع بصدق هذا الوصف كما ينبغي أن يفعل الحكيم.
ثم إن سقراط يكرر لأصحابه النصح أن يعنوا بأمرهم ومصير أنفسهم، وألا يدَّعوا ما لا يعلمون فيضروا أنفسهم، وُينبه رفاقه إلى أنهم إنما يوارون منه الثرى الجثة وحدها. أما الروح فهي صائرة إلى النعيم، وفي هذا عزاء الأقريطون. ثم يعد خادم السم أن يبادله جميلا بجميل، ومعروفاً بمعروف، فلا يؤذيه ولا يسوءا كما يفعل غيره عند موتهم. وحين يعود يستوضحه سقراط طريقة تعاطي السم، ثم يصلي، ويتجرع الكأس.
ويتباكى الرفاق فيهدئ سقراط روعهم ويخفف لوعتهم - ويرميهم بالجبن والأنوثة، ويوصى بدين كان له على إسكلابيوس ثم يسلم الروح. . .
كمال دسوقي
المدرس بالمنصورة الثانوية
شاعرة ترثي أباها
حنانك قلبي كفاك انهيارْ
…
فما من شِراك المنايا فرارْ
أما كُنت تعلمُ أن المنايا
…
كُؤُوسٌ على كل حي تُدار
أديرتْ على الخلق من آدم
…
كُؤوسُ المنايا فلم تنج دار
أبي كان بيتك كهفاً رحيباً
…
وأنساً بكل صديق وجار
فما ردَّ باُبك ذا حاجةٍ
…
وكنْت المجير إذا الدهر جار
كريم الخلال جوادٌ بما
…
لدْيك وقد شحَّ أهلُ اليسار
أَبي كُنت لي في حياتك نوراً
…
هداني كما يُهتدي بالمنار
فهلاًّ عن الموْت حدَّثتني
…
وعمَّا نُلاقي بتلك الدَّيار؟
كأني سمعتُ الملائك إذْ
…
تلقوك بدرا عليهم أنار
وقالوا اتخذْ منْ جنان الخلوُ
…
د مقرَّاً رحيباً فنعم القرار
أَيا حُرقة الشوق لو كان قلبي
…
حديداً لأردي به الانصهار
أبي كنت للعين والقلب نوراً
…
فما لك أبدلت نوراً بنار
سَرتْ في ضلوعي وحاقت بقلبي
…
فأسعفْته بالدُّموع الغزار
فلا النَّار ولت ولا العين كفت
…
ومالي بهذا الفراق اصطبار
فعجَّلْ إلهي بصبر جميلٍ
…
فمالي سواك به يُستجارْ
ناهد طه عبد البر
من وراء المنظار
من أدلة المروءة
الناس يغذون في السير إذ يغدون إلى أعمالهم ولا تزال الشمس حمراء الخيوط فاترة الأشعة، وما من أحد إلا وفي مشيته النشاط والجد، وما من شارع إلا وقد دبت فيه الحياة أو تمثلت فيه أنماط من صور السعي إلى الرزق، وكل امرئ في شغل بسعيه عن غيره.
ومررت بباب أحد الفنادق الكبرى، فإذا بغانية كأن وجهها زهرة نَّضرتها أنسام الفجر وأنداؤه، وكأن عينيها نجمتان تخلفتا عن المغيب، وكان يضع خدم الفندق متاعها في سيارة من سيارات الأجرة، بينما كانت تحمل على ذراعها معطفها وفراءها وعدداً ليس بالقليل من ثيابها. . . وسقط ثوب على الأرض فأسرع ثلاثة أو أربعة من شبابنا يتنافسون في السبق إليه، وظفر أحدهم بالتقاطه فأزال عنه الغبار بمنديله وقدمه إلى الغانية مزهواً مسحوراً بابتسامتها؛ وهذه مروءة منه لاريب، ونحن قوم أولو مروءة، فلا تحسبن أن مرد ما فعل ذلك الشاب إلى ما جذبه من جمال. ولو أنها كانت عجوزاً فهل تشك في أنه كان يسعى إليها؟ إنك إذن لمن الجاحدين. . .
ومضيت أغبط الفتى على مروءته، أو قل أحسده على ما ظفر به جزاء على فعلته، وأذكر ليلة الأمس إذ نزل من النادي أحد الكبراء من أصحاب الديوان، فدفعت المروءة بعض الأساتذة الأماثل إلى الحفاوة به: فهذا يفتح له باب السيرة، وذلك يحنى له رأسه، بل لقد رأيت فيهم من عظمت مروءته فحمل له معطفه على ذراعه من أعلى النادي فناوله إياه في سيارته. ولكن أحداً من هؤلاء لم يظفر بشيء كتلك الابتسامة الحلوة التي ظفر بها من الغانية هذا الشاب الذي لا يزال منى على خطوات.
وبينما تنهال على ذهني صور تلك المروءات التي هي إحدى صفاتنا العامة، آمنت بذلك أو لم تؤمن، إذ التفت على صوت (موتسيكل) انقلب براكبه الشاب الأنيق وتفجرت منه النيران وقد اشتبك سروال الراكب المسكين بأحد أجزائه فما يستطيع النهوض، وعلقت النار بثيابه، وكلماهم وقع من الرعب ومن نشوب ثوبه بالحديد وهو يفرك النار عن ثوبه بيديه في لهفة ولا يدرى ماذا هو فاعل، وإنه ليدور بعينيه مستنجداً في صورة من الرعب لا توصف، وذلك الشاب ذو المروءة الذي يحترق من بنى وطنه. ولا تسلني بالتقصير
أهون عندي من أن تعيب على الفخر.
واشتعلت النار في ثياب ذلك المسكين، وأيقن الناس أنه هالك لا محالة، وكلهم ينظرون وكأنهم لا يرون شيئاً، حتى أقبل كهل مقبع ليس من بنى جلدتنا وليس له مثل مروءتنا فخلع معطفه وكان والله جديداً ثميناً وألقاه على الشاب المحترق وضرب عليه بكفيه فأطفأ النار، ثم خلص الشاب وأعانه حتى بلغ به الطوار وأجلسه ثم نادى زميلا له ممن يتقبعون وإن كان حاسر الرأس ليستدعى الإسعاف، ولبث يقلب البصر في بدن الشاب ويهدئ روعه ويسأله عما أصابه من حروق ويهون عليه الأمر حتى جاءت عربة الإسعاف فحملته وهو يسأل ذلك الذي أنقذه عن اسمه وعنوانه ويلح عليه فلا يزيد على أن يبتسم له قائلا:(الحمد لله! مرسى يا حبيبي)،
وتناول الرجل معطفه ومضى مطرقاً هادئاً لا ينظر إلى ما أصاب المعطف من احتراق في أكثر من موضع، وكأنه لم يفل شيئاً، ونحن ينظر بعضنا في وجوه بعض نظرات حمدت الله أن كان فيها شئ من الخزي لم يغرق كل الغرق فيما كانت تقطر من بلادة.
ولم أمض غير بعيد حتى أبصرت عربة انزلق أحد جواديها في منعطف فخر وجذب الجواد الثاني حتى كاد يخنقه، ووثب الحوذي ينهض الجواد وحده فما يستطيع؛ فيستغيث الناس قائلا (يا هوه! يا مسلمين!) حتى جاءه بعد لأي رجلان فأعاناه مكرهين.
وقلت في نفسي إن الدابة في القرية تقع في الترعة، وإن النار تعلق بالدور فيقبل الشباب والكهول من كل صوب للنجدة لا ينتظرون دعاء ولا يحفلون أذى. أيكون مرد ذلك إلى أن أهل القرية يعرف بعضهم بعضاً؟ أم أن مرده إلى أنهم أهل نجدة لم تفسد المدنية فطرتهم؟ لست أدرى. ولكن ذلك المقبع ليس من أهل القرية، ولا هو من أهل هذه المدينة!
الخفيف
أناهيد
للأستاذ شفيق معلوف
(وجعل العرب الزهرة امرأة بغياً مسخت نجما وكان اسمها أناهيد)(الجاحظ)
- 1 -
وبعدما عرا
…
خرافةَ الذهول
جمجم وانبرى
…
من كهفه يقول
في غابر الأزمان
…
مضى يحث السرى
ركب من العربان
حتى إذا جرى
…
يوغل في السهول
إذا به يرى
…
من حوله الخيول
تضرب بالحافر صدر الثرى
معقوفة الذيول
…
منصوبة الآذان
تقطَّع الأرسان
وترجع القهقري
وأرغت النياق
…
ذعراً وجرجرت
وشالت الأعناق
…
ثم تقهقرت
وانطلقت في القفر أي انطلاق
وشب في الصحراء
عاصف نار ونور
يمد في الديجور
عنقه للسماء
ثم علا شيئاً فشيئاً يدور
في قبة العوالم الشاسعه
حتى غدا شمساً فبدراً يغور
فكوكباً فنجمة ساطعه
- 2 -
ولملم العربان أشتاتهم
…
واسترجعت هدوءها البيد
وانطلقوا إلى كثيب به
…
شعاع ذاك النجم مشدود
فأبصروا فوق الثرى غادة
…
لم تتشح بحسنها غيد
لها محيا هو زين الصبا
…
من كبد الصباح مقدود
ساكنة الحس فلا صدرها
…
رف ولا أهدابها السودُ
ونهدها ذاو كما لو ذوت
…
على دواليها العناقيد
سمراء أغواها الردى فالتوى
…
على يد الموت لها جيد
يشخص في نجم العلا جعنها
…
كأنه بالنجم معقود
صاحوا أناهيد وراح الصدى
…
يزقو أناهيد أناهيدُ
كان في الأرض لها مأتم
…
وفي مقاصير العلا عيد
- 3 -
كانت أناهيد بغياً متى
…
غفا بفرعيها الفتى يسكر
تقطّر الخمر بكاساتها
…
لفتية الحي وتستقطر
ولم يكن إلا جحيم الهوى
…
وسادها الملتهب الأحمر
مر على خيمتها فارس
…
تبارك الطيب الذي ينشر
كأن عيني مهرة أبدتا
…
لها عن الفارس ما يضمر
فاختلجت للحب أعماقها
…
واهتز منها الغصن المثمر
وودت السمراء لو لم يكن
…
شُق عليها للهوى مئزر
ولا روت ثغر فتى قبلما
…
أطل ذاك الفارس الأسمر
ثلاث ليلات تقضت كما
…
لوهُن ظل الرمح أو أقصر
لا الفارس الأسمر يفضي إلى
…
قلب أناهيد بما يشعر
ولا أناهيد التي جربت
…
كل رُقى السحر به تظفر
حتى إذا مالت بأجفانها
…
يد الكرى لطول ما تسهر
أيقظها ركض جواد جرى
…
من بابها محمحما يدبر
فزاحت الستر ومذ أبصرت
…
فارسها يلفه العثير
وقد لوى عنانه هارباً
…
كأنه الحلم الذي يعبر
راحت أناهيد على إثره
…
بحافر الجواد تستأثر
تضرب في البيداء حتى إذا
…
أنهكها السير فلا تقدر
لاح لها من جانب المنحني
…
مارج نار ضوءه يبهر
وسيد كأن محبوبها
…
أطل من مقلته ينظر
صاح بها ويك كفى وارجعي
…
ما أنا إلا هُبَل الأكبر
هذا عقاب العهر فليعتبر
…
إن ذاق طعم الحب من يفجر
حلت أناهيد له شعرها
…
وانطرحت تبكي وتستغفر
وتسأل الإله في ذلة
…
لو غدها من أمسها يطهر
فيخلد الحب على جفنها
…
وينطوي في قلبها المنكر
فمال عنها هبل قائلا
…
والرفق من جبينه يقطر
حبك يا هذي كما شئته
…
قلب السماوات به أجدر
واندلعت نار تلوي بها
…
ملء البوادي عاصف صرصر
وغل في صدر العلا حاملا
…
روح أناهيد اللظى المسعر
وشع في السماء قبل الضحى
…
على البرايا كوكب نير
تلك أناهيد لها من عل
…
عين على أهل الهوى تسهر
شفيق معلوف
من العصبة الأندلسية
الأدب والفن في أسبوع
نشوء القومية في أوربا:
دعت كلية الآداب بجامعة فؤاد الأول إلى سماع سلسلة المحاضرات العامة التي يلقيها بقاعة الجمعية الجغرافية الملكية الأستاذ ساطع الحصري الأستاذ الزائر بمعهد التربية العالي للمعلمين، والمستشار الثقافي لجامعة الدول العربية؛ وموضوع هذه السلسلة (الفكرة القومية منذ أوائل القرن التاسع عشر) وهي ست محاضرات، ألقى يوم السبت أولاها، وموضوعها (نشوء الفكرة القومية في أوربا والانقلابات السياسية التي نجمت عنها) وقد تحدث الأستاذ في هذه المحاضرة عن الانقلابات السياسية في خريطة أوربا منذ العقد الثاني من القرن التاسع عشر إلى العقد الثاني من القرن العشرين، فقال إن أهم هذه الانقلابات زوال الدولة العثمانية والإمبراطورية النمساوية وحلول الدول الصغيرة محلها، وحدث عكس ذلك في إيطاليا إذ اتحدت الدول الثمان وكونت إيطاليا الحديثة، كما اتحدت 39 دولة على الأراضي الألمانية وكونت الدولة الألمانية، وانفصلت بلجيكا عن هولندا، كما انفصلت النرويج عن السويد، وتكون على سواحل البلطيق أربع دول جديدة، وهكذا تبدلت أوربا ما عدا إنجلترا وفرنسا وروسيا وأسبانيا. وكان العامل الأصلي في كل هذا التبدل فكرة القومية الناشئة من شعور الأمم بالروابط المختلفة، فتجمع المؤتلف، وتفرق المختلف؛ وكانت النتيجة أن قامت الدولة على الفكرة القومية التي شعر بها الشعب، بخلاف الدول القديمة التي كانت تتكون بحسب قوة الملوك ومقدار بسط سلطانهم وما ينشأ عن معاهداتهم ومصاهراتهم، ولم يكن للشعوب حساب في ذلك لأن الملوك كانوا يتصرفون تصرف المالك المستمد من التفويض الإلهي. ودلل الأستاذ على أن الدول الجديدة لم تقم نتيجة للحروب بل كان منشؤها الفكرة القومية - دلل على ذلك باستعراض الحوادث التاريخية ومقارنة نشأة الدول بقيام الحروب.
وخَتم الأستاذ ساطع الحصري محاضرته القيمة بالإشارة إلى ما يقوله المفكرون في أوربا من أن حركة القوميات انتهت بانتهاء القرن التاسع عشر، ولكن الذين يرددون هذا القول عندنا في الشرق يخطئون، لأن عصر القوميات إذا كان قد انتهى في الغرب لبلوغ حركات القومية مراميها فإنه يبدأ في الشرق لأن ظروفه تقتضي ذلك.
الفنان بين الصعود والهبوط:
أراد الأستاذ توفيق الحكيم أن يبرر مسلكه الأخير في الكتابة الذي نعيته عليه في عدد مضى من الرسالة، فأدار الكلام في مقال بأخبار اليوم حول قضية من قضايا الأدب والفن أثارها بهذا السؤال:(هل يجب على الفنان أن يهبط إلى الجمهور أو أن يصعد إليه الجمهور؟) وقد سار بطبيعة الحال في معالجة هذه القضية إلى جانب الهابط إلى الجمهور، محاولاً أن يؤيد مذهبه بالتماس المثال (عند المبدع الأعظم لهذا الكون) لأنه تعالى لم ينتظر من الناس أن يصعدوا إليه، بل رأى أن يدنو منهم برسالته، لا أن يتركهم يصعدون إليها من أرضهم، فأرسل إليهم الرسل وبنى على ذلك أن الفنان هو الذي يجب أن يهبط إلى الجمهور.
لا يا سيدي، إن الله أنزل رسالته إلى الناس، لأنه إله لا يراه الناس ولا يخالطونه ولا يعايشونه، ولكن الرسل الذين يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق تلقوا رسالات الله ولم يهبطوا بها إلى الجمهور بل رفعوا إليها، وما علمنا أن أحداً منهم أسفَّ وابتذل، وهذا نبينا محمد قد أدى رسالته ببلاغة عالية فتح بها آفاقاً في الأدب الرفيع لم يلحقه فيها لاحق.
مرة أخرى: لا يا سيدي، إن المثال الذي أتيت به إنما هو سلم درجاته للصعود وليس به دركات للهبوط. .
على أن الهبوط الذي نعيبه ليس هو الدنو من إفهام الناس ومداركهم لتأدية رسالة، وإنما هو أن يستهلك الكاتب طاقته ويستنفد جهده، ثم يدور ولا يُرى له طحن. . . فيتستر بالتسلية والتلهية، ويدعي أنه يسير للدنو من الناس، وإنما هو في محله يسير!
الفنون في الجامعة الشعبية:
عندما لبيت دعوة الجامعة الشعبية لحضور احتفالها باستقبال هيئة اللجنة الثقافية للجامعة العربية يوم الخميس كان أكبر همي أن أسمع النشيد المقترح للجامعة العربية الذي طلب إلى قسم الموسيقى بالجامعة الشعبية تلحينه، فدعت هذه الجامعة هيئة اللجنة الثقافية إلى سماعه من فريق الأغاني والأناشيد بها.
ولكن كان هذا النشيد أقل شأناً من سائر ما سمعنا وما رأينا في الجامعة الشعبية، رأينا بقسم الرسم والحفر جماعات من أفراد الشعب، هنا ذكور وهناك إناث، قد أقبلوا على العمل في
هذين الفنين بدافع ميولهم وطبائعهم الفنية، يشبعون وينمون فيه مواهبهم في المساء بعد أن فرغوا من مشاغل حياتهم في أثناء النهار، ثم دلفنا إلى قاعة المسرح، فما أخذنا بها أما كننا حتى ابتدأت (حفلة العروبة) كما سمتها بحق إدارة الجامعة الشعبية، فسمعنا موسيقى وأناشيد مختلفة: سورية وعراقية ومصرية، وشاهدنا تمثيلاً غنائياً، قام بكل ذلك طلبة مختلطون من أفراد الشعب ظهروا على طبيعتهم في ثيابهم العادية، أسمعونا أصواتاً جميلة وألحاناً عذبة، فكانوا لساناً معبراً عن طبيعة هذا الشعب الفنان.
ولقد تأملت هؤلاء كما وقفت أتأمل من زرناهم في قسم الرسم والحفر، ثم تخيلتهم في غير هذا المكان لو لم تتح لهم هذه الفرص، فذهب خيالي بهم إلى المقاهي وغيرها من أما كن الضياع، ثم رجع بهم حيث هم الآن ينتظمون في دراسات توافق أمزجتهم ويتعهدهم المدربون والمعلون. فقرت عيني بهم وطابت نفسي بما بيسر لهؤلاء المواطنين ورجوت أن بيسر للكثيرين من أمثالهم.
وقد انشعب بي التفكير، لما أطربنا فريق الأغاني والأناشيد بفنون من الموسيقى والتمثيل والغناء، فرأيت أن أقترح على الجامعة الشعبية أن تعمل على تنظيم حفلات تمثيلية غنائية يحضرها أقرباء الطلبة ومعارفهم وغيرهم من الجمهور مقابل أجور قليلة، فتحقق بهذا فائدتين: إمتاع الناس بالفن، واجتناء أرباح تستعين بها على تحسين حال فرقها وتقدمها في مضمار الفن وإني لأرجو أن يتاح لهذه الفرق أن تأخذ (ركنا) في الإذاعة، فلا يقل هذا الركن فائدة - إن لم يزد - عن غيره من (أركان) الإذاعة.
نشيد فلسطين:
سمعنا في (حفلة العروبة) النشيد المقترح للجامعة العربية، فإذا هو - من حيث التأليف ومن حيث التلحين - شيء كغيره، من الأشياء التي نسمعها والتي يسمونها أناشيد وطنية وحماسية وليس فيها من الوطنية غير ألفاظ كالهرم، وليس فيها من الحماسة إلا أصوات ترتفع حتى تصك الأسماع. وقد أحسنت الإدارة الثقافية بتجربته قبل إقراره، وما أخالها إلا قد اقتنعت بأن نشيداً كهذا لا يليق بالجامعة العربية.
ثم سمعنا نشيداً ختمت به الحفلة فكان أحسن ختام، هو (نشيد الجهاد العربي لفلسطين) وقد وفق قسم الموسيقى بالجامعة الشعبية في تلحينه، وأداه فريق الأناشيد أداء حسناً، أما التأليف
فلا أحدثك عند حتى ترى شيئاً منه، أوله:
قد بدأنا الكفاح
…
وشحذنا الرماح
وامتشقنا السلاح
…
وملأنا البطاح
بجيوش العرب
نحن العرب
…
نحن العرب
ومنه:
سترى تل أبيب
…
حتفها عن قريب
يوم تصلى اللهيب
…
والدمار الرهيب
في جحيم العرب
نحن العرب
…
نحن العرب
ومنه:
ونصون الصليب
…
والهلال الحبيب
وسلام الشعوب
…
من مثيري الحروب
وخصوم العرب
نحن العرب
…
نحن العرب
فلا ترى فيه التهاويل و (الكليشهات) المعهودة، وإنما يستمد قوته من طبيعته ومن تعبيره عن الحال الواقعة. وقد قدمه مؤلفه الأستاذ حسن أحمد بالكثير إلى الجامعة العربية، فاستحسنته ودفعته إلى الجامعة الشعبية لتلحينه.
الرسالة الثقافية للجامعة العربية:
ألقى الأستاذ سعيد فهيم وكيل الإدارة الثقافية بالجامعة العربية يوم الأربعاء بنادي جبهة مصر محاضرة عنوانها: هل أدت الجامعة العربية رسالتها الثقافية) بدأها بإجمال الجواب عن هذا السؤال فقال إن الجامعة العربية نصبت سلم الثقافة المكون من مائة درجة وارتقت منه خمس درجات، وهي طريقها لارتقاء الدرجات الباقية.
ثم عرض لتفصيل ذلك فقال: من أهم ما قامت به الإدارة الثقافية تكوين قسم إحياء المخطوطات العربية، وقد جلبت أحدث الأجهزة الفنية من أمريكا لتصوير المخطوطات
النادرة والقيمة على أفلام صغيرة. وقد أرسلت في صيف سنة 1946 بعثة إلى سورية ولبنان فصورت ما رأته جديرا بالتصوير من الكتب. والتصوير يجري الآن في مصر، وسترسل البعثات إلى البلاد العربية المختلفة لتصوير ما في مكتباتها من المخطوطات. ومما قامت به الإدارة لتشجيع التأليف والترجمة، أن اختارت موضوعين للمسابقة في تأليف كتاب في كل منهما خلال هذه السنة، أحدهما في تاريخ الأندلس من فتح العرب لها إلى خروجهم منها، والآخر في تاريخ البلاد العربية من سقوط بغداد إلى عصر النهضة الحديثة، وخصصت جائزة لكل منهما قدرها 500 جنيه، وخصصت أيضاً 2000 جنيه لتأليف كتاب مفصل في جغرافية العالم العربي تنفيذاً لتوصية المؤتمر الثقافي الأول. أما في الترجمة فهي تعمل في اختيار الكتب التي تحسن ترجمتها، وستختار اللجنة الثقافية عشرة كتب لتترجم على نفقة الأمانة العامة في هذا العام وسيوزع نحو مائتي كتاب على دول الجامعة لتساهم كل منها بطبع قسم من هذه الكتب. وقال الأستاذ إن الإدارة الثقافية تعتزم استخدام الإذاعة والسينما والصحافة في نشر الثقافة العربية، فتذيع من محطات العواصم العربية أحاديث ثقافية وحفلات موسيقية وقصصا تمثيلية وأناشيد ترمي إلى تقوية الروح القومية العربية؛ وستشجع الأفلام السينمائية التي تحقق هذه الغاية، وتساعد على أخذ أفلام في البلاد العربية لتعريف بعضها ببعض، وتساهم في وضع أفلام ثقافية، وفي ترجمة نطق الأفلام الثقافية الغربية إلى العربية؛ وقد قررت استكتاب بعض كبار الكتاب في مختلف البلاد العربية مقالات في الشئون الثقافية، لتنشر في أهم الصحف العربية؛ وستوفد خمسة عشر أستاذا إلى مختلف العواصم العربية للمحاضرة في أهم الموضوعات التي تشغل بال العالم العربي.
وبعد أن تحدث الأستاذ المحاضر عن المؤتمر الثقافي الذي عقد بلبنان في الصيف الماضي، قال إنه يؤمل أن يعقد المؤتمر الثقافي الثاني بالإسكندرية في أواخر الصيف القادم.
وقد عقب الأستاذ سعد اللبان على هذه المحاضرة، فقال بأن الجامعة العربية يجب أن تخرج، في تأدية رسالتها الثقافية، عن النطاق الحكومي، فلا تقتصر على الرجال الرسميين، بل يجب أن تتجه أيضاً إلى غيرهم من رجال العلم والأدب، كما يجب ألا تقصر اهتمامها الثقافي على دول الجامعة الرسمية، بل يجب أن توجه أكبر عنايتها إلى
شمال أفريقية الذي يكاد يقطعه الاستعمار عن مصادر الثقافة العربية المشرقية. ونبه الأستاذ سعد على أن البحث عن المخطوطات العربية في المكتبات الغربية أهم من البحث عنها في المكتبات العربية، وقال إنه يرجو أن يكون الغرض من تصوير هذه المخطوطات طبعها ونشرها لا مجرد تسجيلها على أفلام.
العربية تصارع:
لا أشك في أن الحكومة جادة في فرض استعمال اللغة العربية في مكاتباتها وفي إلزام أصحاب المحال التجارية والصناعية بكتابة أسمائها بها. وقد أذاعت أخيراً وزارة الشئون الاجتماعية على هؤلاء تلفت نظرهم إلى ما يقضي به القانون على من يكتب اسم محله بلغة أجنبية دون أن يضع إلى جانبه اسمه باللغة العربية على ألا تكون الأجنبية أكثر بروزاً من العربية، والقانون يقضي على من يخالف ذلك بالحبس مدة لا تزيد على سنة وغرامة لا تزيد على خمسين جنيها أو بإحدى هاتين العقوبتين.
لا أشك في أن الحكومة جادة في تنفيذ كل ذلك، ولكني لا أدري لماذا تستمر، في أختام بريدها، على كتابة التاريخ بلغة أجنبية دون كتابته بالعربية!
إنني أدل وزارة الشؤون الاجتماعية على مصلحة البريد لتلفت نظرها إلى ذلك القانون وإلى ضرورة تطبيقه. . . كما لا أرى بأساً في أن أكون مرشداً لها في غير ذلك، فأدلها أيضاً على شركة المعادي، لتلفت نظرها إلى وجوب تغيير كتابة أسماء شوارع هذه الضاحية الجميلة، بحيث تكتب بالعربية إلى جانب الأعجمية التي هي مكتوبة بها، لأن المعادي جزء من القاهرة عاصمة العروبة.
أكتب ذلك على ذكر المقال النير الذي كتبه في الرسالة الأستاذ وديع فلسطين بعنوان (اللغة العربية تصارع) وإني مطمئن معه إلى ظفرها في النهاية.
(العباس)
الكتب
جنة العبيط أو أدب المقالة
تأليف الدكتور زكي نجيب محمود
تمنيت لو لم يكن هذا الكتاب لصديق، إذن لاستطعت أن أوفيه ما هو كفاء له من ثناء في غير حرج، ولكن فيم الحرج، وأنا أنظر إليه بعين النقد وبعين الحب معاً فأتحدث حديث الخبير الواثق؟
لم يعد زكي نجيب في حاجة إلى أن يقدم إلى القراء فقد صارت له في نفوسهم مكانة حميدة بمؤلفاته المجيدة في الفلسفة والأدب، وإنما أقدم كتابه هذا إلى القارئ مغتبطاً أشد الاغتباط، فإن له لشأناً عما قريب في أدبنا واتجاهه وفي جانب المقالة منه بوجه خاص. . .
رأى الدكتور زكي أن المقالة الأدبية في مصر تسير على غير نهج معلوم، فهي تصلح أن تكون خطبة أو موعظة أو جدلاً أو بحثاً علمياً أو تاريخياً أو ما شئت غيرها، ولكنها ليست بسبب من المقالة التي اصطلح عليها نقدة الأدب الإنكليزي في قليل أو كثير، وهو لم يكتب كتابه هذا ليصحح به هذا الوضع، ولكنه كتب مقالاته على غرار ما فهم بعد درس، وأشهد لقد بلغ فيها جميعاً من التجويد مالا ينزل به قط عن مستوى فحول المقالة في الأدب الإنكليزي، ولقد جاء بعضها في نسق لا أتردد أن أقول إني قلما وقعت على نظائره، خذ لذلك مثلاً البرتقالة الرخيصة، والكبش الجريح، وحكمة البوم، وجنة العبيط، وشعر مصبوغ، وبيضة الفيل.
واجتمعت له طائفة من هذه المقالات فأشرت عليه وألحفت أن يطبعها وهو يتردد ويتعلل، ولكني ما زلت به حتى أجابني إلى ما أردت. . . اختار المؤلف اسم أحد مقالاته عنواناً لكتابه فكان جد موفق وهذا الاسم هو جنة العبيط (أما العبيط فهو أنا، وأما جنتي فهي أحلام نسجتها على مر الأعوام عريشة ظليلة، تهب فيها النسائم عليلة بليلة، فإذا ما خطوت عنها خطوة إلى يمين أو شمال أو أمام أو وراء، ولفحتني الشمس بوقدتها الكاوية عدت إلى جنتي أنعم فيها بعزلتي، كأنما أنان الصقر الهرم، تغفو عيناه، فيتوهم أن بغاث الطير تخشاه، ويفتح عينيه فإذا بغاث الطير تفرى جناحيه، ويعود فيغفو، لينعم في غفوته بحلاوة غفلته)،
ولكم نعمتُ أنا في هذه الجنة وتفيأت ظلالها حتى ما أطيق أن أخرج منها، ولكم عدت إليها، أجل كم عدت إلى هاتيك المقالات أكثر من مرة فما زدت إلا استمتاعاً بها وبأدب صاحبها ولكم أعجبت بهدوء نقمته وصدق نظرته وعمق فكرته وحلو فكاهته ورقيق سمره، كل أولئك دون أن أحس أنه قصد إلى شيء من هذا، وهذا هو فن الكتاب، وهذا هو أدب المقالة كما بينه المؤلف في مقدمة كتابه، ثم هذا هو سر الجمال في هذا الكتاب البديع. ولقد خاطب المؤلف الفاضل قارئه في صدر كتابه بقوله (أنشدتك الله لا تحكم على قيمة هذا الكتاب بقيمة كاتبه، إن كاتبه ليرجو أن يكبر في عينيك بهذا الكتاب. . . أنشدتك الله لا تحكم على هذا الكتاب بمعيار قادة الأدب في بلادنا؛ إنما نشرت هذا الكتاب لأناهض به أولئك القادة فكأنما بهذا الكتاب أقول: من هنا الطريق يا سادة لا من هناك)،
زكي يا صديقي. . . هات، هات من أحلام جنتك فإنا إلى مثل هذا الأدب عطاش.
الخفيف
إخوان الصفا
تأليف الأستاذ عمر الدسوقي
الأستاذ بكلية دار العلوم
إخوان الصفا جماعة بارزة بين مفكري الإسلام، يعتز الباحثون بآرائهم، وإن اختلفوا في حقيقة أمرهم، وقد كتبت عنهم رسائل صغار، ومقالات قصار، ولكن الأستاذ عمر الدسوقي قصر كتابه هذا عليهم، وتفرد ببحوث مفصلة عن عوامل ظهورهم، وروافد ثقافتهم وحقيقتهم، وناقش المرحوم أحمد زكي باشا مناقشة عنيفة في نسبته هذه الرسائل إلى مسلمة بن قاسم الأندلسي وفي نفيه أن المجريطي ألف رسائل مثلها، ثم كان له السبق في تجلية آرائهم، وجمع شتاتها، والموازنة بينها وبين آراء من سبقهم أو جاء بعدهم من فلاسفة الشرق والغرب، منتفعاً بدراسته العربية في كلية دار العلوم وبثقافته الغربية في جامعة لندن، ثم تميز ببحث قيم مبتكر عن آرائهم في التربية.
عقد المؤلف الفصل الأول لدراسة الحياة السياسية في القرن الرابع؛ لأنهم ثمرة عوامل عدة منها الحالة السياسية (والكائن المستقل عما قبله وما بعده والذي لا يتأثر بشيء مما حلوه
ولا يتأثر بشيء مما سبقه أو أحاط به - لا عهد للعالم به حتى اليوم، فالمصادفة محال)،
ثم عقد الفصل الثاني للحياة العقلية، فتكلم عن السريان وأثرهم، وعن نشأة الفلسفة الإسلامية وعلم الكلام، وأثر الفلسفة اليونانية في العقل العربي، وخلص من ذلك إلى أنهم تأثروا بالكندي في فلسفته الطبيعية، وبالمترجمين وآرائهم، وبالفارابي في إحصائه للعلوم، حتى وضعوا رسائلهم التي تشبه دوائر المعارف بالنسبة إلى زمانهم.
ثم تتوالى الفصول بعد ذلك عن إخوان الصفا، وزمانهم، ومكانهم، ونظام جماعتهم، ومذهبهم، وفلسفتهم، ورأيهم في النفس الإنسانية وفي التربية، معروضة عرضاً علمياً واضحاً مستخلصاً من رسائلهم.
ويجمل بنا أن نعرض بعض آرائهم التي استخلصها المؤلف من رسائلهم، فهم مثلاً يدينون بخلود النفس بعد أن تفارق الجسد، ويوازن المؤلف بين رأيهم ورأى أفلاطون في (الجمهورية) وفي (جورجياس)، ثم بين الرأيين في خلود كل نفس وبين رأى أرسطو في خلود النوع الإنساني. وهم يذهبون إلى أن البعث إنما يكون بأحوال تطرأ على النفس بعد انسلاخها من الجسد، ويقولون بخلود العالم، ويتساءل المؤلف: كيف يتفق هذا الرأي المخالف للدين الإسلامي مع آيات القرآن الكريم؟ ويورد تفسيرهم لآيات البعث تفسيراً قائماً على التأويل، وُيحكم بأن هذا تعسف وتكلف. ثم هم يذهبون إلى أن المعلم دعامة في صرح الأمة، وعلى الآباء أن يتخيروا بنيهم المعلم الصالح المستنير المتحلي بفضائل عَدُّوها والمبرأ من رذائل أحصوها، والمعلم كالأب له على تلميذه حقوق الأب.
وتكلموا عن التلميذ والمنهج الدراسي الملائم له وطريقة تحصيله للعلم، واهتموا باستخدام الحواس في التحصيل اهتماماً زائداً في مواضع شتى، وسبقوا برأيهم (بستالوتزى) في عنايته بالملاحظة والإدراك الحسى، وسبقوا (هربارت) في نظرية الاستطلاع، وبقولهم إن قوى النفس الإنسانية متحدة مرتبط بعضها.
ثم هم يذهبون في التربية الخلقية إلى أن الخير يجب أن يعمل حباً في الخير، لا رغبة في ثواب ولا رهبة من عقاب، لأن هذا الخير المحض هو السعادة، ويقرر المؤلف أنهم سبقوا بهذا الرأي الفيلسوف الألماني (كانت) الذي بنى فلسفته الأخلاقية على أن الخير يجب أن يعمل لذاته. ثم يعرض المؤلف رأيهم في الفضيلة ويأثرهم بأرسطو في أنها وسط بين
رذيلتين.
وبعد، فهذه لمحات أو قاطفات سراع من هذا البحث الممتع القيم، وكانت آراء إخوان الصفاء زهرات مبعثرات، فجمعها المؤلف في طاقة منسقة كانت هذا الكتاب، ومن ذا الذي لا تهفو نفسه إلى أن يستمتع من هذه الطاقة بنظرات وسبحات؟
أحمد محمد الحوفي
زقاق المدق
(قصة للأستاذ نجيب محفوظ)
هو اللوحة الحية الرائعة التي رفعت عنها ريشة الفنان البارع الأستاذ نجيب محفوظ. وقد يعجب القارئ من ناقد يفتتح مقال نقده بهذا المديح الجارف؛ ولكن مهما يكن الناقد مسرفاً في تزمته، فإنه إزاء نجيب لا يملك غير المديح المتدفق يجرى على قلمه لا يقف في سبيله أي عارض من عوارض التوقر التي تركب النقاد. بل إنه يجد خلف هذا الاندفاع ما يشجعه على المضي في السبيل التي يسلك حتى يريح ضميره الأدبي مما يحسه نحو هذا النابغة الفنان. . . وقد أصبح الهدم في أيامنا هذه بضاعة سهلة، يسومها كل محاول للكتابة. . . يظنون أن الشتيمة جرأة. . . يا هؤلاء! إنكم إذ تشتمون تظهرون بمظهر الجرأة حين لا جرأة لديكم، لأن من تشتمون لا يملك أن يلحق بكم أذى. ولكنكم إن مدحتم استهدفتم لقول القوم: إنهم يتملقون. وما أجرأ من يعرض نفسه لهذه المقالة. . . وهاأنذا أمدح. . . لاعن رغبة في إظهار جرأتي، فلن يظن بي أحد تملقاً. . . لكن رغبة في أن يكون الحق - حتى ولو كان مديحاً - هو الحكم الوحيد الذي نخضع له ضمائرنا. . . إنني أعلن في يقين راسخ أن نجيباً أصبح في القمة الشاهقة التي يعتليها كبار كتاب القصة المصرية.
واضح من العنوان أن القصة قد أخذت مساربها في أحياء وطنية خالصة. . . ولكن الغريب في أمر هذه القصة أن الأستاذ نجيب لم يطارد شابا بذاته من شبان المدق ليجعله بطل قصته، ولم يجر خلف فتاة معينة من فتيات الزقاق ليقيم منها الشخصية الأولى في القصة. لم تكن شخصية البطل آدمية، بل كانت الزقاق أجمعه بما يحويه من مشايخ وكهول وفتيان، وما يحويه أيضاً من عجوز متصابية، وكهلا تريد الزواج، وفتاة تستعرض فتيان
الزقاق. . كان بطل القصة هو الزقاق. . كان لكل شخص قصته وصورته. . ولكل معهد من معاهد الزقاق رفاقه يكونون رسمه ويروون روايته. . ثم كان لكل قصة نهايتها. .
إن زقاق المدق هي القصة الأولى من نوعها في اللغة العربية. إذ جرى كتاب القصة على أخذ شخص أو شخصين ينسجون حوله أو حولهما قصتهم نسيجاً لحمته أشخاص آخرون. أما أن يكون كل شئ في القصة بطلا، فهذا نوع جديد في القصة العربية. ونجيب بارع كل البراعة حين يظل ممسكا بقياد القصة بين يديه لا يدع مجالا لها تلفت منه، حتى يصل بكل شخصية خلقها إلى النهاية التي أرادها.
وعجيب أن يستقيم له هذا الأمر مع هذا الحشد الهائل من شخصيات روايته. . . وقد انتفع الأستاذ نجيب بكل الظروف التي أحاطت بعهد القصة. فكان للحرب دور كبير في الرواية. فهي التي مهدت السبيل لابن المقهى أن يكون غنياً يستطيع أن يذهب إلى السينما، وأن يمشى بين رفاقه مزهواً يعيرهم ببقائهم على حالتهم لا يبذلون في سبيل (التريش) مجهوداً. وما زال بعجرفته حتى حدا بالحلاق أن يشد الرحال إلى الإسماعيلية فيعمل (بالأرنس) يجمع أموالا تليق بفتاة أحلامه وفتاة المدق التي خطبها قبل السفر. . والحرب هي التي هيأت للفتاة أن تكون (أرتست) ونرى نجيباً وقد أنشأ مدرسة قائمة بذاتها لتعليم أرتستات الحرب كيف يأخذن المال من (جونى) ونرى معلم المدرسة وقد رسمه نجيب رسماً عجيباً. . . مزيجاً من الشدة واللين،. ولئن كانت ومن اللطف والفظاظة المدرسة حقيقة سمع بها نجيب، فتسجيلها في قصته لفته جميلة. وإن كانت بنت خياله فهو رائع إذ ينشئها.
وكما أفاد نجيب من الحرب، أفاد من نهايتها أيضاً. . فأخرج العامل المتعجرف من عمله. وأطلقه سكيراً، هائماً على وجهه، ثم قاتلا لأخته من الرضاعة التي أصبحت في نظره جريحة العفة.
وأعادت نهاية الحرب الحلاق النازح للغني إلى الزقاق حيث يجد فتاته وقد أصبحت ذات ثراء واسع سكبه عليها لينها، فهو يساعد أخاها في قتلها.
وقد كان للظروف الطبيعية التي يمر بها كل قوم دور في الرواية. فنرى شاعر الربابة يضم قيثارته ويخرج من قهوته الأخيرة بعد أن ابتاعت (راديو) وأصبحت في غنى عن قصصه التي حفظها جميع رواد القهوة.
ويمتاز نجيب برسم شخصياته كما يخلقهم الله. فترى في الشرير خيراً وسراً. ولكنه يغلِّب فيه ناحية الشر على الخير، وترى في الخير شراً وخيراً، ولكن خيره غالب على شره.
ولنأخذ مثلا للشخصيات الخيرة في الرواية الشيخ رضوان الحسيني فترى الخير فيه غالباً. فهو الذي يلجأ إليه سكان الزقاق في الملمات. وهو المثل الذي تشير إليه الأمهات إذا شئن أن ينصحن أبناءهن. . ولكنه مع هذا شرير مع أهل بيته، يفرغ فيهم ما يكظمه من غضب في مخاطبته لأهل الزقاق. أما الشخصيات الشريرة فهي كثيرة؛ ولكن لنأخذ مثلنا المقهى، فهو رجل ذو أمزجة مختلفة كلها شاذ يدعو إلى الاستنكار الشنيع. ولكنه مع هذا لا يطيق أن يبذل وعداً بالصلاح حين يطلب إليه الشيخ أن يبذله. فهو رجل لا يعد دون تنفيذ.
لن أحوال الكلام عن جميع الشخصيات التي رسمها الأستاذ نجيب، فهي - كما قلت - كثيرة، وكلها بطل؛ ولكن ثمة شخصية رسمها نجيب حاد في لمحة منها عن طريق كنا ننتظر أن تسلكه، هي شخصية صاحب الوكالة. وهو بك كبير في السن، كان يأمل أن نتزوج من فتاة الزقاق. وكم كان الأستاذ نجيب موفقاً في عرضه لهذا الحب العجيب بين الغسق والضحى. ولكن قبل أن يتم الزواج سقط الرجل مريضاً، ولج به المرض، ثم شاء له الله الشفاء وكنا ننتظر أن يقوم من مرضه مؤمناً بالله، شاكراً له، ولكن الأستاذ نجيب أقامه ساخطاً على الدنيا، برما بها، كافراً بنعمة من شفاه. . . ومن الناس من يصاب بهذا. . . وكل ما ألاحظه أننا كنا ننتظر غير ذلك. . . ولا ضير عليه إذا أخلف ظننا.
وبعد. فلا يسعني إلا أن أقدم للحياة المصرية العصرية كل تهنئتي أن وفقت إلى قصاص كنجيب، يرسمها فيترك منها للأجيال القادمة صورة واضحة المعالم جلية المعارف.
ثروت أباظة
البَريدُ الأدَبيَ
وا أسفاه! مات النشاشيبي:
قُضي الأمر وقَضي إمام العربية الأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي! توفاه الله إلَّيه في منتصف ليلة الخميس الماضي بالمستشفى بعد أن نقلناه إليه من الفندق بأربع ساعات؛ ثم انتشر نعيه في الصباح الباكر فلم يبق أحد ممن يعرفون الفضل أو يقدرون الأدب أو يقوِّمون الخلق إلا أرسل عينيه أو قلب كفيه حزناً على استشهاد هذا البطل المخلص في الميدان الذي ارتضاه لجهاده في سبيل دينه ولغته وعروبته.
كان نعيه يقابل في كل مكان ومن كل إنسان بالحسرة والدهشة: بالحسرة، لأن من قرأ النشاشيبي يعتقد أن مكانه لن يملأ وأن خلفه لن يكون. وبالدهشة، لأن من رأى النشاشيبي لا يتصور أن هذه الشعلة الذهنية تخمد، ولا أن هذه الحركة العصبية تسكن. أخلد النشاشيبي مضطراً إلى سكينة الموت بعد خمسة وستين عاماً قضاها في جهاد متصل: جاهد في شبابه للحياة من غير هدنة؛ ثم جاهد في شيخوخته للخلود من غير راحة؛ ثم ألقى السلاح ومضى كما يمضى الربيع تاركا وراءه الخصب والعشب والثمر.
كانت جنازته في يوم الجمعة تكريماً للأدب والعلم سار فيها مندوب جلالة الملك، وصاحب السماحة مفتى فلسطين، ومندوب صاحب الدولة رئيس الوزراء، وممثلو الدول العربية والإسلامية، وصفوة من رجالات مصر، حتى مثواه الأخير. تغمده الله برحمة من عنده، وألهم أسرة الرسالة وأمة العروبة الصبر على فقده!
المهرجان الأدبي والفني:
عينت الإدارة العامة للثقافة بوزارة المعارف يوم20 فبراير القادم لإقامة المهرجان الأدبي والفني. وجعلت يوم 21 يناير الحالي آخر موعد لقبول الإنتاج الأدبي وآخر الشهر بالنسبة للإنتاج الفني (التصوير والنحت والأشغال والزخرفة)
وتوالى الآن لجان التحكيم النظر في الشعر والقصص والمسرحيات والأغاني والأناشيد، وسيختار موضوع للخطابة يتبارى فيه الخطباء.
وقد اختيرت مسرحية (إسماعيل الفاتح) الأستاذ إبراهيم رمزي بك موضوعاً للمباراة بين الفرق التمثيلية المدرسية، والفصل الثالث من رواية (مصرع كليوبترا) للمرحوم شوقي بك
موضوعاً للمباراة بين الفرق التمثيلية الجامعية. أما فرق الهواة فلها أن تتقدم بالمسرحية التي تراها كما يجوز لها أن تحصل بعد 21 يناير على إحدى المسرحيات الفائزة في مباراة الأدب لتدخل بها مباراة التمثيل.
وسيمنح الفائزون الجوائز الآتية:
أنواط ذهبية تذكارية للفائزين من الأدباء والفنانين من غير الطلبة، وأنواط فضية تذكارية للفائزين من الأدباء والفنانين الطلبة، وشهادات تقدير وتفوق مصحوبة بنوط للفرق المدرسية والجامعية الفائزة في الموسيقى والتمثيل والأناشيد، وجوائز مالية مختلفة يخص بها الأدباء والفنانون الذين ترى اللجان ضرورة تشجيعهم واستنهاض هممهم وملكاتهم.
معرض الكتب والفنون:
وتقرر أن يقام معرض الكتب الصادرة في سنة 1947 ومعرض لفنون التصوير والنحت والاشتغال والزخرفة. من20 فبراير إلى آخر الشهر، وذلك بدار إدارة خدمة الشباب (رقم7 شارع سليمان باشا) التابعة للإدارة العامة للثقافة.
البانتوميم والميم:
ذكر الأستاذ الفاضل عبد الفتاح البارودي في الحلقة الثانية من سلسلة مقالاته القيمة عن فن المسرح (عدد759) أن البانتوميم والميم فَنَّانِ من فنون الرومان في العصور القديمة. فليسمح لي الأستاذ أن أقول إن اليونان عرفوا هذين النوعين بل إن أشهر ممثليهما هو بِيلَادِس الممثل اليوناني المعروف وأذن يكون هذان الفنان يونانيين وليسا رومانيين.
رمزي خليل
الغوغاء:
المفهوم أن لفظ الغوغاء مذكر وأن همزته ليست للتأنيث وأنها مقلوبة عن الواو، ولكن جاء في الرسالة الغراء عدد 758 في الفقرة 961 من نقل الأديب في السطر السادس منها - قامت عليه الغوغاء - وفى هذا ما يشعر بتأنيث اللفظ فما قول الأدباء.
أبو ماضي
المتبارون على جائزة جونكور:
تنشر الصحف الفرنسية تكهنات مختلفة عمن يمنح جائزة (جونكور)، ويؤخذ من مجموع ما نشر حتى الآن أن هناك ثلاثة في طليعة المرشحين لهذه الجائزة وهم:
1 -
جاك بيريه الذي قضى شبابه في حياة مضطربة. إذ سافر إلى (لاجويان) على سفينة لنقل الموز واشتغل عاملا في مناجم الذهب ثم اشترك في الحرب الأخيرة وأسر سنة 1940 واعتقل في معسكر بالقرب من برلين حتى سنة 1942 وهناك وضع كتابه الذي عرضه أخيراً باسم (الجاويش) الذي أحرز درجة الشرف.
2 -
مارى ليهادوان وقد تقدمت بمؤلف عنوانه (النجم المر)،
3 -
ريمون دوماي رئيس تحرير جريدة (الآداب) الذي بدأ حياته خادماً في عزبة وقد كان لحياته الخلوية تأثير في كتاباته فأخرج (الحشيش الذي ينبت في المرعى) وقد تقدم أخيراً بمؤلف آخر بعنوان (عنب من الذرة)،
جائزة فمينا:
منحت جائزة (فمينا) أخيراً لمدام جابرييل روى وهى كاتبة فرنسية من أصل كندى. عن رواية أخرجتها باسم (سعادة طارئة) وقد وصفت فيها حياة أسرة تقيم في ح العمال بمدينة (مونتريال) وتتألف من أم مجدة وأب تعس. وبنت (وهى بطلة الرواية) خادمة في بار.
القَصَصُ
قوة الحب
للقصصي الإنجليزي الشهير فيرنيك مولنار
بقلم الأديب سيد أحمد قناوى
(حيث لا يوجد الذهب، يوجد ما هو أقوى منه ذلك هو الحب القوى الجارف الذي لا يقاوم)
أخذ الهواء يعبث بالدخان الذي يتصاعد من إحدى مداخن قصر الكونت (سكارلث) ولكن أحداً في الأرض الفسيحة لا يستطيع أن طهاة (الكونت) يعدون له طعام الإفطار في الساعة المبكرة، ولو تسنى لأحد من سكان هذه القرى التي بعثرت حولها قصور النبلاء أن يدرك حقيقة ما يحدث في قصر الكونت - لعرف أن هذا الدخان يتصاعد من معمل الكيماوي (كونارد سوبابولو) الذي يقيم في قصر الكونت منذ ثمانية عشر شهراً ليحول له الرصاص وغيره من المعادن الخسيسة ذهباً. . .
والواقع أن الكيميائي الكهل لم ينجح في تجربة واحدة من تجاربه العديدة على رغم ما أنفق من الجهد في هذا السبيل.
وكان يبعث بكل ما يصل إلى يده من أموال (الكونت) إلى زوجة قد أنكرها وطفل قيل له إنه ابنه. . .
وعندما أحس بأن (الكونت) قد أخذ يضيق بإقامته ونفقاته، أراه قطعة صغيرة من الذهب لم تتحول من الرصاص ولا من غيره، ولكن (الكونت) الشرير برغم درايته بكل وسائل الخداع لم يدرك أن قطعة الذهب وضعت خفية مع الرصاص الذي ترك يغلي على النار أمام عينيه طوال الليل.
إلا أن هذه القطعة الذهبية، قد فتحت ثغرة في حياة الكيميائي الكهل فإن (الكونت) قد اعتقد أن الرجل ليس جاهلا ولكنه لص يسرق الذهب الذي يستخرجه من الرصاص.
وقد أقسم له الكونت أنه إذا لم يقدم إليه في الصباح قطعة كبيرة من الذهب الخالص فسيقوده بيده إلى أعلى برج في القصر ثم يقذف به إلى أرض الحديقة.
وكان (كونارد) يعرف أنه سيلقى حتفه في غده، فإن (الكونت) لا يحنث في يمينه. فقد أقسم
من عام أن يقطع أذني خدمه وبر بقسمه، فأخذ الرجل ينتفض من الخوف، ومع هذا استيقظ مبكراً ووضع بعض الآنية على نار الموقد وهو يعلم أن لا شئ فيها غير بعض المعادن الخسيسة.
ودقت ساعة القصر الكبير السابعة، وعرف (كونارد) أنه من الموت على خمس ساعات، ولكنه كان متفائلا، وقبل أن يخفت رنين دقات الساعة فتح باب غرفته، وهال أن يرى الكونت العجوز بعظام وجهه البارزة يسد الباب بقامته الفارغة وسمع صوته الأجش يقول:
- أين الذهب الذي تستخرجه من الرصاص أيها اللص؟
وجثا (كونارد) بين يديه وهو يقول:
- لا شئ في البوتقة يا سيدي الكونت!
واصفر وجه العجوز ووثب إليه بسرعة، وأمسك بتلابيبه ليقتاده إلى البرج، ولكن الكيميائي قال هامساً:
- تمهل يا سيدي فإني لم أجد الذهب وإنما وجدت ما هو أغلى منه ثمناً.
فضحك (الكونت) ضحكة ساخرة وقال:
- وأي شئ هذا المعدن الجديد؟
- إنه ليس بالمعدن يا سيدي (الكونت) وإنما هو مركب كيميائي يحتوي على قوى الحب الذي لا يقاوم. . .
عندئذ تراخت قبضة (الكونت) عن عنق الرجل وقال:
- وهل أبتلع هذه الأكذوبة أيضاً كنا ابتلعت قصة الذهب ثمانية عشر شهراً أيها المحتال؟
وقال الكيميائي لنفسه: إن المتردد نصف المصدق.
فتنفس الصعداء وراح يتابع أكذوبته:
- ليست هذه أكذوبة بل هي حقيقة أعرف بها كيف أجعلك تقهر قلوب النساء.
واتسعت حدقتا (الكونت) الهرم، فقد كان فيما مضى زير نساء شهير فلما تقدمت به السن ويبست سواعده وبرزت عظام وجهه دعته النساء الهيكل وأشحن بوجوههن عنه، وبدت على وجهه علائم السرور فتابع الكيميائي الكهل حديثه.
- لقد خلطت مسحوق الفضة بالرماد، ثم أضفت إلى المسحوق مواد خاصة أحتفظ بسرها.
فهب (الكونت) يسأله وهو يلهث:
- ثم ماذا؟
- لا شيء إلا أنني سأصنع لك من هذه المواد قطعة صغيرة من المعدن تثبت في مقبض سيفك، فإذا أردت أن تهاجم سيدة بغرامك وضعت يدك اليسرى على مقبض السيف فوق القطعة الفضية الداكنة وثق أنها لن تستطيع مقاومة نظراتك وستنصت من توها لغزلك.
فقال الكونت:
- وهل تثق بهذا؟
- كل الثقة، وأرجو أن تترك لي سيفك الليلة، وفي الصباح سيكون كل شيء وفق ما تريد، وسأترك لك تقدير المنحة التي تمنحني إياها.
واستفاضت الأنباء بقصة القطعة الفضية التي وضعت عند قبضة سيف (الكونت اسكارلت) لتمكنه من غزو قلوب النساء.
وقبل أن تمر ثلاثة أيام كان الكيميائي الكهل قد تلقى ثماني عشرة رسالة من النبلاء الذين يقيمون في المناطق المجاورة بدعوته إلى الإقامة في قصورهم ويعدونه المنح والهدايا لو باح لهم بسر قواه الجديد.
ولكن (سكارلت) كان أبسط يداً كما كان أضن بأن يترك (كونازلد) يبارح قصره.
وفي اليوم الرابع بدأ (الكونت سكارلت) أولى غزواته وقد تقلد السيف الذي يحمل القوى العجيبة. . . فتخير لغزوته قصر سيدة صغيرة موسرة تعيش على مقربة منه وقد فشل أكثر من مرة في التقرب إليها. . . وكانت هذه النبيلة الحسناء تعيش عيشة البذخ تحيط بها اثنتان وثلاثون سيدة من وصيفات الشرف.
فبعث (الكونت) في الصباح الباكر إلى جاريته الحسناء ينبؤها بقدومه عند الظهر. . . وأثارت رسالته ضجة عالية، كانت (الثلاث والثلاثون) سيدة ينتظرنه وكل واحدة منهن تزعم لنفسها أنها أقوى من هذه القطعة الفضية التي وضعت عند مقبض السيف، ولكن سيدة القصر صرفتهن عندما دخل عليها (الكونت) وتقدمت إلى لقائه في البهو الكبير وقدمت إليه مقعداً وهي لا تعلم أن أربعاً وستين عيناً كانت ترقب كل حركاتها من وراء السجف.
واتكأت الحسناء على مقعدها، وكانت حتى تلك اللحظة تسخر من منظر (الكونت) الهرم وتضحك من عظام وجهه البارزة ولكنه عندما وضع سيفه بين ركبتيه على عادة الفرسان أخذت تحدق في السيف، فراعها مرآه، وخلبتها هذه الماسات الكبيرة التي زادها الضوء القليل سواداً.
ولم يفطن الكونت والحسناء الشابة أن اثنتين وثلاثين سيدة يراقبنهما، وقد قررن في أنفسهن أن (الكونت) يبدو مهيب الطلعة.
قال الكونت بثقة:
- إنه يوم جميل.
فقالت السيدة وهي لا تزال تنظر إلى القطعة الفضية ساخرة:
- أجل جميل.
ووضع (الكونت) يده اليسرى على القطعة الفضية وهو يقول:
- وهو دافئ أيضاً.
وأحست السيدة برعدة عابرة وتحركت السجف ودار همس خافت (لقد قبض بيده على القطعة الفضية)،
ولم ترفع الحسناء عينيها عن يده، ولم تلق بالها لحديثه التافه ولكنها كانت تستشعر الخوف فلم تفطن إليه وهو يقترب منها حتى جلس بجوارها في المقعد الكبير وأخذ يقول:
- مم تخافين؟ مني. . . إنني أكن لك احتراماً منذ أمد بعيد. وكان من الممكن أن تسمع السيدة الهمس وراء السجف فقد كانت اثنتان وثلاثون امرأة يتهامسن بعد أن قررن أن الرجل قد انتصر وأنهن يجب أن ينصرفن.
وأحست السيدة رهبة خفية عندما سمعت صوته يقول إنه يحبها منذ أمد بعيد فهمست:
- إن كنت تحبني فارفع يدك عن تلك القطعة الفضية التي تحلى مقبض سيفك.
فقهقه (الكونت) وهو يقول:
- محال!
وازداد تمسكا بقبضة سيفه.
وفي اللحظة التالية كان يطوق خصرها بيده اليمنى ويقبلها، وحاولت الحسناء أن تقف فلم
تستطيع وسقط رأسها الجميل كزهرة يانعة فألصق شفتيه بشفتيها وراح يقول هامساً:
- إنني أحبك وسأقصر حياتي كلها عليك.
- وأنا كذلك سأظل لك. . .
ومضت عشرة أعوام كانت مليئة بنجاح غرامي متصل (للكونت سكارلت) لم يقطعه إلا الموت.
وانتقل الكيميائي الشيخ وقد أشرف على التسعين إلى منزل (البارون دويرون) وكان الكيميائي قد هده المرض العضال، ولكن البارون لم يطق صبراً، فقرر في نفسه خطة وذهب إلى الكيميائي المريض يسأله عن سر القوى؛ فقال إلا مريض بصوت خافت متهافت:
أقسم لك يا سيدي (البارون) أن المسألة خرافة؛ فليس هناك قوى سحرية ولا شبه ذلك، فالقطعة الفضية لا فرق بينها وبين حدوة الفرس.
إن سر المسألة: ثقة الرجل بنفسه، وهذه الثقة هي قوة الحب. ولا مخلص لامرأة حسناء من قبضة رجل يثق بنفسه، وإذا وثق الرجل بشيء وثقت المرأة به. إنك ستكذبني وستذهب إلى السيدة التي تريدها وأنت فاقد الثقة بقوتك الحقيقية، وهي القوة الكامنة في عينيك ولسانك وشخصيتك فتفقد كل شيء، ولذا. . . ولم يكد يتم الكيميائي الشيخ حديثه حتى ضربه (البارون) بجمع يده على رأسه يريد أن يسخر منه.
ولكن الرجل قد مات والحقيقة على شفتيه لأن الناس دائماً لا يصدقون الحقيقة!.
(السودان)
سيد أحمد قناوي