المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 761 - بتاريخ: 02 - 02 - 1948 - مجلة الرسالة - جـ ٧٦١

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 761

- بتاريخ: 02 - 02 - 1948

ص: -1

‌محمد إسعاف النشاشيبي

أهكذا، وفي أسرع من رجع النفس يسكت اللسان الذليق، ويسكن العصب الثائر، ويخمد الذهن المتوقد، ويقف الفؤاد الذكي، ويصبح النشاشيبي نفيا في الصحف وخبرا في البلاد، وحديثا في المجالس، لا يقول فنسمع ولا يكتب فنقرا؟!

أهكذا وفي مثل ارتداد الطرف يترك النشاشيبي قلمه سائلا بالمداد، وكتبه مهيأة للطبع، ومجلسه مشتاقا للسماع، ومجلته منتظرة (للنقل) ويذهب إلى حيث لا يرجع ولا يكتب ولا يتحدث؟!

سبحانك يا رب! شعاع أرسلته ثم رددته، وروح ثنته ثم أعدته، وظل بسطته ثم قبضته ولواء رفعته ثم خفضته وبنو آدم العاجزون الضعاف لا يملكون أمام أمرك البادي وسرك المكنون إلا أن يشكروا على العطاء والأخذ، ويحمدوا على المحبوب والمكروه!

كنت ثالث ثلاثة استبقاهم الوفاء بجانب إسعاف في ساعاته الأخيرة؛ وكان الطبيب واقفا يصف الدواء وينظم العلاج ويرشد الممرضة؛ وكان المريض جالسا في سريره حاضر الذهن حافل الخاطر يغالب انبهار النفس من الربو، ويجاذب المواد مارق من الحديث: فهو يضع لسانه حيث شاء من نوادر اللغة، وطرائف الأدب، فينتقل من الكلام في (ليس غير) إلى الكلام في ترجمة (حوتة) لقصيدة خلف الأحمر، حتى إذا سمع الطبيب يصف له البنسلين قطع الحديث وقال بلهجته المعروفة: أنا اكره البنسلين لأنه أنقذ تشرشل! فقلنا له: ونحن نحبه لأنه سينقذ أبا عبيده! وكانت مظاهر العزم في حديث (أبي عبيده) توسع في أنظارنا فسحة الأمل، وتصرف عن أذهاننا فكرة الخوف فلم يدور في خلدنا أن المنية كانت مرنقة فوق سريره تنتظر أنفاسه المعدودة أن تنقضي، وألفاظه المسرودة أن تنفد، فلم يكد السامر ينفض والساهر ينام حتى ختمت على فمه المنون فسكت سكوت الأبد!

ولد محمد إسعاف بن عثمان النشاشيبي بالقدس حولي سنة 1882 في أحد البيوتات التي تجاذبت السيادة على فلسطين، وكان أبوه من ذوي الثراء والدين والخلق فنشاه على الطباع العربية الأصيلة من جراء القلب وصراحة الرأي وحرية الضمير. ثم أراد أن يجمع له أطراف المجد بالعلم والمال فبعث به إلى المدرسة البطر بركية ببيروت فشدا شيئا من مبادئ الآداب والعلوم، ثم انقلب إلى أبيه، وكان يومئذ وحيده فنظمه بالعمل في سلكه، ونزل له بالبيع عن اكثر ملكه. واخذ إسعاف يتقلب في ظلال أبيه على مهاد النعيم والخفض حتى

ص: 1

تزوج أبوه زوجه أخرى، ورزقه الله ولدا آخر، فأراد إسعافا على أن يرد إليه ما أعطاه ليكون شركة بينه وبين أخيه، فأبى إسعاف أن ينزل عن شئ دخل في رزقه واصبح من حقه. . . وانشقت العصا بين الأب وابنه، فخرج إسعاف من كنف الأبوة مغاضبا يضطرب في المعاش ويسعى على نفسه، ومنذ ذلك اليوم عرف إسعاف الهم وذاق الألم وكابد البؤس. كان يعمل ليلهو فاصبح يعمل ليعيش؛ وكان يقرا ليلذ فاصبح يحيا ليموت. وولى أبوه غفر الله له وساطة الناس أذناً صماء فلم يعنه على تكاليف العيش بتمكينه من ريع أرضه، فذهب يستقطر الرزق من تعليم العربية في بعض المدارس. وكان يعول بعض الضعيفات من أهله. فتحمل في سبيل ذلك رهقا شديدا بقى أثره بارزا في نفسه طيلة حياته، تعاوده ذكراه في سكينته فيضطرب وفي لذته فيتألم. ثم حسم الله الخلاف بينه وبين أبيه بالموت. فوضع إسعاف يده على نصيبه من الثراء العريض وعاد إليه الحظ باسما بتملقه ويعتذر إليه. فتلقاه الكادح المحروم كما يتلقى الثري المكروب ماء المزن وفي القدس شيد قصره المنيف ليكون مثابة للأدباء ومجمعا للأدب، ثم اقتنى مكتبة من انفس الكتب وأندرها واقبل عليها وهو لا يزال في ربيع العمر فقتلها علما وفهمها وتدقيقا وتعليقا واختيارا واستظهار فلم يترك كتابا مما أخرجته المطابع أو نسخته الأقلام في القديم والحديث إلا قراه وعلق عليه واستفاد منه، ثم وقف بعد ذلك نفسه ووقته وجهده على دراسة الإسلام الصحيح في مصادره الأولى، وتحصيل اللغة وعلومها وآدابها من منابعها الصافية، وأعانه على ذلك قريحة سمحة وبصيرة نيرة وحافظة قوية وذوق سليم، فكان أية من آيات الله في سعة الاطلاع وكثرة الحفظ وتقصي الأطراف وتمحيص الحقائق. ثم جلس على مكتبة كما كان يجلس ابن دريد. عن يمينه زجاجة فيها مداد القلم، وعن يساره أخرى فيها مداد الفكر واخذ يعسل كما تعسل النحل إذا امتلأ جوفها بالرحيق وفاضت بهذا العسل المصفى انهر الصحف والمجلات في الشام ومصر فاشتاره القراء متنوع الطعوم مختلف الألوان متعدد الأسماء ولئن سألوا لمن هذا الشراب أعياهم أن يجدوا الجواب في إمضاءاته الرمزية من نحو (ن) و (أزهري المنصور) و (* * * *) و (السهمي)؛ لأن النشاشيبي لم يكتب للشهرة والمجد، إنما كان يكتب للعصبية والعقيدة. اخلص لله فاخلص لقرآنه، واولع بمحمد فأولع بلسانه. فإذا جلس إلى الناس في القدس أو في دمشق أو في القاهرة كان مجلسه ندوة

ص: 2

علم وأدب وفكاهة، لا تذكر مسالة إلا كان له عنها جواب، ولا تثار مشكلة إلا اشرق له فيها رأى، ولا تروى حادثة إلا ورد له عليها مثل، ولا يحضر ندوته أديب مطلع إلا جلس فيها جلسة المستفيد، ثم كان في غير مكتبه ومجلسه يشارك في معارف فلسطين بعمله، وفي المحافل الأدبية بخطبة وفي المساعي الخيرية بماله. ثم اقلع منذ أربعة عشر عاما عن شهوات الجسد فلم يبق له من لذاذات العيش إلا الكتاب العربي والسكارة التركية. ولكن إسرافه على شبابه أعقبه علة في شعاب الرئة جرت إليه الربو؛ واصطلحت هاتان العلتان على القلب طيلة عشر سنين حتى أضعفتاه، ومن هنا جاءت منيته.

كان النشاشيبي جاد الله بالرحمة ثراه رجل وحده في الأسلوب والخط والحديث والتحصيل اسلبه عصبي ناري تكاد تحس الوهج من الفاظه، وتبصر الشعاع من مراميه. وخطه نمط عجيب بين الكوفي والتعليق لم يأخذه عن أحد ولم يأخذه منه أحد. وحديثه نبرات قوية تبرز الألفاظ، وحركات سرية تمثل المعاني، وانفعالات شتى تتعاقب على قسمات وجهه وأصابع يده. وتحصيله عجب من العجيب؛ لا تستطيع أن تذكر له كتابا من كتب العربية لم يقراه ولا بيتا من شعر الفحول لم يحفظه، ولا خبرا من تاريخ العرب والإسلام لم يروه، ولا شيئا من قواعد اللغة ونوادر التركيب وطرائف الأمثال لم يعلمه، فهو من طراز أبي عبيده والمبرد ولذلك كان اكثر ما يكتب تحقيقا واختيارا وأمالي. ثم كان إلى كل أولئك متواضع النفس فكه الأخلاق لطيف الروح، نفاح اليد، عفيف اللسان، مأمون المغيب لا يتعزز بحسبه ولا يطاول بماله، ولا يباهي بعلمه، ولا يفخر بشيء مما يتمدح به الناس إلا بالانتساب إلى العرب والانتماء إلى محمد! أن النشاشيبي كان خاتم طبقة من الأدباء اللغويين المحققين لا يستطيع الزمن الحاضر بطبيعته وثقافته أن يجود بمثله فمن حق المحافظين على التراث الكريم، والمعتزين بالماضي العظيم، أن يطيلوا البكاء على فقده، وأن يرثوا الحال العروبة والعربية من بعده!

أحمد حسن الزيات

ص: 3

‌عود إلى مسألة العقل

للأستاذ عباس محمود العقاد

تلقيت تعليقين على مقالي السابق في الرسالة حول مناقشة الأستاذ نقولا الحداد في مسالة العقل والدماغ.

أول هذين التعليقين ينبهني إلى مسائل أخرى في مقال الأستاذ الحداد لم أتناولها بالرد، وهي كثيرة لا تنحصر في اصل العقل وعلاقته بالدماغ.

والتعليق الثاني يشير إلى قولي في ذلك المقال: (المعقول أن الإنسان تكلم لأنه فكر، وليس بمعقول انه يفكر لأنه يفكر لأنه يتكلم) ويسألني مزيدا من الإيضاح لرأي السلوكيين في هذا الموضوع.

أما أنني تناولت مسالة العقل دون غيرها من المسائل التي تضمنها مقال الأستاذ الحداد في عدد (المقتطف) الأخير فذلك صحيح وسببه إنني أردت التمثيل بطريقة الأستاذ الحداد في التفكير ولم أرد أن أتعقبه في كل فكرة وكل دليل.

فالأستاذ الحداد رجل فاضل مطلع على الآراء العلمية محب للبحث على الطريقة التي يسميها بالطريقة التجريبية، ولكنني احسبه - من كلامه - لم يشغل نفسه كثيرا بالمباحث الفلسفية، ولم يعود عقله أن يعطيها حقها من التقدير الواجب والتأمل الطويل. ولا يعاب الأستاذ على ذلك لأن الناس جميعاً لم يخلقوا لمباحث الفلسفة ودراساتها، بل حسب العارف من المعرفة ما تهيا له وجنح إليه بطبعه واستعداده، وإنما يؤخذ عليه أن يقدح في معرفة لم يملك أسباب الحكم عليه وأن يتصدى لرأي من الآراء بغير عدته التي تعينه على نقده وتمحيصه.

ولا نريد في هذا المقال أن نتعقب كل ما كتبه الأستاذ الحداد في مقاله بالمقتطف فربما أغنانا عن ذلك زيادة مثل أخر على انفراج الشقة بين طريقته الفكرية وبين الموضوعات التي يتصدى لها بغير عدتها.

فالأستاذ يستغرب مثلا قولنا (إن الموجود غير المعدوم) ويتساءل: (أي معنى تفيده عبارة غير المعدوم زيادة على الموجود؟ أليست عبارة غير المعدوم مرادفة لكلمة الموجود لا مفسرة لها؟ بل أليست كلمة موجود أوضح من عبارة غير المعدوم؟. . .)

ص: 4

فلو أن الأستاذ الحداد كلف نفسه أن يراجع تعريفا واحدا من التعريفات المصطلح عليها لاستغنى عن هذه الأسئلة وأعادها إلى نفسه ليعلم إنها لا تبطل شيئا مما أراد إبطاله.

فتعريف الجزيرة مثلا هو إنها قطعة من الأرض يحيط بها الماء من جميع الجهات. فماذا نفهم من قطعة الأرض التي يحيط بها الماء إلا إنها الجزيرة؟.

وتعريف الخط المستقيم مثلا هو انه اقرب موصل بين نقطتين فماذا نفهم من اقرب موصل بين نقطتين إلا انه الخط المستقيم؟ هل تطالبني بإفهامك ما هي النقطة قبل أن تسلم بالوصل بين النقطتين؟ هل تطالبني بتعريف الجهات حول الدائرة أو حول المثلث أو حول المربع أو حلو المستطيل إذا كانت الجزيرة على شكل من هذه الأشكال؟.

كل ما يطلب من التعريف انه ينفي الالتباس ويحصر الصفة. فإذا قلت لي ما هي مزية وصفك الموجود بغير المعدوم؟ فهذه المزية هي إننا نخرج من هنا (غير المحسوس) و (غير المفهوم) و (غير المدرك) وغير المعلوم؛ فلا ننفي وجود شئ لأننا لا نحسه أو لا نفهمه أو لا ندركه أو لا نعلمه، ويصبح الموجود بذلك اعم واكبر من أن يلتبس بالمحسوسات والمدركات والمفهومات والمعلومات.

ولو أن الأستاذ احسن تطبيق هذا التعريف لما استطاع أن يقول أن المكان (هو العدم المطلق) كما قال في ذلك المقال.

فعلى طريقتنا نحن نقول أن المكان موجود لأنه غير معدوم ونقيم الدليل على انه غير معدوم بأنه يقاس ويحتوى الموجود ولا عدم لا يقاس ولا يحتوى الموجودات فلا يسعك أن تقول أن مترا مكعبا من العدم اكبر من قدم مكعبة من العدم. ولا يسعك أن تقول أن العدم المطلق يحتوى جميع الموجودات.

ولقد رأينا عقلا من اكبر العقول البشرية - كعقل اينشتين - يكاد يفسر الموجودات كلها بهذا الفضاء الذي يحسبه الأستاذ الحداد عدما مطلقا لا يوصف بمجرد الوجود.

فقد قال انشتين أن كل وصف للأثير يمكن أن ينطبق تمام الانطباق على الفضاء. ومن ثم وضع تلك الصيغة المشهورة عن المادة الفضائية وعنى بها أن الفضاء جوهر وقد يكون مصدر جميع الموجودات. فان مصدر جميع الموجودات من العدم المطلق في رأي الأستاذ الحداد؟

ص: 5

إذا كان رجحان الفكرة إنما يظهر لنا بمقدار ما تفسره من الأشياء التي لا تقبل التفسير بغيرها فالقول بان الفضاء مصدر جميع الموجودات يفسر لنا أمورا كثيرة لا نستطيع أن نفسرها الآن ومنها أن الأفلاك وما فيها من المادة نشأت من السدم الملتهبة. . . فمن جاءت السدم الملتهبة بالحرارة؟ هل جاءت بها منها أو من خارجها؟ فإذا كانت قد جاءت بها منها فقد فسرنا الماء بالماء. وإذا كان الفضاء هو مصدر كل حرارة فليس هو بالعدم المطلق كما يقول الأستاذ الحداد.

وهكذا يجهل الأستاذ الحداد معنى (غير المعدوم) فينتهي به الأمر إلى وصف اثبت الموجودات - أو مصدر الموجودات على هذا التقدير - بأنه العدم المطلق الذي لا يتصور له وجود. .!

أن إظهار الخطأ في مقياس التفكير عند الأستاذ الحداد يغنينا عن متابعة كل اعتراض يعترض به لي وجه التفصيل فذلك عناء يطول كل نقاش بين طرفين يجري على غير قياس.

ولعل هذا التمثيل قد أغنانا عن التفصيل والتطويل.

أما قولنا أن الإنسان يتكلم لأنه يفكر - فمرجعه عندنا إلى الحقيقة المشاهدة في التفكير والكلام.

فالحقيقة المشاهدة أن الإنسان قد يجد الفكرة ولا يجد لها كلاما. ولو كان الكلام هو مصدر التفكير لما وجد الفكر إلا حيث يوجد الكلام.

والحقيقة المشاهدة أننا نجد عقولا رياضية وعقولا فنية وعقولا علمية وعقولا فلسفية، وليس اختلافها في التفكير متوقفا على اختلافها في الكلام.

والحقيقة المشاهدة أن الكلام قد يضيق بأفكارنا فنلجأ إلى التعبير عنها بالرموز أو بتشبيهات المجاز أو بالأنغام والألحان ولو كان هو الأصل في تفكيرنا لما جاشت أنفسنا بفكرة واحدة لم تخلق لها قبل ذلك كلمة أو كلمات. والحقيقة المشاهدة أن كثيرا من المعاني العقلية ليست مما يتمثل للحس ويتسمى بالأسماء، ومنها الأقيسة والمقارنات.

ومذهب السلوكيين ينقض نفسه بنفسه في تعليل التفكير بالقدرة على الكلام. فانهم يزعمون أن الإنسان لم ينفرد بالسلوك أو يتفاعل الغرائز الجسدية التي تجري مجرى التصرف

ص: 6

والتفكير. ولكنهم لا يذكرون لنا لغة للحيوان تصدر منها أفكاره أو تصرفاته، ولا مناص لهم من ذلك أن صح عندهم أن كل تفكير فمصدره لا محالة من الكلام.

وقد ناقش العالم النفساني الكبير وودورث هذا المذهب فساق من الأدلة على بطلانه أن الإنسان قد يقرأ قصيدة طويلة وهو يفكر - أثناء قراءتها - في شئ أخر. وليس ذلك بممكن لو كانت مسالة التفكير مسالة (عضلية) تتحرك فيها العضلات حين تحركها الكلمات.

وفي كتب هذه العلامة وكتب وليام مكدوجال على الخصوص إشباع واف للبحث في مذهب السلوكيين عن التفكير يرجع إليه من أراد التوسع في هذا الموضع.

ونوشك أن تقول أن تعليل التفكير بالكلام قد يكون تعليلا كافياً لأفكار السلوكيين ومن جرى مجراهم؛ ولكنه غير كاف لتعليل كل ضرب من ضروب الأفكار. . .!

عباس محمود العقاد

ص: 7

‌مصاب العرب والعربية

للدكتور عبد الوهاب عزام بك

وزير مصر المفوض لدى المملكة العربية السعودية

روعت الأمة العربية ليلة الخميس حادي عشر ربيع الأول بنعي علم من أعلام لغة العرب، وأديب نابغ من أدبائها، وكتاب مبدع من كتابها. فجعت أمة العرب في ابن بار منحها قلبه ولسانه وقلمه عشرات السنين؛ فما حل بها خطب، أو حز بها أمر إلا تصدى له ينصر امته، ويرمى عدوها بنيران من الكلم، يرمى بها عن قلبه ولسانه وقلمه. وما اتهم العرب متهم، أو ازدرى تاريخهم مزدر، أو تجنى على نعتهم متجن إلا انبرى يشيد بالعرب وتاريخ العرب ولغة العرب دفاع ذي الحفاظ الحر العارف الثبت وما كتب كاتب فجار عن القصد في كلمة من العربية أو قاعدة من قواعدها أو أخطأ في رواية من الشعر أو النثر إلا سارع يرده إلى الصواب، ويقيمه على المنهاج وهو في كل هذا لا يدعي ولا يزهي ولا يجور ولا يفخر بل كثيرا ما كان يخفى نفسه بأسماء يستعيرها وإن دل عليه أسلوبه، ونادت عليه طريقته.

وما ضم نديه جماعة من الأدباء - وما كان اشد حرصه على لقاء الأدباء - إلا أفاض في حديثه ودل على تمكنه في الأدب وسعة روايته، وقل أن ينصرف جليسه إلا بجديد يستفيده في اللغة والأدب.

ما احسب القارئ إلا قد أيقن إني عنيت مدرة العربية، الذائد عنها والمجاهد لها محمد إسعاف النشابيبي رحمه الله رحمه واسعة.

فمن شاء فليقرأ كلمته عن اللغة العربية التي نشرها قبل عشرين عاما، ومن شاء فليقرا كلمته عن شاعرنا شوقي وكلمته عن المعري، وخطته عن صلاح الدين في ذكرى موقعة حطين. ومن شاء فليقرأ رثاءه لإبراهيم هنانو ولعبد المحسن السعدون، ومن شاء فليقرا غير هذه من أثاره ليعرف أي قلب كبير فجع به العرب، وأي قلم فياض صوال حرمته العرب. وأي مدد فقدته الأمة العربية وهي في حومة الوغى. وما عهد القراء بعيد بهذه النقل التي والى نشرها في مجلة الرسالة منذ سنين فعرف بطرف من تاريخنا، ونوادر من أدبنا، وغرائب من سيرنا فملا ثارت الثائرة في فلسطين رأينا نقله في آيات الجهاد وأخبار

ص: 8

المجاهدين لا تدري اجمعها بديهة أم كان لهذا اليوم عدها. ولقد مات رحمة الله وهو ينشر هذه الكلمات تثبيتا للمجاهدين وتوهينا للباغين.

وكان طيب الله ثراه، نسيج وحده، في كتابته وخطابته لا يتقبل أحدا ولا يشبه أحد انم كان صورة نفسه، وترجمان فطرته، ووحي نبوغه وعبقريته.

وحسب الإنسان أن يكون صورة متميزة ونجزة مستقلة واكثر الناس كما قال أبو الطيب:

في الناس أمثلة تدور حياتها

كمماتها ومماتها كحياتها

وكان محمد إسعاف، طاب مثواه، خلقا من الأدب والمودة والوفاء يحرص على أصدقائه ويبالغ في إكرامهم والاحتفاء بهم، وكان إلى ذلك أبياً متجبرا ثائرا أن سيم خسف، أو عرض أحد لكرامته، أو توهم أن أحدا يحاول الازدراء به. هنالك يتجلى العربي الأبي فيما ورث من أخلاق العرب، وما أشربته نفسه من تاريخ العرب وأدبهم.

وكان، رحمه الله، يحرص في بلده على أن يلقى كل أديب يمر به، ويرى فرضا عليه أن يحتفي به ويؤنسه ويدعوه إلى داره. وكم كانت داره ندوة الأدباء ومجمع العلماء، وقد قال فيها بعض أصدقائه:(ولهذا شدتها على الجبل وفي ملتقى السبل، علما على علم وراية للمروءة والكرم).

لقد عظمت فجعة إسعاف على كل من عرفه حق المعرفة، وتبين الفراغ الذي خلفه هذا العربي العبقري، وإن مصيبة العرب كلهم فيك لكبيرة، وإن خسارة اللغة والأدب بفقده لفادحة: ولكن الرجل ترك فؤاده ولسانه وقلمه في هذه الآثار الخافقة النابضة التي يقرا فيها كل عربي وكل متأدب بأدب العرب علم إسعاف، وأدب إسعاف وحماسة إسعاف وجهاده لقومه.

وبعد فحسب الرجل أن جعل مثله الأعلى محمدا صلى الله عليه وسلم، وجعل إعظامه وإجلاله ديدنه وهجيراه. ولقد رأيت في مكتبه من داره لوحا كتب فيه (محمد) وقد علقه على الجدار أمامه يرمقه وهو جالس إلى مكتبة. ولقد قال لي: حسبي هذا الاسم استوحى منه كل خير، واستمد منه كل سؤدد.

وقد حدثني انه كان في أزمة من أزمات حياته يناجي رسول الله قائلا: (يا محمد، خادمك وخادم دينك ولغتك تتركه لنفسه وتسلمه للأحداث).

ص: 9

يا صديقي إسعاف، من لي بقلمك لأرثيك؟ انموا هذه كلمات كتبتها على عجل في هول الفاجعة التي تذهب باللب، ويطيش لها البيان، وان ذكراك لفي قلوبنا وعلى ألسننا وستبقى على أقلامنا ما ذكر الأدب العربي واللغة العربية، وما ذكر تاريخ العرب في العصور الثائرة التي نعانيها.

رحمك الله ورزقنا الصبر في المصيبة، وعوض العرب فيك خيرا.

عبد الوهاب عزام

ص: 10

‌1 - الفتنة الكبرى

للأستاذ محمود محمد شاكر

بادرت إلى قرأت كتاب (الفتنة الكبرى) الذي صنفه الدكتور طه حسين، لأنه أول كتاب له عن رجل من رجاله الصدر الأول من الإسلام، وهو (عثمان بن عفان) أمير المؤمنين وخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأنا اعرف الدكتور مكانه من العلم والتحقيق، وحسن تأتيه في تخريج الكلام؛ فمن اجل ذلك أيقنت انه سيملأ هذه الكتاب علما يضارع قدر هذا الرجل، ويوازن خطر الفتنة التي اضطرم سيرها في أخر خلافته، وانتهى باغتيال خليفة رسول الله اغتيالا لم يعرف تاريخ الإسلام ابشع منه ولا افظع. وقلت لنفسي أن أتجاوز الكلمة الأولى من الكتاب: أن طه خير من يصور للناس هذه الأحداث المختلطة المضطربة، وخير من يهديهم في شعابها إلى مفصل الرأي ومقطع البيان. وقديما ما ضل الناس في بيداء هذه الفتنة المظلمة، وقديما ما أخطأ الكتاب فهم هذه الحادث الجلل، وقديما ما حار الناس في أمر المسلمين الذين ذبحوا خليفتهم كما تذبح الشاة المظلومة، وقديما وحديثا ما خاض الناس فما خاضوا إلا مضلة لا يهتدي فيها سار إلى علم يفضي إلى جادة واضحة أو إلى غاية معروفة.

رميت بنفسي وعقلي في هذا الكتاب، وأنا على مثل هذه الثقة التي وصفت، وبمثل هذا الأمل الذي أمليت، فما كدت أفرغ حتى رأيت الكتاب كله يختلج بين يدي، ولست احب أن يعرف القارئ لم اختلج الكتاب. فهذا حديث طويل لو بدأت القصة لما عرفت أين انتهي، فأنا طاويه عنه؛ لأني أوثر أن ادع قلبه حيث هو من الاستقرار والأمن والرضى، وأنا افعل هذا وإن شاء هو أن أنشر هذا الذي طويت، وافعله وإن كره لنفسه هذا الاستقرار والأمن من الرضى، وحسب القارئ أن ينظر معي إلى موضعين في هذا الكتاب، لم ينفض عجبي منهما ولن ينفض عجبه حين يقف على خبرهما.

وأسبق القلم فازعم أني أسلم جدلا، كما يقولون، بأن كل الذي أتى به الدكتور طه صحيح في جملته وتفصيله، وأن الصورة التي أراد أن يصور بها تاريخ عثمان رضى الله عنه وتاريخ أصحابه ومعاصريه صحيحة أيضاً في جملتها وتفصيلها، وأزعم فوق ذلك أني لا أخالفه في شئ منها خلافا ما، وإني لو كتبت تاريخ عثمان، وتاريخ الفتنة، لم اقل إلا بما

ص: 11

قال إذ ذكر هذه الفتنة الخبيثة فقال ص109 (فالفتنة إذن إنما كانت عربية نشأت من تزاحم الأغنياء على الغنى والسلطان، ومن حسد العامة العربية لهؤلاء الأغنياء) وأنت خليق أن تنظر في هذا التكرار لهذه الصفة (وفتنة عربية) و (عامة عربية) لتعلم ماذا يريد بهذا التكرار، وما الذي يريد أن ينفيه من شركة أحد غير العرب في دم عثمان وأنت خليق وحري وجدير بان تفعل هذا وأن تتأمل فتطيل التأمل؛ لأنك سوف تلقى بعد قليل شيئا جديد كل الجدة، وحسنا كل الحسن؛ فما تكاد تمضي صفحات حتى ترى بابا في ص131 يبدأ هكذا:

(وهناك قصة اكبر الرواة (المتأخرون) من شأنها وأسرفوا فيها حتى جعلها كثير من القدماء والمحدثين مصدرا لما كان من الاختلاف على عثمان، ولما أورث هذا الاختلاف من فرقة بين المسلمين لم تمح آثارها بعد، وهي قصة عبد الله بن سبا الذي يعرف بابن السوداء. قال الرواة: كان عبد الله بن سبا يهوديا من أهل صنعاء حبشي الأم، فاسلم في أيام عثمان ثم جعل ينتقل في الأمصار يكيد للخليفة ويغرى به ويحرض عليه، ويذيع به الناس آراء محدثه أفسدت عليهم رأيهم في الدين والسياسة جميعا) ثم يقول:(وإلى ابن السوداء يضيف كثير من الناس كل ما ظهر من الفساد والاختلاف في البلاد الإسلامية أيام عثمان، ويذهب بعضهم إلى أنه احكم كيده إحكاما، فنظم في الأمصار جماعات خفية تستتر بالكيد، وتتداعى فيما بينها إلى الفتنة، حتى إذا تهيأت لها الأمور، وثبت على الخليفة فكان ما كان من الخروج ولحصار وقتل الإمام).

فأنت ترى من هذا لماذا أصر الدكتور منذ قليل على أن يصف الفتنة بأنها (عربية) وبان العامة الذين كانوا شرار هذه الفتنة كانوا (عامة عربية) أي أنه ليس لهذا اليهودي الخبيث عبد الله بن سبا يد فيها، وأن ليس لليهود عمل في تأريث نارها. وهذا تخريج بين جدا، لا يخالفنا فيه أحد ولا الدكتور طه نفسه فيما نعلم. ثم يمضي الدكتور في حديثه ليقول بعقب ذلك:(ويخيل إلى أن الذين يكبرون من أمر ابن سبا إلى هذا الحد يسرفون على أنفسهم وعلى التاريخ إسرافا شديداً. وأول ما نلاحظه أنا لا نجد لابن سبأ ذكرا في (المصادر المهمة) التي فصت أمر الخلاف على عثمان، فلم يذكره ابن سعد حين قص ما كان من خلافة عثمان وانتقاض الناس عليه. ولم يذكره البلاذري في انساب الإشراف، وهو فيما

ص: 12

أرى (أهم المصادر) لهذه القصة وأكثرها تفصيلا. وذكره الطبري عن سيف بن عمر، وعنه اخذ المؤرخون الذين جاءوا بعده فما يظهر) واراني مضطر أن انقل لك أيضاً ما قاله الدكتور بعد ذلك في ترجيح رأيه وبيان حجته قال:

(ولست ادري أكان لابن سبا خطر أيام عثمان أم لم يكن؟ ولكني اقطع بان خطره، أن كان له خطر، ليس ذا شان. وما كان المسلمون في عصر عثمان ليعبث بعقولهم وآرائهم سلطانهم طارئ من أهل الكتاب اسلم أيام عثمان. . . . . ولو قد اخذ عبد الله ابن عامر أو معاوية هذا الطارئ الذي كان يهوديا فلم يسلم إلا كائدا للمسلمين، لكتب أحدهما أو كلاهما فيه إلى عثمان، ولبطش به ـأحدهما أو كلاهما. ولو قد أخذه عبد الله بن سعد ابن أبي سرح لما أعفاه من العقوبة التي كاد ينزلها بالمحمدين (محمد ابن أبي بكر، ومحمد بن أبي حذيفة). لولا خوفه من عثمان. . . . ولم يكن ايسر من أن يتتبع الولاة هذه الطارئ ومن أن يأخذوه ويعاقبوه) ثم يقول في ص134 (فلنقف من هذا كله موقف التحفظ والتحرج والاحتياط. ولنكبر المسلمين في صدر الإسلام عن أن يعبث بدينهم وسياستهم وعقولهم ودولتهم رجل اقبل من صنعاء، وكان أبوه يهوديا وكانت أمه سوداء، وكان هو يهوديا ثم اسلم لا رغبا ولا رهبا ولكن مكرا وكيدا وخداعا، ثم أتيح له من النجاح ما كان يبتغى، فحرض المسلمين على خليفتهم حتى قتلوه) ثم يقول: (هذه كلها أمور لا تستقيم للعقل ولا تثبت للنقد، ولا ينبغي أن تقام عليها أمور التاريخ) هكذا يقطع الدكتور الرأي جملة واحدة!!

هذا هو الموضع الأول، أما الموضع الثاني فهو اشد الأشياء علاقة بهذا، ولكن الدكتور قطعه عنه قطعا كريما فترك صفحة 134 ومضى على وجهه في هذا البحث الجليل إلى أن بلغ ص209 لكي يقول:(وهنا تأتي قصة الكتاب الذي يقول الرواة أن المصريين قد أخذوه أثناء عودتهم إلى مصر، فكروا راجعين فهذه القصة فيما أرى ملفقة من اصلها) ثم اختصر قصة الكتاب اختصارا وقال: (كل هذا أشبه بان يكون ملهاة سخيفة منه بان يكون شيئا قد وقع. الأمر ايسر من هذا تلقى أهل الأمصار وعدا من أمامهم فاطمئنوا إليه، ثم تبينوا أن الخليفة لم يصدق وعده! فاقبلوا ثائرين يريدون أن يفرغوا من هذه الأمر وأن لا يعودوا إليه حتى يفرغوا). ثم تبين للدكتور أن إلغاء هذا الكتاب الذي أرسل إلى والى مصر يأمره بقتل رؤوس الوفد الذي جاء من مصر، ليس يحل الإشكال في عودة الوفد بعد أن فصل عن

ص: 13

المدينة راجعا إلى مصر، وتبين له أيضاً أن الغرض الذي ذهب إليه من أهل الأمصار تبينوا أن الخليفة لم يصدق وعده، أي انه كذب عليهم باللفظ الصريح، شئ غير مستساغ فانه سال نفسه كيف تبينوا انه كذب عليهم فلم يعرف كيف يجيب فألقى الغرض كما هو وزاد عليه انهم اقبلوا ثائرين، (فلما بلغوا المدينة وجدوا أصحاب رسول الله قد تهيأوا لقتالهم، فكرهوا هذا القتال وانصرفوا كائدين، حتى إذا عرفوا أن هؤلاء الشيوخ قد القوا سلاحهم وأمنوا في دورهم، كروا راجعين فاحتلوا المدينة بغير قتال) ولكن رأي الدكتور طه وهو خير من يرى الآراء أن الغرض مدخول كله إذا لم يعزز بفرض آخر، ففكر وقدر، ثم نظر ثم قال:(وأكاد اقطع بان قد كان لهم من أهل المدينة أنفسهم أعوان دعوهم وشجعوهم ثم أعلموهم با عزم عليه أصحاب النبي، ثم أعلموهم بعودة المدينة إلى الهدوء والدعة، ثم انضموا إليهم حين حاصروا عثمان). وهذه كلها كما ترى فروض وتخيل، وإقرار أيضاً بما أنكره في أمر عبد الله بن سبا من تنظيم (الجماعات الخفية) التي تتستر بالكيد، فهو ينكر هذه المبدأ هناك ويقره هنا!! ثم يمضي الدكتور في فروض، فرضا من بعد فرض، حتى يريك كيف تعقدت الأمور فجأة إلى أن كان مقتل عثمان، ولكنه يختصر ذلك اختصارا غريباً عجيباً لم اعرف له مثيلا في كل ما كتب الدكتور وفرض وادعى ثم جزم الرأي وقطع به، مما يعرفه اكثر قراء العربية الذين قرأوا للدكتور منذ أول نشأته في الكتابة.

ولست احب أن اقف بك عند شئ إلا عند هذين الموضعين فأنا اكره الإطالة في تفليه كلام الدكتور، خشية أن لا انتهي، فان تحت كل حرف مما كتب علما كثيرا لابد من تفليه وغربلته ورده إلى وجوه الحق التي زال عنها إلى سواها، وأنت ترى إننا اضطررنا اضطرارا إلى الإطالة بالنقل. لئلا يفوت عليك شئ من لب حديث الدكتور وعلمه. وقد بدا الدكتور حديثه في إسقاط قصة اليهودي ابن السوداء عبد الله بن سبا فذكر أن (الرواة المتأخرين) اكبروا من شانها وأسرفوا فيها، وإنها لم ترد في (المصادر المهمة)، وان (ابن سعد) لم يذكرها وأن البلاذري لم يذكرها في انساب الأشراف (وهو فيما يرى الدكتور أهم المصادر)، أن الذي ذكرها هو الطبري (وأخذه عنه المؤرخين الذين جاءوا بعده فيما يظهر) كما يقول الدكتور.

1 -

وبدء الدكتور بقوله. (الرواة المتأخرون) فيه إيهام شديد، متعمد فيما يظهر!! فان

ص: 14

الطبري ليس من الرواة المتأخرين، فهو قد ولد سنة 225 ومات سنة 310 فهو معاصر (البلاذري) وفي طبقة تلاميذ (ابن سعد) صاحب الطبقات.

2 -

أن سيف بن عمر الذي روى عنه الطبري هذه الخبر هو من كبار المؤرخين القدماء، فهو شيخ شيوخ الطبري والبلاذري وهو في مرتبة شيوخ (ابن سعد)، فقد مات في زمن الرشيد، أي فيما قبل سنة 190 من الهجرة فلا يقال عنه ولا عن الطبري انهما من (الرواة المتأخرين) كما أراد الدكتور طه أن يوهم قارئه.

3 -

إن ذكر الدكتور (المصادر المهمة) فيه إيهام شديد وإجحاف جارف، فإذا لم يكن كتاب الطبري من (المصادر المهمة) فليت شعري ما هي المصادر المهمة التي يبن أيدينا؟

4 -

إن الدكتور طه يعلم أن كتاب ابن سعد الذي بين أيدينا كتاب ناقص، وانه ملفق من نسخ مختلفة بعضها تام وبعضها ناقص وبعضها مختصر، والدليل على ذلك مما نحن بسبيله انه ترجم لعمر في 84 صفحة ولأبي بكر في 33 صفحة فلما جاء إلى عثمان، والأحداث في خلافته هي ما يعلم الدكتور طه ويعلم الناس، لم يكتب سوى 22 صفحة فما ذكر علي بن أبي طالب والأمر في زمنه افدح لم يكتب عنه سوى 16 صفحة. هذه على أن في الكلام على طريق ابن سعد في تراجم الرجال شئ آخر غير كتابة التاريخ فانه لم يذكر في هذا الفصل إلا قيلا جدا مما ينبغي أن يكتب لو انه ألف كتابه في التاريخ العام لا في الترجمة للرجال. وهذا شئ يعلمه الدكتور طه حق العلم ولا ريب.

5 -

انه كان من حجة الدكتور في نفي خبر عبد الله بن سبا اليهودي اللعين أن البلاذري لم يذكره، وهو فيما يرى (أهم المصادر لهذه القصة وأكثرها تفصيلا): ثم عاد فنفى أيضاً خبر الكتاب الذي فيه الأمر بقتل وقد مصر مع أن البلاذري ذكره وأطال واتى فيه بما لم يأت في كتاب غيره. ولا ندري كيف يستقيم أن يجعل عدم ذكره خبراً ما حجة في نفيه ثم ينفي أيضاً خبر أخر قد ذكره ولج فيه؟

وهذه الخمسة أشياء كنت استحي أن احدث الدكتور بها أو أناقشه فيها؛ لأنها من الوضوح والجلاء بحيث لا تخفى على رجل مثله خراج ولاج بصير بالعلم احسن البصر، ولكن بقى شئ واحد احب أيضاً أن يتاح لي يوما ما أن اعرفه، وهو: هل كان في نص البلاذري قديما ذكر عبد الله بن سبا اليهودي ثم سقط أو اسقط من الكتاب؟ وهذا لا يتاح لي إلا إذا

ص: 15

وقفت على نسخة قديمة وثيقة من كتاب انساب الأشراف، فان هذه النسخة التي بين أيدينا إنما طبعت في اورشليم، وطبعها رجل من طغاة الصهيونية، وقدم لها مقدمة لم تكتب لا بالعربية ولا بالإنجليزية بل باللغة العربية! وليأذن لنا الدكتور أن نشك اكبر الشك في ذمة هذا اليهودي الصهيوني الذي طبع الكتاب في مطابع الصهيونية في أورشليم. فقد رأينا من قبل رجلا آخر حاطه الدكتور طه يوما ما برعايته وعنايته واستقدامه إلى الجامعة المصرية، وكان يسمى نفسه (أبا ذؤيب) إسرائيل ولفسون، (وهو الآن في فلسطين يجاهد في سبيل الصهيونية) فألف كتابا في تاريخ اليهود في بلاد العرب، وطبع في مصر وقدم له الدكتور طه مقدمة أثنى فيها عليه ثناء بالغا، ومع ذلك فقد وجدنا في الذي نقله من الأخبار، والأحاديث تحريفا وبترا واقتطاعا من نصوص محفوظة معروفة. أفلا يجوز لنا على الأقل أن نشك في أن اليهودي الآخر طابع كتاب البلاذري، يفعل مثل هذا؟ إننا على الأقل نشك ونتوقف هذا إلى أن طريقة التأليف القديمة وبخاصة ما كان على غرار تأليف البلاذري، قد يترك المؤلف فيها شيئا في مكان، ثم يذكره في مكان آخر، وكان أولى أن يذكر في المكان الأول، وهذا شئ يعرفه الدكتور كما نعرفه واحسن مما نعرفه، أفلا يجوز أن يكون البلاذري قد ذكره مثلا في ترجمة (عمار بن ياسر) أو (محمد بن أبي بكر) أو (محمد بن أبي حذيفة) أو رجل من اشترك في هذه الفتنة؟ وهو يعلم أن الذي وجد من كتاب البلاذري قسم ضئيل جدا طبع منه جزء في ألمانيا سنة 1883، ثم تولى اليهودي الصهيوني طبع جزء آخر هو الذي فيه ترجمة عثمان في سنة 1936، ثم طبع جزء سنة 1938 قال الناشر في مقدمته المكتوبة بالعربية أن هناك حوادث جرت في عهد يزيد بن معاوية، هي وقعة كربلاء وموت الحسين (ولم تذكر في ترجمة يزيد بل ذكرهما في تراجم بني أبي طالب، وذلك حسب ما اقتضاه نظام الكتاب وفقا لتسلسل الأنساب) كما قال بنص كلامه أفلا يجوز إذن أن يكون البلاذري قد ادمج أمر عبد الله بن سبا في مكان آخر كما فعل فيما لاحظه وذكره هذا اليهودي؟ كل هذا جائز ولكن الدكتور حين يريد أن ينفي شيئا لا يبالي أن يجتاز كل هذا ويغضي عنه ليقول فيه بالرأي الذي يشتهيه ويؤثره غير متلجلج ولا متوقف.

ثم كيف نسى الدكتور أن من لم يرو خبرا ما ليس حجة على من روى هذا الخبر وبخاصة

ص: 16

إذا كان الرجلان من طبقة واحدة كالبلاذري والطبري؟ بل لعل الطبري أقوى الرجلين واعلمهما وأكثرهما دراية بالتاريخ وتحصيلا له وهو الذي روى عنه انه قال لأصحابه: (أتنشطون لتفسير القرآن؟ قالوا: كم يكون قدره قال: ثلاثون ألف ورقة. فقالوا: هذا مما تفنى فيه الأعمار قبل تمامه. فاختصر لهم في ثلاثة آلاف ورقة. ثم قال لهم: هل تنشطون لتاريخ العالم من آدم وقتنا هذا؟ قالوا: كم قدره؟ فذكر نحوا مما ذكره في التفسير فأجابوه بمثل ذلك فقال: أنا لله!! ماتت الهمم!).

ومن قرأ كتاب الطبري في تاريخه أو تفسيره علم أن هذه حق، وان الرجل كان فارغا للعلم لا يلفته عنه شئ قط، ولا يدع شاردة ولا واردة إلا تقصاها وحققها ورأى فيها الرأي الذي لا يكاد ينقض. والفرق بينه وبين البلاذري لا يخطئه بصير بهذا العلم فليس من الحجة في شئ أن يقال (في عصرنا هذا): أن البلاذري لم يذكر هذا، فيكون ذلك كافيا في الرد على ما ذكره الطبري. وهذا شئ بين لا يحتاج إلى جدال كثير.

وإذن فالدكتور قد اشتط وركب مركبا لا يليق بمثله حين نفى خبر عبد الله بن سبا، وخبر الكتاب الذي فيه الأمر بقتل المصريين بعد الذي قد رأيت من تهافت أسلوبه في البحث العلمي؛ وإذن فالدكتور قد خالف سنة العلم والعلماء في نفي الأخبار وتكذيبها بلا حجة من طريقة أهل التمحيص، بل تحكم تحكما بلا دليل يسوقه عن فضيلة البلاذري وتقديمه على الطبري، وبلا مراجعة للصورة التي طبعت عليها الكتب، وبلا دراسة لنفس الكتب التي ينقل عنها كما هو القول في ابن سعد والبلاذري معا. وإذن فيحق لنا أن ننقل هنا كلمة للدكتور طه نفسه قالها عندما ذكر أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وذكر الخلاف الذي كان بينهم، وذكر أو زعم انهم تراموا بالكبائر وقاتل بعضهم بعضا وزعم انه لا ينبغي لنا أن يكون رأينا فيهم احسن من رأيهم هم في أنفسهم فقال في ص172 من كتابه:

(ينبغي أن نذهب مذهب الذين يكذبون اكثر الأخبار التي نقلت إلينا ما كان بينهم من (فتنة) واختلاف. فنحن أن فعلنا ذلك لم نزد على أن نكذب التاريخ الإسلامي كله منذ بعث النبي لأن الذين رووا أخبار هذه الفتن هم أنفسهم الذين رووا أخبار الفتح وأخبار المغازي وسيرة النبي والخلفاء فما ينبغي أن نصدقهم حين يرون ما يروقنا، وان نكذبهم حين يروون ما لا يعجبنا. وما ينبغي أن نصدق بعض التاريخ ونكتب بعضه الأخر لا لشيء إلا لأن بعضه

ص: 17

يرضينا وبعضه يؤذينا). وهذا حق، ولكن الدكتور يحتج به في معرض الطعن في الصحابة ومعرض القول في نسبة الأخطاء الماحقة إلى أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ثم يعود فيسقط هذا الرأي، ولا يبالي به، ويخالفه اشد المخالفة في معرض رد الرواة الذين رووا لنا خبر الفتنة الخبيثة التي تولى كبرها عبد الله بن سبا اليهودي ولماذا بفعل ذلك لا ندري، بل الحق إننا ندري ولكننا نأبى أن نتعجل القارئ بحكم لم نأت فيه بالبينة التي تدفع كل أقوال الدكتور في قضية هذا اللعين ابن السوداء، فللقارئ علينا حق لا يحل لنا أن نخونه فيه وحقه هو أن يرى حجج الدكتور كلها أولاً، ثم حججنا متابعة ثانيا، ثم نعطيه الحكم ليأخذه أو يدعه على هدى وبصيرة.

وموعدنا المقال الآتي بأذن الله.

محمود محمد شاكر

ص: 18

‌رأي مفتي حضرموت

فيما دار بين عزام باشا والسيد محمد بهجت الأثري

كان السيد محمد بهجت الأثري قد ناقش رأياً ورد في كتاب عزام باشا (الرسالة الخالدة) حول مسالة العدول عن النص إيثاراً للمصلحة، ونشرت هذه المناقشة في العدد 712 من الرسالة، وقد اطلع على هذه المناقشة السيد بامطرف من الكلام بحر موت، وعرضها على العلامة السيد عبد الرحمن ابن عبيد الله مفتي الديار الحضرمية، فأرسل في الموضوع: وهذا هو:

الجواب والله الموفق للصواب أن الحق فيما ظهر لي كان في جانب الأستاذ عبد الرحمن عزام ولكني رايته سلك من الإنصاف ما لا يلزمه حتى اقله إذ لم يزل مع الصواب في قرن فهو في مياسرة الدالة على طيب النية وصدق الإخلاص شبيه بذي الرمة إذ ورد الكوفة فاعترضه ابن شبرمة في قوله:

إذا غير النأي المحبين لم يكد

رسيس الهوى من حب مية يبرح

وقال انه يدل على زوال رسيس الهوى لأن نفى كاد للإثبات فلم ينفصل وقد قال عنبسه حدثت أبي بذلك فقال أخطأ ابن شبرمة وكان لذي الرمة الانفصال إنما هو كقوله تعالى لم يكد يراها والمعنى انه لم يرها وهذه شبيهة بتلك وليس الأستاذ بأول من قال بالعدول عن النص إيثاراً للمصلحة العامة بل له في ذلك السلف الطيب من السادة المالكية والحنفية والشافعية وحسبه من الحنابلة قول أحد أئمتهم وهو العلامة ابن تيميه في منهاج السنة أن الله بعث رسوله صلى الله عليه واله وسلم بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقبلها اهـ.

وقال الشوكاني في المسألة مذهب المنع مطلقا وعليه الجمهور والجواز مطلقا اي وإن خالف المنقول وهو المحكي عن مالك والثالث أن كانت المصلحة ملائمة لأصل كلي أو جزئي من أصول الشرع جاز العمل بها وإلا فلا قال ابن برهان وهو الحق المختار والرابع أن كانت المصلحة طردية قطعية كلية كانت معتبرة وإلا فلا، واختاره الغزالي والبيضاوي اهـ.

ولن يعوز الأستاذ عزام المبرر ولا سيما من الثاني والثالث، وإشهاد الخليفة الثاني

ص: 19

بمراعاتها اظهر من ابن جلا، بل هو قطب تلك القاعدة فلا معنى لاستنكارها وذلك الخليفة الجليل نقطة بيكارها وسنذكر عنه من مثلها ما يشاء الله أن نذكر. منها ما استدل به الأستاذ عزام من قضية الخراج فقد عدل ابن الخطاب عن الآية المحكمة فيه وهي قوله جل ذكره: واعلموا إنما غنمتم من شئ فان لله خمسة وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل أن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شئ قدير وقد قال الأكثرون ومنهم الشافعية إنما فتح السواد عنوة فكان غنيمة لا فيئاً. أما ما نقله الأستاذ الأثري عن أبي يوسف عن ابن الخطاب من احتجاجه على منازعيه بآيات الحشر فانه على الأستاذ لا له أما أولاً فلان آيات الحشر صريحة في الفيء الذي لا أيجاف فيه بخيل ولا ركاب لا في الغنيمة وبينهما بعد المشرقين. وأما ثانيا فان الشافعية يتأولون لابن الخطاب تأويلين أحدهما ما ذكره شراح المنهاج بأنه قسمه بين الغانمين ومنهم أولو القربى ثم استمال قلوبهم فبذلوه له فوقفه على المسلمين ولكن ما نقله الأستاذ الأثري من احتجاج ابن الخطاب بآيات الحشر بقطع خط الرجعة على هذا التأويل لأنه لو كان لم يكن للاحتجاج بتلك الآيات معنى وثانيهما ما ذكره الماوردي في الحاوي وأبو الطيب الطبري في شرح المزني أن عمر عوض الغانمين من ارض السواد وقفه على المسلمين، وهو مثل سابقه ومن أين لابن الخطاب ما يعوضهم به حينئذ عن تلك الأرض الطويلة العريضة وهو الذي لا يدع في بيت المال صفراء، ولا بيضاء إلا بترا منها إلى من يستحق وقال قدامة ابن جعفر في كتاب الخراج اختلف الفقهاء في ارض السواد فقال بعض تحمس ثم تقسم الأربعة الأخماس على الفاتحين كما فعل صلى الله عليه وآله وسلم بخيبر لآية الأنفال المحكمة في ذلك وقال بعضهم إنها إلى رأي الإمام أن شاء جعلها غنيمة وان شاء جعلها فيئا كما فعل عمر بأرض السواد مصر انتهى مختصراً.

وهذا أيضاً لا يتناسب مع ما نقله العلامة الأثري من احتجاج ابن الخطاب بآيات الحشر وقال ابن جرير أن عمرهم أن يقسم ارض السواد بين الغانمين كما تقسم الغنايم ثم قال كيف بالأجام ومنابع المياه والغياض والهضب المرتفع والغائط المنخفض وكيف يصنع هؤلاء بالماء وقسمته أخاف أن يضرب بعضهم وجوه بعض ثم جمع الغانمين فقال لهم ذلك فرضوا أن تقر الأرض حبيسا لهم يولونها من تراضوا عليها ثم يقتسمون غلتها في كل عام

ص: 20

فقال عمر اللهم أني قد اجتهدت وقد قضيت ما علي اللهم إني أشهدك عليهم فاشهد اهـ.

وهو صريح في أنه إنما جمع الغانمين ليتلو عليهم ما رآه وما أداه إليه اجتهاده. وهو من أقوى الأدلة لما ذهب إليه الأستاذ عزام في أن أبن الخطاب إذا وقف به الأمر بين المصلحة والدليل كان من اجتهاده إيثارها عليه لاحتماله التخصيص والتأويل بخلافها وأما قول ابن جرير انهم رضوا فبعيد جدا مع كثرتهم وغيبة كثير من أولى القربى المشروط رضاهم مع شح الأنفس بالأموال بل قد أشار الأستاذ الأثري إلى حصول نزاع بين ابن الخطاب وبعض الصحابة في ذلك مما يدفع ادعاء الرضى، وقال ابن القيم ونازع في ذلك بلال وأصحابه فطلبوا منه أن يقسم بينهم الأرض التي فتحوها فقال عمر: (هذا غير المال، ولكن احبسه فيئا يجري عليكم وعلى المسلمين فقال بلال وأصحابه: اقسمها بيننا، فقال عمر: اللهم اكفني بلالاً وذويه فما حال الحول وفهم عين تطرف ثم وافق سائر الصحابة على ذلك وكذلك جرى في فتوح مصر والعراق وارض فارس وسائر البلاد التي فتحت عنوة لم يقسم منها الخلفاء الراشدون قرية واحدة ولا يصح أن يقال انه استطاب نفوسهم ووقفها برضاهم فانهم قد نزعوه في ذلك وهو يأبى عليهم ثم قال اعني ابن القيم وليس هذا الذي فعله عمر رضى الله عنه بمخالف للقرآن فان الأرض ليست من الغنايم التي أمر الله بتخميسها وقسمتها.

وقوله أن الأرض ليست من الغنايم مبنى على قول ابن الخطاب أن الأرض ليست المال ولكنه مخالف للحقيقة اللغوية وان اخذ به السادة الحنابلة كما في المقنع وغيره من كتبهم أن المسلمين إذ غنموا أرضا فتحوها بالسيف خير الإمام بين قسمتها ووقفها على المسلمين وذهب مالك إلى أن الأرض المغنومة لا تقسم بل تكون وقفا يصرف خراجها ف مصالح المسلمين وقالت الحنفية بتخيير الإمام بين أن يقسمها بين الغانمين وان يقرها لأربابها على خراج أو ينتزعها منهم ويقرها مع آخرين وذهبت الشافعية إلى أن الغانمين يملكونها بانقضاء الحرب وهم اسعد القوم في هذه القضية بالدليل وعليه فدعاء ابن الخطاب على بلال وأصحابه كان بدون مبرر وقد اخرج البخاري عن عمر انه قال: أما والذي نفسي بيده لولا أن اترك آخر الناس ليس لهم من شئ ما فتحت على قرية إلا قسمتها كما قسم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خيبر قال الشوكاني فيه تصريح بما وقع منه صلى الله عليه

ص: 21

وآله وسلم إلا انه عارض ذلك عنده حسن النظر لآخر المسلمين فيما يتعلق بالأرض خاصة فوقفها عليهم

(البقية في العدد القادم)

محمد عبد القادر

ص: 22

‌رجل استأثر به الموت

للأستاذ شكري فيصل

لم اعرف المرحوم العلامة النشاشيبي من قرب، فقد كان اكثر ما عرفه عنه ما اقرأه، له؛ ولم القه أو اجتمع إليه لقاء طويلا وإنما هي صورة مما يتحدث به الناس عنه؛ ولم استمع إليه إلا مرة واحدة في دمشق لعلها كانت في مهرجان المتنبي في عيده الألفي،. . .

واستمعت إلى النبأ الفاجع بوفاته وأنا في هدأة من الليل، احتمي فيه من أذى الناس وعن قصد أو غير قصد. . . فاغرورقت عيناي بالدموع، وندت مني آهة عميقة، وأقفلت المذياع وجلست كما لو كنت أفكر.

ولم يكن بي من حاجة إلى تفكير، فليس اشق على نفسي من أن تلجا إلى التفكير البارد في حرارة المصاب ولوعة الفجيعة، وإنما كان ذلك انسياحاً في عالم من الخواطر تنساب على غير نسق وتمضي في غير نظام.

وتمثلت الأستاذ، وقد لمحته مرة في فندق الكونتننتال في العام الماضي، كتلة من الحيوية على اعتلال الجسم، وغلبة السقم، وتهدم البنيان؛ وغيرة على العربية على قلة الغير، وانعدام النصير، وغلبة التطرف.

وتخيلت صوته في مهرجان المتنبي، لكأني اسمعه الآن. . . دفقة من القلب. يتفجر من نبعه الإخلاص كما يتفجر الماء من العين الثرة الغزيرة، ويسري فيه الوفاء للعربية، ويطغى ويفيض حتى ليملأ كل ما حوله فإذا الذين يستمعون إليه يمضون معه وينساقون في هذه الموجة التي يخلقها صوت متهدج ولكنه قوي عنيف، وتسايرها يد مرتجفة ولكنها بيضاء نقية ويطفو عليها الحق فلا يلبث أن يأخذك الحق بالرضا عنه والقناعة به.

وعرضت في ذاكرتي هذه المقالات، وهذه التعليقات وهذه النقل. . . فكنت كالذي يعرض الثقافة العربية على اختلاف قطوفها وتباين ألوانها، وتعدد ثمرها. . . وانتبهت فجأة: أي ثروة عميقة خسرت الثقافة العربية حين استأثرت الخلود بروح النشاشيبي. . .

إن أصدقاء العلامة المرحوم اقدر على الوفاء بحقه، والذين خالطوه في عواصم العرب في القاهرة والقدس والشام وكانوا يستمتعون بكرم خلقه وكريم فضله اقرب إلى الإحاطة بصفاته والكشف عن نواحي التقدير في هذا الجسم الذي ناء بالمرض وأنما هي كلمة لرجل

ص: 23

كانت تترك كتاباته وفصوله في نفسي إيمانا بحبه للعربية، ووفائه لها إيمانا لا أجده إلا عند القليل القليل. . .

إن الموت ليتخطف هؤلاء الأعلام. . . ولكن النشاشيبي لم يمت. . . فقد صارع الموت الذي كان يندس في كل أعضائه صراعا عنيفا وانتصر عليه في هذه الثروة الأدبية التي خلقها وهذه الآثار التي تركها، وهذه الروح العالية التي كان يفيضها على العربية والعرب، وعلى الإسلام والمسلمين.

أيها الغريب الذي طارده الموت حتى ظفر به بعيداً عن أهله ووطنه. . . . رحمة الله عليك. . . فقد أردت للعربية أن تعيش رفيعة مكرمة. . . فبذلت لها جهدك وكرست لها عمرك وأنفقت فيها حياتك. . . . اجزل الله لك الثواب، وجعلك في الخالدين في جنات النعيم. . . .

(القاهرة)

شكري فيصل

ص: 24

‌ترجمة وتحليل

جزيرة الحب والجمال

بقلم الأستاذ صبحي إبراهيم الصالح

. . . عند مدخل خليج (نابولي) بإيطاليا جزيرة جميلة تسمى (إيسكيا أوحت إلى الشاعر الفرنسي المشهور (الفونس دي لامرتين قصيدة من عيون الشعر، فيها وصف رائع، وخيال خصيب وتصوير دقيق!

اختار الشاعر لوصف الجزيرة انسب الأوقات وأدناها إلى سعة الخيال، فعرض علينا صورة من إيذان الشمس بالمغيب وطلوع القمر بعدها في رفق وأناة فكان مبتكر في تصويره رائعا في خياله.

أصغ إليه وهو يرسل الشعر أنغاماً حلوة في مستهل قصيدته:

1 -

(آن للشمس أن تحمل النهار إلى عوالم أخرى

فاخذ القمر يطلع في الأفق الخالي بلا ضوضاء

وراح - وهو يخترق الظلمات الحالكة -

يلقى برقعا وضاء على جبين الليل!)

فجعل القمر ينتظر رحيل الشمس بنهارها إلى عوالم أخرى لا تحد، ليطلع بليله في أفق خال ما فيه من الناس أحد. وجعله وقورا يتعالى في هدوء وسكون ليبدل دجى الليل نورا فإذا جبينه وضاح بعد أن ألقي عليه برقعة الشفاف، ثم يبدع في إبراز نور القمر فيدعوك إلى الطالة النظر ورجع البصر:

2 -

(انظر من أعالي الجبال إلى أنواره المتموجة

كيف تغرق السهولة كأنها نهر من اللهب،

وكيف تنام في الأودية وتتزحلق على الهضاب

أو تتدفق من بعيد من صدر يتلألأ بالمياه!)

فلو تابعت أنوار القمر كما تابعها (لامرتين) لخيل إليك كما خيل إليه إنها تستطع من وراء رءوس الجبال، فرايتها تشع رويداً رويدا على السهولة، فإذا هي تنساب من فوقها كالأمواج: فتنقلب السهول في عينيك نهرا غزيرا؛ ولكنه نهر من السنة اللهيب لا من

ص: 25

منهمر الماء؛ ورايتها تهبط إلى الأودية وئيدة مسترخية وإذا هي تستلقي عليها كالذي أخذته سنة من النوم: فتستحيل الأودية في عينيك فرشا وثيرة، غير إنها فرش بطائنها من النجم والشجرة لا من سندس وإستبرق؛ ثم رايتها تثب من نومها موفورة النشاط، وتتسلق الهضاب بخفة ورشاقة ثم إذا هي تزحف عليها في دلال كالذي استهواه الجليد فتزحلق عليه: فتصبح الهضاب في عينيك قطعا متجاورات من الجليد إلا انه جليد متناثر الحصى لا من متساقط الثلوج وبعد ذلك تراها تعدو كالسهم إلى مكان سحيق وتطوف في مجهل بعيد، فتبين من شعاعها إنها تحوم حول عيون وينابيع، فتغوص فيها ثم تتفجر من صدرها وتتدفق: فتصير الينابيع في عينيك حسانا باديات النحور بيد أن نحورها تتلألأ بلجين الماء لا بالدر والياقوت!

ويتأمل الشاعر المشهد تأملة الفيلسوف الذي يريد أن يتعمق كل مبهم، ويستبطن كل سر، ويجلو كل غامض ولو كان بعيد المتناول وعر الملتمس، غائبا عن الأبصار - فيرى بعين بصيرته ما لم يره بعين وجهه: يرى ظلا ممدودا ووميضا غامضا، فأما الظل فما مده إلا نتيجة عن منطقة النور وانزواؤه في بقاع الظلام الشاحب نورا وهاجا، وأن يضفي على ليله الفاحم البهيم شعاعاً من نهار لا زوردي بديع، ويزيد هذا الوميض غموضا وريبة وإبهاماً واستغلاقاً انه يعود حائلا خفيفا باهتا ضعيفا حيثما بعد عن العين في فضاء لا يتناهى واتساع لا يحد ومع ذلك فالآفاق تؤثر أن تسبح معه هنالك لتغرق في نوره.

3 -

(والوميض الغامض. . في الظل الممدود

يضفي على الظلام الشاحب شعاعا من نهار لازوردي،

ومن بعيد. . . في فضاء لا يتناهى

يسبح بالآفاق غريقة في نوره الباهت!

ولكن لا مرتين يريد أن يصف الجزيرة وجمالها، لا الشمس وغيابها، ولا القمر وطلوعه، وإنما عرض للشمس في بيت وللقمر في ابيات، ليستلهم من ذهاب النهار بضجته، واقبال الليل بروعته معاني الخلود في قصيدته.

من أجل ذلك عاد إلى الجزيرة بقلبه ووجدانه وقلب البصر بين البحر وبين شطأنه، فوجد البحر عاشقا وألفى الشطئان معشوقة؛ وما كان البحر ليعشقها لولا إنها ساكنة وادعة وهو

ص: 26

عاصف هائج - ولا يغلب العاصفة كالسكون، ولا يهدئ الهياج مثل الوداعة - فليسرع إلى تقبيل أقدامها كلما اشتدت به ريح ولا يحسبن في ذلك ذلة أو صغارا، ولضم بين ذراعيه جزرها وخلجانها كلما أرغى وأزيد، ولا يخافن في هذا لومه ولا عذلاً، ولتدب الحياة في هاتيك الشواطئ، فعشاقها (البحر) ينفخ فيها من روحه، وينعشها بأنفاسه الرطبة الخارجة من أعماق أعماقه. . . .

4 -

(والبحر عاشق هذه الشطئان الوادعة

يهدئ وهو يقبل أقدامها، من عواصفه الهائجة

ثم يضم بين ذراعيه هذه الخلجان والجزر. . .

فتنتعش الشواطئ بنفسه الرطيب. . .)

ولا يفوت الشاعر أن يسجل منظرا عجبا سريع التغير، شديد الانقلاب كثير الالتواء: منظر الموج إذ يتقدم متلاحقا متدافعا، ثم يتراجع متقهقرا مهزوما، ففي تقدمه شوق كشوق المستهام إلى حبيبته ساعة يهذي كلوعة المتحسر ساعة يعود إلى الحقيقة، فيعلم أن الطيف خيال وان الخيال سريع الزوال.

5 -

(ومن بعيد. . . يسر العين أن تتابع منظرا عجباً

فترى الموج يتقدم تارة ويتراجعأخرى

كالمدنف الولهان يضم إليه في هذيانه. . .

عذراءه التي تمثل أمامه ثم نقلت من بين يديه!

وكما رأى بعين بصيرته ما لم يره بعين وجهه، يسمع (لامرتين) بأذن قلبه ما لا يسمعه بأذن رأسه: يسمع لحن الموج والشاطئ إذ يتنفسان بتأوه وأنين أما الموج فيتنفس في تقدمه وتراجعه ويبث في الفضاء شكواه! وأما الشاطئ فيتنفس كلما ارتطم الموج بصخوره ويبث مع الفضاء شكواه! فكلاهما يتنفسان تنفس الصبي الحالم النائم الذي لم يبل الحياة بعد ويبث مع ذلك شكواه!. .

حقا إنها أصوات غامضة لا نعرف مبدأها ولا منتهاها، ولا نصل إلى سرها ولا نجواها؛ ولكنها - على غموضها - تطرب أسماعنا وتشغف اذاننا، وتشفغ اذاننا، وتسعد نفوسنا فهل هي أصداء لألحان السماء؟ أم هي أنفاس الحب ترددها ارض الشاطئ وموج البحار؟

ص: 27

6 -

(اثنان كمثل الصبي النائم إذ يتنفس

بصوت غامض يبث في الفضاء شكواه.

ليت شعري أصدى للسماء ما يطرب منه أسماعنا؟

أم نفس الحب ترددها الأرض والبحار؟

ثم يعود إلى الموج فلا يراه ثابتا على حال، يعلو طورا كالجبال ويهبط يتلاشى، فلا يبقى من لججه شئ، كهذه الإنسان يولد طفلا فيتم تكوينه ويبلغ اشده في الشباب، ثم يضعف مع تصرم الأيام كلما رد إلى ارذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا، ثم يلقيه العجز على فراش الموت فيحتضر بعد أن يبلو الحياة حلوها ومرها ويجرب منها سعدها ونحسها، حتى إذا عجز عنها زهد في أمتع ما فيها وإذا ذاق من لذائذها شيئا ضاق به ذرعا وطلب سواه فما يزال يتحسر على المفقود ويسام من الموجود حتى يطوى اجله في كتاب.

فكأن تنفس الموج أنين الكئيب الذي يحزن على ما فاته من مفقود، لا على ما فقده من موجود فهو ملول مما عرف، راغب فيما لم يعرف وهو من ملله ورغبته يتنفس في ضيق، ويتلوه في حنين!

بل كان كل ما في هذه الطبيعة - لا الموج وحده - يتحسر مثلنا معشر الناس حتى في ساعات الهناء والنعيم!

7 -

(إنه يعلو ويهبط. . . ويولد ثم يحتضر

كأنه ضاق ذرعا بأنواع اللذائذ

وي! كان الطبيعة تتنفس في هذه الليالي

متحسرة مثلنا حتى في ساعات الهناء!)

ويرى الشاعر عند هذا أن الإنسان خلق عجولا، يسرف في أنواع طلبه، ويزيد في ضروب رغبته، ولا يقنع بالحاضر من لذته، فيشيح بوجهه عن قليل بين يديه، حبا لكثير لا يصل اليه، فتضيق عليه الأرض بما رحبت ويعيش كاسفاً باله قليل الرجاء؛ فهو لم يمت فيستريح ولكنه ميت بين الأحياء فينادي لامرتين هذا الميت - وهو في اعتقادي لا ينادي غير نفسه - ليثوب إلى رشده، ويفتح لتيارات الحياة روحه: إذ الحياة لا تضيق إلا بضيق الأنفس ولا تظلم إلا بظلمها، كما لا تتسع إلا بسعتها ولا تشرق إلا بإشراقها. فليفتح الإنسان

ص: 28

للحياة ما استغلق من أبواب قلبه حتى يشعر بأنه حي، أما إذا جعل دونها سدا فلا يلومن إلا نفسه إذا بقى ميت الروح. وليتلق الإنسان لذاذات الليل الحاضر، ومتعه العاجلة بجماع حواسه، حتى يشترك سمعه وبصره وذوقه وشمه وكل عضو فيه في الشعور بالحياة الحقيقية. وليغتنم الليل إذا سجا؛ فإن له لباسا يغشى وحجابا يستر، وظلا يناجي، وكوكبا يهدي. وليسكر بخمرة الغرام. فإنها أشهى المدام: أما إذا لم يفعل فهو في نظر هذا الشاعر ميت الروح حقيق بان يسمع النداء:

8 -

(أيها الميت! افتح روحك لتيارات الحياة

وتلق بجميع الحساسات لذاذات الليل

فظله يناجيك ليسكرك بالغرام وكوكبه في السماء يطلع ليهديك!).

وإن في هذا الإغراء ما كان لمثلي أن يتقبله بقبول حسن ولا كان لي أن اسكت عليه لولا إني أمام قصيدة نصيبي منها ترجمتها وتحليلها، ولولا ما يشفع للشاعر من انه في (جزيرة الحب والجمال) وان له في تلك الجزيرة محبوبة تواعدت معه على اللقاء عند هضبة قريبة واتفقا على أن توقد نارا لتكون منارا يضئ بين الحب فيجد هدى في الاستدلال إلى الطريق. فالشاعر هنا يخاطب نفسه ويصور أحاسيسها قبل أن يخاطب أحداً أو يصور أحاسيس أحد. وإن ما في هذه القصيدة من قوة الروح لعائد إلى إنها نابعة من إعجاب قلب (لامرتين) في شئ من خصوصيات حياته.

فالنتيجة التي يريد أن يبلغها بنظمه هي إحاطة نفسه بشيء من معاني الجمال التي لا تتناهى في الزمان والمكان، وفيما تسمعه الأذان وفيما تبصره العين وفيما تمسه اليد وفيما يحسه القلب، قبل أن يصل إلى موعد اللقاء الذي تبدو فيه الحبيبة من بعيد منحنية انحناءة الزنبقة العطشى إلى الماء، لأنها عطشى إلى لقاء المحبوب، تتسمع كل نامة في الليل وكل حركة وتحسبها خطاه التي تذرع الأرض في سبيله، إليها لتكتحل عينه بمرآها، ويفرح قبلها برضاه.

9 -

(أترى على الهضبة ناراً ترتجف من بعيد

هناك بيد الحب منار يضيء

هناك تنحني الحبيبة انحناءة الزنبقة

ص: 29

وقد أعارت إذناً صاغية تتربص خطى المحبوب!).

هذه (ايسكيا) جزيرة الحب والجمال وصفها لامرتين فاحسن وصفها وسكب روحه كلها في أبياتها، لذلك اخترتها من بين قصائده لأترجمها وأحللها ما استطعت دليلا على إرهاف حسه وصدق شعوره وعمق خياله، ولأسجل إعجاب النثر بشاعر عظيم.

صبحي إبراهيم الصالح

ص: 30

‌مسابقة الفلسفة الطلابية للسنة التوجيهية (3، 4، 5،)

3 -

الحرية

للأستاذ كمال دسوقي

1 -

جون استيوارت مل:

تضافرت ظروف (مل) الشخصية على أن تخلق منه رجلا متعدد نواحي الكتابة، فالتربية الشاقة التي أخذه بها أبوه كما رايت، وتدرجه حتى الرياسة في العمل بشركة الهند منذ السابعة عشرة حتى الخمسين، ثم رفضه الاستمرار في أي عمل بعد أن انحلت شركة الهند الشرقية فيما عدا عضوية البرلمان عن وستمنستر (1865 - 1868) قد أتاح له حتى وفاته سنة (1873) من الفراغ ما تمكن معه من نشر مذهب واسع. يتضمن - عدا كثير من المقالات في مجلة وستمنستر، ونشر مذهب بنتام وأبيه طائفة من الكتب - تكون مذهبا عاما - وان يكن لكل منها فكرته الخاصة.

تعدد شخصية استيوارت مل العلمية من خطر طلاب المسابقة، فانه لن يتحتم عليه أن يلموا بملء المنطق الكبير في مؤلفه الضخم (1843) ولا بملء الاقتصادي بحكم دراسته الأولى في كتابه: الاقتصاد السياسي (1848) ولا بملء الفيلسوف والإنجليزي النزعة في كتابه (النفعية الذي جمع مقالاته (1861) ولا بملء السياسي في كتابه: تأملات في الحكم النيابي (1861) ولا بملء الاجتماعي في كتاباته عن المرآة والدين والمنفعة - إلى آخره - اعني أن الكتاب الذي عن سيدرسه طلاب المسابقة يمكن تفهمه وحده في حدود معلومات عامة عن مل - كما يمكن - ابتغاه الاتفاق والتعميق فصل هذا الكتاب عن بقية آثار مل)

ومع هذا فلن يستطيع طالب المسابقة إلا أن يربط بين (الحرية) وكتاب (النفعية) على الأقل لأن هذا يبدأ حين ينتهي ذاك ومع أن الحرية قد تم نشره أولا (1859) بعد أن كانت فكرته منذ 1854 موضع الدرس والتمحيص والنقد من المؤلف وزوجته فان كتاب (النفعية) ترجع فكرته إلى مقالات قد نشرها من قبل تنقيحا لمذهب أبيه وصاحبه بنتام - ولكنه لم ينشر إلا (1861) - وفوق هذا فان مذهب النفعية لمل - كما يمثله هذا الكتاب - أوسع نطاقا من الحرية، لأنه يشمل الحياة الفردية والاجتماعية والخلقية والنفسية، كما يدخل في

ص: 31

السياسة والاقتصاد ولذا تجد أن الناشرين الإنجليز يقدمون بين يدي مؤلفات (مل) بكتابه (النفعية) وإن كان كتابه عن الحرية أوفرها حظا من الدقة والعناية في دراسته وبالتالي أهم معبرا عن آراء الفيلسوف الخاصة واكثر كتبه ذيوعا.

لقد كان (مل) الصغير. وهو يسمى بذلك تمييزا له عن مل الكبير - أبيه جيمس من اتساع العقل ونفوذ الفكر بما لم يكن كثير من المؤلفين، فحقق الأمل الذي عقده عليه أبوه في اصطناع مذهب النفعية التي ورثه وصاحبه بنتام إياه وان يكن قد خرج به عما قصد إليه بعض الشيء فان المذهب بعد تعديل فيلسوفنا له قد قبله العامة اكثر من ذي قبل، مع انه لم يخل من الغموض والتناقض.

وخلاصة هذا المذهب في كلمة واحدة هي ما يتسع لها المقام هنا - ما تقول به نظرية المنفعة أو مبدأ السعادة من أن الأفعال تكون صوابا بمقدار ما ترمي إلى تحقيق السعادة، وخاطئة بقدر ما تؤدي إلى نقيض السعادة - ويعني بالسعادة هنا تحقيق اللذة وتجنب الألم كما يعني بالشفاء، تحقيق الألم، وامتناع اللذة. ويقوم هذا المبدأ على فكرة اللذة النفسية التي تفترض رغبة الإنسان بفطرته في أن يحقق لنفسه اكبر لذة ممكنة وأن يجتنبها كل ألم، على إلا يتعارض في رغبته مع رغبات غيره، وعلى أساس التضحية بالسعادة الفردية في سبيل سعادة المجموع، والسعادة، العاجلة انتظار لسعادة اكبر منها أجلة. اي تقديم الكيف في نشدان هذه السعادة على الكم وأخذها بأوسع معانيها بالنسبة لكائن متطور.

ولكي تفهم هذه النظرية - وغيرها من نظريات مل - ينبغي أن تقرنها بالنظرية التي يعارضها بها المؤلف قديما وحديثا - فإن مؤلفنا كل حريصا اشد الحرص على أن يميز نظرياته عما يسبقها، وأن يبين وجوه الشبه والخلاف بينها وبين غيرها - كما كنت طريقته في الكتابة أن يشرع بعد تعريف موضوع كتابه - وربما قبله - في نقد النظريات التاريخية السابقة، وتفنيد الآراء الحديثة الشائعة، ثم يعرض لنظريات بنتام وابيه، فيقد من هذه ويعدل ما استحق النقد والتعديل.

فهو في مذهبه النفعي الذي يؤكده ويحوم حوله في كل كتاباته، ويخصص له هذا الكتاب، إنجليزي حق، يتشبث بالواقع والتجربة المستمدة من التاريخ في تطوره والأمور في حقيقتها، ويحمل على المبادئ المثالية العقلية والافتراضات الميتافيزيقية القبلية (السابقة

ص: 32

على التجربة ونظريته هذه في النفعية تعارض - اشد ما تعارض - نظرية (كانت) الأخلاقية، التي تجعل من الضمير والواجب والحدس الأخلاقي أساسا للفعل، فبينما هذه النظرية مثالية تزن السلوك الخلقي بالدافع عليه الذي هو أوامر قطعية يفرضها الضمير والواجب؛ إذا بهذه الأخرى واقعية مادية تزن السلوك بمقدار ما تحقق لنا غايته من سعادة ولذة ومنفعة.

2 -

كتاب الحربية:

ولن يعنينا أن نتبع نفعية (مل) اكثر من هذا، ولكنا نعود إلى حيث قلنا انه حيث ينتهي قوله في هذه يبدأ مقاله عن (الحرية) فقد انتهت به مناقشاته لهذه النظرية إلى توكيد مبدأ على جانب كبير من الأهمية في فلسفته السياسية لأنه لما جعل من المنفعة مقياسا عاما ليقيم الأفعال، والحكم عليها بالخطأ والصواب بما تحمل في غايتها من تحقيق اللذة وتجنب الألم، تبين له أن تمت منافع جماعية هي اكبر أهمية من المنفعة الفردية بكثير، وأنها أولى بأن تكون مقدمة وقاطعة وأن هذه المنافع العمة - مع أن القانون والسلطة يقومان على حمايتها - لابد لها أن تستند إلى تأييد شعور الفرد وعاطفته وتفضيله بمحض أرادته أي إلى حريته.

ولم تنحل المشكلة بذلك حلا حاسما، بل أن النزاع لا يزال قائما منذ اقدم العصور فيما بين الحرية الفردية، والسلطة الاجتماعية نتيجة لتعارض المنفعة الشخصية والمنافع العامة المشتركة بين المجموع، واتخذ هذا الصراع بين المنافع مظاهر شتى يعرض لها بالتفصيل.

فالكتاب ككثير من الكتب قبله لأفلاطون وأرسطو وهوبز وغيرهم التي تبحث في فلسفة السياسة والحرية التي يقصدها المؤلف هنا ليست حرية الإرادة التي ضدها الجبرية في الميتافيزيقا والأخلاق بل الحرية الفردية التي ضدها السلطات الحاكمة في السياسة والاجتماع ومدى ما لهذه الأخيرة من سلطان على الأولى؛ فما نشا عنه على طول التاريخ - كما قلنا - صراع نجد اهم مظاهره عند اليونان والرومان وفي إنجلترا، بين طبقات الأهلين والحكومة أو بين الأهلين أنفسهم.

ذلك أن مشكلة الناس - حين يعيشون في جماعة - انه يلزمهم الخضوع لقانون وضعي، أو

ص: 33

لسلطان المجتمع، حتى يحترم بعضهم حق بعض، وهذه المشكلة الأساسية في الحياة، وإن لم يحسن الناس حلا فيما يرى (مل) وذلك لتعدد الأهواء الشخصية وتعارض المنافع الخاصة والمنفعة العامة، ثم لسعي السادرة وراء مصالحهم الشخصية ومحاولة المسودين تملق هؤلاء السادة بفعل ما يحبون، وما يظن انهم يحبون وبغض ما يكرهون أو يبدو انهم يكرهون ما تزال مشكلة كل عصر وإن كانت تبدو في صور جديدة متغيرة.

وقد تتساءل: ولم تتعارض رغبات الفرد ورغبات المجتمع، وما دخل السلطات الحاكمة في هذا التعارض؟ فاعلم إذن أن الناس يختلفون في رغباتهم كما وكيفما، وأن الناس وإن أتحدث رغباتهم أفرادا، فأنه يتكون من مجموعهم (مجتمع) له هو الآخر رغبته الخاصة التي تختلف عن رغبة كل فرد على حدة - مع انه في حقيقة الأمر ليس إلا مجموع هؤلاء الأفراد - فثمة تعارض أبدا بين رغبات الفرد وبين (مجتمع) الأفراد وتمتد هذه العداوة إلى الحكام أنفسهم بوصفهم ممثلي هذا المجتمع والمعبرين عن رغباتهم، بمعنى أن عداوة الفرد للمجتمع الذي ينازعه لذته ومنافعه تتجسم شخص الحكام أنفسهم القائمين على حمايته وتنعقد المشكلة اكثر حين تتدخل في الأمر رغبات الحاكم نفسه كفرد - بان تكون له لذاته ومنافعه وأهواؤه الفردية - إلى جانب ما يقوم عليه باسم المجتمع.

وباسم هذه الحرية الفردية في التفكير والنقاش واستقلال الشخصية وصلاح المعيشة يتحدث (مل) في الفصول الثلاثة الوسطى من كتابه، فيمهد لها بمقدمة، ويلحق بها تطبيقات مما سيفصل القول فيه في المقالتين التاليتين.

كمال دسوقي

ص: 34

‌فاس عاصمة الأدارسة

للأستاذ مصطفى بعيو الطرابلسي

(تتمة ما نشر في العدد الماضي)

بدأ إدريس في إنشاء هذه المدينة ببناء السور أولا وتشجيعا للعمال لإنجاز مشروعه اشترك بنفسه معهم. ويمكننا أن نستدل من وصف كتاب (زهرة الآس في بناء مدينة فاس) لأبي الحسن الجزنائي لكيفية بناء السور أن المدينة كانت على شكل دائري وأن أبوابها قد تعددت حتى زادت عن السبعة. تزل إدريس وحاشيته في المكان الذي عرق فيما بعد بعدوة الأندلس بعد أن خصص مكان لإقامة المرضى شرقي المدينة حتى تساعد الرياح الغربية على أبعاد رائحتهم وحتى يكون تصرفهم من الماء بعد خروجه من المدينة فلا يصل ضررهم إلى سكانها وكما هي العادة المتبعة في بناء المدن الإسلامية الجديدة شرع إدريس في بناء مسجد الشرفا في عدوة الأندلسيين.

واتبع إدريس خطة حكيمة لتعمير عاصمته الجديدة ذلك انه نادى في الناس بان كل من بنى موضعا أو اغترسه قبل بناء السور فهو له هبة لله فتبارى الناس في ذلك فاكثروا من العمارة ونوعوا في الغرس حتى أصبحت المحاصيل وفيرة مختلفة رخيصة أسعارها مما ساعد على ازدياد عمرانها ما كان يقع في ذلك الوقت من حوادث في الأندلس أبان أمارة الحكم بن هشام مما ترتب عليه هجرة بعض الأندلسيين إلى فاس على اثر ثورة أهل الربض وما أنزله بهم من عقاب صارم.

خصص إدريس لهؤلاء المهاجرين حياً خاصا عرف فما بعد بعدوة الأندلسيين وهو إلى الشرق من المدينة واصبح ينزل فيه كل من ترك الأندلس كما نزل الوافدين عليه من القيروان بحي خاص بهم يعرف فيما بعد بعدوة القرويين فكان مدينة فاس عبارة عن حيين كل منهما بفريق خاص.

وكما هو الملاحظ في نشأة المدن الجديدة فان فاس سرعان ما ازدهرت وأصبحت محط رجال كثير من العلماء والفقهاء حتى ينالوا حظ التقرب من رجال هذه الدولة الجديدة فاشتهر اسمها في الآفاق وأصبحت مقصد مسلمي مراكش منذ نشأنها وعلى كل حال إليها يرجع الفضل في تخليد ذكرى دولة الأدارسة ولولاها ما انتبه إليهم المؤرخ.

ص: 35

ومن محاسن هذه المدينة موقعها الفريد؛ فهي بعيدة عن الصحراء المجسدية وعن البحار وأخطارها ولكنها تتصل بهما بطريق غير مباشر. تتصل بالصحراء بطريق بري وبالبحر بنهر سبوا. ثم أن هذه النهر أيضاً يشقها نصفين وتتشعب جداوله بين دورها وأنحائها ثم يخرج منها وقد حمل أقذارها وبعد أن يدبر رحيها. ولهذا النهر وكذلك ميزة خاصة في مياهه التي تساعد على شفاء كثير من الأمراض وأخيرا يجب إلا ننسى انه إلى القرب منها توجد كثير من مقاطع الأحجار وكميات وافرة من الكلس تساعد على نشاط حركة البناء.

وبعد أن اتم ادريس بناء مدينته اخذ يخرج لغزو ما جاوره من بلاد على فترات متقطعة منتظمة ولكن المنية لم تمهله اذ مات في ريعان شبابه قيل مسموما وقيل انه شرق بحبة عنب فمات. واختلفت الروايات في مكان دفنه فبعضها يقول في مسجد الشرفا بفاس وبعضها يقول انه دفن يجوار أبيه في وليلي. وبموته أخذت دولة الأدارسة في الاضمحلال ذلك أن اولاده قد تقاسموا البلاد مما ترتب عليه وقوع الشحناء والتنافس بينهم ومن ثم إلى انقسام الدولة وتفككها ومما زاد الطين بلة تلك الأخطار التي كانت تحدق بالدولة من الخارج.

فالفاطميون ومن قبلهم الأغالبة في أفريقية والمغرب الأوسط والأمويون في الأندلس وكل بعمل على محوها. وهكذا ترتب على هذا الاضمحلال السياسي اضمحلال حالة مدينة فاس فافل نجمها بعد أن سطع فترة من الزمن واصبح لا يقصدها إلا من أراد التبرك بزيادة بعض قبور الأدارسة لذلك لا نعجب إذا رأينا من الأمثلة المشهورة (فاس بلد بلا ناس).

أما لماذا اختارت إدريس الثاني هذه التسمية (فاس) لمدينته فقد تعددت في ذلك الروايات وان اختلف بعضها في التفاصيل فان اغلبها قد اجتمعت على وجود مدينة قديمة قبلها قد طمرت معالمها وانمحت أثارها حتى جاء إدريس الثاني فجددها في شكل مدينة فاس. فقيل أن هذا الاسم قد اختاره لها إدريس عقب ذهابه لرؤية المكان الذي تم اختياره إذ صادفه رجل اسمه على انه (فاس) فسمى المدينة باسمه. ولكن هذه الروايات ضعيفة، ولا يمكن الأخذ بها. ويرى صاحب الدرر السنية ويشاركه في هذه الرواية الجزنائي أن احسن ما يمكن أن نعلل به هذه التسمية أن الإمام إدريس عندما خرج لمعاينة المكان الذي اختير لمشروعه مر به شيخ كبير من رهبان النصارى قد زاد عمره على المائة والخمسين سنة

ص: 36

كان مترهبنا في صومعة قريبة من تلك الجهة؛ فوقف على مولانا ادريس وسلم عليه ثم قال أيها الأمير ما تريد أن تصنع بين هذين الجبلين. قال أريد أن اختط مدينة هنا يعبد اله تعالى بها، ويتلى بها كتابه وتقام بها حدوده. قال أيها الأمير أن لك عندي بشرى. قال: وما هي أيها الراهب؟ قال: انه اخبرني راهب كان قبلي في هذا الدير له منذ توفى مائة سنة انه وجد في كتاب علمه انه كان بهذا الموضع مدينة تسمى (ساف) خربت منذ ألف سنة وانه يجددها ويحيى أثارها ويقيم دارسها رجل من آل بيت النبوة يسمى ادريس، ويكون له شان عظيم وقدر جسيم لا يزال دين الإسلام قائما بها إلى يوم القيامة فقال مولانا إدريس: الحمد لله أنا إدريس وأنا من آل بيت رسول اله صلى الله عليه وسلم وأنا بانيها أن شاء الله تعالى. فلما بناها قيل له: كيف تسميها؟ قال: باسم المدينة التي كانت قبلها (ساف) ولكن اقلب اسمها الأول ونسميها بقلبة وسماها (فاس) وهذه العامة المتفق عليها ولكن في الغالب انه كانت هناك مدينة قد اندثرت معالمها وهذا ما دفع الجزنائي إلى القول (ويدل على ذلك ما رواه البرنس أن رجلا من اليهود احتقر أساس دار من قنطرة عزيلة من المدينة المذكورة. . . فوجد في الأساس قطعة رخام على صورة جارية منقوش على صدرها بالخط الهندي هذا موضع حمام عمر ألف سنة ثم خرب فأقيم موضعه بيعة العبادة)

ويذكر لنا الجزنائي رواية أخرى ينقلها عن صاحب الاستبصار وهي أن الأمام إدريس عندما شرع في بناء مدينته كان يعمل فيها بيده كما سبق ذكره فصنع اله فاس من ذهب وفضة فكان الإمام إدريس يمسكه بيده ويبدأ به الحفر ويختط به الأساسات للفعلة فكثر ذلك على السنتهم طوال مدة البناء فكان الفعلة يقولون هاتوا الفأس، خذوا الفأس، احفروا بالفاس، فسميت مدينة فاس. وربما كان هذه الرواية اقرب إلى الصحة على الرغم من أن الجزئاني لا يأخذ بها ولا يؤيدها بل يعارضها لأنه يرى فيها ما يتنافى مع تمسك الإمام إدريس بعقيدته الإسلامية التي تتنافى مع استعمال الذهب بهذا الشكل وعلى أي حال فان استعمال الذهب أو الفضة بهذا الشكل، ما زالوا معمولا به حتى يومنا هذا عندما يقوم بعض الملوك أو من يمثلهم في الاحتفال بوضع الحجر الأساسي لأية منشاة جديدة لذلك نراه ينتقل إلى ذكر رواية أخرى وجدوا فأسا كبيرا طوله أربعة أشبار سعته شبر واحدة وزنته ستون رطلا من علم الأوائل فسميت المدينة به.

ص: 37

بقيت كلمة صغيرة عن جامع القرويين ذلك انه لما كثر على مدينة فاس الواردون أيام يحي بن محمد بن ادريس كان ممن قدم عليها من القيروان محمد بن عبد الله. الفهري القروي ونزل كما هو المتبع بعدوة القرويين مع اهل بلده. وعند وفاته ترك ابنتين قد تحصل لهما ميراث كثير رغبتا أن تصرفاه في وجوه البر فلما علمتا أن الناس في حاجة لبناء جامع كبير في كل عدوة من فاس لضيق الجامعين القديمين بالناس، شرعت إحداهما في بناء جامع عدوة القرويين أما الآخر فقد تكفلت ببناء جامع الأندلس. وفي سنة 307هـ أزيلت الخطبة من جامع الشرفا لصغره وحل محله في ذلك جامع القرويين لاتساعه وكبره والذي اصبح ملتقى العلماء والطلاب لسماع بعض الدروس الدينية فيه وما زالت حلقاته عامرة إلى يومنا هذا.

مصطفى بعبو الطرابلسي

ص: 38

‌من وراء المنظار

انتقام!

صخاب ثائر لا يقر له قرار، ينبعث صوته الغليظ الضخم من قاع حنجرته فإذا به مثله خوار الثوار إذا اهتاج؛ وانه ليحدث من الضجيج وحده مالا يحدثه نفر من الرجال مجتمعين، وما انبعث جلبة من الشارع في اي ساعة من النهار أو الليل إلا ردها أهل الحي اليه؛ ولا شهدوا زحمة أما دكانه إلا أيقنوا إنها (خناقة) وهو بطلها، ولا وقعت مشاجرة فعلا إلا سألوا من المضروب هذه المرة فما يقع في وهمهم قط إلا انه هو الضارب، وما احسبهم لو رعدت السماء وأرقت إلا ظنوا بادئ الرأي انه بدا إحدى معاركه. . ذلك هو بائع عصير القصب الذي ابتلانا به الله فجعل دكانه تجاه بيتنا يفصل بيننا وبينه الشارع، والذي استغنى به من يخوفون الأطفال عن (البعبع) والغول والدب وأبى رجل مسلوخة واضرابها، ولا عجب فانه والله لحري أن يخوف به الرجال.

فظ غليظ في حدود الأربعين، بين الطول والقصر، متكرش كأنه بطنه قربة سقاه تحت ثوبه تترجرج، ضخم الزندين، متشحم العاتقين، غليظ العنق، منتفخ الأوداج، مترهل اللغاديد، صغير الراس حتى لتبدو عمامته الصوفية البيضاء نصف وجهه، مفتول الشاربين صغير الحدقتين ضيق الجبهة، واسع الفم طويل الأنياب: يحسبك أن تنظر إليه لتوقن أن في بني ادم من ينتسبون إلى الآدمية ظلماً. .

وقف هذا العتل أما دكانه يصفع بيده الغليظة (صبيه) وهو فتى في نحو الخامسة والعشرين قصير غير بدين ولا نحيف، وعجبت إذ رايته مطرقا مسبل العينين وملابس العمل تحت إبطه، لا يتحرك إلا بقدر ما يتحاشى الصفعات واللكمات ولكنها تنزل جميعا على وجهه وقفاه وعاتقيه؛ والمني هذا العدوان وما فيه من فظاظه كما أحزنتني هذه المذلة التي كثير ما يكرب نفسي أمثالها، ولعمرك ما أتألم لشيء ولا اثور لمنظر بقدر ما أتألم وأثور لمرائ إنسان في موقف المذلة حتى لو كان من الأثمين؛ ولطالما سالت نفسي متى اج في شعبنا هذا من الأنفة والحفاظ ما ينسيه ذل القرون وأقول متى يستكبر عامة الناس في هذه الأمة فيتطامن لهم من عليته وغاصبيه المستكبرين؟

وحسبت أول الأمر أن هذا العامل قد اقترف سرقة أو خيانة، حتى سمعته يقول وهو مسبل

ص: 39

العينين في تخشع (عم على. . . . لم تضربني.؟ أنت أخرجتني) وكان أحرى به، أن يقول: يا ايها الغول أو (يا عم الدب) وقال الغول في صوته الفظيع وكأنما يريد أن ينشب أظافره في عنق هذا المسكين (لأنك لا تريد أن تبقى حتى أتى بغيرك).

وامتلأت حنقا وألما لهذا البغي يقع من الغول صاحب راس المال على الفريسة المسكينة ذلك العامل الضعيف، ولو كنت في ملابسي التي اخرج بها إلى الشارع لاقتحمت على الدب كهفه ولو ادى الأمر إلى وقوعه بين أنيابه.

ونظرت فإذا فتى في مثل عمر المضروب وفي مثل قامته وجرمه، يقف أمام الدب ويسأله في عنف والشر ملء وجهه وقد تجمع السابلة والألم في وجوههم جميعا (لم تضرب هذا الرجل؟. .) ونظر إليه الدب نظرة استهزاء ظن إنها حسبه ليخاف وعاد يضرب العامل مبالغة منه في عدم المبالاة فما كاد يرفع كفه حتى نزلت على صدغه هو، اي والله على صدغ الدب السميك، كف ذلك الفتى! ودهش الناس جميعا وتحمس بعضهم فصفقوا وهرول الغول إلى دكانه فاحضر سكنيا، ولكن الفتى باغته بكرسي ألقاه على رأسه، ثم اختطف سكينة واخذ بتلابيبه بيده ورفع السكين بالأخرى قائلا (هيه. . . افتح كرشك يا. .) واخذ الناس السكين من الفتى وخاف البعض عليه من الدب، ولكن ما راعنا جميعا إلا الدب يرتمي على الأرض كأنه جذع شجرة ضخم والناس يصفقون للفتى ضاحكين معجبين. .

ونهض الفحل ثقيلا مستخزيا واستنوق الجمل، وحال الناس بين الفتى وبينه وإن الفتى ليتوثب ويتهدد، ولست ادري لم طرأت على ذهني وقتئذ صورة ديكتاتور إيطاليا وكيف لبث يخوف العالم زمنا حتى اكتشف أمره.

وحسبت أن بين الفتى وبين ذلك العامل المسكين صلة من قرابة أو نسب، ولكن لم يكن بينهما كما علمت شئ من ذلك حتى ولا مجرد المعرفة ونزلت إلى الشارع في ثياب البيت لأقابل البطل إذ يمر ببابنا بعد أن دخل ذلك الجمجاع دكانه لا يلفظ كلمة، ومددت يدي للبطل وقلت (أترضي أن تتخذني صديقا) فضحك وقد فظن إلى أني رأيت كل شئ وقال في تأدب (يا فندم أنا محسوبك) وعزمت عليه فشكرني ومضى وأنا معجب بنخوته أسال الله أن يكثر من أمثاله.

الخفيف

ص: 40

‌الشاعر

للأستاذ طاهر محمد أبو فاشا

(مهداة إلى الطائر الصامت الصديق الشاعر الأستاذ المهدي

مصطفى)

إلى مثله تصبو عذارى الخواطر

وفي يومه تصحو سكارى المزاهر

وفي كل همس حول معناه ضجة

وفي كل معنى منه أقنوم ساحر

ألَّم على الأيام يسقى جديبها

ويبني جديداً فوق أطلال دائر

هو الشعر ما غنى ربيع، وما بكى

خريف، وما اخضلت عيون الأزاهر

تراتيل أنسام، وتسبيح جدول

وانه موجوع، ومصباح جائر

تشهته أم الفجر معنى لضوئه

وعاقره في الليل صمت الدياجر

وودت بنات الزهر لو أن غرفها

من الفن نهب للسوافي الثوائر

وإن حياة لا تحس جمالها

لتكنيف مصفود، وصفقة خاسر

هو الشعر ما كانت حياة، وما جرى

على صفحة المقدور إلهام قادر

تغنت به الآباد من قبل عزفه

كلاماً فجاب الدهر اول عابر

وأرهض للأوتار من قبل عزفه

كلاماً فجاب إلهام قادر

ودقت نواقيس الحياة، وأطلقت

رهابينها في الأرض سحر المزامر

ونادى مناد في السماوات: أو قدموا

كواكبها فاليوم ميلاد شاعر

فضج باعراس السماوات عيدها

وقر على شط الحياة شريدها

تجردت الأنغام فهي عوالم

يترجم أسرار الوجود وجودها

وأقبل رب الشعر في آي موكب

تحف به حور السماء وغيدها

وطاف به جبريل قبل نزوله

إلى العالم المحدود والرض بيدها

فلما دنا من جوهر الشعر زلزلت

به الساحة الكبرى، وماج أبيدها

وقيل له: يا شاعر الكون هذه

هي الجذوة الأولى، وأنت وقيدها

وغوث بالنار القديمة كاهن

ومس بها الدنيا فضاء عمودها

ص: 42

ودب بها معنى جديد، وامرعت

بطائحها الجدباء واخضر عودها

واطلع ساقي الشعر في البيد كرمة

منغمة يحدو الزمان نشيدها

ونادى نبي قومه: تلك واحة

على الأفق عذراء الجنان ولودها

فما آمنت بالشعر إلا لحونه

وران على الأرض العجوز جمودها

وقدر للدنيا الشقاء فألحدت

وجدف غاويها، وضل رشيدها

واشرعت الأطماع فيها ضغائناً

يجادل في معنى السلام حديدخت

وما كدر الأيام إلا ظماؤها

وهل شاب ماء العين إلا ورودها

فلا طاب نفسا بالحياة شقيها

ولا قر عينا بالحياة سعيدها

أنشد في دنيا الحيارى من اهتدى؟!

أفي الحانة الحمراء ترتاد معبدا؟!

هرقت إذن - يا سادن الشعر - لحنه

وأهدرت للغافلين نايا مسهدا

هي الأرض طبع في بنيها. ومن تكن

جبلته الأولى ترابا تمردا

وكم ضارب فيها تعكاز تائه

يعد من الموتى ترابا تمردا

وكانت حياة الناس لولا زحامهم

عليها طريقا للسلام معبدا

فلا تك نجما جاوز الليل وحده

ببيداء فأنثالت أشعته سدى

لمن شارق في الأفق أن كنت لا ترى

وفيم هتاف الورق أن كنت جلمدا

هنالك والدنيا رواية ظالم

إلى وقصة مظلوم، وتلفيق منتدى

وفي ليلة ظلماء ينسل برقها

كما جردت كف الكمي المهندا

وفوق رباة يكمن الدهر عندها

وتبصر فيها - قبل مولده - غدا

دعا ربه الشادي، وأوفى بشعره

إلى العالم الثاني، ومد له بدا

وكف عن الأوتاد فهي نواشز

كأعصاب محموم ألح به الصدى

وقال بنو الموتى: (لقد مات شارعر)

وكيف يذوق الموت من كان مخلدا

بقدر شعور المرء يمتد عمره

وفي حماة الأوهام يردى بنو الردى

وما مات شاد بالجمال، وإنما

إلى عالم الألحان عاد كما بدا

ومن فهو الأيام لحنا مجدداً

قرأت له الأيام لحنا مجددا

طاهر محمد أبو فاشا

ص: 43

‌الأدب والفن في أسبوع

الفنون في المولد النبوي:

كان الأسبوع الماضي أسبوع المولد النبوي، على صاحبه الصلاة والسلام، فقد تعطرت النوادي بهذه الذكرى الحبيبة، وتحلت الصحف والمجلات بما نشرته فيها من الكلمات الطيبات، وأذاعت لها دار الإذاعة برنامجا حافلا استثمر أسبوعا، وقد افتتحه صاحب الفضيلة الشيخ محمد حسنين مخلوف مفتي الديار المصرية واختتمه الأستاذ احمد حسن الزيات بحديث بليغ عن (بلاغة الرسول).

ولا أحب إلى من أن أبدا في هذا الأسبوع بالكتابة في هذه المناسبة الكريمة، مسجلا المظهر الرائع الذي بدا في الاحتفال بالمولد هذا العام، من حيث اتجاه الفنون الجميلة إلى الاشتراك فيه، فإلى جانب الأدب من كتابة وخطابة وشعر، نسمع المطربين يصدحون بالأغاني المؤلفة في مدح الرسول وذكرى مولده ونسمع كذلك التمثيليات الإذاعية والبرامج الخاصة ومما يلفت النظر أن الجمعيات الدينية كالشبان المسلمين والإخوان المسلمين، أدخلت التمثيل في بارمج احتفالاتها، فمثلت على بعض المسارح تمثيليات في تاريخ الصدر الأول من الإسلام. وهكذا تعاونت فنون الأدب والغناء والتمثيل على الحفاوة بمولد الرسول في هذا العام، ولا أقول إنها أكسبته جمالا وروعة، بل هي التي اتخذت منه موضوعا لإبراز جمالها الفني. . . وأي موضوع ادعى إلى الإبداع الفني من ذكرى الحبيب محمد بن عبد الله الذي انتقل حبه إلى قلوبنا على تعاقب الأجيال بتيار رسالته المشعة الهادية واي شئ اليق بالفن من الحب. . .؟

السفينة العربية:

وقد استرعى انتباهي حسن التفات الأستاذ الزيات في حديثه إلى قوله عليه السلام (إن قوما ركبوا سفينة فاقتسموا فصار لكل رجل منهم موضع فنقر رجل منهم موضعه بفاس، فقالوا: ما تصنع؟ قال: هو مكاني اصنع لا فيه ما أشاء فان اخذوا على يده نجا ونجوا، وإن تركوه هلك وهلكوا) وذلك من حيث تطبقه على دنيا الإسلام والعروبة اليوم إلى أن قال بالأستاذ: (وكان الرسول صلى الله عليه وسلم بما أتاه الله من المعية الذهن وإشراق الروح كان ينظر إلى الغيب من ستر رقيق، فضرب هذا المثل الجامعة الدول العربية لعلها تتذكر فتتدبر)

ص: 45

أقول: حيا الله شعب العراق، فقد حال دون خرق السفينة العربية بهبته في وجه المعاهدة التي تهدد سلامة السفينة إذا اختلفت إحدى الشقيقات مع الإنجليز. . . وحيا الله دولتي سوريا ولبنان، فقد أبتا أن تصنعا في مكانهما شيئا برفضهما التعاهد مع الإنجليز حتى ينتهي الخلاف بينهم وبين مصر، وعلى جامعة الدول العربية قائدة السفينة أن تتذكر فتتدبر.

لقد قوض العرب الأولون أركان الدولة الشرقية (الفارسية) والدولة الغربية (الرومانية) وكانت عدتهم في ذلك الوحدة والأيمان والتضحية ونحن ألان لا عاصم لنا من الكتابة الشرقية والكتلة الغربية إلا هذه الصفات، ويخيل إلى أننا أخذنا بالوحدة واقتربنا من الإيمان، ولكنا لا نزال بعيدين عن التضحية لأننا غارقون في الأثرة متعلقون بالرياسة وحب السلامة.

ويوم تتم لنا تلك الصفات تجد (الكتلة العربية) مكانها على قدم المساواة أن لم يكن في موضع المتغلب، وليس هذا اليوم ببعيد،

نشوء القومية في المانيا:

كان (نشوء القومية في المانيا وتصادم النظريتين الألمانية والفرنسية في تعريفها وتحديدها) موضوع المحاضرة الثانية من سلسلة المحاضرات التي يلقيها الأستاذ ساطع الحصري في الجمعية الجغرافية الملكية والتي حدد لها يوم السبت من كل أسبوع.

قال الأستاذ: كانت المانيا في أواخر القرن الثامن عشر إمارات ودويلات متفككة سياسيا وان كانت ذات وحدة لغوية ثقافية ولم يكن أهلوها يشعرون بالقومية، وكان علماؤها وأدباؤها يتجهون في تفكيرهم وإنتاجهم نحو الإنسانية والعالمية فلما قامت الثورة في فرنسا أيدوا ارتياحهم أليها مؤملين أن تقضى على النعرات الوطنية وتهدف إلى تحقيق الخير للبشر ولكن لم يلبث أملهم أن خاب عندما غزاهم نابليون، وفرض عليهم حكما استبداديا لحقت بهم الكوارث من جرائه؛ فشعروا بالحاجة إلى الوحدة والتكتل وبدا المفكرون يوجهون الشعب نحو القومية، وشرع الأدباء والشعراء في إنتاج الأدب الوطني الحماسي الذي جعل لهذه الفترة مظهرا بارزا في تاريخ الآداب.

وكان على راس أولئك المفرين (فخته) الذي دعا إلى محاربة التفرق واضعف والى تعميم

ص: 46

التعليم وتربية الشعب تربية تنتقي فيا الأنانية، وبث في أبنائه أن عليهم رسالة كبيرة يؤديها للبشر عامة، برفع شان وطنهم أولا، ثم نشر الرسالة في خارجه وبهذا مزج بين الوطنية والعالمية، وكان يوجه كلامه إلى سكان جميع البلاد التي تتكلم الألمانية برابطة اللغة.

وأدت هذه الحركة إلى تكوين جامعة الدول الألمانية التي كانت تنظم العلاقة بين هذه الدول وإن كان يحكم كل منها حاكم مستقل وتحققت وحدة اقتصادية وتقدمت الصناعات وقوى الجيش. ووجدت المانيا الفرصة سانحة في الانضمام إلى الحلفاء ضد نابليون فاشتركت في حربه معها، ولكن الحلفاء بعد أن تغلبوا على نابليون عاكسوا الحركة القومية في المانيا زمنا طويلا، حتى قيض لها بسمارك، فعمل على تحقيقها بمختلف الوسائل.

وبعد أن أفاض الأستاذ في بيان ذلك انتقل إلى النقطة الثانية من المحاضرة، فقال انه في خلاف تلك الحوادث نشأت نظريتان في تعريف القومية: النظرية الألمانية القائلة بان القومية كائن حي روحه اللغة الواحدة، والنظرية الفرنسية التي تقول بان القومية ليست كذلك وإنما هي شئ يقوم على مشيئة الشعب، وواضح أن كلا من النظريتين كان يدفع أصحابها إلى القول بها مصالح بلاده فالفرنسيون لا يقولون باللغة أساسا للقومية لأنهم كانوا يريدون أن يضموا جزءاً كبيرا من المانيا إليهم بحيث تكون حدودهم عند نهر الرين، والألمانيين يقفون في سبيلهم داعين إلى وحدة بلادهم وهي ذات لغة واحدة.

واستعرض الأستاذ آراء كل من الطرفين، ثم قال انه كان متأثرا بالنظرية الفرنسية ولكنه بالبحث والتأمل تبين له بطلانها لأن المشيئة ليست أمرا ثابتا محدودا، وارد حوادث دلت على تغيرها، ولأن هذه المشيئة إنما تكون نتيجة للعوامل الأساسية كاللغة والتاريخ، وختم الأستاذ المحاضرة بقوله أن صحة نظرية القومية القائمة على اللغة وفساد نظرية المشيئة، سيتبين بشكل أوضح في المحاضرة القادمة عندما نتكلم على الفكرة القومية في النمسا والبلقان وتأثير اللغة والتاريخ فيها.

الشعر الآن:

رددت الصحف أخيرا قولا للأديب الفرنسي جيد: (إذا وجد في أي بلد شعراء مجيدون وإذا احب أهل هذا البلد قراءة الشعر، فاعلم أن النظام السياسي هناك نظام صالح قويم. أما إذا خلا البلد من الشعراء والنوابغ، وإذا عزف الناس عن قراءة الشعر وترتيله، فاعلم أن

ص: 47

النظام السياسي هناك نظام فاسد معوج. وفي البلد الأول قلما تقوم الثورات والقلائل، وفي البلد الثاني قلما يهدا الناس ويرضون عن حياتهم).

ويبدو لي أن الربط بين وجود الشعراء وإقبال الناس على الشعر وبين استقرار الأحوال واطمئنان الناس في حياتهم 0يبدو لي أن هذا الربط يقوم على اعتبار الشعر ترفا فنيا وعلى ما يسود حياة الناس من هدوء بال وهناءة عيش فيقبلون على الشعر يلتمسون فيه المتعة الفنية او قلق وشظف فينصرفون عن هذا الكمال الفني إلى مسائلهم ومشاكلهم.

ونحن ولا شك من الفريق الثاني والناس عندنا عازفون عن قراءة الشعر من غير شك أيضاً ولكن هل عندنا شعراء مجيدون؟ يتوقف الجواب عن هذا السؤال على تعليل عزوف تعجبهم الضاعة الموجودة؟

أما الشواغل والقلاقل فهي متوافرة، وأما الإنتاج الشعري فليس من السهل إطلاق الحكم عليه.

أحسب أن شيئا من التبعة في كساد الشعر يرجع إلى أولئك النقاد الذين هبوا في فترة ماضية يعيبون على الشعراء العائشين في حياة الناس القائلين في مسراتهم وأحزانهم، ويدعون إلى التجارب الذاتية والتحليق الفني ولهؤلاء النقاد وجهة فنية سليمة إذا نظرنا إلى ما هالهم من التهالك على الرثاء المصنوع والتهاني النتعلقة وغير ذلك مما ليس بسبيل التعبير الصادق، ولكن كانت نتيجة تلك الحركة أن انكشف شعراء المناسبات عن الميدان، وإن كان لا يزال فيه من يوالون تزييف التعبير وقد أصبحت تفاهة صنيعهم معروفة. أما التحقيل فلم يلف أجنحة في اكثر أمره. . . . ومن حلق قصد إلى ترف المشاعر، مزورا عن مضطرب هذه الأمة النكوبة في حريتها وفي عيشتها. ونظر الناس إلى هؤلاء والى هؤلاء شذرا. لأنهم وجدوهم أما بعيدين عن الإجادة أو غير مسددين إلى أهداف المجتمع فكانوا عنهم معرضين وليس الأمر مقصورا على جمهرة القراء، فالإعراض عن قراءة الشعر يشمل الخاصة من المثقفين، ولا اخفي أنني قلما أقع على شعر يقرا، وأكلف نفسي أحيانا أن أقرا شعرا صابرا إلى نهايته ثم أقول في نفسي: أترى هذا الكلام ينشر إذا جرد من الوزن والقافية وكتب نثرا. .؟ والجواب مفهوم طبعا وأذن فنحن نتخذ النظم (جوازا) للنشر ليس إلا. . .

ص: 48

كتب كاتب في إحدى صحفنا الكبيرة (تقريظا) لديوان إخراجه أخيرا شاب يتعلق بالشعر فتمثل الكاتب بما كتبه فيكتور هوجو عن لامرتين عقب نشر أول مجموعة شعرية له، وهو قوله:(لقد ولد لنا الليلة شارع عظيم جديد) فاستبشرت خيرا بمن ولد لنا وهو صاحب الديوان الذي يقرظه الكاتب، ولكنه عفي على ما أملت بإيراده طائفة من روائع شعره فقد نظرت في هذه (الروائع) متخيلا تجردها من الوزن والقافية فوجدتها كالذي وصفت. . وكذلك شأن اكثر من يولدون في هذه الأيام!

وأعود إلى ما أسلفت من انه ليس من السهل إطلاقا الحكم على الجميع، فثمة قلة من الشعراء يرتفع شعرهم عن مستوى الكثرة التي كادت تحملني على القول بان الشعر لقي حتفه، أما الظاهرة الشاملة الملحوظة وهي انصراف الناس عن قراءة الشعر فان خالفتني في تعليلها فلن تختلف في تقريرها.

وموقف الشعراء - في نظري - لا يخلو من ثلاثة: أن يظلموا يقولون لأنفسهم أو يقولوا فيما يعنى الناس وما يعجبهم، أو يسكتوا حتى يفرغ الناس لهم.

معرض الفن الحديث:

في يوم الخميس افتتح المعرض الأول للفن الحديث، لخريجي قسم الرسم من معهد التربية العالي للمعلمين.

والفن الحديث في الرسم ليس شيئا مغايرا للفنون السابقة وإنما يعد تطورا لها، إذ يرى أصحابه أن الأسلوب (الفوتغرافي) في الرسم صناعة آلية لا تغذي الفكر أو العواطف الإنسانية، فهو أسلوب جامد لا يساير الحياة المتحركة، ثم هو لا يتصل بالثقافات الأخرى من علمية واجتماعية وفلسفية. أما الفنان الحديث فقد اخذ بنصيب من هذه الثقافات التي تفاعلت في نفسه مع الطبيعة الفنية، فهو حينما ينتج لا يصور الحياة كما هي، وإنما يضيف عليها من فكره وشحنة من حسه فيتسلل إلى الحقائق والمتناقضات سعيا وراء الافضل، أو هو بتعبير آخر لا يقبل الواقع المائل بل يدرك الواقع المتطور ويعبر عنه، وهو يتحرر من كثير من القيود والأصول المعروفة.

وقد شاهدت المعروضات، وفهمت بعضها (ولا فخر) واستعنت على فهم البعض الآخر بأصحابه الأساتذة العارضين ومع ذلك لم افهم كل شئ. . ولم أحرج لا من مصارحتهم

ص: 49

بذلك، فكانوا يجيبون بان الفنان قد يعبر عن شعور غامض في نفسه أو عن تجربة له لم تتفق لمن لا يدرك مرماه.

وإذا كنا لم تقبل - في الشعر - القول المأثور: المعنى في بطن الشاعر، فهل نقبل - في الرسم - أن يقال: الفكرة في بطن الفنان!

يجب أن توضح معالم هذا الفن حتى يتصل الشعور بين المنتج والمتفرج وأي قيمة لعمل فني فيه الصلة بين المشاهد والفنان. .؟

استعمار الأوبرا:

بدأ الموسم الشتوي للتمثيل في الأوبرا، بتمثيل الفرقة المصرية على هذا المسرح نحو شهر، ثم جلت عنه للفرقة الأجنبية التي تتعاقب عليه. عملت فيه أولاً فرقة (البالية) الفرنسية، وتعمل به ألان الفرقة الإيطاليه، وستعقبها فرقة (الكوميدي فرانسيز) وهكذا تشغل هذه الفرق الثلاث مسرحنا الرسمي اكثر الموسم في الوقت الذي تتعطل فيه الفرق المصرية لأنها لا تجد مسرحا تعمل فيه؟

وتلك الفرق الأجنبية بذلت لها حكومتنا المصرية، إلى جانب مسرح الأوبرا، إعانات كبيرة وأنفق مدير الأوبرا في سفره إلى أوربا في الصيف لاختيارها والاتفاق مع متعهديها مبلغا آخر من المال، ويجمع هؤلاء المتعهدون من (شبال التذاكر) أموالا طائلة قد يذهب بعضها من بعض المتعهدين اليهود إلى الصهيونيين في فلسطين.

ولم كل هذا الإغداق وذاك الاحتلال؟ يقولون: لأن دار الأوبرا تقدم بتلك الفرق للجمهور المثقف نماذج من رائع التمثيل الغربي. .

ألم تر في الأيام الماضية القريبة تلك الصور التي نشرتها الصحف والمجلات لفتيات (الباليه) آلائي يرقصن بأجسام شبه عارية؟ وفي الفرق نحو عشرين فتاة من الفرنسيات، أعمارهن بين الثامنة عشرة والرابعة عشرة. . . أهذا هو الفن الرائع الذي تقدمه الدولة الإسلامية للمثقفين فيها وليكون مدرسة يقيد منها الفن في مصر؟!

ثم ما هو الجمهور الذي يستفيد من هذا التمثيل؟ انه يتكون من صنفين: الأول الأجانب، والثاني الأغنياء الذين يتخذون من مشاهدة هذه الحفلات مجالا للأرستقراطية المزهوة. . . ومعرضا لثمين الفراء ونادر الجواهر.

ص: 50

على أنه إذا فرضنا أن لهذا التمثيل الغربي فائدة تثقيفية فنية فان هذه الفائدة لن تكون إلا كمالي، ونحن أحوج إلى العناية التي تبذل لها في تدعيم الضروري من فن التمثيل المسرحي الذي يكاد يختنق في بلادنا، لأن حياة المسرح المصري أساس لتقدمه فكيف نعمل على تقدمه وهو يحتضر!

لقد كانت فرقة واحدة تكفي 0إن كان لا بد من النماذج الغربية - للعمل شهرا واحدا. ثم تمكن الفرق المصرية من أن نأخذ نصيبها من مسرح الدولة ومن تشجيع الدولة.

وبعد فإلى متى تظل دار الأوبرا مستعمرة للفرق الأجنبية؟ ومتى نضع حدا للاستكثار من الخير للأجانب والمترفين؟

(العباسي)

حول رسائل الصاحب بن عبار:

هذه كلمة اكتبها مضطرا تعليقا على مقال نشره بالرسالة الغراء في عددها 759 الأستاذ محمد خليفة التونسي فقد كتب يصحح نصا ورد في الرسائل كما كتب يصحح فكرة اتصلت باعتزال الصاحب.

ولو أنه كان يصحح نصا حقا واردا في الرسائل أو يصحح فكرة جاءت حقا في مقدمتها ما كتبت هذه الكلمة إذ من حق كل قارئ على ناشر لكتاب قديم أن يراجعه في صحة بعض الألفاظ التي نشرها كما أن من حقه أن يراجعه في صحة بعض أفكاره التي يقدم بها هذا الكتاب.

وهنا يظهر التناقض، فالأستاذ يصحح نصا في الرسائل وليس في الرسائل، أو قل بعبارة اصح انه يصحح لفظه جاءت في إحدى عبارات الرسائل وليست في الرسائل، وكذلك هو يصحح فكرة نسبها الدكتور الأهواني إلى مقدمة الرسائل أو بعبارة اصح إلى المدخل الذي وضع بين يديها، وليست في المدخل.

أما اللفظة التي صححها الأستاذ التونيسي فقد سيقت فيما رواه الدكتور الأهواني من قول الصاحب: (وما في النعم اجل موقعا واهنا مشرعا، من النعمة في القول بالحق والدعاء إليه، والتدين به والبعث عليه، ومهانة من شبة حسن نظره وطوله) فقد تصادف أن كلمة

ص: 51

جهله اصابها خطا مطبعي فكتبت في مقال الدكتور الأهواني هكذا: (جهده) وحينئذ رأينا الأستاذ التونسي يفترض لها فرضين، فهي في رأيه أما أن تكون حقه أو جهله، ورجع أن يكون اصلها (حقه) كما رجح أن تكوم كلمة (فتتابع) ليست كذلك وإنما هي (فتتابع) وأظنه يرى الآن انه ليس هناك داع لكلمة حقه ولا لكلمة تتابع ولو رجع إلى الرسائل نفسها في تحقيق هذه العبارة لكان في غنى عن كل ما أورده في هذا الباب.

والمسألة الثانية التي حاول أن يصححها هي ما جاء على لسان الدكتور الأهواني في مقاله عن اعتزال الصاحب إذ قال: (نستطيع أن نطمئن إلى ما ذكره ياقوت عن عزام بك والدكتور ضيف لا يطمئنان إلى أن الاعتزال (أكان هذا من عمله هو أم من عمل الدولة، فقد كان عضد الدولة يذهب - فيما يظهر - إلى الاعتزال (وأخر كلام الدكتور الأهواني يوهم حقا أن نظن أن اعتزال الصاحب يرجع إلى اعتزال سيده).

ومن هنا ذهب الأستاذ الفاضل التونسي يتحدث تحت تأثير هذا الوهم عن اعتزال الصاحب ولماذا نربطه باعتزال سيده، ثم استطرد يتحدث عن صلة البويهيين بالاعتزال، وهو يشكر على ما بذل في ذلك من جهد لكنا كنا نؤثر أن يعود إلى مقدمتنا للرسائل اذن لعرف انه كان في غنى أيضاً عن كل ما ساقه في هذا الباب.

وقد تكون العهدة في ذلك على الدكتور الأهواني الذي كتب المقال الأول، ولكن ذلك لا يعفي الأستاذ التونسي من حقنا عليه وهو أن يحاسبنا على ما نكتبه لا على ما يكتبه غيرنا وإن بدا انه ينقل عنا. والمسألة - يا سيدي - لم تكن مسألة اعتزال الصاحب إنما كانت مسألة دعوة الصاحب إلى الاعتزال، فقد رأيناه في الرسائل يدعو الناس إلى الاعتزال ولم نره يدعو إلى التشيع، ومعروف أن البويهسسن كانوا متشيعين وكذلك كان الصاحب متشيعا، والمعقول أن نجده يدعو إلى التشيع لا إلى الاعتزال، وقد جعلنا ذلك نبحث عن صلة البويهيين بالاعتزال نوخاصة عضد الدولة التي توجت الوسائل غالبا باسمه، ووجدنا آدم ميتز يقول أن عضد الدولة كان يعمل على مذهب المعتزلة (راجع الحضارة الإسلامية لآدم ميتز بل رجعنا إلى الأصل الذي أشار اليه، وهو كتاب احسن التقاسيم في معرفة الإقليم للمقدس ص439 ووجدنا النص هناك مضطربا لذلك قيدنا فكرة اعتزال عضد الدولة وقلنا فيما يظهر، وأيضاً فأننا حاولنا أن نربط بين دعوة الصاحب إلى الاعتزال وبين عضد

ص: 52

الدولة فربما كان هو الذي دفعه إلى ذلك ونحن نورد ما جاء بمدخل الرسائل في هذه المسالة، جاء:

(وليس في الرسائل ما يدل أي دلالة على أن دولة بني بويه كانت تدعو إلى التشيع. . ونحن نجد في الرسائل نزعة واضحة إلى القول بالاعتزال والدعوة اليه، فقد جاء في الرسالة التاسعة من الباب العاشر (مولاي يتدين بتعديل ربه، ويعرف مواعق اللطف من صنعه ولا يشك في اقتران الصلاح بفعله) وتتكرر فكرة التعديل هذه في الرسائل كثيرا، والغريب أن الصاحب لا يدعو إلى التشيع في رسائله ويدعو إلى الاعتزال! وهناك رسالتان طريفتان في الباب السابع عشر وهما نصان صريحان في انه كان يبعث دعاة له إلى البلدان المختلفة يدعون الناس إلى الدخول في مذهب المتعزلة، ولسنا ندري أكان هذا من عمله هو ام كان عمل الدولة، فقد كان عضد الدولة يذهب - فيما يظهر - إلى الاعتزال، ويعرف التاريخ صلة دائمة بين التشيع والاعتزال منذ كانا. ويظهر أن التشيع اقترن في هذا العصر اقترانا تاما بالاعتزال إذ كان أهل السنة يكرهون التشيع والاعتزال جميعاً).

وأظن قد اتضح الآن أننا لم نرجع اعتزال الصاحب إلى سيده عضد الدولة أننا كنا بصدد مسالة اخرى هي مسالة دعوة الصاحب إلى الاعتزال دعوة رسمية وهل كانت من عمله أو بتفويض من سادته واكبر الظن أن السؤال لا يزال مفتوحا للإجابة عليه وإن كنا نميل - كما يبدو من كلامنا - إلى أنه كان بتفويض من سادته.

أما الصلة التي عرض لها الأستاذ الفاضل بين البويهيين والاعتزال فلعله يوافقه على انه كان متسرعا في تفصيل الحديث عنها وأنها في حاجة إلى بحث عميق واسع، وهو بحث يعتبر جزاء من بحث اكبر وهو بحث الصلة بين المعتزلة والشيعة وخاصة في القرن الرابع قرن الصاحب بن عباد.

وبعد فإني أنتهز هذه الفرصة لتحية أخي الأستاذ التونسي مقدرا ما دعاه إلى كتابة مقاله من محبة البحث واستيفائه، وانه ليشكر على أن أتاح لي هذه الفرصة لأصحح بعض ما جاء في مقال صديقي الدكتور الاهواني وإن له الآخر مني اجمل الشكر والثناء. . .

شوقي ضيف

ص: 53

تصحيح نسبة كتاب:

في الجزء الثاني من كتاب (المفصل في تاريخ الأدب العربي) ترجمة للأمام ابن تيمية.

وقد عادني ما فيها من المبالغة لقراءة الترجمة مرات فكنت اقف في كل مرة عند قول المؤلفين (وبلغت مصنفاته مجلد) قائلا فيمه؟ حتى لفت نظري قولهم (أكثرها في التفسير والفقه والأصول).

لفت نظري ذلك لأن الذي كان معروفا بالفقة والأصول والتفسير انما هو ابن تيمية الجد لا الحفيد وهو المترجم. وما أن تأملت قول المؤلفين (واشهر هذه الكتب منتفي الأخبار!! وفتاوي ابن تيمية الخ حتى آمنت بان هناك خلطا نشا من عدم التفرقة بين الجد الذي هو صاحب (منتفي الأخبار) قطعا وبين الحفيد وهو المترجم.

وإني لأسال عن تلك المصنافات التي ذكروها في التفسير والفقه والأصول. اهي للحفيد حقا كما زعموا أم هي للجد ولكنها نسبت إليه كما كتاب منتقى الأخبار؟

فهل من محقق يزيل هذا الشك؟

محمد الأمين

جوائز فاروق الأول للصحافة الشرقية:

(مؤسسة ادجار جلاد بك)

تذكر إدارة جريدتي الزمان والجونال ديجبت حضرات الصحفيين بقرب حلول موعد الجوائز التي تمنحها (مؤسسة ادجار جلاد بك لجوائز فاروق الأول للصحافة الشرقية) في 11 فبراير من كل عام بمناسبة عيد ميلاد حضرة صاحب الجلالة مولانا الملك المعظم فاروق الأول للصحفيين في مصر والبلاد الشرقية الذين يتفرقون في مهنتهم ولا تزيد سنهم على الثلاثين سنة. وستمنح هذه الجوائز حسب النظام ألان.

100 جنيه للصحفي الذي يكون قد كتب احسن مقال باللغة العربية في موضع وطني.

100 جنيه للصحفي الذي يكون قد قام بأوفى تحقيق صحفي في موضوع عام ونشر باللغة العربية.

100 جنيه للصحفي الشرقي الذي يكون قد كتب احسن مقال بلغة أجنبية (الإنجليزية أو

ص: 54

الفرنسية) في موضوع شرقي.

ويجب أن تكون هذه المقالات قد نشرت في المدة من 11 فبراير سنة 1947 إلى 15 يناير سنة 1948.

ويرسل من المقال المقدم للمباراة ثلاث نسخ إلى إدارة جريدتي الزمان والجورنال ديجبت بالقاهرة وستحكم في هذه المباراة لجنة من كبار الصحفيين وتعلن النتيجة في 11 فبراير سنة 1948. يوم عيد ميلادها حضرة صاحب الجلالة مولانا الملك المعظم فاروق الأول.

المجمع العلمي العراقي الجديد:

أنشئ في العراق هذه الأيام مجمع علمي لخدمة اللغة العربية والنهضة الأدبية على مثال المجمع العلمي العربي في الشام.

وتكون أعضاؤه بمقتضى قانون المجمع من اربعة مؤسسين عينتهم وزارة المعارف هم الشيخ محمد رضا الشبيبي والدكتور فاضل الجمالي، وزير الخارجية العراقية السابق، والدكتور متى عقداوي مدير التعليم العالي في وزارة المعارف، والدكتور هاشم الوتري عميد كلية الطب البغدادية وانتخب الأربعة السيد توفيق وهبي وزير المعارف والأستاذ منير القاضي عميد كلية الحقوق والدكتور شريف عسيران والأستاذ نصرت الفارسي.

وقد اجتمع العشرة لانتخاب مجلس إدارة المجمع ففاز الشيخ رضا الشبيبي بالرياسة (وهو المنتخب حديثا عضوا في مجمع فؤاد اللغوي بمصر) وتوفيق وهبي والدكتور الوتري نائبي رئيس والدكتور جواد علي سكرتيرا.

ص: 55

‌القصص

سعدى التميمية

للأستاذ نجاتي صدقي

لقد شغل هذا الحادث قبيلة بنى تميم الضاربة خيامها على ضفتي الدجلة ردحا طويلا من الزمن ولم يهدا لها بال إلا بعد أن دفع الثمن، وكان غالياً.

ولهذا الحادث صلة متينة بالحب البدوي. . والحب البدري اعنف من الحب الحضري لأنه يقوم على الطبيعة عناصر غريبة من المادة والاجتماع والرياء. . . وهكذا صار للحب البدوي ملكه، وصار للحب الحضري شيطانه.

وزار ملك الحب بيت (سركال) من بني تميم، وصوب السهم إلى قلب الفتاة سعدي وحيدة أبويها فترنحت وسقطت اسيرة الهووى البرئ.

ولسوء طالع سعدي أن يكون فتاها محسن غريبا عن قبيلة بني تميم التي لا تبيح لأحد من غير قيلتها أن يتزاوج من فتياتها؛ فتشاور الفتى والفتاة في الأمر، واتفقا على الفرار، فرحلا إلى بغداد وسكنا في كرادة زوية، وهي ضاحية من ضواحي العاصمة تقع على ضفة الدجلة الشرقية، تحيط بها حدائق غناء وإحراج من النخل الباسقات الشبيهات بسرب من الصبايا الرشيقات.

وإذ كانت سعدى تتقلب بين ذراعي حبيبها وتشعر في جواره إنها اسعد فتاة في قبيلتها. كان أبوها يقلب (الدلة) مقسما بأغلظ الأيمان إلا يقدم لأحد قهوة حتى يمحو العار الذي لصق به وبقبيلته.

ولقب (الدلة) عند بني تميم مغزاه. . فالدلة حي ابريق القهوة، وإذا ما أراد أحدهم أن يثار لنفسه قلب ابريق القهوة رأسا على عقب، وتركه مقلوبا إلى أن ينال بغيته.

وبعد ثلاثة اشهر أفاقت سعدي من سكرة الحب، واخذ ضميرها يؤنبها على فعلتها الشنيعة، وراحت تتصول ما يلاقيه أهلها في القبيلة من عار ومذلة بل ما تلاقيه القبيلة كلها من مهانة واحتقار بين القبائل المجاورة، فارتبكت وجعلت تفكر في مخرج من هذه الكارثة. وللبدوية في حالة كهذه أحد طريقين لا ثالث لهما: أما الاستمرار في الغي أو الاستسلام وكلا الطرفين محفوف بالمخاطر.

ص: 56

أتعود إلى أبيها وتجثو على قدميه تسأله الرحمة والمغفرة أم تواصل حياتها السعيدة إلى جانب شقيق روحها محسن؟

أتعود إلى أبيها وترفع عن كاهله وعن كاهل بني تميم كلهم عبئا معنويا ثقيلا، أم تظل مع (ولفها) تبادله هذه الهفوات الهنوات اللذيذة في العاطفة والأعصاب التي يطلق عليها الناس اسم الحب.

و (الدلة) اتظل طويلا مقلوبة؟

لا تدري سعدى كيف انسلت في صباح أحد الأيام من فراش حبيبها، وهو يغط في نومه وخرجت تتغثر في أذيالها ووجهتها بغداد،

وفي عاصمة الرافدين لجأت إلى بيت أحد الوجهاء من معارف أبيها بمثابة (دخيلة) فقبلها الوجيه مع ما في ذلك من متاعب لا حصر لها.

و (الدخالة) من العادات البدوية القديمة الجميلة، ولا تزال متبعة في العراق حتى أيامنا هذه.

قالت سعدى للوجية (دخيلة) عليك؟. . فرحب بها، ثم عهد إليها أمر العناية بأطفاله إلى أن تتم وساطته مع أهلها.

وقضت سعدى للوجيه (دخيلة) مدة ستة اشهر، والوجيه لا يألو جهدا في الوساطة لدى أبيها. . . غير أن هذا كان يابى دائما أن يعد الوجيه بشيء وكان يطالب بان تسلم ابنته نفسها دون قيد أو شرط. . . أو كما قال للوجية مرة:(لقد خرجت قضية سعدى من يدي، فالقبيلة هي التي تقرر مصيرها. . وما أنا في مثل هذا الظرف إلا منفذ لرغبة بني تميم).

وظلت (الدلة) مقلوبة كما كانت منذ تسعة اشهر.

أما سعدى، فكانت تعنى بأطفال الوجيه. وتقص عليهم القصص اللطيفة، التي تتحدث فيها عن الغزلان، والإبل والسراب، والعواصف الرملية، والرياح السموم، والفقار الوعرة والواحات النضرة. . كما كانت تغنى لهم أغاني تذكر فيها الدجلة والفرات. واليمام، وليالي بغداد، ونسيمها العليل، ونجومها الساطعة.

واستمرت الوساطة، ولكن دون جدوى، وظلت (الدلة) مقلوبة. . وغدت عينا سعدى محمرتين مثل الجمر من قلة النوم، وكثرة البكاء، فهي لم تظفر بعطف أبيها وخسرت حبيبها الذي خيل إليه أن ذويها اختطفوها وقطع الأمل من رؤيتها أو الاجتماع بها إلى

ص: 57

الأبد.

ولما رأى الوجيه أن لا فائدة من الوساطة وأن من الخطر إبقاء سعدى في بيته اكثر مما بقيت، عقد النية على نقلها إلى بيت منعزل في حي (الكاظمين) ولأهلها أن يأخذوها من ذلك البيت إذا أرادوا وليس من بيته. . وبذلك يصبح في حل من مسئولية (الدخالة) الأدبية.

وغادرت سعدى بيت الوجيه وهي تعانق أطفاله وتغسل وجناتهم بدموعها، فيسألونها متألمين: إلى اين أنت ذاهبة يا سعدى؟ كيف تتركينا؟ ومن الذي سيقص علينا القصص الجميلة ويغنينا الأغاني العذبة؟.

فتجيبهم بكلمات ليس لم يفقهوا لها معنى. أني ذاهبة لأرى ما قدر لي، وما كتب على جبيني.

ومكثت سعدى في ذلك البيت المنعزل في الكاظمين ثلاثة ايام تنام على الحصير وتتغذى بالخبز والماء.

وكانت في هذه الأيام الثلاثة لا تنفك تغني هذه الأغنية الشعبية:

هلي يا ظلام هلي

جيبوا لي ولفي إلي

خايبين يا ظلام

ترى الفركة جوت

قلبي جوى

لا يا هلي الظلام

لا رحم عدكم

جيبوا لي ولفي عاد

موش أنا بنكم؟

لا يا هلي الظلام

ماكز مروه

جيبوا لي ولفي عاد

قلبي نجوه

ص: 58

جيت ولقيت الدار

خالي من الأحباب

صين دموع العين

يم عتبة الباب

وفي فجر اليوم الرابع طرق سمع سعدى وقع أقدام وصرير مفتاح. . وهمهمة ودمدمة. . فانتصبت مذعورة فرأت نفسها وجها لوجه قبالة أبيها، واشقائها، وممثلين عن قبيلة بني تميم.

أدركت سعدى لساعتها عاصم القوم عليه، فجئت تبكي، وتطلب العفو لكن يدا قوية أخذتها من ناصيتها، ويدا أخرى أقوى أخذت تسلب النفس وكانت في حشرجتها الأخيرة تقول إنني عذراء. . إنني عذراء!. .

وفي مساء ذلك اليوم أشيع في قبيلة بني تميم أن أبا سعدى عدل (الدلة)!

نجاتي صدقي

ص: 59