المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 766 - بتاريخ: 08 - 03 - 1948 - مجلة الرسالة - جـ ٧٦٦

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 766

- بتاريخ: 08 - 03 - 1948

ص: -1

من مذكراتي اليومية:

ص: 1

‌قصة فتاة

- 3 -

الأربعاء 9 مايو سنة 1945:

كلمتني ضحى اليوم بالتليفون تذكرني بموعدها عصر الغد بجروبي؛ وتعتذر من هذا التذكير بأنها تخشى أن تكون استجابتي لمواعيدها في القاهرة كإجابتي عن رسائلها من العزبة. ولو لم يكن في مكتبي وهي تتكلم بعض المتزمتين لقلت لها إن الأمر بين الحالين جدُّ مختلف؛ فإن إجابتي عن رسائلها قد أصبحت من فضول القول بعد أن صارحتني بأنها تطلب الحب ولا تطلب المعرفة، وتريد الغزل ولا تريد النصيحة؛ ولكن استجابتي لموعدها أدب من آداب النفس المهذبة، يزيد في الحرص عليه شوقي إلى رؤية وجه يتجلى في اليقظة بعد أن تمثل لي طويلاً في الحُلم، ثم أملي أن ينجح في كبحها اللسان بعد أن فشل في كبحها القلم. ولقد استخفى علم الله صوتها الموسيقي في السماعة فهممت أن أطلب منها تقديم الموعد يوماً ولكنني لم أفعل؛ لأني أكبر نفسي أن تخضع في أية حال لهواها، ولأني أوثر أن أقرأ ما بقي من رسائلها قبل أن ألقاها.

حملتُها على قطع الحديث بأجوبتي البطيئة المقتضبة، لأن الجالسين إلي كانوا قد كفوا عن حديثهم وجعلوا بالهم لحديثي، وما أدري أكان ذلك منهم اتباعاً لأدب السلوك أم استطلاعاً لحديث امرأة! وضعت السماعة وعدت إلى زوّاري الأكرمين أناقلهم حديث الأدب وأراجيف السياسة، حتى انفض المجلس وخلا المكتب فنشرت بين يديّ ما عثرت عليه ليلة أمس من بقايا رسائلها الحمر، وأخذت أصفحها ورقة ورقة فأُلقي المكرر أو السخيف، وأُبقي المفيد أو الطريف، ثم رجعت النظر فيما استبقيت فلم أجد غير رسالتين اثنتين تستحقان التلخيص والتسجيل، وتستأهلان التعليل والتحليل، فأثبتهما ملخصتين في صفحة هذا اليوم من مذكراتي، لتكونا تكملة لصورتها وتغذية لتصوراتي

قالت الآنسة في رسالتيها ما ترجمته: (ما لك تبتعد عني متراً كلما دنوت منك فِتراً؟ لقد أوصدت بابك دوني ثم تركتني أطرقه وأطرقه حتى أصم أذنيّ الطرق وأنت لا تجيب! هل تجد في ردك على رسائلي إحراجاً لك أو إزراءً بك أو تبعة عليك؟ إن كنت لا تحبني - كما أعتقد - فهلا تظاهرت لي بالحب إشفاقاً على هذا القلب الذي يحترق ولا يجد بَرده إلا

ص: 2

فيك، ويذوب ولا يرى مساكه إلا بك! كان يقنعني منك أن تحبني بالكلام حتى لا تظل موجة حبي حائرة في الفضاء لا تجد جهاز استقبال ولا أُذن مستمع! لقد تركني بسكوتك عني أشبه بالمصوّت في المغارة لا يسمع غير الصدى، أو المنقطع في المفازة لا يجد غير السكون! أريد أن أعرف هذا المجهول وأستدني ذلك البعيد! يخيل إلي أحياناً أنه يناديني في زفيف الريح، أو يقبلني في انعطاف الغصن، أو يعانقني في لين الفراش، فأرهف أذني، أو أعرض خدي، أو أنصب صدري، فلا أحس وا لهفتاه إلا الرهبة والعزلة والفراغ! دعني أبحث عنه في كل مكان، وأتصوره في كل إنسان، ما دمت لا ترسله إلي بالبريد!

دخلت الإسطبل ذات صباح فرأيت الحلاّبة تحلب إحدى الجواميس، فطاب لي أن أرى هذا المنظر، وقام بي أن أجرب هذا العمل، فأخذت الوعاء من فوق ركبة الحلابة، وجلست القرفصاء تحت بطن الجاموسة، وقبضت بيمناي على حلمة من حلمات الضرع وجذبتها إلي فشخب اللبن حاراً في يدي. ولذّ لي لسبب لا أدريه أن أمعن في غمز الحلمة وعصر الضرع الحلب اللبن، شخباً في الإناء وشخباً في الأرض، وقد دب في بدني رعشة خفيفة، وسرى في دمي نشوة لطيفة، وجرى في نفسي إلى الرجل المشتَهى نزعة قوية! ولا أدري ما الذي ربط في ذهني بين حلب اللبن وشهوة الحب، ولا بين رؤية الجاموسة وذكرى الحبيب. ولكن ذلك كان وإن جهلت كيف كان. ولا يزال الشوق إلى هذه اللذة يعاودني فأذهب إلى الإسطبل في الصباح والمساء، حتى غدوت أبرع من يحلب في العزبة من الرجال والنساء!

ماذا تصنع الفتاة الوحِدة يا (حبيبي) لتهدئ قلبها الثائر، وترضي هواها الطموح، وتملأ فراغها الموحش؟ أخي لا يترك الدوار ولا يتكلم إلا في الزرع والضرع، وزوجه لا تفارق الدار ولا تتكلم إلا في الطهي والغسل، وأنت لا تدع الصمت ولا تتكلم إن تكلمت إلا في الفضيلة والفضل! أما الكلام الذي يمتزج بالنفس ويأتلف مع الشعور فلا أسمعه إلا في هتاف حمامة لإلفها، أو حمحمة فرس لسائسها، أو غمغمة بقرة لولدها، أو تحية ابن البستاني لي وهو ذاهب إلى الحديقة أو عائد منها. وابن البستاني فتى ريان الشباب، وثيق التركيب، على وجهه وسامة، وفي عينيه ملاحة، وعلى شفتيه جاذبية. يجيء أباه في أكثر الأيام ليعاونه في أعمال الحديقة؛ فكنت كلما رأيته تمنيت أن أديم النظر إليه وأطيل الحديث

ص: 3

معه؛ ولكن الفروق الاجتماعية التي بيني وبينه كانت تكسر من طرْفه وتعقل من لسانه فلا ينظر إلا خُلسة ولا يتكلم إلا جمجمة. دعوته ذات مرة ليقطف لي رمانة لم تصل إليها يدي ولا مجناتي؛ فلما قطفها وقدمها إلي وقف ينتظر أمراً آخر؛ فقلت له بعد أن جسست بعيني نوافذ الدار ومماشي الحديقة: تعال معي نقطف باقة من الزهر، ونجن سلة من الثمر. فمشى الفتى بجانبي على استحياء وحذر، فأردت أن أزيل احتشامه فسألته في لهجة تسيل أنوثة وعذوبة: أمتزوج أنت أم خاطب؟ فقال والخجل يضرج محياه: خطبوا لي يا سيدتي ابنة الخولي، وستزفّ إلي في موسم القصب. فقلت له ضاحكة: إذن سيكون شهر العسل عظيماً! فنظر الصعيدي إلي مبهوتاً كأنه لم يدرك النكتة ولم يفهم الجملة! فقلت له: وماذا تقول لفتاتك إذا خلوت بها؟ فأجاب الفتى في حرج ودهشة: وكيف أخلو بها قبل الزفاف يا سيدتي؟ إني أراها في الحقل أو أقابلها في الطريق أو ألمحها في البيت، فتغض هي من طرفها، وأشيح أنا بوجهي، لكي لا تتلاقى النظرتان فنأمن مقالة السوء ونضمن دوام الخطبة. فقلت له وأنا أعبر بصوتي الممطوط عن الرثاء والشفقة: مساكين! إن الخطبة عند المتمدنين تدريب وتجريب ومتعة. تدريب على الزوجية بالفعل، وتجريب للشخصية بالخبرة، ومتعة للنفس بالرقص والرياضة والرحلة. إذا كانت خطيبتك بخراء فكيف تعرفها بغير القبل؟ وإذا كانت مصنَّة فكيف تكشفها بغير العناق؟ وإذا كانت مذياعة فكيف تمتحنها بغير الائتمان على (سر)؟ سأمثل معك دور الخطيبة الحبيبة رحمةً بك وحناناً عليك، وسأعلمك ما ينبغي أن تعمل، وألقنك ما يجب أن تقول. وفي ظل شجرة غيناء من شجر التفاح أخرجت منديلي الرقيق فمسحت به ملاغم الفتى؛ ثم جذبت بيديّ جانبي رأسه، ودسست شفتيّ في زاوية فمه؛ ثم وثّقت القبلة وعمقتها وطوّلتها وعرّضتها، وكان الشاب قد صدمته المفاجأة فتصلب أولاً ثم استرخى، وأردت أن انزع فمي من فمه فاستعصى؛ ورفعت بصري إلى أعلى الشجرة فرأيت أفعى (حواء) بجانب التفاحة تريد أن تسقطها إليّ، ففرت مذعورة ففرت مذعورة إلى المنزل. وفي اليوم التالي عدت إلى التعليم وعاد. وفي اليوم التالي عدت إلى التعليم وعاد إلى التعلم. وكان الفتى في هذا اليوم على غير عادته نظيف الوجه جديد الثياب جرئ القلب، فأطلنا الدرس وشفينا النفس وشققنا الحديث. وتعاقبت الأيام على هذه الحال الراضية، فسكت في رأسي صوت كان لا يفتر عن

ص: 4

الصراخ، وسكن في نفسي وسواس كان لا يني عن الحركة. وكدت أُشغل بالفتى عنك، وباللهو المتحقق عن الحب المتخيَّل، لولا أن أخي وقف من زوجته على الحقيقة، فضربني علقه دامية وحرمني النزول إلى الحديقة. . .

(للقصة بقية)

أحمد حسن الزيات

ص: 5

‌الحمّادون الثلاثة

للدكتور جواد علي

هم حمّاد الراوية، وحماد عجرد، وحماد الزبرقان. هم ثلاثة كانت أسماؤهم واحدة، وعاشوا في عصر واحد، وكانوا من أصل واحد، وعلى رأي واحد، ووجهة نظر واحدة، بالنسبة إلى العالم والحياة.

وكانوا من الموالي، وكانوا متهمين في دينهم وفي أخلاقهم، وكانوا يروون الشعر ويتعاطونه، وكانوا جميعاً أصحاب عبث ودعابة ومجانة، وكانوا على رأس طبقة (الزنادقة) التي ظهرت في العصر الأموي وصدر الدولة العباسية، والتي ضمت عدداً من الأعاجم كانوا في الأصل من عبدة النار ومن الثنوية القائلين بعنصرين: عنصر النور والظلام، وعنصر النار والتراب، وبتفوق النار على الطين، أمثال عبد الله بن المقفع، وعبد الكريم بن أبي العوجاء، وبشار بن برد، ومطيع بن إياس، ويحيى بن زياد الحارثي، وصالح بن عبد القدوس الأردي، وعلي بن خليل الشيباني وغير هؤلاء ممن أسلمت ألسنتهم وكفرت قلوبهم.

ظهرت هذه الطبقة في مدن العراق الرئيسية خاصة، حيث كان الاختلاط فيها بين العرب والعجم على أشد ما يكون، وحيث كانت حرية القول على أوسع ما يتصوره إنسان، وكان معظم رجالها من الأدباء الموالي المتعصبين لقوميتهم، ولذلك اقترنت هذه الحركة حركة الزندقة بالنزعة الشعوبية المعروفة التي تتحامل على العرب وعلى كل ما هو عربي وإسلامي بنفس الوقت.

وكان كل من ذكرنا من طبقة الأدباء الظرفاء، المتمكنين من ناصية اللغة والأدب، ومن المتساهلين في الآداب العامة والتقاليد، وكانوا كما وصفهم الجاحظ (يجتمعون على الشرب وقول الشعر وهجاء بعضهم بعضاً وكل منهم متهم في دينه) وكانوا يقضون أكثر لياليهم في سمر صاخب في بيوت المجّان ومحيي العبث، ينفقون ما حصلوا عليه من أثمان المديح أو رشوة (بخلاء) الأغنياء استرضاء لهؤلاء السفهاء الذين قد يتجاسرون عليهم فيهجونهم بآخر ما عرفه فن الهجاء وآخر ما وصل إليه قانون الشتائم عند هؤلاء الشطار من سباب.

وطبيعي أن تكون مجالس هؤلاء متحررة من كل قيود، بعيدة عن كل مظهر من مظاهر

ص: 6

الرزانة والاحتشام، مبدعة أحياناً ومسفة غاية الإسفاف أحياناً أخرى. وقدحفظ لنا بعض الشهود والرواة شيئاً مما كان يدور في أمثال هذه المجالس الخاصة التي كان يقصدها رهط هؤلاء وجلهم ممن جبل على هذه الجبلة، الدعابة والمرح والتحلل، والاستهتار بكل شئ وبالكذب على الماضي والحاضر إن احتاج الأمر لذلك، فكانوا يضعون ويقولون ويتنادمون ويتقارضون الشعر ساعات طويلة من ليل أو نهار

وعلى الرغم مما عرف عن هذه الطبقة من العبث والابتعاد عن حياة الجد، كانوا في جملتهم أصحاب علم بلغة العرب واطلاع على مذاهب الشعر في الجاهلية والإسلام، ووقوف على أسرار اللسان. مثل حماد الراوية الذي (كان من أعلم الناس بأيام العرب وأشعارها وأخبارها وأنسابها ولغاتها) والذي قال عنه بعض الرواة (إنه قد أفسد الشعر لأنه كان رجلاً يقدر على صنعتهفيدس في شعر كل رجل ما يشكل طريقته فاختلط لذلك الصحيح بالسقيم) ومثل حماد عجرد وكان نفسه من الشعراء المجيدين، وقد أزعج بشار بن برد الشاعر بأهاجيه الفاحشة وبالمعاني الغريبة المبتكرة التي كان يأتي بها في هجاء ذلك الشاعر السليط الذي كان يخشى الناس لسانه ويرجون من الابتعاد عنه السلامة. ومثل ابن المقفع وغيرهم ممن ذكرنا.

وحماد الراوية هو أبو القاسم حماد بن ميسرة أو ابن أبي ليلى سابور بن عبيد الديلمي الكوفي مولى بني بكر بن وائل أو مكنف ابن زيد خبارها الخيل الطائي وكان زعيم أهل الكوفة في الرواية وحفظ الأشعار كما كان خلف الأحمر وهو من هذه الطبقة ومن هذا الطراز زعيم أهل البصرة في الرواية وحفظ الشعر أيضاً. وكان من المقدمين لدى نبي أمية ولاسيما عند (الوليد بن يزيد) الذي عرف بالميل إلى الشعر والشعراء وبالإغداق عليهم وعلى الأخص على أمثال هؤلاء الشعراء. ويظهر أنه لم يكن من المرغوب فيهم عند بني العباس.

ويظهر أن الرجل كان ذكياً جداً غير أنه لم يكن يحسن الاستفادة من ذلك الذكاء. وأنه لم يتمكن من استغلال مواهبه والقابليات التي كانت عنده. وأنه كان يبالغ في الدعاية لنفسه. فكان يشيد دائماً بمقدار ما كان يحفظ، حتى غلبت عليه الرواية وعُرف بين الناس بحماد الراوية. وقد اضطرته المواقف على الانتحال والوضع لكي يتفوق على خصومه ويثبت

ص: 7

تغلبه على منافسيه وقد كانوا ما شاء الله. فافتضح أمره وانكشف كما انكشف أمر رواة آخرين. ولو كان صاحبنا قد سلك سبيل العقل وتمسك بأذيال الرزانة وشاطر الشعراء النظم وأظهر مواهبه من هذه الناحية وهي مواهب شعرية كان يعترف بها الناس ويمكن التعرف عليها من تلك القصائد التقليدية التي كان يضعها على ألسنة الشعراء ويصبها بقوالب لا تظهر عليها آثار التزييف إلا بصعوبة، لو كان قد فعل ذلك لكان اسمه اليوم بين تلك الأسماء المخلدة في صفحات شعر الدولتين بدون شك. وكان ملوك بني أمية يقدمونه ويؤثرونه ويستزيرونه فيفد عليهم وينال منهم ويسألونه عن أيام العرب وعلومها، وقال له الوليد بن يزيد الأموي يوماً وقد حضر مجلسه بم استحققت هذا الاسم فقيل لك الراوية؟ فقال بأني أروي لكل شاعر تعرفه يا أمير المؤمنين أو سمعت به ثم أروي لأكثر ممن تعرف أنك لا تعرفه ولا سمعت به ثم لا ينشدني أحد شعراً قديماً ولا محدثاً إلا ميزت القديم من المحدث، فقال له فكم مقدار ما تحفظ من الشعر؟ قال كثير، ولكني أنشدك على كل حرف من حروف المعجم مائة قصيدة كبيرة سوى المقطعات من شعر الجاهلية دون شعر الإسلام. قال سأمتحنك في هذا. ثم أمره بالإنشاد فأنشد حتى ضجر الوليد ثم وكل به من استحلفه أن يصدقه عنه ويستوفي عليه فأشده ألفين وتسعمائة قصيدة للجاهلية، وأخبر الوليد بذلك فأمر له بمائة ألف درهم.)

ولا أعتقد أن إنساناً يمكن أن يمر بهذه القصة مر الكرام بدون تعليق عليها ولا تنادر، والرواية نفسها إن صحت أنها حقيقة من حماد تبين لنا مبلغ ادعاء الرجل وإسرافه في الادعاء، وإسراف أهل الكوفة معه، وقد كان أهل الكوفة وحماد يشعرون بافتضاح أمرهم فكانوا يقولون: كان النعمان ملك الحيرة أمر فنسخت له أشعار العرب في الطنوج وهي الكراريس ثم دفنها في قصره الأبيض فلما كان المختار بن عبيد الثقفي أمر بإخراجها فأخرجت. فمن ثم كان أهل الكوفة أعلم بالشعر من غيرهم أما صاحب هذه الرواية فحماد نفسه ولك أن تقول فيها ما تريد.

والظاهر أن ما ذكره ابن سلام في كتابه (طبقات الشعراء) من أنه كان عند النعمان بن المنذر ملك الحيرة ديوان فيه أشعار الفحول وما مدح به هو وأهل بيته فصار ذلك إلى بني مروان أو ما صار منه، ويرجع إلى روايات أهل الكوفة. وقد رووا ذلك على ما يخيل إلى

ص: 8

لبيان سبب تفوقهم على أهل البصرة وسبب كثرة الروايات عندهم ولم يحدثنا أحد لا من أهل الكوفة ولا من أهل البصرة أنه رأى ذلك الديوان أو أخذ منه، ولو كان ذلك حقاً لما ترك الناس الأخذ منه ولو بأي ثمن كان.

ومن أمثلة تلاعب حماد بالرواية ما يروى من أن الخليفة المهدي سأل المفضل الضبي عن سبب افتتاح زهير قصيدته:

دع ذا وعد القول في هرم

خير البُداة وسيد الحضر

ولم يتقدم له قبل ذلك قول، فما الذي أمر نفسه بتركه؟ فقال المفضل أني توهمته كان مفكراً في شئ من شأنه فتركه وقال دع ذا أي دع ما أنت فيه من الفكر وعد القول في هرم. فأمسك عنه ودعا حماداً فسأله فقال ليس هكذا قال زهير وأنشده:

لمن الديار بقنة الحجر

أقوين من حجج ومن دهر

قفر بمندفع النحائت من

ضفوى آلات الضال والسدر

فاستحلفه المهدي فأقر أنه هو الذي أدخلها في شعر زهير. فأمر المهدي أن من أراد شعراً محدثاً فليأخذه من حماد، ومن أراد رواية صحيحة فليأخذها من المفضل. وهكذا أعلنت الحكومة رسمياً كذب رواية حماد.

وهاك مثلاً آخر على كذب حماد: قدم حماد البصرة على بلال ابن أبي بردة فقال ما أطرفتني شيئاً. فعاد إليه فأنشده القصيدة التي في شعر الخطيئة مديح أبي موسى، فقال ويحك! يمدح الخطيئة أبا موسى ولا أعلم به وأنا أروي للخطيئة؟ ولكن دعها تذهب في الناس، فذهبت في الناس وهي في ديوان الخطيئة، والرواة أنفسهم يختلفون فمنهم من يزعم أن الخطيئة قالها حقاً

وهناك أمثلة أخرى كثيرة تريك مبلغ استهتار الرواة بالرواية ومبلغ استهتارهم بالناس. ولم يكن حماد أول من سن هذه السنة بل كان هنالك عدد عديد كل واحد منهم (حماد) في الوضع بل كان في هذا الوقت وقبله وضعوا أقوالاً على لسان الرسول والصحابة ثم شاعت بين الناس.

وقد اهتم صاحبنا بالكذب وباللحن وبكسر الكلام. وصاحب روايتنا هذه هو يونس بن حبيب وهو أحد المراجع التي يعتمد عليها ابن قتيبة صاحب (طبقات الشعراء) وعلماء آخرون.

ص: 9

وإليك ما قاله عن حماد: (العجب لمن يأخذ عن حماد وكان يكذب ويلحن ويكسر) وهنالك شهادة أخرى هي شهادة ابن سلام وآخرون إذ قال عنه (وكان أول من جمع أشعار العرب وساق أحاديثها حماد الراوية، وكان غير موثوق به: كان ينحل شعر الرجل غيره ويزيد في الأشعار).

أما الكذب فأمر ثابت عليه ولا أعتقد أن حماداً نفسه كان ينكر ذلك علينا لو كان حياً، ولا هو من الأشخاص الذين كانوا يرون في الكذب حرجاً، ولعله كان يجد ذلك نوعاً من أنواع التسلية وضرباً من ضروب العبث والدعابة. وأما اللحن وكسر الكلام فيجوز صدورهما منه مع علمه بالعربية وتمكنه منها لأنه من أب غير عربي ومن أصل فارسي قريب.

وكان حماد - على ما يدعيه حماد نفسه - من المقربين إلى الخليفة الأموي يزيد الثاني ومن المنقطعين له، ولم يكن هذا شأنه مع هشام بن عبد الملك فلقد كان هشام يجفوه فلما توفي يزيد وولي الخلافة هشام من بعده خاف (حماد) على نفسه واستتر عاماً عن الناس لا يخرج إلا إلى من يثق به، ثم خرج بعد ذلك. فلما كان في جامع (الرصافة) يوم الجمعة طلب الأمير (يوسف بن عمر الثقفي) وكان والياً على العراق فصار إليه فلما رآه ألقى إليه كتاباً فيه:

بسم الله الرحمن الرحيم: من عبد الله هشام أمير المؤمنين إلى يوسف بن عمر الثقفي، أما بعد فإذا قرأت كتابي هذا فابعث إلى حماد الراوية من يأتيك به من غير ترويع وادفع له خمسمائة دينار وجملاً مهرياً يسير عليه اثنتي عشرة ليلة إلى دمشق وسار حماد على جمل مهري حتى وصل باب هشام واستأذن فأذن له فدخل عليه في دار قوراء مفروشة بالرخام وبين كل رخامتين قضيب ذهب وهشام جالس على طنفسة حمراء وعليه ثياب حمر من الخز وقد تضمخ بالمسك والعنبر فسلم حماد عليه فرد عليه السلام واستدناه حتى دنا منه فقبل رجله وإذا جاريتان في أذني كل جارية حلقتان فيهما لؤلؤتان تتقدان، فقال كيف أنت يا حماد وكيف حالك؟ فقال حماد بخير يا أمير المؤمنين. فقال أتدري فيم بعثت إليك؟ قال حماد لا، قال بعثت إليك بسبب بيت خطر ببالي لا أعرف قائله. قال حماد وما هو قال:

ودعوا بالصبوح يوماً فجاءت

قينه في يمينها إبريق

قال حماد لعدي بن زيد العبادي في قصيدة منها:

ص: 10

بكر العاذلون في وضح الص

بح يقولون لي أما تستفيق

ويلومون فيك يا ابنة عبد الله

و

القلب عندكم موهوق

لست أدري إذ أكثروا العذل فيها

أعدوٌّ يلومني أم صديق

إلى أن بلغ قوله:

ودعوا بالصبوح يوماً فجاءت

قينه في يمينها إبريق

قدمته على عقار كعين الدي

ك صفى سلافها الراووق

مرة قبل مزجها فإذا مزج

ت لذ طعمها من يذوق

وطَفا فوقها فقاقيع كاليا

قوت حمر يزينها التصفيق

ثم كان المزاج ماء سجاب

لا صر آجن ولا مطروق

فطرب هشام ثم قال أحسنت يا حماد ثم قال اسقيه يا جارية فسقته حتى ثمل، ثم قال يا حماد سل حاجتك. فقال كائنة ما كانت؟ قال نعم. قال إحدى الجاريتين. قال هما جميعاً لك بما عليهما وما لهما. وأنزله في داره، ثم نقله من الغد إلى منزل أعده له فوجد فيه الجاريتين وما لهما وكل ما يحتاج إليه، وأقام عنده مدة ووصله بمائة ألف درهم

وصاحب هذا الحديث هو حماد نفسه، وحماد من الأشخاص المتهمين كما قلنا، ونحن في وضع لا نستطيع فيه تصديق هذه الرواية التي تحمل طابع الدعاية والإعلان، وهل خلت الأرض من رواة غير حماد ومن أناس لهم إلمام بالشعر؟ وهل أمن الخليفة من كذب حماد عليه ومن نظم قصيدة في الحال على الوزن والقافية وهو صاحب أكبر معمل من معامل صنع الشعر؟ وهل يعقل صدور ذلك من الخليفة هشام بن عبد الملك مع ما عرف عنه من الجد والإمساك والانصراف إلى السياسة والعمل وعدم شرب المسكرات ولكنها قصة من القصص التي كان يروجها هذا الراوية (حماد). . .

(للكلام صلة)

الدكتور جواد علي

ص: 11

‌لمن أكتب؟

للأستاذ محمود محمد شاكر

بيني وبينها أيام معتقة كأنها خمر في دِنان الزمن، فإذا ما قدّر الله لنا أن نجتمع يوماً، طارت بلبي نشوة ترمي بي إلى عالم ساكن ناضر ناعم النسمات، فأفارق بها عالماً صاخباً محترقاً لافح الرياح عاصف الأعاصير. واجتماعنا هو إحدى الأماني التي يقول في مثلها الشاعر:

أماني من سعدي رِواءٌ، كأنما

سقتك بها سعدي على ظمأ بردا

وإذا اجتمعنا وتنهدت بيننا الأحاديث، فربما فاجأتني بالسؤال لا أتوقعه، فيردني سؤالها إلى نفسي رداً عنيفاً لا أملك معه إلا أن أديم طرفي إلى هذا الوجه الذي يخفي وراءه نفساً ثائرة، ولكنها ساكنة على ثورتها سكون الجبال الراسيات. ولست أدري أتلك إحدى لطائف الحيل التي تحب أن توقظني بها من غفوة الأحلام، أم تلك يقظة دائمة في نفس لا تطيق إلا أن تكون متيقظة حين يدعوها الهوى إلى إغفاءة تريحها من ثورة نفسها واضطرابها؟ وأي ذلك كان، فهي قد أخذتني أخذاً شديداً حين استوت في جلستها وقالت: حدثني، لمن تكتب هذا الذي تكتبه؟ إنهم جميعاً نيام يغطون، فلو قذفتهم بالشهب أو الصواعق لناموا على وقعها أو إحراقها.

فلما أفقت على سؤالها، جعلت أردده في نفسي وأنا أملأ عيني من صفاء هذه الينابيع التي تترقرق في وجهها وفي عينيها. وأخيراً قلت لها: لن أجيبك إلا حيث تقرئين كلامي، ودعينا لما بنا، فإن لقاءنا ساعةٌ فرت إلينا من هذا الفراق السرمدي.

لمن أكتب؟ لم أحاول قط أن أعرف لمن أكتب؟ ولم أكتب؟ ولكني أحس الآن من سر قلبي أني إنما كنت أكتب، ولا أزال أكتب، لإنسان من الناس لا أدري من هو، ولا أين هو: أهو حي فيسمعني، أم جنين لم يولد بعد سوف يقدَّر له أن يقرأني؟ ولست على يقين من شئ إلا أن الذي أدعو إليه سوف يتحقق يوماً على يد من يحسن توجيه هذه الأمم العربية والإسلامية إلى الغاية التي خلقت لها، وهي إنشاء حضارة جديدة في هذا العالم، تطمس هذه الحضارة التي فارت بالأحقاد والأضغان والمظالم، ولم يتورع أهلها عن الجور والبغي في كل شئ، حتى في أنبل الأشياء - وهو العلم.

ص: 12

لم يخامر قلبي يأس قط من هذه الفترة التي نعيش فيها من زمننا، ولم يداخلني الشك في حقيقة هذه الشعوب، وإن كانت لا تزال تعيش في بلبلة جياشة بأخلاط من الغرور والخداع والعبث، وفي أكفان من الفقر والجهل والمخافة، وفي كهوف من الظلم والاستبداد وقلة الرحمة. كل ذلك شئ أراه وأعرفه، ولكني أستشف تحت ذلك كله نقاء وطهراً وقوة تدب في أوصال هذا العالم الذي أوجه إليه كلامي، وهو خليق أن يتجمع للوثبة في الساعة التي كتب له فيها أن يهب مرة واحدة تذهل الناس كما أذهلتهم من قبل، وهو خليق أن يكون سر الحياة الجديدة التي تضرب عروقها إلى عصور بعيدة في تاريخ البشر. ولعل هذه المحن التي أحاطت به من خارج، والتي استبطنته من داخل، هي حوافز البعث الجديد، وهي نار التمحيص التي تنفي خبثه كما ينفي الكير خَبَث الحديد.

أنا أعلم أن رجال السياسة عندنا لا يزالون أوزاعاً من خلق الله لا ندري كيف نشأوا، وعلى أي شئ قامت شهرتهم، ولا إلى أين تمضي أهدافهم، وهم فوق ذلك كله قد لوّثوا ضمائرهم وعقولهم وأخلاقهم وعزائمهم بأشياء لا يمكن أن تؤدي إلى خير، وهم قد أشربوا فتنة بأخلاق الساسة الطغاة الذين ابتلي بهم الغرب وامتحنت بهم الحضارة الغربية. ولست أشك ساعة في أنهم فئة لا خير فيها البتة، مهما دل ظاهر تدليسهم أو تدليس الصحافة بأسمائهم على أنهم يفعلون خيراً أو أنهم سوف ينتهون إلى خير. ولست أرتاب البتة في أن الخير كل الخير هو في زوالهم جملة واحدة من مكانهم، لكي يتسنى لهذه الشعوب العربية والإسلامية أن تهتدي إلى الحق في حياتها وفي جهادها وفي أهدافها.

وأنا أعلم أن رجال العلم من أي أقسامه كانوا، لا يزالون يتعبّدون أنفسهم لكثير مما لا نفع فيه لأممهم، بل لعلهم لا يزالون يترفعون عن هذه الشعوب الفقيرة الجاهلة، والتي هي شعوبهم، ظناً منهم أنها شعوب لا تستطيع أن تبلغ ما بلغ أن الناس في العلم، فضلاً عن أن يدركوا سوابق العلماء في هذه الفترة من زماننا، فضلاً عن يسبقوا أمم الحضارة الحاضرة في ميدان هذه العلوم. وهم في خلال ذلك - إلا من عصم الله - يبسطون ألسنتهم بسطاً شديداً في أعراض هذه الشعوب، فيقرفونها بكل مسبة، ثم يصرفون وجوههم إلى أوربة وأمريكا وغيرها كأنما هم منها ومن صميمها، لا من هذه الشعوب البائسة التي ظنوا أن الموت كتاب محتوم عليها.

ص: 13

وأنا أعلم أن أكثر أهل السلطان في هذا الشرق، لا يزالون يعيشون في عزلة لا يبالون قليلاً ولا كثيراً بما فيه خير بلادهم، وأنهم يحتقرون جماهير الشعوب احتقاراً ينسرب في خاص كلامهم كما ينسرب في أكثر أفعالهم. وهم فئة قليلة فتنتها النعمة والترف واللذالذات، حتى ما تبالي أن تصب على أممها ضروباً من المظالم كان ينبغي أن تترفع عن ارتكابها، لا رحمة بالناس، بل مخافة من الناس، فالشعوب إذا هاجها ما يهيجها لم تبق على شئ وإن كان في بقائه خيرها.

وأنا أعلم أن أهل الدين - إلا من رحم ربك - قد رمَوا بدينهم ظِهرياً، وإن لبسوا لباسه وشهبوا على الناس وغرّوهم باسم هذا الدين. وهم يأكلون باسم الدين ناراً حامية، وهم قد فقدوا بفقد آداب هذا الدين كل شئ يجعل لهم عند الناس مكانة ترفعهم عن الشبهات، وبذلك أصبحوا كالعامة التي تحتاج إلى من يقودها ويهديها.

وقصارى ما يقال هو أن الحياة في هذا الشرق على اختلاف نحله ومذاهبه وأديانه وأحزابه، قد صار كأهل سفينة جن أكثر من فيها، وكلهم يريد أن يقود السفينة كما خيلت له طوائف وساوسه وأوهامه، مستبداً بما يرى من الرأي. ولكني مع ذلك لن أيأس ساعة من أهل الخير، لن أيأس من رجل أو رجال توقظهم هذه البلوى المحيطة بالجماعة، فيدفعها حب الحياة وحب الخير إلى نفض غبار القرون عن أنفسهم، ثم تنشط من عقالها إلى قيادة هذه الناس بقوة تنفث في هؤلاء جميعاً روحاً مسدّدة هادية تبرئهم مما أصابهم، وتستنقذ منهم من يصلح للبقاء والعمل في جيل جديد، له هدف معين، وله طريق لا يفارقه، وله همة جياشة تجعله يطوي المسافات المترامية طياً حتى يصل إلى غايته لم يلحقه كلل ولا سآمة ولا إعياء.

فأنا أكتب لرجل أو رجال سوف يخرجون من غمار هذا الحلق، قد امتلأت قلوبهم بالقوة التي تنفجر من قلوبهم كالسيل الجارف، تطوح بما لا خير فيه، وتروي أرضاً صالحة تنبت نباتاً طيباً

ومهما كان من أمر تلك الطوائف التي ذكرتها، ومهما كان رأيها في هذه الشعوب التي تنتمي إليها، ومهما عدت شعوبها سائمة ترعى أياماً معدودة حتى تتخطفها أرماح الأجل، فمن هذه (السائمة) سوف ينفرد رجل يقود الشعوب بحقها لأنه منها: يشعر بما كانت تشعر

ص: 14

به، ويألم لما كانت تألم له، وينبض قلبه بالأماني التي كانت تنبض في قلوبها. وهو وحده الذي يعرف كيف يرفع عن عيونها حجاب الجهل، ويطرح عن كواهلها قواصم الفقر، ويملأ قلوبها بما امتلأ به قلبه من حب هذه الأرض التي تعيش فيها مضطهدة ذليلة خائفة.

إنه الرجل الذي قد خُلطت طينته التي خلق منها بالحرية، فأبت كل ذرة في بدنه أن تكون عبداً لأحد ممن خلق الله على هذه الأرض، فهو يشرق من جميع نواحيه على أجيال الناس كلها كما تشرق الشمس ترمي بأشعتها هنا وهنا، ولا يملك الناس إلا أن ينصبوا لها وجوههم وأبدانهم ليذهب عنهم هذا البرد الشديد الذي شلهم وأمسك أوصالهم عن الحركة. وهو يسير بينهم فتسري نفسه في نفوسهم، فتموج الحياة فيهم بأمواجها التي لا يقف دونها شئ مهما بلغت قوته أو جبروته.

ألا إن الشرق العربي لينتظر صابراً كعادته هذا الرجل. وإني لأحس أن كل شرقي قد أصبح اليوم يتلفت لا من حيرة وضلال، بل توقعاً لشيء سوف يأتي قد أنَى زمانه، ففي كل نفس منه خاطرة تختلج. وهذا الإحساس فينا هو الذي يحملني على الإيمان بأن ذلك كائن عن قريب، وأننا قد أشرفنا على زمن قد كتب الله علينا فيه أن نجاهد في سبيله، ثم في سبيل الحق والحرية والعدل، لأننا نحن أبناء الحق والحرية والعدل، قد إرتضعنا لبانها منذ الأزل البعيد. وكل ما دخل علينا في القرون الماضية من المظالم والأكاذيب والاستبداد، لم يستطع أن يخفت ذلك الصوت الذي تتجاوب به نفوسنا باسم الحق والحرية والعدل.

إن هذه الشعوب التي تُرى اليوم كأنها على بلادها أسمالٌ بالية ممزقة، قد بدأت تحس أن عليها أن تتجدد أو أن تزول، وطبيعة الحياة تأبى لها أن تزول، فهي لابد أن تتجدد. وهذا الدافع وحده سوف يمهد للرجل المنتظر أن يزأر زئيره فتصغي له آذان الملايين من أبناء الشرق، ثم تنطلق من مجاثمها إليه مجيبة لندائه، فإذا انطبقت إليه أرسالاً، فيومئذ لن يقف في طريقها أولئك الساسة المنافقون، ولا أولئك العلماء المتبجحون، ولا أولئك الديّانون المخادعون، بل سوف يصيرون تبعا، وقد طال ما خيلت لهم نفوسهم أنهم الرؤوس والسادة.

فأنا إن كتبت، فإنما أكتب لأتعجل قيام هذا الرجل من غمار الناس، لينقذنا من قبور جثمت علينا صفائحها منذ أمد طويل. وليس بيننا وبين هذا العبث إلا القليل، ثم نسمع صرخة الحياة الحرة العادلة يستهل بها كل مولود على هذه الأرض الكريمة التي ورثناها بحقها،

ص: 15

ليس لنا في فتر منها شريك.

محمود محمد شاكر

ص: 16

‌غاندي الفيلسوف المجاهد

للأستاذ حسين مهدي الغنام

- 1 -

في اليوم الثلاثين من شهر يناير الماضي قتل موهانداس كارامشانذ غاندي، وهو ذاهب إلى الصلاة، برصاص أحد أبناء جلدته ودينه المتعصبين، فأعاد إلى الأذهان سيرة الأنبياء والمصلحين كما أعاد بحياته حياة السيد المسيح.

لقد كانت حياة غاندي مأساة كما كان موته مأساة أشد وأروع. كان غاندي فيلسوفاً جعل السياسة مذهبه.

وقد ظل خمسين عاماً يكافح في سبيل استقلال بلاده، حتى نالته في حياته، ولكنه لم يعش حتى يرى السلام يرفرف على ربوعها المترامية، وهو الذي وهب نفسه لخدمة السلام.

عاش غاندي كالناسك. لبس ملابس خشنة في غاية البساطة، حراماً غزله بنفسه على مغزل يد بدائي، وخفين (صندلين) من القش!

ولم يأكل اللحم، بل عاش على الفاكهة والخضر واللبن

وقضى حياته كلها مجاهداً. وقد اتخذ جهاده ثلاث وجهات رئيسية:

الأولى ضد الطبقات المعينة العالية التي فرضها المستعمر على مئات الملايين من طبقات الهند الدنيا، التي لا تجد القوت.

والثانية جهاده ضد المستعمر.

والثالثة جهاده في سبيل السلام والحب، ومناضلة الشرور والخطايا، آخذاً بمبدأ المقاومة السلبية وعدم العنف.

كما أنه كافح كفاحاً اقتصادياً واجتماعياً عظيماً، فنبه الوعي القومي والاقتصادي، وأنشأ آلاف المدارس، وحارب الرجعية ونادى بحق المرأة الهندية، ولكنه غالى في تقديس الناحية الدينية وغذاها بين الشعب، جاعلاً من التسامح والإخاء بين الهندوس والمسلمين والمنبوذين هدفه الأول. . .

ولقد شابه غاندي الفيلسوف الروسي الإنساني الشهير، ليو تولستوي، وتأثر به في حياته تأثراً كبيراً.

ص: 17

وكان دائماً يبشر بقوله: (أنكم سوف لا تقترفون القتل) ولكنه مات قتيلاً!

وكان مثل تولستوي في لباسه الخشن، وفي نظرية عدم العنف والمقاومة السلبية، وفي دفاعه عن السلام ودعوته لإتيان الخير، والمعروف وللمحبة بين الناس جميعاً، وإن لم يكن تولستوي في مثل إخلاص غاندي!

وكان الناس في كل مكان يتشوقون إلى تذوق ثمار فلسفته، ولكن قلوبهم لم تعمر بمثل الإيمان الذي عمر به قلبه، فلم يفعلوا في سبيل تأدية رسالته شيئاً أكثر من التمني!

كان غاندي يعمل في سبيل الروح، ولكن الناس الذين بشر بينهم بمبادئه كانت تربطهم أسباب قوية بعالم الماديات الدنيوي في عالم الوقائع والأرقام التي عمته جميعاً حتى غزت الشرق نفسه، الشرق أبا الروحانيات ومهد السلام.

إلا أن الشرقي شرقي بطبعه وغريزته. وفي الشرقي لطف غريزي، فلم ينعت هؤلاء الناس غاندي بالجنون، كما نعت الروسيون والأوربيون تولستوي، ولكنهم بالغوا في نعتهم للفيلسوف الشرقي حتى ألهوه، وسموه القديس. . . سموه المهاتما!

ولعل غاندي أخطأ في مخاطبته لعامة الجماهير، وتبشيره بينهم، كما قال بعض مفكري الهند، وقالوا لو أن غاندي أنصف نفسه لجمع حوله خلاصة الشباب الطامحين إلى بناء الهند الحديثة، فإن التعاليم السامية العميقة تفعل فعلها في نفوس الذين أصابوا من الثقافة حظاً كبيراً؛ وإلى هذا يعزون بعض فشله في تعميم دعوته.

يقول السردار إقبال علي شاه عن غاندي والشعب الإنجليزي (لقد أخطأ غاندي في فهم عقلية الرجل الإنجليزي المتوسط، إذا كان هذا الشخص وجد، ولهذا لم تفهمه الغالبية من الشعب البريطاني، فلقد اختلفت العقليتان كما يختلف القطبان شمالاً وجنوباً. . .

(ولم يكن غاندي كذلك بالشخصية الرسمية القوية العنصر، ومن هنا كان اختلافه عن ساسة الهند اليساريين، فقد كان دائماً يغتفر للرسميات خطاياها، وإن صح هذا في الهفوات، فإنه لا يصح في الخطايا قطعاً!

(وكان غاندي في نظر الرجل الإنجليزي فيلسوفاً ضالاً، أو الكاهن الرفيع المقهور. وعقلية الرجل الإنجليزي لا تقبل هذا الوضع، فلم تأبه له كثيراً، لأنها لم تفهمه.

(ولكن للإنجليز ذاكرة قوية. . . وإنهم ليذكرون ما فعل غاندي قديماً من أجل أبناء وطنه

ص: 18

المهضومين المدقعين الذين تدوسهم العلية من القوم، ويذكرون ما صنع في حرب البوير والزولو من عمل جليل وهو يرأس كتيبة الإسعاف الطبي.

(إلا أن غاندي احتل من تفكير الإنجليز ما يحتله كبار الإنجليز أنفسهم. والإنجليز تسوءه الحملات العنيفة على أمثال هؤلاء، لأنه يعتقد أنهم مخلصون، والإنجليز يرحب بالصراحة والإخلاص ويحترمها!

(ولقد استاء الرأي الإنجليزي العام من الحملات التي كانت توجه إلى غاندي في بعض جرائدهم، ومن الصور الهزلية التي تصوره قارحاً بلا أسنان، أصلع الرأس، مخلوقاً عريان إلا من ذلك اللباس التقليدي.

(والمسلمون والإنجليز يتفقون في هذه الناحية، فكلاهما يحترم الشخصيات الفذة، ويأنف من السخرية اللاذعة منها ومن مهاجمتها بلا اعتدال، على عكس الغربيين الآخرين.

(وكان غاندي الوطني، والفيلسوف، والداعية، مجهولاً من العالم كله، حتى اعتزم أن يعتزل المحاماة في جنوب أفريقيا، وينقلب مجاهداً وسياسياً قوياً. .

(وكان قبل ذلك قد رأى بعض أنحاء الدنيا، ورأى تعصب البيض ضد الملونين، وإن كان هذا خف اليوم إلى درجة ما!)

ولقد حورب غاندي كثيراً حتى الكسندر العظيم كان يساعد معارضي غاندي مساعدات مادية كبيرة، ليحدوا من نجاحه في الهند.

ولكن ذلك الناسك الهزيل استحوذ على ألباب الملايين من الهنود ببساطته الدينية المتناهية، فاحترموه ثم أحبوه ثم عبدوه واعتقدوا أنه شبه إله!

في سنة 1922 سجن غاندي، ثم أطلق سراحه بعد عامين وفي تلك الأثناء كان معارضوه في حزب المؤتمر، وهم المعروفون باسم سواراجست، أكثر من أتباعه، وأحسن منهم تدريباً واستعداداً، وحضروا اجتماعاً لهم وعارضوا ما سموه دكتاتورية غاندي في حزب المؤتمر، ثم انسحبوا، فاعتبر غاندي هذا هزيمة له وانسحب. . .

وعلى الرغم من تلك الهزيمة، فقد كان لهذه اللفتة النفسانية البليغة أثرها في تقوية غاندي فقد جلس صامتاً، وأخذ يتحدث بعد قليل، ثم تكلم عن هزيمته، وعن حالة الهند المؤسية، ثم انحدرت دموعه على خديه وتتابعت سريعة. وهنا بكى جميع الحاضرين معه بدموع غزار.

ص: 19

وانضموا إليه واحداً واحداً، وهنا عادوا إلى صفه ثانيةً، وكسبهم إلى جانبه من أضعف نقطة حساسة هاجمهم فيها.

فهذه القوة - في بساطة مظهرها - وبتلك النفحة السيكولوجية حرك غاندي قلب الهند على بكرة أبيها. . .

وكانت الجماهير تنظر إلى آرائه على أنها غير مستحيلة التحقيق فصدقوه فيما قال، إذ كان في نظرهم مبعوثاً سماوياً، ويجب أن يكون صادقاً في آرائه.

وقد سمى غاندي الحكومات الإنجليزية بالحكومات الشيطانية فصدقه الملايين من الهنود. . . وما زالوا يعتقدون نفس الاعتقاد، ولكنهم نسوا أن غاندي هو صائغ هذا التعبير.

وكلما مرت السنون، وكلما فشل غاندي في تحقيق ما وعد به شعبه، وكلما كان فشله مريعاً، زادت مكانته في نظر الشعب وازداد هذا الشعب له حباً واحتراماً وتبجيلاً وتقديساً!

(يتبع)

حسين مهدي الغنام

ص: 20

‌الشعر في العصر المملوكي هل يمثل الحياة فيه؟

للأستاذ يوسف البيومي

نستطيع أن نقول نعم ولا نكون مجازفين، ونستطيع أن نقول لا ولا نكون مبعدين.

نستطيع أن نقول أن الشعر في هذا العصر على الرغم من جنوحه إلى التقليد والصنعة قد يستطيع الباحث المنقب أن ينظر من خلاله أحياناً إلى بعض مظاهر الحياة سياسية أو اجتماعية. ونستطيع أن نقول إن الشعر قد صمت عن أهم مظاهر الحياة في هذا العصر فلم يفصح عن رأيها فيها: صمت عن مظالم العصر، ومفاسد المماليك أمراء وسلاطين. وصمت عن المفاسد الاجتماعية ووصف ملاهي مصر والقاهرة ومغانيهما وما كان يحدث عند الاحتفالات للأعياد القبطية وغيرها من تجاهر بالفسق والدعارة، ومن تظاهر بشرب الخمر والحشيش. وإذا صمت عن هذين ثم تحدث عن غيرهما فإنه يكون حديثاً لا فائدة منه ولا غناء فيه.

نستطيع أن نقول ذلك كما نستطيع أن نعلل قلة ما ورد من الشعر في هذين الموضوعين الخطيرين بضياع جل الشعر الذي قيل فيهما ضمن ما ضاع من أشعار الشعراء ودواوينهم وهو كثير

ولما كانت مظاهر الحياة قد تعددت في هذا العصر وتنوعت فأنا سنقسمها وندرس كل قسم على حدة لنستطيع أن نبين عن هذا الإجمال بالتفصيل ممثلين.

خضع الشعب لحكم استبدادي قاس أبنا عن قسوته ووصفنا موقف الشعب منها وعللنا هذا الموقف فيما سبق ونذكر الآن أن موقف الشعر من هذا الحكم الظالم، ومن حياة السلاطين الخاصة وقد ملئت دعارة وفسقاً - إلا في القليل النادر - لم يختلف عن موقف الشعب عامة والعلماء خاصة، فتكميم الأفواه وحبس الحريات، وكبت الشعور كان قدراً مشتركاً بين عامة الشعب وخاصته بين السوقة والكتاب والسراة ورجال الدين. ولكنا رأينا أحياناً تنفيساً عن الصدور المخنوقة ببعض المقطوعات وأكثر ما كان ذلك حينما يولي زمن السلطان أو الأمير وتذهب دولته ولا يجد الشاعر في ذلك حرجاً ولا يخشى منه بأساً. بل حينما يرى في ذلك إرضاء لخلفاء ووارثي الملك بعده أو مغتصبيه منه.

كان المظفر حاجي مغرماً ببعض المغنيات منقطعاً إليهن عن النظر في أمور الدولة فأرغم

ص: 21

على إخراجهن من القصر فكانت بنفسه عليهن حسرة لم تنقض. وقد حاول أن يتسلى عنهن بلعب الحمام الذي أنفق عليه أموالاً ضخمة، وقد ذكرنا ذلك فيما تقدم (في رسالة الشعر في عصر المماليك) ونريد أن نذكر الآن أنه لما قتل ذبحاً قال صلاح الدين الصفدي:

أيها العاقل اللبيب تفكر

في المليك المظفر الضرغام

كم تمادى في البغي والغي حتى

كان لعب الحمام جد الحمام

وقال فيه أيضاً:

حان الردى للمظفر

وفي التراب تعفر

كم قد أباد أميراً

على المعالي توفر

وقاتل النفس ظلماً

ذنوبه ما تكفر

وكان الناصر (حسين بن محمد بن قلاوون) مغرماً بالنساء ويستصحبهن معه في أسفاره (لأنه لم يكن له ميل إلى الشباب كعادة الملوك من قبله) فلما قتله يلبغا قال بعض الأدباء في قصته مع يلبغا ومحبته للنساء موجهاً أسماء سور من القرآن الكريم - ونلاحظ أن الشعر قيل بعد مقتله كما نلاحظ أن الرغبة في التوجيه هي مبعث هذا الشعر:

لما أتى للعاديات وزلزلت

حفظ النساء وما قرا للواقعه

فلأجل ذاك الملك أضحى لم يكن

وأتى القتال وفصلت بالقارعه

لو عامل الرحمن فاز بكهفه

وبنصره في قصره في السابعة

من كانت القينات من أحزابه

عطعط به الدخان ناراً لامعه

تبت يدا من لا يخاف من الدعا

في الليل إذا يغشى يقع في القارعة

وكان سنجر الشجاعي مشد عمارة مدرسة قلاوون ووزير الديار المصرية في عهد الناصر محمد بن قلاوون من أقسى المماليك وأظلمهم، فلما قتل وطافوا برأسه على مشعل قال سراج الدين الوراق:

أباد الشجاعي رب العباد

وعقباه في الحشر أضعاف ذلك

عصا ربه فالعصا نعشه

وشيع للدفن في نار مالك

والشجاعي هذا هو الذي يحذر ابن السلعوس منه بعض الشعراء حيث يقول:

تنبه يا وزير الأرض واعلم

بأنك قد وطئت على أفاعي

ص: 22

وكن بالله معتصماً فأني

أخاف عليك من نهش (الشجاعي)

وكانت عادة التسمير والتعليق منتشرة يعاقب بها الخارجون حتى الوزراء، فهذا الفخر بن مكانس قد علق (بسرياق) من رجليه لما غضب عليه برقوق بعد أن ضرب ضرباً مبرحاً وهاهو ذا يذكر هذه الحادثة معتذراً عنها بقوله:

وما تعلقت (بالسرياق) منتكساً

لزلة أوجبت تعذيب ناسوتي

لكنني مذ نفثت السحر من أدبي

عذبت تعذيب هاروت وماروت

وكانت المظالم تصب على خلفاء المسلمين فيخلعون ويسجنون وقد حكى الشعر بعض ذلك في المقطوعات: قبض برقوق على الخليفة المتوكل على الله وخلعه وسجنه فقال شهاب الدين ابن العطار:

أبشر أمير المؤمنين فما جرى

أقوى دليل أن عزك سرمد

لا تختشي فيد العدا مغلولة

ويد الخلافة لا تطاولها يد

وابن الوردي أجرأ شعراء العصر على التعرض لمظاهر الحياة العباسية ومظالم السلاطين في كثير من مقطوعاته

المولى الأشرف كجك وهو ابن ثماني سنين قال ابن الوردي في ذلك واصفاً خلف الأمراء وتنازعهم!

سلطاننا اليوم طفل والأكابر في

خلف وبينهما الشيطان قد نزغا

وكيف يطمع من مسته مظلمة

أن يبلغ السؤل والسلطال ما بلغا

وفي سنة 742 عوقب الأمير لؤلؤ القندشي بدار العدل بحلب حتى مات واستصفى ماله وشمت به الناس فقال ابن الوردي في ذلك:

الؤلؤ قد ظلمت الناس لكن

بقدر طلوعك اتفق النزول

كبرت فكنت في تاج فلما

صغرت سحقت سنة كل لولو

وفي سنة 740هـ قبض الناصر محمد بن قلاوون على النشو شرف الدين القبطي الأصل وعاقبه حتى هلك تحت العقوبة بعد أن كان قد قهر أهل القاهرة وبالغ في الإيذاء والمصادرة والقتل والخنق فقال ابن الوردي:

النشو لا عدل ولا معرفة

قد آن للأقدار أن تصرفه

ص: 23

من أتلف الناس وأموالهم

يحق للسلطان أن يتلفه

وتاريخه وديوانه مملوءان بأمثال ذلك وهكذا على الرغم من انصباب المظالم من كل جانب على هذا الشعب وعلى الرغم من أنها أخذت على المحكومين كل تفكيرهم حتى رأيناها تظهر في أخيلتهم الشعرية ويستمدون منها التشبيهات المختلفة كقول بدر الدين بن حبيب يتحدث عن الخمر.

مظلومة سجنت من بعد ما عصرت

مع أنها ما جنت ذنباً ولا اجترحت

فإنهم قد وقفوا عامة وشعراء وعلماء حيالها هذا الوقف المزري الشائن: لم يجأروا بشكوى ولم يظهروا ما كمن في نفوسهم من استياء وألم، وإن ظهر شئ من ذلك فعلى ما رأيت من هذا الاحتياط وبعد أن يكون المشكو مشلول القوى عاجزاً عن أن يظلم أو يرفع ظلماً، وبعد أن يكون خلفه الذي يتقرب إليه بما يقال فيه ينهج نهجه ويؤذي الشعب إيذاءه وربما كان إيذاؤه أشنع وأقسى وأفظع وأنكى وأشد وقعاً على نفوس الشعب شعرائه وعلمائه وذوي النفوذ فيه.

يوسف البيومي

المدرس في كلية اللغة العربية

ص: 24

‌هل نملك تحريم تعدد الزوجات؟

للأستاذ إبراهيم زكي الدين بدوي

- 3 -

ولا يفوتني بمناسبة الرد على هذا الدليل بشقيه - أن أوجه النظر بوجه عام إلى أن القرآن الكريم ليس مجرد مجموعة تشريع بل للمشرع الأعظم إلى جانب ذلك - كما قدمنا - أغراض ومقاصد أخرى يبلغها بأسلوبه الخاص مما لا يدخل مثله في نطاق مهمة المشرعين الوضعيين فحرام أن يحاول أحد إخضاع نهج القرآن الفذ لنهج هؤلاء المشرعين القائم على مجرد السرد الجاف لمواد مبوبة. فيقال مثلاً في مقام الاعتراض على المعاني والأغراض الواضحة من آية تعدد الزوجات؛ لماذا عبر بكذا ولم يعبر بعبارة (بسيطة موجزة)، ولماذا يعبر عن مدلول الآية في ضمن آية أخرى لها تعلق بموضوعها، أو لماذا عبر عن هذا المدلول في سياق غرض آخر لا أعلق له بموضوعه وجواباً لعبارة شرطية عن هذا الغرض، ويجعل مثل هذا التحكم في الأسلوب القرآني الرفيع أساساً للتأويل البعيد للنص صرفاً له عن معناه الصريح في حل التعدد؛ هذا المعنى الذي ظاهرته الأحاديث والأخبار وإجماع الأمة قاطبة قولاً وعملاً منذ عصر النبوة حتى الآن

7 -

أدلة العنصر الثاني: واستدل معاليه لرأيه في تفسير الآية الثانية بالدليلين الآتيين:

الدليل الأول - أن لفظ العدل وارد في هذه الآية والآية السابقة بحروفه فلا يمكن أن يكون معناه فيهما إلا واحداً على حقيقته الشاملة للماديات ثم المعنويات العاطفية جميعاً، وأن الآيتين متكاملتان أوجبت أولاهما الاقتصار على الواحدة وجوباً لا انفكاك منه.

والرد: أن هذا الدليل إنما يجري فيما يتكرر من (المعرف بأل) من الأسماء، فيكون المراد بالسابق واللاحق واحداً. وأساس هذه القاعدة اللغوية أن المعرف بأل إذا تكرر كانت (أل) فيه للعهد، فيدل على أن المراد بالاسم اللاحق عين المراد بالاسم السابق المعهود. والتعبير عن العدل لم يرد (اسماً) بل ورد (فعلاً) في الآيتين وأبان الشق الثاني من الآية الثانية وهو المبدوء بقوله تعالى (فلا تميلوا) أن المراد بالعدل في الآية الأولى هو العدل المستطاع وبه في الآية الثانية العدل المطلق على ما قررته في مقالي السابق وما سأزيده بيناً فيما يلي:

الدليل الثاني - أنه لو صح أن الشق الثاني من الآية الثانية مبين أن المراد بالعدل الذي

ص: 25

جعل شرطاً لجواز التعدد هو العدل المستطاع ليتعارض هذا النص مع قوله تعالى (فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة) ولكان في ذلك إشكال شديد يضطرب له قلب المسلم وتصطرع فيه ذمة من يريد السير على مقتضى شريعة الله القائمة؛ إذ كيف يأمر سبحانه بالاقتصار على الواحدة عند خوف عدم العدل، ومع حكمه بتحقق هذا الخوف حتماً لعدم إمكان العدل يسقط عمل مقتضى هذا الحكم فيجعل الرجل حراً في تعديد الزوجات بشرط مراعاة (العدل المستطاع) بينهن؟ إن هذا يستلزم أن قوله تعالى:(فلا تميلوا) ناسخ لقوله: (فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة) ولا يجرؤ أحد أن يقول بهذا النسخ.

والحقيقة أن الأمر أيسر من ذلك، فلا تعارض بين النصين ولا حاجة إلى القول بالنسخ، وما الإشكال الذي بدا لمعالي الباشا شديداً إلا نتيجة لأخذه جزء الدعوى في الدليل مما يعتبر مصادرة على المطلوب وهي من مفسدات الدليل كما هو معلوم. فدعوى معاليه - فيما استقر عليه رأيه أخيراً - ذات شقين: الأول أن العدل الوارد في النصين واحد وهو العدل المطلق، والثاني أن العدل المستطاع المعبر عنه بقوله تعالى (فلا تميلوا كل الميل فتذروها) هو مجرد حكم وقتي خاص بالزوجات الموجودات وقت نزول هذه النصوص. ومعاليه أقام دليله على أساس ثبوت الشق الأول مع أن الدعوى بشقيها هي محل النقاش وهو في مقام الاستدلال لها. فقد استدل إذن على الدعوى بالدعوى نفسها وهذا باطل.

8 -

أدلة العنصر الثالث. الواقع أن هذا العنصر من رأي معالي الباشا الذي اضطر إلى تكلفه - كما قدمنا في التمهيد - دفعاً لما استشعره من تضارب ظاهر بين تأويله للآيتين وركه تشوب النظم الحكيم نتيجة لهذا التأويل، لم يقمه على سند من دليل عقلي أو نقلي، وإنما افترض افتراضاً حالة محنة وقع فيها المسلمون لما نزلت الآية مقتضية بجملتها - فيما يرى معاليه - تحريم التعدد، وإن المسلمين هلعوا وجأروا هم والنبي إلى الله متململين من هذه المحنة الراهنة، فلطف بهم فبين مراده بأن أنزل قوله (فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة) لا تنظيماً للمستقبل الأدبي كما يقولون (أي كما يقول أصحاب الرأي المخالف لرأي معاليه) بل تنظيماً للحالة الوقتية الناشئة عن تلك المحنة التي وجدها المسلمون حائفة بهم، وهي حالة الزوجات المتعددات الموجودات فعلاً عند نزول هذا القول. . . ما الدليل على وقوع المسلمين في مثل هذه المحنة وجأرهم هم والنبي بالشكوى، وإن الآية الثانية

ص: 26

نزلت للتخفيف من ذلك؟! لا دليل!! وإنما يصرح معاليه بأن هذا الاستنتاج يؤيده فيه قوله تعالى (ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن) مع أن هذه الآية لا تؤيد استنتاجه في قليل أو كثير، فقد كان دأب المسلمين سؤال النبي واستفتاؤه في كل شأن من شؤونهم بوصفه صاحب الرسالة والتشريع الجديدين، فسألوه عن الخمر والميسر والمحيض والقتال في الشهر الحراموالمواريث والساعة والروح وعن المولى جل وعلا وغير ذلك من مختلف الشؤون المتعلقة بالتشريع والعقائد والأمور الغيبية، كما سألوه عن النساء أيضاً، فلماذا يختص معاليه السؤال عن النساء بالدلالة على وقوع محنة وجأر بالشكوى واستجابة للتخفيف الخ! أم أن ذلك كان قاعدة مطردة في كل ما سألوا النبي عنه في هذه الموضوعات فوجب القول بحدوثه أيضاً في سؤالهم عن النساء؟!

وهل كان شأن المسلمين في الصدر الأول التململ والجأر بالشكوى هم والنبي من كل ما ورد به الشرع مخالفاً لعاداتهم كقاعدة عامة يمكن طردها في جميع في جميع جزئيات التشريع - ومنها ما يختص بتحريم تعدد الزوجات - بغير ما حاجة إلى دليل خاص؛ أم أنهم كانوا وعلى رأسهم النبي عليه السلام على العكس من ذلك يتقبلون كل ما يرد به الشرع عن رضى وإيمان بأن فيه صلاحهمفي الدنيا والآخرة وتطهيرهم من أوضار الجاهلية وأرجاسها؟ ثم لماذا يجعل معاليه هذه الآية دالة على تململ العرب من التعدد خاصة مع أنه ليس سوى أحد الشؤون المتعلقة بالنساء والواردة هذه الآية وما يليها مباشرة من آيات يبين السياق أنها معها نزلت معها للرد على الاستفتاء في هذه الشؤون؟.

وإذا نحن ضربنا صفحاً عن المطالبة بالدليل على وقوع المحنة والشكوى أفلا يحق لنا أن نطالب بالدليل على أن المقصود بقوله تعالى (فلا تميلوا. الآية) ليس سوى حكم وقتي، مع أن الظاهر هذا النص دال بطريق الإشارة على أن إمكان مراعاة العدل المستطاع مجزئ بصفة عامة في حل التعدد المشروع وليس ثمة ما يصرف النص عما يدل عليه بظاهرة؟ (بيان ذلك أن الحكم بتحريم الميل كل الميل مرتب على وصف الرجال بعدم استطاعة العدل ولو حرصوا، فما ورد في عبارة هذا النص هو من قبيل ترتيب الحكم على الوصف بالفاء، ولفظ (النساء) الوارد في الوصف عام مما يجعل النص مفيداً بظاهرة جريان الحكم في جميع النساء، فلا يمكن قصره على الموجودات في عصمة الرجال وقت نزول الآية إلا

ص: 27

بمخصص؛ وأين هو المخصص؟). وإذا كان ما استنتجه الباشا مراداً للشارع بهذه الآية فكيف يعبر جل وعلا عن ذلك بعبارة يخالف ظاهرها مراده فيقع الناس بسبب ذلك في لبس تشريعي لم تكن لهم عنه مندوحة القرون الطوال يقارفون فيها المحرم نتيجة لهذا اللبس؟! وكيف لم يدل بأي طريق من طرق الدلالة على حقيقة المراد بهذه العبارة غير المقصود ظاهرها وبخاصة أنه دل على ما هو أهون شأناً لتعلقه بالماضي لا بالحاضر حينذاك وذلك بتعقيبه تحريم نكاح كل من زوجات الأب والأختين باستثناء ما قد سلف؟ ثم أين بيان النبي في ذلك ومهمته عليه السلام أن يبين للناس مل نزل إليهم، وبخاصة في مثل هذا الذي وقعوا فيه في أشد اللبس إذا نحن تمشينا مع رأي الباشا؛ أين الدليل على هذه النقطة التي هي حجر الزاوية في نظرية الباشا الجديدة والتي أراد معاليه أن يجعل منها حلقة اتصال بين تأويليه المتعارضين للآيتين فكانت بحق (الحلقة المفقودة)؟! فليتفضل علينا معالي الباشا بهذا الدليل - إن وجد - فنكون لصنيعه من العارفين، ونسلم له رأيه على طول الخط. إذ ليس رائدنا - علم الله - سوى التزام جانب الحق.

(يتبع)

إبراهيم زكي الدين بدوي

المتخصص في الشريعة الإسلامية والقانون من جامعات

الأزهر وباريس وفؤاد

ص: 28

‌مسابقة الفلسفة لطلاب السنة التوجيهية (6، 7):

7

- في الوجود وعلله

للأستاذ كمال دسوقي

أما وقد وقفت على العلل الأربع لابن سينا وأرسطو من قبله، وعرفت ما هي منها علل الوجود، وما هي علل الماهية، ورأيت أن غرضنا هنا ليس إلا علتي الوجود: الفاعلية والغائية من حيث هما موجودتان لعلتي الماهية: الهيولي والصورة؛ فإنه يجدر بنا أن نبسط لك أنواعاً من الفروض في ترتيب الموجودات وأقسامها عند ابن سينا، قبل أن نوغل معه في إلهياته.

ذلك أن الموجودات تنقسم باعتبارها المادة والصورة إلى ما لا مادة له ولا صورة، وإلى ما له مادة وصورة، والصورة وإن كانت توجد مفارقة للمادة، فإن هذه لا يمكن أن تعري عن الصورة، ولا يكون وجودها بدونها وجوداً بالفعل - بل بالقوة، وترتيب الموجودات على هذا الأساس - وبحسب شرفها وأحقها بالوجود هو أولاً: الجوهر المفارق غير المجسم، ثم الصورة المجردة، ثم الجسم - الذي هو في مادة وصورة - ثم الهيولي التي هي مجرد مادة وجودها بالقوة، وأخيراً الأغراض التي تلحق بهذه الجواهر: كالكيف والكم والمتى (الزمان) والأين (المكان) والفعل والانفعال - والوضع. . . الخ

والموجودات باعتبار وجودها واجبة وممكنة، فواجب الوجود هو الموجود الذي متى فُرض غير موجود عرَض منه محال، وممكن الوجود هو الذي متى فرض موجوداً أو غير موجود لم يعرض منه - هذا ضروري وذاك لا ضرورة له، وليس وجوده أولى من عدمه أو العكس. واجب الوجود يكون واجب الوجود بذاته أو لا بذاته - أي بغيره، فالذي بذاته هو الذي لا بشيء آخر، أي شئ يلزم محال من فرض عدم وجوده. والذي لا بذاته هو الذي لو وضع شئ غيره مكانه صار واجب الوجود مثله كالأربعة عند فرض اثنين واثنين، وكالاحتراق عند وجود المادة المحرقة والمحترقة وعلة الاحتراق.

وتستطيع على ضوء هذه المعلومات أن تفهم كيف يتدرج بك ابن سينا إلى إثبات واجب الوجود لذاته - الذي هو الله - فالعلل الموجدة للشيء في مقابل العلل المقومة للماهية، تكون علة للصورة وحدها كالسرير بعد أن يصنعه النجار - أو علة للصورة والمادة معاً -

ص: 29

كالجوهر المفارق الذي للسرير أو لغيره من مجموع مادته وصورته - أو علة الإيجاد والتركيب والجمع بين المادة والصورة - وهي العلة الفاعلة أو الموجدة التي هي علة واحدة أو أكثر مما سبقها من العلل أعني أنها علة وجودها وليست علة عليتها أو معناها كالعلة الغائية التي من أحكامها أنها علة في ماهيتها لعلية العلة الفاعلة بالفعل، وأنها معلولة في وجودها للعلة الفاعلة هذه؛ لأن الفاعل أو الموجد إنما يتحرك لتحصيل هذا الغرض، فتصبح الغاية الأخيرة دافعاً أول له.

وعلى هذا فكل موجود - إذا نظر إليه في ذاته - ومن غير التفات إلى علله الموجدة، فهو بحيث يجب له الوجود في ذاته أو لا يجب، أي أن يكون واجب الوجود لذاته - كالحق القيوم - أو ممكن الوجود بحسب ذاته - كبقية الموجودات وما حقه في نفسه الإمكان فليس يصير موجوداً من ذاته، فإن وجوده أولى من عدمه لحضور شئ فيه أو غيبته، فممكن الوجود بذاته هو إذن واجب الوجود بغيره - أي أنه ممكن الوجود من حيث هو علة لغيره - ويستمر هذا التسلسل لا إلى غير نهاية، فإذا كان كل معلول لابد له من علة، والعلة إلى علة أسمى؛ فلابد من الوقوف إلى علة العلل أو العلة الأولى التي هي نهاية السلسلة وهي واجبة الوجود بذاتها - والتي هي علة كل وجود - وموجدة حقيقة كل وجود في الوجود، والعلة النهائية التي ليس قبلها علة.

وبيان ذلك أنه إذا كان لديك سلسلة آحاد من الموجودات كل واحد منها ممكن بذاته واجب بغيره، وظللت تترقى بهذه السلسلة، فأنت في النهاية بين إحدى ثلاث:

1 -

إما أن ينتهي بك هذا الترقي أو هذه الطغمة من الموجودات إلى علة ليست معلولة - فتكون حينئذ واجبة بذاتها - وعلة هذه العلل - وتسمى حينئذ بواجب الوجود.

2 -

وإما أن يكون التسلسل إلى غير حد، بأن لا تجد في آحاد السلسلة علة غير معلولة، وحينئذ تكون علة هذه الآحاد خارجة عن جملتها، وتكون مغايرة لآحادها وواجبة بذاتها، إذ لو كانت غير ذلك لكانت واحدة من السلسلة.

3 -

أو يكون التسلسل دائرياً لا يتناهى - فتكون بعض الآحاد أو جملتها علتها جميعاً، فتكون معلولة لذاتها، ويصبح الجملة والكل شيئاً واحداً - وفي هذه الحالة لن تكون الجملة معلولة للواحد - لأنه هو معلول بها، ولن يكون بعضها هو العلة؛ إذ ليس بعضها أولى بهذه

ص: 30

العلة من غيره، والجملة لا تكون علة للآحاد، وإلا لم يحتج إليها مادام كل واحد في السلسلة معلولاً لما قبله علة لما بعده - فسقطت هذه الحجة - وبقيت سابقتاها التي لابد أن تنتهي في كليهما - مع التناهي في التسلسل أو اللاتناهي - إلى طرف خارج عنها - غير متقدم لها في الزمان - وهو علتها اللامعلولة - وهو واجب الوجود التي هي ممكنة به.

وبعد إذ فرغ الشيخ الرئيس من إثبات واجب الوجود في ذاته على هذا النحو، شرع في إثبات صفاته إيجابيها وسلبيها: كالوحدة وعدم الكثرة أو التركيب والانقسام، وعدم المشابهة أو الضدية، وأنه تعالى عاقل لذاته معقول لذاته، أي أنه عالم قيوم

ولإثبات وجود واجب الوجود، يقرر أن الأشياء قد تختلف بأعيانها وقد تتفق - والمختلفة بأعيانها قد تتفق في مقوماتها أو في أمر عارض لها، فينتج لدينا أربعة أقسام يهمنا منها النوع الأول من الأشياء: أعني المختلفة بالأعيان (بالذات أو الهوية المتفقة في مقوماتها (حدودها الرئيسية من جنس ونوع وبينها أمر تتفق فيه وآخر تختلف فيه اتفاقاً واختلافاً لازمين أو عارضين من جانب وجه الشبه أو وجه الخلاف، أما اللزوم فيما تتفق فيه كاشتراك الإنسان الناطق والحيوان الأعجم في الجنس (حيوان) فهو صحيح، وأما اللزوم فيما تختلف فيه لزوم النطق والعجمة في الإنسان أو الحيوان فمحال كذلك عروض ما تتفق فيه لما تختلف فيه جائز، وعروض ما تتفق فيه ليس بمنكر، كإطلاق الإنسانية على هذا الإنسان أو ذاك، فالعرضية هنا واضحة الجواز.

ومقدمة أخرى يسوقها فيلسوفنا للبرهنة على حدة واجب الوجود أي أنه يجوز أن تكون صفة ما كلية سبباً لصفة أخرى جزئية - فماهية الشيء أو فصله أو خاصته أو عرضه يمكن أن تكون سبباً لصفات أخرى فيما عدا الوجود - إذ الفرق بين الوجود وسائر الصفات أن هذه توجد بسبب الماهية، والماهية سببها الوجود. فما هو سبب لا يكون مسبباً - وما هو علة لا يصبح معلولاً، وما هو متقدم في الوجود لا يتقدم عليه غيره في الوجود. وللإمام الرازي على حجج ابن سينا هنا مناقشات ومحاكمات، وللطوسي على هذا الشارح الفاضل مآخذ واعتراضات. وجملة القول بعد هاتين المقدمتين أن واجب الوجود ما لم يتعين لم يكن علة لغيره، لأنه بغير هذا التعين لا يوجد في الخارج - وما شأنه ذلك يمتنع أن يكون موجداً لغيره، وتعينه ذاك إما أن يأتيه من كونه واجب الوجود - وحينئذ لن يكون

ص: 31

ثمة واجب وجود غيره، وتثبتت وحدانيته؛ وإما أن يكون لأمر غير كونه واجب الوجود - فيكون حينئذ معلوماً - لأن وجوده يكون إذ ذاك من غيره، ويكون الوجود ماهية أو صفة لغيره، - وهو محال - هذا من حيث لزوم ما به الاشتراك وما به الاختلاف بين التعين والوجود الواجب، وبإتمام ذلك بتطبيق عروض وجوه الاتفاق ووجوه الامتياز بينهما - على حد تقسيمنا الرباعي السابق في المقدمة (كما تجد في شرح الرازي ص205 والطوسي 204 - 206) ينتهي ابن سينا إلى فساد الثلاثة الأخيرة، وإثبات تعين واجب الوجود - وبالتالي وحدته - ذلك لأن الأشياء التي لها حد نوعي واحد - أي لا تطلق على كثيرين، وخصوصاً إن هي لم تكن في مادة - لم تتعدد أشخاصها، بل كان تعينها لازما لنوعها أو لشخصها وحده، وواجب الوجود ليس نوعاً يشترك فيه أشخاص، ولا جنساً تشترك فيه أنواع، ولا يقال على كثرة أصلاً

ومن هذا نرى أن واجب الوجود لا ينقسم في الكم ولا في المعنى؛ لا في الكمية ولا في الماهية، إذ لو تركبت ذاته من شيئين أو أشياء مجتمعة، لكانت هذه كلها أو آحادها أسبق منه في الوجود ومقومة له، ولكانت بالتالية علة وجوده، وهو كما قلنا ليس معلولاً ولا مركباً ولا منقسماً في الكم إلى أجزاء متشابهة، أو في المعنى إلى واجب وجود وماهية، بل هو جوهر بسيط غير متجزئ، وحتى وجوده ذاته ليس جزءاً من ماهيته أم متمماً أو مقوماً لها، فماهيته هي أنيته (وجوده الخاص الذي هو المبدأ لعامة الموجودات) وإنما المتكثر بالقسمة الكمية إلى مادة وصورة؛ وبالقسمة المعنوية إلى وجود وهيولي؛ فهو الجسم الممكن المحسوس الذي له من نوعه أشباه - ولا كذلك واجب الوجود، فإنه لا يشارك شيئاً من الأشياء الممكنة في ماهيتها أو جنسها أو نوعها، بل هو مستقل بذاته التي لا جنس لها ولا فصل - والتي من ثم لا يمكن تعريفها أو تصورها في العقل بحد، أو تصويرها في موضوع أو جوهر.

وكما أن الأول لا ندّ له ولا شبيه، ولا جنس له ولا فصل، ولا حد ولا تعريف، بل شهود وعرفان بالقلب والنظر؛ فلا ضد له كذلك، سواء أكان هذا الضد عند العامة المساوي في القوة المانع، وعند الخاصة المشارك في الموضوع المعاقب غير جامع: إذ الضد في الحالة الأولى معلول، ومثله لا ينهض ضداً للواجب الأول، وفي الحالة الثانية ليس للأول

ص: 32

موضوع فيشاركه فيه أحد، أويتعاقب عليه بعده أحد.

وطبيعة الأول تجعله بحيث يعقل ذاته وتتعقله، فهو واحد قيوم، ذاته غير قائمة بغيرها - بل بنفسها، ومجردة عن علائق المادة، منزهة عن العهد والضعف وكل حس أو وهم أو تخيل من شأنه أن يجعل غير معقول أو يمت إلى الحس بسبب، ومن كان ذلك شأنه فقد بين الشيخ الرئيس في النمط السابق لهذا أنه يصير عاقلاً ومعقولاً - وعاشقاً ومعشوقاً - فأنظره.

ونهاية المطاف ما ينبه عليه ابن سينا من الفرق بين مذهبه في إثبات وجود الله وبين غيره من المذاهب، فبينما المتكلمون من المسلمين يستدلون بالمخلوقات على الخالق، وبالصنعة على الصانع، وهو ما ذهب إليه كثير من الفلاسفة المتوحدين - مسلمين ومسيحيين؛ وبينما الحكماء الطبيعيون يستدلون بوجود الحركة على محرك، والمحركات إلى محرك أول - كما هي حجة أرسطو خصوصاً؛ إذ الفلاسفة الإلهيون - وهم منهم - يستدلون بالنظر في الوجود ذاته على إثبات واجب الوجود، في مقابل الممكن، ثم يتبعون ذلك النظر في ذات واجب الوجود بإثبات صفاته - على هذا النحو الذي فعل ابن سينا - بمعنى أنهم يستدلون بالعلة على المعلول - لا العكس - وهو أكثر يقيناً، وأتم شرفاً، وأولى بقومه الإلهيين الصدّيقين الذين لا يرون الله في (الآفاق وفي أنفسهم) بل يستشهدون بالحق على كل شئ - عملاً بقوله:(أولم يكف بربك أنه على كل شئ شهيد)؟ فلم يحتج إثبات وجود الحق ووحدانيته وبراءته عن السمات التي تأمل لغير نفس الوجود ليشهد به الوجود من حيث هو وجوده - ثم يشهد هو بعد ذلك على ما هو واجب بعده.

تلك هي طريقة إثبات وجود الله عند الإلهيين من الإسلاميين كما يعبر عنهم ابن سينا في أروع كتاب له في الحكمة المشرقية.

كمال دسوقي

ص: 33

‌من وراء المنظار

صوف و (دمور)

جلست ذات مساء في دكان الخياط ضجراً من ضياع وقتي في انتظار بدلتي متعجباً من أن يخلف الخياط موعده إياي أربع مرات وهو لا يزداد خجلاً في كل مرة عنه في سالفتها وإنما يزداد هدوءاً وصفاقة وجه لأنه لم يخجل قط وذلك فيما أرى لكثرة ما ألف من خلف الوعد. . .

ولم أجد شيئاً أتفرج به بعد أن فرغت من التفكر في صفاقته فثقل عليّ الانتظار وهممت بالانصراف، وإذ ذاك دخل الدكان شابان حاسرا الرأس لم ألبث أن أحسست أن فيهما ما أنشد من فرجة. . . كان أحدهما فيما قدرت في العشرين أو فوق ذلك قليلاً، وكان الثاني دونه بنحو عامين، وكانا كلاهما من أناقة الملبس وسطوع الألوان بحيث يستوقف ذلك منهما البصر قبل أي صفة غيره. . ونظرت فإذا بأصغرهما يتخطر إلى المرآة فينظر فيها نظرات أشاعت في عينيه وملامحه جميعاً الإعجاب والغبطة، ثم يصلح رباط عنقه ويصف شعره فودية، وقد اطمأن إلى بريقه ونعومته، ويستدير يمنة ويسرة فينظر إلى عطفيه وجانبيه، ثم يلقي نظرة على هيكل كله في بدلته الجديدة، ويستدير المرآة مزهواً يصفر بشفتيه لحناً وفي مشيته من الطراوة والتخلج ما لا يدع في بدنه من الرجولة إلا الاسم. وأخرج الثاني مشطه ومشى إلى المرآة فأصلح شعره ووثق في لمحات قصيرة من جمال طلعته وأناقة بدلته، ثم جاء فجر مقعداً وجلس عليه قبالة صاحبه الذي اختار أن يجلس على حافة منضدة في وسط الدكان معتقلاً ركبته بيده تارة، مستنداً إلى ذراعيه يكاد يستلقي على ظهره فوق المنضدة تارة أخرى. . . وما اختار المنضدة مقعداً فيما اعتقد إلا ليبقى تجاه المرآة يستمتع بما يرى من وجاهة.

وأخرج أصغرهما علبة سجائره ومدها إلى صاحبه، وراحا يرسلان الدخان في جو الدكان ورأيت لأصغرهما أوضاعاً يتكلفها للسيجارة بين أصابعه وفي فمه وفي كفه إذ يشير بها أثناء الحديث، وأوضاعاً للدخان كيف ينفثه وذلك عنده من مصطلحات الأناقة والظرف، واستبطأ الخياط، وضجرا من أن تضيع دقائق من وقتهما الثمين في انتظاره؛ وكان الأصغر يثب إلى الباب كل دقيقتين أو ثلاث يضن بأناقة ورشاقة أن يذهبا سدى طول هذا

ص: 34

الوقت الذي يحجبه فيه الدكان وهو ما خرج ورفيقه من دارهما إلا لتعجب بهما الغانيات! وصحبه رفيقه إلى الباب وقد أبصرا من بعد في ضوء المصابيح بعض الفتيات، وعادا ينتقدان ساقي هذه ويمتدحان قوام تلك؛ ثم جلسا يستعرضان في ضحك وتحمس ما يعجبهما فيمن يعرفن من كواكب السينما من سيقان وعيون وشفاه، وكل منهما يدافع عن وجهة نظره في قوة، كما لو كانا يتجادلان في مسألة من مسائل العلم أو الأدب أو الاقتصاد، وهيهات أن يبقى ما برعا فيه من علم الجمال وما حفظاه من أسماء الكواكب الزهر في رأسيهما فراغاً لشي من ذلك الجد وهما بعد كما عرفت من كلامهما طالبان في الجامعة. . . وجاء الخياط فسأله الأصغر عما عنده من قماش، ونظر نظرة في الألوان وسأله عما يطلب ثمناً لبدله منه؛ فقال الخياط أربعة وعشرين جنيهاً. وإذ ذاك ألقى الفتى بالقماش من يده، وقال وهل ألبس بدله بأربعة وعشرين جنيهاً؟ وتملقه الخياط بقوله إذا كان مثلك يا سعادة ألبك لا يدفع هذه القيمة فمن يدفع؟ وضحك الفتى ورفع رأسه وتأبه وشمخ بأنفه وقال للخياط أريد بدله كهذه وأشار إلى بدلته، لقد أخذ خياطي ثمناً لها خمسين جنيهاً. . . وكأنما أراد الفتى أأن يبين للخياط بدليل آخر مبلغ جهله بقدره، فأشار إلى رباط رقبته وسأله كم تظن ثمن هذه الكرافتة؟ فقال الخياط لا يقل عن جنيه ونصف يا سعادة ألبك! فضحك الفتى ثانية ضحكة مازجتها الكدرة وقال ثمنها ثلاثة جنيهات ونصف. . ثم سلم هو وصاحبه وخرجا من الدكان. . ونظر إلى الخياط وقال لهذا السبب ينجح الخواجات فما يهم الواحد من هؤلاء اللاعبين بالمال إلا أن يقال إنه يلبس بدله ثمنها كذا، أما قيمتها الحقيقية فآخر ما يفكرون فيه، وفي البلد آلاف بل ملايين لا يجدون بضعة أمتار من الدمور. .

وملت بموضوع الحديث عن وجهته لما في نفسي من ضجر وغيظ من الخياط الناقد، فقلت وهل ينجح الخواجات بهذا وحده؟ فهز رأسه مستفهماً فقلت: وبصدقهم في المواعيد. . . ومضيت بدون بدلتي ضجراً من خلف الخياط وإن بقي لكلماته أثر قوي في نفسي ظل يذكرني أياماً بالجنيهات الخمسين وبضعة الأمتار من الدمور

الخفيف

ص: 35

‌على الأعراف

للأستاذ محمود غنيم

ما للكنانة بعد طول مطافِ

وقفَتْ سفينتُها على الأعراف؟

ولقد تكشّفت الأمور وأمرها

داجي الغياهبِ حالكُ الأسداف

قالوا: السلام فقلت: دون سلامكم

وقع الصوارم والقنا الرعّاف

والله ما ساد السلام بعالم

حُرِمَ الضعيف به من الإنصاف

إن الذين ولوا السلام قضوا بما

يدع السلامَ مزعزَعَ الأكناف

حكموا ففاحت من بوادر حكمهم

ريحُ الدم الفوَّار للمُسْتاف

طرحوا القضية في السِّلالَ فهل تُرَى

يومَ القيامة يومَ الاستئناف

قل للألى طال التداول بينهم

ليس الصباح على البصير بخاف

فيم التداول إن قُرصَ الشمس لا

يحتاج ناظره إلى كشّاف

خدعت بمعسول الوعود ممالكٌ

لم تجن غير مرارة الإخلاف

هل كان ميثاقُ المحيط روايةً

وهمية محبوكةَ الأطراف

كشفت قضية مصر ثوب ريائهم

يا للرياء وثوبه الشفّاف

حلفاؤنا الأحرار لما نكّلوا

بخصومهم مالوا على الأحلاف

سبعون عاماً في احتلال دائم

يا للكنانة من سنين عجاف

ضيفٌ ألمّ بها فأصبح ربَّها

ثم استباح كرامة المضياف

قالوا: استقل النيل والمحتل في

واديه محمولٌ على الأكتاف

إن الأسار له مذاق واحد

ولو أنه متعدِّدُ الأوصاف

لسنا بأحرار لعمري ما بدا

لوجوههم طيف من الأطياف

أبني أبينا في الجنوب تحيةً

كالزهر كللِّ بالندى الرفاف

في مصر عترتكم وما في غيرها

من عترة لكموا ولا أسلاف

النيل ألف بيننا بنميره

كتألف الندمان حول سلاف

أخوا رضاع ليس يفصل بيننا

في الوضع غير شريعة الإجحاف

لا يخدعنكم الدهاة بزائف

من قولهم عذب المذاق زعاف

ص: 36

الأجنبي بأرضنا وبأرضكم

كالغيم في الجوّ الطليق الصافي

إن الذي تبع الدخيل منوَّمٌ

في الصحو مسلوبُ الإرادة غاف

إن غرّه كرم الدخيل فطالما

ذُبح الفصيلُ بمدية العلاّف

ضموا الصفوف إلى الصفوف وأرهفوا

بيضَ العزائم أيَّما إرهاف

إن الأماني كالغوانيَ دأبها

ألاّ تلينَ لخاملين ضعاف

لا ينفُذُ الحقُّ الصريح بنفسه

كلا ولا عدل القضاة بكاف

الحقُّ يعوزُهُ مُحقٌّ ساهر

كالسيف تعوزه يد السيّاف

ولقد تألّبت الخطوب على الحمى

وبنوه رهنُ تناحر وخلاف

ما ضر لو نسي الجميع نفوسهم

فيعودَ صفوُ الوُدّ بعد تجاف

شتّى فئاتٍ يهتفون لغاية

فكأنهم سِفُرٌ بألف غلاف

هتفوا لزيد بالحياة وخالد

لكن وقفت على الجلاء هتافي

بطل الجلاء سقت ضريحك ديمةٌ

تسقي الرياض بها طل وكاف

درجت عليك الأربعون ولم تزل

من كل قلب عالقاً بشغاف

لك سيرة يتلو الشباب فصولها

كالآي من ياسين والأحقاف

سور ترتّلها فتشعل في الدِّما

ما تشعل النيران في الألياف

قف بالفلاة وقل: هنا الكنز الذي

دفنوه بين جنادل وفياف

قف بالفلاة وقل: هنا فردٌ إذا

قيس الرجال يُقاس بالآلاف

حمل الأمانة وحده فكأنه

من نفسه في فيلق زحاف

ما ضر أعظمه تواضع قبره

فالدرّ درّ وهو في الأصداف

يا سيد الشهداء غرسك لم يزل

نسقيه من دمنا ليوم قطاف

وتراثك الوطنيُّ في دم معشر

لا واهن عزماً ولا وقاف

نفرٌ من الأشراف أن جدَّ الحي

في البحث عن نفر من الأشراف

رجعوا إلى أعراقهم فتجمّعوا

بعد الخلاف تجمع الآلاف

من كل باذل نفسه أو ماله

للنيل مقتنع بعيش كفاف

ما أنكروا حقاً ولا إن جادلوا

في باطل لجئوا إلى الإسفاف

ص: 37

لا الحكم طأطأ من رسؤسهمو ولا

لانت قناتهمو لغمز ثقاف

لا تستخف الحادثات حلومَهم

ويقابلون الموت باستخفاف

قالوا معاهدة الفخار وقلتمو

داءٌ عضال لا دواء شاف

حتى إذا لاح الصباح لناظر

شهدوا لكم بإصابة الأهداف

أدركتمو عيب الأمور كأنكم

تتلونها من صفحة العرّاف

وتزعزع المتزعزعون وأنتمو

كالطود في عصف الرياح وقاف

ووفيتمو لبلادكم بالعهد في

زمن يقل به الأمين الوافي

محمود غنيم

ص: 38

‌الأدب والفن في أسبوع

مهرجان الشباب:

كان يوم الجمعة يوم الشباب، وهو اليوم الذي أقامت في الإدارة العامة للثقافة بوزارة المعارف، المهرجان الأدبي والفني لتعرض به نتائج المباريات التي نظمتها للشباب في الأدب والفنون فمنذ أكثر من شهر يقوم المشرفون على هذا المهرجان بالإعداد له، وتقوم لجان التحكيم بالفحص وكشف المواهب؛ حتى وضعوا أيديهم على ألبوا كير، وقدموا ما طاب منها على مسرح الأوبرا الملكية يوم المهرجان.

افتتح الحفل الأستاذ فريد أبو حديد بك المدير العام للثقافة بكلمة أبدى بها فكرة المهرجان الذي اعتزمت وزارة المعارف تنظيمه سنوياً في شهر عيد الميلاد الملكي، لحفز قوى الشباب الأدبية والفنية وتدعيم نبوغه، وبين آثار الفنون في حياة الأمم ورقيها، ومما قاله أن مصر التي نشطت فيها الحركات الأدبية والفنية ولم يعقها الاحتلال - حرية أن تبلغ في هذا المضمار شأواً أبعد، على أيدي الشباب في العهد الجديد، وقال إنه كان يلاحظ علامات السرور على وجوه أعضاء لجان التحكيم حين تلوح لهم لمعات في إنتاج الشباب، إن ذلك يدل على ما يرجون فيهم من خير وما يودون لهم من توفيق.

وبعد أن ألقى الفائزون في مباراة الغناء نشيداً، تقدم الفائز الأول في مباراة الشعر (وترى بعد هذا كلمة عنه) فألقى قصيدة، ثم ألقى الفائز الأول في الزجل زجلاً مطلعة (كلمة فاروق حلوة) ثم تلا ذلك عزف موسيقي إجماعي وانفرادي على مختلف الآلات من طلاب ومحترفين وهواة، وتخلل العزف نشيد وقطعة غنائية ثم وزعت الجوائز على الفائزين في المباريات، وبعد ذلك مثل فريق مدرسة الخديوي إسماعيل الثانوية مسرحية إسماعيل الفاتح، وأعقبه فريق هواة الأسرة الأباظية بتمثيل الفصل الثاني من مسرحية قيس ولبنى.

الشاعر الأول:

كانت مفاجأة المهرجان هذا الشاب الشاعر عبد العليم محمد القباني الذي يشتغل بخياطة الملابس البلدية بالإسكندرية، وكانت القصائد التي قدمها في المباراة الشعرية قد استرعت التفات لجنة التحكيم في الشعر وأثارت إلى جانب دهشتها شيئاً من الشك؛ فلما كان الأستاذ فريد بك أبو حديد بالإسكندرية عرج على دكان هذا الترزي الشاعر، وجلس بجانبه يحادثه

ص: 39

متوسماً أمره، وجذب عبد العليم كراسة من درج بدكانه، وجعل يسمع فريد بك أشعاره. . .

فاز الأستاذ عبد العليم في المباراة بقصيدتين هما (من ليالي البحيرة) و (ليلة في حان) وقد ألقى الأولى في المهرجان، وأولها:

قلت لي لما تلاقينا على شط البحيرة

في مساء رائع الفتنة موفور المسرة

كلما حاولت أن أنساه لا أذكر غيره

يا حبيبي ابتسم الدهر لنا

فتعال نجتني زهر المنى

لا تقل لي في غد موعدنا

نحن لا نملك إلا يومنا

ويقول في القصيدة الثانية (ليلة في حان):

يا ابنة الحان هفا قلبي إليك

فاتركيه يحتسي من خمر ثغرك

طاف بالدنيا وأمسى في يديك

ظامئاً لا يرتوي إلا بخمرك

فدعيه يحتسي حتى الصباح

من جني الكرمة والحسن المباح

يا ابنة الحان دنا الفجر ولاح

وأنا لا أرتجي عنك رواح

على أن التمثيل بأجزاء من هاتين القصيدتين لا يعطي فكرة صحيحة لقيمتهما، فكل منهما ذات وحدة وخيال متصل.

شاعر من الجنوب:

وقد فاز في مباراة الشعر شاب من إخواننا السودانيين هو الشاعر إدريس محمد جماع، وهو طالب بكلية دار العلوم، ومن قصيدته يصف النيل حين يغضب:

إذا الجنادل قامت دون مسربه

أرغى وأزبد فيها وهو غضبان

ونشّر الهول في الأجواء منطلقاً

وكان في كل صوب منه بركان

فحول الصخر ذراً في مدارجه

فبات وهو على الشطين كثبان

ص: 40

عزيمة النيل تفني الصخر حدتها

فكيف إن مسه بالضيم إنسان

الخطيب الأول:

يذكر القراء ما كتبته في عدد مضى عن مباراة الخطابة وما لاحظته على موضوعها وهو بيت من حكم المتنبي؛ وكان ذلك في إحدى جلسات المباراة، وفي جلسة أخرى اقترح على المتبارين الموضوع التالي:(تمثل وقد جئت إلى هذه المباراة جمعاً من ثراة مصر جاؤا ينتظرون كلمتك فوجهها إليهم ولتكن غايتك حثهم على افتداء فلسطين بالمال فإن غيرهم يفتديها بالأرواح) وحدد للتفكير ساعة، وجعل للخطابة عشر دقائق، وكان بين المتبارين الشاب الأديب عبد الصبور مرزوق الطالب بكلية دار العلوم، فروي ساعة ثم تقدم يقول:

قال لي صاحبي ليعلم ما بي

أي شئ غدوت منه حزيناً

قلت حرب وفتنة وجحيم

في فلسطين، أين نلقى المعينا

موطن الوحي أصبح اليوم نهباً

وعرين الأسود بات مهينا

ثم سار بعد ذلك في الموضوع نثراً، ووجدتني أسرع إلى تسجيل بعض قوله، فمنه (فلن يزيدنا عسفهم إلا إباء وثورة، ولن يزيدنا كيدهم إلا كفاحاً وقوة، ولن يفل عزيمة الشرقي أنه مهدد، ولن يحول دون نجاحه أنه مستعبد) ومنه (فقد شربنا مع الفطام كيف نجالد اليأس فنحيله أملا، وكيف نغالب الأقدار فتزيدنا أجلا، وكيف نستعذب الموت في كفاح المحن، ونستعيد الماضي وإن طال على الماضي الزمن).

وقد عاد إلى ارتجال الشعر في أثناء الخطابة فقال:

فسلوا الأرض في فلسطي

ن أترضى من بعد طهر برجس

وسلوا المسجد المقدس عنهم

وهو يبكي بروعة وتأس

(أمحرام على بلابله الدو

ح حلال للطير من كل جنس)

والبيت الأخير لسوقي بك، أتى به على سبيل التضمين.

وكان عبد الصبور هو الفائز الأول في الخطابة، ولم يلق في المهرجان بالأوبرا، لأن المهرجان كان يذاع ما يلقى فيه، والإذاعة تحتم الاطلاع على النص من قبل، والخطابة ارتجال.

يريد أن يشبع قراءة:

ص: 41

هو أحد الفائزين في مباراة القصة، وهو الشاب الأديب محمد يسري أحمد الطالب بكلية الطب؛ قدم إلى المباراة قصتين قصيرتين:(الغربال) و (الأعمى) والتي فازت الأولى، لا لأنها أحسن من الثانية، ولكن اللجنة قرأت قصة (الأعمى) فألفتها قصة جيدة من حيث القيمة الفنية، بل إنها دهشت لبراعة كاتبها في التحليل وتبين الدوافع التي حملت بطل القصة على ارتكاب أمر محرم يعافه الطبع المستقيم، ولهذا صرفت النظر عن القيمة الفنية وأسقطت القصة من الحساب، واكتفت بقصة (الغربال).

وقد استرعى أمر هذا الشاب التفات لجنة القصص، من حيث نبوغه في فن القصة مع صغر سنه التي لا تتجاوز الثانية والعشرين، فكان موقفها منه كموقف لجنة الشعر من الشاعر الترزي. . . أثار إلى جانب دهشتها شيئاً من الشك. . . وقصد إلى منزله بحلمية الزيتون الأستاذ عبد الله حبيب عضو لجنة التحكيم في القصة، وجلس معه في غرفة الاستقبال، وعلم الشاب أنه فاز في المباراة، وأنه سيمنح ميدالية ذهبية، فقال:

- كم تساوي هذه الميدالية إذا بعتها؟

- إنها يا بني تتكلف نحو ثلاثة جنيهات لدقة صنعها، ولكنك إذا بعتها فلن يزيد ثمنها على خمسين قرشاً.

- إنني جائع إلى القراءة. . . أمر بالمكتبات فأرى في واجهاتها (شهي) المؤلفات في الآداب والفنون، فأحس بالشوق إلى التهامها، ولكني أنصرف عنها آسفاً كأسف البال، لأني لا أقدر على ثمنها، وكم أفضل جائزة مالية على هذه الميدالية، لكي أشبع من قراءة هذه الكتب. . .

وكان المقرر أن تقصر الجوائز المالية على الفائزين من غير الطلبة، أما هؤلاء فيمنحون ميداليات، خشية أن تصرفهم النقود عن الجد، فينفقونها على شئ من اللهو. . . ولكن الرغبة التي أبداها محمد يسري كانت من أسباب الرجوع عن هذا القرار فمنح جائزة مالية كما منح غيره من الطلبة الفائزين.

بقية الفائزين:

فاز في الشعر عدا الفائز الأول والشاعر السوداني - كمال النجمي وعبد المنعم حسن قنديل

ص: 42

ومحمد الحناوي وسعد دعبس ويوسف زاهر، وفاز في الخطابة - عدا الأول - حسين دياب وطه محمود عثمان ومحي الدين الحلواني، وفاز في القصة محمد أمين حسنونة (الأول) ومحمد يسري أحمد الذي تقدم ذكره ومحمد رشاد حجازي وعبد الفتاح مجدي ونعيمة وصفي وإنعام إبراهيم النجار ومحمد شريف وفاز في المسرحيات أحمد جاب الله شلبي، وفاز في التمثيليات الإذاعية عز الدين فراج، وفاز محمد محمود زيتون في الخطابة والشعر والتمثيليات الإذاعية، وفاز محمد علي ناصف في القصة وفي المسرحيات (الأول) وفي التمثيليات الإذاعية؛ وفاز محمد عبد الرزاق مرزوق في القصة وفي المسرحيات. وبلغ مجموع الفائزين في فنون الأدب وباقي الفنون 120، وكانت الجوائز بعضها أدبي وبعضها مالي، وبلغ مجموع الجوائز المالية 500 جنيه.

ويلاحظ أنه لم يفز من الفتيات في الأدب غير اثنتين فازتا في القصة، وقد كانت نسبتهن في الموسيقى كبيرة وقد برعن في العزف وخاصة على البيان رفيق الأنامل الناعمة.

الموسيقى والتمثيل:

كانت الأناشيد والموسيقى أضعف برنامج المهرجان، وكان أغلب العزف بأنواعه ضربات على الآلات لا فن ولا طرب فيها، وقد شغل مع هذا أكثر وقت المهرجان، حتى مله الحاضرون. وإن لم يخل من ومضات، كعزف ذلك الصغير على الكمان، وضرب هذه الصغيرة على البيان، وهما صغيران قدمهما نبوغها المبكر إلى صفوف الشباب. .

وقد مثل فريق مدرسة الخديوي إسماعيل الثانوية مسرحية إسماعيل الفاتح، ومثل فريق هواة الأسرة الأباظية الفصل الثاني من مسرحية قيس ولبنى، فأزال الفريقان ما وان على النفوس من ملل الموسيقى، ودلا على كفاية الفرق المدرسية والهواة في فن التمثيل المسرحي.

معرض الكتب والفنون:

وفي اليوم التالي لمهرجان الأوبرا، وهو يوم السبت، ناب عن معالي وزير المعارف الأستاذ إسماعيل القباني المستشار الفني لوزارة المعارف - في افتتاح معرض الكتب ومعرض الفنون بدار خدمة الشباب (7 شارع سليمان باشا).

ص: 43

ويشتمل المعرض الأول على الكتب الصادرة في سنة 1947 التي بعث بها المؤلفون ودور النشر إلى المعرض بناء على طلب الإدارة. ويحوي معرض الفنون لوحات في الرسم والتصوير بأنواعه، وتماثيل وأشغالاً يدوية وصناعات زخرفية، قدمتها هيئات وأفراد وفرق وهواة ومحترفين.

ويظل المعرضان مفتوحين للجمهور أسبوعاً من يوم الافتتاح.

العباس

ص: 44

‌رسالة النقد

ميزان الحكمة

لأبي الفتح عبد الرحمن المنصور الخازن

حققه وعلق عليه الأستاذ فؤاد جميعان

بقلم الأستاذ محمد عبد الغني حسن

هذا كتاب كان مخطوطاً فنشره لأول مرة في المطبعة العربية الأستاذ فؤاد جميعان، وذلك فضل يجب أن نسجله للناشر الذي رأى أثراً من الآثار الإسلامية مجهولاً عند المسلمين اليوم فآثر أن يعرضه على قراء العربية في طبعة أنيقة وذوق في الإخراج مع التعليق في بعض المواطن التي تحتاج إلى تعليق.

والحق أننا محتاجون إلى إحياء التراث العربي وكشف النقاب عن ذخائره، فإن كثيراً من هذه الآثار لا يزال مطموراً في ظلمات لم يكتب لها إلى اليوم أن ترى النور. كما حدثني بذلك الأستاذ الدكتور محمد سامي الدهان الذي رأى بعينيه كثيراً من مخطوطات برلين العربية مدفوناً في دير من الأديرة الكاثوليكية في ألمانيا بعد أن صارت العاصمة الألمانية غرضاً للقنابل الإنجليزية

لذلك فرحت أشد الفرح حينما رأيت كتاب (ميزان الحكمة) للخازن يظهر إلى دنيا المطبوعات بعد أن كان في دنيا المخطوطات؛ فإن كل مخطوط عربي يقدم إلى المطبعة اليوم فإنما هو يد يسديها ناشره إلى الأمة العربية وإلى تاريخها الطويل الذي أسهمت به في بناء الحضارة مدة من الزمان.

وينبغي أن لا تخرجنا العجلة في طبع المخطوطات ونشرها عن القواعد الصحيحة للنشر والتحقيق، وأن لا تعجلنا الفرحة بالإخراج عن الأناة في التحقيق والتحري له وحسن الضبط فيه؛ فإن من الخير أن يظل المخطوط مخطوطاً على أن يخرج إلى الناس على غير الوجه الذي أراده مؤلفه. وإن من الأمانة لتراث الأسلاف أن يظهر كما كان لا كما نتوهم نحن أن يكون.

ولا أعني بذلك أن أنقص من عمل الأستاذ فؤاد جميعان أو أن أهون من أمر إخراجه لكتاب

ص: 45

(ميزان الحكمة) على هذا الوجه الذي طالعنا به مكتب الشروق للطباعة والنشر، فأنا على ثقة أن عناية كبيرة بذلت في سبيل إخراج هذا المخطوط الذي تلفت منه كثير من الصفحات، والذي فقد منه فوق ذلك جزء ليس بالقليل. فإن الفصول الثلاثة الأولى من الباب الثاني من المقالة الخامسة مفقودة، وقد أشار الناشر إلى ذلك في ذيل صفحة 107. أما الباب الثالث من هذه المقالة فلم أقف له على أثر في موضعه من الكتاب ولم أجد المحقق أشار إلى ذلك، بل وصل ما بين البابين الثاني والرابع من غير تعرض لهذا الباب المفقود.

على أن إخراج المخطوطات يجب أن يرجع فيه إلى أكثر من مخطوط واحد حتى تتم المقابلة بين النسخ الخطية من الكتاب على أتم الوجوه. ولكن هذا العمل قد يعني القائمين به ويرهقهم من أمرهم عسراً. ولكن العسر في سبيل التحقيق العلمي هو وسيلة يهون عندها الوصول إلى أنبل الغايات؛ وهي إظهار النص على حال لا يبعد به عن أصله الذي أراده له مؤلفه. ولا يلجأ إلى المخطوط الواحد إلا حين تنعدم من العالم نسخ خطية أخرى. فهل كان الشأن كذلك حين نشر الأستاذ جميعان هذا الكتاب عن نسخة خطية واحدة؟

يقول الأستاذ قدري حافظ طوقان في التصدير الذي قدم بين يدي الكتاب (إن قنصل روسيا في تبريز عثر صدفة في منتصف القرن الماضي على هذا الكتاب (كتاب ميزان الحكمة) ويقول في موضع آخر: (وأخيراً توفق الأستاذ فؤاد جميعان في الحصول على مخطوط لميزان الحكمة فنقله مع شئ من الشرح والتعليق) ويقول الأستاذ جميعان ناشر الكتاب في صفحة 17: (وربما كانت النسخة التي بين أيدينا هي تلك النسخة الموجودة في فارس إذ لم أستطع أن أتبين تاريخها وذلك التشويه الكبير الذي ألم بها). ويقول أيضاً في الصفحة نفسها: (لكن المستشرق الألماني ويدمان يذكر أن نسخة منه موجودة في أحد جوامع بمباي في الهند).

هذه خلاصة قصة هذه المخطوطة كما ذكرها الناشر ومقدم الكتاب، وليأذن لي الأستاذان الفاضلان أن نسخة خطية من هذا الكتاب توجد في (الخزانة الآصفية) وهي خزانة عامة (تحت نظم الدولة الآصفية) بالهند. واسم الكتاب مذكور في فهرس الخزانة جـ1 ص125 كما ورد في كتاب (تذكرة النوادر) المطبوع في حيدر أباد الدكن والذي أخرجته جمعية

ص: 46

دائرة المعارف العثمانية سنة 1350هجرية. - راجع التذكرة ص166 وهذا المخطوط كما وصفته التذكرة بمقالاته الثمان - هو الذي نشره الأستاذ جميعان. ومعنى هذا أن من هذا الكتاب نسختين خطيتين كان أولى بالناشر أن يحصل على ثانيتهما بطريق التصوير مثلاً؛ فربما كانت هذا النسخة الآصفية أكثر ضبطاً وأكمل صفحات وأسلم من التلف. وبهذا كان يتجنب هذا الفراغ الكبير الذي تركه في الكتاب المطبوع معتذراً بتلف الأوراق أو فقدانها.

أما النسخة التي يذكر المؤلف أن المستشرق الألماني ويدمان يقول إنها موجودة في أحد جوامع بمباي في الهند فقد وقفت طويلاً عند ذكرها وأطلت الوقوف. . . ويظهر أنها مقالة أو أكثر من مقالات (ميزان الحكمة) نسخت في ربيع الآخر سنة 585 بساحل بحر عمان في موضع نفال أي بعد حياة الخازن ببضع عشرات من السنين. ولكن (تذكرة النوادر) ومؤلفها أحد علماء الهند المعاصرين يذكر أن بين مخطوطتي الآصفية وجامع بمباي اختلافاً في عبارتهما وإن كان يذكر على سبيل الاحتمال أن الكتابين شئ واحد.

ويذكر الأستاذ قدري حافظ طوقان شيئاً عن ترجمة الخازن في الكلمة التي عنونها بهذا العنوان؟ (من هو الخازن مؤلف هذا الكتاب؟). والحق أنها كلمة لا يسمو بها الإيجاز والاقتضاب أن ترتفع إلى مرتبة التعريف بعالم طبيعي من علماء المسلمين. ولو أنه نقل ما كتبه البيهتي في كتابه (تاريخ حكماء الإسلام) الذي حققه الأستاذ محمد كرد علي بك لأضاف إلى التعريف بالخازن شيئاً عن زهادة هذا العالم الجليل وعفة نفسه وجمال خلقه (ونقاء جيبه عن الأطماع الخسيسة). كما يذكر المؤرخ (ظهير الدين) في كتابه صفحة 162.

ويظهر لي - والله أعلم بالسرائر - أن الأستاذ الناشر أراد أن يخرج كتاب الخازن على أي وجه. . . وأن الأستاذ طوقان أراد - أو أريد له - أن يقدم الكتاب على أي وجه. . . فخرج الكتاب وظهرت المقدمة. . . ولكن الكتاب لم يُظهر لنا (ميزان الحكمة) على أصله وحقيقته؛ ومقدمة الأستاذ طوقان لم تظهر لنا (الخازن) الحكيم العربي على حقيقته. فإن الأستاذ طوقان يعلي من قدر (الخازن) إلى حد خشي معه أن يتوهم القارئ أن في ذلك انتقاصاً من قدر العلماء الأوربيين: (تورشلي) و (بسكال) و (بويل). وما هناك بأس أن ننصف آباءنا العرب حين تجب النصفة. ولكن ماذا يقول الأستاذ طوقان في أن مقدمته

ص: 47

كانت تحتاج إلى كثير من الشرح العلمي الطبيعي، لا مقدمة عابرة يسد بها فراغ. وما كان هناك موضع أولي بشرح نظريات (الخازن) من مقدمة لكتاب ألفه الخازن ليفهم على حقيقته بعد موته بأكثر من سبعة قرون وما كان هناك أحد أولى بمثل هذه المقدمة من الأستاذ العالم قدري حافظ طوقان. ولعل عالمنا العربي الجليل يعوض ذلك بمقال عن (الخازن) في إحدى المجلات العربية العلمية الرصينية.

أستغفر الله ما قصدت أن أعنف على ناشر له فضل النشر كالأستاذ جميعان، ولا على عالم - له فضل التعريف بعالم عبقري - كالأستاذ طوقان؛ فكلا الرجلين له فضل التقديم بأثر يعتز بذكراه المسلمون والعرب حين كانت لهم مقاليد العلم وميادين البحث - ولله عاقبة الأمور. . .

محمد عبد الغني حسن

ص: 48

‌الكتب

ثمار المطابع:

89 شهراً في المنفى 1931 - 1938

تأليف الأستاذ محمود حسني العرابي

لو كان مؤلف هذا الكتاب أوروبياً أو أمريكياً لنال من نباهة الذكر وذيوع الصيت قسطاً وافراً ملحوظاً! ولو أن صاحبه أزجاه - إذ قدمه لقراء العربية - على أنه ترجمة لمغامرات إنجليزي أو فرنسي أو أمريكي لاشتد إقبالنا على الكتاب، وازداد إكبارنا لصاحبه، وعظمت في عيوننا شخصيته، ولشمر الكتاب عن سواعد الجد والنشاط، وانطلقوا يعددون مآثر ذلك المغامر الإفرنجي، وراحوا ينعتونه بنعوت البطولة والمجد، وخلعوا عليه صفات الشرف والإباء والمصابرة!

ولكن هذا الكتاب ليس سوى بعض ما صادفه الأديب الكاتب المعروف الأستاذ محمود حسني العرابي في حياته الحافلة، من ألوان الشدائد والصعاب، وضروب التجارب والمغامرات، منذ رحيله مكرهاً عن أرض وطنه الأول العزيز في عام 1931 إلى أن شاءت الظروف عودته إلى أحضانه في غضون عام 1938، قبيل اندلاع نيران الحرب الأخيرة.

وقد أجمل المؤلف الفاضل في فصول هذا الكتاب الضخم وصف ما صادفه وما ألم به طوال مرحلة اغترابه عن مصر في عبارة رقيقة عذبة وأسلوب قصصي أخاذ، تتجلى فيه شخصية صاحبه على نحو يندر الاهتداء إلى نظائره في هذه الأيام!! فهو يمتاح من تجاربه ويكتب دون حاجة ملحة إلى اصطناع الخيال أو التأنق في الوصف الفني، ذلك أن الأيام التي مرت به في غربته قد احتشد بها كثير من الأحداث التي يعجز الخيال الموغل عن تصوير بعضها، بل إن في بعضها ما يفوق الخيال الذي يتخيله القابعون في عقر دورهم، والمعتصمون (ببروجهم العاجية) الأنيقة المترفة!

ولقد سجل الأستاذ العرابي حوادث تلك الفترة العاصفة من حياته الدائمة الصخب والضجيج تسجيلاً فنياً لم نحظ بمثله - كما قدمنا - في كثير من كتب المغامرات عند الأوربيين! ولقد

ص: 49

جعله على نسق القصة، فروى لنا حوادث تلك الفترة من حياته منذ غادر أرض مصر، إلى أن قضى الله بأن يؤوب المغترب إلى أحضان أمه سالماً، وسرد في غضون ذلك ما قاسى من آلام وغصص، ونوه بما صادفه من عقبات وما عاناه من أوصاب، ولم ينس أن يفضي إلى القارئ ببعض غرامياته وصداقاته التي هونت عليه أهوال الغربة وغصص الحرمان والفاقة!

وفي الكتاب تصوير صادق لحنينه إلى الوطن. فقد حدث وهو في محنته ببرلين، أن قدم رهط من المصريين لشهود مهرجانات الألعاب الأولمبية التي أقيمت بالعاصمة الألمانية عام 1936، وتصادف أن جلس ذات مساء في مقهى بها، إلى مائدة مجاورة لمائدة جماعة من أولئك المواطنين الزائرين الذين انطلقوا ينتقصون وطنهم في غير رحمة، ويبدون إعجابهم بعظمة الحضارة الألمانية، ويعربون عن أملهم في الإقامة ببرلين، ينهلون من مفاتنها، ويقبسون من سني حضارتها ولألائها؛ فانبرى لهم يسفه آراءهم وينصح لهم بالإبقاء على حب أمهم الرءوم مصر، والعودة إلى أحضانها حيث يعملون على الرقي بها إلى حيث العلا والفلاح. واشتبك معهم في حوار رائع حقاً، تجلى فيه حنين المغترب المحروم إلى وطنه النائي العزيز. ولولا معرفة صاحب هذا القلم بالأستاذ العرابي. وإدراكه مبلغ ما تنطوي عليه نفسه الشاعرة الحساسة من هوى مضطرم لا حد له بمصر وكل ما يتصل بمصر، لخال ذلك ضرباً من الإيغال في الخيال، أو نوعاً من المبالغات التي يعمد إليها الكتاب في معظم الأحيان توسلاً بها إلى ترويج بضاعتهم المزجاة!

والجزء الثالث من هذه الذكريات قد وقفه الكاتب على نشاطه في سبيل العروبة والعرب، وهو في منفاه؛ ففيه سرد مسهب مفصل لنشاطه حينما تولى رياسة النادي العربي في برلين، ذلك النادي الذي بذل المؤلف من وقته ونشاطه ما عاد عليه بالنجح والتوفيق في أداء رسالته الثقافية والرياضية، أما عن النشاط السياسي لذلك النادي، فيكفي الإلماع إلى مظاهرته قضية فلسطين وتأييده الصادق لها في فترة الاضطرابات التي عمت البلاد المقدسة قبيل اندلاع الحرب العالمية الثانية.

هذا والأستاذ المؤلف لا يعرف التأنق في العبارة، ولا يعشق المبالغة في إظهار عواطفه، وأسلوبه خير شاهد على ذلك الصدق الفني المنقطع النظير.

ص: 50

والحق أن المكتبة العربية لتفخر بتلك الذكريات الحاشدة الحافلة، وترحب بها كل ترحيب، وتفسح لها مكاناً بارزاً مرموقاً، وترجو لها الذيوع والانتشار الجديرين بأمثال هذه الدراسات الجادة المنطوية على التجربة الصادقة والنظرة المستقيمة المستوية، والروح المؤمنة المطمئنة إلى عدالة موقفها وعدالة قضية بلادها، وأحقيتها في الحياة الحرة الكريمة.

مختار الوكيل

ص: 51

‌أنات غريب

تأليف الأستاذ حبيب الزحلاوي

كان أدب الأقصوصة إلى وقت قريب هو أكثر الآداب تأخراً في اللغة العربية، ولعل للسينما أثراً كبيراً في هذا التخلف، فقد كانت تخطف كل نجم تأمل فيه الخير حتى احتسبنا الله في الأقصوصة وقنعنا من الأدب بألوانه البواقي الأخرى.

قد كان ذا. . حتى خرج إلينا الأستاذ حبيب بهذه المجموعة الأخيرة فإذا بها ترد إلينا أملاً كدنا نفقده، وتطمئننا أن للأقصوصة أصحابها. . والأستاذ حبيب أديب مطبوع بارع في حبكة قصته، ماهر في إيجاد العقدة وحلها، وهو بعد ذو قدرة فاتنة في التمسك بقارئه حتى ينتهي من قصته.

ليس من الميسور أن أتكلم عن جميع الأقاصيص التي دبجها الأستاذ حبيب في مجموعته الأخيرة ولكنني في قصته الثانية لاحظت له رأياً متطرفاً بعض الشيء نظم فيه قواعد عامة للقصة يصعب علينا أن نقبلها مرة واحدة. . وقبل تأمل هذه القواعد يطيب لي أن ألفت الأستاذ حبيباً - وهو أستاذ لا مراء - إلى أن صفة الأستاذية يجب علينا نحن أن نضفيها عليه منزلين بذلك الأمر في منزله، أما إذا قالها هو عن نفسه فإنني أخشى أن يظن الجاهلون أننا لا نعطي ذا الحق حقه حتى في الأدب.

عنوان هذه الأقصوصة (دميم) وهي في ذاتها جميلة. . ولكنه حين ساقها قدم لها بنقاش بينه وبين شاب من شداة الأدب، وكان الشاب يستنكر على الأستاذ حبيب دعواه بأن الأقصوصة لابد لها من عقدة وحل وحبكة ووحدة زاعماً - أي الشاب - أنه سريع الخلق لأشخاص روايته قوي الديباجة في عرض للقصة وهو قانع بهاته المواهب معتقداً أنها فوق الكفاية؛ ثم هو يعرض على الأستاذ حبيب مثالاً هزيلاً يستطيع أي قارئ أن يهدم الصلة بينه وبين القصة غير محتاج في ذلك للأستاذ حبيب ليظهر زيفه ويقارن بينه وبين أقصوصته الكاملة (دميم) التي خلقها في جلسته ليقنع الشاب بتفوقه عليه.

ولكن أيعتقد الأستاذ حبيب حقاً أنه لا غنى للقصة عن العقدة والحل؟! فماذا نسمي (غاية المرأة). . أهي أقصوصة أم مقال. . وإن كانت أقصوصة فأين العقدة. . فإن رشينا بحب الفتاة لرفيق صباها الذي ظهر فجأة عقدة. . فأين الحل؟!. . لا والله إنها أقصوصة رائعة

ص: 52

كل الروعة ولكنها ما زالت بغير عقدة ولا حل. (غاية المرأة) هذه أقصوصة يعالج فيها الأستاذ حبيب فتاة على أبواب الزواج ويتعمق نفسيتها من يوم أن تعرفت بخطيبها حتى ولدت منه. . وكم كان الأستاذ حبيب بارعاً في عرضه هذا! وكم كانت ريشته دقيقة في رسم الخلجات المتغايرة التي تمر بها نفسية الفتاة الشابة!

والأقاصيص الأخرى كلها من هذا النوع في السمو. . تهدف جميعها إلى غاية، وتخرج من أيها بعبرة. . وهذا لون من ألوان القصص. . لكنه لا يمنع القصص غير ذات الهدف أن تكون هي الأخرى جميلة. . ولا يمنعنا نحن أن نقدر الطاقة الفنية المبذولة في هاته القصص.

(أنات غريب) عنوان يجبه القارئ ويوقفه مشفقاً على هذا الغريب يعز عليه أن يحل بمصر عربي أديب ويطلق في أجوائها الرحبة أنه مهما خفتت. . وهي التي تنزل الضيوف جميعاً أهلاً فكيف بالأديب. . ولكن قبل هذا التساؤل. . أهو غريب!. أيحل أي منا غريباً بأي قطر عربي!. . لا والله كلنا فيه الأهل. دارت بذهني هذه الأسئلة وما زالت به تدور حتى قرأت الإهداء فأشرقت نفسي واستقرت. . لقد كان العنوان ابن غمامة زائلة بددتها شمس مصر الضاحكة فأطلقت أستاذنا حبيباً مشرقاً ضاحكاً

ثروت أباظة

ص: 53

‌البريد الأدبي

حقيقة الفضاء:

عاد الأستاذ العقاد يناقشني فيما لم أقله، ويعرض عما قلته، ولو كان يستوعب (مصادره العلمية) جيداً لما كان مضطراً أن يجعل رده الأخير مقتصراً على الإشارة إلى محاضرة ألقاها العلامة إينشطين سنة 1930 في جامعة نوتنجهام لكي يأخذ منها فقرة يظن أنه جبهني بها.

ليست هذه الفقرة محور المحاضرة وإنما جاءت في سياقها لأن إينشط

ين قالها قبلاً منذ أعلن نظريته النسبية سنة 1902، وقالها بعد ذلك مراراً، وقالها آخرون قبله وبعده، وما هي خافية على أحد، وهي أن الأمواج الكهرطيسية مالئة الفضاء. ومنها أمواج الضوء الذي نراه وأمواج الراديو التي نحس بها. والكهرطيسية شئ مادي لا روحي؛ لأنها ذرات منحلة صادرة من الشمس والنجوم ، وهي ما سموه ضوئيات (فوتونات). وهي التي سماها إينشطين وغيره من العلماء (مادة الفضاء).

وهذا ما قلته أنا مراراً. وفي هذه المجلة أيضاً قلته غير مرة. انظر صفحة 2444. فماذا الذي يرد عليه أستاذنا؟

لا أدري سوى أنه يريد أن يكون المتكلم الأخير في هذه المناقشة. فأنا أتعهد له منذ الآن أن هذه العجالة، هي كلمتي الأخيرة في موضوع وفيته حقه في جميع مقالاتي في هذه المجلة ولاسيما المقالة الأخيرة وفي كتابي النسبية. وله بعد ذلك أن يقول ما يشاء.

كل ما قلته في هذا الموضوع لا أنقص منه حرفاً. فأرجو من الأستاذ أن يستوعبه جيداً.

وأما قوله أن الفضاء نفسه هو مصدر تكوين المادة فهو فلسفته الخاصة لأننا لم نعلمه من سواه وإلا فليدلنا على من قاله.

الحقيقة الراهنة أن المادة أوجدت الفضاء. لولا المادة ما كان فضاء. (والمراد بالفضاء الحيز الذي تشغله المادة - هذه الملاحظة للقارئ الكريم).

أما الزمن أو (الوقت) فما هو إلا مقياس الحركة، أي حركة المادة. لولا حركة المادة لما كان وقت، وإلا فما معنى دقيقة وساعة ويوم وعام وقرن؟

بقي أن الأستاذ لم يقل لنا شيئاً عن فيثاغورس الذي أدخله في المناقشة عنوة ولماذا أدخله؟

ص: 54

ألم يجد في مقالي في المقتطف ما يناقشني فيه، فاستعار ذلك الفيلسوف القديم ليجعله موضوع مناقشة. والسلام والتحية للأستاذ.

نقولا الحداد

حول تعليق العباس على قصيدة الجارم بك:

قرأت ما كتبه الأستاذ العباس تعليقاً على قصيدة الشاعر الكبير علي الجارم بك في تأبين المغفور له أنطون الجميل باشا وفي هذا التعليق يقول الأستاذ - ولكني آخذ عليه قوله:

نسي الشعر في صراع الرزايا

رنة الكأس والغزال الأغنا

شغلته مآتم ونعوش

عن هوى زينب وعن وعد لبنى

فإن مجرد ذكر الكأس المرنة والغزال الأغن وهوى زينب ووعد زينب لا يتفق والمقام.

وفي رأيي أن مجرد ذكر هذه الأشياء لا يحط من قدر الشاعر ولا يهجن شعره في الرثاء - ما دام ذلك مشفوعاً بصراع الرزايا، وبالمآتم والنعوش - ولعل الشاعر يريد أن يصف حالة يعانيها في نفسه لا نحيط بها نحن - وأنت ترى أن دريد بن الصمة قد افتتح قصيدته المشهورة في رثاء أخيه عبد الله بالنسيب إذ يقول:

أرث جديد الحبل من أم معبد

بعاقبة أم أخلفت كل موعد؟

ولم أسمع من النقاد من اعترض عليه أو تصدى لنقده، لأنه أراد أن يسجل الحادثة التي دارت بينه وبين أم معبد زوجه حينما لامته في حزنه على أخيه فطلقها.

وما أرى أن نسير في ركاب (ابن وكيع) وهو صاحب كتاب المنصف الذي ألفه في بيان سرقات المتنبي - وكان ينظر دائماً بعين السخط إلى شعره - لآن أبا الطيب كان قد هجاه - كما يقول بعض المؤرخين - فعاب عليه من جملة ما عاب هذا البيت.

صلاة الله خالقنا حنوط

على الوجه المكفن بالجمال

وقال (ووصفه أم الملك بالوجه الجميل غير مختار).

قال الأستاذ قسطاكي الحمصي - صاحب منهل الوراد - (لو ذاق ابن وكيع طعم الخواطر السامية، وما كانت تولده مخيلة أبي الطيب له من الصور الصادقة لما انتقد هذا الانتقاد البارد فإن المتنبي لما تصورت له الميتة في ساعة النزع وما بعدها، دعا لها بالرحمة فجعل

ص: 55

الحنوط صلاة الرحمن، وخطرت في فكره شناعة منظر الموت وما يجره على أبدع الصور من الانقلاب فاستدرك الدعاء بقوله على الوجه المكفن بالجمال، وقال اليازجي (وجعل وجهها مكفناً بالجمال إشارة إلى أن الموت لم يغير محاسنها وإنما بقي عليها جمالها كالكفن)

أمين محمد عثمان

كشف تاريخي:

طبع تاريخ (الضوء اللامع لأهل القرن التاسع للمؤرخ الناقد شمس الدين السخاوي) فكتب كاتبون في (الرسالة) و (الثقافة) و (مجلة المجمع العلمي العربي) في الكشف عن مؤلف محاسن المساعي في مناقب الأوزاعي الذي كان نشره الكاتب الأكبر الأمير شكيب أرسلان رحمه الله، غفلاً من اسم المؤلف، لأنه لم يهتد إليه. فقد جاء في الجزء 2 ص72 من (الضوء اللامع) أن مؤلفه هو شهاب الدين أحمد بن زيد الحنبلي المتوفى سنة 870 كما في (شذرات الذهب في أخبار من ذهب لابن العماد) ج7 ص310 ثم رأى بعضهم في فهرس دار الكتب المصرية أن فيها نسخة من محاسن المساعي منسوبة إلى الحافظ بن حجر، فاستبعدوا صحة هذه النسبة، دون أن يعارضوا المطبوعة بالمخطوطة للفصل في هذا الشأن. فقمت أنا بهذا الأمر فتبينت أن المخطوطة هي المطبوعة إلا أن في تلك زيادات كثيرة في المقدمة وفي غضون الكتاب ولاسيما في الفصل المعقود لذكر بعض ما اختاره الأوزاعي من المسائل الفقهية، ففي المخطوطة أكثر من ضعفي ما في المطبوعة من الإنفرادات والاختيارات الفقهية. وفي المطبوعة من مراثي الأوزاعي 6 أبيات ليس غير، وفي المخطوطة 68 بيتاً لبضعة شعراء

واسم المؤلف في المخطوطة مكتوب بخط غير خط النسخة، فلعلها وقعت في يد أحدهم غفلاً من اسم المؤلف فنسبها إلى الحافظ ابن حجر بلا تحقيق.

وفي (لإعلان بالتوبيخ لمن ذمالتوريخ) للشمس السخاوي، إن مؤلفه سرد أسماء المؤلفات التي ألفت في تاريخ رجال مخصوصين، وذلك في آخر كتابه الجواهر والدرر في ترجمة الحافظ ابن حجر، فلعله يتيسر الرجوع إلى نسخة دار الكتب المصرية من هذا الكتاب لزيادة التثبت، ولنرى هناك في جريدة مؤلفات ابن حجر إن كان ألف في هذا الموضوع؛

ص: 56

لأن تلميذه الأثير السخاوي هو أعرف الناس بذلك.

محمد أسامة عليبة

جواني وبراني:

هاتان الكلمتان عربيتان فصيحتان فقد وردتا في حديث أفصح العرب والعجم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتاب الكشكول لبهاء الدين العاملي صفحة 87، 88 صبعة المليجي سنة 1318 وهذا نص الحديث.

روى الحارث الهمداني عن أمير المؤمنين كرم الله وجهه قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا علي ما من عبد إلا وله جواني وبراني، بمعنى سريرة وعلانية؛ فمن أصلح جوانيه أصلح الله برانيه؛ ومن أفسد جوانيه أفسد الله برانيه. وما من أحد إلا وله صيت في أهل السماء فإذا حسن وضع الله له ذلك في الأرض؛ وإذا ساء صيته في السماء وضع له ذلك في الأرض. فسئل عن صيته ما هو قال: ذكره.

فلا غضاضة إذا استعملنا هاتين الكلمتين بمعنى الداخل والخارج لأنهما صدرتا من أفصح ولد عدنان القائل (أنا أفصح العرب بيد أني من قريش)

حسين سلامة دياب

ليست في رسالة الغفران:

ورد في رسالة الغفران لأبي العلاء المعري عند العبور على الصراط (فوجدتني لا استمسك. فقالت الزهراء صلى الله عليها لجارية من جواريها يا فلانة: أجيزيه. فجعلت تمارسني وأنا أتساقط عن يمين وشمال. فقلت يا هذه إن أردت سلامتي فاستعملي معي قول القائل:

ستِّ إن أعياك أمري

فاحمليني زقفونة

هارون محمد أمين

(الرسالة): (سي) مختزلة من سِيدي المحرفة من سَيّدي ثم لحقتها الثاء للتفريق بين المذكر والمؤنث

ص: 57

‌القصص

الاعتزال!

للكاتب الإنجليزي هاتسفورد جونسون

بقلم الأديب سيد أحمد قناوي

غطت الآنسة (ويلدون) آلة الكاتبة بعد أن نال منها الملال وأدركها الكلال ثم ارتدت معطفها الخفيف الداكن اللون وألقت نظرة سريعة على المنضدة الكبيرة التي أمامها ثم أطفأت المصباح الصغير لتبارح مكان عملها.

كانت قد تأخرت عن موعد انصرافها من العمل كل ليلة، فكل الغرف قد أقفرت من شاغليها وأمستالعمارة الكبيرة في صمت موحش، وسكون رهيب. . . ولكنها لمتكن في حاجة إلى الإسراع في العودة إلى منزلها الصغير، فليس هناك من ينتظرها. . .

وهذا العمل ينسيها إلى حد ما عزلتها الموحشة التي تعيش فيها فضلاً عن أن تأخرها يساعدها على أن تجد مقعداً في السيارة تستريح فيه من عناء يوم قضته في العمل بدون انقطاع ولا فتور.

كانت الآنسة (ويلدون) قد بلغت السادسة والثلاثين من عمرها. . . ولم تسعد بما تسميه الفتيات (اللحظة السعيدة)؛ فهي لم تحظ بزوج يخفف عنها أعباء الحياة، ولم تعرف رجلاً شريفاً يذهب بها إلى (دور السينما)، ولم يقدر لها قط أن تجد شاباً عند الباب ينتظرها ليتأبط ذراعها ويسير بها إلى حيث يعلم هو وحده. كانت قد سمعت بهذا كله همساً من الفتيات الكثيرات اللاتي عملت إلى جانبهن. . . ولكنها هي لم تعرف حقيقة المشاعر التي تجيء في ضوء هذه الحوادث. . . ومع ذلك فهي سعيدة بعملها سعيدة بغرفتها الصغيرة في (بييزووتر). وبذلك الطريق الهادئ الذي تقطعه على قدميها كل صباح وسط (كنجستون جاردتر)، فإذا أظلم الليل وعادت إلى غرفتها وجدت فرصة طيبة لتتناول كوباً من الشاي ثم لتأكل بعض البيض والجبن ثم تنصرف إلى المطالعة. . .

وتذكرت (الآنسة ويلدون) وهي تهبط الدرج إلى باب المنزل أن برنامج الإذاعة جميل، وعلى هذا فستستطيع أن تقضي بعض الوقت في سماع الموسيقى؛ وقد تستطيع بعد ذلك أن

ص: 59

تضطجع في فراشها لتقرأ قصة من القصص العاطفية التي تدخرها للحظات العزلة.

وبلغت الآنسة (ويلدون) الطريق ولكنها وجدت ما أدهشها. . . فقد كانت السماء تمطر مطراً خيل إليها أنه يزداد لحظة بعد لحظة، وصدمتها هذه الحقيقة فهي لم تفكر في هذا المطر ولم تتوقعه. ثم إن معطفها الخفيف لا يمكن أن يرد عنها البرد وإن ردّ عنها قطرات المطر إلى حين، وضاقت بالمارة الكثيرين الذين يسرعون الخطى إلى محطة السيارات لأنها لن تجد المقعد الخالي الذي ترجو أن تستريح فيه. وإنه لا يبقى أمامها إلا أن تسير على قدميها مسافة لا تقل عن ميل حتى تصل إلى محطة المترو، وهي مسافة ليست قصيرة ولا يسيرة في هذا المطر الوابل

ولكن الآنسة (ويلدون) تكره البقاء بلا عمل فجمعت أطراف معطفها حولها وراحت تجد في السير. . . وفجأة أحست يداً تلمس ذراعها فدارت على عقبيها لتجد نفسها أمام وجه باسم لرجل في قرابة الثلاثين من عمره. قطبت الآنسة (ويلدون) حاجبيها، فهي لا تعرف هذا العبث ولا تستمرئه، ولكن الرجل لم يلبث أن قال لها في هدوء:

- لا تسرعي هكذا، إن ثيابك مبللة. . خذي هذا.

ومد الرجل يده بمعطف من المعاطف التي تقي من المطر. . ودون أن تدرك ما تقول أجابت في همس:

- شكراً لك. . إنني راضية بهذا البلل. .

ولعلها كانت تريد أن تضع حداً لهذه القصة التي لا تسيغها ولا تريدها. . ولكن الرجل لم ينصرف بل قال:

- لا تكوني حمقاء. إنك تسيرين بنفسك إلى حتفك فهمست قائلة:

- ولو كان هذا حقاً فماذا فيه؟

فابتسم الرجل وهو يقول:

- ليس جميلاً أن يموت الإنسان في مثل هذا السن. تدثري بالمعطف، وأنقذي هذا الصدر الجميل.

وكان صوت الرجل قوياً يحمل على الطاعة، وكان جديداً على سمعها لم تعرفه من قبل، وهي إلى جانب هذا في حاجة إلى هذا المعطف، فلم تشعر إلا بالمعطف حول جسمها،

ص: 60

فمدت ذراعها لتستكمل ارتداءه ثم ضمت أطرافه حول صدرها وهي تقول:

- ولكن ماذا تصنع أنت؟

- إن ثيابي غليظة، وأنا رجل.

- شكراً لك.

ولم تكن الآنسة (ويلدون) تعرف ما تقول، فهي لم تشعر قط بأنها كانت يوماً ما موضع عناية أو اهتمام من أحد، اللهم إلا مستر (بردفور) الشيخ الذي تعمل سكرتيرة له، ولكن شتان بين هذا وذاك! على أن الذي كان يشغلها هو ماذا يكون بعد هذا. . .

ولم تلبث الدهشة أن استولت عليها عندما سمعت الرجل يقول لها:

- هل تناولت الشاي؟

ولم تكن في الواقع قد تناولت شيئاً بعد الظهر ولهذا أجابت بسرعة: - لا. . .

ولعلها أحست في سؤال الرجل أنه يدعوها إلى قدح من الشاي؛ وهي وإن كانت حقاً في حاجة إلى شراب ساخن بعد أن بللها المطر إلا أنها لم تكن لها خبرة بمثل هذه الدعوات فاعتذرت شاكرة، ولكن الرجل تظاهر بأنه لم يسمع شيئاً وقال:

- هيا بنا، هناك مكان دافئ نجد فيه حاجتنا.

ولدهشة الآنسة (ويلدون) رأت نفسها تسير إلى جانب الرجل وقد تأبط ذراعها، وأحست بأصابعه تلامس صدرها. . ورأت كأنها تقرأ قصة من قصص الفراغ التي تدخرها لوقت النوم. وولجا الباب وأعجبها المكان كما لذها لدفء فلما انتحيا ركناً بجوار المدفأة قال الرجل وقد تهلل وجهه:

- الآن تستطيعين أن تخلعي المعطف حتى تجف ثيابك. ورجت هي أن تهنأ بلحظة سعيدة كهذه اللحظات التي سمعت عنها فأطاعت الرجل وراحت تحتسي الشاي في سكون.

ومرت اللحظات في أحاديث عن الجو والرياضة، وفجأة نظر الرجل في ساعته ثم قال:

- يا إلهي! لقد كدت أنسى أن أمي دعتني إلى العشاء هذه الليلة. لقد أعدت لي دجاجة كبيرة. . . إنني أتركك الآن؛ ولكن لا تسرعي في الخروج فسأدفع للساقي ثمن الشاي.

- ولكن كيف أرد إليك معطفك؟ وكانت وهي تقول ذلك تأمل أن يتفقا على موعد لعله يكون في الغد. وضحك الرجل ضحكة مرحة ثم قال:

ص: 61

لقد نسيت هذا. . . على أية حال هذه بطاقتي إذا شئت أن تتحدثي إلي في أمر المعطف. ومد الرجل يده بالبطاقة ثم انصرف. وظلت الآنسة (ويلدون) برهة في شبه حلم، فقد كان الحادث كله غريباً لم تألفه، وكان كل ما مر بها منذ أن تركت مكان عملها يرغمها على أن تفكر في أشياء لم تكن لتتوقع حدوثها قط.

وألقت نظرة خاطفة على البطاقة فقرأت فيها:

(جون برونت) وكيل شركة المعاطف الواقية من المطر. ولقيت في طرف البطاقة إشارة تلفت النظر إلى ما خط في ظاهر البطاقة، فلما قلبت البطاقة قرأت ما يأتي:

(إذا أعجبك هذا المعطف فأرسلي لنا جنيهاً وعشرة شلنات وإلا فاتصلي بنا تلفونياً فنرسل إليك من يتسلمه منك).

وبذلك تبددت أحلا الآنسة (ويلدون) ومرت بها قصة عاطفية قصيرة كلفتها جنيهاً وعشرة شلنات ولكنها أبقت لديها أثراً لها هو معطف جديد للمطر. . .

وهكذا انصرفت الآنسة (ويلدون) عن الناس وآثرت أن تعيش على هامش الحياة.

سيد أحمد قناوي

ص: 62