المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 765 - بتاريخ: 01 - 03 - 1948 - مجلة الرسالة - جـ ٧٦٥

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 765

- بتاريخ: 01 - 03 - 1948

ص: -1

‌من مذكراتي اليومية:

قصة فتاة. .

- 2 -

يوم الثلاثاء 8 مايو سنة 1945:

شغلت بالي الآنسة (س) بقدومها المفاجئ وموعدها المضروب، فجهدت أن أتذكر ما أُنسيت من تلك الوساوس التي كان يلقيها على صدرها الشيطان فتنفثها هي في رسائلها إليّ شواظاً يضطرم ولا يحرق، وسعاراً يحتدم ولا يُذوي. وهل أستطيع أن أتذكر أضغاث أحلام تذهب عند الصباح، أو هواجس أوهام تهرب من العقل؟ لقد كانت في رسائلها أشبه بالمحمومة تهيج بها الحرارة فتهذي، أو يأخذها النعاس فتحلم. إذن أعود إلى أوراقي الخاصة لعلي أجد في ثناياها بعض تلك الرسائل فأعيد قراءتها لأستجلي ما غمض في ذهني منها، ولأستعد لما أتوقع يوم اللقاء من الحديث عنها

وجدت بتوفيق من حسن الحظ طائفة من هذه الكتب الوردية الورق، المعطرة المداد، المنمقة الخط، فرتبتها على حسب تواريخها ثم أخذت أقرأها كتاباً بعد كتاب حتى فرغت منها، وفي نفسي لهذه الفتاة صورة مكتملة الأعضاء ما كانت لتبرز في ذهني على هذا المثال لو بقيتُ على تصورها من كتبها المتفرقة، كل عضو على انفراد، ول قَسَمة على حِدة.

كان أسلوب رسائلها في طورها الأول أسلوب التلميذة الراغبة في العلم: تشاور فيما تفعل، وتسأل عما تجهل، وتجادل فيما أجيب. ثم صار في طورها الثاني أسلوب الصديقة الطامعة في المعونة: تشكو ضيقها لتلتمس الفرج، وتصف وحشتها لتطلب الأنس، وتذكر خطأها لتتلمس الصواب، وترسم غايتها لتتبين الطريق. ثم أصبح في طوره الثالث أسلوب العاشقة الظامئة إلى الغزَل: تعطف كل حديث إلى الحب، وتقصر كل نعيم على الحب، وتحاول أن تعرف رأيي في الحب، وتسألني أن أروي لها ما قيل في الحب، وتطلب مني أن أكتب رسالة غرام إلى آنسة مجهولة، لتعرف كيف تهفو روح إلى روح، وتنجذب نفس إلى نفس، وينسكب قلب في قلب، فأحاول في ردي عليها أن أعيد السكينة إلى قلبها، وأن أصل بالموعظة الحسنة بينها وبين ربها، ولكني كنت معها أشبه بالسائس يريد أن يكبح الفرس

ص: 1

الجموح من غير شكيمة، أو بالسائق يحاول أن يقف السيارة المنحدرة من غير فرملة. لقد انفجر في صدرها شريان العواطف الطاغية، فهو لا ينفك يفور بالهوى الجياش وينفح بالشهوة الدافقة. وهيهات أن يحسمه رَقوء أو ضماد! أعياني الانفجار فتركت العرق العاند ينزف، ووقفت منه موقف الحائر المشدوه أنظر إلى العواطف المسفوحة وهي تتمثل في ألوان قوس الغمام، وتتشكل في صور من الأخيلة والأحلام، ثم تتحول إلى قطع من الأسجاع والأنغام، فأعجب أو أطرب أو أغضب، ولكني لا أملك غير ذلك، ولا أستطيع وا أسفاه أن أصدها عن هذه المهالك!

أخذت كتبها تنثال علي بعجيب الأحاديث وغريب الحوادث فأقرأها ولا أجيب عنها. لقد برزت في رسائل هذا الطور عارية، فلا حياء على الوجه، ولا احتشام على الجسد. صرحت بأنها لم تكن صادقة حين كتبت إليّ في أول الأمر تطلب المعرفة أو تبغي النصيحة، إنما لبست هذا البرقع الكاذب لتستطيع أن تدخل علي في وضح النهار من الباب العام، حتى إذا حصل التعارف وبدأ التآلف حسرت برقع الرياء ووضعت وجه المرأة أمام عين الرجل وقالت له! ها أنا ذي كما خلقني الله ووجهني القدر! خلت حياتي من كل عمل ومن كل أمل فلا أفكر إلا في الحب، ولا أحلم إلا بالحبيب. كنت في المدرسة الداخلية لا أسمع من أترابي غير أحاديث الهوى، يؤلفنها في حوادثهن وخيالهن، أو يسرقنها من أمهاتهن وأخواتهن، أو يروينها عن جاراتهن وصديقاتهن. فصديقتي فلانة تقول لي إنها عرفت صاحبها من النافذة، وراسلته مع الخادمة، وقابلته في سينما مترو! وصديقتي علانة تروي لي أن صاحبها صديق أخيها، عرفته في غرفة الاستقبال، وكلمته في حديقة المنزل، ثم واعدته في حديقة الأسماك! وصديقتي ترتانة تحكي لي أن صاحبها صاحب سيارة - والسيارة لو تعلمين فخ البنات - رآني أول مرة وأنا عائدة وحدي إلى البيت، فعز عليه أن أمشي، وناشدني الله أن أركب، فركبت وتعاهدنا على الوداد المحض في طريق الماظة! وكانت كل واحدة منهن تصف القبل الطاهرة، والعناق البريء، والحديث الغزِل، والخلوة العفيفة، والخروج المختلَس، والرجوع الخفي، والعلل المكذوبة، والمواعيد المضروبة، بأسلوب يحرك الساكن ويظهر الباطن ويجرئ الهَيوب، وأنا أصغي إلى هذه الأحاديث بحواسي الخمس، حتى إذا خلوت بنفسي ورقدت على سريري استذكرت هذه الأحاديث،

ص: 2

واستحضرت تلك الصور، فأشعر بقلبي يذوب، وبجسمي ينحل، وبنفسي تسّاقط حسرات على مجهول لا أعرفه ومطلوب لا أناله. وفي أكثر أيام الآحاد كانت إحدى قريباتي تجيء إلى المدرسة فتستأذن لي في الخروج وتذهب بي إلى دور السينما فأرى أحاديث رفيقاتي وأمانيّ نفسي مصورة على الشاشة بالألوان الفاتنة والأوضاع المغوية، فينماع جَلدي كما ينماع الثلج، ويذوب صبري كما يذوب الشمع، وأتمنى لو لم تكن معي قريبتي، أو كانت قريبتي في سن رفيقتي! ثم استشعر الحزن الممض والهم المبرح كلما تذكرت أني سأعود وحدي إلى الغرفة الموحشة والفراش القلق.

وأخيراً تركت حياة المدرسة وجو القاهرة، إلى حياة العزبة وجو الريف. جئت هذه العزبة التي وصفتها لك من قبل وفي ذاكرتي أجناس من أحاديث الهوى، وفي حقيبتي أكداس من قصص الحب. فاتخذت من قمرية الحديقة محراباً لكيوبيد أؤدي فيه صلواتي، وأتقرب إليه بنزواتي وصبواتي، والروايات الماجنة تثير عواطفي، والمجلات الخليعة تلهب مشاعري، والرغبات الجامحة تملأ فراغي، وليس بجانبي أم ترشد، ولا بين جوانبي عقيدة تهدي؛ فأنا أعيش في دنيا القصص أقاسم بطلاتها قطوف اللذة، وأساقي أبطالها كؤوس الصبابة، فإذا سأمت القراءة وأجمت الذكرى سيلت همي برؤية حمامة تلاطف حمامة، أو قط يسافد قطة، أو فلاح يداعب فلاحة، حتى ضاق وسعي بما أختزن من ذكريات أمسي ورغبات يومي، فأردت أن أجد لي متنفساً بالكتابة، ولكن الكتابة لم تردّ عليّ، لأنها مني وعني وإليّ. أريد أن أكون موضوعاً لمقالة أو حديثاً لرسالة أو عروساً لقصة؛ ولا يمكن أن أكون شيئاً من ذلك إلا إذا عشقني كاتب. فالكاتب وحده هو الذي يستطيع أن يحب من بعيد! يستطيع بفنه الخالق وخياله المبدع أن يعايش من يحب روحاً لروح، فيقابله من غير لُقية، ويحادثه من غير رؤية، ويرسل إليه الكتاب فيكون هو اليوم الموعود واللقاء منتظر والحديث المشتهى والأمل المرجو والوداع والمتوقع! ولقد اخترتك لتكون حبيبي النائي، تصف مني ما وصفت من (حياة) و (ليلى)، وتترجم عني ما ترجمت عن (شرلوت) وجوليا. وليس في منطق الحب أن أقول اخترت فتختار، أو أردتُ فتريد. إن سلطان الحب طاغ لا يخضع لاختيار ولا يخشع لإرادة. وكيف يتسنى لنا أن بتحابّ ونحن لا نتراءى؟ لو كنت أملك رؤيتك لأمكن أن يأسرك جمالي، أو لو كنت أحسن الكتابة لجاز أن يسحرك خيالي. إنما هو

ص: 3

الرجاء والحظ، وهو القضاء والقدر.

هذه خلاصة أمينة لما قرأت من رسائلها في هذا اليوم أسجله في مذكراتي، وما أسجل فيها إلا ما له أثر في نفسي أو خطر في حياتي.

احمد حسن الزيات

ص: 4

‌مراجعات

في فلسفة الوجود، وفي الفاروق

للأستاذ عباس محمود العقاد

ظن الأستاذ نقولا الحداد أننا تهكمنا حين قلنا له ما فحواه: إنه محتاج إلى أن يراجع مصادره الفلسفية.

وسيرى الأستاذ الآن أننا نجد ولا نتهكم حين نقول له أكثر من هذا: إن مرجعته لمصادره العلمية ألزم وأعجل، ولاسيما مصادره عن أينشتين الذي يلوح على الأستاذ الحداد أنه يريد أن يتكلم عنه في مصر كما يتكلم الحواريون عن رسلهم المختارين.

في شهر يونيو سنة 1930 ألقى العلامة أينشتين في جامعة نوتنجهام - بإنجلترا - محاضرة علمية كان لها دوي كبير في المعاهد العلمية والفلسفية، لأنه ألمع فيها إلى خاطرة جديدة يحاول أن يفسر بها اتصال القوى بين الأجسام بغير الوسائط المفروضة، وتحدث عن جوهر الفضاء، أو مادة الفضاء، أو المادة الفضائية لأن التجارب الكثيرة لم تثبت للأثير المزعوم وصفاً من الأوصاف لا ينطبق على الفضاء. فمن المحتمل على هذا التقدير أن يكون الفضاء جوهراً مادياً لا نحتاج معه إلى فرض الأثير.

ولم يكن إينشتين أول من قال إن الفضاء ليس بخلاء؛ فإن الفلسفة القديمة التي يحاول الأستاذ الحداد أن يترفع عنها، قد سبقت إلى القول بامتناع تصور الخلاء في الوجود، وقال معظم أساطينها بأن الفضاء لا يعني العدم ولا يعني الخلاء.

قلنا هذا للأستاذ الحداد فعاد يكتب في الرسالة قائلاً - بكل ثقة واطمئنان -: إن إينشتين لما قال عنى المكان المشغول بالمادة ولم يعن الفراغ المطلق. فمتى قلنا المكان عنينا مكاناً مملوءاً بالمادة.

والعجب أن يخطر للأستاذ الحداد - أو لغير الأستاذ الحداد - أن جامعة من الجامعات تدعو عالماً من أكبر علماء الأرض إلى المحاضرة فيها فيقول للناس أن المقصود بالمادة الفضائية هي المادة التي توجد في المكان.

والعجب أن يخطر للأستاذ الحداد - أو لغيره - أن المعاهد العلمية تهتز لهذا النبأ وتوفد الرسل إلى إينشتين لتحصل على المزيد من شرح هذا الرأي الجديد.

ص: 5

ولكن الواقع أن المعاهد العلمية قد اهتزت لهذه المحاضرة، أو لهذه النظرية؛ لأنها فهمت منها شيئاً غير الذي فهمه الأستاذ الحداد: فهمت منها أن الفضاء نفسه مادة قد تغني عن فرض وجود الأثير.

وليس أكثر من الكتب والرسائل التي خاضت في هذا الموضوع، ولكننا نكتفي منها برسالة مبسّطة أصدرتها دار الطباعة التي يديرها (هالدمان جولياس) في كانساس بالولايات المتحدة؛ لأن السؤال فيها بسيط لا إبهام فيه، والجواب كذلك على قدر السؤال.

سئل الدكتور لويس لونشنين تلميذ إينشتين وشارحه المعروف عما يعنيه أستاذه الكبير. فقال ما نصه بالإنجليزية:

' '

وترجمة هذه العبارة: (إن إينشتين يذهب إلى أبعد من هذا. ويزعم. . . أن الفضاء الذي كان في عصور متقدمة يعتبر خلاء، واخترعوا له في علم الطبيعة الحديث اسم الأثير للاستعانة به على تفسير بعض الظواهر الطبيعية التي تقع في الفضاء، وهو الآن مادة، أو جوهر.

ومضى الدكتور لوينشنين يقول إن مادة إينشتين الفضائية قد يتضح أن تكون من جوهر لن تدركه حواسنا ويروع من كل دليل مباشر في المعامل.

أما الدكتور لونشتين هذا فهو الذي قدم إينشتين إلى الجامعات وقاعات المحاضرات عند زيارته للولايات المتحدة في سنة 1921. وهو على علمه بمباحث الضوء والكهرباء، حجة في شؤونها العلمية ومستشار فني معروف لشركات من أكبر الشركات الكهربائية، وعلمه بهذه المسائل لا يقل عن علم الأستاذ الحداد على أقل تقدير.

فليس قصارى الأمر أن الفضاء لا يوجد إلا إذا وجدت فيه هذه المادة التي نعرفها. بل تقضي هذه الخاطرة بأن الفضاء نفسه هو مصدر تكوين المادة، وأن جوهره قد يدق عن الحس وعن التجارب في معامل العلماء.

والأستاذ الحداد يقول بأن الوقت عدم أو وهم من الأوهام.

فله أن يضيع منه ما يشاء. أما نحن فلا نقول بأنه عدم ولا بأنه وهم. ولهذا لن نضيع منه

ص: 6

أكثر مما أضعناه في إقناع الأستاذ الحداد بأنه محتاج إلى التواضع بين يدي الفلسفة التي يعالجها، على هذا النحو من التفكير.

هذه مراجعة.

أما المراجعة - أو المراجعات الأخرى - فهي عن صفات الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهي مما نتلقاه كثيراً في هذه الأيام من جانب الأساتذة، ومن جانب التلاميذ والتلميذات

وبودنا أن نجيبها جميعاً لولا أن السؤال عن المفردات اللغوية يغني فيه الرجوعاللغوية يغني فيه الرجوع إلى المعجمات، ولا تتسع له الصحف والمجلات التي يقرأها من يعرفون تلك المفردات، أو يملكون الرجوع إلى تلك المعجمات.

ولهذا نكتفي بالجواب عن المسائل الفكرية أو النفسية، وهي المسائل التي يسرنا من التلاميذ والتلميذات على الخصوص أن يقبلوا على بحثها والنظر في معانيها وتكوين الرأي في دقائقها بالمراجعة والاستفسار.

سأل أستاذ فاضل عن أسلوب عمر فقال إن بعض العبارات التي نسبت إلى عمر قد تكون من قبيل العبارات التي تضاف إلى العظماء المشهورين، وليست هي من أقوالهم على التحقيق.

ورأينا في هذا أن ميزان التشكيك ينبغي أن يحمل بكفتيه ولا يحمل بكفة واحدة.

فإذا كان العظماء جميعاً سواء في نسبة العبارات إليهم، فهل اجتمع مثل هذه العبارات فيما نسب إلى الصديق؟ هل اجتمع مثلها فيما نسب إلى الإمام؟ وهل اجتمع مثلها فيما نسب إلى معاوية أو إلى عمرو بن العاص؟

إن كان الأسلوب واحداً فيما نسب إلى جميع هؤلاء فالشك هنا معقول.

أما إن كانت العبارات المنسوبة إلى عمر كلها مما تنفرد به، فهي صالحة للاستدلال بها على أسلوبه الخاص الذي لا يشركه فيه سواه، وبخاصة حين تتواتر ذلك التواتر الذي أحصينا شواهده في الكتاب.

وسأل الأستاذ الفاضل عن قصة الحيلة التي استغلها عمر مع أبي سفيان حين مد يده إلى خاتم في يد أبي سفيان فأخذه منه وبعثه إلى زوجته، وأمر الرسول أن يقول لها باسم

ص: 7

زوجها: انظري الخرجين اللذين جئت بهما فابعثيهما.

ويقول الأستاذ إنه يخالف الرواية ويرى أن عمر كان أولى أن يبهم العدد لأنه ربما يكون في العدد الذي ذكره نقص أو زيادة.

ورأينا أنها رواية أمامنا، وأن الجزم بنفيها هو (الادعاء) الذي يقوم على غير دليل لأن الجزم بالنفي هنا حكم باستحالة جميع الاحتمالات التي تقع في الخاطر، وليس شئ منها بمستحيل.

فمن المحتمل أن عمر كان يعرف عادات السروات من العرب في رحلاتهم، أو يعرف على التخصيص عادات أبي سفيان.

ومن المحتمل أن عمر استكثر ثلاثة أخرجة على رحلة واحدة، واستقل خرجاً واحداً يعود به أبو معاوية من عنده وهو أمير علي على الشام؛ فتوسط بين العددين.

ومن المحتمل أن عمر رأى ضرورة التحديد؛ لأنه لو طلب كل ما جاء به أبو سفيان من أمتعة السفر لاسترابت زوجة أبي سفيان وفطنت لما يراد. فجازف هذه المجازفة - بعد ذلك التقدير - وصحت مجازفته فحفظت ورويت، ولو لم تصح لما سمعنا بها أو لسمعنا من شأنها غير ذاك.

ومن المحتمل أن عمر قد علم بنبأ الخرجين وكانت له عيون تترقب العائدين من الرحلات، كما ذكرنا في الكتاب.

فلماذا ندعي أن الذي حصل هو غير ما جاء في الرواية، وليس لدينا ما نمنع به احتمالاً واحداً من جميع هذه الاحتمالات؟

أما الأسئلة التي تلقيتها من التلاميذ والتلميذات، فمنها سؤال من الآنسة (رسمية علي خليل) بالمدرسة السنية تطلب فيه مثلاً على فطنة الفاروق، وهي صفة من صفاته التي وردت في باب الصفات من الكتاب.

والفطنة إنما يستدل عليها بالكلام الذي ينم عن فهم الطبائع والأخلاق، وفي كلام الفاروق الذي أوردناه ما يدل على فطنته لهذه الأمور.

أو يستدل عليها بالأعمال، وقد دلت أعمال الفاروق على الفطنة في كل ما تولاه تسيير الجيوش وتدبير الفتوح وتنظيم البلدان وتوجيه النصائح إلى الولاة والقادة والقضاه، وإنشاء

ص: 8

الدواوين واستشارة ذوي الرأي من الشيوخ والشبان.

أو يستدل عليها بشهادة العارفين، وقد شهد له بها أكبر دهاة العرب كالمغيرة وعمرو بن العاص.

وقد سألت الآنسة عن الفرق بين الرؤية والرؤيا والشعور على البعد، وكلها مما يدل على الاهتمام بعالم الغيب، أو أن الإنسان لا يقصر همه على الواقع المحسوس، ومن هنا يكون على استعداد للتدين والإيمان، ولهذا ذُكرت هذه الخصال، أو هذه الملكات لبيان استعداد الفاروق بطبيعته لقبول الدين.

والرؤية هي أن يتراءى للإنسان منظر أو صورة لا يراها غيره بحواسه المعهودة؛ لأنها تتمثل في النفس على نحو من ظهور الأشباح للنائم في حلمه. وقد يراها المستعد للرؤية وهو في حالة من حالات الغيبوبة. وقد تكون رمزية يفهم منها الرائي معنى من المعاني على طريقة الفهم من الرموز والكنايات. والفرق بين الرؤية والتلبائي أن التلبائي ينتقل بين شعورين على البعد، وقد تظهر الرؤية لإنسان واحد ولا تكون لمناظرها صورة خارجية يتلقاها الآخرون بحاسة النظر المعهود.

والاعتداد بالرؤيا هو اهتمام الإنسان بما يراه في أحلامه، وليس من دأب كل إنسان أن يهتم بهذه الأحلام أو يتخذ منها دليلاً على حادث مخبوء له في الغيب.

على أنني أرجو الآنسة معذرة إذا أحلتها على نفسها وهي تستوضح هذه العبارة: (كانت الرحمة من صفاته التي وازنت فيه العدل أحسن موازنة)؛ فإنها تسأل عن معنى هذا مع تفصيل الكلام فيه عدة صفحات، وعليها هي أن تجهد نفسها لتجيب سؤالها، وهي قادرة على الإجابة بغير جهد كبير.

وأسألها وزميلاتها معذرة إذا أحلتها على علم أساتذتها وعلم المعجمات في تفسير بعض المفردات؛ فليست هي مما يخفى على الأساتذة أو يخفى عليها إذا رجعت إلى تفكيرها، أو رجعت إلى معجم صغير مما يتيسر للطلاب في معاهد التعليم.

عباس محمود العقاد

ص: 9

‌من أحاديث الإذاعة:

تسعة قروش!

للأستاذ علي الطنطاوي

من أسبوعين ابتليت من أولادي ببلية، هي أني كلما دخلت الدار، تعلقوا بي طالبين تمثال العبد الأسود ذي الطربوش الأحمر وأنا لا أدري ما هذا التمثال، ولا أعرف من أين آتيهم به، وهم يلحون لا يشغلهم عنه شئ من غالي اللعب، ونادر الطرف، حتى كرّهوا إليّ البقاء في البيت. . .

وكنت مرة خارجاً إلى عملي مستعجلاً، فوجدت بياعاً يحمل هذه التماثيل، ينادي (الواحد بقرش) ففرحت به فرح الضال في البادية يرى معالم الطريق، واشتريت تمثالين وحملتهما معتزاً بهما كأني أحمل كنزاً وعدت بهما حتى إذا دنوت من الدار وجدت ولدين صغيرين قاعدين في ظل جدار، فلما أبصرا التمثالين برقت عيناهما، ودنا رأساهما في همس، وارتفعت يداهما في إشارة خفية متهيبة، وشخص بصراهما كما يفعل شابان غريران طلعت عليهما من الطريق فتاة فتانة. . وقاما فتبعاني وعيونهما معلقة بالتماثيل، فلما رأيت ذلك منهما فكرت أن أدفعها إليهما. ولكني خشيت أن أرجع فلا أرى البائع، وتخيلت رغبة أولادي فيها، فلم تطب نفسي أن أحرمهم هذه المتعة، ولم أستطع الإعراض عن الولدين الفقيرين فدعوتهما فدفعت إليهما قرشين، وقلت لهما

- هو ذا البائع، فالحقاه فاشتريا مثلهما، الواحد بقرش!

فأخذا القرشين وعهدي بمثلهما أن القرش الصاغ ثروة له. لا يناله إلا بشق النفس، فما حفلا بهما ولا هشا لهما، ولبثا شاخصين في التمثالين كأنهما لم يريا القرشين، ولم يسمعا الكلام أو كأن عقلهما فارقهما فاستقرا على ما في يدي، فلم يفهما كلامي وحاولت نسيانهما، وسرت فتبعاني كأنهما كلبان وكنت أحس بحرّ نظراتهما على ظهري، وبثقلها على روحي فأهم أن أمد يدي باللعب إليهما ثم تدركني محبة الولد فأكف، حتى وصلت الدار وصورتهما أمام عيني، تمنع عن عيني رؤية فرحة أولادي باللعب وغوايتهم إليها. . .

ولما خرجت وجدت الولدين لا يزالان في الطريق، يفتشان عن البائع، يعدوان هنا وهناك، كأم أضاعت طفلها ولا تدري أية سبيل سلك. فدعوتهما - فأقرخت روعهما - وسألتهما عن

ص: 10

اسميهما فمشيا معي فما درت مع الطريق دورة حتى لقيت البياع أمامي، فشريت لهما تمثالين وتركت لهما القرشين، ووجدت حول البياع أولاداً مثلهما، فقلت له:

- أعط كل ولد تمثالاً

وكانوا تسعة فدفعت إليه تسعة قروش

هل تصدقون أو أحلف لكم، أني لما نظرت في وجوه الأولاد وقد بدا فيها بهاء الفرح، وما عرفتْ هذه الوجوه الفرح قط، ولاحت عليها سمات الطفولة الراضية الشاكرة، وما كان يلوح عليها إلا الألم والحقد المرير وأشرق عليها نور إلهي سطع من وراء ما حملت من الأوساخ والأقذار، ولما رأيت عيون الأمهات الواقفات تدمع، وألسنة الرجال الواقفين تدعو، أحسست في قلبي فرحة لا تعدلها فرحة الجائع بالمائدة الملوكية المترعة، ولا الضجِر بالقصة العبقرية الممتعة، ولا المحب المدنف بلقاء الحبيب بعد طول الهجران. . .

لا والله فتلك أفراح أرضية، وهذه فرحة سماوية، قد تعيش آلاف البشر وتموت، ولا تحس مثلها. وشعرت كأني كبرت في عين نفسي، وأني سموت وأني صرت أقوى وأقدر، وأني نلت الأماني ومتعت بالخلود.

إننا ننفق أكثر الأموال، نشتري أيسر المتع، وهذي متعة ما كاد يجد الإنسان مثلها، نلتها بتسعة قروش، وما تسعة قروش بالنسبة لي؟ إنها شئ كالعدم؛ شئ لا يغنيني وجوده، ولا يفقرني فقده، فهل تحبون أن تشتروا مثل هذه المتعة؟ هل تحبون أن تعرفوا ما هي لذة الروح، وما هي راحة القلب؟ هل تريدون أن تذوقوا نعيم الجنة وأنتم في الدنيا؟

ولا تحسبوا أني أصف كلاماً. وأرصف ألفاظاً، إني والله أسوق لكم حقائق، فإن أردتم معرفتها، ففتشوا حولكم عن هذه الطفولة المحرومة وهذه النفوس المعذبة، ثم أولوها الإحسان

وليست قيمة الإحسان بكثرة المال، إن المال ينفع الفقير ولكنه لا ينزع من قلبه النقمة على الحياة، ولا يستل منها بغض الأغنياء ولا يملؤها بالحب. إن الذي يفعل هذا كله هو العطف، وأن تشعر الفقير بأنه مثلك، وأن تعيد إليه كرامته وعزة نفسه. ورب تحية صادقة تلقيها على سائل تكون أحب إليه من درهم، ودرهم تعطيه فقيراً وأنت تصافحه يكون آثر عنده من دينار تدفعه إليه متكبراً مترفعاً، يدك تمتد إليه بالمال، ووجهك يجرعه كأس

ص: 11

الإذلال. . .

إن كل غني يستطيع أن يتصدق بالكثير؛ ولكن غنى القلب بالإنسانية والنبل والحب، هو وحده الذي يستطيع أن يتصدق، مع المال، بالعاطفة المنعشة. . . فلا تضنوا على الفقراء بإنسانيتكم، ولا تبخلوا عليها بعطاء قلوبكم، وذكروهم أنهم لا يزالون معدودين من البشر، وأنهم مثلكم لأب واحد ولأم، لآدم وحواء، وأنهم لم ينحدروا إلى دركة الدواب والبهائم.

ذكروهم بهذه الحقيقة التي طالما نسيتموها أنتم، ونسوها هم أنفسهم. ولم لا ينسونها وهم يعيشون كما تعيش البهائم: ينامون مثلها على الأقذار، في الأكواخ والحقول، وفي الأزقة المعتمة، وفي الخرائب المهجورة، ويأكلون مثلها من فضلات الناس، ويشربون مثلها من البرك الآسنة، والأنهار العكرة، ولم ينالوا تعليماً يرفعهم عنها ولا مدنية تميزهم منها؛ يسهرون في عصر الكهرباء على السرج والقناديل، ويركبون في عهد الطيران على العربات التي تجرها الحمير، ويسكنون في الأكواخ على التراب في زمان ناطحات السحاب؛ ومن تشبه منهم بالناس المتحضرين، لم يكد يصل إلى مثل حضارة الإنسانية الأولى، يحلق مثل (الناس) ولكنه يقعد على الأرض، على رصيف الشارع، وبيده مرآة مكسورة يرى فيها وجهه، والصابون القذر يغطيه، وموسى الحلاق المفلولة تجري فيه، والدم ينبثق من نواحيه، ثم تمر على هذا الوجه البشري ممسحة لا ترضونها أنتم والله لمسح أحذيتكم. ويركبون مثلما يركب الناس، ولكن على عربات الكارو، العشرة على متر مربع من الخشب، محمول على دولابين من الحديد يسحبه حيوان هزيل، والعربة ترتج بهم، فترقص معدهم، وتزلزل أمعاءهم، ثم لا تصل بهم إلى نهاية الميل الواحد إلا بعد ساعة. ولهم قهوات، ولكن قهواتهم اصطبلات فيها ركائز تسمى مناضد أمامها عيدان تدعى كراسي. ولهم مطاعم ولكن مطاعمهم يقدم فيها المرض في طباق قذرة. . .

فتداركوهم قبل أن يكفروا بالإنسان، فينقلبوا حرباً عليه ليس معها أمان. أشعروهم أنه لا يزال في الدنيا فضل وعدل ونبل. ليجد كل واحد منكم على من هو دونه لا بالمال وحده، بل بالعاطفة والتواضع والإنسانية. . . الرئيس على المرؤوس، والوزير على الوكيل، والوكيل على المدير، والضابط على العريف، والعريف على الجندي، فإن كل واحد من هؤلاء هو اليوم عبد لمن هو أعلى منه، وفرعون على من هو دونه، يتكبر عليه من هو

ص: 12

فوقه، ويتكبر هو على من تحته، حتى أن الشرطي ليطغى على البائع المتجول، والبائع يطغى على امرأته، والمرأة على ولدها، والولد على القطة يضربها بالعصا أو الكلب يرميه بالحجر، كل يحاول أن يظلم كما ظُلم. والمجرم الأكبر هو الظالم الأول. إنهم كالحيوانات تماماً، الجرادة تأكل البعوض، والعصفور يأكل الجرادة، والحية تقتل العصفور، والقنفذ يقتل الحية، والثعلب يسطو على القنفذ، والذئب يسطو على الثعلب، والأسد يفترس الذئب، والإنسان يقتل الأسد، والبعوضة تقتل الإنسان، فتغلق الحلقة على عدوان بعد عدوان. . .

كم تلقون كل يوم من هم دونكم فلا تتنازلون بالالتفات إليهم، ولا تفكرون فيهم، ولا تشعرون بوجودهم، ثم تتألمون إذا أعرض عنكم من هو فوقكم، وتجاهل مكانكم، وترون ذلك جرحاً لشعوركم وكسراً لقلوبكم، فلماذا تطلبون ممن فوقكم ما لا تعطونه من هم دونكم؟ أليس لهؤلاء نفوس تحس، وقلوب تتألم؟

درت أمس بشحاذة على شط النيل الصغير، في الروضة، وأمامها بنت لها تحبو، وصلت إلى كومة أوساخ فنبشت فيها حتى وجدت بقية لعبة فحملتها فرحة بها وعادت إلى أمها مستبشرة فأخذتها منها ومسحتها وحاولت أن تصلحها وتعيد الحياة إليها وقد فارقتها الحياة منذ أزمان. . .

فلويت وجهي ألماً من منظر هذه القذارة، ثم عدت ألوم نفسي وأسائلها، ما ذنب هذه الأم إذا أحبت ابنتها وأرادت إسعادها؟ وما ذنب هذه البنت إذا طلبت حق الطفولة الطبيعي باللعب؟

لماذا أشتري لبناتي كل أسبوع لعبة، ولم يخطر على بالي أبداً أن في البلد أطفالاً لا يجدون لعباً. إننا نحسب أننا إذا أطعمنا أطفال الفقراء الخبز، فقد أدينا حق الله وحق المروءة والإنسانية علينا. ولكن الطفل لا يكفيه الخبز ولا يرضيه، يرى أطفال الناس يمرون به كل ساعة، وعليهم أبهى الثياب، ومعهم أغلى اللعب، إنه بين أمرين إما أن يتبلد حسه، وتموت نفسه، فلا يطمع أن يجاري هؤلاء ولا يأمل أن يكون مثلهم أبداً فينشأ ضعيف الهمة، ذليلاً مهيناً، فيكون من أسباب ضعف هذه الأمة وهوانها على الأمم، وإما أن يثور ويغضب ويمتلئ قلبه الصغير حقداً، ثم يكبر ويكبر الحقد معه حتى يكون عدواً للمجتمع ونقمة على الناس، يظلمهم كما ظلموه، يسرق من يستطيع سرقة ماله. ويزهق روح من يتمكن من إزهاق روحه، وينشر الفساد في الأرض. . .

ص: 13

فلماذا نجعل من هؤلاء الأطفال أعداء لنا؟ لماذا لا نحبهم فنعلمهم الحب؟ أليسوا أزهاراً في روض الحياة؟ أليست كل زهرة حلوة ولو تلطخت بالوحل؟ أليس كل صغير جميلاً ولو كان قطاً أو كلباً؟ أفنحب القطة الصغيرة ونمسحها ونضعها على الأحضان ونكره هؤلاء الأطفال؟ وما لهم؟ ألأنهم قذروا الوجوه والثياب؟ إن القذارة لا تحب، ولكن أهذا ذنب أمهاتهم، لا يغسلن وجوههم وهن على النيل؟ لا، بل هو ذنبي وذنب كل واحد منكم وذنب الكتاب وأولي الأمر، إنهم لم يعلموا هؤلاء الأمهات النظافة، ولم يقل لهن أحد أن النظافة لازمة والوساخة مؤذية. ومن يقول لهن، وهن شحاذات على الطرقات، لا يكلمن أحداً بغير السؤال، ولا يكلمهن أحد أبداً؟!

وما يدريني أن ابنتي أو ابنة أحدكم، لا سمح الله، ستلقى مثل هذا المصير؟ من منا أخذ على الدهر عهداً أن لا يزيل عنه نعمة؟ هل أمنا المرض والفقر؟ هل وقفنا حركة الفلك؟

وهل نسينا أن في الوجود إلهاً، وأن بعد الدنيا آخرة؟ فكيف سوغنا لأنفسنا مع هذا كله إهمال هذه (الإنسانية) الصغيرة المبرأة الطاهرة؟ لقد كان فينا مقلدون متحذلقون ألفوا جمعيات للرفق بالحيوان. . . ولكن لم ينشأ فينا إلى اليوم من يؤلف جمعية للرفق بالإنسان؟ لقد بلغ الخزي من نفوسنا أن كان فينا أناس يطعمون الكلاب المدللة، اللحم السمين والشكولاتة الغالية، وحولهم بشر لا يأكلون اللحم مرة في الشهر؛ ولم يتذوقوا الشكولاتة أبداً. . .

إذا شئتم أن تذوقوا أجمل لذائذ الدنيا، وأحلى أفراح القلوب، فجودوا بالحب وبالعواطف كما تجودون بالمال. . .

دمشق (صندوق البريد 19)

علي الطنطاوي

ص: 14

‌مجمع فؤاد الأول بين الأمس واليوم

للأستاذ محمود أحمد الغمراوي

مجمع فؤاد الأول للغة العربية

حسنة من حسنات محيي النهضة العلمية والفنية، ومجدد شباب اللغة العربية، المغفور له الملك فؤاد، له من الله الرحمة والرضوان، وهو أثر من آثار أياديه الكريمة، ومأثرة من مآثره العظمى التي أسداها إلى اللغة العربية الفصحى، لغة القرآن الكريم، ومفتاح أسراره، ومشرق هدايته، ومطلع أنواره.

أراد رحمه الله بإنشاء مجمع اللغة العربية المحافظة على سلامة هذه اللغة الكريمة، وأن يكون المجمع متابة للعروبة تتجدد فيه عناصرها وتتوثق أواصرها، وأن يكون أمناً للغة الذكر الحكيم يجمع شتاتها ويحيي مواتها ويحميها من عبث العابثين، وجور المعتدين؛ ويدفع عنها طغيان العجمة ويرد عنها وثبات العامية، حتى لا تستهلكها أشتات اللهجات، ولا تذهب بفصاحتها وصباحتها الندوب والآفات، فندب إلى هذا الغرض السامي النبيل، واختار لهذا المهم الجليل، كل عالم ندب من علماء اللسان، وفرسان اللغة والبيان ممن أنجبتهم معاهد العلم: الأزهر ودار العلوم وجامع الزيتونة، ومن أنبغتهم المدارس الإسلامية ومدارس اللغات الشرقية في بلاد المشرق والمغرب.

ولقد بذل هؤلاء الأفاضل الأعلام جهداً مذكوراً، وسعوا إلى تحقيق الغرض الذي ندبوا له سعياً مشكوراً. وجعلوا منذ اللحظة الأولى يمهدون السبيل، ويقيمون فيه لمن يريد أن يسلكه النار والدليل، حتى لا يخبط في مسيره خبط العشواء، ولا يهيم في أودية الأوهام؛ فوسعوا من القواعد وأقروا أموراً تكفل مراعاتها سلامة اللغة وتحقق لها النماء والزيادة، وتيسر على أهل العلم التصرف في مفرداتها حتى تستغني بما تنسله من لفظ أصيل كريم عما يراد إلصاقه بها من كل لفظ دعي زنيم.

وقد أشار رئيس المجمع المغفور له الدكتور محمد توفيق رفعت باشا في كلمته التي ألقاها في افتتاح دور الانعقاد الثالث سنة 1937 إلى الطريقة المثلى، وأومأ إلى بعض القرارات التي اتخذها المجمع في دور انعقاده الثاني للوصول إلى تحقيق الغرض المقصود من إنشاء المجمع، وأبان في تلك الكلمة المنشورة في الجزء الثالث من مجلة المجمع طبع سنة

ص: 15

1937 -

خطأ الذين يؤثرون الأعجمي الشائع على ما لم يتداول في الاستعمال من فصيح اللفظ العربي، وفند هذا الرأي الفائل إذ يقول: وليس يذهب عنا في هذا المقام أن ننبه هؤلاء إلى أن لغتنا قد تخلفت دهراً طويلاً عن مواتاة العلوم ومسايرة كثير من أسباب الحضارة. فلو أننا آثرنا الأعجمي الدائر في كل ما يعرض لنا من هذا لأصبح الفصيح بين لغتنا أقل من القلة ولاستهلكته العجمة استهلاكاً بحيث لا يصح لنا وقتئذ أن نزعم أننا نتحدث بلسان العرب، وذلك هو البلاء العظيم. . . ومما ينبغي ألا يسقط من الحساب أنه لو ساغ لكل أمة أن تعدل عن اتخاذ الفصيح من لغتها لمثل تلكم الأسباب إلى الشائع على ألسنة أبنائها من المحرف والدخيل لاختلفت لغات الأمم العربية وما اجتمعت على هذه اللغة الكريمة، وهذا في الوقت الذي يدعو فيه المصلحون الصادقون إلى توحيد الثقافة في العالم العربي بأسره بحيث إذا استقلت كل أمة بأرض وطنها فإن العربية تظل لها جميعها الوطن العام على تطاول الأزمان.

وفي كلمة العلامة المستشرق (الأستاذ جب) عضو المجمع - وصف للعلاج الناجع الذي يتوقف عليه نجاح المجمع في تأدية وظيفته نحو العالم العربي حيث يقول. وإن تجاربنا في سنتي الطفولة (يقصد تجارب المجمع في السنتين اللتين مرتا عليه منذ أنشئ) - قد برهنت على أن نجاح المجمع في تأدية وظيفته نحو العالم العربي يتوقف على استعدادنا لسلوك طريق طويل المدى دارس العالم - طريق الاكتشاف والتوسع وهو طريق لا يسلك إلا بشيء من الجرأة، ولا يسلم من الضلالة فيه إلا من استعد له بكامل العدد.

ويقول: ولن يتحقق صعوبة وظيفة المجمع في القرن بين تيار الجديد وتراث القديم إلا من جربها، فويل للغة مصادرها ومعجماتها دون الشعور الحي للناطقين بها. وويل أيضاً للغة ينطق ويكتب الناطقون بها طوع أهوائهم ويضربون بمعجماتها عرض الأفق.

فإذا كانت التجارب قد دلت على أن نجاح المجمع في تأدية وظيفته نحو العالم العربي متوقف (كما يقول الأستاذ جب) على الاستعداد بكامل العدد لسلوك طريق الاكتشاف والتوسع في اللغة حتى يأمن سالكو هذا الطريق من التردي والضلالة فيه، وإذا كان من أهم هذه العدد العلم بقواعد اللغة نحوها وتصريف كلماتها ومعرفة أحوال تراكيبها وتذوق أساليبها ومعاني النظم فيها، والإحساس بما بين نظم ونظم من فرق وتفاوت في الحسن

ص: 16

والجمال والصحة والاعتلال - فهل فكر أولئك الكرام البررة الذين عناهم أمر هذه اللغة الكريمة في إعداد الوسائل التي تكفل حياتها وإن تبقى سليمة نامية، وهل أخذوا لهذا الأمر أهبته، وأعدوا له عدته؟

لقد أنبأنا الأستاذ الجليل محمد كرد علي بك في كلمته التي ألقاها في افتتاح انعقاد المجمع في ذلك الدور أن مجمع اللغة العربية يسير في أوضاعه على النهج الذي سنه الملك الأعظم (المغفور له) الملك فؤاد، وأنه (أعلى الله في الجنة منزلته) تفضل فأطلع عليه الأستاذ حين شرفه بالمثول بين يديه من نحو عشر سنين خلت قبل إنشائه مجمع اللغة. والمتتبع لسير النهضة العلمية في ذلك الوقت يجد أن ذلك التاريخ يوافق الوقت الذي كان فيه جلالة الملك الراحل يفكر في التوحيد بين المعاهد التي تقوم بتعليم اللغة العربية والشريعة الإسلامية في مصر ليكون من هذه المعاهد مجموعة مؤتلفة موحدة النظام والغاية مندمجة في الأزهر، يتخرج منها الفقهاء المشرعون والعلماء الراسخون في علوم الشريعة واللغة ليجددوا ما اخلولق من آثارهما ويحيوا ما عفا من رسومهما وليكون من هؤلاء العلماء المختصين باللغة والشريعة مدى يغذي مجمع اللغة العربية وما ينشأ على غراره من مجامع الفقه والتشريع الإسلامي لا الروماني والفرنسي، وفي سبيل تحقيق هذا الغرض الجليل ألغيت مدرسة القضاء الشرعي وبدئ في إلغاء دار العلوم، واستبدل بها نظام الكليات وأقسام التخصص في الأزهر. فترى أن مجمع فؤاد كان جزءاً متمماً لذلك المشروع الجليل الذي اختط فؤاد العظيم خطته وأراد منه إحياء اللغة العربية لغة القرآن الفصحى وأن يبعث الاجتهاد في الفقه الإسلامي من مرقده لتتوثق باللغة روابط الوحدة بين الشعوب العربية، وتسهل مشارع الشريعة فيتيسر ورودها، ويصفو وردها لجميع الأمم الإسلامية.

ذلكم هو المشروع الذي ابتكره فؤاد الملك العظيم، وأبرزته عزيمته القوية الجبارة من عالم الخيال إلى عالم الحقيقة، لإحياء اللغة العربية والشريعة الإسلامية معاً؛ فماذا كان حظ هذه المؤسسات العلمية والعالمية من الحياة، وماذا كان نصيبها من البقاء؟

فأما أقسام التخصص فقد غلقت أبوابها، إذ لم يقصدها للعلم بل لأكل العيش طلابها. وأما كليات الأزهر فقد أمست مسارح شحناء، ومسابح دماء، يسعى طلابها بالفساد ليجعلوها مثل دار العلوم مدرسة لتخريج معلمين، لا لتكوين رجال عالمين!

ص: 17

ومجمع فؤاد اللغوي - وقد عرفت مكانه من المشروع العظيم - هل تراه اليوم على العهد الذي كان عليه بالأمس مجمع فؤاد للغة العربية، وهل تحسبه آخذاً بأخذه، أو متبعاً سننه الذي سنه له منشئه، أو سائراً على النهج الذي قرر رجال مجمع اللغة العربية بالأمس أنه هو النهج الأقوم الموصل إلى الغاية المنشودة من إنشاء المجمع؟

إن الذين سمعوا كلمة معالي وزير المعارف التي ألقاها في مؤتمر المجمع في دور انعقاده الحاضر في أولى جلساته في الشهر المنصرم، يرون فيها خرجاً على إجماع المجمع بالأمس، وإهداراً للقواعد السليمة التي أقرها، وتوجيهاً للمجمع في غير الوجهة التي أنشئ من أجلها، وجواربه عن سواء السبيل الذي يقول العلماء الخبيرون إنه يجب على من يريد للغة العربية الحياة والبقاء والبركة والنماء أن يسلكه.

فمعالي الوزير يدعو المجمع دعوة صريحة بل إنه ليأمره بألا يقف في طريقه إلى تحقيق مهمته عند اللغة الرسمية (اللغة العربية الصحيحة) وأن يتجاوزها إلى اللغة الواقعية البعيدة عن صحيح اللغة (وهي اللغة العامية) وأن يتقبل كل كلمة ترد إليه هجينة أو أعجمية؛ ولئن كانت كلمة المجمع بالأمس على أن العدول عن اتخاذ الفصيح من اللغة إلى الشائع على الألسنة من المحرف والدخيل يستهلك الفصيح من اللغة، ويؤدي إلى اختلاف لغات الأمم العربية وتفرقها عن لغتها الكريمة - فإن كلمة وزير المعارف اليوم على النقيض من كلمة المجمع بالأمس؛ فمعاليه يفتح الباب على مصراعيه للمحرف والدخيل، ويطلب إلى المجمع أن يسجل على لغة العرب كل ما يرد عليه من الكلمات المحرفة، وأن يحمل عليها كل ما يصل إليه على ألسنة العامة من الألفاظ الأعجمية والدخيلة؛ فقد أصبحت مهمة المجمع إذن سهلة يسيرة وأمسى عمل المجمع في نظر معالي الوزير هو الإثبات والتسجيل، وليس له في الابتداع أو الخلق والتقدير.

لقد هانت إذن مهمة المجمع، وتبخرت في الهواء تجارب المجربين، وضرب بعرض الأفق كلام الخبراء العالمين، وأمنا ما خوفنا الأستاذ جب من ضلالة الطريق ووعورته، فما بنا بعد اليوم من حاجة في سلوكه إلى استعداد له بعدة أو اتخاذ دليل أو اصطحاب رفيق. يقول معالي الوزير: إن باب الاجتهاد في اللغة العربية مفتوح فعلاً فهو ليس منتظراً أحداً حتى يفتحه. فليت شعري من هم هؤلاء المجتهدون الذي يقول معاليه أن باب الاجتهاد قد فتح

ص: 18

فعلاً لهم؟ أهم أولئك العلماء الذين استعدوا بكامل العدد ليأمنوا من الضلالة في طريق الاكتشاف والتوسع في اللغة، وأولئك الكتاب والناطقون باللغة، الذين يلتزمون قوانين اللغة وقواعدها ويرجعون إلى معجماتها فيما يكتبون وينطقون كما يشترط الأستاذ جب؟ أم هم هؤلاء الذين ينطقون ويكتبون طوع أهوائهم ولا يستطيعون تقديم ألسنتهم، والذين أنذر الأستاذ اللغة شرهم وتوعدها بالهلاك والويل منهم؟

يقول معالي الوزير إننا لا نستطيع أن ننكر على أي جيل حقه في أن يساهم في صنع لغته وفي أن يبتدع من الألفاظ ما يفي حاجته ويتمشى مع حضارته

فالمجتهدون في اللغة إذا في عرف وزير المعارف - هم أولئك الذين يتقبلون كل ما يفد عليهم من دخيل اللفظ، وتلوك ألسنتهم كل ما يسهل عليها من عابر القول من غير معيار ولا قاعدة.

هؤلاء هم المجتهدون في اللغة العارفون، وهؤلاء هم صنعة اللغة الحاذقون، ومبتكرو ألفاظها ونظمها والمبتدعون، وما يصدر عن هؤلاء من عابر القول، وما يتقبلونه مما يفد عليهم من متشرد الألفاظ الأعجمية فهو اللغة الفصحى التي اجتمعت عليها الأمة، والتي يجب على المجمع القائم أن يرصدها في سجلاته ويسجلها في اجتماعاته لحساب اللغة الجديدة الإقليمية، التي يراد إحلالها محل اللغة العربية، وتسجيتها ببردها وتسميتها بإسمها.

لقد اتضحت إذاً مهمة المجمع وعرف أن مهمته المطلوبة في عهده الجديد هي أن يسجل في دفاتره ما يرد إليه من بضاعة مزجاة من الألفاظ الأعجمية، ويضيفها لحساب اللغة الجديدة الإقليمية الدهماوية التي يراد بها إبعاد الأمة المصرية وإبعاد العرب عن لغتهم العربية التي هي رباط وحدتهم، ومنتدى جماعتهم.

ومهمة أخرى على المجمع أن يقوم بها، وهي كما وصفها معالي الوزير مهمة شاقة عسيرة، تلك المهمة هي أن ينصب المجمع للمولود الجديد الأنصاب ويتلمس له العلل والأسباب التي تصله بأسباب الوجود، وتكفل (لا قدر الله) له الحياة والخلود.

منذ أمد غير بعيد نشرت جريدة الأهرام نبذة لمراسلها الخاص بلندن اقتبسها من الفصل الافتتاحي الذي عقدته جريدة المانشستر جارديان عن إصلاح النحو في مصر، تضمنت هذه النبذة أن أدباء مصر يتوفرون على إصلاح النحو العربي. وقالت (بلغة المستعمرين الذين

ص: 19

يسمون الأشياء بأسماء أضدادها فيسمون الإفساد إصلاحاً واستعباد الأمم حرية)! قالت: إن هذا الإصلاح قد يكون بين ضروب الرقي العديدة (التي تمت منذ ولي الملك فاروق العرش) - أبعدها أثراً على الإطلاق. وقالت: إن من العوائق العظيمة لنشر العلم ومن ثم لتحقيق التقدم الاجتماعي في شتى النواحي هو الاختلاف الكبير بين العربية الفصحى واللغة العامية مما جعل ملايين من الناطقين بالضاد لا يستطيعون فهم اللغة الفصحى فضلاً عن قراءتها وكتابتها.

فاللغة العربية في نظر المانشستر جارديان، ومن ينفخ في بوقها من دعاة الاستعمار هي سبب انحطاط العرب وتأخرهم في العلم وفي التقدم الاجتماعي في شتى النواحي. وهذا الذي تذيعه هذه الجريدة وغيرها من جرائد الاستعمار هو ما يتقوله عداة اللغة العربية ودعاة العنصرية في مصر على هذه اللغة الكريمة من المثالب والأكاذيب ليكرهوها إلى أهلها فهم يقبحون منها كل ما حسن، حتى ليودون أن يستبدلوا بحروفها الرشيقة الجميلة حروفاً أفعوية لاتينية ليقيموا بذلك حداً منيعاً يحولون به بين الأجيال المقبلة من أبناء الأمم الإسلامية وبين تراث أسلافهم العلمي، وليقطعوا الصلة بينهم وبين كتاب الله الكريم فلا يهتدوا بنوره ولا يقتدوا بهداه.

فهل ما ينادي به معالي وزير المعارف في دار المجمع وما يدعو إليه من تجاوز اللغة العربية إلى اللغة الإقليمية العامية، وما يردده دعاة السوء من وجوب أقلمة اللغة وتمصيرها، وتبسيط قواعدها وتلتين حروفها هو الذي تعنيه جريدة المانشستر من إصلاح النحو في مصر؟

وهل هذا هو الغرض من إنشاء مجمع فؤاد للغة العربية؟

قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا

ثم القفول فقد جئنا خراسانا

محمود أحمد الغمراوي

من علماء الأزهر

شيخ معهدي دسوقي والزقازيق سابقاً

ص: 20

‌الأسس التي وضعها الإسلام لعقوبة القتل

لصاحب العزة الأستاذ علي بك حلمي مدير البحيرة

بينا في مقالنا السابق أن التشريعات القديمة كانت تميل تارة إلى جانب التشديد في العقوبة وتارة أخرى إلى جانب التراخي فيها - واستشهدنا ببعض أقوال من الإنجيل والتوراة نفهم منها أن الأول يطلب العفو من ولي الدم وفيه تفريط في حق المجني عليه، وإفراط في أمر الجاني إلى أن نزل القرآن فسلك الإسلام الطريق الوسطى بين جانبي الإفراط والتفريط في المعاملات والعقائد والعبادات - قال الله تعالى (وكذلك جعلناك أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس)

كما أصبح للدين الإسلامي أسس موضوعة جنبت عقوبة القتل في جميع أحوالها جانبي الإسراف والتقصير - وهذه الأسس أربعة.

القصاص:

فرض الإسلام بهذا المبدأ عقوبة القتل جزاء لجريمة القتل وأباح به دم الجاني - وفي ذلك نزلت آيات القصاص، وقد ذكرنا بعضها في موضوع سابق. ومعنى هذا أن الإسلام لا يجيز التراخي في شأن الجاني ولا يسمح بوقوع هذه الجريمة دون أن يقتص من فاعلها بالقتل - فسد بذلك نقصاً ملحوظاً في شريعة الإنجيل على فهم كثير من الناس.

حق القصاص والعفو لولي الدم:

وكما أن ديننا حد من جانب التفريط كما دعا إليه الإنجيل - كذلك خفف من إفراط التوراة بشأن المجني عليه ولم يحتم عقوبة القتل لهذه الجريمة فخير ولي الدم بين القصاص والعفو وزين له الأخير قال تعالى: (فمن عفا وأصلح فأجره على الله) وقال بعض الفقهاء (العفو أفضل من الصلح والصلح أفضل من القصاص)

وهنا لم يقل الإسلام بالقصاص دون رحمة ولا شفقة بل شرعه مع خبار العفو وإجازة الصلح وأباح أن يكون العفو ببدل أو بغير بدل كما حبب الإسلام العفو إلى النفوس، وبذلك اتخذ طريقاً وسطاً فتحاشى قسوة التوراة التي تحتم القصاص وتراخي الإنجيل الذي يحتم العفو.

ص: 21

حق ولي الدم:

أ - في القصاص - جريمة القتل اعتداء على نفس المجني عليه وسلب لوجوده وامتهان لجماعته الذين يعتزون بحياته ويتأثرون بنشاطه؛ فإذا افتقدوا وجوده وكيانه وحرموا من عونه ونشاطه كانت هذه الجريمة من بعض نواحيها واقعة على ولي الدم؛ وطبيعي أن أول المسارعين إلى رفع هذا الذل والامتهان والأخذ بالثأر لقتيلهم هم عصبة الذين رزئوا بوفاته وأصيبوا في مقتله.

ولما كان في جريمة القتل أيضاً إخلال بالأمن العام وإفساد لراحة الجماعة وإزعاج لطمأنينتهم أعطى الشرع الإسلامي حق القصاص لولي الدم كما أعطاه للجماعة في شخص الحاكم إذا كان الجاني مسرفاً بالإجرام معروفاً بالشر وجب بتره من المجتمع

وكما أن لولي الدم حق القصاص فقد جعل له حق العفو أيضاً لأن في ذلك اطمئناناً للنفوس وتطهيراً لها من الأحقاد والضغائن، فليس أحب إلى الإنسان من العفو عند المقدرة - ولم يجعل الإسلام لولي الأمر حق العفو إذا ما تمسك ولي الدم بالقصاص وذلك تجنباً لوقوع الفتن والاضطراب وخشية الإسراف في الأخذ بالثأر وإفلات زمام الأمر من الحاكم.

أما إذا اختار ولي الدم العفو فخياره نافذ - ما لم يتمسك ولي الأمر بعقوبة الجاني تعزيراً في حالة ما إذا كان معروفاً بشدة إجرامه وظهر للحاكم أن عقابه ضروري لحفظ الجماعة واستتباب الأمن - وقد احتضن هذه الفكرة القانون الوضعي الحديث وتوسع فيها إلى أن سلب من المجني عليه حق القصاص والعفو وقصرهما عليه كما سيأتي.

المساواة في العقوبة:

- كان نظام الطبقات معروفاً عند الرومان فجاء الإسلام ومحا هذه الفروق وسوى بين النفوس وجعل الدماء متكاتفة والجراحات متناسبة في القصاص. روي عن عائشة رضي الله عنها قالت - كانت امرأة مخزومية تستعير المتاع ولا ترجعه فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها فأتى أهلها أسامة بن زيد وكلموه فكلم النبي صلى الله عليه وسلم فيها فقال له: (يا أسامة ألا أراك تشفع في حد من حدود الله. ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيباً فقال: إنما هلك من كان قبلكم بأنه إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق الضعيف

ص: 22

قطعوه والذي نفسي بيده لو كانت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها) وقطع يد المخزومية.

من هذا ترى أن الإسلام قد سوى بين أفراد الرعية من جهة، وبين الرعية والحاكم من جهة أخرى في القصاص والحدود وجاء في خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع (أيها الناس إن ربكم واحد وإن أباكم واحد - كلكم لآدم وآدم من تراب. إن أكرمكم عند الله أتقاكم - ليس لعربي فضل على عجمي إلا بالتقوى)

المسئولية الفردية:

قلنا إن العرب جرت في الزمان الغابر على الإسراف في الثأر دون توخي مقدار العدل الذي يوجب الوقوف عند حد القصاص الصحيح - وكان في أغلب الأحيان يأخذون غير القاتل بالقاتل والجماعة بالواحد والرجل بالمرأة والحر بالعبد - بل كانوا في بعض آخر يأخذون الإنسان بالحيوان إلى أن جاء الإسلام فقرر أن مسئولية الجاني لا يتحملها إلا الجاني - قال تعالى: (ولا تزروا وازرة وزر أخرى) ومنع مسئولية الجماعة عن عن جناية الواحد كما قرر أن العقوبة من جنس الجناية وبقدرها فلا تضاعف الجراحات ولا الديات قال تعالى (وجزاء سيئة سيئة مثلها. وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به)

القتل في القانون الوضعي الحديث:

قلنا إن الإسلام منح العفو لولي الدم كما أجاز لولي الأمر القصاص إذا عفا ولي الدم في حالة ما إذا كان القاتل يميل إلى الإجرام وتحتم إصلاح شأنه لصلاح حال الجماعة - وقلنا أن القانون الوضعي احتضن هذا المبدأ الأخير ثم توسع فيه إلى حد أن جعل من حق القصاص والعفو حقاً آخر ثابتاً للمجتمع واعتبر أن جرائم الأفراد جرائم عامة، وأن المجني عليه في جريمة القتل هو المجتمع، ومنح لشخص ولي الأمر القصاص والعفو دون مراعاة إلى حق ولي الدم فيها، أي بمعنى أنه إذا وصل إلى علم الحاكم وقوع جريمة على فرد من الأفراد سواء بتبليغ المجني عليه أو أي شخص آخر نهض حق المجتمع ينادي بالقصاص من الجاني أو العفو عنه حسب ما يتراءى لولي الأمر لصيانة الصالح العام

وعلى هذا الأساس تقررت العقوبات لمختلف أنواع جرائم القتل

علي حلمي

ص: 23

‌3 - الفتنة الكبرى

للأستاذ محمود محمد شاكر

كان من البيّن - كما رأيت قبلُ - أن يهود الحجاز قد شبوا في الجاهلية نار العداوة بين بني أم واحدة وأب واحد، يسكنون بلدة واحدة، وهم الأوس والخزرج، فتمادت الحرب بين الأخوين أحقاباً من زمن الجاهلية حتى كادوا يتفانون في يوم (بُعاث) الذي كان قبل هجرة نبي الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بست سنين. وكان الذي كان بين هذين الأخوين أمراً جللاً شديداً على بعض عقلاء الأوس والخزرج، إذ صاروا إلى ما وصفهم به أصحاب بيعة العقبة الأولى من الأنصار إذ قالوا لنبي الله:(إنا تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بيننا)، ويهود يومئذ، (قد عَزُّوهم ببلادهم) أي غلبوهم عليها واستأثروا بها، كما قال رجال من الصحابة وكما قال أكثر رواة التاريخ القديم. وكان بعض اليهود يحالف الأوس، وبعضهم يحالف الخزرج، ولكنهم كانوا يداً واحدة إذا جد الجد، فيخرجون من معارك هذين الأخوين لا يصيبهم شر كثير أو قليل، بل كانوا يقولون لهم:(إن نبياً مبعوث الآن قد أظل بزمانه، نتبعه فنقتلكم معه قتل عاد وإِرَم) وشغلت الحرب والعداوة هذين الحيين، فانصرفوا عن الزراعة واستولت عليها يهود، وشغلتهم عن التجارة فاستبدت بها يهود، وشغلتهم عن حماية أرضهم فعاثت فيها يهود. وأخذت يهود تبني في المدينة وما جاورها آطاماً وحصوناً كثيرة متفرقة، وتجمع في هذه الحصون ما استطاعت من السلاح والحلقة وعدة الحرب، وهي شئ كثير جداً كما ظهر ذلك بعد فتح هذه الحصون والآطام على يد رسول الله وأصحابه من المهاجرين والأنصار. ولم يكن ذلك من فعلهم في المدينة وما جاورها وحسب، بل كان مثله أيضاً في جنوب الجزيرة، في اليمن وتلك البقعة من نجران وصنعاء إلى ناحية البحرين، كانوا يقيمون الحصون والآطام ويجمعون فيها السلاح فيكثرون الجمع، وينشئون لأنفسهم مدناً أو شبه مدن في هذه النواحي كلها، هي لهم خالصة لا يساكنهم فيها أحد.

نعم، ينشئون المدن والحصون والآطام ويجمعون السلاح، ويحالفون من جاورهم من الأعراب والبدو، ويوقعون بين حلفائهم العداوة والشر، في المدينة وفي غير المدينة من جزيرة العرب. فماذا كانت تريد يهود بإعداد كل هذه العدة من البناء والسلاح وإيقاد

ص: 25

البغضاء، وصرف وجوه الناس عن أسباب الحياة إلى معترك الحرب؟ كانت تريد في المدينة مثلاً أن تسقط البلاد في أيديهم خالصة لهم، بعد أن يتفانى الأوس والخزرج في حروبهم التي يؤرّثونها بينهم، كما رأيت ذلك من فعلهم يوم رأى شأس بن قيس اليهودي ما رأى من صلاح ذات البين بين الأوس والخزرج بالإسلام، فيرسل إليهم فتى من يهود يناشدهم ما تقاولوا من الشعر في حروبهم، فتكاد الحرب تقع بين الأوس المسلمين والخزرج المسلمين، لولا أن أدركهم رسول الله فردّهم إلى عقولهم وأطفأ كيد اليهودي شأس بن قيس. ومن قارن بين فعل يهود قديماً وفعلهم حديثاً في فلسطين، ومن إقامتهم الحصون والآطام والمدن في المدينة وغيرها من الجزيرة، وما فعلوا من إنشاء المدن والحصون والمستعمرات حديثاً في فلسطين، عرف أن هذه شيمة يهود منذ قديم، وهذا هو أسلوبهم قديماً وحديثاً حذوك النعل بالنعل. وإذن فقد كانت تريد يهود أن تنشئ دولة في المدينة شمالاً وفي اليمن جنوباً كما تريد اليوم أن تنشئ دولة لليهود في فلسطين، وفي غير فلسطين أيضاً.

هكذا كان أمرهم في الجاهلية، ثم يرسل الله رسوله ويهاجر إلى المدينة فلا يكاد يفعل حتى يمتلئ تاريخ الإسلام منذ ذلك اليوم بأخبار اليهود وفتنتهم وتأريثهم العداوة بين العرب المشركين والعرب المؤمنين، وبسعايتهم في تأليب الأحزاب على رسول الله، وبغدرهم ونكثهم ودسائسهم، لم يكفوا ساعة عن التماس غرة المؤمنين والمؤمنات، وعن ابتغاء الوقيعة بين المؤمنين أنفسهم. ويمتلئ تاريخ الإسلام منذ ذلك اليوم أيضاً بأخبار المنافقين، وقد أجاد الله لنا صفتهم في كتابه، وبين لنا أحسن البيان صلتهم باليهود وإيواء اليهود لهم، ويكثر ما نزل من الآيات في شأن اليهود والمنافقين جميعاً، مقرون ذكرهما معاً. وتكون أول سورة نزلت من القرآن في المدينة هي السورة التي تذكر فيها (البقرة)، يقول الطبري في تفسيره ج1 ص84 بإسناده عن ابن عباس:(إن صدر سورة البقرة إلى المئة منها نزل في رجال سماهم بأعيانهم وأنسابهم من أحبار يهود ومن المنافقين من الأوس والخزرج، كرهنا تطويل الكتاب بذكر أسمائهم). ثم ماذا؟ ثم تكون آخر سورة نزلت بالمدينة، أو آخر سورة نزلت من القرآن، هي سورة (براءة) أو سورة (التوبة)، تلك السورة التي فضحت اليهود والمنافقين وهتكت عن سرائرهم، وكشفت عما كانوا يبيتون من القول ومن الكيد،

ص: 26

والتي يقول الله فيها: (يحذر المنافقين تنزّل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم، قل استهزئوا إن الله مخرج ما تحذرون)، والتي سماها بعضهم (الفاضحة) و (المخزية) و (المنكلة) و (المشردة) و (المدمدمة) دلالة على ما جلبت على اليهود والمنافقين من الفضيحة والخزي والتنكيل والتشريد والدمدمة. ثم تكون هي السورة التي يذكر فيها (الأعراب) الذين حول المدينة من حلفاء يهود، ست مرات.

تنزل أول سورة من القرآن، فإذا هي في اليهود والمنافقين، وتنزل آخر سورة من القرآن فإذا هي في اليهود والمنافقين ومن حول المدينة من الأعراب حلفاء يهود، وينزل ما بينهما من القرآن في عشر سنوات متواليات يصف ما كان من أمر هؤلاء، وينذرهم، ويكشف عن دسائسهم وكيدهم، فإذا بك ترى تاريخ الإسلام في هذه الحقبة - منذ هاجر رسول الله إلى أن توفاه الله - حافلاً بالغدر والكيد والتأليب ونكث العهود ونقض المواثيق. ويكون أول ذلك أن تسلم طائفة من أحبار يهود سماهم أصحاب السير والتاريخ، يسلمون نفاقاً في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم (كما فعل كعب الأحبار وعبد الله بن سبأ وغيرهما في عهد عمر وعثمان)، فكانوا يحضرون المسجد فيستمعون أحاديث المسلمين ويسخرون منهم ويستهزئون بدينهم، ويحدثنا ابن هشام عنهم فيقول:(فاجتمع يوماً في المسجد ناس منهم، فرآهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحدثون بينهم خافضي أصواتهم، قد لصق بعضهم ببعض، فأمر بهم رسول الله فأخرجوا من المسجد إخراجاً عنيفاً)، فهل تجد أوضح ولا أبين من هذا في صفة المتآمرين حين يجلسون يتخافتون بينهم أمراً يكيدون به ويبيّتونه؟ ويظل هذا حال المنافقين وحال اليهود معاً إلى أن يدعو الله إليه رسوله: يأوي المنافقون إلى أشياخ من اليهود يتآمرون يوماً بعد يوم عشر سنوات متواليات، ويكون على رأس هؤلاء المتآمرين رجال كأمثال رفاعة بن زيد بن التابوت اليهودي الذي أظهر الإسلام وأبطن النفاق، فيسميه المسلمون (كهف المنافقين)، لأنهم كانوا يخلون إليه، ويتآمرون فيه بليل، ويستودعون ظلام هذا الكهف السميع البصير سرَّ تآمرهم وخفي كيدهم. ورسول الله في خلال ذلك كله يجاهدهم ويرجو هدايتهم، ويظل يفعل ذلك ثماني سنوات غير قانط ولا يائس، يصلي على من مات من المنافقين ويستغفر لهم، فإذا طال ذلك أنزل عليه ربه في سورة (براءة) آخر سورة نزلت، أشد آية في القرآن خاطب الله بها عبده ونبيه محمداً

ص: 27

صلى الله عليه وسلم: (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم، إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم، ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله والله لا يهدي القوم الظالمين) ثم ينهاه أشد النهي فيقول: (ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره، إنهم كفروا بالله وبرسوله وماتوا وهم فاسقون). كلمات قاطعة وأوامر حاسمة كحد السيف!!

عشر سنوات والقرآن ينزل على رسول الله في المنافقين واليهود مقرون ذكرهما معاً!! عشر سنوات تقرأ تاريخها في كتب السيرة فلا تمضي صفحة واحدة إلا وفيها ذكر لليهود والمنافقين معاً، عشر سنوات واليهود والمنافقون معاً يؤلبون على رسول الله القبائل ويفتنون المسلمين، ويدبرون الكيد للمؤمنين والمؤمنات ولرسول الله، حتى كان ما كان من اليهودية التي دست له ولأصحابه السم في الشاة فينبأ صلى الله عليه وسلم بما فعلت، فيلفظ بضعة اللحم من فمه صلى الله عليه وسلم.

ثم ماذا؟ ثم يحدثنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحدثنا منهم أمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه فيقول:(كان آخر ما تكلم به صلى الله عليه وسلم أن قال: (أخرجوا اليهود من الحجاز، أخرجوا أهل نجران من جزيرة العرب). آخر كلمة ينطق بها صلى الله عليه وسلم عند آخر عهده بالدنيا وأول عهده بالآخرة! آخر كلمة تجري على لسانه وهو يلبي دعوة ربه إلى الرفيق الأعلى! ويروي الرواة هذه الكلمة ويأتي علماؤنا أحسن الله جزاءهم فيقفون عند هذا الحديث ينظرون ما سرّ هذا الأمر الحازم القاطع؟ إنهم لا يهتدون إلى سر، ولا يقفون على خبر، إلا أن يقولوا جميعاً كما قال أبو عبيد القاسم بن سلام في كتابه الأموال ص99:(وإنما نُراه قال ذلك صلى الله عليه وسلم لنكث كان الأمر، أو لأمر أحدثوه بعد الصلح) رويدكم أيها العلماء! إنه تأويل متهافت، ولا تجعلوا الظن أصلاً في التأويل. لقد كان أولى بكم أن تسألوا أنفسكم: أي نكث ذلك الذي كان من يهود الحجاز ومن أهل نجران؟ وكيف ذهب خبره فلم يرو لنا؟ وأي أمر ذلك الذي أحدثوه بعد الصلح؟ وكيف غاب عنا خبره؟ ولكن غفر الله لكم وجزاكم خيراً إذ لم تقطعوا برأي تدلسونه على الناس كما يفعل أدعياء العلم وكذبة العلماء في عصرنا هذا، بل قلتم جميعاً كما قال أبو عبيد القاسم بن سلام:(إنما نراه)(بضم النون) أي إنما نظنه ظناً. ولكن ما قيمة الظن في أمر كهذا الأمر؟ وكيف تريدون أن تفسروا حديثاً بظن من الظنون لم تأت

ص: 28

به رواية، ولم يعرف له خبر يؤيده من حوادث التاريخ؟

كلا أيها العلماء! إنها آخر كلمة تكلم بها رسول الله وهو معرض عن الدنيا مقبل على الآخرة، آخر كلمة ينطق بها لسان نبي الله الذي لا ينطق عن الهوى. كلا فالأمر أعظم وأجل وأخطر مما تظنون. إنها كلمة من كلمات النبوة! إنها تنبيه من الله على لسان نبيه إلى أحداث ستكون، يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً. لقد كشف الغطاء وتتجلى لرسول الله غيب ما سيكون، فرآه وهو على فراش الموت كما رآه المؤمنون عياناً من بعد: فتنة ماحقة في الحجاز وما جاورها، وفي نجران وما أطاف بها. نار مشعلة فيما حول المدينة من الحجاز، وأخرى مستعرة فيما حول نجران من اليمن. إنه يقولها صلى الله عليه وسلم لا لشيء كان بل لشيء سيكون، يراه هو ولا يراه أصحابه رضي الله عنهم.

ولقد نزل الموت برسول الله صلى الله عليه وسلم كأشد ما ينزل حتى دعا بقدح من ماء، يدخل يده فيه ثم يمسح وجهه بالماء ثم يقول:(اللهم أعني على سكرات الموت. الله أعني على كرب الموت. ادن مني يا جبريل! ادن مني يا جبريل! ادن مني يا جبريل!) وعنده صلى الله عليه وسلم خميصة (ثوب من خز) يأخذها فيلقيها على وجهه، حتى إذا اغتمّ بها وضاق ألقاها عن وجهه وهو يقول (لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) ويقول أيضاً: (لئن بقيت لا أدع بجزيرة العرب دينين، وتكون آخر كلمة يتكلم بها وهو في مثل ما ترى من كرب الموت: (أخرجوا اليهود من الحجاز، أخرجوا أهل نجران من جزيرة العرب): أي أدركوا النار قبل أن تشتعل، أنقذوا العرب من فتن لا تبقي ولا تذر! أحذروا يهود الحجاز، وأحذروا أهل نجران خذوا عليهم طريق الفتنة وأخرجوهم قبل أن يخرجوكم ويسفكوا دماءكم أيتها العصابة القليلة المؤمنة! ويقبض الله إليه نبيه قبل أن يقول لهم في هذا الأمر قولاً لا يضلون بعده، وتبقى هذه الكلمة بغير تفسير حتى يقول العلماء في سرها ما قالوا رجماً بالغيب.

ثم ماذا؟ ثم لا تكاد تتم بيعة أبي بكر حتى تنفجر الردة في أماكن بعينها من جزيرة العرب، فتقول عائشة بنت أبي بكر الصديق أم المؤمنين قولاً يروى لنا، لم يلق إليه أحد بالاً إلى يوم الناس هذا: (توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل بأب ما لو نزل بالجبال الراسيات لهاضها! اشرأب النفاق بالمدينة وارتدت العرب وصار أصحاب محمد كأنهم

ص: 29

معزى مطيرة، في حُش، في ليلة مطيرة، بأرض مسبعة. فو الله، ما اختلفوا في واحدة إلا طار أبي بحظها وغنائها عن الإسلام). ويحدثنا أيضاً عروة بن الزبير العوام:(وقد ارتدت العرب إما عامة، وإما خاصة في كل قبيلة، ونجم النفاق، واشرأبت اليهود والنصارى، والمسلمون كالغنم في الليلة المطيرة الشاتية، لفقد نبيهم صلى الله عليه وسلم، وقلتهم وكثرة عدوهم).

وخليق بي وبك، أن نقف قليلاً عند هذا. نقف حيث وقف بنا أمر رسول الله أن:(أخرجوا اليهود من الحجاز، أخرجوا أهل نجران من جزيرة العرب)، نقف حيث وقفت بنا آخر كلمات تكلم بها صلى الله عليه وسلم، وحيث وقف بنا قوله وهو في كرب الموت (لئن بقيت لا أدع جزيرة العرب دينين)، وحيث وقف بنا قول أم المؤمنين عائشة:(اشرأب النفاق بالمدينة وارتدت العرب)، وحيث وقف بنا حديث عروة (ارتدت العرب. . . ونجم النفاق، واشرأبت اليهود والنصارى). ثم نأخذ جميعاً نقرأ تاريخ حروب الردة في كتب القدماء من المؤرخين، وماذا قالوا في أسبابها، ونقرأ تاريخها أيضاً في كتب المحدثين من المؤلفين والمؤرخين، ونقرأ أيضاً كتب المستشرقين الذين يجلّهم الدكتور طه ويرفع بذكرهم رفعاً شديداً فماذا نجد؟ نجد غموضاً شديداً كأننا نسير في ليلة مظلمة في بطن واد عميق، عن يمينه جبل شامخ وعن يساره جبل شامخ قد أطبقا عليه جميعاً. وإذا الردة في كتب القدماء أخبار مجموعة كما اتفق لهم أن يجمعوها، لم ينظر أحد في أسبابها، ولا في الحوافز التي أغرت العرب بها، ولا في أمر المرتدين وصفتهم وعلاقة بعضهم ببعض، ولا في وجه الشبه الذي يجمع بينهم قبل أن يرتدوا. وإذا الردة في كتب المحدثين أخبار أيضاً حاول أصحابها أن يرتبوها ما استطاعوا، فلما نظروا في أسبابها، وفي حوافزها، وفي صفة أهلها وفي علاقة بعضهم ببعض، وفي وجه الشبه الجامع بينهم قبل أن يرتدوا - إذا بهم يخلطون خلطاً شديداً كأنهم يبحثون عن ذرة في بحر من الوحل. وإذا المستشرقون يملئون كتبهم كعادتهم بالجهل الذي يضرب بعضه في وجوه بعض.

نعم، نقرأ تاريخ الردة في كل هذه الكتب جميعاً، فإذا هي خالية جميعاً من ذكر اليهود ومن ذكر المنافقين إلا كلمة شاردة ككلمة عائشة وكلمة عروة بن الزبير بن العوام تعرض في كتب القدماء، وإذا المحدثون من المستشرقين الخائضين فيما ليسوا له بأهل، لا يكادون

ص: 30

يذكرون اليهود والمنافقين في حرب الردة، وإذا هذا عجب من أعجب أمرهم، فهم أشد ولعاً بالبحث عن الأسباب واستقصائها ونبشها، من أن تخفى عليهم هذه الحقيقة البينة التي بين أيديهم، حقيقة اليهود والمنافقين وما كان لهم من خطر في تاريخ الإسلام منذ هاجر رسول الله إلى أن قبضه الله إليه!! وإذا بك ترى المؤلفين من رجالنا قد ضلوا إلى حيث أضلهم أساتذتهم من المستشرقين، فغفلوا عن تعليل الردة كيف كانت؟ وكيف بدأت؟ ومن بدأ بها؟ وكيف تم أمرها؟ ولم يسأل واحد منهم نفسه. أليس من العجيب الذي لا يقضى منه عجب أن يقضي نبي الله عشر سنوات منذ هاجر إلى المدينة حتى قبضه الله إليه، فلا يمضي يوم واحد لا يلقى فيه أشد البلاء من كيد يهود، ومن كيد أشياعهم وصنائعهم من المنافقين، ثم يظل رسول الله هذه السنوات العشر وهو يقاتل اليهود ويقاتل مكايدهم في الأوس والخزرج، وفي القبائل، وفي الأعراب حول المدينة، ثم يظل رسول الله يتلقى الوحي من ربه هذه السنوات العشر، فإذا أول سورة تنزل عليه وهي البقرة، أكثرها في ذكر اليهود والمنافقين وبيان حالهم وصلة بعضهم ببعض وأتمارهم جميعاً بالمؤمنين الذين اتبعوا ما أنزل الله على رسوله. وإذا آخر سورة تنزل عليه صلى الله عليه وسلم وهي براءة كلها في صفة اليهود والمنافقين، وفي الكشف عن أقوالهم ودسائسهم وكذبهم وخداعهم حتى فضحتهم ونبأتهم بما تخفي صدورهم من الكيد والغيظ والنفاق، ثم يكون آخر ما يتكلم به صلى الله عليه وسلم وهو في كرب الموت:(لئن بقيت لا أدع في جزيرة العرب دينين)، وأمره لصحابته:(أخرجوا اليهود من الحجاز، أخرجوا أهل نجران من جزيرة العرب)، ثم يقبض الله إليه رسوله ويبايَع أبو بكر، وما هي إلا أيام قلائل حتى تشعل نيران الردة في أماكن بعينها من جزيرة العرب شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً - أليس من العجيب الذي لا يقضى منه عجب أن لا نجد بعد هذا كله شيئاً في كتب القدماء أو المحدثين - أو المستشرقين إن شئت - ذكراً لليهود والمنافقين في أمر الردة؟ أهكذا ينتهي فجأة من تاريخ العرب ذكر اليهود والمنافقين بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أيجوز في العقول أن تظل يهود وأشياعها من المنافقين تكيد للإسلام ولرسول الله وللمؤمنين والمؤمنات عشر سنوات كاملة متتابعة يوماً بعد يوم، فإذا لحق رسول الله بالرفيق الأعلى (في سنة 11 من الهجرة) نزعوا أيديهم من كل كيد، وبرئوا من كل حدث كان بعد ذلك في تاريخ الإسلام - برئوا من الردة

ص: 31

(في سنة 11 من الهجرة)، وبرئوا من مقتل عمر (في سنة 23)، وبرئوا من الفتك بعثمان بن عفان رضي الله عنه (في سنة 35).

ولكن كيف غاب عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم معنى قوله: (أخرجوا اليهود من الحجاز، أخرجوا أعل نجران من جزيرة العرب)؟ وكيف غفل قدماء علمائنا عن معنى هذا الحديث وفيم قيل؟ وكيف ذهل المؤرخون القدماء عن أن يربطوا بين تاريخ الردة وبين تاريخ اليهود والنافقين؟ وأخيراً كيف كانت الردة في الإسلام؟ وما آثارها التي تخلفت عنها؟

هذا حديث أحدثك به إن أنسأ الله في أجلي حتى ألقاك في مكاني من هذه الصفحات.

محمود محمد شاكر

ص: 32

‌هل نملك تحريم تعدد الزوجات؟

للأستاذ إبراهيم زكي الدين بدوي

- 2 -

تفنيد رأي الباشا الجديد

5 -

بينت فيما تقدم أن ما استقر عليه رأي الباشا في بحثه الأخير يقوم على عناصر ثلاثة.

(أ) تفسيره لقوله تعالى (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فأنكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع، فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا)

(ب) تفسيره لقوله تعالى (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم، فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة)

(ح) محاولة التوفيق والتنسيق بين التفسيرين أو التأويلين. كما أتيت فيما سبق أيضاً على خلاصة وافية لهذه العناصر. وهاأنذا أوجز فيما يلي ما استدل به معاليه لكل منها مردفاً كل دليل بردي عليه: -

6 -

أدلة العنصر الأول: استدل معاليه لرأيه في تفسير الآية الأولى بالأدلة الآتية: -

الدليل الأول - أن تحديد عدد الزوجات من الأمور الأساسية في التشريع للعرب، فلا يستقيم مع بلاغة القرآن الإتيان بحكمه بصفة عرضية جواباً لعبارة شرطية واردة لغرض آخر هو الإقساط لليتامى، (بدليل أنها مسبوقة بقوله تعالى: وآتوا اليتامى أموالهم - الآية 2 من سورة النساء) فهي بعيدة بظاهرها كل البعد عن نكاح النساء وتقييد التعدد ولا مناسبة بينها وبينه.

وردي على هذا الدليل:

1 -

أن السورة الواردة فيها هذه الآية تسمى (سورة النساء) وهي من أكثر سور الأحكام اشتمالاً على أنواع مختلفة منها، فمن أحكام خاصة باليتامى والسفهاء ومعاملتهم والإقساط لهم إلى أخرى خاصة بالنساء ونكاحهن والمحرمات منهن إلى ثالثة خاصة بالمواريث والمعاملات المالية إلى رابعة خاصة بالقتال والجهاد في سبيل الله، وفي التلاوة ليست الآيات الخاصة بكل نوع مجموعة في موضع واحد من السورة بل تجد بعض آيات النوع

ص: 33

الواحد متفرقة في مواضع مختلفة منها، فمثلاً أحكام المواريث وردت عنها الآيات ذوات الأرقام 11 و12 و18 و175، وأحكام القتال والجهاد في سبيل الله وردت عنها الآيات ذوات الأرقام من 71 إلى 77 و83 و89 و90 ومن 94 إلى 96. وكذلك أحكام النساء وردت آياتها متفرقة في مواضع مختلفة من السور ومثلها أحكام اليتامى، وفي بعض المواضع تتعاقب آيات النوعين كما في الآية ذات الرقم 3 التي نحن بصددها إذ سبقتها الآية ذات الرقم 2 وعن اليتامى وهي قوله تعالى (وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب، ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم أنه كان حوباً كبيرا) ولحقتها الآية ذات الرقم 4 وهي قوله تعالى (وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شئ منه نفساً فكلوه هنيئاً مريئا) ثم الآية ذات الرقم 5 عن السفهاء والآية ذات الرقم 6 عن اليتامى؛ ومن الآيات ما تشتمل الواحدة منها على نوعين أو أكثر من الأحكام، كالآية 5 من سورة المائدة. وهذا النهج الدالة عليه جزئيات أخرى كثيرة في مختلف الصور، راجع إلى مراعاة ما بين بعض موضوعات الأحكام المتعاقبة آياتها من وجوه المشاكلة والمناسبة بالرغم من اختلاف هذه الموضوعات، وإلى أن التنزيل كان منجماً تبعاً لأسباب ومناسبات النزول. وإذن فليس في مجرد سبق الآية ذات الرقم 2 الخاصة باليتامى للآية ذات الرقم 3 ما يدل على أن الأخيرة نزلت أيضاً في شأن اليتامى قصداً وأن ما ورد فيها عن النساء جاء بصفة عرضية غير مقصودة.

2 -

والدليل على أن الكلام في هذه الآية وارد في شأن نكاح النساء قصداً لا عرضاً الآية ذات الرقم 127 المبدوءة بقوله تعالى (ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن، وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن) وهي التي تشير كما ذكر معالي الباشا إلى حكم الآية السابقة ذات الرقم 3 مما يبين أن تلك الآية نزلت قصداً في حكم النساء أيضاً، ولذا اتبعت كما قدمنا بالآية ذات الرقم 4 الواردة في حكم آخر خاص بنكاح النساء، وهو حكم صداقهن

3 -

أن في تفسير هذه الآية أقوالاً أربعة ذكرها ابن جرير الطبري المتوفى سنة 310 هجرية مؤيدة بالمأثور عن الصحابة والتابعين في بيان سبب نزولها وتفسيرها على ضوئه. وأحد هذه الأقوال ما ذكره الباشا من أنها أمر لأولياء، اليتيمات بنكاح سواهن إن خافوا ألا

ص: 34

يقسطوا لهن في أموالهن. لكن ابن جرير بعدما ذكر هذه الأقوال الأربعة قال: (وأولى الأقوال التي ذكرناها في ذلك بتأويل الآية قول من قال بتأويلها: وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فكذلك فخافوا في النساء، فلا تنكحوا منهن إلا ما لا تخافون أن تجوروا فيه منهن من واحدة إلى الأربع إلى أن قال) وإن خفتم أيضاً الجور على أنفسكم في أمر الواحدة بإلا تقدروا على إنصافها فلا تنكحوها ولكن تسروا من المماليك فإنكم أحرى ألا تجوروا عليهن لأنهن أموالكم وأملاككم ولا يلزمكم لهن من الحقوق كالذي يلزمكم للحرائر). فعلى هذا التفسير المختار تكون الآية كلها بما فيها من عبارة الشرط وعبارة الجواب واردة في نكاح النساء عامة، ويكون ذكر اليتامى في عبارة الشرط لمجرد قياس وجوب العدل في النساء على وجوب العدل فيهم ليكون ذلك أفعل في النفوس ورعاية للمناسبة بين هذه الآية والآية السابقة الواردة في اليتامى. وسواء أكان المقصود بالآية رعاية الإقساط الواجب للنساء كالإقساط الواجب لليتامى أو رعاية الإقساط لليتيمات أنفسهن، فلفظها صريح في تحديد نكاح النساء بعدد معين، وحكم إباحة التعدد مأخوذ منها اتفاقاً لأن العبرة كما هو معلوم بعموم اللفظ لا بخصوص السبب

ومما تقدم يتضح وجه الارتباط بين عبارتي الشرط والواجب في الآية ويندفع الاعتراض على إفادتها حكم التعدد.

الدليل الثاني. إن كلمة (ما) في قوله تعالى (ما طاب لكم) هي من أقوى ما يكون في إفادة العموم، والباشا يميل إلى القول بأنها نكرة بمعنى (أي شئ) أي أية امرأة أو مجموعة من النساء ولا يميل إلى القول بأنها موصولة بمعنى (من) وقد استعمل مشاكلة لها كلمة (طاب) ولم يستعمل كلمة (حل) لأن الطائب قد يكون حلالاً وقد يكون حراماً، فما يطعن على بلاغة القرآن وتساوق عباراته أن ينحدر من هذا العموم الكلي إلى التحديد والقصر على الأربع.

وأقول في الرد على هذا الدليل أنه فضلاً عن أنه لم يرد عن أحد من رجال اللغة - الذين يقول الباشا أنه اعتمد على مقرراتهم في فهم الألفاظ التي تناولها بالتفسير - القول بأن (ما) هنا نكرة، وبالرغم من أن لطاب معنيين: المعنى الذي أورده الباشا، ومعنى آخر هو (حل) وهذا المعنى هو ما قال به أئمة اللغة في تفسيرها هنا وما استقر عليه اصطلاح الأئمة والفقهاء في استعمالها، فكان أحدهم إذا استفتي في حكم فعل من الأفعال قال: أراه طيباً أو

ص: 35

أراه يطيب له (أي للفاعل) بمعنى أنه حلال أو يحل - أقول فضلاً عن ذلك فليس فيما فهم به الباشا هذين اللفظين ما يعكر على دلالة الآية على تحديد التعدد، ذلك أن العموم المستفاد من (ما) إنما هو (عموم وصفي) أي مستغرق لجميع الأفراد المندرجة تحت وصفها (لأنها نكرة موصوفة فتكون مقيدة، بوصفها كما هو معلوم) لا (عموم عددي) فالتحديد بعد ذلك في العدد لا يتعارض والعموم لأنه تحديد لغير الجهة المقصود عمومها، وإنما يمس عموم هذا اللفظ ما يخرج منه بعض أفراده أي ما يخرج بعض النساء الطيبات عن حل نكاحهن كما لو قال (فأنكحوا ما طاب لكم من النساءِ على أن كن مسلمات (أو غير يتيمات)) فتخرج في هذه الحالة الكتابيات واليتيمات مع اندرجهن تحت عموم النكرة الموصوفة. وإلا فليتفضل معالي الباشا فيدلنا على صيغة أخرى كان يمكن نزول القرآن بها للدلالة على حل نكاح ما يطيب للرجل من النساء في حدود الأربع. على أني أسارع فأنبه إلى أنه حتى على التسليم بأن في القول بدلالة الآية على تحديد التعدد قصراً وتحديداً لعمومها المستفاد من لفظ (ما) فليس في ذلك ما يصح اعتباره عدم تساوق يطعن على البلاغة إذ غاية ما فيه أنه تخصيص علم وذلك مألوف ومتعارف في القرآن وفي غيره من بليغ كلام العرب حتى قالوا (إنه ما من عام إلا وخصص) وجعلوا من أنواع العام: العام المخصوص والعام الذي أريد به الخصوص.

الدليل الثالث: أن القول بدلالة الآية على حكم تحديد التعدد يؤول بنا إلى نتيجة منكرة: ذلك أن مثنى وثلاث ورباع معناها المتفق عليه عند الجميع اثنان اثنان وثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة، فيكون المعنى أن يأتي الرجل لامرأتين فيتزوجهما في وقت واحد بعقد واحد، أو لثلاث نساء أو لأربع فيتزوجهن في وقت واحد بعقد واحد كذلك. وهذا من أشد ما يكون إفساداً للفكر لمخالفته ما هو معلوم من مجريات العادة عند العرب وغير العرب في الزواج. فليس إذن المعنى الحرفي هو المقصود وإنما هذه الألفاظ كناية عن الأخذ الجزاف المنافي لكل تحديد؛ لأن عبارة (مثنى وثلاث ورباع) أتت بكل ما في العربية من ألفاظ الصفات العددية التوزيعية إذ لم يسمع في العربية بعدها إلا لفظ (عشار) فقط

ويرد على هذا الدليل من وجهين: (الوجه الأول) إقرار معاليه على ما رآه من أن المعنى الحقيقي لهذه الألفاظ لا يمكن أن يكون مراداً بها، ومع أن يكون الأخذ الجزاف المنافي لكل

ص: 36

تحديد لازماً لهذا المعنى الذي ليس له في الواقع لازم عقلي، وغاية ما فيه أنه يمكن الخروج من النص - إذا أغفلنا معنى تحديد التعدد المتعارف منه - بأنه لم يرد فيه ما يوجب التحديد، والفرق بين الناحيتين واضح إذ الأولى ناحية إيجابية كان يجوز لو وجدت أن تكون مقصودة للشارع، أما الثانية فلا يمكن أن تكون مقصودة له لأنها أمر سلبي.

(الوجه الثاني) أنه حتى على التسليم بأنه هذا المعنى لازم للعبارة فلا يمكن أن يكون مكنياً بها عنه إذ يشترط في الكناية - كما هو معلوم - جواز إرادة المعنى الأصلي. وقد سلم معنا الباشا بأن هذا المعنى لا يمكن أن يكون مراداً. على أنه ليس مما يناسب بلاغة القرآن ومقاصده - وهو بصدد تأليف العرب بعد مصادمتهم في العادات المتأصلة فيهم كما يقول الباشا - أن يستعمل في ذلك عبارة تخالف - في ظاهرها على الأقل - ماجريات هذه العادات وقد كانت له مندوحة عن ذلك باستعمال الحقيقة، بدلاً من الكناية، في هذا المقام.

الدليل الرابع - أن القرآن لو أراد بهذه الآية تحديد تعدد الزوجات بالأربع لعبر عن ذلك بعبارة بسيطة موجزة (يحل نكاح النساء إلى أربع) بل لنص على تحريم ما وراء الأربع في آية المحرمات

والرد على الشق الأول من هذا الدليل أن التعبير على هذا النحو لا يتناسب والمستوى الرفيع لأسلوب القرآن القائم على قواعد من الترغيب والترهيب، والتبشير والتنفير، والوعظ والزجر، والوعد والوعيد، مما هو وحده كفيل بتحقيق أغراضه السامية؛ فقد أراد سبحانه أن يبين للعرب بهذه الآية الكريمة مما أطلقه لهم من سعة في أمر النكاح المشروع تغنيهم عن مقارفة الحرام فشرع لهم نكاح كل منهم اثنتين بدلاً من واحدة إن أمن الجور، فثلاثاً بدلاً من اثنتين إن أمن ذلك، فأربعاً بدلاً من الثلاث إن أمن ذلك أيضاً، فإن هم خافوا الجور في الأربع فليعدل الخائف عنهن إلى الثلاث أو الثنتين، أو الواحدة، أو ما ملكت يمينه. ولا يخفى ما في سوق التعبير على هذا النحو من بلاغة مقنعة للمخاطبين مما لا تفي به العبارة التي رآها الباشا (بسيطة موجزة)

والرد على الشق الثاني من الدليل أن آية المحرمات لم تستقص كل النساء المحرم نكاحهن، فلم يرد فيها مثلاً ذكر لزوجات الأب اللائي حرم نكاحهن بآية أخرى هي قوله (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتاً وساء سبيلا) وذلك عناية منه

ص: 37

عز شأنه بهذا التحريم يخصه استقلالاً بآية توضح شناعة ما كان متعارفاً مألوفاً من ذلك النوع من النكاح، كما لم يرد فيها ذكر المشركات المحرم نكاحهن بقوله تعالى في آية أخرى (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن) وذلك قصد بيان أغراض خاصة بمدى هذا التحريم (حتى يؤمن) وعلة (أولئك يدعون إلى النار) مما لا يشترك فيه تحريم آية المحرمات، فكذلك الحال فيما يتعلق بتحريم ما زاد على الأربع يخصه استقلالاً بآية تفي بالأغراض السابق بيانها. على أن الأمر في هذه الآية ليس مقصوراً على تحريم ما زاد على الأربع حتى كان يمكن أن تشمل مدلولها آية المحرمات، بل قصد أيضاً بيان حل التعدد إلى الأربع وترتيب التحريم لما جاوزهن على بيان حلهن وما فيه من سعة مجزئة تناسب تخصيص آية لذلك تنتظم هذه الأغراض التي لا يتناولها شأن الوارد ذكرهن بآية المحرمات واللائي قصد إلى تحريمهن لذواتهن، لا لأمر عارض كزيادتهن على الأربع. . .

(يتبع)

إبراهيم زكي الدين بدوي

المتخصص في الشريعة الإسلامية والقانون من جامعات

الأزهر وباريس وفؤاد

ص: 38

‌رسالة حائرة:

الرسالة الرابعة. . .

للأستاذ إبراهيم محمد نجا

لا تسأليني حين أرجع والأسى باد عليا

والدمع يلمح فوق أهدابي، ويعشي ناظريا:

(ما سر هذا الحزن؟ ما لك تذرف الدمع الأبيا)

نظراتك السجواء تنسيني كآباتي مليا

بسماتك الغراء تملأ عالمي زهراً نديا

لمساتك الزهراء تبعث في دمي نغماً شجيا

إني ليحزنني سؤال الناس عن سري الدفين

فبحق ما بيني وبينك من هوى لا تسأليني

لا تسأليني إذ نكون معاً هنالك في خميله

فترينني مستغرقاً في الفكر آونة طويلة:

(ما سر هذا الفكر؟ ما تلك الخيالات الجميله؟)

إني - وحبك - لست أدرك سره حتى أقوله

إني على رغمي أفكر، ليس لي في الفكر حيله

أنا زورق في لجة الأفكار لا يدري سبيله

حيران يبحث دون ما جدوى عن الشط الأمين

فبحق ما بيني وبينك من هوى لا تسأليني

لا تسأليني: (هل تراك تقول هذا الشعر عني؟

أتراك ترفعه إلي، وتستمد الوحي مني؟)

إني من الغيد الملاح الفتنات أخذت فني

من كل فارعة القوام، وكل بارعة التثني

إن حدثت، فحديثها في الروح لحن أي لحن

وإذا بدت، فكأنها فجر الربيع بدا يغني

ص: 39

يا منيتي أنا بلبل يشدو على كل الغصون

فبحق ما بيني وبينك من هوى لا تسأليني

لا تسأليني أن أراك، وأنت في حضن الضياء

إن الضياء يذيع أسراراً تحن إلى الخفاء

إني لأهوى أن أراك، وأنت في ظل المساء

فالليل عند ذوي القلوب يزيد في سحر النساء

والليل لحن ساحر الأنغام، مسحور الأداء

والليل قيثار تداعبه ملائكة السماء

هذي مناي أذعتها بيضاء سافرة الجبين

فإذا فهمت حديثها، فعساك ألا تسألني

لا تحرجيني بالسؤال؛ فقد يحيرني الجواب

ما كل شئ في الضمير يبين معناء الخطاب

ومن الأماني ما يبينه الحياء والاضطراب

وأرى المعاني كالنساء، فبعضهن له نقاب

وأرى العيون لها حديث ليس يخطئه الصواب

تبدي السرائر مثلما يبدو من الكأس الشراب

فتعرفي بالروح روحي، وافهمي لغة العيون

وبحق ما بيني وبينك من هوى لا تسأليني

إبراهيم محمد نجا

من الأدب البرازيلي

ص: 40

‌من الأدب البرازيلي

ترجمة الأستاذ شفيق معلوف

شراعان

طريقك غير طريقي وروح

ك رائدها لم يعد رائدي

شراعان نحن فسيري ولا

تعودي فما أنا بالعائد

يرانا القريب فيدرك بعد

شراعك عن زورقي الشارد

وأما البعيد فيحسب أنا

شراعان في زورق واحد

(جودس ازغور وغوتا)

ضحك وبكاء

لئن بكى الطفل في المساجد تجد

في خده فجر لؤلؤ ضحكا

ويبسم الشيخ للضحى فترى

غياب شمس في مقلتيه بكى

(الفريدو ده اسيس)

الذكريات

كأنيَ بالذكريات ازدحمن

على الصدر مختلجات الجناح

حمامات برج توارت وعادت

إلى البرج مثخنة بالجراح

(الفريدو ده اسيس)

ص: 41

‌الأدب والفن في أسبوع

القومية العربية حتى تكون الجامعة:

كانت المحاضرة الأخيرة للأستاذ ساطع الحصري هي: (نشوء الفكرة القومية في البلاد العربية منذ الحرب العالمية الأولى حتى تكون جامعة الدول العربية)؛ وقد ألقاها يوم السبت في الجمعية الجغرافية الملكية، فختم بها بحثه القيم في نشوء القوميات في بعض البلاد الأوربية وفي تركيا وفي البلاد العربية، وقد استعرض في كل هذه البلاد الحوادث والتيارات الفكرية الدالة على أن القومية نشأت وتكونت في كل منها على أساس اللغة والتاريخ.

وقد أشار في بدء هذه المحاضرة إلى الاتفاق الذي تم قبيل الحرب العالمية الأولى بين العرب والأتراك، والذي يقضي بجعل التعليم في المدارس باللغة العربية بدل التركية وبإشراك العرب في بعض المناصب والهيئات النيابية، فقال إن هذا الاتفاق قوبل بالارتياح من الجانبين، ولكن التيارات السايسية المختلفة ظلت آخذة في مجراها، وجدت حوادث منها الانتقام من زعماء العرب واضطهادهم، مما بث فكرة الثورة في نفوس العرب، حتى حانت الفرصة، وقامت الثورة العربية فعلاً ضد الدولة العثمانية، وتقدم الجيش العربي إلى سوريا، وكان يساعده الإنجليز والفرنسيون، وتكونت دولة عربية في قلب سوريا، فقوي الشعور بالقومية العربية وبلغ الحماس لها أشده، وغذاها الكتاب والشعراء.

ولما انتهت الحرب كان الانتداب الفرنسي من قسمة سوريا ولبنان، فأخذت فرنسا تعمل على إضعاف القومية العربية بالطريقة التي تتبعها في شمال إفريقية، فكما كانت تقول لأهل تونس والجزائر، إنهم ليسوا عرباً، وإنما هم من سلائل الرومان، وتمنع التعليم باللغة العربية وتقصره على الفرنسية فيما عدا القرآن؛ كذلك كانت تصنع مع السوريين، وخاصة المسيحيين منهم الذين كانت تقول لهم إنهم من سلالة الصليبيين؛ وعلى الرغم من كل ذلك وغيره من الوسائل ظلت القومية العربية متمكنة من نفوس العرب في سوريا ولبنان. أما في العراق فلم تقاوم الفكرة العربية، لأن الإنجليز كان أكبر اهتمامهم موجهاً إلى الاستراتيجية والشئون الاقتصادية؛ واشتدت العروبة في فلسطين لقوة الشعور بها أمام الصهيونية.

ص: 42

ثم قال الأستاذ: إن مصر كانت بعيدة عن الحركة العربية الأولى، لأنها كانت في شبه استقلال عن الدولة العثمانية، وكانت اللغة الرسمية فيها العربية، وكانت تنظر إلى الدولة العثمانية على أنها دولة الخلافة الإسلامية، فهي تتجه إليها بعواطفها، بل كانت تتطلع إليها للخلاص من الإنجليز؛ ومن الغريب أن الأتراك الذين ينظر إليهم المصريون هذه النظرة - كانوا يحسدون المصريين على ما هم فيه من الحرية المفقودة عندهم، لأنهم كانوا يعانون الاستبداد وتقييد الحريات.

ولكن مع مرور الزمن تنبه المصريون إلى الحقائق وأدركوا مرامي الفكرة العربية، وشعروا بضرورة التقارب بين البلاد العربية، وأخذ الأفراد والجماعات في جميع البلاد العربية تسير نحو هذا التقارب بمختلف الرسائل، حتى انتهى الأمر إلى شعور الحكومات بذلك، فجعلت تتقارب، حتى تكونت جامعة الدول العربية، فأخذت الفكرة العربية بذلك صبغة رسمية.

ثم قال الأستاذ: إلى هنا ينتهي الجانب التاريخي، أما بعده فهو الجانب السياسي لأنه كلام في الحاضر، وأنا أريد أن أتجاوز هذا الحاضر فأتنبأ بالمستقبل، لأني أرى الظواهر الاجتماعية كالظواهر الطبيعية من حيث دلالة الأمور على ما تفضي إليه، وقد صحت نبوءتي منذ نحو عشرين عاماً بأن مصر ستتحول إلى الفكرة العربية وتعتنقها - لذلك أستطيع أن أقول - بعدما أذكركم بما لاحظناه في المحاضرات السابقة من أن اللغة والتاريخ يدفعان إلى القومية حتماً - بأن جامعة الدول العربية ما هي إلا بذرة وخطوة في سبيل كالتي سارت فيها الإمارات الألمانية. . .

تأبين الجميل باشا

أقام مجمع فؤاد الأول للغة العربية يوم الأحد حفلة تأبين لعضوه المغفور له أنطون الجميل باشا بدار الجمعية الجغرافية الملكية، فافتتح الحفل الدكتور فارس نمر باشا بكلمة قصيرة نائباً عن الرئيس الذي لم يحضر لانحراف ألم بصحته. ثم ألقى الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني كلمة ضافية تتبع فيها مراحل حياة الفقيد وعمله في خدمة الأدب والصحافة، وأفاض في بيان مزاياه وصفاته الخلقية الكريمة.

ثم ألقى الأستاذ علي الجارم بك قصيدة متينة التركيب عالية البيان، وأستطيع أن أصفها

ص: 43

بغير ذلك من جزالة اللفظ ووفرة المعنى والاستعارة والخيال، ولكني آخذ عليه قوله:

نسي الشعر في صراع الرزايا

رنة الكأس والغزال الأغنا

شغلته مآتم ونعوش

عن هوى زينب وعن وعد لبنى

فإن مجرد ذكر الكأس المرنة والغزال الأغن وهوى زينب ووعد لبنى - لا يتفق والمقام

وبعد قصيدة الجارم بك ختم نائب الرئيس الحفل بشكر الحاضرين.

المحندأ والمبهوأ:

اتخذت إحدى المجلات من هاتين الكلمتين مقرونتين بالجمع اللغوي، عنواناً وموضوعاً للتفكهة، لما يبدو بين الكلمتين العاميتين وبين مجمع اللغة العربية من المفارقة والغرابة، وطاب للمجلة - على أسلوبها - أن تتندر بأن أعضاء المجمع يدعون إلى استعمال بعض الألفاظ العامية دون اعتبار لما ورد في المعاجم من فصيح اللغة، وأوردت بعض أقوالهم في ذلك.

وحقيقة الأمر أن مؤتمر المجمع كان يناقش البحث الذي قدمه إلى الأستاذ محمد فريد أبو حديد بك في (العامية الفصحى) والذي يرى فيه وجوب دراسة اللغة العامية لأنها لغة قائمة في حياتنا دراسة تعين على تعزيز الفصحى ببعض الكلمات العامية المحرفة عن العربية، وذلك بردها إلى أصلها، لأن هذه الكلمات يجعلها شيوعها محاطة بهالة تحدد معناها، فيكون ذلك كسباً كبيراً للغة الفصحى.

وقال الأستاذ أحمد أمين بك في مناقشة هذا الموضوع: (تستعمل اللغة العامية كلمات لها معان محددة لا نستطيع التعبير عنها في الفصحى تعبيراً دقيقاً، فقد عرضت على المجمع من قبل كلمة فترجمت بـ (نموذج) إلا أن هذه الترجمة ليست دقيقة في أداء المعنى وأن كلمة (عينة) العامية ندل على هذا المعنى دلالة تامة. وقد رأى المجمع أن صياغتها عربية فوافق عليها. وإذا قال العامة (بيت محندأ) أي ضيق في جمال، و (بيت مبهوأ) أي واسع في غير نظام فإن الدلالة العامية أدق من الدلالة العربية وهي ضيق وواسع، فلو وجدنا أنفسنا في حاجة إلى مثل هذه الكلمات وليس في الفصحى ما يطابق معناها مطابقة دقيقة فلا مانع من إدخالها في اللغة العربية بعد ردها إلى الصيغ العربية).

وقال الدكتور طه حسين بك (في العامية ألفاظ عربية فصيحة تغير النطق بها مثل (السيدة)

ص: 44

و (الست) فالسيدة عربية والست عربية أيضاً ولكننا حين نبحث في القاموس لا نجد لفظة (الست) مع أننا نعلم أن من بين نساء العرب من تسمى بـ (ست الكل) و (ست الملك).

وقال منصور فهمي باشا: (لقد عثرت على كلمتي (جواني) و (براني) الدارجتين في اللغة العامية وأصبحت أستعملهما في الفلسفة).

والمتأمل في هذا الموضوع يجد له ناحيتين: الأولى البحث عن الكلمات العامية المنحرفة عن الفصحى وردها إلى أصلها. وهذا عمل صالح من غير شك، فنحن ورثة اللغة العربية وسلائل العرب، وأكثر ما يجري على ألسنتنا له أصول وجذور في لغة أجدادنا، ولست أرى جريه على الألسنة ابتذالاً له، بل هو يكسبه ظلالاً وأطيافاً نستطيع أن نجمعها إلى الفصاحة برد الكلمة إلى الفصحى. والناحية الثانية أخذ كلمات من العامية لمعان لا نجد لها في العربية ألفاظاً تفي بدقة التعبير وفاء تلك الكلمات العامية. ويمكن رد هذه الناحية إلى الأولى وإقفال هذا الباب المؤدي إلى خطر العجمة. وهنا تظهر فائدة الدراسة التي قال بها فريد بك، فإننا نستطيع بها تعرف الأصل العربي لكثير من الألفاظ العامية فنقضي بها حاجات التسمية والتعبير، وترجع إلى أمها الفصحى كما يرجع الغائب إلى أهله.

ونأخذ مثلاً هذه الألفاظ التي مثل بها حضرات أعضاء المجمع فكلمة (عينة) التي رأى المجمع صياغتها عربية فوافق عليها كان يمكن إقرار كلمة (عينية) بدلها، فهذه مصدر مصنوع من كلمة (عين) بمعنى نفس الشيء، وهي نص في المعنى المطلوب، ولا حاجة مع هذا إلى التخريج الذي لجأ إليه المجمع في كلمة (عينة) وما أرى (المحندأ) إلا مأخوذاً من (حندوقة العين) وهذا الأخذ مبني على تشبيه الشيء (المحندأ) بالحندوقة في الجمال والصغر والاستدارة. وما أرى (المبهوأ) إلا من (البهو) بما يدل عليه من السعة وبعثرة الأثاث في جوانبه. أما (الست) فهي كلمة مولدة بالتحريف عن (السيدة) وقد وردت كثيراً في كلام المتأخرين، وأما (جواني) و (براني) فقد أوردهما الصرفيون في المنسوب على غير قياس.

هذا وقد قرر مؤتمر المجمع إحالة ذلك البحث إلى لجنتي (اللهجات) و (الألفاظ والأساليب)، ومما يذكر أن اللجنة الثانية أنشئت أخيراً في المجمع، أما لجنة اللهجات فهي موجودة منذ إنشائه، ولم تنجز شيئاً إلى الآن، وأرى أنها تستطيع أن تثبت وجودها وفائدتها بتنظيم

ص: 45

دراسة الموضوع الذي نحن بصدده للوصول إلى نتائج عملية فيه، كما أرى أن هذا أجدر بجهودها من الدراسات اللغوية التاريخية التي هي أليق بالمعاهد والجامعات.

حق المؤلف:

وافق مجلس الجامعة العربية على مشروع القانون الذي وضعته اللجنة القانونية لحماية حق المؤلف، وأوصى مجلس الجامعة حكومات الدول العربية باتخاذه في كل منها.

وقد بين المشروع الذين يتمتعون بحماية هذا القانون، وهم مؤلفو المصنفات المبتكرة في الآداب والفنون والعلوم أياً كانت قيمة هذه المصنفات وبصرف النظر عن استعمالها أو الغرض من تصنيفها. وتشمل هذه الحماية المصنفات التي يكون مظهر التعبير عنها الكتابة أو الصوت أو الرسم أو التصوير أو الحركة. ويعتبر مؤلفاً الشخص الذي ينسب إليه المصنف عند نشره. ويتمتع بالحماية من ترجم مصنفاً إلى لغة أخرى، ومن قام بتحويل مصنف من ضرب من ضروب الأدب والفنون إلى ضرب آخر، أو من قام بتلخيصه أو تحريره بما في ذلك كل صور إظهار المصنفات الموجودة بشكل جديد، ولا تخل هذه الحماية بحقوق مؤلفي المصنفات الأصلية وللمؤلف وحده الحق في تقرير نشر مصنفه، وفي تعيين طريقة هذا النشر، وله أيضاً الحق في استغلال مصنفه مالياً بأية طريقة يختارها، وله كذلك الحق في أن يجيز نقله إلى الجمهور بأية وسيلة كانت، ولا يجوز لغيره أن يباشر شيئاً من ذلك إلا بإذن كتابي منه. ولا يجوز نقل الروايات المتسلسلة أو القصص الصغيرة وغيرها من المصنفات الأدبية أو الفنية أو العلمية، التي ينشرها مؤلفوها في الصحف أو النشرات الدورية إلا بإذن منهم.

وتضمن القانون عدا ذلك مواد أخرى وتفصيلات لحالات مختلفة في التأليف الموسيقي والسينمائي وغير ذلك، كما بين حقوق ورثة المؤلفين.

وقد بين أيضاً جزاء المخالف لأحكامه، وهو الحبس لمدة لا تزيد على ثلاثة أشهر وبغرامة لا تزيد على مائة جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين، عدا ما تقضي به الحال من التعويضات.

العباس

ص: 46

‌البريد الأدبي

أكذوبة فظيعة:

سامحك الله يا أستاذ طنطاوي على اتخاذك من الأكاذيب موضوعاً للكلام الفلسفي في (حكمة القدر).

سامحك الله مرة أخرى على تصديقك (الأكذوبة الفظيعة) أكذوبة سقوط ابنتي من شرفة الطابق الخامس وقد بلغت سالمة ولم (تعجنها السقطة عجناً).

ألا تعلم يا صاحبي أن قاص ألفق الحكايات فأنفخ في الممكنات من روحي فأصيرها خلقاً سوياً من جسد وروح؟ أليس من حق القاص أن يتذرع بالأكاذيب عله بها يدرك (حكمة القدر)؟

قد تعرف يا صديقي أني كنت أتغرد في حبك الأكاذيب سواء فيما كتبت ونشرت في النقد الأدبي، وفي كتابة القصة ولم أشرك في تلفيقي أحداً، أما هذه المرة، فإني أعترف لك بأني لم أكن - ويا للأسف - الملفق وحدي لأكذوبة سقوط ابنتي (الحلوة) حقاً من شاهق، بل اشترك في توشيتها وتنميقها وتنسيقها وعرضها حتى وصلت إليك على النحو الصحيح الذي أذعته ثم نشرته في (الرسالة) بل اشترك معي فيها.

1 -

جيران بيتي وفيه من الطوابق خمسة ومن (الشقق) ثلاثون شقة فمن هؤلاء الجيران من رأى الحادث رأى العين، ومنهم من سمع به.

2 -

رجال الإسعاف وقد نقلوا ابنتي إلى مستشفى القصر العيني

3 -

أطباء قصر العيني وقد آووها عندهم مدة يومين كاملين

4 -

رجال بوليس قسم الأزبكية وقد أجروا تحقيقاً لمعرفةأسباب السقوط بمحضر رقم (325).

5 -

رجال النيابة وقد حفظوا القضية بنمرة (9830).

6 -

وأخيراً أطباء مستشفى عانوس وقد عالجوا ابنتي وقد أصيبت بارتجاج في المخ وقد زال بحمد الله بعد عشرة أيام.

هؤلاء كلهم اشتركوا معي في تلفيق هذه الأكذوبة التي لا تنطبق حقاً على ناموس الجاذبية، ولا على القانون الطبيعي، ولا على أساطير العجائب والمعجزات، بل ربما تنطبق على

ص: 48

(حكمة القدر).

حبيب الزحلاوي

النساء ملائكة:

عندما صخب أمراء فرنسا ورجال الإقطاع فيها في دار ندوتهم على الوزير العظيم الكردينال (ريشيليو) وانهالوا يسلقونه بألسنة حداد، استمع الوزير لصخبهم وضجيجهم في هدوء المطمئن، الواثق من نبل غرضه، وشريف قصده، وعندما استهل كلامه رداً على ما جاء على ألسنتهم من هجر القول وفحشه قال:

(أكثروا من الشتائم واتخذوا منها أكمة فلن تدركوا مقدار إشفاقي عليكم) ثم استمر يتحدث في صلب الموضوع وصميمه دون الدخول في مهاترة أو إسفاف. ووالله لا أجد ما أستهل به ردي على الأستاذ الكريم أحمد الشرباصي المدرس بمعهد القاهرة الثانوي، خيراً مما استهل به الكردينال حديثه. ثم أدلف إلى الصديق أعاتبه، وإلى العالم أحاسبه، في هدوء المؤمن بمبدئه والعامل على تنفيذه وما أقصد غير وجه الحق وحده.

لقد شغلك يا صديقي ألوان الصور وجمال المناظر، عن التعمق في درس ما بين سطور كتابي (النساء ملائكة) من أغراض نبيلة، ومبادئ جليلة وآراء. هي كلها دعامات للأخلاق الحميدة. فكم فيه من دفاع عن الفضيلة وكؤوس مترعة بالخمر البريئة، يستقيها الظمآن فتتشرب نفسه ما فيها من حلال زلال.

وبقدر ما راعتك الصور التي أخرجتك عما أعرفه فيك من هدوء، وأعهده فيك من إنصاف، بقدر ما أهملت أيها الأخ الصديق تصفح الكتاب ومحاولة نقده نقداً عادلاً أرتضي حكمك بعده، فتصفح الكتاب، وأنا راض بعد ذلك حكمك، ومتقبل نقدك.

والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.

محمود يوسف الأمين بدار الكتب المصرية

الغوغاء

في العدد (760) من الرسالة الغراء، تساءل الأستاذ أبو ماضي عن رأي الأدباء في ورود كلمة (الغوغاء) مؤنثة في الفقرة (961) من نقل الأديب، مع أن المفهوم أن لفظ (الغوغاء)

ص: 49

مذكر، وأن همزته ليست للتأنيث الخ.

غير أن هذا الذي يعتبره الأستاذ أبو ماضي مفهوماً لا خلاف فيه ليس هو كل شئ في الموضوع

فقد جاء في اللسان: الغوغاء، الجراد إذا احمر وانسلخ من الألوان كلها، وبدت أجنحته. . . الجراد أول ما يكون سروة، فإذا تحرك فدباً قبل أن تنبت أجنحته، ثم يكون غوغاء وبه سمي الغوغاء، والغاغة من الناس. وهم الكثير المختلطون. . يذكر ويؤنث، ويصرف ولا يصرف. . . فمن صرفه وذكره جعله بمنزلة قمقام والهمزة بدل من واو، ومن لم يصرفه جعله بمنزلة عوراء. قال أبو العباس: إذا سميت رجلاً بغوغاء فهو على وجهين: إن نويت به ميزان حمراء لم تصرفه، وأن نويت به ميزان قعقاع صرفته.

وجاء في تاج العروس: الغوغاء الجراد، يذكر ويؤنث، ويصرف ولا يصرف، هو أولاً سروة، فإذا تحرك فدباً، فإذا نبتت أجنحته فغوغاء. كذا في التهذيب.

وقال الأصمعي: والغوغاء الكثير المختلط من الناس، سموا بغوغاء الجراد على التشبيه.

وفي نوادر قطرب: مذكر الغوغاء أغوغ، وهذا نادر غير معروف. ومما تقدم نرى أن كلمة غوغاء تذكر وتؤنث وتصرف ولا تصرف وأن همزتها مختلف فيها بين أن تكون منقلبة على الواو وبين أن تكون للتأنيث.

وبالغ قطرب فاعتبر الكلمة مؤنثة بلا نزاع، واخترع لها مذكراً! هذا هو حكم اللغة ورأي علماء اللغة، فلا حرج على ابن السبكي إذا أنث (الغوغاء) في طبقات الشافعية، ولا تثريب على فقيد العربية النشاشيبي إذا نقل ذلك بلا تعقيب.

برهان الدين الداغستاني

(لن) لا تقتضي تأكيداً ولا تأييداً:

قرأت بإعجاب ما كتبه الأستاذ إبراهيم زكي الدين بدوي معقباً على كلام صاحب المعالي عبد العزيز فهمي باشا

غير أنه قد استرعى انتباهي في كلام معاليه هذه العبارة (ولن كما يقرر النحاة هي أشد أدوات النفي للمستقبل إذ تنفيه نفياً باتاً فالقرآن يسجل بصريح العبارة أن الاستطاعة

ص: 50

مستحيلة أي أن العلة المتوهمة للتصريح بالتعديد لن تتحقق أبداً)

والذي أعلمه أن لن كما ذهبت إليه جمهرة النحاة لا تقتضي تأييداً للنفي ولا تأكيداً، ولم يقل بذلك إلا الزمخشري في كتابيه (الأنموذج والكشاف) مستدلاً على مذهب المعتزلة في نفس رؤية الله تعالى حينما تعرض لتفسير الآية الكريمة من سورة الأعراف (قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني) حتى لقد صار كلامه في لن مضرباً للأمثال فقال الأدباء (لن الزمخشرية) وإنني مع احترامي لألمعية الزمخشري - أضع يدي في يد النحاة وأذكر للرد على كلامه أدلة منها

1 -

أنه لم يقم دليل على كونها للتأييد

2 -

وأنها لو كانت كذلك للزم التناقض بذكر اليوم في قوله تعالى (فلن أكلم اليوم إنسياً)

3 -

وللزم التكرار بذكر الأبد في قوله تعالى (قل لن تخرجوه معي أبدا).

وأما التأييد في قوله تعالى (لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له) فمن أمر خارجي لا من مقتضيات لن، والله الموفق للصواب.

هارون محمد أمين

ص: 51

‌القصص

أسطورة الحب الخالد

عن الإنجليزية

بقلم الأستاذ ماجد فرحان سعيد

كان لأحد الملوك ثلاث بنات. وكان جمال الكبريين رائعاً ساحراً. أما الصغيرة فلقد تفردت بجمال عبقري يعجز البيان عن إيفائه حقه من الوصف الصادق البليغ. وتضوعت فتنة سحرها وجمالها حتى صار الناس يتوافدون عليها من كل صوب وحدب ليتمتعوا بمشاهدتها، ويؤدوا لها فروض الاحترام الذي لا يليق إلا بفينوس - إلهة الحب والجمال.

وغضبت فينوس على هذا التمرد الذي بدا لها من الناس، فهزت رأسها بسخط قائلة:(أمن المعقول أن تقوى هذه المخلوقة البشرية على إهدار كرامتي واغتصابها؟ ولكنني سأجعلها تندم وتتمنى لو لم يكن لها ذاك الجمال الخارق!). ثم دعت ابنها كيوبيد - وهو كما نعلم إله الحب - واستثارته بشكواها قائلة: (كل ما أريده منك يا ولدي العزيز أن تعاقب بسيشي، تلك الحسناء المتمردة؛ أريد أن تنتقم لي منها انتقاماً يطفئ غلتي؛ دعها مثلاً تعلق بحب شخص حقير، يذيقها من صنوف الإهانات أمرها وأقساها!). فتأهب كيوبيد لتنفيذ أوامرها؛ وذهب إلى حديقتها الجميلة، حيث يوجد نبعان، أحدهما عذب، والآخر ملح أجاج. وملأ من كل منهما إناء، وأسرع به إلى مخدع بسيشي، حيث وجدها نائمة؛ وذرف على شفتيها بضع قطرات من الماء الملح؛ ولكن منظرها الفاتن كان قد أثار في قلبه آنذاك كوامن الحب والإشفاق. ثم وخز جانبها بطرف سهمه فاستفاقت مذعورة، وفتحت عينيها لتشاهده، إلا أنها لم تتمكن من رؤيته لأنه كان متخفياً. فاضطرب حركاتها حتى جرح نفسه بطرف سهمه. ولكنه لم يعبأ بجرحه، وكل ما كان يبتغيه أن يخفف من الضر الذي ألحقه بها؛ ولذلك عاد فذرف على جرحها بضع قطرات من البلسم الصافي.

ولم تجن بسيشي نفعاً من سحرها وجمالها بعد أن حل عليها غضب فينوس، لأن أحداً لم يتقدم إليها طالباً الزواج، مع أن أختيها، وهما لا تضاهيانها سحراً وجمالاً تزوجتا منذ وقت طويل. وجلست الحسناء وحيدة في مخدعها، وسئمت هذه الوحدة حتى وهذا الجمال، هذا

ص: 52

الجمال الذي نالت به أكبر المدح والإطراء ولكنه عجز عن إيقاظ الحب في القلوب.

وخشي أبواها أن يكونا قد أثارا سخط الآلهة، ولذلك استشارا الكهان في أمرها؛ فعلما إذ ذاك بأنه كتب لها أن لا يكون زوجها من البشر، وإنما هو وحش مروع ينتظرها على قمة جبل قريب. فملأت هذه الكلمات قلبيهما رعباً وحزناً؛ ولكن بسيشي قالت لهما: - (ولم تنتحبان علي الآن؟ لقد كان أجدر بكما لو حزنتما عندما كان الناس ينثرون علي باقات الثناء الذي لا أستحقه، حتى بلغ بهم إجلالي أن دعوني فينوس! إنني أقدر الآن بأنني ضحية ذلك اللقب؛ هيا إذاً أوصلاني إلى الجبل الذي سألقى عليه حظي العازب!).

وتمت جميع الترتيبات؛ وأخذت الحسناء مكانها في الموكب المتوجه إلى الجبل، ما بين نحيب الناس وعويلهم. وهناك تركوها وحيدة، وعادوا إلى بيوتهم.

وقفت الحسناء على حافة الجبل بقلب لاهث من شدة الخوف، وعينين محمرتين من كثرة الدموع. وإذا بالريح الغريبة اللطيفة تأتي وتحملها إلى واد مزهر. وهناك ألقت بنفسها على الضفة الخضراء واستسلمت للنومز ولما استفاقت نظرت حولها، وإذا بها ترى حديقة غناء ضفرت على حفافي ممراتها أكاليل من الخضرة الزاهية؛ فدخلتها، ودهشت إذ رأت في وسطها نبعاً تفيض منه مياه بلورية صافية، وبالقرب من النبع قصراً بهياً، أعمدته ذهبية لامعة، وجدرانه مرصعة بالرسوم والنقوش البديعة التي ترتاح لها العين، وتنعم القلب بالبهجة والسرور.

وعندما توغلت في الحديقة، رأت غرفاً وقاعات فخمة، تغص بالكنوز الثمينة وبثمرات الفن الرفيع والطبيعة الخلابة. وإنها لكذلك، إذ بها تسمع صوتاً يخاطبها قائلاً:(أيتها الفتاة الفاضلة! إن كل ما ترينه ملك لك! وإنما الأصوات التي تسمعينها أصوات جواريك اللواتي ينتظرن تنفيذ ما تأمرين به. فإذا ما أردت الاستراحة فهناك على فراشك الوثير؛ أما العشاء، فإنه ينتظرك في الخميلة المجاورة).

وفعلت الحسناء كما أشير عليها؛ فبعد أن استراحت جلست في الخميلة، حيث وجدت مائدة معدة، عليها من المأكولات ألذها، ومن الخمور أجودها. كما وإنها شنفت أذنيها لسماع الألحان العذبة التي كانت تعزفها فرقة موسيقية خفية.

ولكنها حتى ذلك الوقت لم تكن قد رأت زوجها الموعود، لأنه كان يأتيها في ساعات

ص: 53

الظلام، ويغادرها قبل انبثاق الفجر. ولطالما تضرعت إليه أن يمكث عندها لتتمكن من مشاهدته؛ ولكنه لم يكن ليوافق أبداً، بل كان يقول لها: - (ولم ترغبين في مشاهدتي؟ هل تشكين في حبي لك؟ إنني أخشى إن رأيتني إما أن تخافي مني، أو أن يستحيل حبك لي عبادة حارة؛ وكل ما أرجوه أن تقابليني بمثل حبي!).

وكأن هذا الجدال قد هدأها مدة من الزمن، لاسيما وقد استمرأت تلك السعادة التي رتعت فيها. ولكنها عندما كانت تخلو بنفسها، كانت تحن إلى أبويها وأختيها. وفي إحدى الليالي طلبت من زوجها أن يسمح لأختيها بزيارتها. فمنحها ذلك الطلب عن طيبة خاطر.

وأمرت الحسناء الريح الغربية بإحضارهما. فأقبلتا في الحال، وعانقاها وتبادلن القبل مراراً. ثم دعتهما لدخول مخدعها والقصر الذهبي، وأرتهما هناك كنوزها العديدة. فلما شاهدتا ما هي عليه من النعمة ورخاء البال، بدأ الحسد ينخر في صدريهما. ولما استدرجتاهما إلى الاعتراف بأنها حتى ذلك الحين لم تكن قد رأت زوجها، بأتا تغويانها على خيانته، وتوغران صدرها بشتى أنواع الشكوك؛ وفي ذات مرة قالتا لها: - (أنسيت ما تنبأ به الكهان من أن زوجك ليس إنساناً؟ إنه وحش مريع يغذيك الآن بكل لذيذ ليأكلك في النهاية لقمة سائغة! فاعمل فاعمل يا أختاه بنصيحتنا؛ جهزي نفسك في الحال بمصباح وسكين حادة؛ وعندما يكون زوجك غارقاً في نومه، أشعلي المصباح، واقتربي منه، وقفي بنفسك على حقيقة حاله. فإذا تأكدت من صحة ما نقول، فلا تتواني دقيقة في قطع رأسه لتتخلصي منه!)

وقاومت بسيشي هذا الإغراء في بادئ الأمر؛ غير إنها استسلمت له في النهاية. وما إن أضاءت المصباح واقتربت من زوجها، حتى شاهدت بدلاً من الوحش المخيف الذي حذرت منه، إلهاً جميلاً ساحراً، تتدلى على رقبته العاجية ووجنتيه الموردتين، ضفائر ذهبية من الشعر، وينتصب على كتفيه جناحان نديان أبيضان، عليهما ريش لامع كنوار الربيع. وعندما أدنت المصباح من وجهه، سقطت على كتفه قطرة من الزيت الساخن فاستفاق إذ ذاك مذعوراً، وحدق فيها برهة، ثم أطلق جناحيه للريح؛ وطار من النافذة دون أن يفوه بكلمة واحدة. وعبثاً حاولت بسيشي أن تلحق به؛ فلقد سقطت من النافذة على الأرض. وعندما رآها كيوبيد تتمرغ بالتراب، توقف عن طيرانه ورجع إليها ثم قال: - (أكذا

ص: 54

تقابلين حبي أيتها البلهاء؟ أهكذا، بعد أن عصيت أوامر والدتي واتخذتك زوجة لي، تذعنين لإغواء أختيك وتحاولين قتلي؟ ولكن ارجعي إليهما وافعلي ما تشائين! واذكري أنني لن ألحق بك أي قصاص سوى أن أهجرك إلى الأبد؛ إذ كيف يمكن للحب أن يأوي ما بين الشكوك؟!) وما كاد ينهي كلامه حتى طار بعيداً وتركها مستلقية على الأرض تملأ المكان بعويلها ونحيبها.

واستعادت الحسناء بعض رشدها ونظرت حولها، وإذا بالقصر والجنان قد تلاشت واختفت؛ ووجدت نفسها على مقربة من مسكن أختيها. فقصدته، وقصت عليهما ما حدث. فتظاهرتا بالحزن والإشفاق، ولكنهما قد ابتهجتا داخلياً، وظنتا بأنه من الممكن أن يختار كيوبيد إحداهما بدلاً منها. غير أنهما لم تجهرا بتلك الخطة، بل صعدتا في الصباح التالي إلى الجبل، ونادتا على الريح الغربية لكي تحملهما إلى كيوبيد. فلما قفزتا في الهواء، سقطتا في الهواية وقضي على حياتيهما.

أما بسيشي، فقد أخذت تهيم على وجهها ليل نهار، باحثة عن زوجها. فوقعت عيناها على رأس جبل شامخ، يطل من فوق حاجبه هيكل بهي، فتنهدت وقالت في نفسها: - (أليس ممكناً أن يكون حبيبي هناك؟!). وأسرعت صوب قمته. وما كادت تدخله حتى رأت فيه أكواماً كبيرة من الحنطة والشعير، نثرت حولها المناجل وآلات الحصاد. وأرادت أن تسترضي فينوس، ولذا عمدت إلى فصل هذه الأشياء بعضها عن بعض. فلما رأتها سيريس - إلهة الحصاد - منهمكة في العمل، خاطبتها قائة:(مسكينة أيتها الفتاة! ولكن لا تكتئبي، فسأرشدك إلى طريقة تهدئين بها غضب فينوس ، اذهبي إليها، وأظهري لها كل خضوع واحترام، تنالي عفوها، وتسترجعي زوجك المفقود) فوافقت بسيشي على هذا، وتوجهت إلى هيكل فينوس. فلما رأتها الإلهة، لمعت عيناها ببارق من الغضب، وقالت: - (أتذكرين الآن فقط بأنني سيدتك، أم جئت ههنا لتزوري زوجك المريض؟ سأختبرك الآن لأرى ما إذا كنت صالحة لأن تكوني زوجة له!)، وأمرت أن تتبعها إلى مخازن الهيكل حيث توجد كميات كبيرة من القمح والشعير والفول والذرة، وقالت لها: - (أريني اجتهادك الآن في فصل هذه الحبوب، بعضها عن بعض، على أن تنتهي من ذلك قبل حلول المساء!). فلما أجالت بسيشي النظر فيما حولها، وقفت بدهشة ويأس وذهول أمام تلك

ص: 55

الكومة الكبيرة التي تحتاج إلى عمل مضن طويل. وأثار كيوبيد الشفقة في نفوس جيش من النمل؛ وإذ ذاك توجه نحو الكومة حيث فصل كل نوع على جانب؛ ثم اختفى كيوبيد ومن معه في أقل من طرفة عين.

وعند حلول الغسق، جاءت فينوس تميس بقدها اللطيف، وتتيه بتاجها المحلى بالزهور. ولما رأت العمل قد تم، لم تصدق أن بسيشي هي التي أنجزته. ولذا عزمت على اختبارها مرة ثانية. فدعتها في الصباح التالي وقالت لها:(أترين تلك الحديقة الممتدة على حفافي النهر؟ هناك ستجدين قطيعاً من الخراف، عليها أصواف ذهبية لامعة. اذهبي في الحال وأحضري إلي عينات مختلفة منها)

وذهبت بسيشي إلى ضفة النهر عازمة على تنفيذ ما أمرت به ولكن إله النهر أوحى إلى الأقصاب النابتة على ضفتيه بغمغمات موزونة انسابت تخاطبها قائلة: - لا تحاولي أيتها الحسناء أن تقتربي الآن من النهر لئلا يغمرك فيضانه العظيم! ولا تقربي أيضاً من الكباش لئلا تقتلك بقرونها الطويلة! ولكن انتظري إلى ما بعد الظهر، فيستريح القطيع تحت ظلال الأشجار وتستطيعي آنذاك أن تجوزي بأمان، فتجدي قطع الصوف الذهبي عالقة على الأشواك وعلى جذوع الأشجار؛ وما عليك آنئذ إلا أن تجمعيها وتعودي بها إلى سيدتك!) فعملت بسيشي كما أشير عليها، ورجعت ويداها مملوءتان صوفاً لامعاً براقاً. وللمرة الثانية لم تحظ بسيشي برضى سيدتها التي أرادت أن تختبرها في ما ستؤول إليه تجربتها الثالثة والأخيرة؛ فقالت لها: - (خذي هذا الصندوق واذهبي به إلى بروزرباين - مليكة عالم الأموات - وقولي لها: إن سيدتي فينوس ترجوك بأن تضعي لها في هذا الصندوق شيئاً من جمالك، كيما تستعيد بواسطته ما فقدته من حسنها وروائها في أثناء اعتنائها بابنها المريض. . .

ولكن حذار من أن تتأخري عن الرجوع به قبل حلول المساء!). فظنت بسيشي أن هذا واسطة للقضاء عليها، إذ كيف تستطيع الوصول إلى الظلال الجهنمية مشياً على الأقدام؟ ولذا صعدت إلى برج عال لتقذف بنفسها عنه، فتهبط إلى الظلال الخانقة في أقصر وقت. ولكن صوتاً من البرج صاح بها قائلاً:(ولم تعمدين أيتها الحسناء إلى الانتحار بهذه الطريقة المريعة؟) ثم دلها الصوت على طريقة تستطيع بها إلى العوالم الجهنمية بأمان؛

ص: 56

ولكنه حذرها من فتح الصندوق. فعملت بموجب إشارته ووصلت بسلام إلى قصر الإلهة بروزرباين حيث ملئ لها الصندوق بأثمن نوع من الجمال، ثم أغلق وأعيدإليها؛ فرجعت به قانعة مسرورة؛ ولكن ألحت عليها في الطريق رغبة حافزة في فتحه، لتأخذ شيئاً من الجمال الإلهي، فتطلي به وجنتيها، وتظهر أمام حبيبها بمظهر فاتن أنيق، وفتحته؛ وبلغت بها الدهشة أقصاها عندما لم تجد فيه شيئاً من الجمال قط، وإنما انبعث منه نوم جهنمي استولى عليها وأسقطها في الحال على قارعة الطريق.

أما كيوبيد فقد برح به الشوق للقاء حبيبته؛ فذهب إليها، وجمع النوم عن جسمها، وأعاده إلى الصندوق، وأيقظها بوخزة خفيفة من طرف سهمه، ثم قال: (أهكذا يعود بك حب الاستطلاع فيغويك مرة ثانية ويكاد يودي بك إلى الهلاك؟! ولكن ما عليك من بأس؛ أتمي الآن فقط ما فرضته عليك والدتي، وستنسى الماضي ثم طار كالبرق وحلق في أجواء الفضاء، وطلب من المشتري - إله السماء العظيم وملك الآلهة جميعاً - أن يتوسط لدى أمه لتوافق على زواجه من بسيشي وتباركه. ففعل المشتري كذلك وعندما نال موافقتها، أمر بإحضار بسيشي إلى القصر السماوي حيث قدم لها شراب الآلهة ثم قال: (تشربين منه فتصبحين خالدة وسيدوم زواجكما إلى الأبد!

وهكذا استطاعت بسيشي بعد أن طهرتها المصائب والتجارب من أدران الخطيئة أن تتحد مع كيوبيد، وأن تنعم معه بسعادة الحب الخالد.

ماجد فرحان سعيد

ص: 57