المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 763 - بتاريخ: 16 - 02 - 1948 - مجلة الرسالة - جـ ٧٦٣

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 763

- بتاريخ: 16 - 02 - 1948

ص: -1

‌أسئلة في سؤالين!

للأستاذ عباس محمود العقاد

سؤال عن الله، وسؤال عن (الفاروق) خليفة رسول الله.

أما السؤال عن الله فهو من الأديب (عبد الستار شمس الدين) الطالب بالجامعة الأمريكية في بيروت، وفيه يقول:(إن الدكتور عبد الرحمن بدوي ألقى محاضرة عن الجانب الصوفي من حياة النبي في قاعة (وست) بالجامعة الأمريكية فقال: إن محمداً رأى ربه عندما بلغ الغاية من عبادته الصوفية، واستشهد بالآيات التالية من سورة النجم. . . (وهو بالأفق الأعلى ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى، فأوحى إلى ربه ما أوحى، ما كذب الفؤاد ما رأى).

فإذا كان ما قال الله صحيحاً فهل الله جسم؟ وهل هذه الصفة الجسمية تجعله واجب الوجود؟ وهل تتعارض هذه مع الآية: (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار).

والمشهور المتفق عليه بين المفسرين - ومنهم أهل السنة والشيعة والفلاسفة - أن المقصود بالرؤية هنا هو الروح الأمين رسول الوحي جبريل: (إن هو إلا وحي يوحى، علمه شديد القوى، ذو مرة فاستوى، وهو بالأفق الأعلى).

فالإمام الرازي وهو من الفلاسفة يقول: (والمشهور أن هو ضمير جبريل. . . والظاهر أن المراد محمد صلى الله عليه وسلم. معناه استوى بمكان - وهو بالمكان العالي رتبة ومنزلة في رفعة القدر - لا حقيقة في الحصول في المكان، فإن قيل: كيف يجوز هذا والله تعالى يقول: ولقد رآه بالأفق المبين إشارة إلى أنه رأى جبريل بالأفق المبين؟ نقول: وفي ذلك الموضع أيضاً نقول كما قلنا هاهنا أنه صلى الله عليه وسلم رأى جبريل وهو بالأفق المبين، يقول القائل: رأيت الهلال. فيقال له: أين؟ فيقول: فوق السطح. أي أن الرائي فوقي السطح لا المرئي).

والشيخ أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي من كبار علماء الإمامية يقول في مجمع البيان: (معناه: ولا يتكلم بالقرآن وما يؤديه إليكم من الأحكام إلا بوحي من الله يوحى إليه أي يأتيه به جبرائيل وهو قوله: علمه شديد القوى يعني جبرائيل، أي القوى في نفسه وخلقته، عن ابن عباس والربيع وقتادة).

ص: 1

وهذا أيضاً هو المعنى المشهور بين أهل السنة من المقدمين والمحدثين.

أما رؤية الله - من حيث هي بحث مستقل عن تفسير هذه الآية - فهي موضوع كثر فيه الخلاف بين المعتزلة والمتكلمين.

فالمعتزلة عامة يمنعون الرؤية لأنها في رأيهم لا تكون إلا لمحسوس.

والمتكلمون لا يمنعونها، بل يجيزون رؤية كل موجود على اعتبار أن الرؤية نوع من العلم، وأن العلم يحصل بغير اتصال النور بين الرائي والمرئيات.

بعض الفلاسفة من يوافق المتكلمين في ذلك على هذا الاعتبار. قال المازني: (الحق الأول لا يخفى عليه ذاته، وليس على ذلك باستدلال، فجائز على ذاته مشاهدة كماله من ذاته، فإذا تجلى لغيره نوعاً من الاستدلال، وكان بلا مباشرة ولا مماسة كان مرئياً لذلك الغير. . . وإذا كان في قدرة الصانع أن يجعل قوة هذا الإدراك في عضو البصر الذي يكون بعد البعث لمم يبعد أن يكون كائناً مرئياً يوم القيامة من غير تشبيه ولا تكييف ولا مسامعة تعالى عما يشركون)

تكلم أبو البركات هبة الله في كتابه المعتبر عن المدركات، فيقول:(إنما يتم إدراكها للنفس بذاتها عند آلاتها بالتفاتها عنها إلى ذاتها).

يقول: (حتى تنتهي إلى ما يرى كل شئ ويصدر عنه أنوار بأسرها، خفيها وظاهرها، وعلتها ومعلولها، فهو كما هو مبدأ المبادئ، فهو أبعد من أن يرى بالعين، أن يرى، لكونه الأظهر في الوجود، والأسبق بالوجود. فالنفس إذا تطلعت بذاتها نحو مبادئها وعادت إلى جهة بدايتها انتهت بنظرها إليه واستعانت بمبادئها عليه).

وبهذا المعنى يتفق المتكلمون والفلاسفة على أن رؤية الله علم لا يأتي عن طريق العين كما ترى هذه المحسوسات. فليست هي ملازمة للتجسيد ولا تدل عليه. وما البصر الحسي نفسه إلا نوع من الترجمة يمثل لنا ما نحسه ولا يعطينا صورته على التحقيق، ما استطاع القيام معنى الوجود الإلهي في وجدان الإنسان على نحو من المعاني يخلو من كل تجسيد).

ولا أعرف أحداً قال برؤية الله حساً غير جماعة المجسمة الذين يفهمون الوجه واليد كما يفهمون أعضاء الأجسام، وهم فئة لا يؤبه لهم ولا في الدين.

وأما السؤال عن الفاروق خليفة رسول الله، فهو من الأديب (عبد المنعم محمد السيد) بالقسم

ص: 2

التوجيهي بمدرسة الثانوية.

يسأل عن مهابة عمر فيقول: (أوردت في الكتاب قصة النبي عليه السلام مع زوجته عائشة وسودة حين لطخت كل منهما وجه الأخرى بالحرير. فضحك النبي ثم أمرهما بأن تغسلا ودهيهما حين مر عمر فناداه النبي. . . وهذه القصة اختلفت أنا والأساتذة في تفسيرها لأنني أرى أنها لا تثبت هيبة النبي لعمر - وإن كان ذلك صحيحاً - لأنني أظن ظناً يرتقي إلى مرتبة الاعتقاد أنه لو رأى رجل غير عمر ودعاه محمد رسول الله إلى منزله لأمر زوجتيه بأن تغسلا وجهيهما. . .).

ونحن مع ترحيبنا بهذه الملاحظة وتقديرنا لذكاء الطالب النجيب في التفاته إليها، نحب أن نلفت نظره إلى شئ غاب عنه، وهو يتكلم عن المهابة وما إليها.

فالمهم في وصف المهابة وما يماثلها من الأحاسيس النفسية، كوصف الجمال أو الدهشة أو الخوف، إنما هو فيما يقوم بالنفس من آثارها قبل كل شئ.

فإذا قال لك أحد: إنني أحببت هذا المنظر لأنه جميل، فليس لك أن تقول له: كلا! إنك لم تحب جماله ولم تشعر بأنه جميل، وإن خالفته كل المخالفة في تصور الجمال.

وإذا قال لك أحد: إنني دهشت لهذا الخبر، فليس لك أن تقول له: كلا! إنك لم تدهش له؛ لأنه لا يدهش.

وإذا قال لك أحد: إنني أخاف الظلام أو أخاف الفضاء الواسع، أو أخاف الحجرات المغلقة، فليس لك أن تكذب خوفه، وإن جاز لك أن تكذبه في أمثال هذه المواضع ولا تخاف

وكذلك حين تقول لنا السيدة عائشة أنه هابت عمر وشعرت بأن النبي يهابه، لا يحق لنا أن نقول لها: كلا. ليس في الأمر ما يدعو إلى المهابة.

وينبغي أن نذكر في هذه القصة - على الخصوص - أن السيدة عائشة امرأة، وأن المرأة أحس لهذه المعاني وأفطن؛ لأنها خلقت لتحس الرجل، ولاسيما جانب المهابة والقوة فيه.

فإذا وقع في نفسها أنها هابت عمر وشعرت بمهابة النبي له، فليس للمهابة دليل نفساني أصدق من هذا الدليل،

وأشار الطالب النجيب إلى قولنا بعد ذلك: (إن من أدب الرسول عليه السلام أنه كان يرعى تلك الهيبة رضى عنها واغتباطاً بها في نصرة الحق وهزيمة الباطل وتأمين الخير

ص: 3

والصدق وإخافة أهل البغي والبهتان.

ثم سأل: ماذا تقصد بكلمة (أدب) بالضبط؟ أحسن تقدير هو أم ماذا؟

ويبدو لنا أن الذي دعا الطالب النجيب إلى هذا السؤال ما سبق إلى فهمه من أن الأدب لا يكون إلا من صغير لكبير.

والواقع أن الأدب صفة مطلوبة في كل معاملة، كما تطلب في أدب الراعي نحو الرعية، وأدب السيد نحو الخادم، وأدب العظيم نحو الصغير.

وأدب النبي هنا هو أدب المربي الذي يتعهد أتباعه ومريديه فيهيئ كلاً منهم لما يصلح له، ويقوي فيه ما يصلح مع القوة، ويضعف فيه ما ليس به صلاح له ولا لغيره. ومهابة عمر إنما هي مهابة للعدل والحق والإيمان، فمن الخير أن يبقيها له وينتظر منها النفع للدين ومعتقديه.

وفي الأسئلة بقية ترجع إلى جملة من الكلام على صفات الفاروق، بعد رواية ما قيل عن إقامته الحد على ولده عبد الرحمن

وهذه هي الجملة: (لو كان المصدر واحداً معروفاً بالحذق في القصص لحسبناها من وضعه وتلفيقه. ولكنها سمعت من غير مصدر موثوق به، فهي أقرب إلى الواقع).

والسؤال هو: (أتقصد أنها سمعت من مصدر غير موثوق به أم أنها سمعت من أكثر من مصدر واحد موثوق به؟

وعلى قدر ما كان الطالب موفقاً في سؤاله عن المهابة خانه التوفيق في هذه الأسئلة. فلا يمكن أن يكون المقصود مصدراً واحداً؛ لأننا استبعدنا ذلك، ولا يمكن أن يكون عدة مصادر غير موثوق بها؛ لأننا نقول إنها أقرب إلى الواقع، ولا التباس بعد هذا في المعنى لأننا ننفي وحدة المصدر، وننفي وضعه وتلفيقه ونقول قبل ذلك عن القصة (إننا لا نستغربها في جميع تفصيلاتها إلا حين تطرأ عليها المبالغة التي تتسرب إلى كل خبر من أخبار البطولات المشهورة. . .)

وبعد، فهو على كل حال اجتهاد يدل على حب الفهم والاسترشاد

عباس محمود العقاد

من أحاديث الإذاعة:

ص: 4

‌من أحاديث الإذاعة

حكمة القدر

للأستاذ علي الطنطاوي

دخل علينا أمس، وكنا جماعة في المجلس صديق لنا، فقال: إن ابنة الأستاذ حبيب زحلاوي قد سقطت من الطبقة السادسة إلى الشارع! فارتعنا جميعاً، وأعظمنا الخطب، وكنا نعرفها طفلة حلوة ملء إهابها الطهر والجمال والنشاط، فلم نستطع أن نتصورها وهي ممزق من اللحم قد اختلط بعضه ببعض، ووجمنا وكانت سكتة لم يقطعها إلا ضحك صديقنا المخبر، فعرفنا أنها مزحة ثقيلة من مزحاته، وأقبلنا عليه نسبه ونشتمه، فقال: والله ما كذبت عليكم، ولقد وقعت من الطبقة السادسة ولكنها لم تصب بشيء، وهي سليمة. . .

فصرخنا جميعاً: سليمة؟! قال: نعم والله. ألا تصدقون؟ إنها وقعت على حبال الغسيل الممدودة بين الشرفتين حيال الطبقة الخامسة، فعاقتها قليلاً، ونفذت منها إلى حبال الطبقة الرابعة، وما زالت تمر من حبال إلى حبال، حتى إذا بلغت الشارع، كانت سقطتها على كومة من الرمال، صبتها سيارة صباح ذلك اليوم، فلم تصب بأذى.

ومضى يحلف ويذكر الإيمان أن الذي يرويه هو الصدق والحق، وأن صبياً لصديق آخر لا أسميه لئلا أسوءه، وأذكره بمصابه، وقف على مكتب أبيه يلعب، فرأى صورة معلقة بالجدار، فوثب يريد أن يصل إليها، فوقع على أرض الغرفة، وكانت من البلاط، وكانت السقطة على يافوخه، فمات لساعته. . .

وقال معلقاً ومفلسفاً: ففيم إذن نفكر وندبر، مادام لا ينفعنا فكر ولا يفيدنا تدبير، ولم لا ندع الأمور للقدر ونتركها تجري في أعنتها كما يريد لها مجريها، مادمنا لا نملك أنفسنا ولا نعرف مصائرنا، ومادام هذا الكون كالمعمل الضخم، المشتبك الآلات، المتعدد الحركات، وما نحن إلا مسمار صغير فيه، نسير كما يسيرنا (مهندسه) الأعظم. . .

وأسرع واحد منا، فقال مصدقاً: نعم، ولكنا خلقنا للشقاء، وأقمنا هدفاً للمصائب، ووضعنا في دنيا ما فيها إلا الآلام من سلم منها السوم وقع غداً، ولم يمت ولده من سقطته مات من علته، أو مات وهو صحيح معافى ما من الموت بد. . . ولابد قبل الموت من البلايا والمتاعب. . .

ص: 6

وتكلم الثالث، يرى نفسه من كبار العقلاء، فأنكر القدر، وجحد المقدر. وزعم أن الحياة ليست إلا عجينة في يدك، أنت تديرها وتصورها، فإن صنعت منها تمثال غادة جميلة كان لك جمالها، وإن عملت منها هولة قبيحة كان عليك قبحها. . . إن مرضت فمن إقلالك الغذاء وإهمالك التوقي، وإن دعيت فمن تركك الحذر، وإن افتقرت فمن قعودك عن السعي. . . وأمثال هذا الكلام.

فقلت له: فلم ولد هذا في دار علم وتهذيب فتعلم وعرف سبل الوقاية، وخطر الأمراض، ونشأ ذاك في بيت جهل وفساد، فشب جاهلاً فاسداً، لا يعرف كيف يتقي الداء، ولماذا دعس هذا من قلة حذره، وسلم من هو أقل منه حذراً، وطريقه أشد خطراً، ولماذا يسعى الرجل حتى تنقطع من السعي أنفاسه ويرجع ولم يصل ولا إلى مثل خفي حنين، وتأتي الأموال لآخر بلا سعي ولا طلب؟. . .

ولماذا يتاح لهذا النابغة أن يظهر نبوغه، حتى يكون اسمه تسبيحاً على كل لسان، وعنواناً في كل كتاب، ويجهل من هو أحد منه ذكاء، وأكبر موهبة، وأظهر استعداداً للنبوغ؟.

ولماذا؟ ولماذا؟ وألف لماذا؟ لو شئت لسقتها لك فما استطعت الجواب على واحد منها، فما أنت في الوجود، هل تسير أنت الفلك على هواك، وهل تسوق الكون إلى غايتك. هل أنت إله؟ إنك ما كونت نفسك، ولا شققت بيدك سمعك ولا بصرك.

قال: فهل ترى أنت أن الإنسان مسير؟.

قلت: ما مسير؟ وما مخير؟ وما هذه الفلسفة الفارغة؟ لقد اشتغل بها البشر، من ابتدأوا يفكرون واختلفوا عليها، وتجادلوا، ولا يزالون يختلفون ويتجادلون، ولم يصلوا إلى شئ. وإنما تاهوا في بيداء لا أول لها ولا آخر، وهاموا على وجوههم في مهمه متشابه الأرجاء، بلا أمل ولا رجاء، فذهب هذا ينكر القدر، ويزعم أن الحياة ملك الإنسان، وأحداثها صنع يديه، وراح ذاك ينكر إنسانيته، ويجحد نفسه ويراه مسماراً في آلة الكون، وحجراً في جبل، يدور مع الأرض أنى دارت. وكان هذا متشائماً لا يرى إلا الذي وقع عن الكرسي فمات، فاعتقد أن الدنيا دار المصائب، وكان ذلك مغروراً، لم يبصر إلا التي وقعت من الطبقة السادسة ولم تمت، فحسب أنه يسلم من كل أذى.

ونحن مع القدر بشر، لا آلهة ولا حجر، والدنيا ليست مسرة كلها ولا مصائب ولكنها مسرة

ص: 7

وكدر.:.

وأنا كلما فكرت، وذكرت ما رأيت من الحوادث بعيني ازددت يقيناً بأن أكثر الناس لا يعرفون سر الإيمان بالقدر:

رأيت الترام مرة وقد انكسر مِقوده، فنحط من المنحدر الهائل عند (الجسر) في دمشق، وكانت امرأة واقفة بين خطيه بعد المنعطف، فلما رأته مقبلاً كالموت النازل، سمرت رجلاها من فزعها بالأرض، وجمدت ولم يجرؤ أحد أن يدنو لإنقاذها فيموت معها، والوقت أضيق من أن يتسع لشيء، فأغمضوا عيونهم حتى لا يروا. . . فلما وصلت الحافلة إلى المنحنى تركت الخط وسارت قُدُماً، فصدمت جداراً من اللبن ضعيفاً، ومرت منه إلى قوم في دارهم فقتلتهم.

ورأيت مرة شباباً يمشون تحت فندق (إيدن بالاس) في دمشق، فرفع أحدهم رأسه فجأة فرأى شيئاً ساقطاً فتناوله بيده، وإذا هو صبي رضيع وقع من شباك الفندق، وهبطت أمه كالمجنونة، وهي امرأة من (حماه) فرأته سالماً. .

ورأى غيري حوادث مثل هذه الحوادث. وفي كتاب (الفرج بعد الشدة للقاضي التنوخي) مئات من القصص عمن نجا وهو في لج الهلاك، وفي كتاب الحياة آلاف من الأخبار عمن هلك وهو على بر النجاة.

فما سر هذه العجائب؟ وكيف عاشت المرأة وقد فرطت وعرضت نفسها للموت بسيرها بين خطي الترام، ومات قوم اتخذوا كل أسباب الوقاية، فدخلوا دارهم وأغلقوا بابهم، فشق الترام الحائط ودخل عليهم فدعسهم، وكيف وقعت البنت فلم تمت، وتموت كل يوم مئات من البنات من غير وقوع؟.

إن هذا السر، سر الله لا يعرفه أحد، فلا تحاولوا كشف سر القدر، ولكن استفيدوا من حكمة القدر. وهذا ما سقت له حديثي.

ستقولون، وماذا نعمل؟ هل ندع أولادنا يسقطون من الشبابيك لا نبالي لأنها إن كانت لهم حياة فسيبعث الله لهم حبالاً تمسكهم، أو رجالاً تتلقاهم، ولنقعد عن السعي لأنه إن كان لنا رزق فسيأتينا بلا سعي!.

لا يا سادة، ما هذا طريق فهم القدر، ولا هذه حكمة القدر.

ص: 8

صحيح أن الرزق مقدر، فهذا وضع له رزقه على مكتبه، فما عليه إلا أن يقعد على كرسيه، ويمسك قلمه، ويكتب اسمه الكريم كل نصف ساعة مرة على أوراق تعرض عليه، وهو يشرب قهوته، ويدخن دخينته، فيأتيه الرزق؛ وآخر وضع رزقه في رأس الجبل عليه أن يصعد إليه، أو في بلد بعيد عليه أن يمشي إليه، أو في باطن الأرض ينزل إليه، أو في جوف البحر يغوص فيه، أو في جيوب الناس يأخذه منها، ليقبض عليه، فيتحول رزقه إلى السجن.

كل يأكل لقمة، ولكن من الناس من تجيئه اللقمة في صحفة من الفضة، ومن يأكلها مغموسة بالدم، أو مبللة بالعرق، أو ملطخة بالوحل.

لا لا تقل ما سر القدر، فما كشفه حاجة لأحد، ولكن، مادام الأمر مجهولاً، فاسع أن تأكل أنت لقمتك بطبق الذهب، وجد وابذل الجهد، فإن لم تصل إلى ذلك وصلت إلى الرضى والتسليم بحكم القدر وهذي من حكم القدر.

والأجل محدود، لا يدفعه إذا حضر حذر، ولا يضر إن امتد خطر، وقد يموت الشاب الصحيح، ويعيش الشيخ العليل، ويهلك المعتصم بسبعة أسوار، ويسلم الجندي الذي يقتحم النار، أعرف رجلاً من أبطال الثورة السورية، رمى نفسه على الموت خمسين مرة فكان الموت يروغ من تحته ويهرب منه، ثم انتهت الثورة، ونام في فراشه، فاختصم اثنان من السكارى، فأطلق أحدهما رصاص مسدسه، فأصاب خطأ رأس صاحبنا الذي نام فما قام.

وروى ابن الجوزي أن رجلاً أغمي عليه فحسبوه مات، ونصبوه على السرير، وجاؤوا بالمغسل ليغسله، فلما أحس برد الماء، تيقظ ونهض، فارتاع المغسل وسقط ميتاً.

فلا تسأل ما السر، ولكن جاهد في سبيل الله، وناضل عن الحق، ولا تخف الموت في جهادك ونضالك لأن الأجل محدود، فقد تعيش مائة سنة ولو خضت غمرات الموت، فاعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لأخراك كأنك ميت غداً، فتكون قد ضمنت لنفسك الدنيا والآخرة، وهذي حكمة من حكم القدر.

فالإيمان بالقدر حياة لأنه يفتح لك في كل ظلمة شعاع ضياء، وفي كل عسرة باب رجاء، ولولا الرجاء لمات المريض من وهمه قبل أن يميته المرض، ولقتل الجندي في الحرب من خوفه قبل أن يقتله العدو، ولولا الرجاء ما كانت الحياة.

ص: 9

ولو تركت الأمور لاحتمالات العقل، وقوانين المادة، لما استطعت أن تتنفس الهواء أو تشرب الماء خشية أن تكون فيه جرثومة داء، ولا ركبت سيارة لاحتمال أن تصطدم، ولا صعدت بناء لإمكان أن ينهدم، ولما استولدت ولداً لأنه قد يموت، ولا اتخذت خليلاً لأنه قد يخون، ولما اطمأننت على مال لأنه قد يسرق، ولا دار لأنها قد تحرق.

والإيمان بالقدر راحة لأنه لو كان الفشل من عملك وحدك، وكان النجاح من صنع يدك لقطعت نفسك أسفاً إن فشلت، أو سبقت.

والإيمان بالقدر عزاء، لأنك إن قدر عليك المصاب بولد، فاحمد الله ففي الناس من أصيب بولدين، وإن خسرت ألفاً ففيهم من خسر ألفين.

فهل عرفتم الآن ما حكمة القدر؟

هي أن نجد ونعمل ونسعى، ونبذل الجهد، ثم لا نحزن إن فشلنا، ولا نأس إن لم نصل إلى ما نريد وأن نكون مع القدر كمن يجتاز طريقاً فيه السيارات المزدحمات، فإن ذكر حوادثها وأخطارها وحدها لم يستطع أن يتقدم خطوة، وإن اعتقد من غروره أنه يستطيع أن يرد عنه السيارة المقبلة، ويدفع الخطر الآتي، لم يسلم، ولكن إن انتبه وسار بحذر، فهذا هو العاقل، ثم إن نجا حمد الهه أن قدر عليه النجاة، وإن أصيب ذكر أنه لم يقصر، وإنما هو حكم القدر. . .

(دمشق) علي الطنطاوي

ص: 10

‌18 - رحلة إلى الهند

للدكتور عبد الوهاب عزام بك

وزير مصر المفوض لدى المملكة العربية السعودية

في مدينة لاهور:

كانت الإقامة في هذه المدينة قصيرة وكان المقعد الأول من السفر إليها زيارة محمد إقبال فلم أر كثيراً من مشاهدها القديمة والحديثة.

رأيت من آثارها يوم الأربعاء 24 جمادى الأول مسجد وزير خان. اجترنا إليه سوقاً ضيقة فيها مكتبات تجارية. والمسجد كبير له صحن واسع وفي المصلى عقود مزينة بنقوش وآيات من القرآن وأحاديث وكلمات للصوفية، ومأثورات من الشعر الفارسي والنثر.

وفي العشى ذهبنا إلى قلعة لاهور في صحبة أستاذ أمريكي خبير بالآثار. وهي قلعة واسعة كثيرة الأبنية ولكن الخراب غالب عليها، وكان السيك استولوا عليها حيناً إذ ملكوا في تلك الأصقاع. ولهم فيها آثار لا تدل على براعة في العمارة والتصوير.

والذي يستحق الذكر في هذه القلعة نقوش بالفسيفساء على جدار شاهق على يسار الداخل. وفيها مناظر كثيرة لحيوان ونبات، وهي من آثار جلال الدين أكبر. ويوم الخميس دعينا إلى حفل في الجامعة الأمريكية، وكنا زرناها يوم الأربعاء فتكلمت فيما بين مصر والهند من صلات، وذكرت الشاعر الكبير محمد إقبال، وتكلم السيد علي أصغر حكمت رئيس الوفد الإيراني.

وزرت هذا اليوم قبر السلطان جهانكير وهو على بعد أميال من المدينة في حديقة واسعة كقبور سلاطين المغول التي وصفت قبلاً، وهو طبقة واحدة من البناء مربعة يحيط بها عقود مفضية إلى حجرات. وللبناء مآذن أربع في أركانه. وليس في أصرحة آباء جهانكير مآذن كهذه، وقد بنى مثلها ابنه شاه جهان في تاج محل، ولكنه فصلها من البناء وجعلها مسمتة لأركانه كما ذكرت آنفاً.

وظاهر أن ضريح جهانكير كان في تاريخ الآثار تمهيداً لبناء التاج.

وفي الحديقة من الطرق والأحواض والنافورات، وفي البناء من جمال الهندسة وإحكامها،

ص: 11

ومن التناظر الذي يسيطر على أبنية التيموريين كلها ما قدمت مثلاً منه حينما ذكرت أضرحة همايون وأكبر وشاه جهان (تاج محل).

ويفضي مدخل البناء إلى القاعة الوسطى وفيها قبر السلطان جهانكير رحمه الله وهو من المرمر الملون مرصع بأحجار أخرى جميلة. وكان فيها من الجواهر أكثر من مائة قطعة نزعها السيك حينما تغلبوا على لاهور. وعلى الصحيفة التي فوق القبر أسماء الله الحسنى. وعلى الجوانب كتابة فيها:

(مرقد ملون أمليحضرت غفران بناه نور الدين محمد شهانكير بادشاه.) والسلطان جهانكير هو السلطان الرابع من سلاطين الدولة التيمورية.

في دار إقبال وعلى قبره:

ذهبت أنا والصديق الأستاذ علي أصغر رئيس الوفد الإيراني إلى دار إقبال وهي دار صغيره قابلنا فيها ابنه جاويد وقد سمى إقبال باسمه منظومته (جاويد نامه) وجاويد معناه خالد. وجاويد نامه كتاب جاويد أو الكتاب الخالد ففيه تورية.

ورأينا حجرة كان الشاعر الخالد رحمه الله يكتب فيها أشعاره ومقالاته وفيها فاضت روحه. وهي حجرة تسع على صغرها ذكريات لا يسعها الفكر.

وجلسنا ساعة نتحدث مع جاويد. وقد أهدى إلينا بعض صور والده.

وفي العشى ذهبنا لزيارة قبر إقبال وهو في الحديقة المحيطة بالجامع الكبير الذي بناه السلطان محي الدين الملقب أورنك زيب (زينة العرش) وهو جامع فسيح جداً يشبه جامع دهلي الكبير الذي بناه شاه خان، ولكن ليس فيه من الحلي والزينة والنقش والتحلية بالرخام المجزع ما في جامع دهلي. كان شاه جهان كلفاً بتشييد الأبنية وتزيينها وقد بالغ في التشييد والتزيين. وحسبه تاج محل. وكان ابنه أورنك زيب زاهداً لا يبالي بالزينة والأبهة.

وإلى جانب الجامع على مقربة من مدخله حجرة لم يكمل بناؤها فيها قبر الشاعر الفيلسوف محمد إقبال.

زرنا القبر في جلال الموت وروعة الذكرى ثم جلسنا في حفل أعد لاستقبالنا هناك بجانب الحجرة التي فيها الضريح، وأهديت إلينا منظمات إقبال الفارسية، وتكلم الأستاذ علي أصغر وغيره وألقيت الكلمة الآتية:

ص: 12

إقبال

إقبال يا شاعر الإسلام! أنرت مقاصده، وجلوت فضائله وأضأت سراجه، وأوضحت منهاجه، ودعوت المسلمين إلى المجد الذي كافئ دعوتهم، ويلائم سنتهم، ويناسب تاريخهم.

إقبال يا شاعر الشرق، أشدت بمآثره، وفخرت بروحانيته، وأخذت على الغرب المادية الصماء، والغرور والكبرياء. ونقدت قادته فدحضت باطلهم، وأبطلت سحرهم، ووقفتهم للحساب العدل وأبنت ما لهم وما عليهم، ولاسيما في كتابك (بيام مشرق)

إقبال يا شاعر الحياة! كشفت عن قواها. وبصّرت بمجراها ومنتهاها، وعرفت مغزاها، وأقمت منابرها وصواها.

إقبال يا شاعر النفس! أثرت خفاياها، وأظهرت خباياها، وأبنت ما في (خودى) من كهرباء، فيها القوة والنار والضياء. ودعوت إلى إثارة معادنها، واستخراج دفائنها وقلت.

بركش إين نغمه كه سر ماية آب وكل تست

أي زخود رفته تهي شوز نراي ديكران

إقبال يا شاعر (بيخودى) أوضحت كيف يكون الإيثار، وكيف ينظم الفرد في الجماعة.

إقبال يا شاعر الحرية! أشدت بذكرها، وأكبرت نعمتها، ودعوت إليها كاملة، وأردتها شاملة، وأبغضت العبودية في شتى مظاهرها، ومختلف صورها.

إقبال يا شاعر الجهاد والدأب، والكفاح والنصب، قلت إن الحياة جهاد مستمر، وكفاح لا يفتر، وإن الحياة في الموج الهائل، والموت في سكون الساحل.

إقبال يا شاعر التجديد والتقدم، قلت إن الحياة حركة متجددة تكره التكرار، وإقدام دائم يأبى التقهقر، ودعوت الإنسان أن يمضي قدماً في الحياة مبتكراً مقدماً، له كل حين فكرة. وفي كل ساعة نغمة، وبينت أن التقدم والابتكار، هما فرق ما بين العبيد والأحرار.

إقبال يا شاعر الجمال! صورته في الأرض والسماء، واليبس والماء، وفي الصحاري الجرداء، والحدائق الغناء، وفي الصبح والمساء، والضياء والظلماء، وصورته في كل خلق كريم، وفي كل نزعة سامية.

إقبال يا شاعر الجلال! جلوت عظمته في الخالق والخليقة وفي الهمم العالية، والعزائم الماضية، والآمال الكبيرة. والمقاصد البعيدة.

إقبال! أيها الشاعر الملهم. بانت لك الأسرار، ورفعت عن الغيب الأستار فرأيت الباطن

ص: 13

كالظاهر. وأدركت المستقبل كالحاضر.

إقبال يا شاعر الإسلام! ويا شاعر الشرق، ويا شاعر الحياة، ويا شاعر الإنسانية، ويا شاعر الحرية والجهاد، والتجديد والتقدم والإقدام، ويا شاعر الجمال والجلال.

لقد حييتك على بعد الديار وشط المزار، وأشدت بذكرك، وعرفت بفضلك، وأهديت إليك منظومة اللمعات جواباً لكتابيك وموزخودى وأسرار بيخودى.

وأنا اليوم أحييك على القرب، وسيان في عظمتك القريب والبعيد. إن هذا الضياء لا يعترف بالمسافات. ولا تبعد عليه الغايات إن هذا الفكر الذي يطوي الآفاق، ويخترق السبع الطباق، لا تختلف عنده الأرجاء، فالقريب والنائي لده سواء. كان من أماني أن أزورك في حياتي؛ ثم تمنيت أن أزور ضريحك بعد مماتك. وهأنذا أشرف بأن ألقي أمامك هذه الكلمات، وأودع ضريحك هذه الزهرات.

عربي يهدي لروضك زهراً

ذا فخار بروضه واعتزاز

كلمات تضمنت كل معنى

من ديار الإسلام في إيجاز

بلسان القرآن خطت ففيها

نفحات التنزيل والإعجاز

فاقبلنها على ضآلة قدري

فهي في الحق (أرمقان) الحجاز

لقد ضمنت آثارك لك الخلود في هذه الدنيا، وعند الله جزاؤك في العقبى جزاء المجاهدين المخلصين.

والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين.

عبد الوهاب عزام

ص: 14

‌2 - الفتنة الكبرى

للأستاذ محمود محمد شاكر

وإذن، فقد أراد الدكتور طه أن يقول إن الفتنة الكبرى التي أفضت إلى قتل عثمان إنما هي (فتنة عربية نشأت من تزاحم الأغنياء على الغنى والسلطان، ومن حسد العامة العربية لهؤلاء الأغنياء في ص109 فمن أجل تحقيق هذه الكلمة الكبيرة ركب كل مركب في تصوير الحياة الإسلامية الأولى بعد الفتوح بالصورة التي تنتهي به إلى هذا الغرض وحده دون سواه، وهو الغنى والمال والسلطان، وتزاحُ الأغنياء على الغنى والمال والسلطان، وحسد العامة العربية لأصحاب الغنى والمال والسلطان. وأنا - كما قلت آنفاً - لن أحاول أن أنقض هذه الصورة، ولن أعمل عملاً في الرد عليها إلا بمقدار ما ينبغي في سياق التحقيق التاريخي لناحية من نواحي هذه الفتنة. ولكن الدكتور كشف عن هدف آخر حين جاء معرض هذه الفتنة، فنفى خبر عبد الله بن سبأ اليهودي، وخبر الكتاب الذي كتب في الأمر بقتل رؤوس وفد مصر. وهذا الهدف هو أن ينفي عن اليهود الشركة في دم عثمان، والتحريض على قتل الإمام، فركب مركباً وعراً خالف فيه أسلوب العلماء في جرح الأخبار، وكذّب الرواة في شئ بغير برهان، وصدقهم في شئ آخر بغير برهان أيضاً، وهو نفسه ينعى في كتابه على (الذين يكذبون الأخبار التي نقلت إلينا ما كان بين الناس من فتنة واختلاف) فقال في ص172: (فنحن إن فعلنا ذلك لم نزد على أن نكذب التاريخ الإسلامي كله منذ بعث النبي، لأن الذين رووا أخبار هذه الفتن، هم أنفسهم الذين رووا أخبار الفتح وأخبار المغازي وسيرة النبي والخلفاء. فما ينبغي أن نصدقهم حين يروون ما لا يعجبنا. وما ينبغي أن نصدق بعض التاريخ ونكذب بعضه الآخر؛ لا لشيء إلا لأن بعضه يرضينا وبعضه يؤذينا). بيد أن الدكتور طه نفسه، قائل هذا الكلام، قد فعل ذلك فكذبهم حين روى الرواة ما لا يعجبه، وحين رووا ما يؤذيه. وفعل ذلك أيضاً فصدقهم حين رووا ما يروقه، وحين رووا ما يرضيه. فإن الذين رووا أخبار الغنى والمال والسلطان، هم الذين رووا أخبار عبد الله بن سبأ اليهودي وأخبار الكتاب الآمر بقتل وفد مصر، فلم أخذ شيئاً بغير برهان، ونفى أخاه بغير برهان؟

والشيء البين هو أن الدكتور الجليل أراد كما قال في ص134 أن يكبر المسلمين في صدر

ص: 15

الإسلام (عن أن يعبث بدينهم وسياستهم وعقولهم ودولتهم رجل أقبل من صنعاء وكان أبوه يهودياً، وكانت أمه سوداء، وكان هو يهودياً ثم أسلم لا رغباً ولا رهباً، ولكن مكراً وكيداً وخداعاً). وهذا قصد حسن ونية جميلة، ولكن الحق أحسن منها وأجمل. وليس يجمل بنا ولا بالدكتور طه أن يغالط في الحق لشيء يراه هو أو نراه نحن حسناً جميلاً. والتاريخ لا يكتب بالتحكم، وإنما يكتب بالرواية، ثم بالاستدلال، ثم يبذل الجهد في سد الفجوات، وسبيل ذلك أن تأخذ من الماضي أسباباً وعللاً وحوادث ذات خطر، فإن استقامت أن تمتد معك إلى الحاضر الذي تؤرخه، فهي حقيقة بأن تكون شيئاً من التاريخ يوشك أن يكون حقاً كله أو بعضه.

ولست أحب أن أعلم الدكتور طه، ولكني سأضع بين يديه حقائق لا يدخلها الريب أبداً، ثم أسأله أن ينظر فيها، وأن يحكم هو بيني وبينه. وسأختصر القول اختصاراً، فإن أكثر مادة هذا الحديث مما لا أظن بالدكتور أن يجهله أو يغفل عنه.

فلنعد إلى حديث قديم كان قبل البعثة بقليل، وكان شديد الخطر في تاريخ العرب، وكان يوشك أن ينتهي إلى حديث جليل في تاريخ مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقد كان يسكن هذه البلدة الكريمة بنو أم واحدة وأب واحد من قبائل الأزد بن الغوث: أمهما قيلة، وأبوهما حارثة بن ثعلبة، وهؤلاء هم لأوس والخزرج، وكان يعيش بينهم هذا الجيل من اليهود الذي سكن جزيرة العرب، أو سكن المدينة، فكان من خبر ذلك شئ لم يكن مثله مثلاً بين بني هاشم وبني أمية، وهو الحرب المتطاولة بين هذين الحيين الذين ولدتهما أم واحدة، ويسكنان معاً بلدة واحدة. وظل هذا القتال بين الحيين متجدد النيران إلى أن كان (يوم بُعاث) وهو كما قال ابن سعد ج3 قسم2 ص135:(آخر وقعة كانت بين الأوس والخزرج في الحروب التي كانت بينهم. . . وكانت هذه الوقعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة قد تنبأ ودعا إلى الإسلام، ثم هاجر بعدها بست سنين إلى المدينة).

ونشأة هذه العداوة العجيبة بين الأخوين: الأوس والخزرج، واقتتالهما هذا القتال المر العنيف حقباً متطاولة، ودخل اليهود في الحلف، بعضهم مع الأوس وبعضهم مع الخزرج، لا يصيبهم من أذى القتال بين هذين الحيين الأخوين إلا القليل، وتداعيهم باسم اليهودية إذا حزب الأمر، فيكونون يداً واحدة على هذه العرب، ليس له معنى إلا أن تكون هذه اليهود

ص: 16

هي التي أرّثت الحرب والعداوة بينهما لتؤثّل في هذه الأرض أموالاً وآطاماً وحصوناً تكون لها عدة وقوة، وتظهرها على أهل البلاد المالكين لها، وتصرف وجه هؤلاء القوم عن الزراعة والتجارة وتثمير الأموال بالربا ومآكل السحت. وهذا عمل يهود في كل جيل، وفي كل أمة، وفي كل زمان إلى يوم الناس هذا.

ثم لا يلبث أن يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم رهطاً من الخزرج عند العقبة، وكانت يهود كما قال ابن إسحاق، قد عَزُّوهم ببلادهم، أي غلبوهم عليها واستأثروا بها، فلما دعاهم رسول الله إلى الإسلام قالوا له:(إنا تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، فعسى أن يجمعهم الله بك. فسنقدم عليهم وندعوهم إلى أمرك ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فإن يجمعهم الله عليك، فلا رجل أعز منك). فيؤلف الله قلوب الأوس والخزرج، وهما الأخوان، على الإسلام فيفشو بينهما فُشواً ظاهراً. ولا يلبث رسول الله أن يهاجر إلى المدينة، فلا يبقى حي من الأوس والخزرج إلا دخله الإسلام وظهر فيه. فيمر شأس بن قيس من يهود بني قينقاع - وكان شيخاً عظيم الكفر شديد الضغن على المسلمين شديد الحسد لهم - على نفر من أصحاب رسول الله من الأوس والخزرج، فيغيظه ما رأى من ألفتهم وصلاح ذات بينهم من العداوة في الجاهلية، فيقول:(قد اجتمع ملأ بني قيلة (يعني الأوس والخزرج) بهذه البلاد! لا والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملأهم بها من قرار). فيأمر فتى شاباً من يهود أن يجلس إليهم فيذكر (يوم بعاث) وما كان قبله، وينشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار. فيفعل هذا اليهودي، فإذا الجماعة المؤتلفة على الإسلام تتنازع وتتفاخر، فيتواثب رجلان من الأوس والخزرج، فيقول أحدهما لصاحبه:(إن شئتم رددناها الآن جَذَعة)، ويغضب الفريقان جميعاً ويقولون:(قد فعلنا، موعدكم الظاهرة (يعنون مكاناً بعينه)) ويتداعون: (السلاحَ السلاحَ). ويخرجون إلى موعدهم، فيبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر، فيخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين من أصحابه حتى إذا جاءهم قال:(يا معشر المسلمين! الله الله! أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم الله للإسلام وأكرمكم به، وقطع عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر وألف به بينكم؟) فيعرف الأنصار، أوسهم وخزرجهم، أنها نزعة من الشيطان وكيد من (عدوهم)، فيبكون ويتعانقون، ثم ينصرفون مع رسول الله سامعين مطيعين قد أطفأ الله عنهم كيد عدو الله

ص: 17

شأس بن قيس اليهودي. (عن ابن إسحاق وغيره).

وأنا ألست أروي لك هذا إلا لتقف على كيد يهود كيف كان؟ ولتعرف كيف كان ترفقهم إلى إثارة العداوة بين هذين الحيّين منذ قديم؟ ولتنظر لم كانوا يحبون أن تظل هذه العداوة حية متوقدة ليأكلوا من ثمراتها مالاً وغلبة وسلطاناً على العرب؟ ولتقارن هذا كله بما لا يزال يجري إلى أيامنا هذه على يد هذه الشرذمة الخبيثة من بني إسرائيل!

ثم ينزل الله جلت أسماؤه في أمر هذه الفتنة يخاطب المسلمين الذين كان رسول الله بين أظهرهم، لم يمُت بعد:(يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتابَ يردوكم بعد إيمانكم كافرين. وكيف تكفرون وأنتم تُتلى عليكم آياتُ الله وفيكم رسوله، ومن يعتصم بالله فقد هُدي إلى صراط مستقيم).

وإذن، فنحن لا نستطيع أن نكبر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأوس والخزرج عن أن يطيعوا فريقاً من اليهود حتى كادوا يردونهم بعد إيمانهم كافرين، ولا أن ننزههم عن ذلك وهم تتلى عليهم آيات الله وفيهم رسوله! كما فعل الدكتور طه حين أراد أن ينزه أهل الصدر الأول من الإسلام في سنة 53 من الهجرة بعد أن قبض الله إليه نبيه بأكثر من عشرين سنة، وبعد أن نشأت ناشئة من الشباب لا يدَّعي أحد أنهم جميعاً كانوا أحرص على إيمانهم من أصحاب محمد وأنصاره الأولين. وهذا خبر واحد رويته، فإن شئت أن أروي الأخبار كلها لما وسعني كتاب أشرح فيه أمر هذه الفتن التي أرّثتها اليهود في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يسعني أن أنص على كل آيات كتاب الله التي نزلت في أخبار هذه الفتن. وحسبي أن أذكر من نسي أن أخبار المنافقين والآيات التي نزلت فيه، كانت كلها في المدينة لا في مكة، وأن ذلك دليل على النفاق كان حيث تكون يهود، وأن (الأعراب) لم يذكروا إلا في السور المدنية مقروناً بالنفاق والمنافقين، وأن قول الله تعالى في سورة راءة (الأعرابُ أشد كُفراً ونفاقاً) نزلت في بني أسد وغطفان، وهم كانوا حلفاء يهود في الجاهلية وفي زمان الإسلام. وهذا شئ أرجو أن يتذكره الدكتور حتى نعود إليه.

ولم يكن كل هذا المكر والكيد والإيقاع عملاً جاء عفو الخاطر من اليهود. ولا كان مأتاه من إساءة لحقتهم من حلفائهم الأوس والخزرج من المؤمنين غير المنافقين، بل هو شر انطوت

ص: 18

عليه يهود لا يزايلهم ولو أحسن المسلمون إليهم، وهو حقد وضغينة وكفر وعدوان على أهل هذا الدين، وهم كما وصفهم الله أشد الناس عداوة للذين آمنوا بمحمد صلوات الله عليه. ودليل ذلك أن رجالاً كثيراً من الأوس والخزرج كانوا يواصلون رجالاً من اليهود لما كان بينهم من الجوار والحلف في الجاهلية، فكانوا يصافونهم المودة بهذه الأسباب، ويستنصحونهم في أمورهم دون أن يشكوا فيهم أو يتوجسوا منهم خيفة. فأنزل الله في محكم كتابه ينهاهم عن فعل ذلك:(يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانةً من دونكم لا يألونَكم خبالاً ودُّوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تُخفي صدورهم أكبر، قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون. ها أنتم أؤلاءِ تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله وإذا لقوكم قالوا آمنا، وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ، قُل موتوا بغيظكم إنَّ الله عليم بذات الصدور). وهؤلاء (الذين قالوا آمنا) هم الذين نزلت فيهم الآية السابقة قبل هذه في سورة آل عمران: (وقالت طائفةٌ من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون).

وهذه الآية وسبب نزولها يدل دلالة صريحة على أن أهل الإسلام الأول، كانوا لا يزالون يعدون الحلف بينهم وبين يهود حلفاً صادقاً لا غش فيه، وأن يهود كانت تظهر المودة وتخفي أشد العداوة وأشد الغيظ على هؤلاء الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وأنهم كانوا يتخافتون بهذه العداوة، وأنهم كانوا يخدعون هؤلاء المؤمنين بإظهار الإيمان وإبطان الكفر، حتى إذا صدّقهم بعض المؤمنين عادوا فأظهروا الكفر ليفتنوهم ويخدعوهم عن دينهم. فإذا صح هذا، وهو صحيح، ورسول الله بين أظهرهم، فهو أحق بالصحة في سنة 53 من الهجرة، لا نكبر أهل الصدر الأول من الإسلام أن يقعوا في مثله وفي أشد منه.

ويستطيع الدكتور طه، ويستطيع كل من أطاق القراءة، أن يقرأ كتب السير والمغازي منذ هاجر رسول الله من مكة إلى المدينة، إلى يوم دعاه ربه إلى الرفيق الأعلى، فسيجد أنه لا تكاد تنتهي وقعة بدر الكبرى بالنصر الأعظم لجند الله حتى يسلم رأس النفاق عبد الله بن أبي ابن سلول وجماعته من المنافقين، وكانوا أعوان يهود، ومن يومئذ ينفجر النفاق ويستشري خطره، حتى تنزل فيه الآيات الكثيرة، وحتى يطلع الله ورسوله على خبايا نفوسهم وعلى أعيانهم. ومن يومئذ يجاهر بعض اليهود بنقض العهد الذي كتبه رسول الله

ص: 19

بينه وبينهم عند مقدمه إلى المدينة، فيكون مقتل اليهودي أبي عَفَك، ثم تكون غزوة يهود بني قينقاع، ثم استعانة أبي سفيان بن حرب بيهود بني النضير ينقلون إليه أخبار نبي الله. ثم يكون ما كان يوم أحد من خروج عبد الله ابن أبي ابن سلول المنافق مع رسول الله حتى إذا بلغ رسول الله أحُداً انخزل ابن أبي في كتيبة أشياعه وهو يقول:(أيعصيني ويطيع الولدان؟)، ثم يهزم المسلمون، فإذا عادوا إلى المدينة شمت بهم عبد الله بن أبي ابن سلول وأصحابه المنافقون، وأظهرت يهود القول السيئ يقولون: ما محمد إلا طالب ملك! ما أصيب هكذا نبي قط! أصيب في بدنه، وأصيب في أصحابه: ثم لا تمضي خمسة أشهر حتى يحاول يهود بني النضير قتل رسول لله غدراً حين جاء منازلهم، فأتمروا أن يطرحوا عليه صخرة من فوق البيت الذي هو تحته، فجاءه الوحي بما هموا به. ثم يخرج أبو رافع سلام بن أبي الحقيق اليهودي بعد أشهر إلى (غطفان) ومن حولهم من مشركي العرب، يغريهم بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم. . .

ولا تزال تمضي من حدث إلى حدث، ومن غدر إلى غدر، ومن نفاق إلى نفاق، واليهود رأس ذلك كله، والعاملون عليه، والموغلون فيه، إلى أن تنتهي إلى خبر اليهودية التي وضعت السم في الشاة ودعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بخيير، فأكل من شاتها ثم نبئ أنها مسمومة فلفظها.

فما معنى هذا كله؟ معناه أن اليهود لم يفتر لهم لسان ولا يد ولا غش ولا غدر ولا خديعة ولا ضغن منذ ظهر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن هذه الشحناء لم تكن عن إساءة لحقتهم من الذين آمنوا بل كانت عصبية يهودية محضاً، وخليقة مركبة في طباع هذا الجنس من البشر، وأن النفاق كان طرفاً من دسائسهم ومتنفساً لأضغانهم على أهل هذا الدين، وأن الله قد وصفهم وصف الحق إذ يقول تباركت أسماؤه: (لُعِن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون. كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون. ترى كثيراً منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدّمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون. ولو كانوا يؤمنون بالنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيراً منهم فاسقون. لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا، ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن

ص: 20

منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون)

وهذه الصفة التي وصفهم الله تعالى بها، لم تنقطع ولن تنقطع ما بقي على الأرض مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. وسترى في الكلمة الآتية كيف استطاع اليهود أن يفسدوا على المسلمين أموراً كثيرة، وأن يثيروا فتنة كادت تذهب بالإسلام كله لولا أن الله قد وعد عباده أن يظهر هذا الدين كله ولو كره الكافرون.

محمود محمد شاكر

ص: 21

‌إسعاف النشاشيبي

للأستاذ أحمد لطفي السيد

اختار الله لجواره في الأسبوع الماضي الكاتب الشهير إسعاف النشاشيبي زعيم الأسرة المعروفة في فلسطين منذ القرن التاسع الهجري إلى اليوم.

ارتقى رحمه الله إلى أعظم المناصب الحكومية في عهد الحكومتين العثمانية والحاضرة - بجده واجتهاده، فكان المفتش الأول للغة العربية في فلسطين - نظم المدارس وأصلح التعليم في هذا القطر الشقي - ونشر علم العربية عالياً تشهد بذلك مؤلفاته ومقالاته الذائعة الصيت في العالم العربي - وقد كان السيد إسعاف بك شديد الحنين لوطن أسرته الأول مصر - فكان يزورها كلما سنحت الفرصة - وهو فوق ذلك يؤلف فيها الكتب - ويحيي علماءها وشعراءها وزعماءها - ويتعرف إلى أحيائها وأمواتها ما استطاع إلى ذلك سبيلاً - وحادثة وقوفه بين يدي المغفور له سعد باشا معروفة مشهورة.

ونحن بهذه المناسبة نكشف لقراء الرسالة الغراء عن أصل هذه الأسرة المصرية الكريمة حتى تقر عين الصديق الراحل بكلمة وفاء صغيرة من أحد أبنائه المعترفين بفضله. . . يتصل أول هذه الأسرة بالشيخ المعتقد أحمد بن رجب النشاشيبي - سمي بذلك لأن أجداده كانوا يحترفون صناعة النشاب - وكان الشيخ أحمد المذكور من رجال السلطان الملك الظاهر جقمق - كان خازنداره الخاص في أيام إمارته الأولى في فجر القرن التاسع الهجري - وتوفي الشيخ أحمد المذكور على عهد المؤرخ الشهير ابن تغري بردى صاحب كتاب النجوم الزاهرة في أخبار مصر والقاهرة وقد وصفه بقوله: (الشيخ المعتقد أحمد بن النشاشيبي كان خيراً يحب العلماء الصالحين) وترك ابنه الأمير ناصر الدين محمد وهو غرة هذا البيت وواسطة هذا العقد وطراز هذه الحلية ولد في مصر سنة 821هـ وبها نشأ وحفظ القرآن الكريم في صغره وجوده على أشهر علماء عصره ثم اتصل كأبيه بخدمة الملك الظاهر جقمق. وفي سنة 875 اختاره الملك الأشرف قايتباي لوظيفة ناظر الحرمين الشريفين (القدس والخليل) فدام في هذه الوظيفة ما يقرب من الثمانية عشر عاماً، كانت كلها خيراً وبركة على القدس والخليل وأهلهما. وقد فصل العليمي في كتابه تاريخ القدس وأخليل حكم هذا الأمير لتلك البلاد فقال كانت أيامه كلها مواسم. . . وناهيك بهذه الشهادة

ص: 22

من شاهد عيان.

وحتى يكون القارئ على بينة من سر حنين المرحوم إسعاف بك لوطن أسرته الأول مصر نفصل له قليلاً من أخبار الأمير ناصر الدين في القدس وكيف استقرت فيها هذه الأسرة المصرية الكريمة منذ خمسة قرون إلى الآن. . . قال العليمي في حوادث 873هـ كثرت الفتن في القدس بين نائب السلطنة (حاكم القدس) دمرداش وناظر الحرمين الشريفين (القدس والخليل) برد بك التاجي واشتد الخلاف بينهما وكثر القيل والقال فأدى الحال إلى انفصال الأخير عن نظر الحرمين الشريفين وعين السلطان قايتباي الأمير ناصر الدين بن النشاشيبي أحد الخازندارية بالخدمة الشريفة (أحد رجال الديوان العالي كما هو متعارف اليوم) للكشف عن أوقاف الحرمين الشريفين بالقدس والخليل وتحرير أمرهما وإصلاح ما فسد من نظامهما فحضر إلى القدس وأصلح ما فسد من أيام برد برك التاجي وعصر المسجد الأقصى وصرف المعاليم (المرتبات) واستبشر الناس بالخير وعد ذلك من بركة الأمير ناصر الدين ثم توجه إلى مصر في آخر سنة 874هـ وفي سنة 875 استقر الأمير المذكور في نظر الحرمين الشريفين ودخل إلى القدس في يوم مشهود وشرع في عمارة الأوقاف بهمة وشهامة وحصل للأراضي المقدسة الجمال بوجوده وكان يكثر من مجالسة العلماء والفقهاء ويحسن إليهم بالبشر والقبول. وفي سنة 877هـ وفي هذه السنة خلع عليه السلطان قايتباي وعلى القاضي شهاب الدين بن عبيسه ووهبهما ألف دينار وحضر الاثنان إلى القدس وعليهما خلعة السلطان فكان يوماً مشهوداً. . .

وفي سنة 892هـ اشتد الغلاء بالقدس والخليل وساءت سيرة نائب السلطان خضر بك وكان يناصره قاضي المالكية شرف الدين بن يحيى المغربي فكثرت الشكاوى في حقهما فعزل الأمير ناصر الدين القاضي بناء على أمر جاءه من القاهرة فلما كانت سنة 893هـ توجه خضر بك نائب السلطنة والأمير ناصر الدين ناظر الحرمين الشريفين إلى القاهرة ومثل كلاهما بين يدي السلطان فعزز السلطان خضر بك وأمر بعزله والتمس الأمير ناصر من السلطان إعفاءه. . . من الخدمة فتوقف السلطان ولكن الأمير ناصر الدين ألح في طلب الاستعفاء فأعفاه السلطان من الخدمة كارهاً لنزاهته وعفته واستقامته.

قال شيخ العليمي ودخلت سنة 892 والوظيفتان شاغرتان النيابة والنظر قال ثم عين

ص: 23

السلطان دقاق في نظر الحرمين فكان بعكس سلفه ظالماً فاجراً.

قال السخاوي في كتابه الضوء اللامع في أعيان القرن التاسع كان الأمير ناصر الدين بن النشاشيبي من أهل الخير والصلاح حفظ القرآن الكريم وهو صغير وجوده على ابن كوزلبنا والزين طاهر وآخرين وبعد أن ذكر خدماته في القدس والخليل قال وصرفه السلطان قايتباي بدقماق. والعليمي يؤكد أن النشاشيبي هو الذي استعفى من تلقاء نفسه وأن السلطان ألح عليه في البقاء في نظير الحرمين فرفض الخ وصاحب الدار أدرى.

ولم ينس الأمير ناصر الدين تلك البلاد التي صرف فيها زهرة العمر فرجع إلى القدس وتائل الدور والقصور والحقول والبساتين وانتهت الأسرة كلها بالانتقال من مصر إليها منذ القرن التاسع إلى الآن. . .

وبعد فهذه لمعة صغيرة عن أصل هذا الأمير الشهير والكاتب النحرير والحجة الثبت واللغوي الضليع عظيم القدس والخليل البلد المعلوم وموطن القبر الموهوم الذي من أجله تقاتل الأخوان كأنهما وحشان قروناً وأجيالاً حتى اصطبغت الأراضي المقدسة بالدماء فشربتها شرب الهيم ولم يغن فيها دعاء إبراهيم وهي اليوم كما كانت بالأمس وا أسفا والفرق في الاسم فقط فتلك حروب صليبية وهذه حروب صهيونية ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

أحمد لطفي السيد

ص: 24

‌طرائف من العصر المملوكي:

ابن حجر الأديب

للأستاذ محمود رزق سليم

أعني بابن حجر هنا، شهاب الدين أبا الفضل أحمد العسقلاني المصري. المنسوب إلى عسقلان من بلاد الشام، والمولود بمصر - الفسطاط - والذي عاش بين سنتي 773هـ، 852هـ. فإن هناك ابن حجر آخر، وهو الهيثمي من علماء العصر العثماني.

أما ابن حجر العسقلاني فهو أشهر من أن يشار إليه، وأجل من أن تكتب عنه عجالة، وأحرى أن تؤلف فيه رسالة مسهبة فياضة تنم عن علمه وتحدث عن فضله. فإن آفاق علمه واسعة، وفجاج فضله رحيبة. وهو في الجبهة الأولى بين علماء العصر المملوكي. وفي الصف الأول بين نابغيه، وممن نبه العصر بنباهته، وسما بسمو مكانته.

أخذ العم على أئمة زمانه كالزين العراقي، والسراج البلقيني، وابن الملقن والإيناسي، والعز بن جماعة، والمجد الفيروزابادي، والعماري والبدر البشتيكي - وطوف في آفاق مصر، وربوع الشام، وجال في نواحي حلب، وحج إلى بلاد الحجاز، وزار اليمن، فأفاده التجوال علماً غزيراً وأدباً جماً وخبرة صائبة ومعرفة سديدة.

وفره في العلم حتى تصدر للإفتاء وقعد للتدريس وعكف على التأليف. ووكلت إليه مناصب عدة من مناصب الدولة من بينها قضاء الشافعية، فنبه فيها شأنه بكفايته ومهابته. فعظم في عيون أهل جيله وعلى رأسهم السلطان الملك المؤيد المشهور، الذي كان ابن حجر في مقدمة هيئة التدريس فيه.

لم يقتصر بروز ابن حجر على مادة علمية واحدة بل تجاوزها إلى غيرها. فقد أغرم بالحديث النبوي الشريف فتلقاه عن حفاظه. وظل يجمعه ويحفظه حتى غدا أحفظ أهل زمانه. وعني بالتأليف فيه وفي تاريخ رجاله، فوضع كتباً عدة منها كتابه المشهور (فتح الباري) الذي شرح فيه صحيح البخاري، وقدمه بمقدمة جليلة سماها (هدى الساري). قال بعضهم (لو وقف عليه ابن خلدون القائل بأن شرح البخاري إلى الآن دين على هذه الأمة، لقرت عينه بالوفاء والاستيفاء). وقال عنه السخاوي في الضوء (إن هذا الكتاب لم يسبق نظيره وكان أمراً عجباً). والحق أنه كان فتحاً مبيناً في تاريخ شرح الحديث - ولابن حجر

ص: 25

عشرات الرسائل في الحديث ورجاله ومصطلحه.

ودرس ابن حجر فقه الشافعي حتى نبغ فيه وأصبح رأساً بين فقهائه، واختير لذلك قاضياً لقضاة الشافعية وظل بين تعيين وعزل قرابة إحدى وعشرين سنة، بعفة وجدارة.

وأقبل على التاريخ وعلى التأليف فيه حتى كون بعض مؤلفاته حلقة هامة من حلقات تلك السلسلة الفريدة من كتب التاريخ التي صنفها مؤرخو مصر في تاريخها وتاريخ رجالها. ومنها (الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة).

وتخرج به طائفة من الفضلاء ومنهم تلميذه الأثير شمس الدين السخاوي صاحب (الضوء اللامع) ومنهم شيخ الإسلام زكريا الأنصاري. وهكذا جمع ابن حجر الفضل من أقطاره، والمكارم من آفاقها. وإذا ذهبنا نعد مؤلفاته وأعماله وننوه بخطرها وجلال قدرها ضاق المقام وأعيا الكلام.

وما بنا من رغبة هنا إلا أن نعرض لميزة من مميزاته قد يكون انتابها شئ من الخفاء، فاحتجب خبرها وتمنع ذكرها، وتلك هي أدبه.

لقد كان ابن حجر أديباً له نفسية الأديب وحساسيته، وله عاطفته وشعوره، وله تأثره وإنتاجه. . . ولكنه انساق بدافع من روح عصره إلى طلب الحديث ودراسة الفقه وعلوم الدين، فبرز في ذلك كله بروزاً تطامن أمامه بروزه في فنون الأدب.

لقد كان بالعصر تجهم للأدب وانصراف عن الأدباء. ولولا ثقة انبثت في نفوس الأدباء بأدبهم، وولوع شاع فيهم بفنهم، لتجهموا للأدب في المتجهمين، ولانصرفوا عنه مع المنصرفين. ولقد كان ابن حجر من هؤلاء الأدباء. . . ولكن كانت به إلى جوار ذلك نزعة طاغية إلى المجادة، ورغبة جامحة إلى معالي الأمور؛ وشعر حينذاك أن الأدب لا يبل أوام أديب ولا يؤدم لقمته، فضلاً عن أن يسدل عليه أردية المجد ضافية، ويرخي فوقه أثواب الجاه سابغة، فإذا ركن إلى الأدب وحده اعتاص عليه السبيل إلى المجد وانسد أمامه الطريق إلى الجاه. لذلك عدل ابن حجر من الأدب إلى غيره، وطلب المجد من باب غير بابه. فحفظ الحديث ودرس الفقه. . .

شعر ابن حجر وهو في حداثة سنه بميله الفطري إلى الأدب، فعكف على دراسته ومعالجته، ونظم الشعر حتى بلغ في نظمه مبلغاً محموداً. ثم تفتحت فيه زهرات الآمال،

ص: 26

وقوى حب المجد في نفسه، ورأى للبارزين من علماء الدين وفقهاء المذاهب في عصره منازل دونها منازل الأدباء والشعراء، فاشرأبت عنقه إلى منزلة من منازلهم، ورجا أن يكون في آتي أيامه واحداً منهم، لذلك سلك طريقهم ونهج نهجهم، وعدل عن الأدب فحفظ الحديث ودرس الفقه. . . ورأى أن يستغل فيهما ذكاءه ومواهبه. فكان له ما أراد.

ولكن هل أزال هذا النهج الجديد نزعة الأدب من نفسه، كلا! بل ظلت كامنة فيها كمون العطر في زهرته، متربصة تربص اللحن في وتره. فإذا مرت عليها نسمة وانية رفيقة استجابت لها فمطرت الأرجاء بأرجها: أو هزتها يد حانية رقيقة لبتها فأطربت النفوس بنغمها. وهيهات هيهات أن تصدأ نفس الأديب الموهوب.

وبعد، فأين نجد أدبه ومظاهره؟ نجد ذلك في كتابته وخطبه وفي شعره.

وحقاً إذا أنت قرأت في مؤلفاته رأيت أسلوبه الكتابي علمياً فيه من مصطلحات العلم لفظها وأسلوبها كما أنه يغلب عليه في كتب التاريخ سرد حديثه وقص تراجمه في غير تأنق. غير أنك يصادفك كثيراً في تضاعيف هذه التراجموغيرها سطور من الأدب الخالص يعود إليه فيها طبع الأديب فيتأنق، ويتخير اللفظ ويحسن في الأسلوب وتبدو عليه سيما عصره من مراعاة البديع، ولكن في غير إغراق ولا استكراه.

وقد كان ابن حجر خطيباً دينياً يعظ الناس فوق المنابر وغيرها، وولي خطابة جوامع عدة منها الجامع الأزهر وجامع عمرو.

ولعل شعره أوضح مظاهر أدبه. وقد كان يظن أن شعره هذا سيتأثر بالاتجاه العلمي البحت الذي اتجهه، فيسمج ويتخاذل وينوء بالمصطلحات. ولكن الحق أنه بقي له شئ كثير من طرب الأديب وأنسه وإيناسه ومرحه ودعابته. وقل أن مرت به مناسبة من مناسبات الأدباء لم يدل عندها بدلوه في الدلاء. فمدح وهنأ وتغزل وشكا ورثى وعاتب وتشوق وحن، ووصف، ونظم في المديح النبوي وألغز وحاجى وتفكه وراسل وساجل ودبج القصائد الطوال، وقطع المقطعات الصغار. وأولع في رفق وكياسة ولطف وسياسة بما أولع به أدباء عصره ممن شغفوا بتعاليم القاضي الفاضل أو تخرجوا في مدرسة ابن نباتة، فورى وضمن واقتبس وطابق وجانس. إلى غير ذلك.

وفضلاً عن ان شعر ابن حجر قد انتثر في بعض مؤلفات ابن حجة الحموي كخزانة

ص: 27

الأدب، وترى منه طرفاً في حسن المحاضرة للسيوطي، فإن له ديوان شعر مخطوطاً، لما يطبع - كما نعتقد -

قال جميل العظم إن ديوان شعر ابن حجر اسمه (الدرر). وقيل في فهرس دار الكتب إن صاحب كشف الظنون قال (إن لابن حجر ديوان شعر كبيراً انتخب منه قطعة ورتبها على سبعة أبواب وسماها (السبعة السيارة النيرات) وهي ديوانه الصغير) ثم قيل في الفهرس (لعل هذا الأخير هو الذي بأيدينا). ويؤيد كلام الفهرس خطبة هذا الديوان التي كتبها ابن حجر في مقدمته فهي ناطقة بأن ما في هذا الديوان جزء من شعره لا شعره كله.

شعر الديوان إذن، جملة مختارة من الديوان الكبير. وقد جمع فيه ابن حجر بعض شعره المبكر إلى بعض من شعره المتأخر. ومن محاسنه ذكر تاريخ بعض القصائد بالسنة واليوم، وذكر أسماء ممن وجهت إليهم من ملوك أو إخوان، فمنهم الملك الأشرف إسماعيل صاحب اليمن، وعبد العزيز صاحب تونس، والعباس ابن محمد الخليفة العباسي بمصر، مدحه ابن حجر بقصيدة بارعة لما ولي السلطنة المصرية عام 815هـ، قال في مطلعها:

الملك أصبح ثابت الأساس

بالمستعين العادل العباسي

رجعت مكانة آل عم المصطفى

لمحلها من بعد طول تناسي

وقد قسم ابن حجر ديوانه المذكور إلى سبعة أبواب. فافتتحه بالنبويات ثم الملوكيات - أي المدائح - ثم الإخوانيات ثم الغزليات ثم الأغراض المختلفة ثم الموشحات ثم المقاطيع.

أما نبوياته فلم يأت فيها بجديد وهي على نمط ممن جاء في بردة البوصيري من ذكر ما عرف من سيرة النبي عليه السلام كالمولد والمعجزات والإسراء والمعراج إلى غير ذلك. ومنها قوله عن النبي عليه السلام:

هو رحمة للناس مهداة فيا

ويح المعاند إنه لا يرحم

نال الأمان المؤمنون به إذا

شبت وقوداً بالطغاة جهنم

الله أيده فليس من الهوى

في أمره أو نهيه يتكلم

فليحذر المرء المخالف أمره

من فتنة أو من عذاب يؤلم

أما مدائحه الأخرى وهي ما سماه (الملوكيات) فأجمل أبياتها ما بدا في صدرها من غزل. وكذلك كان دأب ابن حجر في أغلب قصائده حتى النبويات يبدأها بأبيات غزلية على سنة

ص: 28

القدامى. ولكنها رقيقة لطيفة تنم عن عاطفة جميلة وشعور صادق. وبمناسبة الغزل نذكر أن بعض علماء العصر وفقهائه ممن نظموا الشعر، تغزلوا ووصفوا المؤنث والمذكر، وصرح بعضهم بأن هذا كان منهم على سبيل تمرين القريحة. وما هو إلا حب التقليد أو حب الظهور دفعاهم إلى شعر الغزل. وما كانت بهم من حاجة إلى الاعتذار أو التنصل، فكثير من شعرهم بدا متكلفاً ممجوجاً مستخذي العاطفة ضيق الحيلة ففضح نفسه بنفسه. ولكنا نشعر أن غزل ابن حجر ينم عن عاطفة جميلة وشعور صادق - كما ذكرنا - ولا نستطيع أن نقدم على هذه الدعوى دليلاً غير ما يفيض به غزله دون سائر شعره من رقة ولطف وسلاسة. قال في مطلع مدحة نبوية:

إن كنت تنكر حباً زادني كلفا

حسبي الذي قد جرى من مدمعي وكفى

وإن شككت فسائل عاذلي شجني

هل بت أشكو الهوى والبين والأسفا

أحبابنا ويد الأسقام قد عبثت

بالجسم هل منكم بالوصال شفا

كدرت عيشاً تقضي في بعادكم

وراق مني نسيب فيكم وصفا

ومنها:

وكنت أكتم حبي في الهوى زمناً

حتى تكلم دمع العين فانكشفا

سألت قلبي عن صبري فأخبرني

بأنه حين سرتم عني انصرفا

وقلت للطرف أين النوم بعدهم

فقال: نومي وبحر الدمع قد نزفا

وهذه الأبيات أليق بباب الشكوى منها بباب الغزل، غير أن الشكوى هنا هي من صميم الغزل بل هي لبه وجوهره. وهي أدل على صدق العاطفة من الوصف الصريح. ومع هذا فاسمع قول ابن حجر من غزلية رقيقة:

طيف لمن يهوى ألما

يطوي ذيول الليل لما

أهلاً به لو أن طر

في للمنام يذوق طعما

حتام يا ريق الحبيـ

ب أراك موروداً وأظما

وإلام يا قلب الكئيـ

ب بأسهم الألحاظ ترمى

هلا صحوت من الغرا

م فلم أراجع فيه عزما

وصبرت عمن لا يطا

وع ما تشا نهباً وغرما. الخ

ص: 29

وبعد فلعل القارئ معي يلحظ في هذا الشعر ما لحظته فيه من رقة ولطف. ويضيق المقام دون الحديث كما ينبغي وكما نشتهي عن شعر ابن حجر. وليس به ما يشوب إلا هنات قليلة شاعت في فرسان عصره كخطأ لغوي أو استعمال عامي.

وإذ آن لنا أن نختم هذه الموجزة، نذكر أن ابن حجر كان يتخذ حكماً في المباريات الأدبية، مما يدل على علو كعبه في ذوق الأدب وتمييزه. حكوا أن ابن نباتة المصري مدح الكمال ابن الزملكاني القاضي بتائية بارعة صدرها بغزل مليح، ومنه في مطلعها:

قضى وما قضيت منكم لبانات

متيم عبثت فيه الصبابات

فعارضها كثير من الشعراء، ومنهم برهان الدين القيراطي، قال في مطلع قصيدته:

ما لابتداء صباباتي نهايات

يا غاية ما لعشقي فيه غايات

ثم جاء ابن حجة الحموي من بعدهما فعارضهما بقصيدة أخرى قال في مطلعها:

لعجبه ولذيل الهجر شمرات

وللقلوب من الأجفان كسرات

ثم احتكم ابن حجة في التائيات الثلاث إلى ابن حجر، فحكم له ابن حجر وفضله عليهما وسجل ذلك في مكاتبة أدبية طريفة قال في صدرها: (لله الأمر من قبل ومن بعد. الحكم بين النظراء إنما يحسن ممن يماثلهم فيما به يرتفع الحكم. وفي إقدام من لم يرتق إلى تلك الطبقة نوع من الظلم. ولا يرتاب لبيب في أن كلاً من الثلاثة رأس هذا الفن في ومانه، وأنه لا يوازنه أحد من أقرانه.

وثلاثة كثلاثة الراح استوى

لك لونها ومذاقها وشميمها). الخ

وبعد فهذه أثارة من أدب ابن حجر نوهنا بها أملاً في أن تثير الرغبة في دراسته بتفصيل وروية.

(حلوان)

محمود رزق سليم

مدرس الأدب بكلية اللغة العربية

ص: 30

‌للحقيقة والتاريخ:

حول الفتنة الكبرى

للدكتور شوقي ضيف

قرأت بعناية مقال الأستاذ الأديب محمود محمد شاكر بمجلة الرسالة في عددها 761 عن كتاب (الفتنة الكبرى أو عثمان) لأستاذنا الدكتور طه حسين. وقد رأيت الأستاذ صاحب المقال يقول في أوائل كلامه: (رميت بنفسي وعقلي في هذا الكتاب. . . فما كدت أفرغ حتى رأيت الكتاب كله يختلج بين يدي). وذهب الأستاذ يوضح أسباب ذلك فإذا هو يعود بها إلى خبرين أو روايتين نفاهما مؤلف الفتنة الكبرى.

وأقام الأستاذ شاكر الدنيا وأقعدها لأن المؤلف نفى هاتين الروايتين وما كان ينبغي له. وإن كتاباً يخرج عن عثمان وتنفى فيه هاتان الروايتان لخليق بأن يختلج، على الأقل، بين يدي الأستاذ شاكر!

أما الرواية الأولى، فهي أن مؤلف الفتنة الكبرى ينفي ما يروى من عمل لابن سبأ في فتنة عثمان. وأما الرواية الثانية، فهي أن المؤلف ينفي ما يروى من كتاب المصريين الثائرين الذي خرجوا به عن عثمان إلى واليه على مصر، فلما فضوه في بعض الطريق وجدوه يأمره أن يقتلهم، فرجعوا إلى عثمان وحاصروه حتى كان مقتله.

وإنكار الرواية الأولى هو الذي أثار ثائرة الأستاذ شاكر؛ فقد رأى مؤلف الفتنة الكبرى أن هذه الرواية لم تأت في الكتب التاريخية القديمة كلها، وأن المؤرخين المتأخرين توسعوا فيها، فشك فيما صارت إليه، بل شك أيضاً في أصلها، لأن ابن سبأ أسلم في عصر عثمان ومثله - وهو ليس من السابقين الأولين ولا من قريش ولا من الأنصار - لا يؤثر تأثيراً عميقاً في هذه الفتنة الكبرى التي انتهت بقتل الخليفة. وقد كان الإسلام لا يزال في دوره الأول، وما كان المسلمون الأولون ليثوروا على خليفة وراء يهودي أسلم حديثاً. وإن وصفهم بذلك ليحط من شأنهم؛ إذ يكونون أطفالاً أغراراً يتبعون هذا الناعق الذي يكيد للإسلام. والحق أن المسلمين ثاروا على عثمان لأسباب داخلية يفصلها مؤلف الفتنة الكبرى.

ومن المسلم به أن من حق المؤرخ أن ينفي بعض الروايات وأن يثبت الأخرى؛ معتمداً في

ص: 31

ذلك على القرائن والأدلة المختلفة وقد رأى صاحب كتاب الفتنة الكبرى قصة ابن سبأ هذه أو ابن السوداء تروى في بعض الكتب التاريخية الموثقة ولا تروى في أخرى، بل رأى أن الكتب التي كانت أكثر اهتماماً من غيرها بفتنة عثمان لا تروي هذه القصة من مثل طبقات ابن سعد وأنساب الأشراف للبلاذري فازداد شكه في القصة وازداد اتهامه وخاصة وأنه رآها تكبر وتتضخم مع مر الزمن فقال:(إن هذه القصة أكبر الرواة المتأخرون من شأنها وأسرفوا فيها حتى جعلها كثير من القدماء والمحدثين مصدراً لما كان من الاختلاف على عثمان).

وعلق على ذلك الأستاذ شاكر بأن الطبري كان أحد رواة هذه القصة، وقد ذكر مؤلف الفتنة الكبرى نفسه ذلك. وإذن فكلمة الرواة المتأخرين السابقة فيها إبهام شديد متعمد فيما يظهر. فإن الطبري ليس من الرواة المتأخرين، وقد روى القصة عن سيف بن عمر بشهادة المؤلف نفسه، وأظن أن كان ينبغي للأستاذ شاكر أن يلاحظ أن المؤلف لا ينفي عن بعض الرواة السابقين ذكر القصة، بل هو يثبت ذلك ويثبت بجانبه أن الرواة المتأخرين بالغوا في القصة أو على حد تعبيره أكبروا من شأنها وأسرفوا فيها.

وهذا كلام مستقيم، فقد أخذت القصة تطول وتتسع في البيئات الشيعية وعند خصومهم كلما تقدم الزمن حتى أصبحت أشبه ما يكون بالأسطورة. وكان هذا سبباً في أن يتهم مؤلف الفتنة الكبرى في بعض الوجوه. وأيضاً فقد لاحظ أن المصادر المهمة التي قصت أمر الخلاف على عثمان لم تذكرها من مثل طبقات ابن سعد وأنساب الأشراف للبلاذري.

وليس معنى ذلك أن المؤلف يقصد بذلك إلى التقليل من شأن الطبري كمصدر مهم في التاريخ الإسلامي وإنما معناه أنه يقارن ويقابل فيجد ابن سعد لا يذكر القصة كما يجد البلاذري، وهو أهم المصادر - في رأيه - لهذه القصة وأكثرها تفصيلاً، لا يرويها، إنما يرويها الطبري وحده بين المصادر القديمة، وهو يرويها عن سيف بن عمر.

وهذه المقارنة بين الطبري وغيره في هذه القصة جعلت مؤلف الفتنة الكبرى يتهمها، فقد أثار ذلك الشك في نفسه، وأظن من حق كل مؤرخ أن يشك ويتهم بعض الروايات القديمة وخاصة إذا لم تتآزر الكتب التاريخية المختلفة في روايتها.

وقد ذهب الأستاذ شاكر يبرهن على صحة القصة بأن طبقات ابن سعد طبعت من نسخ

ص: 32

ناقصة وربما كانت القصة موجودة في الأصل وسقطت. واتسع بهذا البرهان في أنساب الأشراف للبلاذري فقال إن ناشره يهودي من طغاة الصهيونية وربما حذف الرواية الخاصة بابن سبأ. ولست أدري ماذا يضير اليهودي الناشر من رواية هذا الخبر!. وقد رجع الأستاذ شاكر يقول ربما ذكر البلاذري هذا الخبر في ترجمة مفقودة.

وواضح أن هذين البرهانين أو قل هذا البرهان لا يثبت قصة ابن سبأ، فإن ما جاء به الأستاذ شاكر إنما هو فرض ولا يقين في يده.

وقد أخذ بعد ذلك يناقش المؤلف في الخبر أو في القصة على أساس أن من لم يرو خبراً ما ليس حجة على من روى هذا الخبر وخاصة إذا كان الراوي مثل الطبري علماً وفهماً وهو الذي روي عنه أنه قال لأصحابه (أتنشطون لتفسير القرآن؟ قالوا كم يكون قدره؟ قال ثلاثون ألف ورقة، فقالوا هذا مما تفنى فيه الأعمار قبل تمامه، فاختصره لهم في ثلاثة آلاف ورقة، ثم قال لهم: هل تنشطون لتاريخ العالم من آدم إلى وقتنا هذا؟ قالوا كم يكون قدره؟ فذكر نحواً مما ذكره في التفسير، فأجابوه بمثل ذلك، فقال إنا لله، ماتت الهمم).

وأحسب الأستاذ شاكر نقل هذا الخبر عن كتاب معجم الأدباء لياقوت، ولو أن استمر بعد هذا النص الذي نقله عن معجم الأدباء يقرأ في ترجمة الطبري لرأى ياقوت يقول عنه:(إنه لم يدخل في كتابه (التفسير) شيئاً عن كتاب محمد بن السائب الكلبي ولا مقاتل بن سليمان ولا محمد بن عمر الواقدي، لأنهم عنده أظناء) ثم يقول ياقوت عقب ذلك مباشرة:(وكان إذا رجع إلى التاريخ والسير وأخبار العرب حكى عن محمد بن السائب الكلبي وعن ابنه هشام وعن محمد بن عمر الواقدي وغيرهم فيما يفتقر إليه).

وإذن فالطبري لم يكن يحقق في روايات التاريخ كما كان يحقق في روايات التفسير، ومع ذلك يقول الأستاذ شاكر:(من قرأ كتاب الطبري في تاريخه. . . علم أن هذا حق، وأن الرجل كان فارغاً للعلم لا يلفته عنه شئ). وأنا لا أنفي أن الطبري كان فارغاً للعلم، ولكن أنفي أن تاريخه حق خالص لأنه قد يروي عن الكلبي وابنه هشام والواقدي وغيرهم كما يقول ياقوت:

وإذا أضفنا إلى ذلك ما تقوله دائرة المعارف الإسلامية تحت مادة تاريخ ص493 من المجلد الرابع في الترجمة العربية من أن (مواطن الضعف عند الطبري في تاريخه هي ما يتوقع

ص: 33

من محدث مثله - مثال ذلك إيثاره لمصنف سيف المنحول عن التاريخ.) ثم عرفنا أن سيفاً هذا هو سيف بن عمر الذي روى عنه الطبري قصة عبد الله بن سبأ؛ أفلا يكون هذا كله سبباً في أن يتهم مؤرخ حديث قصة ابن سبأ؟

وإن من رجع إلى ابن عساكر يلاحظ أنه يروي كل ما يتصل بفتنة عثمان عن طرق مختلفة أكثرها طرق محدثين إلا قصة ابن سبأ فإنه يرويها مثل الطبري عن سيف بن عمر.

على أن ابن سبأ كان له ضربان من النشاط، نشاط مزعوم في عصر عثمان، ونشاط حقيقي في عصر علي. ومع ذلك فالنشاط الأخير قد بولغ فيه على ما هو معروف في قصته من الحرق والنفي الخ.

وهذا ما جعل مؤلف الفتنة الكبرى يؤخر الحديث المفصل عنه إلى الجزء الثاني من كتابه حتى يلم بهذه الشخصية من جميع أقطارها إلماماً دقيقاً. ألم يق في ص232: (لم نفصل في هذا الجزء حديث عبد الله بن سبأ المعروف بابن السوداء، لأنه طويل معقد، ولأن نشاطه الخطير إنما يظهر في رأينا أثناء خلافة علي فقد أرجأنا حديثه إذن إلى الجزء الثاني من هذا الكتاب). وقبل ذلك يقول في ص134: (وأكبر الظن أن عبد الله ابن سبأ هذا - إن كان كل ما يروى عنه صحيحاً - إنما قال ما قال ودعا إليه بعد أن كانت الفتنة وعظم الخلاف فهو قد استغل الفتنة ولم يثرها، وأكبر الظن كذلك أن خصوم الشيعة أيام الأمويين والعباسيين قد بالغوا في أمر عبد الله بن سبأ هذا ليشككوا في بعض ما نسب من الأحداث إلى عثمان وولائه من ناحية وليشنعوا على عيٍّ وشيعته من ناحية أخرى، فيردوا بعض أمور الشيعة إلى يهودي أسلم كيداً للمسلمين. وما أكثر ما شنع خصوم الشيعة على الشيعة).

ليست قصة ابن سبأ ' ذن قصة سهلة يسيرة يمكن أن تقبل لمجرد أن يرويها الطبري عن سيف بن عمر، بل هي أعمق من ذلك وأبعد. وأكبر الظن أن من حق المؤرخ إزاءها أن يقابل بين الروايات بعضها وبعض وألا يكتفي بوجودها في الطبري عن سيف بن عمر.

أما الروايات الثانية أو القصة الثانية التي وقف عندها الأستاذ شاكر فقصة كتاب المصريين وما كان من فضهم له في الطريق واطلاعهم عليه ثم عودتهم إلى المدينة ومحاصرتهم لعثمان، فإن الأستاذ شاكراً لا يأتي بدليل عليها سوى أنها جاءت عند البلاذري! كأن الأصل

ص: 34

أن يجيء الخبر أو القصة ثم نصدق بها من غير بحث ولا درس ولا امتحان ولا فحص. ومجيء قصة في البلاذري لا يحتم صدقها ومن حق كل مؤرخ أن يختبرها ويمتحنها ويتهمها إن كان هناك ما يدعو إلى تهمة.

وبعد فهذه آراء رأيت أن أعلق بها على مقال الأستاذ محمود محمد شاكر للحقيقة والتاريخ.

شوقي ضيف

ص: 35

‌مسابقة الفلسفة لطلاب السنة التوجيهية: (3، 4، 5)

الحرية

للأستاذ كمال دسوقي

5 -

حرية التصرف:

وعلى أساس هذه الحرية العقلية التي قررها (مل) بوضوح وجلاء حتى الآن، تترتب الحرية العملية في التصرف، فللإنسان مطلق الحرية في إبراز آرائه من حيز الفكر إلى حيز العمل، ومن نطاق العزم إلى نطاق التنفيذ، مادام أن عواقب هذه الأمور قاصرة على صاحبها، ومادام تنفيذها ليس من شأنه أن يضر بالغير، فحرية الفعل والعمل هي الشق المتمم لحرية الفكر والقول. على أن استخفاف الناس بهذه الحرية الشخصية في ناحيتيها، وقلة إيمانهم بها، وعدم حرصهم عليها ومراعاتهم لها، وإغفالها كذلك في برامج الفلاسفة والمصلحين، هو العقبة دون تحقيقها، ولو قد حرص أولئك وهؤلاء فيما يرى (مل) - على امتلاك هذه الحرية والإبقاء عليها وحسن استخدامها؛ لما كان للمجتمع في أي أمر من أمورهم أدنى تدخل، ولو كان ذلك بإرادتهم أنفسهم.

وإنما تأتي ضرورة هذه الحرية الشخصية في الفكر والعمل جميعاً، من أنها لابد لازمة لنمو الملكات، وظهور المواهب، ولا يتأتى ذلك للأفراد إلا بأن يلموا أولاً بتجاريب السلف وخبراتهم، وأن يستفيدوا بها بادئ الأمر، حتى يتهيأ لهم تأويلها وتحويرها بما يوافق ظروفهم ومواقفهم، وحتى لا يصدرون في أفعالهم وآرائهم عن تقليد وجمود وانسياق، بل اختيار ومفاضلة ومران عقلي وشجاعة أدبية، تتحقق معها نفوسهم بما هي نفوس إنسانية، وتنتظر ملكات هذه النفوس من ملاحظة وتأمل، وحكم وتدبر، وعزم وإرادة. فلم توهب هذه الملكات لنعطلها ونقضي عليها بحجة التسليم للمشيئة - وفي هذا ما يكفي للرد على أنصار المذهب الكلفاني - ولن يكون إنكار الذات بالنسبة للشخص أكثر شرفاً وفائدة من تقرير الذات بالنسبة للمجتمع، فإن في ارتقاء شخصية الفرد علواً بنفسه ومجموعه وخصباً لحياتهم خصوصاً وأن آفة مجتمعنا الحديث لم تعد طغيان شخصية الأفراد وبطشها وجماحها بقدر ما في خضوعها للمجتمع واستكانتها لرغباته، وانقيادها لإرادته في العادات وأخص

ص: 36

الخصائص كالذوق والحب والكره، مما يترتب عليه تضاؤل شخصية الفرد بجانب شخصية المجموع، حتى لقد وجب على المجتمع أن يتدخل لتربية الذوق وتهذيب الحس وإذكاء الضمير في كل فرد. رعاية لمصالح المجموع، حتى يوجه عواطف الأفراد وميولهم هذه الوجهة. وفي هذا رد كذلك على الذين يقولون بضرورة حد العواطف والنزعات مع حرية العقل والفكر.

حرية التصرف إذن حق ثابت لجميع أفراد المجتمع خاصهم وعامهم، لا الحرية المطلقةالكاملة التي لا تعرف حدوداً، بل القدر الذي لا يتعارض مع حرية الغير، أو يترتب عليه اعتداء القوي على الضعيف، ولا ضير على الحرية الشخصية من هذا القيد مادامت تعوض عن تقييد الأناني منها بإنماء الشطر الإجتماعي والخلقي: أما إن حرية التصرف لازمة للخاصة أو العباقرة - على قلتهم - فذلك لأن المجتمع في حاجة أبداً إلى من يفتح عينيه على أخطائه، ويسن له عاداته وتشريعه وتقاليده في تطور تاريخه ويبتكر له ما يرقى حياة أهله في الفكر والعمل، ويلفت فيه روح الحياة والتقدم، ولا يتأتى ذلك إلا بتنشئة الأفراد جميعاً في جوّ صالح يعين على إظهار مواهبهم، والاستفادة بهم، فهذه الأقلية الممتازة هي القادة، وإلى هذه الأرستقراطية الفكرية يجب أن يوكل زمام الحكم، فإن حكومة الطبقة المتوسطة هي كذلك متوسطة، وكل شذوذ في المجتمع دليل على وعيه وعبقرية أفراده وابتكارهم. فهم سيقودون وطنهم وإن لم يحكموا، وأما ضرورة الحرية الشخصية للعاديين من الناس فحجتها أن تنوع الأفراد في المجتمع، وتنوع ظروف الفرد الواحد منهم، يستتبع منتهى الحرية في تنويع أساليب الحياة والتصرف التي يأخذ بها الفرد في كل ظرف يواجهه، حتى يتكيف في بيئته، ويوائم بين نفسه ومجتمعه، على نحو يجعله غمير عاجز عن النهوض بنفسه.

و (مل) يشير في غير موضع من هذا الفصل إلى الدور الخطير الذي يقوم به المجتمع في محاربة العباقرة وتحبيذ حكومة الطبقة المتوسطة، وإلى تعصب الرأي العام فيه على أي مظهر من مظاهر التفوق والامتياز، وإلى تحكم العادة واعتراضها سبيل ل تجديد وإصلاح، وإلى أن الخلاف وتنوع المذاهب وعدم المماثلة - أي في كلمة فون همبولت - الحرية وتنوع المواقف هي ضمان عدم انزلاق الدول الغربية في مصير الصين، ويرى ضرورة

ص: 37

الإصلاح آنئذ قبل أن يتم وقوع هذا الخطر.

6 -

مدى سلطان المجتمع على الفرد:

ثمت إذن حقوق فردية تهم الفرد بنوع خاص، وهو أبصر الناس بها لأنه أعلمهم بمأتها ووسائلها - وثمت - في مقابل ذلك حقوق مشتركة تهم المجتمع بوجه خاص، وله من يدافع عنها ضد من يمسها أو يعتدي عليها، بوسائله الخاصة وحقوق كل من الطرفين تعد واجباً على الآخر. فحق المجتمع على الفرد - مادام يتمتع بالأمن في كنف رعايته - أن يسلك سبيلاً يبعد به عن الإضرار بمصالح الغير وحقوقه، وأن يتحمل نصيبه من التبعات التي يفرضها عيه مجرد كونه عضواً في المجتمع. وحق الفرد على المجتمع أن ينظم له القواعد التي تبصره بما عليه من واجبات في معاملته للغير وما له عليه من حقوق، وأن يدعه في شئونه الخاصة به يتصرف تصرفاً خالياً من كل قيد، وأن يكيف جريمة الفرد قبل إنزال العقوبة، فإن كان قد انتهك القواعد التي سنت لحماية المجموع، فترتب على ذلك إضرار بغيره؛ تدخل المجتمع للضرب على يده حماية لإخوانه، وأما إن كان تصرفه ناشئاً عن عيوب ذاتية أو اجتماعية فيه، يترتب عليها الإخلال بالتزاماته الاجتماعية نحو أسرته أو دائنيه أو واجباته بوجه عام، فللمجتمع أن يوقع عليه المسئولية الأدبية أو القانونية حسبما يراه لا بسبب هذه العيوب الذاتية أو الاجتماعية فحسب الفرد بلاءً وجودها فيه - ولكن لما ترتب عليها من إخلال - إذ الأمر هنا يخرج عن نطاق الحرية إلى الآداب والمعاملة، وأما ما عدا هذا من الأضرار العرضية التي لا ضرر فيها - فعلى المجتمع أن يتحملها عن طيب خاطر، فإن كفة الخير الذي يصيبه من إطلاق الحرية أرجح من كفة هذا الضرر مهما بلغ، خصوصاً وأن المجتمع يجب أن يعد نفسه المسئول الأول عن عدم توجيه الأفراد وجهة قويمة - مع ما كان له من سلطة. وأن التعرض للحرية كثيراً ما يؤدي إلى عكس المراد منه، مادام الجمهور - أكثرية الأفراد - يحكم في ذلك على الأقلية المخالفة المستنيرة - بحكم هواه وصالحه - لا بمنطق سليم يرى في الشيء ضرورة ذاتية تسوغ الأخذ به، ولا ضرر من القدوة السيئة، فإنها - وإن كانت تعرض نماذج سيئة من السلوك، فهي تعرض كذلك عاقبة أصحابها الوخيمة. وعلى الأفراد - على أي حال - أن يتعاونوا ويتناصحوا ويتواصوا فيما بينهم في أدب ومجاملة بما يحقق خيرهم.

ص: 38

ولتأييد ما يقول (مل) من أن قوانين المجتمع ليست في حقيقتها إلا هوى الجمهور. وما يرى معه من خطر مبدأ التعرض لو أخذنا به؛ يضرب أمثلة كثيرة من التاريخ الواقع، منها عبادة الله على غير المذهب الروماني الكاثوليكي في نظر الأسبان، وموقف أهل أوربا الجنوبية من زواج القسس، ومصادرة البيوريتانيين أيام نفوذهم في نيوانجلند لكل أنواع الملاهي والتسلية، والنزعة الديمقراطية التي ترمي أن تجعل للجمهور أن يتدخل في تحديد طريقة إنفاق دخل الأفراد، ومطالبة العمال غير المهرة بألا تزيد أقليتهم الماهرة عن بقيتهم في الأجر، واختلافهم حول ضرورة التشريع الخاص بالعطلة الأسبوعية وتبرير الجمهور فعله هذا بالدين، وأن من حقه حمل الخارجين على إطاعة الدين، مما ترتب عليه أبشع صنوف الاضطهاد الديني، كما حدث في مذهب (مورمن) الذيوإن كان قد دعا إلى شئ رجعي مستنكر عندهم هو تعدد الزوجات؛ فلم يكن ينبغي أن يقابل بمثل هذه الوحشية فليس لجماعة أن تحمل غيرها على الرقي والحضارة عفواً؛ بقدر ما تستطيع التبشير ومحاربة العقائد الفاسدة في عقر دارها بوسائل التنوير والإقناع، ولكنه المجتمع يشرع دائماً وفق هواه، ثم يستبد بحجة الرأي العام.

تطبيقات:

وإذا تقررت لدى (مل) حرية الفرد في الفكر والعقل، في الرأي والتصرف، وثبت ضرورتهما لصلاح حال المعيشة وشخصية الأفراد، شرع يطبق هذه المبادئ على كثير من مشكلات عصره وبلاده - مبيناً في كل منها متى يحل للحكومة أن تتدخل في حرية الأفراد - منحازاً - كعادته دائماً - إلى جانب الحرية الشخصية وإطلاقها في أوسع مدى ممكن، متخذاً لهذا التطبيق مقياساً تتحد به مسؤولية الفرد أمام المجتمع ينحصر في قاعدتين:

1 -

لا يسأل الفرد أمام المجتمع عن شئ من تصرفاته مادامت لا تمس غير شخصه، وهنا فلا سبيل للمجتمع إلا أن يظهر بغضه وكراهته، وأن يقدم نصحه وإرشاده، وأن يقضي على ما لا يرضى عنه بمجرد مقاطعته ونبذه.

2 -

أما إذا أتى الفرد تصرفات تعترض مصالح الغير. فللمجتمع في هذه الحالة أن يوقع الجزاء القانوني أو الأدبي الذي يراه كافياً للزجر ودرء الأعداء.

ولا يعد إضراراً بمصالح الغير التنافس والمسابقة، لما يترتب عليهما من إخفاق البعض

ص: 39

نتيجة لنجاح البعض الآخر - طالما أن وسائل هذه المنافسة شريفة - لا يدخل فيها غش أو خيانة أو إكراه، ومادامت الظروف مهيأة للمجتمع على قدم المساواة - ومسألة حرية التجارة - وإن تكن بعيدة عن الحرية الشخصية - ينطبق عليها هذا القول فيجب إطلاق منتهى الحرية للتجار في الدعاية والعرض والإعلان وتجويد الأصناف وتحديد الأسعار، حتى لا يتحكم فيها إلا حرية المشترين وتفضيل صالحهم فيسير العرض والطلب على قاعدة الحرية للمنتج والمستهلك، حقاً إن من واجبات الحكومة اتخاذ الاحتياط لمنع الجرائم قبل وقوعها والأهبة لاكتشافها بعد وقوعها، وعلى هذا فليس لها بإزاء منع استخدام المواد السامة في الجرائم إلا أن تحتاط (بالأدلة السلفية) أي إجراءات التوقيع والشهود وما يساعدها على كشف الجريمة إن وجدت، وإزاء التصرف الشخصي السيئ كالسكر والبطالة إلا المراقبة والمعونة على عدم الإضرار بالغير. أما بإزاء التحريض على إتيان أفعال شخصية يعتبر الجهر بها إخلالاً بالآداب كبيع الخمور وفتح بؤر القمار، في أماكن عامة. ابتغاء المنفعة الشخصية فيجوز تدخل الحكومة لحمل هؤلاء على التحجب والخفاء، وحصر هذه في أقل نطاق ممكن، بفرض ضرائب باهضة على المسكرات تقلل من طلابها وتحرمها على غير القادرين، وتحديد عدد الحانات ومراقبة سلوك أصحابها وموعد عملهم والترخيص لهم، وإزاء العقود والاتفاقات التي يبرمها الأفراد لمصلحتهم فيما بينهم القيام على الوفاء بها في النواحي المالية خصوصاً، وفسخها وعدم الاعتراف بها إذا كانت تحمل بيع حرية الفرد - مع مراعاة التزاماته وواجباته قبل هذا الفسخ - كما في عقود الزواج والطلاق - وفيما عدا هذا فليس ما يمنع على الفرد خيار التقايل والنكول.

وفي مقابل هذه الأمور التي يجوز للحكومة أن تمنعها. هناك أمور يجب عليها أن تمنحها. ومنها تسوية المرأة بالرجل وحمايتها من استبداده وما يزعم لنفسه من سلطان، وأن تهيئ لكل وليد من رعاياها حق التربية وقسطاً من التعليم؛ متحملة هي نفقات الفقراء، وإعانة الآباء؛ تاركة للمختصين بالتعليم أن يقوموا عليه حافزة إياهم على منافسة مدارسها الأميرية والقضاء عليها، وأن تجعل امتحاناتها بعد المرحلة الأولى اختيارية في حقائق العلم الثانية، خصوصاً في العلوم العليا كالفلسفة والعقائد (اللاهوت)، وأن تمنح من يؤدي هذا الامتحان بنجاح شهادة يزاول بها مهنته دون أن يعترضه أحد. وبالجملة تهيئة الفرص التي قد يفوت

ص: 40

الآباء إدراكها حين يسترسلون في معارضة الحد من عجزهم عن إسعاده.

و (مل) يناقش أخيراً مدى حق الحكومة في تولي شئون الأفراد، فيرى أنه لا وجه لتدخل الحكومة للعمل لهم - حين يكون لطائفة منهم القدرة على إتقانه أكثر - أو لا يكون ذلك. ولكن من الخير أن يروض الأفراد أنفسهم على القيام به. أو حين يكون في اتساع اختصاص الحكومة ذهاب بالإتقان والتخصص، وهو هنا يميل إلى اللامركزية، وإلى توزيع سلطات الحكومة على المختصين والمهرة، على أن يظلوا خارج الحكم، فإن حشدهم للخدمة الأميرية يميت ملكاتهم، ويجعلهم أكثر استبداداً، والشعب أكثر عجزاً وخضوعاً، وانسياقاً إلى خدمتهم؛ فيموت العمل الحر. بل الواجب أن نجعل كل طائفة بحيث تصلح حكومة بذاتها. وأن نعود الأمة الاعتماد على النفس، ونخلق منها عناصر جديدة أبداً ولا نحتكر الواهب في طبقة منها؛ بل نعمل دائماً على تنشيط هممهم وحفز عزائمهم وإنماء كفايتهم؛ فإنما قيمة الدولة بأفرادها

وبعد: أرأيت كاتباً ينتصر للحرية ويدافع عنها بمثل هذه البراعة والقدرة، والتحمس والإقناع؟. . .

كمال دسوقي

ص: 41

‌الأدب والفن في أسبوع

نشوء القومية عند الأتراك:

كانت المحاضرات الثلاثة السابقة التي ألقاها الأستاذ ساطع الحصري بالجمعية الجغرافية الملكية في نشوء فكرة القومية في أوربا، وقد انتقل إلى الشرق في المحاضرة الرابعة التي ألقاها يوم السبت، فتحد عن (نشوء فكرة القومية عند الأتراك - التيارات اللغوية والتاريخية التي رافقتها وساعدتها) فقال إن الدولة العثمانية كانت في أول أمرها تتجه إلى الفكرة الإسلامية العامة وخاصة بعد أن تم لها فتح مصر وانتقلت إليها الخلافة الإسلامية، وفي الربع الأخير من القرن التاسع عشر كانت الأفكار الوطنية قد امتدت إليها من أوربا ولكنها أخذت صبغة إسلامية، فكان الأدباء والشعراء يتحدثون عن الوطنية والقومية متجهين نحو التاريخ الإسلامي والعواطف الدينية، وتطورت الأفكار بعد ذلك حتى أخذت فكرة القومية وضعها الأخير. وبيان ذلك أن هذا التطور قام على نواح ثلاث: اللغة التاريخ والسياسة؛ أما من حيث اللغة فقد كان هناك لغتان: لغة الأدب الراقي، ولغة الأدب الشعبي، وكانت الأولى خليطاً من التركية والعربية والفارسية في الألفاظ والتراكيب والقواعد وأوزان الشعر، وكانت لغة شعراء القصور الذين هم عماد الحياة الأدبية الراقية، أما لغة الشعبيين فكانت تركية بحتة ولها أوزان عامية ليس فيها شئ من العربية. وحدث في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين أن ظهرت دعوات إلى التجديد في اللغة والأدب، ونشأت مذاهب في ذلك، بعضها - وهو المعتدل - يدعو إلى بقاء الألفاظ العربية والفارسية التي سارت على الألسنة مع التزام القواعد التركية ونبذ القواعد العربية والفارسية كالإضافة والنسب وغيرهما، ودعا بعض المذاهب إلى التخلص من كل ما هو أجنبي في اللغة والأدب، ونظم الشعراء المجددون على الأوزان العامية. وقد اشتجرت الأقلام في هذا الميدان، حتى انتهى الأمر أخيراً إلى تغلب اللغة التركية، فهجرت الأوزان والقواعد العربية والفارسية، واصطبغت الأخيلة بالألوان الأوربية والآداب الشعبية؛ أما الألفاظ فقد بقي كثير منها حتى تغيرت حروف الكتابة، فتغير نطق الكلمات العربية وهيآنها تبعاً لتغير الحروف.

وأما التاريخ فقد كانت الدولة العثمانية تسير فيه على العناية بالتاريخ الإسلامي وعدم

ص: 42

الالتفات إلى التاريخ التركي قبل الإسلام ولكن لما اتجهت الأنظار نحو القومية التركية تغير الاتجاه في الدراسة التاريخية، فأخذ تاريخ الترك قبل الإسلام مكانه في التاريخ الإسلامي، وتغير نظر الأتراك إلى بعض الشخصيات التركية التي كانت تذكر في التاريخ باللعن والسخط.

وبذلك سايرت اللغة والتاريخ فكرة القومية في تركيا، فأثرا فيها، وأثرت فيهما. وقد أدى كل ذلك إلى نشوء الشعور الوطني وحدوث التطور السياسي الذي جاء بعده التجديد في اللغة والتاريخ. وبدأ العمل السياسي في أوائل القرن العشرين خارج تركيا. وذلك أن الدعاة إلى الأفكار السياسية هاجروا إلى بعض البلاد كمصر وسويسرا، ونشروا فيها أفكارهم بوساطة الصحف وإرسال المنشورات السرية إلى البلاد التركية، وكانت الآراء السياسية مختلفة، فجماعة يدعون إلى الوحدة الإسلامية، وآخرون يدعون إلى العثمانية، وفريق ثالث يعتنق الفكرة التركية البحتة.

ولما أعلن الدستور في تركيا ظهرت الدعوات في داخل البلاد، وأخذ كل فريق يؤيد رأيه، وتعاقبت الحوادث، ففصلت بين هذه الآراء بحكمها.

وختم الأستاذ المحاضرة بأن كل ذلك يدل على أثر اللغة والتاريخ في الفكرة القومية عند الأتراك، وأن هذا يؤيد ما ذهب إليه في المحاضرات السابقة من أن القومية كائن حي روحه اللغة ووعيه التاريخ، وقال إنه سيبين ذلك أيضاً في نشوء الفكرة القومية في البلاد العربية، بالمحضرتين الآتيتين.

نشيد الجامعة العربية:

في أوائل العام الماضي أعلنت الجامعة العربية عن مباراة لوضع نشيد للجامعة العربية. ولما دنا الموعد المحدد لقبول الأناشيد نظرت فيما تجمع لديها، فلم تجد فيه ما يصلح، فأفسحت الوقت وأمدت الأجل، ثم ألفت لجنة للفحص. وانتهى الأجل الممدود وفحصت اللجنة الأناشيد المقدمة، فلم تجد بينها ما يصلح اتخاذه نشيداً للجامعة. ومما يذكر أنه لم يتقدم إليها أحد من الشعراء المعروفين، ورأت اللجنة أن تجيز أحسن ما قدم، فاختارت نشيدين عهدت بأحدهما إلى المعهد العالي للتمثيل والموسيقى، وبالثاني إلى الجامعة الشعبية، على نحو ما ذكرت قبل الآن. وقام المعهدان بالتلحين والإلقاء، وحضرت اللجنة

ص: 43

الثقافية بالجامعة العربية التجربة في كل من المعهدين؛ واستقر الرأي بعد ذلك على عدم صلاحية أي النشيدين ليكون نشيداً للجامعة العربية. ورئي بعد ذلك أن يظل الباب مفتوحاً للراغبين في نظم الأناشيد ليتسنى اختيار أحدها واعتباره نشيداً رسمياً للجامعة العربية.

قلت في مناسبة سابقة إن طريقة المسابقات للحصول على إنتاج أدبي لغرض ما - طريقة أصبحت غير مجدية، لأن المعتزين بأنفسهم من ذوي الكفايات يأنفون من دخولها بغض النظر عما يبديه الساخطون من عدم الثقة بالمحكمين، وأشرت وقت ذاك بأن يطلب ما يراد ممن تعرف مقدرتهم فيه. وكان (البسام) الذي يحلو له أن يعاكسني في الاسم غير مكتف بمعاكستي في بعض ما أرى - قد كتب إليّ يقول:(قد يكون الذي يطلب منه أن يضع نشيداً شاعراً عبقرياً ولكنه لا يحسن الأناشيد أو لا يميل بطبعه إلى نظمها فكيف يطلب منه ما لا يحسنه أو لا يوافق طبعه؟) وليس عندي دفع لهذا الاعتراض وإن كنت أحتفظ برأيي للتجريب على الأقل، فهل تأخذ به الجامعة العربية فتعهد إلى من تأنس فيهم القدرة بوضع أناشيد كما صنعت مع من يضع لها معجم البلدان العربية؟ أو تأخذ برأي (البسام) فتسكت حتى يفتح الله على من يضع لها النشيد المطلوب؟ وإني أسبق (البسام) فأقول قبل أن يكتب إلى: هذا نشيد الجهاد لفلسطين، تقدم به الأستاذ حسن أحمد باكثير، من غير مسابقة، فاستحسن ونجح قسم الموسيقى بالجامعة الشعبية في تلحينه وأدائه. فهل يصنع مثل هذا غيره من المجيين المتحرجين من التسابق؟

قواعد جديدة للإملاء:

وضعت لجنة الإملاء بمجمع فؤاد الأول للغة العربية، مشروعاً يتضمن قواعد جديدة للإملاء، وقد مهد له ببيان الحافز على هذا العمل وهو تسهيل الكتابة على المبتدئين ومتعلمي العربية من غير أهلها والقضاء على اختلاف الكتابة بين الأفراد وبين الأمم العربية الناشئ عن اختلاف العلماء في قواعد رسم الحروف، وذكرت أن أساس مشروعها أن تطابق الكتابة النطق.

والقواعد التي تضمنها هذا المشروع هي كما يلي:

1 -

كل ما ينطق به يرسم في الإملاء، إلا كلمة (الله).

2 -

كل ما لا ينطق به لا يرسم، إلا همزة الوصل، وإلا لام (أل) الشمسية.

ص: 44

3 -

الهمزة في أول الكلمة ترسم على ألف مطلقاً، المضمومة والمفتوحة فوقها والمكسورة تحتها.

4 -

الهمزة المتحركة متوسطة ومتطرفة تكتب على حرف مناسب لحركتها، ويستثنى من ذلك الهمزة إذا كانت متطرفة وقبلها ألف فتكتب مفردة.

5 -

الهمزة الساكنة متوسطة ومتطرفة ترسم على حرف مناسب لحركة ما قبلها.

6 -

الألف اللينة يرى بعض أعضاء اللجنة أن ترسم ألفاً مطلقاً، ويستثني بعضهم على وإلى وحتى وبلى ومتى وأنى.

7 -

كل كلمتين اجتمعتا تكتب كل منهما منفصلة عن الأخرى، إلا إذا كانت الكلمة الأولى (أل) أو كانت كلتا الكلمتين أو إحداهما على حرف واحد، وإذا حصل بين الكلمتين إدغام كتبتا كلمة واحدة على حسب النطق.

8 -

يرسم التنوين ألفاً في حالة النصب، إلا المختوم بالتاء المربوطة.

وقد نظر مؤتمر المجتمع في هذا المشروع، فرأى أن يستمر مجلس المجمع في بحثه ومقارنته بالقواعد الإملائية التي أوصى بها المؤتمر الثقافي العربي الأول، ثم تعرض النتيجة على مؤتمر المجمع في السنة الآتية.

وقد قارنت بين هذه القواعد وبين قواعد المؤتمر الثقافي فلم أجد بينهما إلا اختلافاً يسيراً جداً. وقد فرغ المؤتمر الثقافي من تقرير قواعده مع كثير غيرها في بضعة أيام. فما الداعي إلى إرجاء هذا الموضوع، اليسير في مادته الكبير في أثره، إلى السنة القادمة؟ أهي طبيعة المجمع تلازمه في كل أمر وإن هان؟

سياسة تشجيع التمثيل:

دعت نقابة ممثلي المسرح والسينما لسماع محاضرة الدكتور محمد صلاح الدين بك في: (سياسة تشجيع التمثيل) يوم الاثنين، وقد بدأ يذكر الآساس التي تقوم عليها رعاية الحكومة لهذا الفن، فقال: إنها تبدو في نواح أربع، هي الفرقة المصرية للتمثيل، والفرق المدرسية، والمسرح الشعبي. وأسهب في الكلام على الفرقة المصرية، ومن أهم ما أفاض فيه كيفية اختيار الروايات. فقال: إن هناك لجنة لهذا الاختيار اسمها: لجنة القراءة (والمحاضر عضو فيها) مهمتها بطبيعة الحال اختيار الرواية الصالحة للتمثيل. ولاشك أن الروايات الغربية

ص: 45

تتوافر فيها العناصر الفنية، وهي وإن كان يجب تقديم بعضها ولاسيما العالي منها، إلا أنه لابد من رعاية الجانب المحلي في التأليف بتقديم روايات مصرية. ولكن الواقع أن المسرح لا يجد ما يصلح من هذا النوع إلا قليلاً؛ لأن كبار الأدباء عازفون عن التأليف للمسرح، إما ترفعاً عنه، أو لعدم الميل إليه، أو لقلة ما يتوقع من كسبه بالنسبة إلى ما يكسبونه من تأليف الكتب. وقد جربت طريقة المسابقات فلم تؤد إلى نتيجة طيبة؛ لأن الكبار يأنفون الدخول فيها، وما قدم لم يلف صالحاً؛ حتى إنه في إحدى المسابقات رأت اللجنة عدم استحقاق أي رواية مما قدم إليها لأي جائزة، وفي المسابقة الأخيرة أعلنت اللجنة أنها ستمنح الجوائز للأحسن، ومنحت فعلاً الجوائز لخير ما قدم وإن كان لا يصلح للتمثيل. فرأت اللجنة علاجاً لهذه الحال أن تطلب زيادة المبلغ المخصص لتشجيع التمثيل، حتى تستطيع أن تغري كبار المؤلفين بأجور ترضيهم. ولكن وزارة المالية لم توافق على هذه الزيادة. وهنا ذكر المحاضر رأياً للدكتور هيكل باشا أفضى إليه به، وكان يحدثه في هذا الموضوع، وهو أن تذكر اللجنة في طلبها أسماء المؤلفين الذين ستطلب منهم تأليف روايات لمواجهة النقص البادي في التأليف المسرحي، وتحدد العمل والأجر، فإذا تم ذلك فستوافق المالية.

ومن أهم ما ذكره المحاضر أيضاً: مسألة (الاعتمادات) المخصصة لتشجيع التمثيل، قال: إن الجهود الفردية في المسرح لا تستطيع أن تستمر وحدها من حيث المال. لأن المسرح ليس له جمهور يكفيه من هذه الناحية فلابد من إعانة الحكومة وهناك عدة نواح تتطلب هذه الإعانة لتشجيع التأليف وتكبير الفرق المصرية منافسة يستفيد منها الفن. ولكن المبلغ المخصص لذلك هو ثلاثة عشر ألف جنيه، لا يكفي، وقد فكرنا في تحويل بعض الإعانة التي تبذلها الحكومة للفرق الأجنبية ومقدارها أربعة عشر ألف جنيه إلى التمثيل المحلي، وذلك بالاكتفاء ببعض هذه الفرق، مع ما في ذلك من إفساح المجال للفرق المصرية على مسرح الأوبرا.

وقد عقب الأستاذ يوسف وهبي بك، بأن المحاضر لم يتناول في محاضرته مسألة إيجاد المسارح اللازمة للعمل، والواقع أن القاهرة ليس فيها مسرح يصلح للتمثيل غير مسرح الأوبرا الذي تحتله الفرق الأجنبية جزءاً كبيراً من العام. أما مسرح الأزبكية الذي تمثل في الفرقة المصرية عندما تضطرها إليه الفرق الأجنبية فهو غير صالح من الوجهة الفنية.

ص: 46

وقال يوسف بك إنه يجب أن تحول إعانة الفرق الأجنبية كلها إلى التمثيل المصري، فليس من الجائز أن يأكل الضيف كل ما في البيت والعيال والزوجة جائعون.

وعلى أثر ذلك صعد الأستاذ محمد الشريف فأعلن أن لجنة الشئون الاجتماعية بمجلس النواب وافقت على إنشاء مسرحين بالقاهرة، أحدهما صيفي والآخر شتوي.

والملاحظ أن كل هذه الأفكار والاتجاهات الطيبة ليس فيها شئ انتهى الأمر فيه إلى التنفيذ، فما هي إلا أمان ومقترحات. والملاحظ أيضاً أن الدولة لم تقدم بعد على عمل شئ لإنقاذ هذا الفن الجميل في مصر. والغريب أنك ترى مما تقدم أن ما تعان به الفرق الأجنبية أكثر مما يناله التمثيل المحلي، مع أن الأولى تلاقي رواجاً كبيراً من جانب جمهورها الذي يتألف من الأجانب وبعض الأثرياء، وهي تقتضيهم أجوراً مرتفعة، مما لا حاجة معه إلى إعانة الدولة، وإن لم يكفها جمهورها فلتذهب إلى جهنم.

العباسي

ص: 47

‌في مولد الرسول:

لمن النور؟!

للشاعر أحمد هيكل

لمن النور يغمر الأرجاء

ويحيل الظلام فيها ضياء؟

أهو البدر قد تفجر نبعاً

من لجين يفضِّض الصحراء؟

أهو الفجر قد تقدم جيشاً

رفع النور في يديه لواء؟

أهو الصبح حائكاً عبقرياً

نسج الضوء للوجود رداء؟

لا، فهذا الضياء يُسكب فـ

ي الأعين هدياً ورحمة وشفاء.

وجدته العيون أعذب ري

كورود ترشَّفت أنداء

إنه نور وجه خير وليد

هبط الأرض باسماً لألاء

ما لنخل الصحراء يرقص كالغيـ

د ويبدي تخلعاً وانثناء؟

ما لهذي الجبال أضحت قلوباً

في ضلوع الصحراء تُحيي الررجاء؟

ما لتلك الغدران تضحك والم

اء سكوب من ثغرها صهباء؟

ما لهذي القفار صارت رياضاً

ثم أضحى هجيرها أفياء

لا، فإن الربيع يمكث حيناً

ثم يمسي هواجراً أو شتاء؟

والربيع القدسي خلده الل

هـ ليمحو عن الوجود الشقاء؟

ليس هذا الربيع غير وليد

جعل الأرض جنة فيحاء

يا يتيماً كالدر سُدْت - على اليت

م - ملايين أدركوا الآباء

يا وحيداً له نفوس البرايا

يتمنّين أن يكنَّ إماء

يا عليماً وما خططت حروفاً

أنت أعجزت في الورى العلماء؟

يا فقيراً وبين جنبيك كنز

ترب نعليك يشتري الأغنياء

قم تراهم عموا وصموا قلوباً

ودعاء الفقير شق السماء

ولقد كنت من قليلك تسخو

فإذا جدبها يصير رخاء

كم قسمت الأموال تمسك بعضاً

ثم تعطي جميعها الفقراء

فتآخى الجميع وانبسط الع

دل ظلالاً وريفة سجواء

ص: 48

إن حق الأفراد في أي أرض

أن يعيشوا في أرضهم أحياء

يا رسولاً دعا القلوب إلى الح

ب وأنسى الخصام والبغضاء

أنت شيدت بالتآلف للعُ

رْب صروحاً تصافح الحوزاء

في ظلال الإسلام أقدس دوح

عطَّر الكون ألفة ورخاء

ثم دار الزمان وافترق الق

وم دروباً وفرقوا أهواء

فمشى النسر كالزواحف في الأ

رض يجرُّ العظام والأشلاء

وغدا الجمع كالقطيع شتيتاً

راح ناب الذئاب فيهم وجاء

ثم قالوا: مذلة واحتلال

وأرادوا تحرراً وجلاء

ومن الحمق أن نكون شتيتاً

ثم نبغي تقدماً وارتقاء

ليس ينجي سوى تآلف قومي

ليردوا تلك النِّقاض بناء

ثم نمضي إلى الأعادي جيوشاً

نعشق الموت لا نهاب الفناء

فمن الخزي أن نعيش علـ

ى القيد ونحيا في أرضنا غرباء

أحمد هيكل

دنياي قبر. . .

للأستاذ عبد القادر رشيد الناصري

يا حبيبي ما بين كفيك روحي

تتلوى وللأماني بكاء

كيف أسلمتها إلى ليل هجر

تتعامى به وأنت الضياء

لم تزل تشكي الصدى يا رحيقاً

تشتهي برده القلوب الظماء

هي ترضى من ناظريك بوعد

لا تدعها يقضي عليها الجفاء

يا حبيبي عطِّر شبابي ونظِّر

أمنياتي فقد جفاها الدواء

كيف خلفتني ببيداء حبي

أتلظى وأنت ظلٌّ وماء

أنت لي واحة من الحب نشوى

فوق شطآنها يرف الهناء

ملء أرباضها صفاءٌ وسحرٌ

ملء أجوائها الهوى والوفاء

عالم للجمال باركه الحب

ووشته كفه السمحاء

ص: 49

يا حبيبي لولاك دنيايَ قبرٌ

ملؤه من هواجس أشلاء

أنا في ظلك الحبيب أغني

أغنيات الهوى فتصغي السماء

أنا أهواك يا متمم نقصي

أنت بعضي فالبعد عنك فناء

يا فكاك الأسير من قبضة الأش

واق رفقاً فأنت أنت الشفاء

أو تنسى ما قلت بالأمس إني

لست أنسى هواك أنت الرجاء

لا تخن ود شاعر بك صب

وارع عهداً يصونه الشعراء

(بغداد)

عبد القادر رشيد الناصري

ص: 50

‌البريد الأدبي

معروف الأرناؤوط في حمى الرافدين:

استردّت السماء إليها في الأسبوع الخالي إحدى ودائعها العزيزة عند الأرض، حين وافى الأجل فقيدنا الغالي معروف الأرناؤوط. .

والأرض والسماء تتبادلان ودائعهما في غير انقطاع؛ ولكن فرحة الإنسانية باستقبال إحدى هذه الودائع قلما تعادل نكبتها بالخروج عنها وتشييعها إلى مستقرها.

وأبناء الحياة يودعون كل يوم أو كل ساعة راحلاً منهم إلى العالم الآخر، ويأسى منهم من يأسى، حيناً من الدهر، ثم ترقأ الدموع، وتندمل الجراح، ويمر النسيان بكفه على الأثر، فيمحي كل شئ إلى الأبد.

ولكن الوقت يخترم منهم بين الفينة والأخرى واحداً بعينه، فإذا صوتُ النائح يعلو على الأصوات كلها، وإذا سحابة الحزن تخيم على الرؤوس جميعها، ثم إذا الجرح أعمق من أن تأسوه الأيام، والأثر أبلغ من أن يغطي عليه النسيان. .

لقد نعى إلينا الناعي معروفاً في ساعة مبكرة من يوم الجمعة الثلاثين من شهر يناير 1948، فعقدت المفاجأة ألسنتنا، وبلبلت أفكارنا، وأثارت لواعجنا، وأطلقت شؤوننا؛ ولم نكد نثوب إلى أنفسنا حتى عرفنا أية خسارة فادحة خسرتها الأمة العربية بفقده، وأي رفد عظيم حرمته العربية بحرمانها منه.

وسار الموكب الرهيب بجثمان الفقيد، بعد ظهر السبت، ومشى خلفه نائب صاحب الفخامة رئيس الجمهورية، وفئة من الوزراء وأصحاب المناصب العليا، وجمهور غفير من حاصة أهل الفضل والعلماء والأدباء الذين تداعوا إلى العاصمة من لبنان والعراق، وجيش لجب من رجال التربية والثقافة وعامة الناس. سار الموكب الرهيب خاشعاً موقراً حتى إذ لمع الراحل مأمنه، انقلب الناس راجعين، وفي كل عين دمعة، وعلى كل شفة خلجة، وبين كل نفس ونفس معنى يصوغ الأحزان ويهيج الخواطر الباكية!.

والآن، لقد تجاوز معروف الأرناؤوط هذا الأفق الأرضي، وانبتت صلة المادة بينه وبين أبنائه، وانصرف عن هذا التهافت العاجز، وابتعد عن هذا الضجيج العابث، الذي نفرغ جهدنا - نحن - فيه. وعرجت روحه إلى أولمب الخالدين، وانضم إلى زمرة أرباب الفن،

ص: 51

لينعم بمباهج ذلك العالم الخالد الذي طالما طمح إليه بأفكاره، وليطمئن إلى محاسن تلك الحياة التي طالما حلق بخياله إليها، وليغمر قلبه بنور الأبد الذي طالما حلم به وحن إليه. .

وعاد من عرف معروفاً، فاعتزل الناس، وخلا إلى نفسه، يغالب لوعته وينطوي على أشجانه.

ولئن خلا هو إلى رحمة ربه، فإن عمل معروف وروح معروف وفن معروف، هنا فيما ترك بين أيدينا من كتب ومقالات، وفيما حفظنا له من أحاديث وأقوال!

كان معروف الأرناؤوط طبقة وحده بين الأدباء، تهيأ له الذوق الفني، والخيال الخصب، والذهن المشرق، والقلب الزاخر بالحياة والإحساس، والنظرة النافذة إلى دقائق المعاني، والقدرة العجيبة على انتقاء الألفاظ وتنسيقها وصوغ العبارات التي تستأثر بالإعجاب. .

كان، كما لا يمكن أن يكون كل كاتب، يريق من روحه وعواطفه وعبقريته على ما يكتب، فإذا هذا الذي كتبه ينضح عطراً، ويلتمع ألواناً، ويترقرق عذوبة وألحاناً. . .

كان حسبي، إذا اصطلحت على نفسي الهموم، وتذاءبت على قلبي الأحزان، وتضافرت عليّ المخاوف، في ساعة من ساعات القلق والشك، أن أمد يدي إلى (سيد قريش)، حتى أجد عنده سكينة نفسي، وحتى أجد حلاوة هذه الفصول قد اتصلت بقلبي، وحتى أجد فن معروف يرفعني رويداً رويداً إلى دنيا غريبة فذة من المعاني المحببة والأحلام الجميلة والأخيلة البديعة. . . ولم يزل ذلك حسبي!

إيه معروف! لقد خلفتنا في دنيا غلب عليها الشر، وعدا عليها وعلى أبنائها الشقاء، والتائتْ عليهم سبل العيش، وابتذلت المقايس الكريمة والمثل الرفيعة، وعز عليهم أن يجدوا الطمأنينة لأنفسهم المرهقة. . خلفتهم وهم أحوج ما يكونون إلى نفحات القلب الكبير الذي يحمله الأدباء الكبار أمثالك، وإلى نفثات القلم الملهم الذي يتحرك في يد الكتاب أندادك، يلتمسون عندها الراحة والعزاء والسلوة.

رحمك الله، وأنعم عليك بالجنة والرضوان.

محمد الأرناؤوط

الفتنة الكبرى

ص: 52

اطلعت على الكلمة التي نشرت في هذا العدد تعليقاً على مقال لي عن كتاب الدكتور طه حسين عن الفتنة (الكبرى) فلما قرأته آثرت أن لا أضيع على قراء الرسالة صفحات في نقد كلام الدكتور شوقي ضيف، فعجلت بكتابة هذه الكلمة.

وليأذن لي الدكتور طه حسين أن أوجه الكلام إلى الدكتور شوقي ضيف، في بعض ما جاء في رده عليَّ.

فأول ذلك أن الدكتور شوقي قد أطال في كلام أكثره موجود في كتاب الدكتور طه، كأنه أراد أن يشرحه، وكان وكنا في غنى عن مثل هذا الشرح.

والثانية أنه أطال أيضاً في الأسباب الموجبة لنفي قصة عبد الله ابن سبأ، ونحن لم نقل أننا نثبتها برواية الطبري وحسب، بل قلنا إن الدكتور طه زيف القصة بأسباب لا تستقيم، وهذه الأسباب مذكورة في مقالي ولم يتنبه الدكتور شوقي إلى ضعفها وتهافتها. أما إثباتنا لها فسيأتي فيما بعد بطريق آخر غير الذي ظنه الدكتور ضيف.

والثالثة أنه ذكر عن ياقوت شيئاً في شأن تفسير الطبري وتاريخه، وهو أن الطبري روى في تاريخه أشياء عن رجال ليسوا عنده بثقات، وأنه لم يرو عنهم مثل ذلك في تفسيره لمكانهم في التهمة في رأيه. وشرح ذلك أن للطبري رأياً في قوم ليسوا بثقات عنده، فنزه التفسير عنهم لأنه أمر دين تجب منه الحيطة الشديدة؛ أما التاريخ فليس لمثل هذه الحيطة فيه مكان. وموازين المحدثين والمفسرين في رد الرجال وتجريحهم، لا يمكن أن تطبق على أهل التاريخ وسواهم من أدباء ورواة. ولو صح ذلك لأسقطنا رواية التاريخ كله، ورواية الأدب كله، ورواية اللغة كلها،. وأظن أن الدكتور ضيف لم يعط هذا الأمر حقه من النظر والتدبر. ولست فيما أظن أيضاً مكلفاً بشرح أصول هذه الفنون لكل امرئ لم يطلع عليها أو لم يعرفها حق المعرفة، إلا أن يسأل سؤالاً منزهاً عن مواضع اللجاجة في الانتصار لفلان أو فلان.

والرابعة أنه تسرع في ذكر أشياء نعفيه من نقدها، لأنها تطول وشرحها يطول أيضاً. ولكني على ثقة من أن الدكتور طه يعرفها كما يعرفها، وتبين مواضع الغمز فيها

ومهما يكن من شئ، فإني كتبت ما كتبت عن (الفتنة الكبرى) ولم أتممه بعد، ولعل الأستاذ لو صبر قليلاً لرأى ما يرضيه أو يقنعه. أما العجلة فلا تأتيه بشيء إلا تراكب الخطأ على

ص: 53

الخطأ، ونحن إنما نكتب لنزيل الأخطاء لا لنراكمها بعضها على بعض.

وليعذرني الأستاذ إذا رأى أني لم أبين له البيان الشافي في مسألة الرواية في التاريخ والحديث والتفسير، وكيف تكون وما شروطها، وما ينبغي أن ينظر إليه الباحث مرة، ويتجاوز عنه أخرى في هذه الأشياء، فإن شاء أن يتحرَّاه على وجهه، فليسأل الدكتور طه نفسه، فهو يدله على المصادر التي تعينه على بيانها إن شاء الله. . .

محمود محمد شاكر

1 -

تصانيف ابن تيمية:

قرأت ما كتبه الأستاذ محمد الأمين في عدد (الرسالة) 761 فرأيت أن أنقل من كتب الثقات ما يؤيد قول (المفصل في تاريخ الأدب العربي): وبلغت مصنفاته ثلاثمائة مجلد.

جاء في (شذرات الذهب في أخبار من ذهب لابن العماد) ج6 ص84 في ترجمة الحافظ تقي الدين بن تيمية: قال الذهبي في عدد مصنفاته المجودة: وما أبعد أن مصنفاته إلى الآن تبلغ خمسمائة مجلدة.

وقال ابن كثير نقلاً عن البرزالي: وله تصانيف كثيرة وتعاليق مفيدة في الأصول والفروع كمل منها جملة بيضت وكتبت عنه وقرئت عليه أو بعضها، وجملة كبيرة لم يكملها، وجملة كملها ولم تبيض إلى الآن.

وقال الحافظ ابن حجر في (الدرر). إن مصنفاته ربما تزيد على أربعة آلاف كراسة. وفي (فوات الوفيات) إنها تبلغ ثلاثمائة مجلد.

وقد كثر القول في هذا الرجل بين نقد وجرح وإطراء ومدح، وأعدل الأقوال هو ما قاله تلميذه ابن كثير: وبالجملة كان رحمه الله من كبار العلماء، وممن يخطئ ويصيب. . . قال مالك بن أنس: كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر.

إما (المنتقى) فهو من تأليف جده، وذلك مشهور.

2 -

إلى الأستاذ محمود شاكر:

في عدد الرسالة 761 (وهذه الخمسة أشياء) فهل هذا تطبيع، والصواب (وهذه الخمسة الأشياء) والأعلى من هذا والأصح (وهذه خمسة الأشياء) أم تذهبون إلى غير هذا؟

ص: 54

محمد أسامة عليبة

ص: 55

‌القصص

نهاية حب

للأستاذ زهدي الشواف

لو قدر لكل إنسان أن يحب كما أحببت، وأن يمنى بالحبيبة كما منيت؛ لفاض ينبوع العواطف في هذه الدنيا.

لقد قضيت ريق شبابي على مقعد الدرس، وصرفت زهرة أيامي وأن أقلب صفحات الكتب. ولقد كنت أحسب أن هذه الأوراق الجامدة ستنال مني؛ فتحد نشاط عاطفتي. ولكني كنت مخطئاً في ظني؛ إذ كنت كلما انصرفت لحظة عن الدرس طالعتني العيون الناعسة فعدت وكأن لم أقظ لحظة إلى جانب كتاب، ولم أمض ثانية بعيداً عن تيار العاطفة الجارفة.

وظللت تبيع العاطفة؛ فأمضيت حقبة من الزمن سادراً لا أرعوي، حتى قيض الله لي الصدمة التي أبرأتني من الداء.

كان ذلك في صبيحة يوم من أيام الربيع في حماة؛ فقد استيقظت باكراً ومضيت للحقول أمتع العين بمفاتن الطبيعة، ولم يطل بي الطواف كثيراً؛ فقد كان عقرب الساعة يسرع في جريه فيدنو من الثامنة. وكانت المدرسة تتمثل لي من ورائه، وكانت دقات الجرس ترن في أذني مؤذنة بحلول الدرس الأول. . . يا إلهي كيف أترك هذا الهواء الطلق، وهذه الجنان الرحبة. . . لأنحدر إلى الغرفة الضيقة. . . إلى الهواء الحبيس!. وكيف أضحي بهذه الحرية المطلقة لأستريح إلى نظام أقل ما يقال فيه إنه غول الحرية! ولم أذهب في تفكيري بعيداً فلم يبق للثامنة إلا دقائق عشر لا تكاد تكفي للوصول إلى المدرسة.

وعدت أدراجي آسفاً، وانحدرت إلى المدينة لا ألوي على شئ. وبينا أنا في الطريق قرع مسمعي نبرات صوت عذب فرفعت رأسي لأتبين مصدرها، فإذا أنا أمام جبين وضاح يبهر بنوره شمس تلك الصبيحة الفاتنة.

إنها فتاة في مقتبل العمر، وقفت في نافذة بيتها تتلهى برؤية المارة. لقد انحنت قليلاً ممسكة شعرها المتهدل بيمناها وراحت تداعب بيسراها قطتها الجميلة. ولقد لبثت هذه القطة تونو إليها شاخصة ذاهلة، وكأنها قد سحرت بزرقة تلك العيون، أو أنها فتنت بمنظر ذلك الجبين. . . ولم أشعر إلا وقد طرحت كتبي على الأرض ثم جلست فوقها ورحت أرنو إلى

ص: 56

النافذة شاخصاً ذاهلاً. . لقد أنساني هذا الجمال كل ما قد شهدت في الحقول من جمال، وأبعدت هذه الحقول شبح المدرسة عن فكري. وكأن فعلتي هذه لم ترق للآنسة المحترمة؛ فإنها لم تكد تراني أحدق في وجهها حتى اعتدلت بوقفتها وسوت شعرها بيدها ثم أغلقت النافذة وانصرفت.

أما أنا فقد لبثت في مكاني أفكر بحظي التاعس، وأقرن نفسي إلى تلك القطة السعيدة! إنها أسعد من على الأرض! ألا يكفيها أنها تستمتع بحريتها وتعيش إلى جانب الآنسة الفتانة!. . ألا يكفيها أنها لا تمسك نفسها ساعات طويلة على مقعد الدرس. ألا يكفيها أنها لا تشغل بالها بقوانين الجبر، ولا ترهق نفسها بحفظ قواعد الصرف والنحو! سعيدة أنت أيتها القطة.

وبينا أنا سابح في سماء الخيال؛ وقعت عيني على الساعة فإذا بها تشير إلى الثامنة والربع. . . يا للمصيبة!. . . أين المدرسة؟. بأي وجه أقابل الناظر؟. . . ومضيت أجر ساقي جراً، وكنت كلما سرت خطوتين تلفت لأرى النافذة ومن وراء النافذة. حتى إذا ما خفي المنزل عني عدوت نحو المدرسة ودخلتها متأخراً؛ فاستقبلني الناظر بطلعته الكالحة. وبعد السؤال والجواب سجل لي ما يناسبني من جزاء ثم سمح لي بالدخول إلى الصف.

ودخلت الصف فألفيت زملائي الطلاب ساكتين كأن على رؤوسهم الطير. لقد كان الوجوم يخيم في سماء الغرفة، وكان الصمت يستأثر بالأفواه. . . أين هذا الكلوح من تلك البشاشة! وأين هذا التزمت من ذلك المرح؟. . .

وأخذت وقعدي ورحت أفكر. ولقد كان لي في صمت الطلاب وهدوئهم ما يحملني على الانطلاق في سماء الخيال. . . لقد فتحت الكتاب لأتابع الأستاذ في قراءته، ولكن العيون الزرقاء كانت تطالعني من بين الأسطر. . . لقد كانت كل كلمى عيناً زرقاء، وكان كل سطر خصلة شقراء. لقد كنت في زاد والطلاب في واد. وانتهى الدرس الأول، وتبعه الثاني، وانصرم النهار وأنا لا أعلم كيف انصرم؛ ولكن الذي أذكره هو أنه كان طويلاً، وأني لم أفد به من العلم لا كثيراً ولا قليلاً.

ورجعت البيت في المساء كاسف البال محطم الأعصاب، ولم أقدر على المطالعة، فأغلقت الكتاب واضطجعت في الفراش. . . ولكن أنى للنوم أن يزور الأجفان التي تتطلع من وراء الخيال إلى صورة الحبيب المجهول.

ص: 57

وتوالت الأيام وأنا أزداد بالآنسة شغفاً، وتتابعت الليالي وأنا أطوف حول بيتها لعلي أظفر منها بنظرة. ولكن هيهات! فقد كانت لا تكترث بوجودي، ولا تبالي بمروري وإنما تعتدل في وقفتها فتغلق النافذة ثم تنادي قطتها وتنصرف. وكنت إذا لحظت منها الصدود غضبت وأقسمت أن لا أمر من أمام بيتها، ولكن ما أسرع ما أحنث بهذا القسم فلا أجدني إلا سائراً في طريق بيتها. لقد كانت هذه القصة تتمثل كل يوم، ولكنها تنتهي وكأني لم ألحظ صدوداً ولم أحلف يميناً.

وأقبل الصيف وأغلقت المدارس أبوابها فوجدت في العطلة الصيفية عوناً على تحقيق رغباتي. لقد رحت أقضي الأيام الطوال حول منزل آنستي فأستقصي أخبارها وأتنشق عبير رائحتها. . . ولقد تخطت معرفتي بها الحدود التي كان الربيع قد رسمها فلم أعد أقنع برؤيتها في النافذة، وإنما أصبحت أراها في الطريق رائحة غادية برفقة مربيتها العجوز (نانو).

وإن أنس لا أنس تلك اللحظات التي كنت أقضيها بانتظار خروجها. لقد كانت اللحظة شهراً، وكانت الساعة دهراً، ولكني ما كنت لأشعر بوطأة هذا الطول. فقد كان لي خلفه آمال تعدل كل ما ألقاه من آلام. لقد كنت أنتظر طويلاً ثم لا ألبث أن أسمع صوتاً ملائكياً يرن في أذني. إنه صوتها وهي تقول:(نانو. . . امشي يا نانو) ثم ينفتح الباب وتخرج منه وهي تخطو خطوة وئيدة وإلى جانبها (نانو) فأقف في الطريق محاولاً استدراجها إلى ابتسامة رقيقة. ولكني كنت أعود كل مرة خائباً. فقد كانت تمر بي دون أن تشعر بوجودي أو تفطن إلى عواطفي. وإني لا أزال أعجب لتلك العواطف الجامدة كيف لم تعصف بها نظراتي الحادة، وإني لا أزال أكبر ذلك القلب الهادئ الذي لم تستطع أن تحركه نبرات قلبي المتأججة. . .

وقد أوشك الصيف أن ينقضي قبل أن أنتهي إلى تنيجة مرضية، فقد ظل قلب الآنسة بعيداً عن قلبي وبقيت آذانها مغلقة عن سماع صوتي، وقد تراءى لي أنها تكتم عواطفها خوفاً من (نانو) العجوز، فاعتقدت أن الحب يقضي علي أن استعطف (نانو) وأن استدر رحمتها.

ولما كان الغد ملت بنظري نحو (نانو) فابتسمت لي وابتسمت لها وقلت في نفسي إنها ولاشك قد أدركت معنى ابتسامتي وفهمت مغزى وقوفي، وتتابعت النظرات والابتسامات

ص: 58

ورأيت (نانو) ذات صباح وحدها فدنوت منها وتكلفت من الشجاعة أكثر مما أطيق، ثم اعترضتها وقلت لها:(الهوى صعب يا نانو!) فهجزت برأسها هزة العجب والكبرياء ثم أجابتني (والصبر طيب. . . طيب يا حبيبي!.) ثم مضت لسبيلها وظللت وحدي أفكر في معنى كلمتها. . .

(البقية في العدد القادم)

زهدي الشواف

ص: 59