المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 764 - بتاريخ: 23 - 02 - 1948 - مجلة الرسالة - جـ ٧٦٤

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 764

- بتاريخ: 23 - 02 - 1948

ص: -1

من مذكراتي اليومية:

ص: 1

‌قصة فتاة.

. .

يوم الاثنين 7 مايو 1945:

عرفت من بين الرسائل الكثيرة التي ألقيت إليّ صباح اليوم رسالة الآنسة (س) من غلافها الوردي الأنيق، فوضعتها ناحية ريثما أفرغ من بريد الرسالة، ثم عدت إليها فشققت كمامها عن أربعة أسطر تقول فيها: إنها حضرت القاهرة منذ يومين، وإنها ترجو أن تراني في الساعة الخامسة من مساء الخميس المقبل بمحْلى (جروبي) الجديد، وإنها ستضع مجلة (الرسالة) على المائدة التي ستجلس إليها، لتكون دليلاً عليها؛ فإننا تعارفنا منذ عام بالكتابة نفساً لنفس، ولكننا لم نتعارف إلى اليوم باللقاء وجهاً لوجه

كيف أفلتت هذه الفتاة الغريرة من ربقة التقاليد الصعيدية المحكمة فتركت عزبتها إلى المدينة، وبيتها إلى الفندق، وحديقتها إلى جروبي؟ هل أقدمت على ما كانت تسوله له نفسها الطموح من الانعتاق والانطلاق، فخرجت مما كانت تسميه (قبراً) لتدخل فيما كانت تسميه (دنيا)؟ سؤالان ألقيتهما على نفسي ورسالتها عالقة بيدي، وحياتها ماثلة في ذهني، فلم تدر نفسي ماذا تجيب. قد أستطيع بما نمت عليه رسائلها من أخبارها وأسرارها أن أخمن بعض الأسباب التي أقدمتها إلى القاهرة، ولكن بين التخمين واليقين ثلاثة أيام، فلأنتظر حتى ألقاها

ألقى إليّ البريد أولى رسائلها من الصعيد الأوسط في أوائل إبريل من سنة 1944 حين سرى الروح الإلهي في همود الطبيعة فأيقظ الراقد وأنعش الخامد وأعلن المستكن. كانت في تلك الرسالة متهينة متحفظة، كالغريب الطارئ يقرع الباب بلطف، ويدخل البيت في استحياء، حتى إذا وجد من أهل الدار بشاشة القبول وكرم المثوى، علّق العصا وخلع المعطف. وما كان لكاتب نصب نفسه للتوجيه والإرشاد أن يذود عن بابه المفتوح فتاة تلتمس نفَساً من كربها وسندها لضعفها وسبيلاً لهداها

لم تقل في رسالتها القصيرة أكثر من أنها آنسة في الخامسة عشرة فقدت في السن الباكرة أبويها فكفلها أخوها. وأخوها على طباع أهل الصعيد شديد الحفاظ صارم النخوة لم يسمح لها بالمضي إلى غاية التعليم الثانوي فضمها إليه في العزبة. والعزبة حديقة تتوسطها دار يسكنها الأخ وزوجه وابناه الصغيران، ثم الدوار وبيوت الفلاحين يفصلها عن حمى المالك

ص: 2

طريق واسع وسور مرتفع، ثم حقول مترامية الأطراف يغشاها السكون وتلفّها الوحشة. وزوجة أخيها امرأة ضيقة الفكر واسعة العمل حيية الطبع لا تحب الاجتماع ولا تحسن الحديث. فهي لا تمتلك في هذه البيئة وهذه الطبيعة إلا أن تزجِّي فراغها الثقيل بقراءة قصة أو كتابة رسالة أو رسم صورة أو نسج قطعة. ولكن وجهة آمالها وحديث أحلامها أن تكون يوماً ما أديبة. وقد قرأت لي (آلام فرتر) و (رفائيل) فراقها الأسلوب وسحرها الروح. وهي تطمح أن تبلغ من الفن الكتابي مبلغاً يهيئها أن تعبر عن نفسها هذا التعبير، وأن تكشف عن روحها هذا الكشف؛ وتطلب مني في ابتهال وضراعة أن أجيب عما ترسل إليّ من رسائل، فأوجهها إلى ما تقرأ، وأحاسبها على ما تكتب، وأناقشها فيما تفكر، وأملأ يومها الفارغ الطويل بتحرير الكتب إليّ، وانتظار الأجوبة مني؛ وذلك فيما تزعم جزء من رسالة الأديب الذي اصطفاه الله ليجمّل بفنه قبح الحياة، ويخفف بعلمه شقاء الناس.

إن الرد على ما يأتيك من الرسائل واجب، وهو بالطبع على رسائل السيدات أوجب؛ ولكن هناك - ولا أكْذِبك - دافعاً أقوى من الواجب، هو تلك اللذة الطبيعية التي يجدها الرجل في الحديث إلى المرأة أو عن المرأة. لذلك لم أكد أقضي حاجة النفس من جمال تلك الرسالة، بإجالة الفكر في الأسلوب، وإطالة النظر في الخط، حتى كتبت الجواب عنها إلى الفتاة بأسلوب أب يحاول أن يكون لابنته كما تريد، ويجتهد في أن يفتح أمامها باب الأمل من جديد.

للقصة بقايا

أحمد حسن الزيات

ص: 3

‌الحرية! الحرية!

للأستاذ محمود محمد شاكر

أصبحت الجامعة العربية حديث العرب والمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، قد ناطوا بها كل آمالهم في بلوغ غاياتهم وإدراك ما تتمناه قلوبهم وضمائرهم، وحسب الجامعة أن تكون قبلة أربعمئة مليون عربي ومسلم في دنيا كلها عدوّ لنا يبغينا الغوائل. ولكن لا أحسب، فليس من الحق أن نترك الجامعة تسير وحدها في الطريق دون أن ترتفع أصوات طلاب الحق تؤيدها وتسددها وتشير عليها بالرأي بعد الرأي، فإن رجال الجامعة رجال من أنفسنا، قد رضيت العرب أن تعهد إليهم بقيادة هذه الشعوب المطالبة بالتحرر من قيود الاستعمار التي ضربت علينا ونحن في غفلة عن الدنيا الضارية التي أرسلت علينا وحوشها ترتع في حمانا، وتستأثر بخير بلادنا، وتنال منا نيلاً شديداً.

وقد آن أوان تغيير ما كان وما سار عليه العمل في السنوات الماضية. فالجامعة ترى كما يرى كل عربي ومسلم منذ وضعت الحرب العالمية الماضية أوزارها، أن أوربة الجائعة التي لا تشبع، قد خرجت من تحت أنقاض الحرب وفي زمان الحرب. وأنها تريد أن تلتهم كل شئ فتشبع ونجوع نحن، وتعبث ونئن نحن، وتستغرق في الترف وناعم العيش وإن أغرقتنا نحن في الضنك وبؤس الحياة. فهذه روسيا تريد أن توغل حيث أطاقت وحيث تيسر لها أن تتوغل. وهذه بريطانيا الكاهنة العتيقة العاتية تريد أن تتلو زمازم كهانتها على شعوبنا لتنيَمنا مرة أخرى على الخسف الذي نمنا عليها أجيالاً طوالاً. ثم هذه ثالثة الثلاثة أمريكا التي لا ينطفئ أوار ظمئها إلى البترول، تريد أن تستنفد كل شئ ما استطاعت، لتنعم هي به وبكل ما يطيق العلم أن يحدثه من ترف أو قوة، فتدخل مع بريطانيا في الحلف الاستعماري، لا تبالي أن تناقض تاريخ الأحرار القدماء من رجالها وبناة مجدها.

وترى الجامعة كما يرى كل عربي ومسلم، أن الشرق العربي والشرق الإسلامي لم يقرّ له قرار منذ سكنت نار الحرب، فقد انبعثت أندونيسيا تريد الحرية فلم يبال بها أحد، وانبعثت الهند تريد الحرية فأناموها بأن أدخلوها في نظام الدومنيون، وهبت مصر والسودان تجادل عن حقها في مجلس الأمن فأصمت الأمم الداعية إلى الحرية آذانها، وعلقوا القضية في هيكل الوثنية الحديثة التي تعبد إله الشهوات، وثار العراق يريد أن يحطم قيود الذل فأرادت

ص: 4

بريطانيا أن تختدعه عن نفسه فأبى إباء الأحرار، وماج المغرب العربي في تونس والجزائر ومراكش، فضربت عليه فرنسا حكم الجبروت وألقت بينه وبين العالم أسداداً من فولاذ الظلم والطغيان، وسكت العالم الجديد عن هذا البغي اللئيم الذي ليس له رادع من نفسه ولا من الناس. وفارت مدغشقر فأطفأ المستعمرون تلك الأرواح المستعرة بأسنة الحراب. وأخيراً كشفت روسيا وبريطانيا وأمريكا وسائر الدول الصليبية قناع النفاق والرياء، فقضت أن تطلق على فلسطين أنذال البشرية من يهود، ليطردوا العرب من أرض آبائهم وأجدادهم منذ كان للعرب على هذه الأرض تاريخ، فأجمعت الأمم الإسلامية على أن ترد هذا العدوان وإن اجتمعت الدنيا كلها على تحقيقه ومناصرته.

ترى الجامعة العربية كل هذا كما يراه كل مسلم وعربي، ولكنها لا تزال تسير في أمر هذه الثورة الجامحة - التي يريد بها العرب والمسلمون أن يطهروا أنفسهم من الاستعباد، وأن يطهروا أرض الله من البغي والعدوان - سيرةً لم يسرها قبل مطالب بحق يعلم أنه حق لا نزاع فيه. فهي تشغل نفسها مثلاً بقضية فلسطين وحدها - على خطر شأنها - وتنسى ما يجري في مراكش وتونس والجزائر، وما يحدث في العراق، وما هو كائن في مصر والسودان، وما لا يزال يحدث في أندونيسيا وسائر البلدان والأمم المطالبة بالحرية. ولعلها تقول إنها تنظر في الأهم ثم المهم، وإنها لا تريد أن تخرج عن الأصل الذي وضعت له والذي يدل عليه اسمها وهو (جامعة الدول العربية)، لا جامعة العرب، ولا جامعة الإسلام، ولا جامعة الشرق. وهذا حق، ولكن ما الذي يحسبها على هذا وحده؟ وما معنى أن تقصر أمرها على الدول العربية (المستقلة) في ظاهر الأمر؟ إن هذه الدول العربية (المستقلة) ليست مستقلة في حقيقة الأمر، وإلا ففيم ثورة مصر والسودان؟ وفيم ثورة العراق؟ وفيم غليان شرق الأردن؟ فليس من الرأي أن تظل الجامعة العربية مقيدة بأشياء هي حبر على ورق؛ بل ينبغي أن تضم إليها رجالاً من تونس والجزائر ومراكش، وينبغي أن تضم إليها رجالاً من سائر الدول الإسلامية والشرقية ممن لهم مع العرب صلات لا يمكن أن تقطعها هذه القواطع المزيفة، وينبغي أن تعلن الجامعة العربية أنها قد أخذت على عاتقها أن تدافع عن حرية العرب وحرية المسلمين، وينبغي أن تكون هي المؤتمر العام الذي ينضم إليه كل ناشد للحرية في هذه الأرض مهما اختلفت الأجناس والأديان.

ص: 5

بل ينبغي أن تجمع الجامعة العربية في يدها أمر السياسة العربية والإسلامية جملة واحدة، وأن تضع المبادئ التي يجب على كل أمة تنضم إليها أن تعمل بها، وأن تكون هي المعبرة عن النداء العام الذي تنادي به هذه الأمم والشعوب وهو: الحرية! وينبغي أن تسير في ذلك كله مرة واحدة، فلا تفرق قضية الحرية إلى قضايا كل واحدة منها تعالج على أسلوب يخالف أخاه أو يتخلف عنه

إن روسيا وأمريكا وبريطانيا وفرنسا وسائر الدول المستعمرة، أو أذيال الدول المستعمرة، قد اتفقوا جميعاً على العرب والمسلمين وأهل الشرق، ففيم نتأخر نحن أو نحجم أو نتلجلج؟ ولم لا نعمل جميعاً جملة واحدة، ويداً واحدة، وفي وقت واحد، وأي عائق يعوق المطالبين بالحرية والناشدين لها عن اجتماع الكلمة على هذا الحق الذي لا يملك أحد أن يمنحه أحداً، لأنه عطية الله ونعمته، ليس لأحد أن يسلبه؟ وكيف يسلبه وهو قوام هذا البنيان الإلهي؟ فإذا خلا هذا البنيان من الحرية، فقد خلا من الحياة وانهدم، وكان أنقاضاً تسعى على أرض تلفظها، وتستظل بسماء تلعنها.

إن جامعة الدول العربية، إنما تتكلم اليوم باسم الشعوب العربية لا باسم الحكومات وحدها. فلتعلم الجامعة أن الشعوب قد سئمت هذه السياسة العتيقة البالية، سياسة المداورة والمحاورة، سياسة الظنون الخداعة، سياسة المغررين الذي يحسبون أن سينالون حقوقهم بالمفاوضات والمحادثات والمخابرات والمخادعات. فلتحذر إذن أن تقف دون الغاية التي تسعى إليها شعوبها، ولتخط الخطوة الواسعة التي خطتها الشعوب في سبيل درك الحرية وانتزاعها من الجبابرة الظالمين. إنها اليوم أعظم قوة في هذا الشرق العربي والإسلامي، فلزام عليها أن تنطق بإرادة هذه الشعوب مجتمعة، لا بإدارة حكومات تغرر بها السياسة، ولا بإدارة أفراد مهما بلغ سلطانهم فهو دون سلطان الشعوب التي يمثلونها، بل ينبغي أن تكون الجامعة هي الرقيب الذي لا ينام على إرادة هذه الحكومات وعلى إرادة هؤلاء الأفراد، طبقاً لإرادة الشعوب وحدها.

إني لا أزال أنذر الناس أننا نعيش اليوم في زمن غير الزمن الذي ألفوه منذ خمس سنوات وحسب، فاليقظة التي تدب اليوم في كيان الشعوب العربية والإسلامية أضخم وأعظم وأقوى مما يخطر ببال أحد، إنها القوة التي لا يقف دونها سلطان ولا طغيان ولا بأس. نعم،

ص: 6

إن النظر العابر الخاطف لا يكاد يدل على هذه الحقيقة، ولكن النظرة المتأنية المتعمقة تستطيع أن تحس بهذه الحركة الجياشة التي فار فائرها تحت هذا الظاهر الساكن المطمئن. وإنما يغفل من يغفل عن إدراك هذه القوة، لأنه ألف شيئاً مضى، فقاس عليه شيئاً جديداً يراه وهو متأثر بهذا الماضي، ولأنه مسوق في عنان هذه السرعة الخاطفة التي يجري بها عالمنا الحاضر إلى الغايات التي لا يعلم غيبها إلا عالم غيب السموات والأرض. ولكن الجامعة العربية قد فرض عليها أن تنظر النظرة المتأنية العميقة لتدرك هذه الحقيقة التي لا تخفى، ثم نقيم سياستها على هذا الأصل وحده دون الأصول الأخرى التي ورثتها عن السياسات العتيقة، سياسة المفاوضات والمخادعات، وسياسة الأخذ والإعطاء، وسياسة تقسيم القضية الواحدة - قضية الحرية

إني أنذر الحكومات، وأنذر الجامعة العربية بأن هذه اليقظة القوية العنيفة سوف تنكشف عن قريب، وأنها إذا لم تجد الحكومات، ولم تجد الجامعة العربية، قد تهيئوا للسير في خطاها. فهي ستدمرهم جميعاً عصف الرياح بهشيم النبات. فليتق الله كل عامل منا، ولينظر إلى غد، وليعرف حقيقة هذه الشعوب، وليأخذ نصيبه من التبعة التي ألقاها عليه مكانه من الناس ومن الشعوب

إن قضية الشعوب العربية والشرقية والإسلامية (قضية واحدة)، فاكتبوا هذه الكلمة في كل مكان، ورددوها بكل لسان، واهدروا بها هدير الأمواج في هذه البحار المظلمة، فإنها كلمة النجاة لكم ولشعوبكم وللناس جميعاً.

إن ساعة الخطر الأعظم قد دنت وتطابقت علينا عقاربها من هنا ومن ثم، وإن بريطانيا أولاً ثم أمريكا وروسيا وأذيالهم من أمم الاستعمار الصليبية، تدرك هذه الحقيقة كل الإدراك، فهي تريد أن تمزق شمل هذه القوة قبل أن تجتمع وتبدو جملة واحدة. فبريطانيا تريد أن تشغل كل قبيل منا أول كل دولة بشأن من شئونها التي تثير جماهير رجال السياسة القدماء، أولئك الرجال الذي نشئوا في أحضانها، أو في أحضان استعمارها الخبيث. وأمريكا تريد أن تشغل كل أمة منا باللعنة الماحقة التي تقوم عليها قوتها وهي البترول ومنابع البترول، تشتريه من هذه الأمم الفقيرة بأبخس الأثمان، فتنقله إلى بلادها فيكون أرخص ثمناً من البترول الذي تستخرجه من نفس أرضها! وتخدع هؤلاء المساكين

ص: 7

بالدولار تعطيه، وهو ليس عطية، بل محنة وبلاء واستعباداً للإنسان الفقير الذي يظن أن المال هو كل شئ في هذه الدنيا. وأما روسيا فهي تعمل جاهدة على أن تأتي هذه الشعوب من طريق فتنتها عن الهدف الأعظم وهي الحرية، وتوجهها إلى الفتنة الخبيثة توقدها بين الغني والفقير، والمالك والمستأجر، والعامل وصاحب المال، حتى إذا صرفت الوجوه عن حقيقة الحياة - أي عن الحرية - دخلت فاستقرت وتحكمت واستبدت، وفعلت بنا ما فعل هؤلاء الديمقراطيون: زعموا أنهم يدافعون عن الحرية ثم سلبونا حريتنا، وتدعي روسيا أنها تريد المساواة بين الناس؛ فإذا دخلت بيننا حرمتنا هذه المساواة. إن هذه الدول جميعاً على اختلافها واختلاف مصالحها قد اتفقت على مصلحة واحدة هي أن تقتلنا، ثم يأتي بعد ذلك تنازعهم واقتتالهم على أسلاب هذا القتيل.

فالجامعة العربية هي التي كتب عليها منذ اليوم أن تقف حيال هذه القوى مجتمعة لتردّها عن هذا الهدف اللئيم الذي تسعى إليه. فلتجمع في لسنها ضمير هذه الشعوب المستهدفة للخطر الأعظم، ولتنطق بالكلمة الواحدة التي تعبر عن هذا الضمير، وهي أن قضية العرب والشرق والإسلام قضية واحدة، قضية لا تتجزأ لأن الحرية لا تتجزأ. والجامعة العربية تعلم - أو ينبغي أن تعلم - أنها إذا نطقت بهذه الكلمة وجعلتها أصل سياستها التي لا تقبل فيها مهادنة ولا مفاوضة ولا مجادلة، انبعث من ورائها قوة أربعمئة مليون نسمة تهتف من ورائها هتافاً يهدّ الجبال الراسيات، ويشتت بأس الأمم الطاغية بسلاحها ومدمراتها وجبروتها وبغيها ويهودها أيضاً. إنهم أربعمئة مليون يهتفون بلسان واحد في وقت واحد: الحرية الحرية!

إنها قضية واحدة أيتها الجامعة! إنها قضية واحدة أيتها الحكومات! إنها قضية واحدة أيها الملوك والأمراء! فاجمعوا أمركم وتنادوا جميعاً في مشارق الأرض ومغاربها - من حدود الصين إلى بلاد المغرب الأقصى، ومن بلاد الشام إلى جنوب إفريقية. تنادوا بالكلمة الواحدة التي تزلزل هذه الأرض التي امتلأت جوانبها بغياً وظلماً وفساداً، تنادوا بحرف واحد، وبلسان واحد، وفي وقت واحد: الحرية! الحرية! (ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين).

محمود محمد شاكر

ص: 8

‌القتل في الشرائع

لحضرة صاحب العزة الأستاذ علي بك حلمي مدير البحيرة

قتل النفس بغير حق جريمة من أقسى الجرائم وأشدها إخلالاً بالأمن العام. فهي تقضي على حياة الإنسان فتسلبه صفة الوجود دون رحمة ولا شفقة. وكثيراً ما تعتمد على الغدر والخيانة، فلا يجد المجني عليه فرصة للدفاع عن نفسه والذود على وجوده.

وقد نشأت هذه الجريمة منذ وجدت الجماعة وحدث بين أفرادها تعارض الرغبات والشهوات. وورد ذكرها في جميع الشرائع والديانات القديمة، ونص فيها على عقوبة مقترفيها بجزاء يختلف شدة وضعفاً باختلاف درجة الجماعة من رقي واضمحلال.

القتل قبل الشرائع:

لم يكن لجريمة القتل جزاء محدود ولا تشريع مرسوم. ولقد حدثنا القرآن الكريم بقوله تعالى في سورة المائدة: (من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل، أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً) عن أول جريمة وقعت من الإنسان على أخيه، وعن أول تشريع جنائي لهذه الجريمة. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن قال:(ليس من نفس تقتل ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها؛ لأنه أول من سن القتل)

القتل في التوراة:

فرقت التوراة بين الأحوال المختلفة لجريمة القتل وبين العمد منها وغير العمد، ورسمت لكل نوع عقوبة خاصة تتناسب مع درجتها في الإجرام. ومن نصوصها:(من ضرب إنساناً فمات فليقتل قتلاً؛ فإن لم يتعمد قتله بل أوقعه الله في يده فسأجعل له موضعاً يهرب منه. وإذا بغى رجل على آخر فقتله اغتيالاً؛ فمن قدام مذبحه يأخذه ليقتل. ومن ضرب أباه أو أمه يقتل قتلاً. وإذا تخاصم رجلان فضرب أحدهما الآخر بحجر أو تكلم ولم يقتل بل سقط في الفراش؛ فإن قام وتمشى خارجاً على عكازه يكون الضارب بريئاً إلى أن يعوضه عطلته، وينفق على شفائه. وإن حصلت أذية تعطى نفساً بنفس وعيناً بعين وسناً بسن ويداً بيد ورجلاً برجل وكياً بكي وجرحاً بجرح ورضاً برض).

ص: 10

ومن هذه النصوص يظهر للباحث أن شريعة اليهود تنص على القصاص في كل الحالات دون ذكر العفو عن أية حالة منها.

القتل في الإنجيل:

جاء في إنجيل متي: (سمعتم أنه قيل عين بعين وسن بسن وأما أنا فأقول لكم لا تقاوموا الشر؛ بل من لطمك على خدك الأيمن فحول له خدك الأيسر، ومن رأى أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فاترك له الرداء أيضاً، ومن سخرك ميلاً واحداً فاذهب معه اثنين)

وبمقارنة هذه النصوص مع نصوص التوراة نجد أن الأولى تقرر العفو دون القصاص مما حدا ببعض الناس إلى القول بأن الإنجيل لا يجعل القتل من شرائعه - وقال آخرون إن الذي لم يذكره الإنجيل إنما هو القود؛ إذ أن الدية كانت واجبة في جريمة القتل العمد، وأنكر ذلك الشخ الإمام محمد عبده في رواية عن السيد رشيد رضا. ويتفرع عن هذا البحث آراء كثيرة لا يتسع الموضوع لذكرها الآن؛ غير أننا نلاحظ فارقاًَ بيننا في تقرير عقوبة القتل في كلا التشريعين السابقين - فبينما نرى التوراة تميل في تشريعها إلى جانب المجني عليه فتفرض القصاص وتتجاهل العفو نجد الإنجيل يفرض العفو على ولي الدم ويمنع مقابلة الجرم بمثله؛ ولذلك يقال: إن في التشريع الأول تفريطاً في شأن الجاني وفي التشريع الثاني إفراطاً في النظر إليه.

القتل عند البدو:

كان العرب قبل الإسلام أمة فطرية تعيش على البداوة بنظامها وعاداتها الخاصة - وقد شاع في بيئتها القتل وجرت عاداتها على قتل القاتل - ولكن بالنسبة لما جبلت عليه العرب من الحمية الجاهلية والعصبية وكلفهم بالأخذ بالثأر أسرفوا في القصاص وتمادوا فيه فأصبحت الجماعة تقتل بالواحد دون النظر إلى قواعد العدل والإنصاف، ولم يرفع هذا الظلم إلا بنزول القرآن وظهور الإسلام.

القتل عند الرومان:

يتساوى الرومان والعرب في أن جريمة القتل عرفت عندهم من قديم الزمان واعتبروها عقوبة لنفس الجريمة - غير أنهما يختلفان في ناحيتين جوهريتين.

ص: 11

فالأولون ينوعون في تطبيق عقوبة القتل ولا يسرفون في القصاص؛ كما كان عليه الشأن عندالعرب - والناحية الثانية أن نظام الطبقات عند الرومان كان ملحوظاً في تطبيق هذه العقوبة؛ فإذا كان الجاني من الأشراف استبدل النفي بعقوبة القتل وإذا كان من الطبقة الوسطى كانت عقوبته قطع الرقبة؛ وإذا كان من الطبقة الدنيا كانت عقوبته الصلب أو إلقاءه طعاماً لحيوان مفترس، أو يشنق.

وقد دخل على هذا النظام عدة تغييرات انتهت بتدخل الحكومة في إقرار العقوبة وتنفيذها، كما هو الحال عليه في القوانين الحديثة

القتل في الإسلام:

نزل في عقوبة القتل آيتان أولاهما مكية وهي أول ما نزل في القتل وهي قوله تعالى: (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً فلا يسرف في القتل إنه كان منصوراً) والأخرى مدنية وهي قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى: الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى. فمن عفي له من أخيه شئ فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان؛ ذلك تخفيف من ربكم ورحمة؛ فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم. ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون). كما وردت نصوص أخرى متفرقة في القرآن نهت عن القتل منها: (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق؛ ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون). ومنها قوله تعالى: (ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم، إن قتلهم كان خطئاً كبيراً. ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا. ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق)

وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (اجتنبوا السبع الموبقات وذكر فيها قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق)

أسباب النزول:

روي في أسباب نزول القصاص أن بدوياً قتل آخر من الأشراف؛ فاجتمع أقارب القاتل عند ولي المقتول وسألوه عما يريد، فخيرهم بين إحدى ثلاث قالوا: ما هي؟ قال: إما أن تحيوا ولدي، أو تملأوا داري من نجوم السماء، أو تدفعوا لي جملة قومكم ثم لا أرى أني

ص: 12

أخذت عوضاً.

تبين هذه الرواية مقدار ما جبلت عليه نفوس العرب من الإسراف في طلب القصاص والتعنت فيه كأخذ الجاني بغيره والجملة بالواحد

استمر العرب يقتلون الجماعة بالواحد والرومان يفرقون بين الشريف وغير الشريف؛ والتوراة تحابي المجني عليه؛ والإنجيل يفرط في شأنه حتى ظهر الإسلام فنزلت آيات القصاص التي تنظم جزاء جريمة القتل وترسم عقوبتها على أسس من العدل والإنصاف سنذكرها في مقال تال إن شاء الله فارتفع من الشرائع الأخرى مساوئها واستقرت محاسنها.

علي حلمي

ص: 13

‌التاريخ يعيد نفسه بين المسلمين واليهود

للأستاذ عبد المتعال الصعيدي

لقد ظهر الإسلام والدولة الرومية تحكم فلسطين وغيرها من بلاد الشام، وكانت قد قضت على دولة اليهود فيها من قبل الميلاد المسيحي، وفرقتهم منها في سائر البلاد، وكانت دولة اتلروم تحكم فلسطين وغيرها من البلاد الشرقية حكماً استعمارياً، يستبد في الأوربيون بالشرقيين كما يستبدون بهم في عصرنا، ويقوم على أساس الطمع في بلادهم كما يقوم الآن بيننا، فلما ظهر المسلمون مال أهل هذه البلاد إلى حكمهم، لأنه لم يكن حكم طغيان واستبداد كحكم الدولة الرومية، فدخلت في حكم المسلمين بحق الفتح، ودخل كثير من أهلها في الإسلام عن طواعية واختيار وبقي بعض أهلها على دينهم، فعاشوا بين إخوانهم من المسلمين تجمعهم كلمة الوطن، ولا يؤثر فيهم ما بينهم من اختلاف في الدين حتى مضى عليهم فيه أكثر من ثلاثة عشر قرناً، وإنه ليكفي أقل منها لتثبيت حقهم فيه، ولإبطال حق الروم الذين كانوا يحكمون قبلهم، فما ظنك باليهود الذين لم يكن لهم أثر فيه على عهد فتح المسلمين له، وهذا هو حكم التاريخ والسياسة في أمر فلسطين، وهو حكم صريح في أنها للعرب من مسلمين ومسيحيين لا لليهود ولا للصهيونيين، ولا لغيرهم ممن يريد سلبها منهم، ويستغل حمق اليهود والصهيونيين في الوصول إلى مأربه، ليضرب العرب بهم ويضربهم بالعرب، ويظفر بعد هذا بما له من مأرب وحينئذ يندم اليهود ولات ساعة مندم، ويأسفون على إساءتهم لمن أحسن إليهم ولات ساعة أسف.

وأما حكم الدين فهو كحكم التاريخ والسياسة أيضاً، لأن اليهود قد وعدوا بذلك الوطن في عهد إبراهيم حقاً، إذ جاء في الآية - 7 - من الأصحاح - 12 - من سفر التكوين (وظهر الرب لإبرام وقال:(لنسلك أعطي هذه الأرض) وجاء في الآية 21 - من سورة المائدة (يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين) وهذا خطاب من موسى إلى قومه حين ذهب بهم من مصر إلى هذه الأرض المقدسة.

ولكن الله تعالى لم يكتب هذه الأرض لهم لأنهم يهود، ولا لأنهم أبناء إبراهيم عليه السلام، ولا لأنهم قوم موسى عليه السلام، لأن البشر عنده سواء، وهما جميعاً خلقه وعبيده، وعدله يشملهم عامة، ورحمته تعمهم كافة، وإنما كتب لهم هذه الأرض ليقوموا فيها بعهده، ويؤدوا

ص: 14

فيها حقه عليهم، كما قال تعالى في الآية - 40 - من سورة البقرة (وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون)

وكان عهد الله تعالى عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً وأن يصدقوا أنبياءه الذين يرسلهم إليهم، فلم يفوا له بهذا العهد وكذبوا بعض من أرسله إليهم، وقتلوا بعضهم، كما قال تعالى في الآية - 70 - من سورة المائدة (لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وأرسلنا إليهم رسلاً كلما جاءهم رسولٌ بما لا تهوى أنفسهم فريقاً كذّبوا وفريقاً يقتلون) والتوراة وما بعدها من كتب العهد القديم مملوءة بأخبار نقضهم هذا العهد، وكفرهم بالله تعالى، وتكذيبهم أنبياءه.

وقد سلط الله عليهم من أخرجهم من هذا الوطن جزاء لهم على

نقض هذا العهد، وكان بختنصر أول من سلطه عليهم،

فأجلاهم من فلسطين إلى بابل، وقد مكثوا بها إلى أن أعادهم

كورش الفارسي إلى فلسطين، فأقاموا بها ثانياً مدة من الزمان،

وأقاموا دولة لهم فيها دون دولتهم الأولى.

ثم سلط الله عليهم دولة الروم قبيل ظهور المسيح، فقضوا على دولتهم قضاء لا مرد له، وأجلوهم من فلسطين آخر جلاء، لأنهم كذبوا مسيحه وحاولوا قتله، وقتلوا ابن خالته يحيى بن زكريا قبله، فعظم بغيهم، وتفاقم شرهم، وانقطع الأمل في صلاح حالهم ولم يبق معنى لبقائهم في فلسطين، بعد أن ظهر المسيح بشريعة لا تختص بهم وحدهم. ثم جاء الإسلام فجعل الرسالة عامة للناس جميعاً، واستوى فيها الخلق كافة، فدان للمسيح من دان من الشعوب، ودان للإسلام من دان منهم، وبقي اليهود وحدهم يزعمون أن رسالة الله لا تتعداهم، وأنه لم يصطف من الناس غيرهم

فاتفقت النصرانية والإسلام على نزع هذا الوطن منهم ليتحقق وعد الله بنزعه منهم إذا لم يفوا بعهده، ويؤمنوا بأنبيائه لأن وعد الله حق، وخبره لابد من تحققه في الماضي والحاضر والمستقبل، ومن يمكن لهؤلاء اليهود في فلسطين من مسيحيي أوروبا وأمريكا يخالف المسيحية قبل أن يخالف الإسلام، ويجري وراء السياسة الباغية التي توقع الناس في أفظع

ص: 15

الحروب، وتؤدي إلى خراب العالم، ولا يقرها دين من الأديان.

وللأخلاق حكم في طمع اليهود في فلسطين أيضاً، لأن العرب فتحوا لهم بلادهم في فلسطين وغيرها، فوجدوا فيها جواراً كريماً، ولقوا فيها عدلاً وأمناً، وقد لفظتهم أوربا في القرون الوسطى كما تلفظهم الآن، فلم يجدوا مأوى لهم إلا في بلاد العرب، فقضوا فيها تلك القرون الطويلة، لا ينالهم أحد بشر، ولا تنظر إليهم عين بسوء، بل يجدون منا أكرم عطف، وينتفعون بنا أقوى نفع، حتى صاروا ولهم بيننا أموال لا تحصى ولا تعد وأصبحوا وبيدهم زمام التجارة والصناعة، فلا يحقد أحد هذا عليهم، ولا يحاول أحد أن ينتزع شيئاً منهم.

أفيكون جزاؤنا على هذا كله أن يطمعوا في هذه البلاد التي آوتهم؟ وأن يتخذوا أعداؤنا وأعداؤهم من متعصبي أوربا وأمريكا وسيلة لقضاء مطامعهم، حتى إذا قضوا أغراضهم من تسخيرهم في حربنا قلبوا لهم ظهر المجن، وطردوهم من فلسطين كما يطردونهم الآن من أوربا، اللهم إنه لا يجوز شيئاً من هذا في شريعة الأخلاق، وإن اليهود قد خرجوا في هذا الطمع الشنيع على حكم الخلق الكريم، كما خرجوا على حكم السياسة والتاريخ والدين

ولاشك أن الظلم مرتعه وخيم، والبغي عاقبته شر، وقد بغى اليهود على المسلمين الأولين في المدينة وكانوا قلة يعدون بالعشرات، وليس لهم من العالم على سعته إلا بقعة صغيرة في المدينة وما حولها، فجزاهم الله على بغيهم شر جزاء، وأعان هذه القلة عليهم فطردتهم من المدينة شر طرد، ولم ينفعهم ما حاولوه من إثارة العرب على المسلمين، وما جمعوه من الأحزاب لإخراجهم من المدينة، لأن الله لا ينصر بغياً على عدل، ولا يرفع باطلاً على حق

واليوم يبغي اليهود على المسلمين وهم يملؤون الأرض من أقصاها شرقاً إلى أقصاها غرباً، ومن أقصاها جنوباً إلى أقصاها شمالاً، واليهود هم اليهود في قلة وذلة، والعالم ينبذهم نبذة النواة من هنا وهناك، فهل يمكنهم أن يتغلبوا على المسلمين في بلادهم؟ ويمكن المسلمين أن يناموا على ضيمهم؟ وهل يرضى الله عن هذا الظلم والبغي فلا يوقع اليهود في شر بغيهم وظلمهم، ولا يمكن للمسلمين منهم، لينبذوهم إلى حيث لا يجدون مأوى، لأن العالم كله قد اجتمع على كراهتهم، ولم يبق لهم إلا المسلمون الذين يحملونهم على عداوتهم.

ووالله أيها اليهود الجاحدون، إنا لن ننسى لكم أنا آويناكم وأنتم ضعاف، وقد طردكم أهل أوربا من بلادهم، ففتحنا لكم بلادنا، وها أنتم أولاء اليوم تحاربوننا لتمكنوا لهم من رقابنا

ص: 16

وتكونوا لهم مخالب قطط علينا، وقد عفونا عنكم بعد إساءتكم الأولى لمسلمي المدينة، ولن يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين

ووالله أيها اليهود الجاحدون، إنا لن ننسى أنا نعيش نحن وإخواننا المسيحيون في كل بلد عربي عيشة سمحة كريمة، وهم يوافقون أولئك المتعصبين من أهل أوربا في الدين، وكانوا أولى منكم بأن يكونوا مخالب قطط لهم، ولكنهم أكرم على أنفسهم من أن يكونوا مطايا للطامعين في بلادهم، أما أنتم فلم ترعوا للوطن العربي حقاً عليكم، ولم تذكروا إحساننا إليكم، فانقلبتم أعداء لنا من غير ذنب جنيناه، وخنتم بلادنا وعهودنا، وسترون عاقبة هذا البغي، فنطردكم من فلسطين كما طردناكم من المدينة وما حولها، والتاريخ يعيد نفسه. . .

عبد المتعال الصعيدي

ص: 17

‌إسعاف النشاشيبي

للأستاذ داود حمدان

ودعا أيها الحفيان ذاك الشخ

ص إن الوداع أيسر زاد

واغسلاه بالدمع إن كان طهراً

وادفناه بين الحشى والفؤاد

واحبواه الأكفان من ورق المصح

ف كبراً عن أنفس الأبراد

واتبعوا النعش بالقراءة والتس

بيح لا بالنحيب والتعداد

إي والله هذا مقامك يا أديب العرب، وواحد الدهر، ويا حبيب المصحف، وعاشق لغة القرآن، ويا خليل محمد وخلصان دينه.

وإنه لقليل عليك أن تغسل بالدمع الطهور، وتدفن بين الحشى والفؤاد، ولكن. . . من أين لنا الدمع وقد جف من هول المصيبة، وتمزق الحشى وذاب الفؤاد من شدة الحزن وحرارة الأسى. . .

أي أديب العرب! إنك لتجل عن أن يقول مثلي رثاءك، ولن يقول رثاءك الحق إلا من يقول مثل هذه الأبيات، أو من يقول مثل قولك في شوقي وهنانو، وهيهات. . . وما هذه الكلمة إلا وفاء لحق لزم، وتنفيس لحزن أقام ولا إخاله يريم، لتعذر العزاء عنك بسواك، ومن سواك يسد مسدك ويغني غناءك؟ وهل تعود الدهر الجود بالأفذاذ؟ أنت لم يأت نظيرك من ألف سنة. . . فإن كانت هذه سنة الدهر، فيا طول ما ينتظر المنتظرون!

إن العربية ستؤرخ ابتداء فقرها من هذا النمط المجيد بارتفاع روحك الطاهرة إلى الرفيق الأعلى.

أي إسعاف، لقد كنت والله إسعافاً بكل ما في هذه الكلمة من معنى: لقد أسعفت اللغة فقالت بلسان المرحوم أمير البيان: (قد أحسن الله إسعاف بإسفاف)، وأسعفت الدين (بالإسلام الصحيح) مما يفتري عليه المفترون ويطعن في مساواته الطاعنون، وأسعفت الأخلاق الكريمة فتمثلت بك بشراً سوياً لا يعرف الكذب قط ولا يستطيعه، ولا الغش، ولا الرياء، ولا الجبن، ولا البخل، ولا القسوة، ولا الكبر، بل كأنما خلقت من الصدق والصراحة والجرأة والكرم والرحمة والتواضع، وكيف لا تكون كذلك وإمامك محمد وطريقتك القرآن؟ وأسعفت الفقراء والمحتاجين والغارمين، فكم من فقير أعطيت، ومحتاج أغنيت، وغارم

ص: 18

لولاك كان من المفلسين؟

فعليك رحمة الله ما نطق باللسان الفصيح ناطق، وخفق بالإسلام الصحيح خافق، وسلام عليك ما ذكر المكرمات ذاكر

وبعد، فالرثاء حزن يتبدى أو مناقب تعدد، وكلاهما يحتاج إلى بيان، ولست ممن يدعيه، غير أني أشهد أن حزني على إسعاف عظيم، وإني لا أستوفي مناقبه حصراً وعداً.

كنت لم أره بعد، وكان ذلك منذ أكثر من خمس عشرة سنة، حين كتب كاتب في بعض الصحف الفلسطينية ينتقده وينتقد شوقي معاً، فحملني حبي لهما على أن أدفع عنهما ما قاله بغير حق، فكتبت الدفاع في جريدة الجامعة العربية، وعلى أثر ذلك أهدى إلي كتبه، ثم زرته وتوثقت روابطنا حتى كان لا يدعو إلى بيته أحداً من ضيوفه، وكلهم من أهل الفضل والأدب، إلا دعاني مدة إقامتي في القدس، فلم أجد مجلساً أحفل بالفوائد الأدبية والإنسانية من مجلسه، ولم أجد محدثاً أجذب للسمع والفؤاد منه، ولم أجد أغير منه على كتاب الله ودين محمد، فمحمد عليه السلام عنده معنى الكون، وكان اسمه الكريم مكتوباً بخط جميل ومعلقاً أمامه لا يحب أن يقع نظره إلا عليه.

ولا يستثيره شئ أكثر من أن يمس الإسلام أو القرآن من قريب أو بعيد، وشدة غيرته هي التي تأتي بالعجب، فكتابه (الإسلام الصحيح) إذا رأيته بتحقيقاته وحواشيه ظننت أنه تهيأ له من سنين، والحقيقة أن موضوعه لم يكن يخطر له ببال، وما هي إلا مناسبة عرضت حتى هب كالأسد يزمجر بالإسلام الصحيح، وواتته سعة الاطلاع وسلامة الفهم والذوق فكان الكتاب، وكذلك كان رده على كتاب المبشرين الذي نشر تباعاً في الرسالة. ولم يكن يضيع شيئاً من وقته، فما هو إلا قارئ أو كاتب، وكانت رحلته في الصيف إلى الشام رحلة في طلب المزيد من العم، وكان نهماً في القراءة، حتى لقد طالع في مكتبات دمشق أكثر من خمسمائة كتاب في رحلة واحدة، ونقل منها نصوصاً تؤيد كتابه الإسلام الصحيح، وكانت رحلته في الشتاء إلى مصر ليتزود كذلك من مكتباتها. وهذا كله بالإضافة لما عنده من مكتبة عظيمة نادرة المثال.

وكانت معرفته لما اطلع عليه من آداب الغربيين وهو كثير معرفة اتفاق، وكان يحسن التحدث عن آداب الغرب ويقارنها بآدابنا، ويجد لكل جديد منها مثالاً من قديمنا يفوقه روعة

ص: 19

وبهاء

وكان طيب الله ثراه يحب التجويد في كلامه، وإذا بدا له خاطر في تغيير حرف أو كلمة من مقالة ذهبت للنشر أبرق إلى المجلة بوقف النشر حتى يأتي تصحيحه، وكان يسارع بالرجوع إلى الحق ويحمد من ينبهه إلى خطئه، وقراء الرسالة يعرفون ذلك. ومرة أشرت بكتاب خاص إلى نقلة من نقله، فكتب إليّ أن هذه النقلة ستحذف هي وأخوات لها. وكان إذا عملت له معروفاً يبدو وكأنه عاجز عن شكرك بكثرة ما يحاوله بأساليب مختلفة، ولكن بشعور صادق، وطالما أخجلني من ثنائه عندما نشرت مقالاً في جريدة الدفاع علقت فيه على (الإسلام الصحيح) بما أراه حقاً.

قبل سفره إلى مصر رأيته في القدس ضعيفاً متهدم الجسم، فشعرت بالخوف عليه، ثم سافر إلى مصر ولم أره، ثم جرى اختيار عضو فلسطين لمجمع اللغة العربية، وعجبنا بل شدهنا لذلك الاختيار العجيب، وسكت مدة وأنا في حيرة ودهشة، ثم رأيت أن من حق الأستاذ عليّ أن أكتب في هذا الموضوع، فكتبت كلمة أنصفته فيها ولم أطعن في العضو المنتخب، وهيأتها لأرسلها إلى الرسالة، ولكن يا للأسف في صباح ذلك اليوم الأغبر قرأت نعيه في الجرائد، فطويت الكلمة، وطويت ضلوعي على الحزن.

(اللد - فلسطين)

داود حمدان

ص: 20

‌هل نملك تحريم تعدد الزوجات؟

للأستاذ إبراهيم زكي الدين بدوي

تمهيد:

1 -

ظننت بعد نشر تعقيبي في مجلة المجتمع الجديد على رأي معالي عبد العزيز فهمي باشا في تعدد الزوجات، وإمساكه عن الرد فترة طويلة، أن معاليه قد اقتنع بما سقت إليه من حجج دفعاً لشبهاته التي أوردها على التشريع القائم في هذا الموضوع؛ أما وقد نشر أخيراً بحثه المستفيض رداً على تعقيبي فإنه لا يسعني سوى أن أبدي إعجابي بهذا الجهد يبذله معاليه في شيخوخته المباركة دفاعاً عن رأيه، فيضرب بذلك أروع الأمثلة لشباب الجيل.

2 -

وأبدأ بالرد على عتب وجهه معالي الباشاً ناسباً إلى أنني تلقفت كلمة شردت منه في حديثه الشفوي وهي كلمة (بتاتاً) التي توهم بظاهرها أنه تحريم مطلق لا مثنوية فيه (فبينت اعتراضي على هذه الكلمة الشاردة تاركاً ما في تفصيل الحديث. والحقيقة أنني لم أتلقف كلمة بعينها في الحديث شاردة أو مستقرة حتى يتوجه إلي هذا العتب، ولكن معاليه هو الذي عدل رأيه المنشور في الحديث تعديلاً جوهرياً أصبح بعده يرى في هذه الكلمة شروداً، ويمكن مقارنة ما استقر عليه رأي معاليه في بحثه الأخير بما كان عليه رأيه أولاً في النقط الآتية:

(أ) استقر رأي معاليه في بحثه الأخير على أن آية (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع؛ فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة)(ليست مسوقة لتحديد عدد الزوجات مطلقاً، بل هي مسوقة بالذات وبالقصد الأول إلى التضييق على المخاطبين في نكاح من تحت حجرهم من اليتيمات) المفضي بهم إلى أكل أموالهن بما ينافي العدل فأراد المولى سبحانه تقريعهم على إتيان هذا المنكر تحت ستار النكاح بما بينه من أن لهم في نكاح الأخريات غير اليتيمات متسعاً (لا واحدة ولا اثنتين واحدة بعد أخرى ولا ثلاثاً واحدة بعد الاثنتين الأوليين بل حتى مثنى وثلاث ورباع، أي جزافاً بلا حساب ولا عدد) غير أنه تعالى قيد هذا العدد غير المحدود العدد باشتراطه العدل الذي هو أساس القول في هذه الآية فأردفها بقوله (فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة) - بينما كان معاليه يرى في

ص: 21

حديثه أن الآية المتقدمة (هزؤ وسخرية ممن يريد تعدد الزوجات وأن فيها إيكال الأمر لمن يعلم الله أنه لا يستطيع القيام بالأمر. فمخاطبة غير المستطيع بما هو من شأن المستطيع تلك كلها سخرية بالمخاطب: فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع. . .! ثم إنه كيما يرد المخاطب إلى مقتضى العقل الصحيح، ولكي يعبر عما يجده المخاطب في نفسه من عدم الاستطاعة أضاف فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة. . . أي وأنا أعلم كما تعلمون أنكم تخافون عدم العدل لأن غرائزكم الفطرية تحملكم على هذا الخوف (ومؤدى ذلك أنها مسوقة قصداً لبيان حكم تعدد الزوجات، وإنه التحريم في الجملة على نهج خاص من الأسلوب، لا لغرض آخر. فالفرق أوضح من أن يحتاج إلى إيضاح.

(ب) استقر رأي معاليه أيضاً على أن آية (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة) مقصود بها بيان أن العدل المطلوب في الآية المتقدمة - وهو العدل المطلق الكامل - وإن كان غير مستطاع إلا أنه غير مشروط في الوجات الموجودات وقت نزولها فرخص سبحانه - تخفيفاً ورعاية لحقوقهن المكتسبة قبل هذا التشريع - بالإبقاء عليهن وإن كن متعددات للرجل الواحد بشرط العدل المستطاع بينهن، وذلك بقوله تعالى (فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة) على أن يكون ذلك حكماً مؤقتاً خاصاً بهن دون من يعقد عليهن بعد ذلك اللائي يسري عليهن شرط العدل المطلق الذي هو الحكم الدائم. فهذه الآية (مجرد تخصيص أو بيان لحكم (فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة) من جهة زمان تطبيقه) بينما كان يرى في حديثه أن أحد شقي هذه الآية وهي قوله تعالى (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم) إنما هو تعبير عن فكرة الآية الأولى القائمة على السخرية بمريدي التعدد وتحديهم باشتراط العدل (تعبيراً هو من أشد ما يكون بياناً للواقع الذي يعلمه هو فقال. ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم. . . ولن، كما يقرر النحاة، هي أشد أدوات النفي للمستقبل إذ تنفيه نفياً باتاً؛ فالقرآن يسجل بصريح العبارة أن الاستطاعة مستحيلة. أي أن العلة المتوهمة للتصريح بالتعديد لن تتحقق أبداً) هذا ولم يتعرض في حديثه إطلاقاً للشطر الثاني المكمل للآية وهي قوله تعالى (فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة) مع أنه اعتبره في رأيه الأخير مناطاً للحكم المقصود بالآية كلها وهو استثناء الزوجات الموجودات وقت النزول من اشتراط العدل المطلق على

ص: 22

ما بينا.

(ج) وبعدما بسط معاليه ما استقر عليه رأيه أخيراً في تأويل الآيتين على النحو المتقدم استشعر تضارباً ظاهراً بين التأويل يتمثل في تقريره أن الآية الأولى ليست مسوقة لتحديد عدد الزوجات الجائز الجمع بينهن مطلقاً وإنما هي مسوقة لغرض آخر، وتقريره في الوقت نفسه أن الآية الأولى في الجملة مما يتعين معه أن تكون هذه مسوقة للحكم المذكور وإلا لما احتيج إلى تخصيصه، كما استشعر أيضاً ركة تشوب النظم الحكيم بالأخذ والرد في غير ما حاجة لذلك لهذا التأويل، فتكلف لسد هذه الثغرة تعليلاً ينطوي على كثير من البراعة وقد جاء ذلك في البند 15 من بحثه تحت عنوان. . لا إشكال في النصوص، وفي البند 15 في سياق محاولة رد تمسكي عليه بكلمة (بتاتاً) - وحاصل هذا التعليل (أن الآية الأولى لم تأت قط بقصد التصريح بتعديد الزوجات إلى أربع فقط كما هو مزعوم وإنما أتت بظاهرها. غير مانعة من أخذ أي عدد كان من النساء، ولكنها مع هذا التوسيع التفريعي الجزاف خشيت أن يسيء المخاطبون فهمها فنبهتهم إلى لزوم الاقتصار على واحدة عند خوف عدم العدل. وبما أنه يبدو أن النبي وكثيراً من الناس كانوا على عادة العرب متزوجين بأكثر من واحدة، فخوفهم من عدم العدل حاصل بالطبع وقلوبهم واجفة واقعة في الاضطراب حتماً، وهي حال لا تطاق، فما العمل؟ هل يسارعون إلى العمل بقوله (فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة) وحينئذ يفارقون ما زاد على واحدة؟ أم إن الله في لطفه وكرمه والدين الإسلامي في يسره وسهولته ينظر إلى الزوجات التي تبين، والأطفال التي تهمل، والبيوت التي تخرب، والعرب الواجب تأليف قلوبهم لا تنفيرهم، فيجعل تشريعه للمستقبل ويتساهل في الماضي وفي أثر النكاح القائم ويتركه حتى يزول بطبعه بعد قليل من الزمن، شأن كل تشريع سليم يرضاه العقل ويطيقه الاجتماع؟ يبدو لي أن هذا هو الواقع، وأن المسلمين هلعوا وجأروا هم والنبي إلى الله متململين من هذه المحنة الراهنة فلطف بهم فبين مراده بأن أنزل قوله (فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة). . . الخ) إلى أن قال معاليه: (لأننا جميعاً نعرف - كما أشرت إليه من قبل - أن الدين الإسلامي عالج نقائص العرب تدريجاً مع الأناة والتلطف والابتعاد عن كل ما ينفرهم بلا مقتض. ومسألة تعديد الزوجات كانت من العادات المتأصلة فيهم، فمصادمتهم بتحريمها بالنص القاطع القاسي لا محل لها لكنه

ص: 23

اتخذ لهذا أسهل طريق واحكمه، طريق التحدي بالعدل. . . الخ) وهذا، كما قدمت، تعليل بارع من معالي الباشا، لكنطه لا يقوم إلا على محض افتراض ولم يدفع، مع ذلك، التعارض بين تأويل الآيتين كما هو ظاهر. أما رأيه الأول فقد كان منسقاً على الأساس الذي بني عليه فبدهي أنه لم يرد فيه شئ من هذا التعليل إذ لم يكن صاحبه بحاجة إليه قبل تعديل رأيه.

(د) فليس عجيب إذن بعدما عدل معاليه رأيه هذا التعديل الجوهري الذي تكلف كثيراً لتبرير تعارضه محاولاً بهذا كله دفع ما أوردناه على رأيه الأول بمقتضى قوله تعالى (فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة) - أقول ليس بعجيب إذن بعد كل هذا أن ياتي على تلخيص ما استبقى من رأيه في عبارات تحمل طابع التردد والحذر الشديد فيقول في البند 14 (القرآن الكريم لم يحرم تعدد الزوجات بنص صريح قاطع خاص بل أني إذا كنت ذكرت في حديثي الأول أنه يحرم التعدد فواضح من الحديث أن ذلك استنتاج من الآيتين رقم 3 و (رقم 129) واحتياط مني بصفتي مسلماً يجب أن يعنى بتقرير ما يغلب على ظنه أنه هو المقصود للنصوص الواردة بكتاب شريعة (ويقول في البند 17) قد ترك القرآن الناس على حريتهم وعاداتهم يتزوجون أي عدد من النساء يريدون. وغير صحيح - في نظري - أنه حد من هذه الحرية نصاً أي تحديد، بل كل الأمر أنه نبههم إلى القاعدة الأساسية في تشريعه وهي مراعاة العدل والانتعاد عن مزالق الجور فأوجب على المسلم عندما يقوم في نفسه الخوف من عدم العدل أن يقتصر على واحدة. ثم أكد هذا المعنى تأكيداً لا هوادة فيه (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم) فأصبح الأصل الواجب أن يحتذيه كل مسلم يريد الاحتياط لنفسه هو الاقتصار على زوجة واحدة) ثم يقرر إمكان (المحيص) و (الهوادة) حتى عن هذا الأصل بإمكان الاستثناء منه على أساس القواعد العامة في دفع الحرج وإباحة المحظورات عند الضرورة لأن (هذا الأصل قد يقضي العدل نفسه بالخروج عليه في بعض الصور) واستثنى الباشا بالفعل حالتين قال بإباحة التعدد فيهما. فأين هذا كله من رأيه الأول الذي أجملناه في الفقرة ب؟ أين هذه العبارات المحتاطة أشد الحيطة في التعبير عن تحريم مقيد للتعدد مستنتج من ثنايا نصوص مقيدة (بظاهرها كما هو رأي الباشا أخيراً) للإباحة المطلقة غير المحدودة بعدد؟ أقول أين هذا من إنكار

ص: 24

معاليه - في حديثه الأول - على الحكومة وضع تشريع لتقييد تعدد الزوجات بجعل إباحته رهينة برقابة القضاء الشرعي على توفر الأسباب الداعية إليه والمقدرة على الوفاء بشرط العدل بين الزوجات، وقوله (وخير للحكومة أن تأتي للأمر مباشرة فتعالجه من جذوره، وذلك بأن تحرم بتاتاً تعدد الزوجات) ثم قوله في موضع آخر من الحديث (لا أوافق البتة على طريقة المشروع تلك الطريقة التي يراد بها عدم تعدد الزوجات ولكن بسبل ملتوية مراد بها قطع أسباب الاعتراض ممن يظنون أن لهم على خلاف مفهوم نصوص القرآن الصريحة حق الاعتراض)؟ هلا وسع معاليه - إن كان حقاً قصد ببحثه الأخير تأييد عين رأيه الأول - الاقتصار على طلب تعديل مشروع التشريع طبقاً لنتيجة هذا البحث، والبون بينهما غير بعيد، بدل إيجاب نقض المشروع من أساسه بما في ذلك من زلزلة تشريعية بنقض التشريع القائم أيضاً من أساسه؟ بل أن معاليه ليستهين في حديثه ذاك - في سبيل القضاء على كل عائق يحول دون تنفيذ رأيه في التحريم البات الحاسم - فيجيب على اعتراض وجه إليه بحق بأن إصدار التشريع الذي أشار به معاليه مدعاة للزنا وهو فساد كبير بقوله (للفرنسيين مثل يقولونه ' أي شر لابد منه) بينما هو في رأيه الأخير يقول بإباحة التعدد - ابتغاء تكثير النسل عقب حرب تدخل فيها الأمة فتقضي على كثير من رجالها) إذ الضرر من خوف الجور فيها لا يصح أن يقام له وزن بجانب ذلك النفع العظيم الذي يأتي به التعديد (مع أن القاعدة المعمول بها في جميع الشرائع أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح.

3 -

لقد أطلت في بيان هذه النقطة الشكلية لكنني أرى هذا القدر من البيان ضرورياً لا تعريضاً بمعالي الباشا - وحاشاي أن أقصد إلى شئ من ذلك - ولكن قصد إظهار الناس على الحقيقة التي اتضحت لي من مقابلة الرأيين - وأرجو أن يغتفر لي معاليه التصريح بها - وهي أن رأي معاليه في هذا الموضوع الخطير لم يكن نتيجة الدراسة والتمحيص بقدر ما كانت الدراسة والتمحيص نتيجة للإسراع بإبداء هذا الرأي أولاً والحاجة بعد ذلك إلى دفع ما وجه إليه؛ وهذه الحقيقة قد تساعد الكثيرين - فيما أرى - على وزن رأي معاليه في هذا الموضوع بميزان صحيح

4 -

هذا وبمناسبة عتب الباشا - لا يفوتني أن أنوه بأنه إذا كان ثمة من يتوجه إليه العتب

ص: 25

فهي (مجلة المجتمع الجديد) لتقريرها في تقديم بحث معالي الباشا الأخير عبارة راعت فيها المجاملة أكثر من رعايتها لأي شئ آخر، وبخاصة ما نادت به من حيادها التام في الموضوع، وهي التي عبرت فيها عن رأي معاليه الأول (بأن الشريعة الإسلامية تحرم تعدد الزوجات تحريماً باتاً، إلا في أحوال الضرورة القصوى) فالاستثناء الوارد في هذه العبارة محض تبرع من المجلة إذ الواقع أنه لم يرد في حديث معاليه ذكر لاستثناء من أي نوع فضلاً عن أن الحديث بجملته وتفصيله مبنى وعنى يقطع بالتحريم البات الذي لا يدع مجالاً للاستثناء على ما سبق أن بينت.

(يتبع)

إبراهيم زكي الدين بدوي

المتخصص في الشريعة الإسلامية والقانون من جامعات

الأزهر وباريس وفؤاد

ص: 26

‌الحمامة الطريدة

للأستاذ محمود الخفيف

في وحدة سامرت فيها الأسى

طافت بي الذكرى فلم أهجع

شكوت لليل الضنى والجوى

والوجد والسهد وهذا الدجى

زادت غواشي الهم أسدافه

ودلت الوهم على مضجعي

في ليلة غارقة الأنجم

ضل بها الفجر عن المطلع!

لكل ألوان الأسى تنتمي

حلكتها من همي الأقتم

الذئب مقرور بها هاجع

والجن لم تأنس إلى موضع

الليل جهم، صرصر ريحه

صفيرها يزداد في مسمعي

أجش وحشيّ الصدى نوحه

مرتعش من قره دوحه

أطل لا تبصر عيني سوى

أشباحه في الأفق الأسفع

واعجبا ماذا أرى في ظلام

والصرصر الهوجاء لم تقلع؟

يقظان إذ أبصر لا في منام

ورقاء في سمعي منها بغام

قد أقبلت ملهوفة في الدجى

على هدى المصباح في مخدعي

حطت على نافذتي خائفة

ما دونها في الليل من مفزع

نازفة واحزنا راعفه

بالغوث في أناتها هاتفه

كم ذا رنت صوبي في لهفة

رف لها الخافق في أضلعي

وهنانة تلهث في زاويه

كجاهد أفلت من مصرع

من جارح أحسبها ناجيه

تخفيه عني الظلمة الغاشيه

وربما كان على خطوة

لو لم ير المصباح لم يرجع

مددت بالماء يدي في وعاء

فأجفلت من ذلك المشرع

تلهث لا تطلب غير الثواء

تنكر تنكر ما أبدي لها من رثاء

مشبهتي في الوجد لا تنفري

ما كنت يا ورقاء بالمدعي

أنت وما أوجع هذا الأنين

حسي ما في خافقي الموجع

طريدة الظلمة، قلبي الحزين

أبكاه هذا الحزن لو تعلمين

ص: 27

بكاؤك المكتوم كم هزني

والأصل أن تلهي وأن تسجعي

كم هجت يا ورقاء أشجانيه

أنا الذي كم أسبلت أدمعي

كم ذا بكى عان فأبكانيه

وكم بكت في الطرس ألحانيه

طالبة المأوى كلي واشربي

آمنه في جيرتي واهجعي

كم صورة مثلت في خاطري

يشقى بها كل فؤاد يعي

وارحمتا للساهد الساهر

الواجد المنفرد الشاعر

مؤنستي كم صورة للأسى

ألقي بها في قلبي المترع

فيك خيال للشقي الطريد

لم يأوه في الأرض من موضع

مروع في كل آن شريد

تسلمه الدنيا لخوف جديد

جهم العشايا منذر ليله

في صبحه بالحادث المفزع

وفيك طيف البائس المعدم

منكس الهامة مستضرع

مبتئس النظرة مستسلم

عان، هنا أو هاهنا يرتمي

بكل باب أن مستصرخاً

لم يرو منه الغل أو يشبع

وفيك يا ورقاء ذل الضعيف

لم ينجه الضعف ولم يشفع

أضناه في دنياه كسب الرغيف

في زحمة العيش هزيل لهيف

من دمه كم عاش ذو قوة

لم يدر ما الرحمة أو يقنع

وفي جراحاتك مرأى الجريح

خاض الردى في هوله المفظع

ممزق ظمآن عان طريح

في ركنه بعد الفضاء الفسيح

يذكر طعم الموت في موطن

يا هوله للموت من مرتع

أطائر، أم أنت روح شفيق

جاء يواسيني ويبكي معي؟

وهم به في الوجد قلبي خليق

غير الأسى ما إن له من رفيق

مشبهتي في الوجد كم دمعة

ذرفتها في الليل أن تدمعي

الخفيف

ص: 28

‌طرائف من العصر المملوكي:

الشعر والنقد الاجتماعي

للأستاذ محمود رزق سليم

نقد المجتمع من أهم ما يعنى به المصلحون، إذ يقوم إصلاحهم على دعامة منه، ينظرون في شئون مجتمعهم، ويتتبعون ضروب الفساد فيه، ثم يحملون عليها حملات شعواء لا تبقي ولا تذر، ويبينون للناس ما هم متردون فيه من شقاء. ثم يعملون جاهدين على إنقاذهم من مترداهم، وتوجيههم إلى سبل السعادة المرجوة. فمثلهم مثل الأطباء يتحسسون الداء ويصفون الدواء. وكلما اتضحت ضروب الفساد، وناء المجتمع بما فيه من أمراض، اشتدت الحاجة إلى هؤلاء المصلحين، ودعت الداعية إلى بروزهم في الميدان ليعملوا ويكافحوا. فيلجأ الخطيب منهم إلى خطابته والكاتب إلى مقالته والشاعر إلى قصيدته وذو الرأي إلى قريحته وفكرته وقد يكون الشعراء أبعد القادة وأولي الرأي عن النظر في شئون المجتمع من ناحية تلمس نقائصه، وتتبع مثالبه، والعمل على تلافيها والدأب على إصلاحها. إذ هم في أغلب أمرهم صدى للمجتمع نفسه بما فيه من نقائص ومثالب، لذلك يلتمس مؤرخ الأدب أحياناً نقائص عصر ومثالبه في شعر شعرائه، كما يلتمس مزاياه وفضائله سواء بسواء. فكم يكون جميلاً إذن، أن نرى الشعراء يدلون بدلوهم في الدلاء، ويشاركون في باب الإصلاح، ويتتبعون مثالب مجتمعهم ونقائصه فينحون عليها باللائمة ويثقلون ليها بالنقد اللاذع، ويشهرون أمر فساده بين الناس حتى تتضح معالمه وتبين شياته وهناته. . .

إنها لظاهرة أدبية طيبة واتجاه فكري سام، يسجله مؤرخ الأدب لشعراء عصر من العصور، إذا ما وجد من بينهم ثلة صالحة يهولها فساد المجتمع، ويروعها اتضاعه وترديه، فتعمل جاهدة في صدق على نقده وتنفيره مما هو فيه، على أمل أن يثوب إليه رشده، ويثوب إليه صوابه. ثم هي بذلك تمد التاريخ بوثائق صادقة يقرأ فيها بوضوح بعض نواحي العصر.

هكذا نسجل - ونحن نؤرخ العصر المملوكي وأدبه - هذه الظاهرة النابهة لشعرائه. فقد أضحى النقد الاجتماعي غرضاً شائعاً هاماً بين أغراضه الشعرية المطروقة.

وإن القارئ ليملؤه العجب ويأخذه الدهش إذا علم أن شعراء هذا العصر هم وحدهم الذين

ص: 29

حملوا راية النقد الاجتماعي دون سواهم من القادة وأولي الرأي والبصر. لذلك كان حمدنا لهم مضاعفاً وثناؤنا عليهم مستطاباً.

ولا نتجنى على غيرهم من أصحاب البيان وأهل القلم واللسان، فقد ترى لكاتب نقدة عابرة، أو تسمع لخطيب زجرة طائرة، ولكن ذلك كان على وحي وارتياب. ولم يكن خطة موضوعة ولا منهاجاً متبعاً. بل حوادث فردية ووقائع شخصية. وإنك لو طويت الكشح عن عظات لبعض علماء العصر على المنابر أو غيرها، يوجهونها للشعب أو حكامه، وإنك لو لويت الجيد عن بعض ما تخلل مقدمة ابن خلدون وبعض كتب التاريخ من نقدات، ما وجدت بعد ذلك من النقد الاجتماعي شيئاً يدل عليه ويشار إليه. فإذا أردت أن ترى أين النقد حقاً، فانظر في شعر شعراء العصر، فإنك واجد في - بلا ريب - ما تشتهي.

أما خطباء العصر فكانوا من علماء الدين جلهم اتخذ الخطابة المنبرية وسيلة إلى الرزق أكثر منها سبيلاً إلى النصيحة، وطريقاً إلى الجاه أقرب منها أداة إلى الإصلاح. وكتاب العصر كانوا في شغل شاغل بوظائف الدواوين وتدبيج رسائل السلاطين، وما يدره عليهم ذاك من خير وفير ورزق كثير. وعلماء العصر ممن شغلوا أنفسهم بالتأليف كانوا في أبراجهم العاجية يعيشون بمنجى عن الشعب ومنأى، بين ترف ذهني ونعيم فكري. وليس لهم هم إلا أن يؤدوا للعلم أمانته ويدونوا ما خلفته العصور وما وعته الصدور. فلم يبق إلا الشعراء فهم من الشعب وإليه، وهم تراجمته ومرائيه، ولسنه المشروع، وحناجره النافثة، صوتهم من صوته، ونداؤهم من ضميره، ونقدهم قبس مما يتردد في أعماقه ويتراءى في آفاقه. والشعب - على ضعفه وغفلته - له نقدات مريرة ولفتات خطيرة، تتنزى برنينها نفسه، ويموج بأنّاتها فؤاده. ولكن فكره موءود، ولسانه معقود، وغضبته مطروحة، وحدته مكبوحة. ولا من يترجم عنه أو يتحدث بما في نفسه إلا شعراؤه. هكذا كان شعراء العصر المملوكي.

والمجتمع المصري حينذاك كان فياضاً من الفساد لا حد لها، غاصاً بمواضع النقد، قميناً بالحملة عليه والسعي في إصلاحه. ولكن هيهات.

لقد كان الشعب يعاني من حكامه جوراً وعسفاً، ومن موظفيه نهباً وسلباً وإهمالاً. وكان هؤلاء طبقتين متميزتين عن بقية طبقات الشعب التي منها طبقات التجار والزراع

ص: 30

والصناع، لا تكاد تجمع بينهم جامعة صالحة إلا جامعة الدين والوطن. وكانت مشاكل الأسرة لا تقف عند حد، وادعاءات الطوائف لا تعرف هوادة. وكثر أدعياء العلم والأب، ومحترفو الزهد والورع. وكادت الرشوة والسعي بها إلى المناصب تصبح قانوناً منظماً. وذاعت السرقات الأدبية في غير مبالاة. وانتشر الزنى واللواط والتسري بالغلمان. . . وشرب الخمر وتعاطي الحشيش، إلى غير ذلك من مفاسد شائعة ذائعة.

نظر الشعراء إلى كل ذلك فنقدوه وحملوا عليه، وخلدوا عنه في التاريخ صفحة لا تلين ولا تمين. ولسائل أن يقول لم أهتم الشعراء كل هذا الاهتمام بنقد مجتمعهم، ولم ينصرفوا عنه انصراف سواهم راضين منه بالعافية والسلامة؟ نعتقد أن في مقدمة أسباب هذا أن العصر بحكامه وشعبه جهل مكانتهم ونكر منزلتهم وأن الثراء عن طريق القريض كان قد صوح زمانه، وضوى ينعه وريعانه، فلا سلطان يسخو ولا أمير يجود. لهذا قاسى الشعراء مع ألم النكران مرارة الحرمان. فأحقد ذلك نفوسهم وأحنقها، وأثار خواطرهم وأقلقها، والمحروم واجد النفس مفتوح العين على الثغرات يرى منها ما لا يراه سواه. . . ثم هم أمنوا المغبة واطمأنوا إلى العاقبة، وذلك لأن الحكام أعاجم بالفطرة لا يفهمون من الشعر إلا أثارة. وهم عن مساقط الشعراء مشغولون بحروبهم في الخارج أو فتنتهم في الداخل، ثم هم بين هذه وتلك يخبون في نعيم وارف وترف فياض، يحجب عن أسماعهم شكوى المحروم وأنة المكلوم ودعاء المظلوم - كان الشعراء إذن في حرية رافهة وأمن واسع، وانطلقوا من كل قيد يخشاه الأديب على نفسه حتى قيود المجاملة والرياء، وثارت ثائرة بعضهم حتى خلط في حديثه بين النقد والهجاء

ولو قد وجدا في الشعب مستجيباً وملبياً لكان لنقدهم أثر حميد وعاقبة نافعة، وفعل رشيد.

ولا يهولن القارئ - إذا ما عرضنا عليه نماذج النقد - ما يراه فيها أو في بعضها من نزول في مستوى أسلوبه، وبخاصة إذا قاسه بما درس من شعر أندادهم في عصور كانت فيها الملكات العربية لا تزال على مجادتها أو في عصور التقت فيها الثقافات ولفحت العقول وكرمت المغريات على القول.

ويطالعنا في أول ما نسوقه، نقد شرف الدين البوصيري (695هـ). كان البوصيري حسن السيرة صادق السريرة وظف في مطالع حياته في دواوين الدولة كاتباً، فرأى من عبث

ص: 31

كتابها وجباتها ما هاله من عبث. وشهد من إهمالهم ما راعه من إهمال. فجأر منهم بالشكاية وأنحى عليهم بالزراية فقال يخاطب أحد أولي الأمر:

فلا تدن منهم واحداً منك ساعة

ولو فاح من برديه مسك وعنبر

وبرد فؤادي بانتقامك منهم

فقد كاد قلبي منهم يتفطر

منعت بهم حظي شهوراً ولم أصل

إلى حظهم حتى مضت لي أشهر

فما فيهم - لا بارك الله فيهم -

أخو قلم إلا يخون ويغدر

وقال فيهم أيضاً:

نقدت طوائف المستخدمينا

فلم أر فيهم رجلاً أمينا

فقد عاشرتهم ولبثت فيهم

مع التجريب من عمري سنينا

فكتاب الشمال هم جميعاً

فلا صحبت شمالهم اليمينا

فكم سرقوا الغلال وما عرفنا

بهم فكأنهم سرقوا العيونا

ومنها يذكر من ادعى منهم النسك، ويذكر اختلاف الطوائف في مصر وادعاء كل طائفة بحقها فيها:

تنسك معشر منهم وعدوا

من الزهاد والمتورعينا

وقيل: لهم دعاء مستجاب

وقد ملئوا من السحت البطونا

تفقهت القضاة فخان كل

أمانته وسموه الأمينا

وما أخشى على أموال مصر

سوى من معشر يتأولونا

يقول المسلمون: لنا حقوق

بها ولنحن أولى الآخذينا

وقال القبط: نحن ملوك مصر

وإن سواهمو هم غاصبونا

وحللت اليهود بحفظ سبت

لهم مال الطوائف أجمعينا

ومن طريف نقد البوصيري قصيدته الرائية الفكاهية التي وصف فيها حال أسرته في رمضان وعيد الفطر، وما استحدثاه بين أفرادها من خلف ونزاع هما نتيجة الحرمان. وهو وصف يشعرك بما للفاقة من أثر سيئ في التفرقة بين أفراد الأسرة. ويشعرك بأن أسرة البوصيري هي نموذج للأسرة المصرية المتوسطة، ونموذج لمشاكلها من عهده إلى الآن ومنها يصف أفرادها قال:

ص: 32

صاموا مع الناس ولكنهم

كانوا لمن أبصرهم عبره

إن شربوا فالبئر زير لهم

ما برحت والشربة الجره

لهم من الخبيز مصلوقة

في كل يوم تشبه النشره

أقول مهما اجتمعوا حولها

تنزهوا في الماء والخضره

ثم يصف العيد وتطلع الأبناء فيه إلى الكعك والنقل، ثم ما يدب من النزاع بينه وبين زوجته، وتدخل أخت الزوجة في هذا النزاع لمصلحة أختها، فهي بذلك تضرم نار العداوة بين الزوجين، وتهون شأن الزوج وتجري عليه زوجته، فتنتهي المأساة بأن تستقبل رأسه بآجرة. وهكذا ترى كيف يغشى الجهل بأصول الحياة وروابط الأسرة عيون أفراد الأسرة المصرية من قديم الزمان فلا يفهم بعضهم أن رابطة الأسر شركة تعاونية بل فرصة استغلالية وهكذا. ومما يشبه قول البوصيري في كتاب الدواوين، قول علاء الدين الواسطي يشكو قوماً إلى نائب السلطان بالشام قال:

يا نائب السلطان لا تك غافلاً

عن قتل قوم للظواهر زوقوا

ما هم تجار بل لصوص كلهم

فأمر بهم أن يقتلوا أو يشنقوا

وأراك لا تجدي إليك شكاية

إلا لأنك حائط لا ينطق. . . الخ

وقال شهاب الدين الأعرج ينقد الأتراك والقبط ويذكر استئثارهم بالرزق:

وكيف يروم الرزق في مصر عاقل

ومن دونه الأتراك بالسيف والترس

وقد جمعته القبط من كل وجهة

لأنفسهم بالربع والثمن والخمس

فللترك والسلطان ثلث خراجها

وللقبط نصف الخلائق في السدس

ونقد كمال الدين الإدفوي (748) هـ صاحب كتاب (الطالع السعيد) حالة التعليم والمعلمين في عصره فقال:

إن الدروس بمصرنا في عصرنا

طبعت على لغط وفرط عياط

ومباحث لا تنتهي لنهاية

جدلاً ونقل ظاهر الأغلاط

ومدرس يبدي مباحث كلها

نشأت عن التخليط والأخلاط

ومنها قوله:

والفاضل النحرير فيهم دأبه

أقوال رسطاليس أو بقراط

ص: 33

وعلوم دين الله نادت جهرة

هذا زمان فيه طي بساطي

وقال مجد الدين بن الخياط يصف شعارير زمانه - وهم كثر في كل زمان -:

وفي متشاعري عصري أناس

أقل صفات شعرهم الجنون

يظنون القريض قيام وزن

وقافية وما شاءت تكون

وبمناسبة ذكر الشعراء نسوق بيتين من أبيات لشهاب الدين أحمد الأنصاري يهجو منهم من يقترف ذنب المديح فقال:

مالي أرى الشعراء تكسب عاراً

بهجائهم وتحملوا الأوزارا

مدحوا الأخساء اللئام فضيعوا ال

أشعار لما أرخصوا الأشعارا

هذا مع العلم بأن قوماً من الشعراء ربئوا بأنفسهم عن المدح بل عن صناعة الشعر وفضلوا عليها حرفة متواضعة احترفوها. انظر إلى أبي الحسين الجزار يقول:

كيف لا أشكر الجزارة ما عشـ

ت حفاظاً وأرفض الآدابا

وبها صارت الكلاب ترجيـ

ني وبالشعر كنت أرجو الكلابا

وكثير من الشعراء نعى حظ الآداب ورثى لحال الشعراء وشكا انصراف الناس عنهموعن إنصافهم.

وكانت الصوفية قد وجدت في هذا العصر مراحاً خصيباً ورعى رطيباً، غير أنه - بلا ريب - اندس بين أهلها من ليس منهم فشابوها وعابوها:

فكان ذلك مثاراً للنقد القاسي المقذع. قال الأديب المؤرخ فتح الدين بن سيد الناس:

ما شروط الصوفي في عصرنا قط

عاً سوى سنة بغير زيادة

وهي. . . . . . والسكر والسط

لة والرقص والغنا والقيادة

وإذا ما اهتدى وأبدى اتحاداً

وجميلاً من خلوة وإعادة

وأتى المنكرات عقلاً وشرعاً

فهو شيخ الشيوخ ذو السجادة

ونختتم هذا الحديث بذكر أد أدباء العصر وهو الشاعر جمال الدين السلموني من شعراء العصر الغوري فقد وقعت بينه وبين قاضي قضاة عصره عبد البر بن الشحنة الحنفي، فتنة أوذي الشاعر بسببها، وليس هنا مجال تفصيلها وكان الشاعر قد هجا القاضي ونقده بقصيدة لاذعة مريرة رددها كل لسان وسارت بذكرها الركبان، وأبياتها إذا أغضينا النظر عن

ص: 34

القاضي عبد البر - تصور إلى حد ما مفاسد القضاة تصويراً صادقاً. قال منها:

فشا الزور في مصر وفي جنباتها

ولم لا وعبد البر قاضي قضاتها

أينكر في الأحكام زور وباطل

وأحكامه فيها بمختلفاتها

إذا جاءه الدينار من وجه رشوة

يرى أنه حل عن شبهاتها

ومنها:

ألست ترى الأوقاف كيف تبدلت

وكانت على تقديرها وثباتها

وقد وثبت فيها قضاياه بالأذى

وبالبيع مثل الأسد في وثباتها

وبعد فهذه فضالة مما وعاه الرأس وثمالة من رحيق الكأس، تنبئان عنهما كما ينبئ الشعاع عن الشمس.

محمود رزق سليم

مدرس بكلية اللغة العربية

ص: 35

‌معروف الأرناؤوط

صاحب جريدة (فتى العرب) وعضو المجمع العلمي العربي

بدمشق

للأستاذ برهان الدين الداغستاني

توفي الأستاذ الكبير السيد معروف الأرناؤوط، أحد كبار رجال الصحافة والعلم والأدب في دمشق، وانتقل إلى دار الخلود بعد أن أبلى كثيراً في سبيل رفع شأن أمته ورقي بلاده، وجاهد طويلاً بقلمه ولسانه في جريدته (فتى العرب) التي كان يبذل في سبيلها من ذات نفسه وماله الشيء الكثير. كما كان عضواً بارزاً ذا أثر بالغ في المجمع العلمي العربي بدمشق.

توفي رحمه الله والصحافة المصرية في شبه حمى مما تذيعه وتنشره صباح مساء من تفاصيل دقيقة مما أحاط باغتيال (غاندي) وما إلى اغتياله من أساليب إحراقه وتأريث النار تحت جثته!. . .

نعم كانت الصحافة هنا في شغل شاغل بنشر هذه التفصيلات الدقيقة لما توفى إلى رحمة الله ذلك الصحفي العربي، والكاتب الأديب الأستاذ معروف الأرناؤوط، فلم يتنبه لموته أحد، ومر نعيه هادئاً هناً من غير جلبة ولا ضوضاء، حتى أن الكثير من أصدقائه وخلصائه في مصر - وهم بحمد الله كثر - لم يعلم بموته ولم يقرأ خبر نعيه المنشور في (أهرام) يوم الأحد أول فبراير سنة 1948

كان الأستاذ معروف الأرناؤوط حركة دائبة، كثير الطواف والتجوال، فقد زار كل بقعة من البلاد العربية، وقابل كل ملوكها وأمرائها وقادة الرأي فيها، وكتب الكثير عن هذه البلاد وأهل هذه البلاد، وكان يناصر بقلمه كل حركة تقوم في أي بلد من بلاد العروبة والإسلام للدعوة إلى الحرية ونيل الاستقلال.

كان رحمه الله خفيف الظل، عذب الروح، سريع البديهة حاضر النكتة، برماً فيما تعكارفه الناس في مجتمعاتهم من قيود ورسوم وتكاليف، كثير المرح، يشيع في مجلسه الحركة ورفع الكلفة، يشعر جليسه لأول مرة أنه صديقه من أمد بعيد، وإنه يعرفه معرفة

ص: 36

وثيقة!.

كنت أسمع باسم معروف الأرناؤوط، وأقرأ له كثيراً، ولكن لم أكن رأيته، فلما كنت في دمشق صيف سنة 1943 ذهبت إلى لقائه في دار (فتى العرب) فوجدته جالساً في المقهى الصغير المجاور لدار (فتى العرب)، في ذلك المنفسح الواسع الجميل بين دار البلدية ودار الحكومة، وما كدت أسلم وأجلس معه حتى شعرت بأني مع شخص أعرفه من قديم!، وكنت عجلاً لقضاء بعض المهام فأنساني ما ينتظرني من عمل، وطالت جلستنا، وتشعب الحديث وذهب كل مذهب، فكان رحمه الله في أحاديثه شديد التحمس للعروبة والأمة العربية، قوي الإيمان بقدرة هذا الشعب على القيام بالدور المقدر له أن يقوم به في ركب الحضارة. وبعد أن أخذ علي العهد أن أزوره في فترة أخرى، ودعته وفارقته، ولكن لم تسنح لي فرصة زيارته مرة ثانية، فكانت تلك الزيارة هي الأولى والأخيرة.

ولكن تلك الفترة التي قضيتها مع الأستاذ معروف الأرناؤوط في ذلك المقهى الصغير المتواضع تركت في نفسي أثراً لا ينمحي عن خلق الفقيد وكرم نفسه، وحلاوة حديثة وخفة روحه، فكنت أذكره كثيراً، وأتمنى لو تتاح لي فرصة لقائه مرة أخرى، حتى قرأت في (أهرام) يوم الأحد أول فبراير سنة 1948 نعيه، فحزنت عليه، وبكته نفسي. رحمه الله رحمة واسعة.

الأستاذ معروف الأرناؤوط ثالث أديب كبير ترزأ به البلاد العربية وتفقده الصحافة العربية، والأدب العربي والقارئ العربي في أقل من شهر، ففي مطلع الفجر من يوم الثلاثاء الثالث عشر من يناير سنة 1948 فجعت الصحافة العربية بعميدها طيب الذكر أنطون الجميل باشا، فبكته أحر بكاء، وقبل أن يجف الدمع عليه أو يلتئم جرح القلوب على فقده، فجعت بأيب العربية غير مدافع الأستاذ الكبير محمد إسعاف النشاشيبي، فقد ذهب إلى لقاء ربه في مطلع الفجر من يوم الخميس الثاني والعشرين من يناير سنة 1948، فحرك بموته كوامن الأسى وجدد الحزن والألم، فبكته الصحافة العربية أحر بكاء!.

وفي الساعات الأخيرة من ليلة الجمعة الموافق ثلاثين يناير سنة 1948 لفظ الأستاذ معروف الأرناؤوط أنفاسه الأخيرة، وسكنت تلك الحركة الدائبة أثر سكتة قلبية، قضى ثلاثتهم في غضون ثمانية عشر يوماً. وفي حالات متشابهة أصح ما يكونون أجساماً أثر

ص: 37

سكتة قلبية أحسن الله عزاء البلاد العربية عن فقدهم، وعوضها خيراً!

برهان الدين الداغستاني

ص: 38

‌مسابقة الفلسفة لطلاب السنة التوجيهية (726)

6

- في الوجود وعلله

للأستاذ كمال الدسوقي

ابن سينا والإشارات:

تجدون الترجمة الكاملة لحياة ابن سينا وكتاباته، وأسفاره وتجاربه وأشعاره؛ كما دنها ورواها تلميذه أبو عبيد الجوزجاني؛ في تاريخ الحكماء لابن أبي أصيبعة (جزء2 ص1 - 16) الذي يوجد في مكتبات مدارسكم وأقاليمكم، وفي مقدمة كتاب منطق المشرقيين - الذي قالوا إنه القسم المنطقي من كتاب (الشفاء) لابن سينا، والذي نشر في مصر غير مرة: تجدون ذلك كله في هذين المرجعين وفي غيرهما بما لا تحتاجون معه إلى مزيد من الإيضاح.

ومنه يتبين لكم أن ابن سينا (373 - 427هـ) لم يبلغ السادسة عشرة حتى كان قد ألم بالكتب الأولية في الحكمة رياضية وطبيعية ومنطقية، وأما ما بعد الطبيعة، فقد هداه إلى فهم ما استغلق من تعاليم أرسطو فيها كتاب أبي نصر الفارابي، كما فقهه إسماعيل الزاهد) من قبل في مسائل الفقه والخلاف، وأبو عبد الله الناتلي المتفلسف في الحساب والهندسة وعلم الهيئة (الفلك) ورياضيات إقليدس؛ وأنه منذ ذلك الحين قد دأب على المطالعة والدرس حتى أتيح له في هذه السن أن يلحق بخدمة الأمير نوح بن منصور الساماني فيمن لحق من الأطباء المعالجين؛ وأنه انفرد من بينهم في الوقوف على مكتبة الأمير والإحاطة بما فيها، حتى اتهم بحرقها ليتفرد بعلم ما حوت؛ وأنه قد حصل حينئذ كل ما صار له من علم ومعرفة، فلم يزد على علمه فيما بعد ذلك شئ - كما قال هو؛ وأنه لم يكن بعدئذ يقرأ كتاباً على الولاء، بل يقصد المواضع الصعبة والمسائل المشكلة ليتبين ما قاله صاحب الكتاب فيها - على نحو ما حدثنا الجوزجاني المذكور.

وأتم الشيخ الرئيس مرحلة الدرس وهو ابن ثماني عشرة سنة، وبدأ يكتب ويصنف، وكانت تصانيفه في ذلك الحين على الطريقة الأرسطية، تأخذ معظم مادتها من هذه الفلسفة اليونانية بادئة أولاً بالمنطق الآلة التي تعصم الذهن من الخطأ في التصور والتصديق والاعتقاد

ص: 39

الصحيح، ومثنية بعد بالطبيعيات وما يتعلق بها من رياضيات وحساب وهيئة وموسيقى، ومختتمة في النهاية بما بعد الطبيعة أو العلم الإلهي كما سماه الإسلاميون ملحقين به الحديث عن النبوة والمعاد والخلاص من الدنيا، تجد هذه الفلسفة الأرسطية في معظمها في أهم كتب ابن سينا الأولى (كالمجموع)(الشفاء) ومختصره (النجاة) وفي رسالته في النفس التي كتبها إلى الأمير نوح بن منصور والتي تشبه أن تكون تعريباً لكتاب أرسطو (في التنفس).

أما الكتاب الذي بين أيديكم فهو من نوع مخالف لنوع هذه الكتب: وهو يمثل الفلسفة المشرقية في تمام نضجها عند ابن سينا وغيره، تلك الفلسفة التي لا تأخذ عن أرسطو إلا بمقدار ما تأخذ عن أفلاطون وأفلوطين والمتكلمين والصوفية من الإسلاميين والفرس، مكونة من هذه في جملتها مذهباً خاصاً، وروحاً جديدة، فيها طرافة وفيها عمق وإمتاع هي بعض ما يتميز به كتاب (الإشارات والتنبيهات) لأبي علي الحسين ابن عبد الله بن سينا.

ولعل الظروف التي أحاطت بتأليف هذا الكتاب قد هيأت له أن يكون على هذه الصورة من العمق والجلال: فهو لم يكتبه استجابة لطلب أصحابه أو أميره كما ترى في سائر كتبه إنما كتبه وهو سجين بقلعة (فردجان) حين اتهم بأنه يكاتب سراً علاء الدولة أمير أصفهان. ويصف هو محنة السجن هذه التي كتب أثناءها هذا الكتاب بقوله في آخر صفحة من إشاراته: رقمت معظمها في حال صعب لا يمكن أصعب منها حال، ورسمت أغلبها في مدة كدورة بال، بل في أزمة يكون كل منها ظرفاً لغصة وعذاب أليم. . . ما مضى وقت ليس عيني فيه مقطراً. ولا بالي مكدراً. . . الخ ص145 حـ2) كما إن سجنه عند الإسماعيلية (الباطنية) هؤلاء قد جعله يذهب مذهبهم في التستر والإخفاء، والضن بكتابه ذاك على من لم يؤت الفطنة أو الدربة، أو كان من الجاهلين المبتذلين، والملاحدة المكابرين؛ وفي التوصية بالحرص على تخير من يهدي إليهم في هذا الكتاب واختبارهم، صوناً لهذا العلم من الضياع - كما نبه على ذلك في آخر الكتاب (ص143 - 144 حـ2) وكرر ذلك التنبيه في أوله (ص2 حـ1) بشروط واختبارات خاصة، نرجو أن تتوافر كلها لطلاب المسابقة حتى يتهيأ لهم أن يقفوا على حقيقة هذا الكتاب.

وكما يتضح من أول كلمة للشيخ أبي علي في كتابه: الإشارات إنما تشعر إلى الأصول - والتنبيهات تنبه على الجمل، هذه تتعلق بالمبادئ العامة، وتلك بالقضايا الخاصة، والذي

ص: 40

تشير له هذه أو تنبه عليه تلك؛ مسائل من العلم الطبيعي والإلهي مختلطة، يتدرك فيها ابن سينا من المحسوس إلى المعقول، ومن المادة إلى الصورة، ولذا نجده قد قسم أبواب هذا الكتاب إلى أنماط - على عكس المنطق الذي تنقسم أبوابه عنده إلى أنهاج - لأن النمط ضرب من البسط والتمهيد يقصد لذاته - بينما النهج ممهد لكل سالك إلى غاية معينة مما يحقق الغرض من المنطق كعلم لمناهج العقل - وكم في النمط الواحد من (إشارة) إلى أصل من الأصول، و (تنبيه) على جملة من الجمل، أو (وهم) من الأوهام، و (تذنيب) أو خاتمة ونتيجة لكل ذلك.

والكتاب الأول من الإشارات في خمسة أنماط. يهمنا منها الرابع (في الوجود وعلله)(ص189 - 214) والوجود المطلق الذي لا علة له على الإطلاق، أي الوجود في ذاته من حيث هو وجود؛ والوجود الآخر الذي هو محمول على أشياء مختلفة - هي معلولة له، والوجود عارض فيها وليس من ماهيتها، ومباحث هذا النمط - كما لخصها الرازي - ثمانية:(1) الرد على من لا يؤمن بوجود إلا المحسوس، (2) العلل بوجه عام (3) إثبات واجب الوجود (4) ووحدته (5) وتجرده عن الكثرة والنوع والجنس والعقل والحس، (6) ومن الضد والشبيه، (7) هو عاقل ومعقول (8) تلك خير الطرق لإثباته.

والنشرة المتداولة لهذا الكتاب، هي تلك المطبوعة في المطبعة الخيرية بمصر سنة 1325هـ، المشتملة على شرحي العلامة فخر الدين الرازي (في الهامش الخارجي) والخاجه نصير الدين الطوسي (هكذا تنطق في الفارسية بمعنى الأستاذ) - وكلاهما عالم محقق قام على شرح الإشارات مع فارق بينهما غير كبير - لا يعنيكم أمره - وحسبكم أن تتخيروا لأنفسكم أي الشرحين على هذا النص (المذكور في كليهما بين أقواس) - فإذا تعذر عليكم تفهم الواحد فليكمل بشرح الآخر.

2 -

العلل الأربع:

وابن سينا - قبل أن يشرع في تفصيل علل الوجود - ينبه على ما قد يتبادر لأذهان العامة من أن كل موجود فهو محسوس، وأن كل ما لا وضع له في المكان وفي الجهة وفي سائر أحوال الجسم المحسوس فلا نصيب له من الوجود - وهو رأي المشبهة ومن لفّ لفهم - فإننا حين نتأمل هذه المحسوسات الجزئية نجدها تشترك في معنى كلي مجرد - كالإنسان

ص: 41

الذي أفراده زيد وعمرو من الناس - الواحد منها محسوس، له وضع ومقدار وأين وكيف، ومن هذا المحسوس يأتي معنى الإنسان المجرد من الكم والكيف والأين والوضع الذي هو الإنسان الحقيقي - والمعنى الكلي للإنسان من حيث هو حيوان ناطق.

فإن قيل إن هذا الإنسان بالمعنى الكلي الثاني موجود في العقل لا في الخارج، ونحن نقصد الوجود الخارجي لا الذهني؛ قلنا إن معنى الإنسانية لا يوجد في الذهن إلا مقترناً بالإنسان الواقعي المحسوس المشترك في التصور العقلي المجرد لكلمة إنسان. وسقط بذلك الاعتراض.

وإن قيل إن للإنسان هنا كفرد تصوراً ذهنياً كلياً من حيث هو يتركب من أعضاء كثيرة مختلفة يشتمل عليها مفهوم كلمة (إنسان) بالمعنى الفردي، قلنا إنه يسهل دفع هذا الاعتراض بتصور نفس الحال في كل عضو من أعضاء الإنسان أي أن يكون لكل منها وجوده في الذهن كلياً مجرداً فضلاً عن وجوده في الواقع والحقيقة.

وحجة أخرى تلزم أولئك الذين لا يعترفون بوجود إلا للحسي من الأشياء، والموهوم من الموجودات، هي أنه عن المحسوسات يأتي الحس، وعن الموهوم ينشأ الوهم، وهي ليست أموراً حسية، فإن أنكروها وجب أن ينكروا ما يتعلق بها والعقل الذي يحكم عليها ويميز بينها، دون أن يكون محسوساً ولا موهوماً هو الآخر. وقل مثل ذلك في طبائع الأمور المدركة بالوهم كالعشق والخجل، والشجاعة والجبن - التي ليست تدرك بالحس، وإن تعلقت بالمحسوس والموهوم من الأشياء. والنتيجة التي يخلص منها الشيخ الرئيس بعد إدحاض هذه الأوهام ودفع ما يعترض به عليها - أن كل موجود فإن له ماهية مجردة عن كل مشخصاته الحسية - هي التي يتحقق بها وجوده، وإن لم تكن محسوسة ولا موهومة.

ذلك أن الشيء إنما يتحقق وجوده بإحدى اثنتين: إما بماهيته وحقيقته كالمثلث من حيث هو سطح وأضلاع تحيط به وتحدده - أي من حيث مادة المثلث والصورة الناشئة له من مجموع هذه المادة أي المثلث بالقوة والمثلث بالفعل وإما بوجود ذاته من حيث موجده أو المؤثر في حدوثه، وما لأجله وجد - أي من حيث فاعله، ومن حيث غاية وجوده، وعلل الوجود الأربعة هي إذن قسمان: علتا الماهية، وعلتا الوجود، الأوليان منها هما: العلة المادية والعلة الصورية وعلتا الوجود هما العلة الفاعلة أو علة الفاعلية والعلة الغانية

ص: 42

- الأوليان جزء من الشيء لأنهما الشيء بالقوة (المادة) والشيء بالفعل (الصورة). والأخيرتين ليستا جزءاً منه - بل هما فاعله (أو موضوعه بالقوة)، وغايته (أي تحققه بالفعل)، ولذا كانت العلتان الأولى والثالثة سالبتين والثانية والرابعة موجبتين.

والفرق بين علل الماهية وعلل الوجود يتبين في الفرق بين وجود الشيء في ذاته ووجوده في الأعيان؛ الأولى تلزم الشيء لتحقيق ذاته في الخارج وفي العقل، ومقومات هذه العلل هي الجنس والنوع والفصل. . . مما يدخل في باب المنطق، أما الأخرى فيفتقر إليها الشيء في كونه موجوداً كالفاعل والغاية. وابن سينا يخصص هذا الفصل لدراسة هذه الأخيرة، بعد إذ فرغ من الأولى في المنطق. مما سنتابعه فيه في المقال التالي.

كمال الدسوقي

ص: 43

‌الأدب والفن في أسبوع

نشوء القومية في البلاد العربية:

ألقى الأستاذ ساطع الحصري يوم السبت المحاضرة الخامسة من سلسلة محاضراته بالجمعية الجغرافية الملكية، فتحدث عن (نشوء الفكرة القومية في البلاد العربية حتى الحرب العالمية الأولى).

قال الأستاذ إن البلاد العربية كانت خاضعة للدولة العثمانية باعتبارها دولة إسلامية، وكانت تنظر إليها على أنها حلقة في سلسلة التاريخ الإسلامي، وقد سيطرت الدولة على هذه البلاد بتغلبها على الجنود والحكام، ولم تقاومها الشعوب، باستثناء اليمن لاعتناقها (الزيدية) التي ترى أن يكون الخليفة من آل البيت ومن نسل زيد. وكان المسلمون ينضوون تحت لواء الدولة متجهين إليها سياسياً ودينياً، على خلاف المسيحيين العرب الذين كانت لهم هيئات دينية منفصلة عن الدولة، وكانوا يمجدون الفكرة العربية منفصلة عن الدين؛ وكان هؤلاء المسيحيون ثلاثة طوائف: الأرثوذكس والكاثوليك والبروتستانت، وكان يلي المناصب الدينية بالكنائس الأرثوذكسية الشرقية رجال الدين من اليونان، وكانوا يفرضون اللغة اليونانية في الصلاة وغيرها من شعائر الدين؛ وكذلك كان الرومان واللغة اللاتينية في الكنائس الكاثوليكية الشرقية، وتحدث الأستاذ عن جهود العرب المسيحيين في مقاومة اليونانية واللاتينية في البيئات الدينية حتى استبدلوا بهما اللغة العربية؛ أما البروتستانت فكانوا من الأمريكيين الذين تعلموا اللغة وعملوا على نشر مذهبهم في البلاد العربية بلغتها، وأنشأت الطوائف الثلاث مدارس كانت تهتم باللغة العربية وتعلم بها، على حين كانت مدارس الحكومة تعلم بالتركية ولا تلقى العربية من عنايتها إلا قليلاً.

وفي أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين نشأت تيارات فكرية مختلفة، فالمسيحيون وبعض المستنيرين من المسلمين كانوا يدعون إلى انفصال البلاد العربية عن الدولة العثمانية وكان فريق كبير من المسلمين يعمل على جعل الخلافة عربية، ودعا فريق آخر إلى الإصلاح والاشتراك مع العثمانيين في إدارة دفة الأمور. ثم أعلن الدستور العثماني سنة 1908، فشاركت الأمم العربية الأتراك في السرور بانتهاء حكم الاستبداد، واتجه شعور الجميع نحو التكتل ونسيان الخلافات؛ ولكن ذلك لم يدم طويلاً لأنه كان من

ص: 44

نتيجة الحرية بعد إعلان الدستور أن امتدت الأقلام إلى تناول بعض الشخصيات التي كانت مشتركة في الحكم الاستبدادي فكان هذا إلى عوامل أخرى بينها الأستاذ سبباً في الانقسام بين العرب والأتراك، واستمر هذا النزاع إلى أن عقد مؤتمر العرب بباريس وكان من مطالبه جعل التعليم باللغة العربية وإشراك العرب في مناصب الحكم، وحدث في أثناء انعقاد هذا المؤتمر أن اتصل به رسل تركية، وأمكن الوصول إلى الاتفاق تحققت به بعض المطالب العربية وفي جملتها جعل التعليم في بعض المدارس باللغة العربية. على أن هذا الاتفاق لم يقض على المنازعات نهائياً، بل ظلت قائمة حتى نشبت الحرب العالمية الأولى.

وكان الأستاذ قد ذكر السامعين في بدء المحاضرة بما دل عليه تتبع نشوء القوميات في البلاد الأوربية من أن القومية كائن حي روحه اللغة ووعيه التأريخ؛ ويبدو أن الخيط الذي يربط هذه المحاضرة بتلك النظرية هو جهود المسيحيين العرب في مقاومة طغيان اللغات الأجنبية وتمسكهم بالعربية، ثم اهتمام العرب جميعاً باللغة العربية في حركاتهم ومطالبهم السياسية. والمتوقع أن الفكرة ستكون أكثر وضوحاً أو ستصل إلى نتيجتها في المحاضرة القادمة وهي (نشوء الفكرة القومية في البلاد العربية منذ الحرب العالمية الأولى حتى تكون جامعة الدول العربية).

عبث أدبي فني:

الملك بين يديك في إقباله

عوذت ملكك بالنبي وآله

حر، وأنت الحر في تاريخه

سمح، وأنت السمح في إقباله

يفديك نصرانيه بصليبه

والمنتمي لمحمد بهلاله

يجدون دولتك التي سعدوا بها

من رحمة المولى ومن أفضاله

فاروق جملها وزان بساطها

عرش يلوذ الشعب تحت ظلاله

وكأن عيدك عيدها لما مشى

فيها البشير ببشره وجماله

هذه هي الأغنية التي غنتها أم كلثوم ثلاث مرات في يوم عيد ميلاد جلالة الفاروق. وقدمها المذيع بقوله: (عيد الدهر، من شعر أحمد شوقي بك وغناء أم كلثوم) ولاشك أن المستمعين دهشوا. . . فما عيد الدهر؟ وما خطب شوقي؟ وما غَناء ذلك في الميلاد الملكي؟.

أنشأ شوقي قصيدة (عيد الدهر) منذ قرابة أربعين عاماً، منح بها الخليفة العثماني محمد

ص: 45

رشاد الخامس، وأشاد فيها بمدينة الآستانة. وقد أخذت من هذه القصيدة الأبيات السابقة التي غنتها أم كلثوم، وليست كل هذه الأبيات من تلك القصيدة، ففيها بيت وربع بيت من نظم غير شوقي، وبيان هذا كما يلي:

أخذ من القصيدة أربعة أبيات بنصها، ثم قصد إلى بيت في القصيدة يعبر فيه الشاعر عن ولوعه بالآستانة، وهو:

في كل عام أنت نزهة روحه

ونعيم مهجته وراحة باله

فحُذف قوله: (في كل عام أنت) ووضع مكانه: (يا جنة الوادي) وجيء بعد هذه (العملية) ببيت (من الخارج) ثم ختمت الأغنية ببيت من أصل القصيدة وهو: (وكأن عيدك الخ).

ولاشك أنك - وقد علمت كيف تم (إخراج) هذه الأغنية - قد تحولت دهشتك إلى العجب من هذا الصنيع والسؤال عن الحكمة في هذا التحوير والتبديل! أليس هناك غير شعر شوقي؟ لقد فاضت قرائح الشعراء ليلة ميلاد الملك، وما زالت القرائح تفيض مستمدة من معين حبه، أفما كان يغني بعض شعرهم عن هذا الموقف المخجل أمام التاريخ!

وبعد فنحن أمام طريقة جديدة أصدق ما توصف به أنها عبث أدبي فني. وما كان يليق أن يقع ذلك في هذه المناسبة السامية.

الخطابة في مهرجان الشباب:

دعت الإدارة العامة للثقافة بوزارة المعارف يوم الثلاثاء لفيفاً من الصحفيين والأدباء إلى حفل أقامته بإدارة خدمة الشباب لاختبار المتقدمين إلى مباراة الخطابة، وهي إحدى مباريات المهرجان الأدبي والفني الذي تنظمه الإدارة لمناسبة عيد الميلاد الملكي.

انعقدت لجنة التحكيم، وهي مكونة من الأستاذ العقاد والأستاذ توفيق دياب والأستاذ توفيق الحكيم والدكتور إبراهيم ناجي والدكتور محمد صلاح الدين، وقبل أن تبدأ في الاختبار وقف الأستاذ محمد فريد أبو حديد بك المدير العام للثقافة بوزارة المعارف، وألقى كلمة تحدث فيها عن قلق الشباب وحيرته وعام يدل عليه هذا القلق من الحيوية والاستعداد، ووجوب استغلاله في التوجيه والإرشاد. وقال إننا نريد بهذا المهرجان وغيره أن نكشف مواهب الشباب لنشجعها وننميها، وأشار إلى ما تعتزمه الإدارة من إنشاء نواد صيفية للشباب تتوافر فيها الوسائل المختلفة لتنمية المواهب الأدبية والفنية وغير ذلك مما يستغل

ص: 46

فيه وقت الفراغ استغلالاً نافعاً.

وتكلم الأستاذ توفيق دياب فقال إنه يلاحظ أن الحياة الثقافية عندنا تنقصها الروح والتشبع بالفكرة، وأننا نماثل الأمم الكبيرة في ضخامة الأبنية وفخامة المظاهر فقط دون أن يكون لدينا شعور قوي برسالة نؤديها، رسالة حاضرة يؤديها الأستاذ، ورسالة للمستقبل يستعد لها الطالب.

وقال الدكتور إبراهيم ناجي إنه وصل من دراسته النفسية لشبابنا أنهم مصابون بمرضين نفسيين: الأول تصيد الأمور وعدم فهم حقائق الأشياء، فكثيرون منهم يتصدون لقرض الشعر وكتابة القصة مثلاً، دون أن يعرفوا ما هو الشعر، ودون أن يقفوا على دقائق فن القصة. والمرض الثاني هو عدم وجود الأهداف أو تعددها، فإما أن لا يكون لهم هدف، أو يريد الواحد منهم أن يكون كل شئ.

ثم شرعت اللجنة في عملها، فأبلغت المتبارين موضوع الخطابة وهو هذا البيت:

من يهن يسهل الهوان عليه

ما لجرح بميت إيلام

ووزعت الدرجات على النواحي الثلاث التي يقدر فيها الخطيب وهي التفكير والأداء والتأثير. ثم تعاقب الأدباء من الشباب وكان الزمن المعين لكل منهم عشر دقائق. وكانوا خمسة عشر شاباً، بينهم فتاة واحدة، هي الآنسة عزيزة توفيق (وأخصها بالتسمية لأن الرجل لم ينل بعد المساواة بالمرأة!) ولا أريد أن أتعرض بالحكم عليها أو على غيرها من المتبارين، فالأمر للمحكمين وحدهم، أو - كما يقول زملاؤنا الصحفيون - بين يدي القضاة. . . ولكن لا أرى بأساً في بعض الملاحظات العامة

1 -

المفروض أن الخطيب إنما يخطب جمهوراً في أمر يهمهم أو قضية تشغل بالهم، فيعالج المسألة معالجة خطابية، ليؤثر فيهم ويوجههم إلى ما يريد، وطبعاً لا يكون ذلك حقيقة في المباراة بل يتمثله فيها الخطيب، وهل يقع في الحياة أن جمهوراً يشغل باله موضوع حكمة عامة ويتهيأ لأن يخطبه أحد فيها؟.

2 -

لذلك لاحظت أن أكثر الخطباء اتخذ القضية العربية والقضية المصرية موضوعاً لتطبيق هذه الحكمة وقصر كلامه عليها، على ما في ذلك من بعد عما تصدق عليه وهو الأفراد، أما الأمم فكثير منها يهون ولكن لا يسهل الهوان عليه، لأنه يتحفز ويتحين الفرصة

ص: 47

لنيل حريته.

3 -

انتهز أحد الخطباء الفرصة ووجه الكلام إلى المحكمين باعتبارهم من قادة الفكر، وقال لهم: دعونا من هذه المسابقة، ماذا فعلتم لعزة البلاد ودفع الهوان عنها؟ وهكذا قلب الوضع فأراد أن يمتحن الممتحنين. . ولكنها فورة الشباب. .

هذا وسيختار من هؤلاء المتبارين في الخطابة أربعة يمنحون جوائز، ويلقي الفائز الأول خطبة في المهرجان العام الذي سيقام في يوم 27 فبراير الحالي.

رقاعة فرنسية:

بعث إلى (المصري) مراسلها من باريس، بحيث جرى بينه وبين وزير الشؤون الإسلامية في الوزارة الفرنسية الجديدة؛ وقد تناول هذا الحديث موضوعاً اتجهت إليه أخيراً الإدارة الثقافة بالجامعة العربية، وهو أن يشمل التعاون الثقافي العربي البلاد المغربية. سأل المراسل الوزير الفرنسي: هل للجاعة العربية أن تحصل على موافقة فرنسا إذا عرضت عليها إرسال مندوبين فرنسيين وجزائريين ومراكشيين إلى القاهرة لتمثيل هذه البلاد في اللجنة الثقافية للجامعة العربية كما وافق فرانكو على إرسال مندوب عن مراكش الإسبانية في هذه اللجنة؟ فقال الوزير الفرنسي في إجابته: (أحب أن أقول لك أنه إذا ثبت قطعاً أن هذه اللجنة تعمل في نطاق ثقافي وروحي فقط فليس مستحيلاً أن تنفذ وزارة الشئون الإسلامية اقتراحك هذا).

ومن المحقق أنه لن يثبت قطعاً ولا من غير قطع أن لجنة الثقافة بالجامعة العربية تعمل في النطاق الثقافي الروحي الذي تريده فرنسا! كما أنه من المحقق أن الشعوب المغلوبة على أمرها لا يمكن أن تفصل بين الثقافة والسياسة إلا على أيدي الممالئين لغالبيها، والثقافة التي لا تبعث شعور الحرية وتغذيه إنما هي ثقافة العبيد.

وإذن فلن توافق فرنسا على إرسال مندوبين يمثلون البلاد المنكوبة بها في تنظيم التعاون الثقافي العربي. وإذا فرض أنه ثبت قطعاً. . الخ، فماذا تفعل فرنسا؟ تقول: ليس مستحيلاً أن تنفذ الاقتراح!

ومن الغريب مع هذا أن ينوه ذلك الوزير في حديثه بالعلاقات الثقافية بين فرنسا ومصر، فيشير بتبادل المحاضرين بين البلدين. . . إلى آخر هذا الكلام المعروف المحلول.

ص: 48

ومعنى كل ذلك أن فرنسا تريد أن توطد علاقاتها الثقافية بمصر التي تجمعها بالمغرب فكرة الوطن العربي الأكبر، وتعمل في الوقت نفسه على توطيد استعمارها للمغرب بقطع صلته الثقافية الطليقة في المشرق، ولها أنشأت (وزارة الشؤون الإسلامية) التي تقابل عند الإنجليز (وزارة المستعمرات البريطانية) مع فرق واحد هو انعدام الحياء في التسمية الفرنسية!

وبعد فانظر إلى تسمية هذه الوزارة، وأضف إليها ما انطوت عليه إجابة وزيرها، وخذ أيضاً تقطيع العلاقة الثقافية بين بلاد متحدة في الثقافة والدعوة أو الدعاية لتوطيدها مع جزء من هذه البلاد - ثم انظر ماذا نصنع بكلمة (الرقاعة) إن لم نضعها هنا.

العباس

ص: 49

‌سلالة يعرب

للأستاذ محمود غنيم

نسب أُدِل به على الأقمار

أنا من سلالة يعرب ونزار

وأولئك الشم الأباة أخوتي

والمكرمات شعارهم وشعاري

يا دار إسماعيل كيف وسعتهم

أشَرى أسود أم سماء دراري؟

أم أنت في وادي الكنانة دوحة

أخرى تشاهد بيعة الأنصار؟

حي الوفود تحية ممزوجة

بعبير غالية ونفح عُمار

واخشع إذا حدثت عن أسلافهم

أو زرت ما تركوا من الآثار

كانوا إذا رفعوا قواعد دولة

وضعوا العلوم مواضع الأحجار

حاطوا ممالكهم بعدل ملوكهم

كحياطة البستان بالأسوار

لم تكف هارون البسيطة كلها

حتى تحدى دولة الأمطار

كانوا وكان على البرية حكمهم

يمضي فصاروا قصة السمار

كانوا إذا نشروا السلام على الورى

رسلاً وإن خاضوا الحروب ضواري

من جندل الفلوات قدوا عزمهم

أو سيلهن الجارف التيار

ومن الحيا المدرار صيغ سخاؤهم

فسخاؤهم صنو الحيا المدرار

وتنفسوا ريح البوادي حرة

إن البوادي معدن الأحرار

المجد في الصحراء ينبت والعلا

بدل المروج الخضر والأشجار

إن كان للباري شعوب خصها

برعاية فالعرب شعب الباري

أو قيل: إن العالمين عناصر

فهمو همو حسباً وطيب نجار

خلق البرايا من تراب خالص

والعرب شيب ترابهم بنضار

قد وحدت أمم العروبة جمعها

توحيدها للبارئ القهار

حلف برئ القصد ما أوحى به

نزق الهوى أو حب الاستعمار

والحلف ما أوحت به الشهوات إن

هو قام قام على شفير هار

قل للعروبة: أنت دين آخر

دين المساجد أنت والأديار

لا تسأل العربي عن وطن فقد

محت الدماء فواصل الأقطار

ص: 50

بالضاد نحن وبالدماء قبيلة

وبوحدة الأهداف والأفكار

عدنان جدي والعروبة كلها

لي عترة والشرق أجمع داري

قل للكماة الذائدين عن الحمى

والمرخصين غوالي الأعمار

من كل زي أنف حمي بالردى

يرضى ولا يرضى هوان الجار

قد أرهف التاريخ غرب يراعه

ماذا يخط يراعه للقاري؟

الكون أنصت والأثير بمرصد

بدل الحمام يطير بالأخبار

نادت فلسطين الشهيدة فاستجب

يا سيف واخطب يا لسان النار

لا ترشقوهم بالزهور تحية

أهل القبور أحق بالأزهار

بل فارشقوا الأبطال في ساح الوغى

بذخيرة أو عسكر جرار

من كل أروع في ظهر جواده

ينقضّ إعصاراً على إعصار

حرب أثار الجائرون غبارها

ما كان لولاهم جورهم بمثار

هم أوقدوها فاجعلوهم فحمها

في يوم نحس شمسه من قار

يوم كيوم الروم في (اليرموك) أو

يوم كيوم الفرس في (ذي قار)

هذا تراث الراشدين وفتحهم

نفديه بالأسماع والأبصار

إن تعبثوا بتراثهم خلفتمو

في القبر أعظمهم بغير قرار

المسجد الأقصى الذي أسرى إلى

محرابه جبريل بالمختار

والقبلة الأولى لكل مكبر

في الأرض قبل البيت ذي الأستار

لا تبتنى الدولات حول موائد

كموائد الندمان حول عقار

لا تبتنى الدولات فوق خرائط

جدب الحقول نواضب الأنهار

الحق في عصر الحضارة يشتري

بالدرهم المضروب والدينار

أقسمت ما ردّ المظالم حاكم

عدل كحد الصارم البتار

قالوا: الحقوق فقلت هن قوائم

يصطدن من بحر الدماء الجاري

فاروق إنك للعروبة موئل

قوت الفقير بها وبرد العاري

إن أدلج الركب المغذ لطية

تنضي المطي فأنت نجم الساري

فاروق واسمك في العروبة أرغن

أشجى لها من رنة الأوتار

ص: 51

أنت الذي داويت معضل دائها

وأسوت ما جرحت يد الأقدار

خطت يمينك أس وحدتها وما

خطت يمينك ليس بالمنهار

محمود غنيم

ص: 52

‌رسالة النقد

مبادئ علم النفس العام

للدكتور يوسف مراد

بقلم الدكتور أحمد فؤاد الأهواني

كنا قد وجهنا إلى الدكتور يوسف مراد منذ عام سؤالاً في مجلة الكتاب، فحواه هل علم النفس علم أو فلسفة أو بين هذا وذاك؛ ولم يحر جواباً، وأبى أن يواجه السؤال، فقلت لعله يريد أن يفصِل المسألة، ويعد لها العدة، ويقرأ المراجع ويفيض في الجواب. حتى أصدر كتابه (مبادئ علم النفس العام) وهو يقع في أربعمائة صفحة من القطع الكبير، فحمدنا الله، وبادرنا إلى قراءته كي نستفيد منه هذا العلم الذي يقوم على تدرسه، وشغل كرسي الأستاذية في كلية الآداب.

وقد استباح الدكتور مراد لنفسه أن يحكم على كتب المؤلفين في علم النفس، ونصب الموازين التي يصدر بناء عليها حكمة عليها، فتراه يقول في التصدير (وهناك نقص آخر يكاد لا يخلو منه كتاب مدرسي في علم النفس، وهو عدم الربط بين الوظائف السيكولوجية والمظاهر السلوكية ربطاً كافياً مطابقاً للوقائع.). ويقول أيضاً (من واجب كل من يشرع في وضع كتاب في علم النفس لمعالجة جميع موضوعات العلم، كما تنص عليها عادة برامج الدراسة الثانوية في مختلف البلاد، أن يتوخى الأساليب العلمية التي تمتاز بالأمانة والدقة، وبضرورة التمييز بين ما هو يقيني وما هو عرضة للاحتمال والشك، وبين الوضع العلمي لبعض المشاكل كمشكلة الغريزة مثلاً، ووضعها الفلسفي) وفي التصدير إشارات كثيرة من هذا القبيل.

فهو يضع نفسه موضع المعلم لجميع من ألف في مصر في علم النفس. ونحن لا نرفض أن نتعلم من الدكتور مراد إذا كان حقاً في كتابه من الحقائق الموثوق بها ما نأخذ به.

ولسنا نجد جواباً صريحاً عن السؤال الذي وجهناه من قبل، ولكنه يوثر أن يعتمد في علم النفس الجانب التجريبي

أما الجانب الذي لم تتناوله التجارب، فإنه يقول فيه (إنه صورة لا تشمل كافة مسائل علم

ص: 53

النفس العام. فهي صورة ناقصة للحياة النفسية) ولا غرو في ذلك إذ كان المؤلف يقصر حديثه على الحقائق التجريبية الموثوق بها. وهو يشير هنا إلى كتاب وودورث في علم النفس التجريبي.

ونحن لا نقر وجهة نظر الدكتور مراد وزعمه أن علم النفس لا يكون علماً موثوقاً به إلا إذا كان تجريبياً، فهناك مسائل كثيرة لا يمكن أن تنالها التجربة من جهة، وليس من الضروري أن يكون العلم علماً لأنه تجريبي.

هذا الخطأ في فهم منهج علم النفس، جعله يقول في ص10 (ونحن ندرك هذه الأحداث من الداخل، مندمجة في حياتنا النفسية، بطريقة مباشرة وبوساطة حس باطن يسمى الشعور. ولكن إذا ظلت هذه الأحداث سراً مطوياً بدون أن تكون مصحوبة بتعبير لفظي أو حركي بقيت في نظر العلم كأنها غير موجودة. ولا تصبح هذه الأحداث الداخلية صالحة للمعالجة العلمية إلا إذا عبر عنها بواسطة حركات خارجية).

الله أكبر. . . كيف تزعم أن الإنسان حين يفكر بينه وبين نفسه، يكون هذا التفكير (غير موجود) وكيف تستبيح لنفسك أن تنطق باسم العلم فتنكر وجود هذه الأحداث الباطنية.

وكان خليقاً بك، إذا أردت أن تكون منطقياً مع نفسك أو مذهبك في إنكار هذه الأحداث الباطنة، ألا تذكرها بعد ذلك في كتابك، ولا تعتمد عليها. ولكنك مضطر إلى الاعتراف بها، لأن علم النفس لابد أن يقوم على التأمل الباطني، وهذا أحد مناهجه، ولذلك قلت في ص14 (أما الحالات الشعورية من حيث هي حالاتي أنا، أختبرها بنفسي وأحياها، فإحساسي بها إحساس مباشر. وتمتاز الشعوريات، كما أحس بها وكما أخبرها بنفسي، بكونها داخلية ومباشرة وتلقائية. .)

ونحن لا نجد هذا الاضطراب في المنهج الذي يسلكه المؤلف فحسب، بل في الموضوع كذلك. وهو أخطر فهو يقول في ص10، عن موضوع علم النفس. (وبعبارة أخرى، موضوع علم النفس هو الإنسان من حيث هو كائن حي يرغب ويحس ويدرك وينفعل ويتذكر ويتعلم ويتخيل ويفكر ويعبر ويريد ويفعل).

وواضح أن هذا هو التعريف الذي يرتضيه لعلم النفس. فهو يقول في ص11 (يستنتج أيضاً من تعريفنا لموضوع علم النفس أن لهذا العلم صلة وثيقة بعلمين هما علم الحياة وعلم

ص: 54

الاجتماع من جهة أخرى).

ونحن نحاسب الدكتور مراد بمقتضى كلامه، فهو يقول في استهلال الكتاب (يتميز كل علم من غيره بموضوعه ونهجه).

وقد رأيت أن المنهج الذي وضعه مضطرب، والموضوع الذي ينص عليه لا يرضى به العلماء، وقد ناقشه العلماء منذ زمن طويل.

ذكر الأستاذ ألفرد بينيه في كتابه (النفس والجسم) إن هناك سبعة تعاريف لعلم النفس، الميثافيزيقي، والعددي، والمنهجي، والتعريف بدرجة اليقين، وبالمضمون، وبوجهة النظر، وبالقوانين العقلية. وآخر هذه التعاريف هو الصحيح.

أما الثاني، وهو الذي جاء في كتاب الدكتور مراد، وهو الموسوم بالعددي أي بتعديد المسائل التي يتناولها موضوع العلم؛ فيقول فيه الأستاذ بينيه:(إنه يفيد بالتقريب الأولى للأشياء، وفي تذكير أولئك الذين لا يشكون في أن علم النفس يدرس أفكارنا. ومهما يكن العدد الحقيقي لهؤلاء الجهال؛ فإنهم، فيما أعتقد، عدد لا يحسب له حساب).

ويقول في ص12 (ولتحديد العلاقة بين الظاهرة وشروطها يستعان بالطريقة الإحصائية، ويوصف القانون العلمي بأنه قانون إحصائي).

ولسنا نفهم لماذا يقصر الدكتور مراد القوانين العلمية على الإحصاء فهناك قوانين ليس من الضروري أن تقوم على الإحصاء ويكفي أن ينظر العالم إلى بعض الحالات، دون أن يستقرئ أو يحصي جميعها. مثال ذلك تمدد الحديد بالحرارة، فإننا لا نحصي كل قطعة من الحديد، وليس في مقدورنا ذلك. والمنطق الحديث الذي ينحو نحو الإحصاء لا يقول عن القانون إنه (علاقة) كما قال، بل اقتران. . . وذلك ليفادى القول بالعلية.

ولسنا ندري لماذا يقول في ص13 (فاللغة إذن هي حلقة التصال بين علم الاجتماع وعلم النفس) أليس ذلك مما يتنافى مع القواعد التي سنها للباحثين في التصدير حتى يهديهم سواء السبيل فقال: (فهناك خطر جسيم يهدد الباحث في هذا العلم وهو التجريد، وما ينجم عنه من التبسيط المسرف المخل الذي يتحول بسهولة إلى إبهام وغموض)

ولسنا نريد أن نتعرض لأسلوب الكتاب ولغته، فليس الكتاب في الأدب وليس صاحبه ممن درس العربية أو يحسنها، غير أننا كنا نحب أن يتجنب مثل هذه اللفظة كالبطانة عند قوله

ص: 55

عن المؤثرات في الإنسان (من حيث هي معان لها بطانتها الوجدانية، ويمكن تصورها وإدماجها في منظومة ذهنية واستخدامها لإنشاء ضروب من الاستجابات الذهنية الصامتة أو اللفظية أو الحركية، تختلف باختلاف الغرض الذي يسعى إلى تحقيقه).

وليس هذا الأسلوب عربياً بل أعجمياً، لا يفهم القارئ منه شيئاً، أما (بطانة) فهي لغة البزازين لا لغة العلماء المتثبتين.

وبعد فقد عرضنا عليك نموذجاً مما جاء في هذا الكتاب من اضطراب في التفكير، وتناقض في الآراء، وأخطاء جسيمة في صميم العلم. ولا تتسع صفحات هذه المجلة لتعقب المؤلف في سائر الكتاب، فهو يجري على هذا النحو من الاضطراب والزلل.

ومادام الدكتور مراد قد نصب الموازين في صدر كتابه يحاسب بها الذين ألفوا في علم النفس، وقد ذكرنا لك طرفاً من هذه الموازين في سياق المقال، فنحن نرجو العلماء أن ينصبوا له نفس هذه الموازين، ليحكموا على مبلغ علم أستاذ علم نفس بالجامعة، وهو المسئول عن تثقيف الطلاب.

أحمد فؤاد الأهواني

ص: 56

‌البريد الأدبي

إلى الأستاذ علي الطنطاوي:

أعجبت كل الإعجاب بمقالك (حكمة القدر) فهو فلسفة صائبة في تفسير معنى القدر الذي تحير فيه الناس منذ القديم إلى اليوم؛ فهو تحفة أدبية لولا بقعة سوداء فيه طمست الحق والحقيقة جميعاً، وهي حكاية الطفلة (الحلوة) التي وقعت من الطبقة السادسة فنزلت إلى الأرض سليمة.

إن مخترع هذه الأكذوبة الفظيعة، ظن أن استعارة حبال الغسيل المتعاقبة في طبقة بعد طبقة لكي تتلقف الطفلة وهي هابطة إلى أن وقعت أخيراً على كومة رمل سليمة - تجوز على كل الناس على السواء.

دلني على بناية ذات طبقة سادسة في شارع عريض يكون في كل طبقة منها حبال غسيل فوق الشارع على مرأى من السابلة. وإن كانت فيجب أن تثب الطفلة إليها وثباً أو تقذف إليها قذفاً عمداً لكي تتلقاها الحبال لأن الحبال بعيدة عن الجدار. وإلا فإن وقعت وقوعاً تقع بين الحبال والجدار ولا يعيق هبوطها عائق. . حتى لو كانت الحبال شباكاً فلا تضبطها، وإن ضبطتها الشبكة الأولى فلا تسقط إلى الثانية؛ وإن اخترقت الأولى إلى الثانية تخترق الشباك الست، وأخيراً تقع على كومة الرمل عجينة مختلطة.

فهذه الحكاية أكذوبة، وإن لم تكن أكذوبة؛ تكن أعجوبة. والأعجوبة والقدر لا يجتمعان.

ولا بدع أن تكون أعجوبة إذا كان مخترعها قد أبطل فعل الجاذبية نصف دقيقة لكي تصل الطفلة إلى الأرض من غير زخم كما وقف يشوع بن نون (في التوراة) الشمس نصف ساعة لكي تنتهي المعركة بانتصار شعب الله المختار.

يا صاحبي في حوادث الزمن ألوف تريك حكمة القدر. فلماذا بنيت مقالك على أكذوبة الطفلة، ثم تدع الناس السذج يتناقلونها وهم يستشهدون على صدقها بالأستاذ علي الطنطاوي.

نقولا الحداد

أبو سفيان بن الحارث لا أبو سفيان بن حرب:

ص: 57

في كتاب من الكتب القيمة لكاتب من كتاب الشرق الأفذاذ ذوي اليد الطولى على العلم والأدب وقعت رواية أبيات في مناسبة من المناسبات، ولكنها فسرت على غير ما تعارفناه وتناقلناه في معناها. وعلى غير ما تدل عليه عوامل القصيدة التي قيلت من أجلها الأبيات لحسان بن ثابت يهجو بها أبا سفيان بن الحارث ابن عبد المطلب. وذلك أنه كان يهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وعبد الله بن الزبعري وعمرو بن العاص، وكان ينافح عن النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة من الأنصار: حسان بن ثابت، وكعب بن مالك، وعبد الله بن رواحة

وهي من قصيدة حسان الهمزية التي يمدح فيها قومه ويذكر نصرهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ويرد على أبا سفيان بن الحارث، أحد أولئك الشعراء الهجائين له كما بين ذلك في موضوعه من كتب السير وشروح الديوان. ومطلع القصيدة:

عفت ذات الأصابع فالجواء

إلى عذراء منزلها خلاء

وأما الأبيات فهاكها:

ألا أبلغ أبا سفيان عني

فأنت محوف نخب هواء

هجوت محمداً فأجبت عنه

وعند الله في ذاك الجزاء

أتهجوه ولست له بكفء

فشركما لخيركما الفداء

ولعل في قول الشاعر هجوت محمداً وقوله أتهجوه ولست له بكفء ما يوجه إلى ذلك التفسير الذي قلنا به، فإن الذي قد درج من معنى الهجاء هو ما يكون من نوع الشعر.

ولم يكن أبو سفيان بن حرب ممن عرفوا بنصب أنفسهم لذلك، وإنما الذي عرف له هذا الوصف هو أبو سفيان بن الحارث وإن كان كل منهما إذ ذاك عدواً شديد العداوة للنبي صلى الله عليه وسلم.

فإن كان لدى سيدي الكاتب الأديب نبأ أصح مما نعلم فليتفضل وليفدنا فكلنا كارع من حياضه قاطف من أزهاره.

وإن يكن ذلك شيئاً سبق به القلم فهو كبوة الجواد. ويحضرني في هذه المناسبة ما وقع للإمام الجاحظ في تفسير كلمة (اللحن) وقد وقعت في أبيات لمالك بن أسام بن خارجة الفزاري من شعراء الدولة الأموية منها البيتان.

ص: 58

حديث ألذه وهو مما

ينعت الناعتون يوزن وزناً

منطق صائب وتلحن أحيا

ناً وخير الحديث ما كان لحناً

يقول الشاعر إن هذا الشعر لمالك يقوله في استملاح اللحن في الكلام من بعض جواريه وهو من أوهام الجاحظ.

قال علي المنجم: قلت للجاحظ: إني قرأت في فصل من كتابك المسمى كتاب البيان: إن مما يستحسن من النساء اللحن في الكلام وأنشدت بيتي مالك بن أسماء. قال هو كذلك. قلت أما سمعت بخبر هند بنت أسماء مع الحجاج حين لحنت في كلامها فعاب ذلك عليها، فاحتجت ببيتي أخيها فقال إنما أراد أخوك أن المرأة فطنة فهي تلحن بالكلام إلى غير المعنى في الظاهر لتوري عنه ويفهمه من أراد بالتعريض كما قال الله سبحانه (ولتعرفنهم في لحن القول) ولم يرد أخوك الخطأ في الكلام، والخطأ لا يستحسن من أحد. فوجم الجاحظ وقال: لو سقط إلي هذا الخبر ما قلت ما تقدم. قال فقلت له: أصلحه؛ قال: الآن وقد سار الكتاب في الآفاق؟

وفي المسألة بحث بين الأدباء. والظاهر أن المعنى في شعر الفزاري من قبيل المعنى في شعر النظامي:

يقتلننا بحديث ليس يعلمه

من يتقين ولا مكنونه باد

فهن ينبذن من قول يصبن به

موقع الماء من ذي الغلة الصادي

وهو الذي ذهب إليه أبو الطيب في قوله:

وإذا الفتى ألقى الكلام معرضاً

في مجلس أخذ الكلام اللذعني

أما إرادة اللحن الحقيقي فبعيدة جداً لأن اللحن لا يستحسن من أحد كما قال الحجاج ولاسيما في صدر دولة بني أمية. ولئن استحسن من المرأة في بعض مناسبات فإن كلمة الشاعر عامة مطلقة. وخير الحديث ما كان لحناً.

فإن حمل ذلك على التخصيص في الحديث يجعله مصروفاً إلى حديث المرأة فأقرب به من التكلف من غير مبرر من ذوق سليم.

وبعد فلعلي لا أكون قد جاوزت قدري بمراجعتي علماً من أعلام الأدب، فإن الحق ينطق، والحق ضالة كل حكيم وعليم.

ص: 59

محمود النواوي مدرس البلاغة والأدب بمعهد القاهرة

النساء ملائكة:

إي والله، هكذا يدعي الأستاذ محمود يوسف الأمين بدار الكتب المصرية في كتاب له بهذا الاسم أصدره في هذا الشهر وحشده بصورة عارية آثمة، وهي طعنات في صميم الأخلاق والفضيلة. ولست أدري، والله، كيف يجرؤ رجل له خلق ودين على أن يحمل هذا الكتاب إلى بيته؛ فيراه أخ له أو ولد، فتثور في نفسه أحط الغرائز، وأخبث النزعات؛ أو تراه أخته، أو بنته، أو زوجته فتتعرض لامتحان لئيم وضيع لا نستطيع تحديد آثاره أو أخطاره.

الواقع أن كثيراً من كتابنا وأدبائنا قد جاروا المرأة المعاصرة في حريتها وانطلاقها فسوغوا لها الآثام، وشجعوها على الإجرام وزينوا لها ما أتت من مقابح ومآثم، على الشواطئ، وفي الملاهي والمراقص والمواخير والحفلات الماجنة الداعرة. بل حاول بعضهم في خبث وإجرام أن يلتمسوا لحرية المرأة وانطلاقها على وجهها شواهد من ماضي الإسلام؛ فحرفوا الكلم عن مواضعه، وأخطأوا في التأويل عن عمد أو عن غير عمد. وقد آن الأوان لكي يتنبه إلى تلك المشكلة أحرار الرجال وقادة الفكر والإصلاح الاجتماعي في الشرق الإسلامي؛ فإن حالة المرأة اليوم هي مشكلة المشكلات في عصرنا الحاضر؛ لأن المرأة قلب المجتمع، والقلب كما يقول محمد العظيم عليه الصلاة والتسليم: مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله!. . .

ولو أننا عرّفنا المرأة رسالتها في الوجود، وقصرناها عليها رغباً أو رهباً، ومنعناها من الميادين التي لا تصلح لها لسعدت النساء، وسعد الرجال، وصلح الحال!. . .

ولكن ماذا نفعل وقد قيض الله المرأة الشرقية المسكينة من قرناء السوء، وشياطين الإنس، وأبالسة البهتان، من يغرها ويخدعها ويكذب عليها ويتقرب إليها؛ لا ليسعدها، بل ليقضي على البقية الباقية من شرفها وعرضها.

حسبكم عبثاً أيها المؤلفون، وأنقذوا المرأة من هذا المنحدر، واذكروا أنكم رجال!. .

أحمد الشرباصي

المدرس بمعهد القاهرة الثانوي

ص: 60

جاء في البريد الأدبي من العدد (763) تعليق على كلمة في مقالة (الفتنة الكبرى) يسأل السائل فيها عن صحة الكلام في قوله تعالى: (وهذه الخمسة أشياء) وصواب قراءة هذه الجملة: (وهذه الخمسة - أشياء) وقراءتها هكذا تعرب عن إعرابها.

محمود محمد شاكر

ص: 61

‌القصص

نهاية حب

للأستاذ زهدي الشواف

(بقية ما نشر في العدد الماضي)

وبعد هذه المقابلة تغيرت (نانو) علي، فراحت تبخل بابتساماتها الغراء، وباتت تقتصد بنظراتها العرجاء. . . لقد أصبحت (نانو) تتيه علي، وكان تيهها ذا معنى خاص لم أستطع فهمه!. . . أتراها حسبت أني موله بثغرها الأدرد؟. . أم تراها ظنت أني مدله بوجهها الأجعد!. . هذا مستحيل!. . إن للحب دائرة موصدة في أوجه الشياطين!. . . إن في الحب نفحة سماوية لا يدركها أولئك الذين التصقوا بالأرض فلم يتجهوا بأعينهم إلى السماء ليبصروا ما أبدع الله فيها من جمال!. . إن في الحب وقف على القلوب الزاخرة بالحياة، الشاعرة بجمال الوجود؛ أما (نانو) فإنها بعيدة عن الحياة. . . بعيدة عن الحب. . . إن الحب ليلفظها لفظ النواة!. . إذاً ما بالها تتيه علي؟. . هذا سر مستغلق!. . وما أكثر ما يستغلق على المرء من أسرار!.

ما (نانو) ومالي!. . إنها وسيلة غير صالحة للوصول إلى آنستي. وقد بقيت يومين أفكر، لم أذق خلالهما طعاماً ولم أرق في فمي شراباً. وكان من نتيجة تفكيري أني عولت على أن أكتب إلى آنستي رسالة أشرح فيها حبي وقمت إلى مكتبتي وأمسكت بالقلم وأخذت أشرح ما يخاطرني من أشواق. ثم ختمت الرسالة بالكلمة التالية:(أي آنستي!. . . إني لأرجو منك أن تعلميني رأيك صريحاً. . . فإما قبول أنعم فيه بعطفك، وإما رفض يبرئني من حبك. . . وإني لأنتظر كلمتك الفاصلة آملاً أن ألقاها غداً معلقة في مصراع الشباك. . .)

ولم تكد شمس الغد تطلع حتى كنت أمام المنزل أنتظر. وبعد فترة وجيزة بصرت بالقطة الحبيبة تمد رأسها من الباب، فلوحت لها بقطعة لحم كنت أحضرتها من السوق، ولم تكد تراها حتى عدت نحوي فأمسكتها بيدي وربطت الرسالة في عنقها وتركتها تعود أدراجها.

ولما كان الغد دلفت إلى المنزل وأنا أقدم رجلاً وأؤخر رجلاً. لقد كان قلبي يخفق هلعاً، وكانت عيناي تتشوقان وكأنهما تتحريان شيئاً مضاعاً. وكان ذهني غارقاً في التفكير أي

ص: 62

غلطة هذه الغلطة التي ارتكبتها؟ وأي حماقة هذه الحماقة التي أتيتها؟. وهل ثمت أكثر جنوناً من فتى يسلم سره إلى قطة!؟ إن كل ما كنت أخشاه هو أن تكون الرسالة قد وقعت في يد غيرها فينفضح الأمر، ويطلع الأهل على السر.

وما كدت أدنو من المنزل حتى لمحت قطعة من الورق معلقة في النافذة، ومددت يدي المرتجفة فأخذتها وفتحتها وقرأتها!. . يا للسعادة!. . . إنها من آنستي. . . آنستي الحبيبة. . . يا للعجب إنها تدعوني لمقابلتها بعد منتصف الليل في بيتها!. هذا لا يكاد يصدق. . . يا لله!. . أتراني في اليقظة أم في المنام!. . ماذا أصابها فبدلها؟. . وماذا عراها فغيرها؟. . أيكون الصدود الذي كانت تبديه مجرد وهم باطل ألجأها إليه عيون القوم المفتحة حولها؟ هذه هي الحقيقة بعينها. . . إنها تحبني وتحبني ولكنها لم تكن لتجرأ على البوح بهذا الحب!. . . غفرانك يا آنستي!. . . لقد اتهمتك بالقسوة ولكني كنت مخطئاً في ظني، وإن بعض الظن إثم.

لقد قرأت الورقة ثم طويتها، ورحت أنتظر الساعة الموعودة بفارغ الصبر، ودقت الثانية عشرة، ثم الواحدة بعد منتصف الليل؛ فانحدرت إلى المنزل والآمال المعسولة تحدوني. ولم أكد أصل الباب حتى وجدته مفتوحاً، ولم أكد ألجه حتى وجدتني أمام شبح لم أتبينه لشدة الظلام. . . إنه ولا ريب شبح آنستي المحبوبة. . .

وتقدمت منها وأنا لا أكاد أصدق نفسي! وعرتني رعشة من الفرح كادت تنسيني صوابي، وانحنت آنستي عليّ وراحت تمطرني بوابل من القبل؛ فانتشيت من السرور ومددت يدي محاولاً لمس ثغرها. . . وكم كانت دهشتي عظيمة حين وجدت أن يدي قد دخلت في فوهة لا قرار لها. . يا إلهي!. . أين الأسنان الناصعة، أسنان آنستي المحبوبة؟

وفتحت عيني وحدقت في الثغر الذي كان يقبلني، إنه ثغر أورد وأمعنت النظر بالوجه الذي يقابلني. . . يا للغرابة!. . . إنه وجه (نانو) العجوز التي أبغضها. ولا يستطيع أن يتمثل خيبتي هذه إلا أولئك المقامرون الذين أضاعوا في ثانية واحدة كل ما قد ربحوه في ساعات. لقد تبدلت عواطفي بعد اشتعالها وخمد الدم في عروقي. وما هي إلا ساعات معدودات حتى انقلب التبلد العاطفي إلى ثورة غضب كادت تطيح بصوابي فانقضضت على (نانو) ودفعتها بيدي دفعة قوية فسقطت مغشياً عليها.

ص: 63

ولقد خشيت الفضيحة فحاولت أن ألوذ بالفرار، ولكني حين هممت بفتح الباب غشيت عيناي فلم أعد أبصر شيئاً. ولقد زاد في ارتباكي أني سمعت وقع أقدام متجهة نحوي. . . إنه رب البيت. لقد نبهه صوت وقوع (نانو) فجاء يستطلع الخبر. يا للكارثة! إنه يحمل في يده عصا غليظة لو أهوى بها على جدار لدكه. ولقد حاولت أن أجد لنفسي مفراً ولكن سهمي قد طاش فلم أعد أدري ما أصنع. ولم أجد بداً من طلب الأمان.

ولقد عجب رب البيت من أمري: إن ملامحي لا تنبئ عن سوء الطوية الذي أتى بي إلى بيته بعد منتصف الليل؟. . هذا سر لم يستطع له تفسيراً. وحاولت أن أفضي له بالحقيقة الواقعة، ولكن هل يصدق أن (نانو) تحب. . إنه سيتهمني بالجنون وسيرميني بالكذب. . ولم أجد بداً من اللجوء إلى الحيلة فادعيت أن كلباً عقوراً تبعني في الشارع وحاصرني فلم أستطع الخلاص منه. واتفق أن مررت بالقرب من باب هذا المنزل فوجدته مفتوحاً، فولجته وسرعان ما اصطدمت بشخص ارتاع من دخولي فسقط مغشياً عليه.

وكانت (نانو) قد أفاقت من غشيتها وسمعت كلامي. ويبدو أن هذا التخلص الحسن قد أعجبها؛ فأنبأت رب البيت بأنها قد نسيت الباب مفتوحاً منذ المساء، وأنها استفاقت عند منتصف الليل وذكرت ما قد نسيت فخرجت تغلقه فكان أن صدفتني.

وقد جازت هذه الحيلة على رب البيت فأحسن بي الظن، ورثى لحالي، وطيب خاطري ثم فتح لي الباب، وتركني أنصرف بسلام.

ولقد خرجت من البيت وآليت على نفسي أن لا أعود إليه ثانية. لقد ألقيت شبكتي طامعاً بالسمكة الجميلة ولكني لم أعثر إلا على سلحفاة بشعة. ولقد خشيت أن ألقيها ثانية فأعثر على ثعبان يقضي على حياتي. لقد خرجت من البيت بعد أن نذرت التوبة عن الحب. نعم لقد تبت ولقد مضى علي سنون عدة ركن قلبي خلالها للسكينة، وارتاح للهدوء لولا بعض نزوات كانت تعتاده في الفترات فيتحرك بين أضلاعه، ويحاول الانطلاق من أغلال التوبة ولكنه سرعان ما يذكر العيون الزرقاء، ويتخيل (نانو) العجوز؛ فيعود إلى هدوئه ويخلد إلى سكينته وهو يقول:(إني تبت عن الحب منذ زمن بعيد. . .)

(حماه - سوريا)

زهدي الشواف

ص: 64