المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 762 - بتاريخ: 09 - 02 - 1948 - مجلة الرسالة - جـ ٧٦٢

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 762

- بتاريخ: 09 - 02 - 1948

ص: -1

‌لوعة صديق على صديقه (إسعاف)

للأستاذ محمد عبد الرحمن الجديلي بك

يا زعيم العربية!، ويا إمام المحققين!

أما وقد حُمَّ قضاء الله فيك، وانفض سامرك، وانطوى بساطك، وذوي (نُقلك)؛ فإنني لا أجد ما يصَّبرني عنك، ولا ما يعزيني فيك، إلا أن أستعير من بيانك ما أناجى به روحك العذب، وإلاَّ أن أرثيك، بمراثيك!. . .

ألم تهتف غداة مات (شوقي) بشعر شوقي:

(إنما الدنيا شجون تلتقي

وحزين يتأسى بحزين)

(ضَحِكُ الدنيا احتشاد للبكا

وأغانيها معدات الأنين!)

ولقد استطعتَ أن تُبْهِجَنَا ليلتَك الأخيرة؛ لتُبكينَا أيامَنا الطويلة! ألم ترسل فيه اللوعة المريرة ثم تندبه بقول حبيب:

(أُصيبتُ فيه وكان عندي

على المصيبات أن يُعينا)

(كنت عزيزاً به كثيراً

وكنت صباً به ضنينا)

(آليتُ أنساهُ ما تجلى

صبح نهار لمدلجينا)

ولقد آلينا لا ننساك!!

ألم تبعث فيه الأنين الوفيُّ، ثم تتمثل بقول (أبى تمام):

(تذكرت نضرة ذاك الزمان

لديه؛ وعمران ذاك الفناء)

(وأذ علمُ مجلسه موردٌ

زلال! لتلك العقول الظِّماء)

(وكنتُ أراه بعين الجلال

وكان يراني بعين الإخاء!)

وإننا لنتذكر، ثم نتذكر. . .

ألم تسكب أنت في (شوقي) عَبرَتك الحرَّي، وروحك الملتاع، وشعورك المتأجج، في فقرات من البيان الذي هو نسيج وحده! كما أنت نسيج وحدك! فأخذت تهتف ببنات العروبة؛ ليُسعِدنك يوم (شوقي) بالنحيب، وجعلت تقول:

بلبل (الكرمة) ولّى، أين غاب البلبل؟، بهجة زالت وجاءت وحشة! مِدْرهُ العُرب قضى، يا فتاة العرب!، فالبسي ثوب الحداد اذكريه، اندُبيه، أبَّنيه، بمراثٍ، مشجيات، خالدات!

ص: 1

ولقد حق لنا اليوم أن نهتف في يومك، بما كنتَ تهتفُ به في أمْسَك!

يا كريم الإخاء ويا سيد الأوفياء: إني لأشهدُ هذا الشعر كله على نفسي كما أشهدتَه، وأشهدُ بيانَك الذي أبدعته واخترعته، أن لوعتي عليك لمشبوبة، وإن فجيعتي في علمك وأدبك لا يذهبها كرُّ الغداة ولا مرُّ العشي! وأنى أصبت فيك، وأنك لِمدْرة العرب، وأنك لبهجة زالت. . .

ولقد خدعتْني نفسي، وأنا أصافحك في الليلة الموقوتة، فحسبتُني عائداً لك! غداً أو بعد غد! وإنما خدعتني قوةُ نفسك! ويقظة ذهنك، وأنك تركتَ الطب وراء ظهرك يعالج! وأقبلتَ علينا بوجهك تحاضر! فتقول:

(لقد ذكر القدامى أن الشعراء ثلاثة: المتنبي، وأبو تمام، والبحتري. ثم ذكروا الكتاب؛ فعينوا لنا اثنين: الجاحظ، وأبو حيَّان، فمن هو الثالث؟ ثم تسكت ونسكت!! فلمَّا لم تجدْ جواباً! جاهرتَ، وصحْتَ: (إنه (الزيات)، إنه (الزيات)، إنه أمير النثر والناثرين، وإنه لسيد البلغاء).

فهل حسبنا وأنت تحاضرنا، أنه لم يبق بيننا وبين أن ينطفئ هذا السراج الوهّاج، إلا سويعات! ألا لشدَّ ما تحطّمنا الأقدار، ويسخر منا ومن آمالنا الليل والنهار! لقد وعَظْتَنيِ حيا وميتاً! ألم تصحبني لمواساة (آل عبد الرزاق) عشيةَ فجيعتهم في (الشيخ الأكبر) فلما جلستَ إلى (عليَّ) إعتلج الهمُّ، وكان وجومٌ، فما راعنا إلاَّ صوتُك يقطع الصمتَ، ويعَّبر عن روعة المموت:

(خَرِسَتْ لعمرُ الله ألسنُنا

لما تكلم فوقنا القدَرُ!!)

إن العربية اليوم لوْلهي، تتفرع من هول يومك، وإن مصر لحزينة على العالم الأكبر، والباحث الأكبر، الذي صات صوته في أرجائها:(ألا إن محمداً، وذكرى محمد، وقرآن محمد، ولغة محمد، وعربية محمد، وأدب محمد).

(كل ذلك لن يزول، كل ذلك لن يبيد وفي الدنيا مصر لقد عرفتْ مصرُ لك هذا الفضل وذلك الجميل، وإن جحده جاحد. فها هو ذا حوها يتلقى أنفاسك الطاهرة، وهاهو ذا ثراها يزكو بعظامك، ويستأثر برفاتك، حانياً عليها مزهواً بها! وها هي ذي سحائبها تروَّي أجداثك بكرة وعشيا، فلطالما روَّيت وأبهجت قلوباً، ثم نافحتَ وجاهدتَ وناضلت لتسود لغة

ص: 2

القرآن.

يا شهيد العلم والتحقيق:

لقد رفعك الله مكاناً عليَّا، وجعل لك في الخالدين ذكراً سريَّا: وإنك ميت، وإنهم ميتون، ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون! ونشهد! ما عرفنا ولا رأينا لك ضريباً، يرسل قلبه في كلامه، ويسكب عقيدته في حديثه، ولا أدركنا أميناً يؤدي أمانة العربية كما أدْيتَها، ولا صادقاً ولا وفياً يتحرق وجداً ببيان القرآن، ولا شجاعاً مغواراً، إذا رأى أو سمع - الهجين - أَرسل عليه صيحات من بلاغته، لا بل سهاماً من كنانته. . .

إني لأمتثلُ فيك بقول (الشريف)، كما كنتَ تتمثلُ بقول (الشريف):

يا ليتَ أني ما اقتنيتُكَ صاحباً

كم قُنيةٍ جلبتْ أسًى لفؤادي

أعْزِزْ عليَّ بأن يفارقَ ناظري

لَماَنُ ذاك الكوكب الوَّقاد

فيا أرواح الشهداء والمجاهدين: لقد جاءكم روح (إسعاف)، فيا وحشتنا بعده، ويا أنسكم به!!

محمد عبد الرحمن الجديلي

ص: 3

‌17 - رحلة إلى الهند

للدكتور عبد الوهاب عزام بك

وزير مصر المفوض لدى المملكة العربية السعودية

في مدينة لاهور

كانت بوادر الفتن والهرج منتشرة في أرجاء الهند، وكانت لفحات الصيف بين الحين والحين تؤذن باقتراب الصيف، وكان الوقت أضيق من أن يتسع للتجول في أرجاء الهند وإجابة دعوات لزيارة كلكتا بل ما هو أقرب منها مثل لكهنو وديوبند، والله آباد؛ ولكن مدينة واحدة كانت تدعوني دعوة لا أستطيع ردَّها؛ كانت مدينة لاهور مدينة الشاعر الخالد محمد إقبال توحي إلىَّ كل حين أن أزور دار الشاعر وقبره. وكان إعجابي بالرجل وحبي إياه يقضيان بأن أذهب إلى لاهور مهما يضق الوقت وتكثر العوائق. ولم أجز لنفسي قط أن آتي إلى الهند وأرجع دون أن أزور قبر إقبال وداره في لاهور.

عزمت على السفر إلى لاهور ورأيت أن أهدي إلى مزار الشاعر الفيلسوف هدية من الشعر فنظمت أبياتاً وكلفت نقاشاً أن ينقشها على لوح من الرخام.

ويوم الاثنين 22 جمادى الأولى سنة 1316هـ (14 نيسان سنة 1937)، ركبت القطار الذي يسمى (بريد الحدود) وكان موعد سفره من دهلي الساعة التاسعة فأخذت مكاني فيه وتأخر سفره نحو ساعة. وكان في المقصورة سريران أخذت أحدهما واحتل الثاني ضابط من السيك.

ولما أصبحنا نظرت فإذا منظر الأرض أنضر مما عهدت في الطريق بين دهلي وأجرا. واجتاز القطار جسوراً عدة فوق أنهار. ورأيت محطات القطار أكبر وأعمر والناس أصح وأنظف. فقلت إنه إقليم البنجاب الذي تجري فيه روافد نهر السند الخمسة. وهو معروف بجودة هوائه وقوة أهله وغناهم.

وبعد الساعة التاسعة من الصباح وقف القطار على أمرِ تْسار مدينة السيك المقدسة. ولولا الاضطراب لزرتها. وقد حدثني رفيقي الضابط وهو يستعد للنزول في أمر تسار بما فيها من هيج بين المسلمين والسيك.

ص: 4

وكانت وقفة القطار التالية في لاهور، وبينها وبين أمر تسار مسير نصف ساعة.

مدينة لاهور

هي عاصمة البنجاب. وكان الظن أن تكون عاصمة دولة الباكستان ولكن الحوادث جعلت كراتشي العاصمة اليوم.

وهي على مقربة من الشاطئ الأيسر لنهر راوي أحد فروع السند. وتقع على الدرجة 31 من خطوط العرض الشمالي وعلى الدرجة 74 من خطوط الطول الشرقي. فعرضها كعرض القاهرة ولكنها أشد حراً منها، بل هي من أحر بلاد الهند وإن كان ارتفاعها 1706 قدم لتوغلها في البر بعيدة من البحار.

وهي على المهيع من أفغانستان إلى الهند تلتقي بها سكك حديدية. وهي على بعد 1770 كيلو من كلكتا و438 من دهلي.

وسكانها أكثر من ربع مليون. وتشمل اليوم المدينة القديمة ومحلات حديثة فيها أبنية فخمة.

وهي مركز ثقافة واسعة بها جامعة البنجاب والكلية الأمريكية ومدارس أخرى كثيرة.

لا يعرف شئ من تاريخ لاهور قبل الإسلام. وفي أساطير الهند أن مؤسسها لوه بن راما بطل قصة الرّمايَنا المعروفة في الآداب الهندية.

وقد صارت ذات شأن في التاريخ الإسلامي منذ فتحت الدولة الغزنوية الأقاليم الشمالية الغربية من الهند. واتخذتها هذه الدولة حاضرة حينما زحزحها الغوريون عن أفغانستان فأقتصر سلطانها على ما فتحته من الهند. وذلك في عهد السلطان مسعود الثالث سنة 553. فهي أول حاضرة لدولة إسلامية في الهند.

وقد تقلبت عليها الخطوب ولقيت من غارات التتار ثم غارات تيمورلنك ما لقيت.

ثم اتسعت واستبحر عمرانها، وازدانت بالأبنية العظيمة الرائعة والحدائق أيام الدولة الإسلامية الهندية الكبرى دولة التيموريين.

استولى عليها ظهير الدين بابر مقيم الدولة التيمورية وتوالى على تعميرها خلفاؤه حتى صارت إحدى المدن الثلاث العظيمة في عهدهم. والأخريان دهلي وأجرا.

وقد أقام بها جلال الدين أكبر سنين كثيرة من سني ملكه. وجعلها ابنه جهانكير العاصمة الثانية (بعد دهلي). وبها مات وسنذكر قبره من بعد.

ص: 5

وقد بنى فيها السلطان أبنية كثيرة منها القصر الجميل الذي سمى خوابكاه (المنام) ومنها موتى مسجد في القلعة (أي مسجد اللؤلؤة) وقد ذكرنا من قبل مسجدين بهذا الاسم في قلعتي دهلي وأجرا. وهي مساجد صغيرة في القلاع يصلي فيها السلاطين. وقد بالغوا في تشييدها بالمرمر وتجميلها.

ومن أبنية شاه جهان، وهي كثيرة، الرواق الذي يسمى نَولاك (تسعة لاكات) لأنه أنفق على بنائه هذا المقدار ، واللاك مائة ألف (وكان كله مرصعاً بالجواهر).

وبنى السلطان أورنك زيب مسجد الجمعة. وهو مسجد فسيح جداً يقال إن السلطان بناه ليسع كل من تجب عليهم الجمعة في لاهور وسيأتي ذكره.

ولما ضعفت الدولة التيمورية وعجزت عن صدَّ المغيرين من إيران وأفغانستان أصاب لاهور شر عظيم من غزوات نادرشاه 1148 - 1160هـ والشاه أحمد الدرَّاني مؤسس الدولة الأفغانية 1160 - 1187هـ.

ولما قامت للسيك دولة في تلك الأرجاء كانت لاهور عاصمتها حيناً، إلى أن أزال الإنكليز الدولة وألحقوا بنجاب بالهند البريطانية.

وللسيك فيها آثار لا تدل على براعة في الفنون. وقد مسخت غراتهم وفنونهم كثيراً من الآثار الإسلامية الرائعة.

عبد الوهاب عزام

ص: 6

‌هذا زماننا

للأستاذ محمود شاكر

أراد جماعة من الذين كتب الله عليهم أن يرتزقوا باصطناع السياسة، أن يعقدوا معاهدة بينهم وبين بريطانيا يقضون بها في أمر العراق على ما خيلت لهم أنفسهم وأنفس البريطانيين، ووقف بيفن يتعجبُ ممن زعم أنه يضع توقيعه الكريم على معاهدة فيها بخسٌ لحقوق العراق! وليس هذا بعجيب من ساسة بريطانيا، فقوام السياسة البريطانية هو الخداعُ، والإصرار على الخداع، وتسويغ الخداع، حتى يبلغُ الأمر مبلغ الصَّفاقة المهذَّبة في عرف الساسة البريطانيين. ولسنا نلوم بريطانيا ولا ساستها على هذا المذهب القبيح، فهم إنما يترفقون إلى غاياتهم بما وسعهم من الدهاء والمكر، ولكنّا نلوم أولئك المتبجحين ممن راموا أن يكونوا أهل سياسة في هذا الشرق العربي أو الإسلامي، إذ يخادعون أنفسهم ويخادعون أهليهم عن فساد بين في أمر هذه المعاهدات، وهم بذلك إنما يدَّمرون شعوبهم بما في أنفسهم من العجز واللجاجة وقلة المعرفة بسياسة الشعوب التي انبعثت من رقدتها مطالبة بالحياة الُحرة الكريمة. ومصداق هذا ما وقع في العراق، فلم يكد يظهر طرفٌ من سر تلك المعاهدة الخبيثة التي أرادت بريطانيا أن تكبل بها العراق، حتى هبَّ الشعب الأبي هبة واحدة فقوض أركان تلك المعاهدة على رؤوس (بناة الإمبراطورية)، وعلى رؤوس أذنابهم من الساسة المرتزقة، فدل ذلك دلالة بينةً على عجزهم ولجاجتهم وقلة معرفتهم بسياسة الشعوب الناهضة المريدة للحياة والحرية.

وما الذي كانت تريده بريطانيا من تلك المعاهدة الباغية؟ كانت تريد أن تجعلها مثالاً يحتذي في معاهدات تعقد بينها وبين مصر والسودان، ولبنان وسورية وجزيرة العرب واليمن وسائر بلاد هذا الشرق، فجاءت ثورةُ العراق فزلزلت قواعد هذا الوهم المنتشر الذي سوَّلت لبريطانيا نفسُها أنه بناء جديد تقوم على أساسه سياسة الإمبراطورية البريطانية الحديثة بعد الحرب العالمية الثانية. جاءت هذه الثورة فكانت سُنّةً جديدةً في توجيه سياسة العرب توجيهاً غفل عنه المرتزقة من السياسيين القدماء في هذا الشرق، وجاءت فكانت برهاناً جديداً على أن الشرق العربي والإسلامي لن ينام مرة أُخرى على خُدَع البريطانيين وخيانة المرتزقة من السياسيين، وعلى أن الحياة التي دَّبت في العرب لن تتسكع مرَّة أخرى في

ص: 7

أوصال هذا الكيان القوي العميق المتراحب، بل سوف تتدفّق في نواحيه كلها إلى أن يستوي عوده على الهيئة التي تجعله كياناً صحيحاً في هذا الكون الذي يغلي من حوله بالثورات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعلمية.

ليس هذا فحسب، بل علينا منذ اليوم أن ننظر ماذا كانت تريد بريطانيا بعقد هذه المعاهدات؟ كانت تريد أن تجمع دول العرب على معاهدات يكون لها فيها الغنم وعلينا الغرم، أي أن بريطانيا كانت تريد أن تستعبد العرب جملةً واحدة وتسيرهم في أغراضها على نظام متفق لا تشذ عن دولة عربية واحدة، سواء أكانت مستقلة استقلالاً صحيحاً أم كانت مستقلة استقلالاً مشوباً بالعبودية للإمبراطورية البريطانية، ومعنى ذلك أيضاً أنها تعلم أن العرب سوف ينتهى بهم الأمر إلى أن يكونوا أمة واحدة، فهي تريد أن تسبق الزمن وتجمع هذه الكتلة الواحدة في قبضة يديها حتى لا ينتشر عليها الأمر. وهذا غرض بين جداًّ، ودوافعه أشد وضوحاً واستبانه. فهل آن لنا أن نتنبه إلى الوضع الصحيح الذي ينبغي أن تكون عليه مطالب العرب فيما هم بسبيله من إحراز حقوقهم كلها جملة واحدة؟

لقد كتبت منذ سبعة أشهر كلمة في هذه المجلة بعنوان (شعب واحد، وقضية واحدة)، وذلك في العدد 730 بتاريخ 30 يونيه سنة 1947 قلت فيها:(إن قضية العرب قضية واحدة بينة المعالم: هي أننا لا نريد إلا أن تكون بلادنا جميعاً مستقلة حرة، لا يحتل عراقها جنديٌّ واحدٌ، ولا تخضع جزيرتها لسلطان ملوك البترول، ولا ينال نيلها من منبعه إلى مصبه سلطان بريطاني أو غير بريطاني، ولا تقع شامها ولبنانها تحت سطوة غاصب، ولا يعيث في أرجاء مغربها فرنسي خبيث القول والفعل مجنون الإرادة) ثم قلت في آخرها: (وعن قريب سوف تقول حكومات العرب كلمتها، وسوف يجتمع رأينا على أننا لن نرضي بأن نجعل قضيتنا أجزاء يتلاعب بها هذا ويلهو بها ذاك. إنها واحدة، يرفعها شعب واحد، وطالباً بحق واحد، هو أننا أحرار في بلادنا).

وأنا لا أنقل هذا أعرض على الناس شيئاً مما كنت توقعت، بل لأقول إن السياسة البريطانية قد علمت علم هذا كله، فهي تريد أن تسبق الزمن لتضعنا في الإصر الشديد الذي يسمى بالمعاهدات، ولتستعبدنا في أغراضها، ولتنتقم منا ومن تاريخنا، ومن قديمنا وحديثنا. وأقول إن ساسة الشرق وساسة العرب لا يزالون يعيشون في غفلة الخيانات

ص: 8

القديمة التي تولى كبرها رجال ظنوا أنهم زعماء هذه الشعوب، أي أنهم قد ملكوا رقابتها فهم يتصرفون فيها تصرف المالك في ملكه، وذهبوا يفاوضون بريطانيا فيأخذون منها شيئاً وينزلون لها عن أشياء كثيرة، فقد جروا الشرق كله إلى مضلة لا يهتدي فيها سارٍ إلى علم.

ولكن الشعوب العربية كانت أشد منهم قوة، وأهدى إلى مواطن الحق، فما كادت تشب الثورة في العراق حتى نادى أهل العراق بالجلاء الناجز (عن جميع البلاد العربية)، وهذه الكلمة الشاردة هي كلمة الحق التي سوف ينتهي أمرنا إليها، أبى السياسيون القدماء أم رضوا. فالبلاد العربية من العراق إلى الجزيرة إلى الشام إلى لبنان إلى فلسطين إلى مصر والسودان، إلى تونس والجزائر ومراكش، أمة واحدة، والاستعمار فيها واحد، ومطالبها واحدة. فينبغي إذن أن تصاغ قضية العرب على هيئة واحدة، لا في السياسة الخارجية وحسب، بل في موقفنا جملة واحدة في وجه الطغيان الاستعماري كله، سواء جاء بهذا الاستعمار بريطانيا أو فرنسا أو أمريكا أو روسيا أو هولندة أو أية دولة على ظهر الأرض. وينبغي أن تعدل سياسة الدول العربية جملة واحدة، فتطالب بمطلب واحد لا تقبل فيه هوادة ولا تخضيعاً ولا مساومة، هو جلاء الاستعمار عن بلاد العرب كلها. ولقد سبق الشعب العراقي حكومته إلى هذا الرأي، فنحن نرجو أن يحمل الشعب العراقي حكومته على أن تصرح بهذا المطالب تصريحاً رسمياً في بيان تصدره بطلب الجلاء الناجز عن جميع البلاد العربية، وتتعهد بأن لا تقبل مفاوضة ولا محادثة ولا مخابرة ولا مهادنة في هذا المطلب أبداً. فإذا فعلت العراق ذلك، فعلى سائر الحكومات العربية أن تصدر مثل هذا البيان الشامل الذي لا يفرق شيئاً بين الوطن العربي كله ولا بين المستعمرين أيا كانوا.

إني ادعوا الجامعة العربية ورجال السياسة الأحرار أن لا يفرقوا في الدعوة إلى الحرية، أدعوهم أن لا يفرقوا قضية العرب أجزاء كل جزء منها يخضع لسياسة تضعف أو تقوى في يد من يتولاها. فقد فهمت بريطانيا هذا، فأرادت أن تنشئ مثالا يحتذى في المعاهدات التي تعقد بينها وبين العرب، وأرادت أن تحمل فرنسا وأسبانيا على الاتفاق على أسلوب جديد يصطلحان عليه في الاتفاق مع بلاد المغرب العربي، يسير على أساس السياسة التي تريدها بريطانيا في اعتبار العالم العربي جملة واحدة تسخَّر في ركاب الاستعمار البريطاني والفرنسي والإسباني. فواجب الجامعة العربية وواجب الحكومات العربية أن تسبق هذه

ص: 9

السياسة اللئيمة سبقاً يكفل للشعوب العربية أن تعرف الوجه الذي تسير فيه. فلا مناص إذن من أن تتفق كلمة الدول العربية على أن لا تعقد إحداها معاهدة قط مع إحدى الدول المستعمرة، وعلى أن لا تقبل تقسيم القضية العربية إلى أجزاء، وعلى أن تكون دعوتها ودعوة شعوبها صرخة واحدة مجتمعة في وجه الاستعمار على اختلاف ألوانه وأسبابه والقائمين به، وهى الجلاء الناجز عن بلاد العرب جميعاً، ثم عن بلاد الإسلام كلها في نواحي الأرض. فإذا توانت حكومات العرب، وإذا تلجلجت الجامعة العربية؛ فمغبة ذلك أن تفوت على هذه الشعوب زمناً يطول أو يقصر، كانت خليقة أن تبلغ فيه ما تريد من نيل الحرية الكاملة، والاستقلال الناجز التام.

إن ضعف القائمين بالسياسة العربية، لا ينتهي إلا إلى ضياع الوقت وضياع الحقوق. ونحن لا نطالب المستعمرين بشئ، لأنهم لا يملكون شيئاً هم قادرون على أدائه. إنهم مغتصبون، وهم يملكون أسباب القوة المادية ونحن نملك أسباب القوة الروحية، وهم ظلام ونحن لا نرضى بهذا الظلم، وهم يتحكمون بالاستعمار والاستعباد، ونحن نتعالى عن الاستعمار والاستعباد. فهذه القوة التي انطوى عليها حقنا، يقابلها ضعف ينطوي عليه افتياتهم علينا. ومصير ذلك كله إلى الغلبة والنصر إذا أحن رجالنا الاستعداد لهذه الموقعة الفاصلة في تاريخ البشر.

لم يبق شئ في تاريخ البشر يحمل طابع الفساد والبوار والدمار، إلا هذا الجشع الذي يحمل أمم الغرب على إن يضعوا أيديهم على كنوز العالم؛ ليقاتل بعضهم بعضاً في حرب مبيدة مدمرة. وقد عرف هذا الغرب أن الشرق كنوز كله؛ فهو يجاهد أن يستولي عليها بما استطاع من الحيلة ومن اللؤم، ومن إهدار الكرامة الإنسانية، ومن قلة المبالاة إفساد هذا الشرق وإفساد أهله حتى ينال منه منالاً يكفل له حرية التصرف في كنوزه. فعلينا أن نقف حُراساً على كنوزنا لا نبيحها بعد اليوم لأحد. وعلى رجال السياسة منا أن يغيروا مناهجهم السياسية تغييراً تاماً يقوم على أساس واحد، هو أننا لن نعاون هذا الغرب على الفجور في الأرض، وأننا نمنع عنه مادة الفساد التي يريدها لتدمير حضارات العالم، وأننا قد عزمنا أن ننشئ مدينة جديدة وحضارة جديدة لا تقوم على الجشع ولا على الاستبداد. وأننا أحرار في بلادنا كل الحرية وإن اجتمعت دول العالم كله على إنكار هذه الحرية. ولا يصل العرب

ص: 10

والمسلمون إلى هذا إلا بشيء واحد هو أن تجتمع الكلمة في الأرض العربية والأرض الإسلامية على هذا الشيء الواحد، وهو أن لا مفاوضة ولا معاهدة ولا مخابرة ولامهادنة، وأن الشرق لن يستقر على تجلو الجنود المستعمرة عن أراضيه كلها، وأن كل عون للاستعمار في هذا الشرق من الأجانب واليهود الصهيونيين قد كتب عليهم أن يخرجوا من بلادنا إلى حيث شاءوا، وأننا لن نقبل دون هذا شيئاً يصرفنا عن الغرض الأعظم، وهو تجديد حضارة العالم على أسس من العدل والحق والمساواة والحرية. هذا هو المطلب الأعظم الذي ينبغي أن توجه إليه سياستنا كلها، لا تخدعنا عنه خطرفة السياسيين المتهالكين الذي يقولون للشرق: أنت عاجز، فمن لك ببلوغ هذا المطلب البعيد المغرق في الخيال!

كلا، ليس الشرق عاجزاً بل هو أهل لما حُمِّل، وإن تراءى للناس على غير الحقيقة المستكنة وراء هذا الطوفان من الفقر والجهل والفساد. فإذا عزم العرب وعزم رجاله وقواده أن يفعلوا، فلن يحول بينهم وبين ما يبتغون شئ جل أو تفاقم. بيد أننا اليوم في حاجة إلى الأخذ بهذا المبدأ الواحد، وإلى إزالة أولئك السياسيين القدماء عن مكان القيادة في بلادنا، وإلى تقدم الفئة الصالحة إلى هذه التبعة الجليلة لتحملها حملا لا يعجزها ولا يصرفها عنه خوف ولا تردد. ولقد سبق العراق، وسوف تتبعه سائر البلاد العربية والإسلامية، ولن نلبث قليلا حتى نرى في هذا الشرق عجائب القوة العظيمة التي انطوت عليها جوانحه، فلا بد من تفسح الحكومات الطريق للعمل القوى الماضي الذي لا يرتد عن غايته، ولا بد من أن تدفع الشعوب عن نفسها طغيان السياسيين المخادعين المنافقين، ولا بد من أن يتولى العرب بأنفسهم حل هذه القضية الواحدة بالصبر والمقاطعة، وبالعزم والجلاد، وبالتضحية الكبرى في سبيل إنقاذ البشر من فتن كقطع الليل المظلم، ومن فساد جارف كالسيل المتدفق، ومن طغيان قذر قد ارتطم فيه هذا العالم القديم الذي قام على أسس فاجرة من الجشع.

أفيقوا أيها الناس، واستيقظي أيتها الحكومات، وتقدمي أيتها الجامعة العربية باسم العرب إلى حمل التبعة العظيمة. والزمن أسرع منكم، فبادروه بالعمل والصرامة، وبالصدق والإخلاص، فإن حياتكم وحياة أممكم معقودة بشيء واحد، هو ثباتكم على المبدأ الأعظم،

ص: 11

وأخذكم بالقوة التي استودعها الله في قومكم وغفلتم عنها أجيالا طوالا. هبوا فقد أَنَى زمنكم، وأعدَّكم الله لشيء أنتم بالغون في الناس وفي أنفسكم.

محمود محمد شاكر

ص: 12

‌لقد مات غاندي!

للأستاذ عبد العزيز محمد الزكي

نعم لقد مات غاندي مقتولا، واغتيل غدراً بيد هنوكية آثمة، ظنت أن في موت غاندي استقلال الهند واتحادها، وفي حياته تعطيلا لهذا الاستقلال وعرقلة لذلك الاتحاد، فصوبت رصاص مسدسها إلى جسد غاندي الهزيل لتستقل الهند وتتحد.

من العجيب أن يموت ذلك الإنسان الإلهي الذي قضى حياته يمرن الهنود على مقابلة العنف والعدوان والكراهية بالحب والعفو، ويعودهم اتخاذ السبل السلمية وسائل لنيل جميع أغراضهم السياسية. وعجيب أن يقتل ذلك الزعيم الروحي عنفاً وعدواناً بيد أحد من علمهم اللا عنف والحب والطرق السلمية. وعجيب أن نسمع نحن المصريين عن شعب خاف أن يقضي الصوم على حياة بطله المقدس، ويخضع لشروطه السلمية لإيقاف الاضطرابات الدينية في الهند، ويقبل بعد مدة وجيزة أن يقتله شر قتلة.

إن الأمر يتطلب توضيحاً. ويقوم هذا التوضيح في أن في الهند منذ الحرب العالمية الأولى اتجاهين سياسيين: أحدهما اتجاه غاندي وهو ينادي بأنه لا يجب أن نتخذ من السبل لتحقيق أمانينا غير سبيل الحب واللا عنف والمقاومة السلبية لسلمية، أما الاتجاه الآخر فهو اتجاه منافس غاندي الزعيم الهندي الكبير لقمانيابل قندار طيلاق، وهو عالم رياضي واسع الاطلاع، ضحى بمستقبله العلمي واعتزل الرياضة وخاض ميدان السياسة ليعمل لتحقيق استقلال الهند. وهو كغاندي لم يكن له مطمع شخصي بل كل ما كان يتمناه أن تفوز الهند باستقلالها حتى يعود إلى أبحاثه العلمية. وكان اتجاه طيلاق السياسي اتجاهاً عملياً بحتاً، ويرى أن السياسة ليست من أعمال الزهاد والأتقياء ورجال الدين، ويعتقد أنه لا يجوز تطبيق المبادئ الدينية على الطرق السياسية ويميز بين السياسة والدين، ولا يتورع - بخلاف غاندي - على أن يسلك أي سبيل مهما تعارض مع التعاليم الدينية ما دام يؤدي إلى استقلال وطنه. فعنده حرية الوطن أجل من الدين؛ بينما غاندي يؤمن بأن مبادئ الدين أسمى من حبه للهند. فاختلف غاندي وطيلاق في أسلوب محاربة المستعمرين: فحارب غاندي الإنجليز بقوى الروح وسلاح الحب وبالعصيان المدني السلمي وكان طيلاق يود أن يحاربهم بالعنف وبالثورة، ولكن الزمن لم يعط له فرصة لينافس غاندي طويلا فاختطفه

ص: 13

الموت سنة 1920؛ إذ لو بقى طيلاق حياً لما كان لغاندي غير الزعامة الروحية وكان لطيلاق الزعامة السياسية، وبموته أصبح غاندي الزعيم الروحي والسياسي جميعاً ردحاً من الزمن.

ولئن مات طيلاق فإن روحه لم تمت. بل حاولت مبادئه السياسية أن تظهر في مناسبات كثيرة، لولا يقظة غاندي الروحية وقوة تأثيره على الشعب ومقاومته لكل هياج همجي، وتسليحه الهنود بأسلحة سلمية مثل مقاطعة الإنجليز سياسياً واقتصادياً وثقافياً، ولما لم تفلح هذه المقاطعة في إخراج الإنجليز من الهند كما لم تهدأ من سخط المنادين بضرورة استخدام الثورة في طرد الإنجليز من بلادهم، اضطر غاندي إلى أن يلجأ إلى العصيان المدني السلمي، وظل يشجع قومه على محاربة الإنجليز سلمياً، إلى أن أجيرت الحكومة البريطانية على أن ترد للهند حريتها.

بذلك فازت طرق غاندي السلمية على طرق منافسيه العنيفة وحصلت الهند على حريتها بدون ثورة ولا حرب، ولكن غاندي إن نجح في إقناع مواطنيه باتخاذ الطرق السلمية وسيلة لنيل الاستقلال، فإن قتله يدل على أنه لم ينجح في إقناع هؤلاء المواطنين باتخاذ الطرق السلمية في سبيل اتحاد الهند، ونبذ الحزازات الدينية.

إن الهند بعد أن نالت استقلالها واجهت مشكلة تقسيمها إلى دولتين: إحداهما إسلامية، والأخرى هندوكية؛ وسبب ذلك التقسيم يرجع إلى ما بين المسلمين والهندوس من عداء قديم، نشأ من يوم أن غزا محمود الفزتوي الهند، وكون إمبراطورية إسلامية فيها وظلت هذه الإمبراطورية من بعده إلى أن أتى الإنجليز واستعمروا الهند. وفي هذه القرون الطويلة عامل المسلمون من ترك وتتار وفرس الهندوس كما يعامل عبدة الأصنام فقتلوا فيهم وهدموا كثيراً من معابدهم، وحطموا تماثيلهم وأنزلوا بهم مختلف أنواع القسوة لعبادتهم الأوثان وتأليههم الحيوان، فولدت هذه القسوة الحقد والبغضاء، وظل الهندوس يكرهون المسلمين من عهد الفزنوي إلى الآن.

ولما تحقق استقلال الهند، وكان الهندوس أغلبية السكان، خاف المسلمين من انتقام الهندوس، ووطدوا العزم على أن يكون لهم دولة مستقلة تضم جميع المسلمين وتسمى بالباكستان. ولكن الهندوس يرغبون في أن تكون الهند دولة واحدة متحدة ولا يرغبون في

ص: 14

أن تكون منقسمة. فما كادوا يعلنون تقسيم الهند إلى باكستان وهندستان حتى أخذت الاضطرابات تنتشر في بعض المقاطعات الهندية، وأخذ المسلمون يقتلون الهندوس في الولايات الإسلامية، وأخذ الهندوس يذبحون المسلمين في الولايات الهندوسية مما أضطر غاندي إلى أن يستعين بالصوم على منع تلك المذابح البشرية، فنذر صوماً طويلا يدوم بدوام هذا الصراع الدموي الذي بين المسلمين والهندوس. ولم يمض على صومه خمسة أيام حتى تعرضت حياته للخطر، فأنذر الأطباء الذي يشرفون على علاجه، بأنه إن لم يقلع غاندي عن الصوم، فإنه يقضي على حياته. فلم يكد زعماء الهنود من مسلمين وهندوس وسيخ يسمعون هذا الإنذار حتى وعدوا غاندي بأنهم سيتعاونون في الحال على إنهاء الاضطرابات الدينية حتى يسود الود والسلام والحب بين جميع سكان الهند على اختلاف أديانهم. ولكن يبدو أن بعض الهنود الذين يميلون إلى العنف وإلى الثورة وإلى الحرب، لم يرتاحوا إلى صوم غاندي الذي خلص الهند من المجازر البربرية مع بقائها منقسمة إلى باكستان وهندستان وفضلوا أن يستمر النضال بين المسلمين والهندوس إلى أن تقبل الباكستان أن تنضم إلى الهندستان وتصبح الهند متحدة، وشعروا في الوقت نفسه أن غاندي بنفوذه الروحي استطاع أن يخمد حرباً أهلية همجية ويحيط حركة ثورية كانوا يعولون عليها كل التعويل، فسخطوا على نفوذ غاندي الروحي على الشعب، وكرهوا ان تحسن معاملة الهندوس للمسلمين، وترد إليهم مساجدهم التي حولت إلى معابد هندوسية من الاضطرابات الأخيرة، واحتفوا على أن يكون للمسلمين أي سلطة في الهند، فأقدموا على قتل بطل روحي ضحى بشبابه وكهولته في سبيل الهند، وفي سبيل إصلاح الهند، وفي سبيل تحرير الهند، ورأى أن التعاون بين المسلمين والهندوس أمر ضروري لاتحاد الهند، وبدون تبادل الحب بين أهل الهند لن تكون هناك هند متحدة، فمات غاندي شهيد مبادئه الروحية. بينما كان منافسوه السياسيون يرون أن القضاء على المسلمين وإبادتهم من الهند أسلم من التعاون معهم، وأفضل من مبادلتهم الحب فأقدموا على قتل غاندي بقلوب حاقدة لا تقدر عواقب فقده، ولا تدرك عظم الخسارة التي لا تعوض، فإن الهند بفقدها غاندي قد فقدت زعيما روحياً، يفهم تمام الفهم الروح الهندية، ويملك قوة روحية يعرف كيف يسيطر بها على الهنود ويوجههم الوجهة التي تتفق مع تعاليم الدين الهندوسي والمبادئ الإنسانية،

ص: 15

وتجنب الهند ويلات الثورات وأشرارها. أما الآن فمن يضمن للهند بأن هناك من يحل محله. إن أمثال غاندي لا يظهر إلا مرة واحدة كل عدة قرون فكيف عجل قومه بإبعاده عن الدنيا؟ أحسب أن موت غاندي ترك فراغاً كبيراً في الهند في وقت هي في أشد الحاجة إليه. إن اغتياله سيورث الهند مشاكل خطيرة ويثير زوابع نفسية متعارضة يخاف منها على مستقبل الهند، ويقلب آراء بعض الهيئات الهندوسية المتطرفة التي نرى أن الحرب أسرع في توحيد الهند من أي طريق آخر، فتعود الهند إلى ما كانت عليه من فوضى، وتكتسح الاضطرابات الدينية جميع أنحاء الهند بعد أن كانت قاصرة على بعض الولايات، وتنتصر طرق العنف وأساليب القوة على القيم السلمية التي وضعها غاندي كدستور إنساني شريف للهند.

(الإسكندرية)

عبد العزيز محمد الزكي

ليسانسيه فلسفة

ص: 16

‌محمد إسعاف النشاشيبي

مدرسة أدبية

للدكتور أحمد فؤاد الأهواني

لو شئت أن ترى الأديب الذي يعد بحق عنواناً على (الأديب) لكان عليك أن تسعى إلى لقاء إسعاف النشاشيبي في مجلسه.

ولكنه مات، فاختفت بموته صورة فذة فريدة لن يظفر التاريخ بمثلها. وقد تجد نماذج للكثير من أدبائنا البارزين، وصوراً تحاكى أساليبهم وطرائقهم وفكرهم، ولكنك لن تعثر مع التنقيب الشديد، على صورة تشبه إسعاف، مع كثرة تلاميذه واحتفال مجلسه بالناس، واطلاع القراء على الإسلام الصحيح من كتبه، وشوقي وحافظ وغيرهما من خطبه، ونقل الأديب مما كان يتابع نشره في الرسالة.

ذلك لأنه أعلى من المحاكاة، وأسمى من التقليد.

ومع ذلك فهو الأديب الذي كلما تمثلته تمثلت الأديب في الجاهلية وصدر الإسلام كيف كان، وكيف ينبغي أن يكون. فقد قيل (إن الأدب أن تجمع من كل شئ بطرف) وكان هذا شأن إسعاف النشاشيبي: يحدثك في الفقه والشريعة، وآراء المعتزلة وعلماء الكلام، ونظريات الفلاسفة والحكماء، وطرائف الكتاب ونوادر الشعراء، مع امتلاك ناصية العربية وهى كما تعلم من أوسع اللغات، وإلمام بالأدب والعلم والفلسفة في أوربا الحديثة إلماماً يدل على طول الباع وعظيم المنزلة.

فإن قلت: عندنا كثير من الأدباء يجمعون بين هذه المعارف، ويأخذون من كل شئ بطرف.

قلتُ: ولكنك لم تحظ بالاستماع إلى إسعاف، فهو في مجلسه وحديثه غيره في كتبه ومقالاته. والفرق بين هذا وذاك هو الفرق بين المقروء والمسموع، بين اللفظة وهى على الورق جثة هامدة، والعبارة وقد خرجت من فمه تمتلئ بالحياة، وتنفذ إلى القلوب، وتستقر في الأسماع.

وهل كان الأدب في القديم إلا مجالس وأسواقاً؟.

وهو يفسد حين يؤخذ من الكتب ويحفظه المتأدبون كما تفعل الببغاء.

يُروى أن أفلاطون لم يدوّن دروسه في الأكاديمية، لأن العلم عنده لا يكون إلا سماعاً أو حواراً.

ص: 17

عرفت إسعافاً منذ بضع سنين في مجلسه بالكونتنتال، فكان حلقة تضم صفوة الأدباء والشعراء وهو فيهم درة العقد، أو كأنه الشمس تحف به الكواكب.

فإذا جاء ذكر محمد عليه السلام، قال إسعاف: الله أكبر نبي الإسلام.

كان يتغنى بهذا الدين، ويترنم باسم الرسول.

وفى ذلك ألف كتابه (الإسلام الصحيح). نفذت طبعته، وكان يفكر في إعادتها بعد إضافة شواهد وتعليقات جديدة من خمسمائة مرجع. ولا يهولنك هذا الرقم، فهو حفاً عظيم الإحاطة واسع الاطلاع.

أراد أن يهدى إلى هذا الكتاب، ولكنه لم يكن يملك منه نسخة واحدة. وسعيت أن أجد منه نسخة فلم أعثر. وسمع الأستاذ عادل زعيتر بطلبي فقال عندي نسختان فأرسل يطلب من فلسطين واحدة هي الآن في حوزتي. تقرأ في استهلال الكتاب (الإسلام هو الدين الحق [ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه] ومحمد خير الخلق. وهذا الكتاب، وهذا الأثر، وهذا تاريخ البشر. فاقرأ كتاب كل دين، وانظر أثر كل عظيم، وفتش صحف التاريخ. واحكم إن كنتَ من الحاكمين).

هذا شعر منثور.

وهذا كلام لا يجري به القلم أو ينطق به اللسان، بل هو صدى القلب، وقبس من نور اليقين.

ما كنت تسمع في مجلسه إلا اعتزازاً بالعروبة ودفاعاً عن الإسلام الصحيح. فهو حلقة أو مدرسة سرت روحه في شباب الجيل.

طيب الله ثراه، وأدخله فسيح الجنات.

أحمد فؤاد الأهواني

ص: 18

‌الله وفلسفة الوجود

للأستاذ نقولا الحداد

حتى كتابة هذه السطور لم أطلع على (العقدة المنحلة) التي تفضل بها الأستاذ الكبير العقاد على الرسالة لأنه لم يأت دور الرسالة في مطالعاتي إلاَّ اليوم.

لم أدر لماذا زج الأستاذ الكبير بالفيلسوف القديم فيثاغوراس في مناقشته لمقالي الذي نشره المقتطف في أول هذا الشهر يناير بعنوان (الله وفلسفة الوجود). راجعت مقالي فلم أجد فيه ذكراً لفيثاغوراس الفيلسوف الذي سبق المسيح ببضعة قرون. فما الذي حدا الأستاذ الكبير أن يقول: (إني أرى أن فيثاغوراس لم يكن إلا مخرفاً سخيفاً حين قال أن الكون عدد ونغمة).

لم أذكر فيثاغوراس في مقالي الذي رد عليه الأستاذ ولم أقل هذا القول وإنما الآن أقوله ولعلي قلته في مناسبة قديمة لا أتذكر.

فيثاغوراس لم يكن فيلسوفاً في عرفنا اليوم وإنما كان عالماً رياضياً في عصره وله قضية خالدة هي قضية مربعات أضلاع المثلث القائم الزاوية. ولا تذكر هذه الفضية إلا مقرونة باسمه. والظاهر أن تعمقه في الرياضيات ساقه في تبحره في الكون إلى الظن أن العدد هو أصل الهيولي، أي المادة الأصلية. وربما كان هذا القول السخيف، بل لا شك أنه كان معقولا عند قومه وفي عصره حين لم يكن معروفاً عن المادة إلا ظاهرها. وفلسفة فيثاغوراس هي أن المادة مؤلفة من العدد (سبعة) لأن هذا العدد موجود في كل ظاهرة من ظاهرات الكون. فالسيارات سبعة في زمانه. والأنغام في السلم الموسيقية سبعة وألوان الطيف الشمسي سبعة، وأيام الأسبوع سبعة، والسموات السبع الطباق سبعة إلى غير هذا مما كانوا يعرفونه. فالعدد سبعة المقدس هو أصل الهيولي.

وأستاذنا الكبير العقاد يرى رأي صديقه المغفور له الأستاذ فيثاغوراس وبينهما نحو 25 قرناً تقريباً. وهو يريد أن يؤيد هذا الرأي العتيق بالعلم الحديث الذي اكتشف ان المادة مؤلفة من ذرات مختلفة العناصر عددها 92 ذرة، والذرة مهما اختلف عنصرها مؤلفة من ثلاث ذريرات البروتون والألكترون والنيروترون. ولكن خاب التطبيق بين فلسفة فيثاغوراس وعلم هذا العصر.

ص: 19

فالمادة بحسب صديق الأستاذ مؤلفة من سبعة، وبحسب رأي العلم الحديث مؤلفة من ثلاثة. وإنما هو (العدد) على كل حال. العدد الذي يتعلق به الأستاذان طرفا تاريخ الفلسفة.

لم أقل في حياتي أن فيثاغوراس كان مخرفاً. وإنما أقول الآن أن الفلسفة السبعية على ضوء العلم الحاضر سخيفة، وكل قارئ يقول أنها سخيفة. فإن رام الأستاذ الكبير تقريرها وأن يؤيد نظرية الإلكترون به فمرحى.

ولو كانت نظرية فيثاغوراس تؤيد نظرية الإلكترون لأمكن الميكانيكيين لعهده أن يخترعوا القنبلة والطاقة الذرية، ولكان العالم الأرضي اليوم غير ما نراه.

ولكن إلى الآن لم أفهم ما الذي زج بفيثاغوراس هنا في هذه المناقشة ولم يرد له ذكر في مقالي المنشور في المقتطف. وكأني بالأستاذ الكبير يختلق لي تهمة لكي يحاسبني عليها ويجعلني خصما. وأيم الله ما قصدت في تعليقي على (كتاب الله) خصومة. وليس بيني وبين الأستاذ العقاد إلا كل وداد وهو يعلم جيداً أني أجله وأقدر علمه. ولو لم تسقط جملة طويلة برمتها من مقالي في المقتطف لتأكد مقدار اعتباري له. ولا أرى في ذلك التعليق ما يمس عواطفه الرقيقة.

والواضح أن الأستاذ الكبير يصعب عليه جداً أن يحاسبه محاسب من القراء على بعض ما يكتبه أحياناً مصيباً كان أو مخطئاً.

العصمة لله يا كبير الكتاب.

إن مليكان وادينجتون وجينز وغيرهم من علماء العصر هم أساتذتي العظام وأساتذة كل طالب علم. ومنهم استمددت معلوماتي المتواضعة، وإذا كان الأستاذ الكبير يدرس هؤلاء العلماء الأعلام جيداً يفهم مقالي تمام الفهم.

فلو درس جينز وادينجتون واينشطين ونيوتن ورصل وأمثالهم لعلم لماذا سرعة النور لا تتغير في الفراغ المطلق بل تتغير بمرورها في وسط مادي كالزجاج والهواء والماء، ولعلم لماذا لا يسير النور في خط مستقيم، ولماذا لا ينتهي خط النور في مكان معين أو أين ينتهي لأن النور يسير منحنياً بفعل جوٌ جاذبي لأنه خاضع لتأثير الجاذبية فهو يدور حول ذلك المركز الجاذبي ولا ينتهي في مكان، ولعلم لماذا الكهرطيسية تتموج ولا تستقيم، ولعلم أشياء كثيرة. ولكل ظاهرة طبيعية سبب ولا بد من سبب، وصار العلم الآن يوضح لنا

ص: 20

معظم الأسباب ولا زلنا نجهل كثيراً منها.

لا تدبير في الكون ولا مصادفة ولا فلتة على الإطلاق يا أستاذ لأن للكون سنة رتبها الله منذ الأزل ولن تجد لسنة الله تبديلا، فالقوانين الطبيعية التي يجري عليها الكون منذ الأزل وإلى الأبد لا تتغير. وإذا كنا في بعض الأحيان لا نعرف بعض القوانين أو لا نرى الظاهرة الفلانية تنطبق على قانون فليس المعنى أن حركات الأكوان غير منطقية على قانون أو هي مصادفات أو تدبيرات أو فلتات.

فما لا نستطيع تعليله فلأننا لا نعرف بالضبط القانون الذي يمشي عليه، ولا بد أن يعلمه علماء المستقبل.

وإذا أطلع الأستاذ على كتاب (كيف يعمل العقل) لجود فلعله يفهم شيئاً على صلة العقل بالمادة، وهناك مؤلفات أخرى تبين لك أن العقل إنما هو وظيفة من وظائف الدماغ، ولهذا يرى بعض علماء العقل أن ينقل البحث في العقل إلى علم الفسيولوجيا هذا موضوع حديث سيوفيه العلم في المستقبل القريب أو البعيد وقد استدركت في مقالتي أن البحث في هذا الموضوع ليس في طوقي.

لا يسع المقام أن أرد على كل نقطة من مقال الأستاذ الكبير وإنما أرده إلى نفس مقالي الذي ناقشني فيه. ففيه كل ما يريد أن يعرفه وفيه الرد على كل ما قاله في مناقشته اللهم إلا صديقه فيثاغورس. فيه (السؤال وفيه الجواب). وهو بعض العلم لمن يريد أن يعلم فلا لزوم للإعادة.

قال الأستاذ العقاد (إن الأستاذ نقولا الحداد لم يرزق بداهة فلسفية كبداهة فيثاغورس (ولا كبداهة صديقه الأستاذ الأكبر) ولم يرزق نظرة علمية إلى ما وراء الظواهر) سبحان الرازق.

ولكنه رزق من العقل ما رزق الناس وهو يكفيه أن يفهم أن القول بأن المادة مؤلفة من العدد والنغم سخافة ليس بعدها سخافة.

ولكن الأستاذ الكبير رزق من البداهة الفلسفية أن فلسفة فيثاغورس هي وحي أزلي أبدي سرمدي، وبها تفسير نظريات العلم الحديث، ومهما تقدم العلم وتجرد من السخافات القديمة تبقى هي الوحي العلمي الفلسفي الذي يهتدي بنوره. فهو إذا شاء الكلام بموضوع طريف

ص: 21

رجع إلى فلسفة فيثاغورس المقدسة.

فكيف تبقى الرجعية في العلم؟

إن التهكم يا أستاذ ليس برهاناً ولا حجة، وإن كان في مقالي في المقتطف ما يشتم منه رائحة التهكم فاستغفر. لم أقصده. ولكن ليس فيه شئ منه. والسلام عليك ونحن صديقان. . .

المكان والعدم المطلق:

بعد كتابة ما تقدم اطلعت على مقال الأستاذ العقاد (ولا أقول الأستاذ الكبير لأن كلمة العقاد أكبر من الكبير) في 2 فبراير من الرسالة فإذا بالأستاذ يختلق لي تهمة أخرى لكي يحاسبني عليها. وهي زعمه أني قلت: (أن المكان هو العدم المطلق).

لم أقل هذا القول. ولكن الذي قلته بهذا الشأن هو في صفحة 30 من مقتطف يناير بحروفه.

(لولا حركة المادة لما كان زمان. وكذلك لولا وجود المادة لما كان مكان.

(فوجود المادة خلق المكان. وحدوث حركة المادة خلق الزمان).

(تصور جميع أجرام السماء وذرات الأرض غير موجودة. فكيف يتراءى لك المكان - الحيز الذي كانت المادة تشغله - ألا يهولك العدم المطلق؟ وما هو العدم المطلق؟ هو اللا شئ. فالمكان (بلا مادة) إذن لا شئ. هو العدم غير موجود. لماذا؟ لأن المادة تجعل للمكان حدوداً. فإذا زالت المادة زالت الحدود فكيف تفهم المكان بلا حدود).

(نوجز القول: المادة أوجدت المكان. وحركتها أوجدت الزمان. فالمكان والزمان لولا المادة وحركتها هما عدمان).

هذا نص ما قلته في مقالي في المقتطف. فهل يستفاد منه: (أن المكان هو العدم المطلق؟)

إذا فنيت المادة التي تشغل المكان فني المكان بفنائها. فهو بلاها عدم

ولما قال اينشطين عني المكان المشغول باملادة. ولم يعن الفراغ المطلق. فمتى قلنا (المكان) عنينا مكاناً مملوءاً مادة. وإذا قلنا فراغاً مطلقاً عنينا أن لامكان موجود حتما لأن المادة موجودة. ولا عدم في الوجود.

إذن أصبح كل ما قاله الأستاذ الكبير بهذا الشأن (لاأقول فضولا لأن فيه فوائد للقارئ ولي) بل أقول لم يعد تفنيداً لمِا قلته بل لما لم أقله.

ص: 22

أما تعريفه للموجود والمعدوم والمعلوم والمجهول فقد عرف القراء ما قلته وما قاله فلكل قارئ أن يقبل هذا أو ذاك.

وأما قضية أن الإنسان يتكلم لأنه يفكر أو بالعكس فلم أتعرض له البتة. فلا أدري لماذا جعلها الأستاذ موضوعاً للنقاش.

كان مطلع مقالي في المقتطف: (منذ مدة كتب الأستاذ العقاد في الرسالة أنه (صار عندنا فلسفة) والآن صار يمكننا أن نقول إنه صار عندنا فلسفة وفيلسوف) أي بعد صدور كتاب الله.

ونكن لسوء الحظ سقطت العبارة الأخيرة والمصحح لم يفطن لسقوطها. وغرضي من هذه الإشارة إليها الآن أن أؤكد للقارئ اعتباري العظيم لعلم العقاد واتساع دائرة معارفه وأهليته لخوض المسائل الفلسفية.

وما تصديت إلى التعليق على بعض نقط في (كتاب الله) إلا لأني كنت أملك شيئاً من (العدة) لهذا التعليق. فلا أدري كيف استنتج الأستاذ (من كلامي) أني لم أشتغل في المباحث الفلسفية، ولم أعود عقلي أن يعطيها حقها من التقدير الواجب والتأمل الطويل، وإني لا أملك العدة التي تعينني على النقد والتمحيص

نعم لم أكتب في الفلسفة يا سيدي الأستاذ. ولكن ما أدراك إني مطلع على بعض كتب الفلسفة البحتة التي اطلعت أنت عليها ككتاب (المرشد إلى الفلسفة) للعلامة جود أستاذ الفلسفة في جامعته وكتاب (قصة الفلسفة) للعلامة ول دورانت. و (العلم والفلسفة) لكبير العلماء جينز (رحمة الله عليه) القضايا الفلسفية لبرتراند رصل وقد درستها غير مرة.

فلا أظنني بعد هذه الدراسات كنت خلواً من (العدة) للتعليق على بعض نقط (كتاب الله) مع ذلك لا أقول أن هذه العدة المتواضعة تعصمني لله وحده.

نقولا الحداد

ص: 23

‌مسابقة الفلسفة لطلاب السنة التوجيهية: (3، 4، 5)

الحرية

للأستاذ كمال دسوقي

3 -

الحرية بوجه عام:

بيناً فيما مضى طبيعة الصراع بين الرعايا المحكومين والسلطات الحاكمة، وقلنا إن الأمر هنا يتعلق بتعارض المنافع الفردية والحرية الشخصية من ناحية، والحكام بوصفهم ممثلي المجتمع المعبرين عن رغباته، والقائمين على تحقيق المنافع العامة بالحد من الحرية الفردية من ناحية أخرى. وقلنا كذلك إن الشعوب لم تفتأ تحاول الحد من سلطان الحاكم عليها، بأن تحمله على أن يقطع على نفسه عهوداً ومواثيق حيناً، وبأن تشترط موافقة الأمة ممثلة في هيئاتها حيناً آخر، لتضمن في الحالين عدم استبداد الحاكم واضطهاد الرعية.

وكلما زاد فهم المحكومين لطبيعة الحاكم بوصفه ممثل إرادتهم، قلت مسافة الخلف بينهما، لتتحد إرادتهما، ورأى المحكومين بالتالي أن يفوضوا إلى الحكام أمرهم، ويركزوا في أشخاصهم سلطتهم - ثم يحّاسبوهم أو يعزلوهم إن لم يكونوا لذلك أهلا، ولكن هذا الحكم الذاتي - حكم الشعب نفسه لا يلبث أن يتكشف عن مجرد إرادة الأغلبية، ويبدو هذا الاستبداد من الأكثرية - ولو أنه الديمقراطية حقاً - إجحافاً بحرية الأقلية أصحاب المصالح أيضاً التي لا تتفق معها في الرأي، ويصبح طغيان الأكثرية هذا خطراً دونه خطر استبداد الحكام وموظفيهم، لأنه يصدر عن الشعور العام والاتجاه السائد لغالبية المجتمع فثمت خطران يهددان حرية الفرد: الاستبداد السياسي من الحكام، وطغيان أكثرية المجتمع. التوفيق بينهما مستحيل، كما أن تعيين قواعد السلوك التي يتحتم علينا اتباعها بقوة القانون أو المجتمع حتى لا تتعارض الحريات هي مشكلة المشاكل. لا يتفق في تحديدها جيلان متعاقبان، أو شعبان في جيل واحد.

وآفة هذا كله أن الناس يسلكون وفق أهوائهم غير المعقولة، وقد يعززونها بأهواء غيرهم لتتخذ صورة إجماعية مقبولة، بالإجماع لا بالمنطق، وإن كان مصدرها في واقع الأمر وهما أو عاطفة، أو خرافة أو هوى، أو خوفا وحسدا، أو كبرا وبغضاء، أو أنانية ونفاقا، أو

ص: 24

تملقا لعواطف السادة وتقربا إلى الحكام، إلى غير ذلك من وسائل المنفعة الذاتية المشروعة وغير المشروعة، ولكنها مع هذا - بحكم العادة - تصبح ذات أثر بليغ في تحديد السلوك والآداب وتقاليد المجتمع، وخصوصاً أن الحكام لم يحاولوا مراجعة هذا المبدأ - مبدأ التشريع على أساس العاطفة الجماعية كما رأينا - بل أخذوه قضية مسلمة، وشرعوا ينظرون في تفاصيل الأمور التي يرضى عنها أو يعاقب عليها المجتمع على هذا الأساس، ويضرب (مل) مثلا لخطر استبداد الأكثرية بدافع الهوى، مسألة العقائد الدينية وتعصب الجماعات فيها.

ومجمل ما يقرره المؤلف في (تمهيد) كتابه بعد ذلك، يتلخص في القضايا التالية.

1 -

سلطة القانون في بلاده أقل نفوذاً من سلطان الرأي العام الذي يجعل من الحكومة خصماً له، ومهدداً لحريته، وإن كان القوم بين مؤبد لتدخل الحكومة في حرية الأفراد، ومعارض لهذا التدخل - لم يضعوا له قاعدة مقررة.

2 -

منع الفرد من الإضرار بغيره هو المسوغ الأوحد لتدخل السلطات في حرية مواطن متمدين، وفيما عدا هذا، فللإنسان مطلق التصرف في جسمه وعقله، ومالم يخرج عن دائرة شخصه فلا سلطان للمجتمع عليه. ويستثنى من ذلك من لا يزال قاصراً من الأفراد والجماعات، فإنه يجوز استبداد حكامهم حتى ينضجوا ويصلحوا.

3 -

ومع أن الحرية حق طبيعي يعود على الفرد بالمنفعة الشخصية، فإن للمجتمع أن يجبر الفرد على الدفاع الوطني والشهادة أمام الفضاء وعمل البر وهي أمور واجبة عليه، ويحاسبه إذا امتنع عنها أو قصر فيها، أو أهمل فعلها فترتب على الإهمال نتائج خطيرة عن طريق القانون أو سلطة المجتمع، إذ الأمر هنا يتعلق بالصالح العام المقدم على المنفعة الشخصية، وفيما عدا هذا لا يتعرض المجتمع لحرية الفرد.

4 -

وثمت أحوال يكون فيها الفرد مسئولاً أمام المجتمع؛ ولكن مسئوليته تحيط بها ظروف وملابسات تجعل من الخير تركه وشأنه، فهنا يجب ترك الفرد لضميره يحكم عليه ويؤاخذه.

5 -

أما الأحوال التي لا يجوز للمجتمع أن يتدخل فيها مالم تؤثر في الغير تأثيراً مباشراً فهي حرية الاعتقاد والفكر والميل والشعور، والتعبير عنها، وحرية الأذواق والمشارب، ثم

ص: 25

حرية الاجتماع والتعاون.

6 -

يقاس رقي المجتمع بمبلغ تحقيق هذه الحريات، وما لم تكن الدولة في خطر فليس ثمت ما يبرر تدخلها في أخص شئون الأفراد الذاتية، مهما يكن أمر دعاة سيطرة المجتمع أمثال أوجست كونت وغيره.

4 -

حرية الرأي وحرية التصرف:

وبعد تلخيص هذه المقدمة يقبل على الفصلين الثاني والثالث، وهما أهم فصول الكتاب، وأنضج آراء المؤلف، وأكثر الكتابات قيمة لمن يحاول الدفاع عن الحرية الشخصية في الفكر والعمل، أولهما يتناول بالحديث حرية الرأي والاعتقاد، والتعبير عما نفكر بالمناقشة أو الخطابة أو النشر. وثانيهما يعرض لحرية التصرف والفعل والتنفيذ في حيز العمل كما هو في حيز القول، ما دمنا لا نتعارض في هذه أو تلك مع الصالح العام.

وما الذي يسوغ لحكومة أياً كانت أن تقيد تفكيرنا أو تحمنا على ما لا نريد من الرأي، ولو كان ذلك بإرادتنا؟ إن الحقيقة في مسائل الرأي ليست من الجلاء بحيث تكون دائماً مع الحكام، ويكون المجكومون - فرداً أو جماعة - هم المخطئين، وحتى لو جاز ذلك، فتدخل السلطات لمنع الخطأ هو سبيل انتشاره. حقاً إن الناس كثيراً ما يتعصبون من الناحية العملية - وإن أنكروا ذلك جدلاً - لآرائهم التي يهديهم لها محض الصدفة أو مجرد الإجماع - كأنما هم معصومون من الزَّلل، ولكن هذا الخطأ في استعمال العقل لا يدعو إلى تحريم التفكير أصلاً، وكل ما في وسعنا أن نهيب بالأفراد والحكومات أن يبذلوا كل جهد للوقوف على الحقيقة والتيقن منها قبل نشرها وإذاعتها - فحرية المعارضة والمناقشة هي وسيلة الصواب واليقين، وما دامت أخطاؤنا وهفوات لحسن حظ البشرية وصلاح أمرها - قابلة للتقويم والتعديل فينبغي أن نطلق للأفرد أكبر حرية في الفكر والمناقشة حتى يتأدوا إلى الحقيقة التي تصلح من أخطائهم، وتردهم إلى الصواب.

ولإطلاق حرية المناقشة - فوق تحقيق الميزة الجوهرية للعقل الإنساني بتقويمه وتعديله التي قدمنا - ميزة أخرى موضوعية تتعلق بالشيء ذاته موضع المناقشة، فإن ثباته للجدل حوله والمناقشة فيه وسيلة الثقة به والاطمئنان إليه، إذ أنه لو كان ثمت حقيقة نستطيع أن نهتدي إليها، فلن نصل فيها إلى اليقين المطلق، بل لما يشبه اليقين ويظن به الصواب،

ص: 26

وحتى هذا القدر لن نصل إليه بالتقييد والتحريم، بل بإفساح مجال الدرس والمباحثة، فنصلح تفكيرنا، ونقوي في الوقت نفسه حجة الشيء ذاته، إذ أن دعامة الثقة بشيء إنما تقوم في قدرته على تحدي خصومه للمبارزة، فإن لم يكن له معارض، أو كان له معارض سقطت حجته في الميدان؛ فقد حكم له بقربه من الصواب.

وكما أنه لا يجوز حمل الناس على غير ما يريدون بادعاء العصمة في أنفسنا وفيما نريدهم عليه، حتى ولو كان معنا الإجماع؛ ما دام من الممكن أن يكونوا هم على حق، وما دمنا لم نفسح المجال لنتبين خطأ الأمر من صوابه في مناقشات حرة؛ كذلك ليس لن أن نحملهم عليه بحجة المنفعة، أو بدعوى الفائدة للمجتمع أو أية ذريعة أخرى، فما دمنا لم نسمع رأي الفريق المعارض، ولو كان نفراً قليلا لا نجزم بأن المنفعة في جانبه أو في جانبنا، فالمشكلة باقية لم تحل، ولم نزل ندعي العصمة في أنفسنا - ونرمي معارضينا بالخطأ - في تعرف النفع كما ادعيناها من قبل في الاهتداء إلى الحق.

فنحن حين نقيد حرية الرأي في الأفراد إنما نحملهم على اتباع رأينا، ونسوقهم إليه باسم الإجماع على الحق حيناً، ومنفعة المجتمع حيناً آخر - مما يحمل في طيه ادعاء العصمة من الفساد في آرائنا - والعصمة من الصواب في معارضينا، وليست الحقيقة - كما قلنا - بحيث نتعرفها بهذه السهولة، بل لا بد للوصول إلى بعض اليقين من حرية مناقشة واسعة النطاق، حتى في أخص مسائل الحياة كالدين وحسب البشرية ما ترتب على العصب الديني والطائفي والكنسي من اضطهادات ومظالم وشهداء - يتوسع (مل) في الاستشهاد بها - ليس ينهض عذراً لها ما يقال من ضرورة اجتياز الحق لهذه المحن، فإن في إتيان هذه الفظائع قضاء على التجديد والإحسان والعمل على ترقية الجنس البشري. وفضلا عن أن الاضطهاد يزهق الحق ويخفيه ويعوق انتشاره، وينزل بدعاته العذاب، فإنه يقتل الشجاعة الأدبية ويصادر حرية الفكر، وجرأة الحق، ويعوق نمو السلطات وانتشار ثمرات الإبداع في حينها، ويؤدي إلى تستر المفكرين وذلتهم وسعيهم لتملق عواطف المجتمع بدلا من البحث عن الحقيقة. ومع هذا فالحق لا بد يوماً أن يظهر ويبهرنا ضوءه فنضطر متأخرين إلى الإيمان به - بعد إذ أسأنا إلى أصحابه وعذبناهم - وبعد أن لم نسلم من الثورات الفكرية التي يولدها الضغط والتقييد.

ص: 27

وبعد أن فرغ (مل) من إثبات شطر حجته الأول: عدم ادعاء العصمة في حمل الفرد على حق أو منفعة، انتقل إلى الشطر الثاني منها - وهو خطر إخماد رأي الفرد ولو كان خطأ - إذ أن منع المناقشة منعاً باتاً أمر ضار ومستحيل - خصوصاً في المباحث المتعارضة الآراء - ولضرورة دراسة حجة الخصم وتفهيمه علة خطئه ليتثقف عقله، بعد أن نسمعها منه بنزاهة وصدق رغبة، بلا تحيز ولا محاباة، أو تفريق بين عام وخاص. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى، فإن تقييد المناقشة يتعدى أثره الخمود العقلي إلى خمود المعاني الأخلاقية في العقائد موضوع المناقشة - بما يجعل منها ألفاظاً منسية جوفاء - وإلى جمود العقائد والأقطار ذاتها بعد أن تصبح تقليداً محافظاً مستقراً، اطمأن عليه حماته ونام عنه خصومه، وهذا التحجر في العقائد - دينية أو غير دينية - يجعل منها رسوماً وطقوساً أولى منها معاني جميلة وعقائد. فلا بد من الخلاف والمناقشة حتى نصل إلى الحقائق اليقينية التي تعين على رقي النوع البشري، ولا بد من تهيئة الوسائل التي تثير هذا النقاش المستمر حول الحقائق حتى لا تموت باستقرارها، ولا بد أخيراً أن نكمل جزء اليقين الذي في آرائنا بيقين آراء معارضينا. وأن نشفع نزعة المحافظة دائماً بنزعة مساوقة إلى التقدم والإصلاح في سياستنا.

كمال دسوقي

ص: 28

‌رأي مفتي حضرموت

فيما دار بين عزام باشا والسيد محمد بهجت الأثري

تتمة ما نشر في العدد الماضي

ولو لم يكن إلا هذا وحده لكفى مبرراً لقول عزام ورد كلام الأثري وهو نص جلي فيما قدمناه فلله الحمد على الهداية، ولم يذكر ابن القيم احتجاج عمر بآيات الحشر لأنها لا تصلح للغنيمة وإنما جرى ابن الخطاب في السواد على النص ما اشتهر من قوله متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما فإنه ظاهر المصادفة للنص وقد حاولوا بجواب عنه فلم يأتوا إلا بالتافه المردود وذكر بن خلكان في ترجمة يحيى بن أكثم أن المأمون يسوقه مساق المتفتي عليه يقول ومن أنت يا جعل حتى تنهى عمى أقره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى آخر القصة التي يكفين منها موضع الشاهد وهو هذا وأصله في صحيح مسلم عن جابر قال كنا نستمع بالقبضة من الدقيق والتمر الأيام على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر وصدراً من خلافة عمر حتى نهانا عنهما، عمر وبعيد جداً أن يقول ابن الخطاب عنها ذلك القول الغليظ، وهو ذاكر النص بدون أدنى إشارة إليه وإنما جرى منه على انقياد من ترجيح المصلحة، ولابن الخطاب في قضية المتعة مزمية إذ قد ظهرت النصوص بعد ذلك متظاهرة على تحريمها موافقة لما ذهب إليه بأصالة رأيه وبُعد نظره، ومنها حديث سيرة الجهني عند مسلم وأبي داود وأحمد، ومما يتأكد به أن قول عمر في متعة النساء كافية رأياً أرتاه جمعه إياها ومتعة الحج في سياقه واحدة، وقد أخرج مسلم عن ابن أبي هليكة عن عروة ابن الزبير قال لرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأمر الناس بالعمرة في هؤلاء العشرة وليس فيها عمرة فقال أو لا تسأل أمك عن ذلك، قال عروة فإن أبا بكر وعمر لم يفعلا ذلك فقال الرجل من ها هنا هلكتم ما أرى الله عز وجل إلا سيعذبكم أني أحدثكم عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتخبروني بأبى بكر وعمر والحديث أطول من هذا والرجل هو ابن عباس وله شواهد كثيرة وحسبنا منها أن قول عمر في متعة الحج كان برأيه المخالف للنص والمصلحة التي رآها في ذلك هي كرهه لأن يدخل الناس في الحج ومذاكيرهم تقطر لأن الرفهينة لا تليف باخشيشان النسك وقول ابن عباس لعروة

ص: 29

أولا تسأل أمك النسب بمتعة النساء وله قصة طويلة مذكورة في السير، ولكن لعل الحديث اختصر فانتقل النظر ولا ينكر أحد أن عمر رضى الله عنه كان وقافاً عند كتاب الله ولكن إذا استنار له الدليل وإلا فإنه يذهب عند ظهور المصلحة إلى التأويل، ولعل منه قياس الغنيمة سوى من سماهم الأستاذ الأثرى.

وحسبك بما جرى منه يوم الحديبية فإنه لم يقبل كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولو وجد أعواناً لرده وخرج مغضباً ثم لم تنكسر سورة غضبه إلا عند انقطاع الحيلة وتعقب مراجعات له من أبى بكر طويلة، وعذره في ذلك شدة غيرته على الدين، ومنها إشفاقه عليه وقوة شكيمته وصلابة عوده في الحق وصحة إخلاصه لله ولرسوله صلى الله عليه وآله وسلم، فجرى على سجيته العربية من خشونة اللفظ مع نسيان لتحفظ تحت تلك التأثيرات ولو قالها غيره لطعنوا فيه، أما هو فعلى حد قوله:

ويقبح من سواك الفعل عندي

فتفعله فيحسن منك ذاكا

وهل فوق هذا دليل على أن ابن الخطاب يسير مع ما يراه من المصلحة للإسلام وإن حادت عن النص الخاص والعام، ولقد فعل يوم مات ابن أبى من اعتراضه على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجذبه بثوبه ما هو معلوم وكان له في ذلك منقبه إذ نزل الذكر الحكيم بموافقته بعد، وفى الصحيح أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال لهم يوم اشتد وجعه ائتوني أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً فمنع عمر فليس في ذلك إيثار للمصلحة التي رآها على النص الصريح بلى وألف بلى فمرحى للأستاذ عزام مرحى إذ ألهمه الصواب من أوحى إلى عبده ما أوحى، وأكبر من هذا كله ما جاء في لتمدن الإسلامي 217 ج اطبعة ثالثة من ص 121 ج 2 من خطط المقريزي من تقرير ابن الخطاب للمكوس في الإسلام مع مصادمة ذلك للنصوص حتى لقد قال بعض الشافعية أن استحلال المكس كفر، ونقل العصامي في تاريخه عن قطب الدين النهرواني أن الألسنة انطلقت بالوقيعة في القضاة الأربعة بالقاهرة الذين أفتوا بحل المكس في جده وقالوا إنهم اعتمدوا هوى الملك حفظاً لمناصبهم.

وما أخطأ صاحب التمدن إلا في تعيين الصفحة والجزء من الخطط وإلا فقد جاء في ص 166 منها وأصل ذلك في الإسلام أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه بلغه

ص: 30

أن تجاراً من المسلمين يأتون أرض الجند فيأخذون منهم العشر فكتب إلى أبى موسى الأشعري وهو على البصرة أن خذ من كل تاجر يمر بك من المسلمين من كل مائتي درهم خمسة دراهم وخذ من كل تاجر من تجار العهد من كل عشرين درهماً درهماً، ومن تجار الحرب من كل عشرة دراهم درهماً، ونهى عمر بن عبد العزيز عن ذلك وكتب ضعوا عن الناس هذه المكوس فليس بالمكس ولكنه البخس.

ومن تلك الأمثال ما رواه طاوس عن ابن عباس قال كان طلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر واحدة فقال عمر بن الخطاب إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم فأمضاه عليهم رواه أحمد ومسلم وفي لفظ آخر رواه مسلم فلما كان في عهد عمر تتابع الناس في الطلاق فأجازه عليه وفي آخر رواه مسلم أيضاً أن عمر قال أجيزوهن عليهم رواه أبو داود وكنت أستنكر القول بأن الثلاث واحدة لما حصل من تشنيع العلماء على ابن القيم وشيخه في اختيار ذلك ولأن الحنابلة على اعترافهم بفضل هذين الشيخين لم يوافقوهما على ذلكن ولأن الأئمة الأربعة على خلافه حتى رأيت العلامة الشوكاني يبالغ في تأييده ويعد من الأجلاء من يقول به والإمام الرازي يقول في تفسير آية الطلاق من البقرة أنه الأقيس وبلغني أن من لا يشك في دينه من الحضارمة يقره فرجعت عما كنت عليه فيه، ومعاذ الله أن نقول أن ابن الخطاب أو من دونه من العلماء القائلين بالاستصلاح يقصدون مراغمة النصوص الشرعية إنا إذاً لظالمون، ولكنهم إذا ظهرت المصلحة المحققة رجحوها متحيزين إلى النصوص العامة في ذلك كقوله جل ذكره: ما جعل عليكم في لدين من حرج وقوله: يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر، وأمثالها مما لا يحصى وفي الصحيح يسرا ولا تعسرا، ومن أساطين الشريعة ما أخرجه ابن ماجه مرفوعاً لا ضرر ولا ضرار، ولقد أراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن ينزل ببدر منزلا لم يره الأنصار موافقاً للقتال فخالفوه فرجع إلى رأيهم وقال للأنصار عام قدومه المدينة ما يضركم أن لا تؤبروا فخرج نخل المدينة شيصاً فقال لهم انتم أعرف بدنياكم واتفق أصحاب السير على أنه عليه السلام عزم على أن يصالح رئيسي غطفان عيينة بن حصن والحارث بن عوف على أن ينصرفا بقومهما في حادثة الأحزاب ولهما ثلث ثمار المدينة ثم شاور السعدين بعد تمام المراوضة

ص: 31

فقالا إن يكن الله أمرك فسمعاً وطاعة، وإن كنت إنما تريد أن تصنع لنا بذلك فلا حاجة لنا به، فرجع إلى قولهما ووجه الدلالة فيه من جهتين أن النبي أراد التصرف في أموال الأنصار بدون استرضائهم كلهم للمصلحة وأن السعدين خالفاه للمصلحة أيضاً فرجع إلى رأيهما وأكبر من ذلك ما أخرجه مسلم عن عمران بن حصين أنه صلى الله عليه وآله وسلم أخذ رجلا من غفار بجريرة حلفائه من ثقيف وما كان إلا من أجل المصلحة وإلا فالباري جل شأنه يقول في غير موضع من التنزيل:(ولا تزر وازرة وزر أُخرى)، ويقول عن العبد الصالح (معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذاً لظالمون) وقالت الصديقة عائشة لو علم رسول الله صلى الله وآله وسلم ما أحدث النساء بعده لمنعهن المساجد أو ما يقرب منه، وقال ابن عبد السلام لله أحكام تحدث عند وجود أسبابها، وقال بعض الأئمة يحدث للناس من الأحكام بقدر ما أحدثوا من الفجور، وقال بعض متأخري الشافعية الشرع مبني على دره المفاسد وجلب المصالح، بل لو كن حكم شرعي يخالف العادة ترك للعادة سداً للذريعة المؤدية إلى الشقاق والعداوة التي لا ينقطع بابها إذا فتح ولا ينسد.

ولئن كنت ناقشته في بعض كتبي الفقهية لتقيدي في الفتوى بمنقول المذهب فلا بأس أن استدل به هنا للاستصلاح لفرق ما بين الجهتين لا سيما وقد رجحته علامة اليمن الحبر البدل شيخ شيخنا السيد عبد الرحمن بن سليمان الأهدل فيما ذهب إليه من تقوية كلام العلامة ابن زياد في نفس الموضوع وقال كثير من العلماء كالحنفية بالاستحسان، وفسر بدليل ينقدح في نفس المجتهد تقصر عنه عبارته وفسر أيضاً بعدول عن الدليل إلى العادة للمصلحة ومن المقرر بين الأصوليين حتى في المتون جواز التخصيص بالعقل وليس الاستصلاح عند مصادمة الدليل إلا من ذلك القبيل وعلى خاطري أن بعض الصحابة أحرم بصلاة المغرب فانفلتت راحلته فذهب وراءها حتى ردها وعقلها فعاد إلى مكانه وأتم صلاته فقيل له فقال أأدع ناقتي تضيع وأنا شيخ ضعيف؟ ولقد غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كذا وكذا غزوة فرأيت من تيسيره ما يتسع لأكثر من عملي هذا أو ما يقرب من هذا أو ما هذا نخيله وهو من الثابت وقد ذكرته في بعض كتبي ولكني لا أدري أين مكانه الآن فترى هذا الصحابي رضوان الله عليه تجاوز النصوص الخاصة في

ص: 32

منع الأعمال في الصلاة إلى الدليل العام من التيسير ولكل ما فعله مبرر من الفقه عندنا إلا عوده إلى مكانه الأول إن ثبت، وإلا فقد قال في التحفة من أخذ له مال في الصلاة لا يجوز له أن يبقى فيها ويتبعه ويصليها صلاة شدة الخوف على الأوجه بل يقطعها ويتبعه إن شاء.

ومقابل الأوجه الجواز وهو مما يسوغ العمل به في حق النفس والشريعة كما سبق مبنية على حفظ المصالح ودره المفاسد فليس الأستاذ عزام بالأوحد في هذه الطريقة ولكنها المهيع الواضح والسبيل العظيم وقد أطلت القول في ذلك لبعض المناسبات التاريخية في كتابي بضايع التابوت في نتف من تاريخ حضرموت المنوي تقديمه للطبع بهمة الشاب الفاضل الأديب عبد الله. بالخير ونسيت وما إنساني إلا الشيطان أن أذكر فيه ما يصلح لأن يكون أكبر شاهد للاستصلاح وهو قوله جل ثناؤه في سورة الأحزاب (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شئ عليما) إذ لو لم يضمن دينه حماية العدل والنظام إلى يوم البعث والقيام بقبوله للمصالح لما انقطعت النبوة ولبقيت الحاجة شديدة إليها لكنها انتهت فلم يبق للرسالة معنى بعد انقضائها لأن هذا الدين المتين ملائم لكل زمان ومكان وإن اختلفت الأحوال واضطربت الأمور، وأرجحت الفتن، وتقلبت الظروف، وتباينت المؤثرات فلا حاجة مع لطف مرونته واتساع صدره وغزارة مواده وفضيلة قابليته إلى قانون سواه يتجدد لحفظ النظام ونفع الأنام مع مسايرة الأيام ومنه تعرف بديع مناسبة الفاصلة لأن العلم واسع لن يضيق بأية حادثة تعرض له في مستقبل الزمان وإن انقطع سلاها واطلخم دجاها ولذا كان سهم بن الخطاب هو الصايب وفكره هو الثاقب وحزه يطبق المفاصل وكثيراً ما يصف الباري نفسه في الفواصل بأنه واسع عليم وواسع حكيم أفتضيق تلك السعة التي بالغ فيها التنزيل عن مصلحة كلية إزاء دليل جزئي محتمل لنفوذ التخصيص إليه بالمنفصل من كل ناحية لا والله فإن هذا ما لا يكون ولئن فاتني هذا الدليل في البضايع فلم يكن لدى بضائع إذ كم عالجت به مريض وتعرضت له في النثر والقريض وكررته بالتصريح والتعريض حتى لقد قلت من القصيدة النبوية التي أنشأتها في سنة 1360هـ على نهج البردة الشريفة.

وما بغير الذي تقضى شريعته

للناس منجى من الأرزاء والغمم

إذ لا يوازيه دين في عدالته

ولم يكن مع إصلاح بمصطدم

ص: 33

أما شريعة عيسى فالنجاة بها

مع التمدن شئ غير ملتئم

والله جل شأنه يقول قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء، ويقول وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين. وهل يمكن مع تقدم الطب بهذه الأيام أن يتأخر الطب الذي بعث به عليه السلام أو أن يعجز عن مكافحة بعض الآلام كلا أنه لينقطع دون هذا الكلام لكن الجمود حجاب وداعي التقليد الأعمى لا يجاب وإنما يستحق الفهم كما في آية سليمان الإعجاب وبعض هذا كان للإلزام بما قاله الشيخ عزام ولئن لم نطلع على رسالته بحذافيرها فقد أنبأتنا تلك الجمل بأخابيرها والله أعلم. قاله وأملاه خادم العلم ابن عبيد الله. في 5 العقدة سنة 1366.

ص: 34

‌دمعة على محمد إسعاف النشاشيبي:

كل أرض ضمتك فهي وساد

للأستاذ محمد عبد الغني حسن

يستوي الموتُ في المكان النائي

ومكان الأجداد والآباءِ

يا غريب الممات ما نحنُ إلا

غرباء في منزل الغرباءِ

كلُّ أَرض ضمتكَ فهي وسادٌ

يستوي عندها مصيرُ الفناءِ

من دعته منيةٌ لبلاد

مات فيها إجابةً للنداءِ

قدَرٌ حائن على المرء لم ينْ

أقريبٌ عنه ولم ينجُ نأئي

من تفته المنونُ في بأساء

لم تفته المنونُ في النَّعماءِ

أَخطأتك الأقدارُ والبأس يغلي

في فلسطين والحمى في دماءِ

وأصابتك في مكانٍ أَمين

رُبَّ أَمْن يجذُّ حبل الرَّجاءِ

لم تمت ميتة الجبان ولكن

متَّ في العلم ميتة الشهداءِ

كُنت في ساحة العروبة سيفاً

من نفاذ ومُنصلاً من مضاءِ

لم تُجاهد بالسيف فيها ولكن

كُنت فيها مُجاهد الآراءِ

رُبَّ فكر أمضى من السيف في الذَّو

د ورأىٍ أحمى من الهيجاءِ

حاجة الشرق للسيوف المواضي

مثلُ حاجاته إلى العلماء. . .

لغة الضاد رُوِّعت فيك لما

فقدت فيك واحد الأُدباءِ

كنت صدر الرُّواة في مجلس القو

م وشيخ التقات في الأنبياءِ

كنت جيلا من الرواية ولىَّ

بعد جيل الرُّواة والقرَّاءِ

وزماناً في الحفظ غير خلاء

ومكاناً في الفضل غير خواءِ

حافظاً للتراث في غير زهو

كاختيال الغبيّ أو خُيلاءِ

كنت تروى كقارئ من كتاب

عصبىَّ البيان فخم الأداءِ

تنشر المكرمات من عهد عدنا

ن وتحي مكارم الصحراءِ

وتعيد الحديث عن كل ماض

حافل بالفخار والعلياءِ

كُنت تتلوهُ في اعتزاز المباهي

وافتخار البنين بالآباءِ

ص: 35

كانت العربُ كلها لك قوماً

تنتمي عندها أعزَّ انتماءِ

لم تُكاثر إلا بهم وتفاخر

لم تكاثر في مجلس بثراءِ

شهد اللهُ ما سمعتك يوماً

مسرفاً في ظواهر الأشياءِ

شهد اللهُ ما رأيتك تُعنى

بخداع المنى وزُور الثناءِ

تعس الناسُ فيم يشمخ منهم

شامخ بالمظاهر الجوفاءِ؟

كيف يُزهى بالمال والجاه من لا

يملك المالُ عنه ردَّ القضاءِ

كيف يُزهى بالمال والجاه من لا

يتوقى في صحة من داءِ؟؟

يا دفيناً في أرض مصر وكانت

لك في القدس أرحب الأرجاءِ

كيف ضنَّ الحمى عليك بشبر

من تراب وحفنة من هباءِ؟

مصر ضمت ثرَاك وهي وعاء

لكنوز مذخورة للِبقاءِ. .

قدًرٌ ساقك الغداة إلينا

لِتلبى بمصر حُكم السماءِ

كلُّ شبر من العرُوبةِ مأوى

لِوداد وَملجأ لإخاءِ. . .

لا أقولُ انتهت حياتك فينا

أنت باق بالذكر في الأحياءِ

أنت على من الرثاء. . ولكن

هذِه أدمعي. وهن رثائي

محمد عبد الغني حسن

ذكرى الرسول الكريم

للأستاذ مختار الوكيل

سيد الخلق وزين الأنبياء

جئت في ساحك أستجدي الضياءْ

فأنلني غوثك المأمول يا

موئل العاني وكهف الضعفاء

واعف عن ضعفي فما شعري سوى

قطرة من فيض رب الفصحاء

الذي أدبه الله، فلم

يعرف الهزل، ولم يدر الهُراءا

والذي علّمه الباري، فما

خفيت عنه تهاويل الفضاء

والذي نزهه المولى، فلم

يقل الهُجر، ولم يرو الهجاء

جئتك اليوم مُنيبساً، لا أرى

غير باب الطهر باباً للنجاء

ص: 36

لائذاً بالستر أسعى مُهطعاً

لشفيع صفحه كلُّ الرجاء

كانت الدنيا ظلاماً دامساً

والديانات بها محض هباء

فضعيفٌ من قويّ يشتكي

وظلوم ليس يُعفى البؤساء

وأخو شرك على الأرض ظغى

ولو اسطاع تمادي في السماء

وأخو كاس على الخمر ارتمى

يرشف الراح ويحسو ما يشاء

وبغاة وعتاة أمعنوا

في المعاصي وتمادوا في الدهاء

عُكّفٌ حول الذي قد نمقوا

من شخوص وتماثيل خواء

عندما أقبلت موفور السنى

حصحص الحق ونور العدل جاء

وأقمت الحكم شورى لم يكن

حكم مُستعل ولا حكم افتراء

وسننت العدل قسطاساً فما

عرف البغي ضعيف في القضاء

مُذ دنا ركبك من (أم القرى)

زهق الباطل والحق أضاء

يا رسول الله يا خير الورى

نفحة منك بها يدنو الشفاء

عالم اليوم طغى فيه الألى

سفَّهوا الدين وعابوا الأتقياء

زعموا قنبلة ذرية

سوف تفني الكون، فالكون خلاء

ومضوا في غيهم إن خرجوا

من شقاء سربلوا ثوب شقاء

ما العداوات التي نشهدها

غير إرهاصات حرب ودماء

ما الدعايات التي نسمعها

غير سم منه قد فاض الإناء

كفروا بالله، ياويحهمو

واستهانوا بكلام الأنبياء

ومشوا في موكب من لهب

سقطوا فيه ضحايا الخيلاء

قومك اليوم، رسول الله في

محنة نكراء يشكون العناء

شتت الباغون إجماعهم

وأحالوهم طيوفاً وذماء

مسلمو اليوم على أرضهم

أصبحوا أحلاف ذل غرباء

سادة للكون كانوا، فغدوا

غرضاً للطامعين السفهاء

يطلبون القوت، لا تحفزهم

لطلاب المجد أحلام وضاء

قنعوا بالرسف في القيد فلم

يسألوا غير كفاف الأجراء

ص: 37

كانت الدنيا لهم مذ حملوا

سيفهم يبغون للدين العلاء

كانت الدنيا لهم فانقلبوا

همهم كسرة خبز وكساء

يدَّعون الدين والدين براء

من نفوس خاويات كالهواء

ويريدون جلاء ناجزاً

أين من مستضعف نيل الجلاء

جوهر الدين نأوا عن هديه

وأراهم زخرفوا منه الطلاء

ما ينال الحق بالعجز وما

تهزم القطعان ذئب الصحراء

إنما الحق، له السيف يد

وأرى الغفلة قبر البلهاء

ونبي الله بالسيف غزا

وعدو الله بالخسران باء

فأقيموا الدين بالسيف، ولا

تطلبوا المجد بمبذول الدعاء

أنقذوا أرض فلسطين، ولا

ترهبوا الموت ففي الموت البقاء

واطلبوا المجد بسيف لهذم

يدع العادين صرعى في العراء

وأقيلوا الدين من عثرته

بجهاد يذهل الأرض الفضاء

نادت الدنيا بكم أن أقدموا

فأصيخوا إن عقلتم للنداء

وأقيموا الملك بالدين كما

كان في عصر نبي الأنبياء

واذكروا سيرته واقتبسوا

من سناء يذهب الداء العياء

إن أخذتم قبساً من هديه

حزتم النصر، وإلا فالعفاء

يا أبا الزهراء يا رمز الإباء

نحن للإسلام والعرب فداء

نفحة منك بها نحمي الحمى

ونقي الأرض مغبات العداء

مختار الوكيل

ص: 38

‌الأدب والفنّ في أسبُوع

نشوء القومية في البلقان:

ألقى الأستاذ ساطع الحصري يوم السبت المحاضرة الثانية من سلسلة محاضراته التي يلقيها في الجمعية الجغرافية الملكية. وكان موضوع هذه المحاضرة (نشوء الفكرة القومية في النمسا والبلقان - تأثير اللغة والتاريخ والكنيسة فيها).

وقد عنى الأستاذ في هذه المحاضرة بإبراز تأثير اللغة في بعث القوميات تأييداً لما أبداه في المحاضرة السابقة من ترجيح كفة النظرية الألمانية القائلة بأن القومية كائن حي روحه اللغة، ضد النظرية الفرنسية التي ترى أنها إنما تقوم على مشيئة الأمة؛ ولذلك استعرض دول البلقان مبينا ذلك في كل واحدة منها، فاليونان كانت موحدة اللغة والثقافة بفضل الكنيسة التي تركها العثمانيون حرة في شعائرها، وقد حفظت الكنيسة اللغة اليونانية وثقافتها في بلاد اليونان بل نشرتها فيما جاورها من البلاد، ولهذه الوحدة اللغوية الثقافية التي يضاف إليها التاريخ القومي وجهود الكنيسة كانت بلاد اليونان مهيأة لنشوء الفكرة القومية فيها ومستعدة للثورة في سبيل استقلالها وقوميتها، فلم تكن الثورة تنتظر غير الإشارة. وفي بلغاريا كان الأمر على عكس ذلك، لأن الكنيسة اليونانية كانت هي المتسلطة على البلاد البلغارية بسلطانها الديني الذي يستتبع فرض اللغة اليونانية في الصلاة وسائر الشعائر الدينية وفي كل ما يمت إلى الثقافة، ولم تكن اللغة البلغارية ذات أدب ولا ثقافة، بل لم يكن لها نحو ولا صرف، وفي أوائل القرن التاسع عشر بدأت الجهود تتجه إلى ترقية اللغة البلغارية واستعمالها في الدين والثقافة، أي الاستفناء بها عن اليونانية. وجاهد البلغاريون في هذا السبيل رغم ما لاقوه من مقامات وعقبات، حتى وصلوا إلى ما أرادوا من إحياء لغتهم، ثم التفتوا إلى كيانهم السياسي فعملوا على استقلالهم حتى تحقق.

وكذلك فعلت رومانيا في كفاحها اللغوي مع اليونان والسياسي مع الدولة العثمانية، وإن كانت الحال فيها تختلف عن بلغاريا من عدة وجوه، منها التاريخ، إذ استشعر الرومان مجد أبطالهم القديم.

أما يوغسلافيا فكانت قسمين: قسم يتبع تركيا وقسم يتبع النمسا، وقد قامت فكرة القومية في القسمين على توحيد اللغة. ولما ساعدت الظروف القسم الأول على الاستقلال قبل الثاني

ص: 39

ظل يتجه نحو الاتحاد مع القسم الآخر حتى تم ذلك. وقامت في تلك الأثناء دعوات مختلفة إلى اللغة التي يرى كل فريق اتخاذها لغة قومية. ومن ظريف ما حدث أن أحد الشعراء صنع مخطوطات طبقاً للغة التي يدعو إليها وادعى أنها ترجع إلى القرن الثالث عشر، واحتال حتى أظهر أنها كانت محفوظة في سراديب إحدى الكنائس، وجعل ينشد الشعر ويكتب الأقاصيص على أوضاع لغة هذه المخطوطات، وتنبه له بعض المعارضين، ولكن بمضي الزمن سار الجميع عليها.

وهكذا كانت اللغة هي أساس القوميات في دول البلقان، وكان النزاع الكنسي يدور حولها، فلم يكن ثمة اختلاف في العقائد، ولكن كانت اللغة هي الغاية. وبين الأستاذ ذلك أيضاً بوصف حالة البلاد التي تقع بين دول البلقان وهي بلاد مقدونيا، فقد كانت مختلفة في اللغات على حسب موقع كل منها من الأمة التي تجاورها - وصف الأستاذ حالة التنازع بين هذه البلاد في مراحله المختلفة، بسبب اختلاف اللغة، ولم ينته هذا التنازع حتى تقسمت الدول المجاورة تلك البلاد، وأخذت كل دولة منها ما يماثلها في اللغة.

ثم قال الأستاذ: أيد الفرنسيون نظريتهم بسويسرا، إذ قالوا إن الأمة السويسرية شاءت أن تكون أمة فكانت، على الرغم من تعدد لغاتها، والواقع أن سويسرا بلاد كثيفة السكان بخلاف مقدونية وهي تتبع في نظام حكمها أن يقوم كل إقليم بنفسه في الإدارة، والقضاء وغيرها، والحكومة المركزية إنما تنظم العلاقات الخارجية. وقد ساعد موقع البلاد الجغرافي على المحافظة على كيانها وحيادها، لأنها محاطة بدول كبيرة مصلحتها في أن تبقى سويسرا على الحياد، وهنا شبه الأستاذ اللغة في القومية بجاذبية الأرض، فكما أن المصباح المعلق لا يلتصق بالأرض والدخان يصعد إلى السماء ولا يهبط إلى أسفل، دون أن ينقض ذلك جاذبية الأرض - كذلك القومية في سويسرا، تقتضيها عوامل أخرى غير اللغة، ولكن هذا لا يدفع أن اللغة هي أساس القومية وروحها.

هذا هو الإنسان:

لا يستطيع متتبع الآداب أن يغفل ذلك المقال الذي كتبه بالأساس الأستاذ عباس محمود العقاد في مقتل غاندي، فهو مقال لا يظفر الناس بكثير من أمثاله، وخاصة في هذه الأيام التي أصبحت الأقلام فيها تجري على الصفحات لمجرد ملئها بأي كلام.

ص: 40

قتل غاندي في هذا الأسبوع، فكتب كاتبون ونظم شعراء. وقرأت لهؤلاء وهؤلاء، فلم أقع على مثل ما كتب العقاد.

قال في تصوير هذا الحادث: (لم يحدث قط أن ترتفع يد بالشر إلى رجل لا يسفه الأحلام ولا يبشر بغير الإسلام، رجل في الثامنة والسبعين يكف الشر في النفوس بوقار سنه وضعف شيخوخته وطيب سكينته واستسلامه رجل يدين بما يدين به قاتله المتعصب لعقيدته. وقصارى ما تنتهي إليه تلك العقيدة - عند ذلك القاتل التعس - أن قتل البقرة حرام، وأن قتل القديس العظيم مَباح).

وقال: (قيل منذ أيام أن قذيفة ألقيت على غاندي فنجا منها. فوقع في الأنفس أن نجاته من تلك القذيفة من أحداث الطبيعة لا غرابة فيه. . . كأن المادة نفسها تهاب أن تمضي بالأذى إلى هيكل ذلك الروح. . . كأن القذيفة ترتد - ولا تستطيع إلا أن ترتد وحدها - عن القداسة التي أخضعتها، ولم تخضع لها قط في تجارب الحياة. فلما قيل إنه قتل بيد إنسان، قد والله سألت: كيف تحركت عضلة في جسد بشري بضربة قاتلة لذلك الشهيد؟ قد والله سألت عن اليد التي لا تعقل، لأنها كانت خليقة أن تعجز عن الحراك إذا سيمت مثل هذا الحراك الذي يشذ عن كل قانون. . . ولم أسأل كيف سولت نفس ولا كيف هجس ضمير، لأن من الهول الهائل أن يدخل مثل هذا الجرم في حساب نفس أو ضمير).

وقد بلغ الغاية في تحقير القاتل مع الرثاء له بقوله: (ومن يقتل شرف الإنسانية كلها إلا مخلوق يخجل من إنسانيته كل إنسان، بل كل حي من الأحياء، وكل ضاربة من ناهشات الأبدان، وكل ساعية من نافثات السموم. ويسألون: أي جزاء يجزى به وراء الإعدام في جانب الوصمة الأبدية يحملها المسكين وحده في تاريخ البشرية بأسرها. فيذكر وحده إذا ذكر الخزي الذي لا خزي مثله في طوايا التاريخ. هذا هو الإنسان في بؤرته السفلى. وذاك هو الإنسان في ذروته العليا).

ولقد دفع إلى صاحبي بهذا المقال فقرأته، ودفعته إلى صاحبنا الثالث ليقرأه، وقد اعتدنا أن نتناول شيوخنا بألسنة حداد فما نُفلت أحداً منهم، ولكن حينما قرأنا مقال (هذا هو الإنسان) نظر بعضنا إلى بعض وسكتنا، لا لأنا جاحدون، بل لأننا متفاهمون.

في تأبين هدى شعراوي:

ص: 41

شهدت يوم الجمعة احتفال الاتحاد النسائي بتأبين رئيسته السابقة السيدة هدى شعراوي، وقد اشترك في هذا التأبين أربعة من الأدباء، اثنان من الأعلام: الأستاذ عباس محمود العقاد والدكتور محمد حسين هيكل باشا، ألقى الأول قصيدة، وتحدث الثاني عن أثر الفقيدة في نهضة المرأة؛ والآخران هما الأستاذان محمد الأسمر ومحمود أبو الوفا، وقد ألقى كل منهما قصيدة. أما قصيدة أبو الوفا فقد كانت أدق في تصوير شخصية الفقيدة، وأما الأسمر فقد ساعد تعبيره الخطابي وجرس إلقائه على اجتذاب أسماع الجمهور واجتلاب استحسانه.

المرأة المصرية والعربية:

وأريد أن أتجاوز الرجال سريعاً إلى النساء، فإن لي معهن شأناً. تكلم في هذا الاحتفال عشر نساء، ثلاث من العراق ولبنان وفلسطين، وست مصريات، وواحدة أوربية. وأريد أن أقارن بين المصريات وبين العربيات الأخريات، وأقارن بين العربيات جميعاً وبين الأوربية.

مثلت العراق السيدة منيبة الكيلاني، ومثلت لبنان وسوريا السيدة ابتهاج قدورة، وألقت الآنسة تحية محمد كلمة فلسطين، ثم تعاقب بعدهن الست المصريات، فكان الفرق واضحاً كل الوضوح بين الفريقين، فقد امتاز الأوائل لا بفصاحة النطق وسلامته ونصاعته الأسلوب فحسب، بل كذلك بالبراعة في تصوير شخصية هدى شعراوي باعتبارها زعيمة نساء العرب، وفي التعبير عن شعورهن إزاء فقدها، وقد شعرنا ونحن نستمع إلى كل منهن أننا أمام إنسان حي يؤدي إلينا ما يريد من فكره وإحساسه بأسلوب قويم ولسان مبين.

وقد تعمدت أن أصف أولئك الثلاث العربيات بتلك الصفات لأقول صراحة إن المصريات تجردن منها، فالنطق عامي، واللحن كثير، والإعراب لا رقيب عليه، ولا شئ وراء الكلام العادي الجامد، بكت إحداهن - وهي سيدة كريمة لها نشاط محمود في الخدمة الاجتماعية - وهي تلقي كلمها، فعوضت بلاغة بكائها من قصور كلامها. ونابت إحداهن عن خريجات الجامعة، فلم تكن خيراُ من الباقيات.

ولقد جنى العربيات على المصريات اللائي لا أراهن جديرات بأن يوصفن بأنهن عربيات، لأن الأوالي لو لم يشتركن في هذا التأبين لسمعنا من نسائنا وغفرنا لهن قائلين: إنهن جنس

ص: 42

ناعم واللغة العربية خشنة. . ألسن يتحدثن بالفرنسية الرقيقة. .؟ ولكن العربيات وصفت ألسنتهن رقة اللغة العربية وسحر بيانها وبدت المصرية بجانبهن في صورة المتخلفة عن ركب النهضة العربية ولن تكون سائرة في هذا الركب حتى تجيد لغتها وتعالج بيانها.

ومن العجيب أن المرأة المصرية المتعلمة خطت خطوات واسعة في نواحي الحياة المختلفة، ولكنها ما تزال على عجمتها لا تكاد تبين وننظر في ميدان الأدب فلا نرى إلا عدداً لا يبلغ حد المجمع إلا بالتساهل.

فلم لا تتعلم المرأة المصرية اللغة العربية. . .؟ إنها ما دامت وكيلته، فارتجلت كلمتها، وتخلصت بالارتجال من قيود القراءة، وواجهت الجمهور بكل قواها الخطابية. وأنا لم أر بعد امرأة عربية ترتجل بلغة فصيحة، أما الرجال فمنهم من يقرأ وكثيرون يرتجلون، وقد كان موقف هذه السيدة الأوروبية قوياً بالقدرة على الخطابة بلغتها مرتجلة، فبدا الفرق كبيراً بينها وبين من تحبر أو يحبر لها، ثم يتعثر لسانها في الإلقاء!

صدى من لبنان:

يذكر القراء ما كتبته في النهج الذي سلكه أخيراً في الكتابة الأستاذ توفيق الحكيم، وقد رجع إلينا الصدى من لبنان في مجلة الأديب (عدد فبراير) قالت:

(رد الأستاذ توفيق الحكيم على الذين ينعون عليه، بأنه ودع الفن يوم ترك برجه العاجي وانحط إلى مستوى الجمهور، بقوله: يجب على الفنان نفسه أن ينزل السفح إليهم. . . يهدينا إلى ذلك فعل المبدع الأعظم لهذا الكون. . . لقد أراد وهو في عليائه أن يبلغ الناس رسالته فلم ينتظر منهم أن يصعدوا إليه فأرسل إليهم رسولا أو نزل هو نفسه فتجسد في المسيح كما هو القول عند المسيحيين. وبهذا التشبيه البعيد يعتقد الحكيم بأنه أقنع الناس بسر فعلته).

(العباسي)

ص: 43

‌البَريدُ الأدَبيَ

في كتابة التاريخ:

(إلى الأستاذين عبد الرحمن الرافعي بك وعباس محمود

العقاد)

من بضعة أسابيع نشرت مقالا بعنوان (اللغة العربية تصارع) أطريت فيه يداً أسداها للضاد الأساتذة سعد زغلول باشا والدكتور عبد السلام ذهني عبد بك وعبد الحميد عبد الحق، فقد كان للأول فضل تعميم العربية في معاهد الدرس بدل الإنجليزية، وكان للثاني يدٌ طولى في إقرار مبدأ المرافعة بالعربية في محاكم الاختلاط، وانتصر ثالثهم لاستخدام العربية في شركات التجارة وبيوتات المال.

وحسبت حين نشرت ذلك المقال أني لم أزد على أن استقيت من التاريخ تعض وقائعه ونسجت حولها خيوطاً جعلت منه وحدة أدبية تفضل الأستاذ العباس بنعتها (بمقالة نيرة).

ولكن أدبياً - هو الأستاذ عزت المنشاوي - عقب على مقالي في جريدة منبر الشرق، مشككا في فضل سعد زغلول على اللغة العربية، مستشهداً على ذلك بما أورده الأستاذ الجليل عبد الرحمن الرافعي بك في كتابه (مصطفى كامل)، وهذا نصه:

(واشتد الفقيد (مصطفى كامل) في نقد سعد باشا حين طلبت الجمعية العمومية من الحكومة في مارس سنة 1907 جعل التعليم في المدارس الأميرية باللغة العربية، وكان وقتئذ باللغة الإنجليزية، فاعترض سعد باشا وألقى خطبة طويلة في هذا الصدد سوغ فيها جعل التعليم باللغة الإنجليزية قائلا: إن الحكومة لم تقرر التعليم باللغة الأجنبية لمحض رغبتها أو اتباعاً لشهوتها، ولكنها فعلت ذلك مراعاة لمصلحة الأمة. . . وقال: إذا فرضنا أنه يمكننا أن نجعل التعليم من الآن باللغة العربية وشرعنا فيه فعلا، فإننا نكون أسأنا إلى بلادنا وإلى أنفسنا إساءة كبرى لأنه لا يمكن للذين يتعلمون على هذا النحو أن يتوظفوا في الجمارك والبوستة والمحاكم المختلطة والمصالح العديدة المختلفة التابعة للحكومة.)

ومن ثم عدت إلى كتاب (سعد زغلول. سيرة وتحية) للأستاذ الكبير عباس محمود العقاد لأستفتيه في هذا الأمر وأقف على ما أورده في هذا الصدد. فلم يخرج ما قاله العقاد عما

ص: 44

أودته في مقالي، وهو ما أجمع عليه المؤرخون من أن لسعد زغلول فضل تعميم العربية في المعاهد، وإليكم نص ما جاء في كتاب العقاد:

(ومن أجل الأعمال التي قام بها سعد في وزارة المعارف وجازف من أجلها بمنصبه وبحسن العلاقة بينه وبين الأقوياء عملان: أحدهما كان مغضباً للإنجليز، والآخر كان مغضباً للخديو وأتباعه من الشيوخ الأزهريين. . .

(نقل التعليم من اللغة الإنجليزية إلى اللغة العربية، فأغضب الإنجليز أشد الغضب واحتاج إلى تذليل عقبات أخرى غير عقبات المقاومة السياسية، وهي تحضير الكتب وتحضير المدرسين وتهيئة الجو للتدرج من نظام متغلغل متشعب مضت عليه خمس وعشرون سنة إلى نظام طارئ لا يزال في دور التمهيد، محتاجاً إلى المعدات والمنفذين)

فنحن إذاً أمام روايتين غير متطابقتين، يقول بالواحدة الأستاذ الجليل عبد الرحمن الرافعي بك، ويقول بالثانية الكاتب الكبير الأستاذ عباس محمود العقاد. وهذه واقعة تاريخية لا يجدي المنطق في إثباتها إن كانت باطلة، أو تفنيدها إن كانت صائبة. ولذلك أراني مناشداً الأستاذين الكبيرين أن يفيضا - على صفحات الرسالة إذا تسنى ذلك - في تبيان ما عندهما من ملابسات لهذه الحادثة التاريخية لنستطيع أن نخلص برأي أيا كان محوره.

وما دمنا بصدد هذه الواقعة التاريخية، أذكر ملاحظتين قد تكونا معواناً في فهم النهج الذي يتبع في كتابة التاريخ القومي في مصر.

وأول الملاحظتين أن شيخاً كبيراً في المقام عاشر التاريخ المصري في القرن الأخير (وعاش) معظم وقائعه قال لي - وهو اليوم عضو في مجمع فؤاد للغة العربية - إنه يقسم بأن التاريخ المصري المطبوع حافل بأخطاء لا حصر لها، وأنه دأب على أن يسعى التاريخ المصري (تاريخاً لولبياً) لأنه دائم الانحراف عن الحقيقة بسبب عدم تدوينه في حينه، وإرجاء مهمة التأريخ إلى ما بعد انقضاء زمان بعيد على الأحداث المرجو تأريخها.

وقد ألححت على هذا الشيخ في نشر مذكراته إنصافاً للتاريخ وللواقع، فتأبى متعللا بأنه بلغ من طول العمر وشدة الهزال مرتبة لا تمكنه من الرد على ما يتعرض له من حملات إذا ما رأت مذكراته ضوء النهار في حياته.

للشيخ الكبير من المقام ومن العلم ومن الثقافة ما يجعلني أتردد كثيراً قبل أن أحكم ببطلان

ص: 45

رأيه. هذه ملاحظة.

أما الملاحظة الثانية، فلعلها لم تبرح بعد مخيلة القارئين، لأن الصحف ما فتئت تتناول موضوعها من جوانب شتى.

فقد عرف القاصي والداني ما حل بمصر في 4 فبراير عام 1942، وكنا نحسب من عامين أو ثلاثة أن تاريخ تلك الواقعة قد سجل فعلا، ولم يعد هناك مزيد لمستزيد. بيد أ، هـ اتضح أخيراً من محاكمات المتهمين في قضية الجرائم السياسية أن في جعب الساسة كثيراً من البيانات المستورة، وأن الحادث لا يزال حتى الآن غير واضح وضوحاً تاماً.

أولا يحق للمرء أن يسأل: إذا كان هذا الحادث التاريخي الذي حدث من خمسة أعوام أو ستة لا يزال موضعه في التاريخ بين شد وجذب، فكيف يكون الحال إذا بعدت المشقة بين الحادث والمؤرخ، وامتدت المسافة بين الواقعة والمسجلين لها؟

وبعد، فلعل الأستاذين الجليلين العقاد والرافعي بك يتفضلان - مشكورين - بإطلاع القراء على ما يعرفان عن فضل سعد على اللغة العربية - أو إساءته إليها، لأن من حق الجيل الجديد أن يعرف حقيقة أمر تضاربت فيه الآراء.

وديع فلسطين

في أدب المهجر:

أشكر للأستاذ مناور عويس هذه اللفتة الحميدة للتحدث عن أديب المهجر الكبير ميخائيل نعيمه الذي رفع منارة الأدب العربي في الدنيا الجديدة هو وإخوانه الأدباء من مهاجري العرب. والحديث عن ميخائيل نعيمه وإخوانه ممتع لأنه يتصل بالشاعرية التي تمردت على القيود الكلاسيكية القديمة وأنطلقت حرة في الفضاء إلا من المعاني السامية واللمحات الدقيقة ومنذ زمن مضى وأنا أتطلع إلى أدباء المشرق لعلهم يتحدثون عن تلك النهضة المهجرية ويشيدون بمفاخر إخوانهم هناك وينشرون في الجيل الجديد هنا ما كتبه أولئك وما نظموه، فهناك نثر، وهناك شعر ينبضان بالحياة المشرقة الضحوك، ويفيضان بالإبداع الذي يماشي الحياة في موكبها النشيط لأنهما يتدفقان من ينبوع الواقع، وينبعثان من الوعي والوجدان، ففيها فلسفة، وفيها حب وغزل، ودعوة للإنسانية المثالية الشاملة.

ص: 46

ما أكثر إنتاج نعيمه، والريحاني، وجبران، وإيليا، وإلياس فرحات، ونسيب عريضه، وأمين مشرق، وغيرهم، ولكن هذا الإنتاج على كثرته وقوة الإبداع فيه لم يكن له ذلك الصدى المحسوس في دنيا الشرق إلا قليلا عند من ترسموا خطي المهجريين وتابعوا سيرتهم، وإذا كان بعض مؤلفات جبران والريحاني، وقصائد نعيمه وإيليا قد أخذ نصيبه من الذيوع والانتشار في ربوعنا فليس ذلك بكاف في التتبع والدراسات الصحيحة، فهناك غير هؤلاء من الشعراء والكتاب قد ملأوا الدنيا الجديدة بعصارة عقولهم وقلوبهم، ونشروا عليها أجنحة ضافية من أخيلتهم السمحة، وليس أدل على ذلك من الصحف الكثيرات التي يصدرها إخواننا المهجريون في ديار الغربة أمثال مجلة (الشرق) و (العصبة) و (السمير) و (الهدى) وأمثال جريدة (البيان) التي كانت بحق لسان القومية العربية الذرب وقد قرأت من هذه الجريدة أعداداً كثيرة يوم كانت تصل إلى العراق قبيل الحرب ولا أغالي إذا قلت: إني لم أجد من بين صحفنا العربية هنا ما يشبهها حماسة وعروبة ودفاعاً عن البلاد العربية.

وحتى الأدب الشعبي كان له نصيب كبير من جهود المهجريين فقد كانت جريدة (أبجد هوز) التي يصدرها ناصر شاتيلا أروع مثال لهذا اللون الفكه فقد كان فيها نقد لاذع وفكاهة ممتعة باللسان اللبناني المحلى، وأجمل ما فيها تلك المحاكمات التي تعقدها لمحاسبة الأدباء فتخلط الهزل بالجد والنقد بالفكاهة، ومن الظريف أن تعرف - وإن كان خروجاً عن الموضوع - أن للشعر الشعبي قيمة ليست قليلة عند المهجريين وقد تدخل هذا الشعر في الإعلانات عن البضائع والمتاجر ولشد ما يضحكك أن تقرأ البيتين الآتيين على لسان بنت تخاطب أمها:

تا أحلي بعين الشبان

بلكي حد إينحطبي

يا أمي بدي فستان

من حرير لويس كمزي

وهذا اللون من الإعلانات بالشعر العامي يرجع بك إلى التأريخ العربي القديم في قصة (المحلق) عندما كسدت سوق بناته فلم يخطبهن أحد فاستضافه الأعشى وأطعمه وسقاه ثم طلب إليه يشيد بذكره فكانت تلك القصيدة المشهورة التي منها في وصف نار المحلق:

تشب لمقرورين يصطليانها

وبات على النار الندى والمحلق

ثم كان بعدها زواج بنات المحلق بأصدقة عالية. وفي قصة بائع (اُلخمُر) حين لم يجد من

ص: 47

يشتري شيئاً من بضاعته فاستنجد بأحد الشعراء وكانت تلك القصيدة التي منها:

قل للمليحة في الخمار الأسود

ماذا فعلت بناسك متعبد

وأما مجلتا (الشرق) و (العصبة) فإنهما أسمى مثال للفن الصحفي العالمي من حيث الطباعة والإتقان وأسمى مثال للأدب العربي في عهده الحاضر من حيث التطور الفكري والإبداع في الشعر والنثر.

هذه لمحة استعراضية عن جهود إخواننا المهجريين في بعث الأدب العربي والدعوة إلى العروبة في المهاجر الغربية وتركيزهما على قاعدة التطور ومماشاة الزمن.

أفلا يجدر بهذا الأدب أن يأخذ نصيبه في مناهج الأدب الشرقي ومعاهد التعليم فيه ونشره بين الشباب المتطلع إلى الحياة الجديدة، ثم ألا يجدر بهذا الجيل أن يضيف إلى معلوماته عن امرئ القيس، والمتنبي، وشوقي، والرصافي شيئاً عن جبران وميخائيل وإيليا؟.

إن مناهجنا التعليمية ودراساتنا الحديثة تجحف أشد الإجحاف بحقوق المهجريين بل بحقوق الأدب العربي والناشئة الحديثة، وليس ذنب هذا الأدب إلا أنه عصارة الروح والعقل والمثل الإنسانية العليا، وإلا كونه خالياُ من الزخرف والصناعة والتقليد. وحتى المطابع والمكتبات عندنا لا نجد فيها أثراً بارزاً لأدب المهجر إلا القليل الذي لا يغني ولا يسمن. أليس من الغريب أن تبحث عن (الجداول) لإيليا أبي ماضي فلا تجد له أثراً في مكتبات القاهرة من أنه قد طبع في أمريكا والعراق.

ولعلي قد خرجت عن الموضوع وتجاوزت إلى الزيادة في القول فلأعد مرة ثانية لأشكر الأستاذ مناور عويس على اتجاهه هذا والتنويه بأدب ميخائيل نعيمه ويسرني أن يكون انتخابه لبعض القطع الشعرية خالياً من الحذف والتحريف ولاسيما إذا كان المحذوف شطراً في نهاية مقطع كحذفه قول الشاعر: بخشوع جاثيه. بعد قوله: (وتجزى كنبي هبط الوحي عليه) في قصيدة (من أنت يا نفس).

وكذكره البيت الآتي:

أنت برق أنت رعد

أنت ليل أنت فجر

مخالفا لنصه الأصلي:

أنت شمس أنت رعد

أنت برق أنت فجر

ص: 48

ولعل للأستاذ عذرا في ذلك أنه اعتمد على (همس الجفون) وفيه بعض المغايرات لما نشر قديماً في الصحف والمجاميع وقد يكون ذلك من رأي الشاعر نفسه. ومهما يكن من شيء فإن هذه تبعات لا يؤاخذ عليها الكاتب الفاضل إلى جانب اهتمامه بالأدب المهجري وخصوصاً أدب ميخائيل نعيمه.

إبراهيم الوائلي

ص: 49

‌الكتب

معالم تاريخ الإنسانية

للكاتب الإنجليزي هـ. ج ويلز

ترجمة الأستاذ عبد العزيز توفيق المدرس بمدرسة مصر

الجديدة الثانوية

ليس بين المثقفين من يجهل كتاب (معالم تاريخ الإنسانية) للكاتب الإنجليزي هـ. ج ويلز الذي أصدره بعيد الحرب الكبرى الماضية، وترجع شهرة هذا الكتاب القيم إلى أن ويلز عندما فكر في المنازعات الدائمة والحروب المستمرة التي تخوضها الجماعات البشرية، أدرك أنها إنما تعود إلى العصبية الدينية أو العنصرية أو الإقليمية، وأنه لا سبيل إلى تقارب هذه الجماعات إلا بإيجاد مستوى سام من الثقافة تشترك فيه جميع الأجناس. وإلا بإعادة النظر في التاريخ وكتابته من جديد كتابة موضوعية تبرأ من شوائب العصبيات وتقوم على أساس العلم الصحيح، رابطة الأسباب بالمسببات ومسايرة ركب الحضارة في نشأتها وتطورها حتى استقرت على حالها الذي تراه اليوم في النزوع إلى التوحد وترسيخ المبادئ الديمقراطية وإقرار حقوق الإنسان وصيانة كرامته. فانطلق ويلز يؤسس كتابه هذا على مبادئ هذه الدعوة الشريفة.

(ومعالم تاريخ الإنسانية) هو حجر الزاوية بين مؤلفات ويلز الكثيرة التي عكف فيها على دراسة مشكلات الجماعة الإنسانية، والتي يربط فيها بين تاريخ الإنسان وتاريخ الحياة على تعدد صورها وأشكالها.

وقد ترجم هذا الكتاب إلى جميع اللغات الحية تقريباً وتأخر نقله إلى العربية حتى نهض الأستاذ عبد العزيز توفيق فترجمه فيما تيسر له طيلة أربع سنوات من كل ليل وكل نهار كما يقول في المقدمة. وها هي لجنة التأليف والترجمة والنشر تصدر المجلد الأول منه، حاوياً ثلاثة من أجزاء الكتاب الثمانية.

ولعل هذا المجلد الأول هو أعسر الأجزاء وأشقها على المترجمين لأنه يتناول الحقائق الفلكية والجيولوجية ويضم المعارف المتصلة بالحياة على الأرض قبل الإنسان، ويغص

ص: 50

آثار الإنسان البدائي، ويظهر كيف نشأت أجناس البشرية وتفرقت لغاتها، وكيف تفتق الذهن الإنساني عن عمليات التفكير مذ صارت له لغة. وكيف انتقل التفكير بالإنسان إلى البحث البدائي في الأديان والفلسفة. وكيف نشأت الزراعة والرعي والملاحة. ويتتبع المدنيات الأولى من آشورية بابلية، ومصرية ويونانية، ويبين خصائص هذه المدنيات ومظاهرها ويتغلغل في مجتمعاتها. فالكتاب كله تاريخ اجتماعي للإنسان. ولهذه الأبواب مصطلحات علمية لم ينقل بعضها إلى لغتنا العربية بعد، أو لم يتفق المترجمون عليها. وقد بذل مترجم هذا السفر عناء كبيراً في نقل هذه المصطلحات.

وويلز وإن كان علمي النشأة والتربية والنظرة، إلا أنه صاحب أسلوب ممتاز، جعله في الطليعة من كتاب عصره وأدبائه، وهو يعالج التاريخ في هذا الكتاب بطريقة علمية لم يسبق أن تهيأت لغيره من كتاب التاريخ. والذين يطالعونه يقدرون له هذه المزية فضلا عن الأصالة في التناول والأداء؛ وهو إلى ذلك يقدم إلى القارئ ضروباً من التشويق والإمتاع لا نظير لها في كتاب آخر من كتب التاريخ العامة والخاصة على السواء. نرحب كل الترحيب بهذا الجزء راجين أن تبادر لجنة التأليف إلى إصدار أجزائه الأخرى ليأخذ مكانه اللائق به جليل المؤلفات، مقدرين للمترجم ما بذل في تعريب هذا المؤلف الضخم من عناء وجهد، وبعد فهذا كتاب جليل يجب ألاّ تخلو منه مكتبة كل أديب وكل مثقف.

الخفيف

الخزف الإسلامي المبكر

تأليف الأستاذ أرثرلين

يعتمد مؤرخو الحضارات على الخزف لقياس مدنيات الأمم، فهو من أولى الصناعات التي تمتزج بحياة الإنسان وتتصل بأهم أسباب معاشه، أعني بها طعامه وشرابه.

والشرق موطن الخزف كما هو موطن الحضارات والثقافات. ولما كانت الحضارات تستقر أولا على ضفاف الأنهار - والنيل أقدمها وأعرقها - فقد رأينا المصريين القدماء يحرزون قصب السبق في صناعة الخزف بل لقد توصلوا إلى استخدامه في تزيين جدران إحدى قاعات الدفن في هرم زوسر بصقاره في أواخر الألف الثالث قبل مولد المسيح، وهو أقدم

ص: 51

ما نعرف عن استخدام الخزف في تغطية الجدران، بل لعله أقدم ما تعرف عن الخزف المطلي بالمينا جميعاً.

لهذا اهتم العلماء بالخزف فكتب عن الخزف الإسلامي من المصريين علي بك بهجت، ثم الدكتور زكي محمد حسن. ومن المستشرقين فبيت وكونل ولام ممن خدموا جامعة فؤاد الأول، وغيرهم كثير لا داعي لذكرهم، حتى وصل إلى أيدينا أحدث المؤلفات بقلم الأستاذ أرثرلين أحد رجال متحف فكتورياً وألبرت.

والمؤلف عالم وقف دراساته على الخزف؛ فكتب عن الخزف اليوناني والخزف الفرنسي، ثم هاهو يكتب عن الخزف الإسلامي فيلم به إلماماً شاملاً هادئاً، ويعالج المشاكل القائمة في تاريخ الفن بقوة، ويطلعنا على تمكنه ورسوخه، فلا يدفع به البحث إلى مزالق الهوى كما حدث للأستاذ بتلر في مجلده الضخم (الخزف الإسلامي).

وتناول المؤلف الدول الإسلامية في مواطنها كلا على حدة، فيما بين حدود الهند ووادي النيل؛ فيبدأ بترجمة سريعة للنهضة الفنية والأحداث السياسية التي مهدت لها وأحاطت بها، ثم يعكف على الأساليب الفنية في صناعة الفخار والخزف ونقشه وتزيينه وتلميعه بالمعادن والمينا فيقتلها بحثاً، ثم يعرض لنا المراحل المختلفة التي يمر بها كل لون من ألوان هذا الفن الجميل من ناحية الصناعة، ويكشف عن المواد الأولية ومزجها وحرقها والتصوير عليها حتى تخرج تحفة فنية.

والأستاذ (لين) منصف للفن والفنانين، فهو يحدثنا عن التأثيرات الفنية الغريبة عن الإسلام كالبيزنطية والساسانية والصينية، وكيف تمكن المسلمون من استيعابها جميعاً ومزجها مزجاً هيناً لطيفاً وكيف أضافوا إليها من ذوقهم الحساس وروحهم الشاعرة حتى أخرجوا منها عصارة فنية طيبة تفوح بأريج عبقرية الفنان المسلم. وكيف رسم الفنان المسلم خطوطاً واضحة لفنه فخلق له طابعاً فذاً فريداً له مميزاته الخاصة وشخصيته الواضحة. ثم يخلص المؤلف من هذا إلى المقارنة بين مختلف المدارس الفنية في العالم الإسلامي فيبين خواصها ومميزاتها بوضوح وجلاء بعيدين عن التعقيد الذي يعمد إليه عادة الفنانون.

ويؤمن الكاتب بالرأي القائل بأن الأحاديث النبوية الشريفة التي تنهي عن استعمال الذهب والفضة كان لها أكبر الأثر في سمو هذه الصناعة وبلوغها ذروة المجد: فإن الخلفاء التمسوا

ص: 52

في أواني الخزف ما يختلف مادته عن الذهب والفضة ولا يقل عنها رقة وفخامة وجمالا. ثم ما صحب عصر (النهضة الإسلامية في دولة بني العباس من تشجيع للعلوم والفنون، جذب إلى بغداد وسامرا عباقرة الخزفيين من جميع بقاع العالم الإسلامي وأنشئوا مصانعهم حولها وأغدق عليهم الخلفاء ما شجعهم على التفنن والإتقان).

أما في مصر الفاطمية فللمصريين فخر إنشاء مدارس فنية تتمتع بذاتية لامعة تنافس بها سائر المدارس حتى في إيران نفسها، وقد أصيب فنان الفاطميين برعشة من رعشات الفن الوافدة أوحت إليه من خزف الصين الذي كان زهرة أسواق الخزف في العالم.

وأما من ناحية موقف الإسلام من التصوير، فقد وافق على الكراهية التي أشاعتها الأحاديث الشريفة ولم يأت خبر تحريمها في القرآن الكريم. على أن الخلفاء يتقيدوا كثيراً بهذه الكراهية، سواء في ذلك السنيون والشيعة.

ولما بدأ المغول يكيلون للضربات القاسية المتلاحقة للعالم الإسلامي في مطلع القرن الرابع عشر وقف بنا البحث عند هذا الحد. فقد انتهى المؤلف من الكلام عن الخزف الإسلامي المبكر ويعدنا بأن يتناول ما يلي ذلك فيما يتبع من مؤلفات.

وبالكتاب أكثر من 250 صورة ضوئية - أربع منها ملونة كما في الأصل - مبين عليها مقاسات التحف وتأريخها وأما كن عرضها. وقد أخرجته مؤسسة (قابر أند فابر) إخراجها لا يقل أناقة عما كنا نراه من كتب ما قبل الحرب الأخيرة التي كانت السبب في حبس التحف في المخابئ، وتعطيل الإنتاج الفني طوال هذه السنين.

ولنا أن نزجي التهنئة إلى الأستاذ المؤلف لتوفيقه في بحثه الذي يهم كل متتبع لسيرة الحضارة الإسلامية وإنتاجها الفني الفياض وكل مشتغل بالفن أو كلف به.

مصطفى كامل إبراهيم

وكيل اتحاد الثقافة الأثرية

ص: 53

‌حياتنا اليومية وعلاقتها بالقانون

تأليف الأستاذ كامل البهفساوي بك

القاضي بمحكمة مصر المختلطة

ليس أدل على صدق القول المأثور (يعرف الكتاب من عنوانه) من هذا

الكتاب وعنوانه (حياتنا اليومية وعلاقتها بالقانون) وقد أذاعه مؤلفه

الفاضل بالراديو قبل أن يضم فصوله في كتاب تتداوله الأيدي، وهو

ينبه فيه أذهان الناس إلى حقوقهم وواجباتهم، ويرشدهم إلى السبيل

الموصل إلى معرفة ما لابد من معرفته لأوليات القانون، فقد شرح

المؤلف أهمية القانون وعلاقته بالناس، وبسط معنى (الحق والواجب

وأساسها وعلاقتهما بالقوة) ثم نظر نظرة إجمالية تاريخية تشمل

الأدوار التي نشأت فيها علاقة القانون بعلم الاجتماع والأطوار التي

تحول إليها، وتكلم في (كيف بدأ الإنسان بعرف حقوقه وكيف تكونت

هذه الحقوق، وإن القواعد القانونية هي في حقيقتها إما اقتصادية أو

أخلاقية، وقد تقرر لها جزاء مادي يسمى بالإكراه الاجتماعي، وهذا

الجزاء إنما هو رد فعل في نفس الجماعة ضد المخالف لها، وأساسه

شعور الفرد بالعدالة وإيجابها على أهل بيئته).

وحدثنا عما أفضى إليه التطور في الدولة الواحدة من وجود السلطات الثلاث التي تسيرها وهي، التشريعية والقضائية والتنفيذية؛ ثم نظر نظرة في مختلف الشرائع القديمة والحديثة المتولدة من عوامل الثقافة الاجتماعية كالشريعة اليونانية والرومانية والإسلامية ثم الفرنسية، وعن النظام الحكومي الذي يتولى خدمة القوانين وتعديلها وتنقيحها وتطبيقها وتفسيرها بما تقدم به السلطات التشريعية إصداراً، والقضائية تفسيراً، والتنفيذية إجراء

ص: 54

وتطبيقاً ثم أوضح ما انتهت إليه الحال في مصر بعد تقرير الدستور فيها من تقديس سلطة الأمة، وشرح شرحاً جلياً الجهاز الدستوري والبرلماني، وذكر كيف جمعت القوانين في مصر.

في الكتاب فصلان: الأول فيما آل إليه القضاء في مصر من مدني وتجارى وجنائي بعد أن كان محصوراً في المحاكم الشرعية إلى أن تولى حكم البلاد محمد على الكبير، وما كان من إنشاء مجلس الأحكام، ثم في قيام المحاكم المختلطة في عهد الخديوي إسماعيل والمحاكم الأهلية وما كانت هذه المحاكم الوطنية في بدئها وما انتهت إليه اليوم. والثاني بيان لأقسام القوانين من الضابط للرابطة الأولى فيما بينها ويسعى القانون العام، ومنه يتفرع القانون الأساسي، أي الدستور والقانون الجنائي ويلحق بهما تحقيق الجنايات؛ إلى القانون الخاص، ومنه يتفرع القانون المدني والتجاري ويلحق بهما قانون المرافعات.

ثم شرح واف في القانون المدنى، والبحث في طبيعة الأموال المنقولة والثابتة والفرق بينهما، والحقوق التي يمكن أن تقرر عليها وكيفية اكتسابها، ومتى تكون ملكية الشيء صحيحة وجائرة قانوناً، ومتى لا تكون.

وقال في واجبات التجار (يجب على التاجر أن يمسك دفاتر منظمه، ويعد) دفتر يومية يشتمل على بيان ماله وما عليه، وعلى بيان أعمال تجارته، وبيان ما اشتراه أوباعه، أو قبله أو أحاله من الأوراق التجارية، وما أنفقه على منزله شهراً فشهراً، وعدد الروابط القانونية بين الناس ومنها (الشخصية) والأهلية، ومحل الإقامة، والشخصية المعنوية أو الاعتبارية، والميلاد والوفاة، وفى المجمل لم يترك المؤلف ناحية من نواحي حياتنا وعلاقتها بالقانون لم يتناولها قلمه بالشرح الوافر والتبسيط الشامل الواضح.

إن في الناس من يتوهم أن لا حاجة به إلى معرفة القانون، وقد أوضح المؤلف البارع في كتابه القيم هذا وببيانه السليم بطلان هذا الوهم لأن ضرورات الحياة الاجتماعية ومستلزماتها تضطرنا إلى السير في طريقها القديم، وليس سبيل حياتنا الحاضرة سوى مواد مستمدة من قوانين المجتمع ومن صنع الشعب.

يقول المسرع إن القانون إدارة منظمة غايتها مصلحة الجماعة الإنسانية، ومصلحة الفرد. ويقول الرجل غير المتشرع أن القانون أداة تحايل تمكن القوى من الضعيف والأبرع من

ص: 55

البارع، والغنى من الفقير، والسيد من الأجير. ويقول رجل الفكر: الويل للأمة التي يتحايل سراتها على القوانين.

ح. ز

ص: 56

‌القَصَصُ

قلب موزع

للكاتب أنطون تشيكوف

بقلم الأديب كمال الدين الحجازي

عادت (ناديازلينينا) وأمها من الملهى بعد أن شهدت إحدى الروايات، وعندما دخلت غرفتها خلعت ملابس السهرة وأرخت شعرها وبدأت تكتب رسالة إلى حبيبها:(أحبك. . ولكنك لا تحبني. . أجل لا تحبني) ولما كتبت ذلك ابتسمت طويلاً. كانت ناديا في السادسة عشرة من عمرها، وكانت فتاة غريرة لم يطرق الحب قلبها، إلا أنها كانت تعلم أن (جورني) الضابط و (جروندف) الطالب كانا يحبانها. ولكنها بعد مشاهدتها الرواية في الملهى بدأ الشك يتسرب إلى قلبها في حبهما لها، وكم تمنت لو كانا يكرهانها حتى تصبح سعيدة. فما أجمل أن يحب المرء شخصاً ويتهالك في حبه، بينما الآخر لا يبادله ذلك الحب! إن بطل الرواية (أونيجن) كان محقاً عندما كان يهزأ بالحب! بينما كانت (تاتيانا) تؤمن به. وقالت ناديا في نفسها: ترى لو أحب كل منهما الآخر حباً شديداً هل يكونان سعيدين؟ لا بل اعتقد أن السآمة ستنتابهما لا محالة! ثم واصلت ناديا الكتابة إلى جورني: (لا. . لا تزعم أنك تحبني. . إنني لا أصدقك، حقاً إنك شجاع جداً، ومثقف واسع الثقافة؟ وأنك تنظر إلى المستقبل متفائلاً، إلا أنني فتاة ساذجة لا أصلح لك، وأنت تعتقد في قرارة نفسك أنك لا تستطيع العيش معي. إنني لا أنكر أنك تعلقت بي وأحببتني واعتقدت أنك وجدت فيَّ فتاة أحلامك. . . إلا أنك مخطئ في هذا الاعتقاد، وكنت تسائل نفسك: لماذا أحببت هذه الفتاة! وإنني أعتقد أن طيبة نفسك لا تعترف بذلك وما إن أتمت كلماتها هذه حتى بكت بكاء طويلاً! ولما خف بكاؤها واصلت الكتابة (كم تمنيت أن أرتدي لباس الراهبات وأذهب إلى الدير لولا أنني أخشى أن يكون ذلك عبئاً ثقيلاً على أمي. . وعندها تستطيع أن تحب فتاة غيري. . آه كم أتمنى الموت!!) وكانت تتساقط دموعها على الطاولة وتشكل أقواساً متقطعة. ثم كفت عن الكتابة وأسندت رأسها على الكرسي تفكر! كان جورني جميل الخلق والُخلق، وما أبرعه في الموسيقى! وكم كنت أطرب لصوته العاطفي الحنون! كان يخفي

ص: 57

عني حبه للموسيقى، ولكنني عرفت ولعه بها، ولو لم يكن ضابطاً لكان موسيقاراً عظيماً! ولما كفت ناديا عن الكتابة. تذكرته وهو يناغيها بكلمات الحب والغرام. . . وفجأة شعرت أن نفسها تكتب إلى حبيبها (جرونسدف) الطالب (إنه طالب ماهر، وكان يسهر معنا بالأمس، وكنا سعيدين حقاً) ثم مدت ذراعيها على المنضدة وأحنت رأسها، فتذكرت أن جرونسدف يحبها وله الحق أن ينال في كتابتها ما هو أهل له مثل جورني. وشعرت أن طيفاً بدأ يداعب خيالها فأحست بسرور لم تعهده قبلاً وانثالت عليها الذكريات بشدة، وقد سرى هذا السرور من صدرها إلى يديها ورجليها، فكأن نسيماً عليلاً داعبها وحرك شعرها فارتجفت ذراعاها فضحكت ضحكة هادئة، فاهتزت المنضدة والمصباح كأنهما يشاركانها الفرح!! وكانت الدموع تتساقط على الرسالة. . . ثم بدأت الذكريات تتوالى عليها كرة أخرى عن الطالب وحبه لها، فتمددت هذه الذكريات في رأسها وتغلبت عليها وأصبحت موزعة بين جميع الأشياء، فبينما هي تفكر في أمها إذ بها تفكر في الشارع وفي قلمها وفي البيانو، وكانت سعيدة في تفكيرها ووجدت أن كل ما يخطر على بالها حسن وجميل! وكانت تشعر أن السعادة تناديها قائلة:(ليس هذا كل شئ. . بل ستشعرين بسعادة أكثر في الغد، سيهل الربيع والصيف وسيذهب الحبيبان معك إلى (جوربكي) بصحبة أمك، وسيزورك جورني في عطلته، ويسير معك في الحديقة فينتعش حبكما سيزورك جرونسدف وستلعبان معاً لعبة الكركت ويقص عليك قصصه الحلوة اللذيذة). . .

وعندما وجدت نفسها تسير في الحديقة وتخيلت جورني يسير معها في ظلمة الليل، ترعاهما النجوم وتحجبهما الأشجار عن أعين العذال! فضحكت لهذه التخيلات الجميلة وتمنت لو تحققت في الحال. ثم عادت إلى فراشها ولم تدر كيف توزع سرورها وفرحها بالقسطاس فقد تغلبت عليها! فنظرت إلى تمثال المسيح المعلق في صدر غرفتها وقالت:(يا إلهي. . . يا إلهي، كم أقاسي!). . .

(القدس)

جمال الدين الحجازي

ص: 58