الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 767
- بتاريخ: 15 - 03 - 1948
من مذكراتي اليومية:
قصة فتاة. .
- 4 -
يوم الخميس 10 مايو سنة 1945
كانت الساعة خمساً بالتمام حين دخلت محلي جروبي الجديد أبحث عن الآنسة (س)؛ وكانت العلامة التي سأتعرفها بها أن أجد نسخة من (الرسالة) على المنضدة التي تجلس إليها. ولكن ماذا أصنع والناس قد فروا من وهج الحر في قلب المكان فتكونوا حول الموائد في حواشيه مماشيه فلا يجد المار طريقه بين المقاعد إلا بصعوبة، والربع الزاهر المعطار قد خلع من حلله وحلاه على الأشخاص والأشياء، فالجو عطر والمنظر سحر والأزياء وشى والنساء ورود والرجال أشواك والأحاديث أغاريد، فلا أستطيع لشيوع الجمال وعموم الحسن أن أعرف صورة من صورة، ولا أن أميز زهرة من زهرة!
لو كنت حديد البصر لنفضت المكان من بعيد، فعرفت على أي منضدة تنام (الرسالة)، وفي أي كرسي تقعد الفتاة؛ ولكن البصر كليل والمساء مقبل، فلا مناص من الجولان المتهم بالفضول، ولا بد من النظر القريب من اللمس. على أنني توخيت المناضد المفردة فجعلت وجهي إليها ونظري عليها، فلم أخط غير قليل حتى رأيت منضدة صغيرة عليها يدان رقيقتان تقلبان (الرسالة)، فكنت في خروجي برؤيتها من ربكة المشي وحيرة النظر أشبه بالزورق العامه في ظلام المحيط أبصر في المرفأ ومض المنارة، أو بالسائر التائه في مجاهل القفر سمع في الواحة نبض الحياة.
أقبلت عليها فاستقبلتني واقفة كما يستقبل النساء الرجال في الريف، ومدت يدها إلي فتصافحنا باسمين، وجلسنا متقابلين، وكلانا يصعد النظر في الآخر ويصوبه، ويوازن في نفسه بين ما تصوره في الخيال بذهنه، وبين ما رآه في الحقيقة بعينه. أما هي فلم أدر ماذا كنت في خاطرها من قبل، وماذا أنا في ناظرها الآن. وربما حملني العجب المضمر في كل نفس أن أسألها عن ذلك في مؤتنف الحديث. وأما أنا فقد كنت موزع النفس والحس بين صورتين تختلفان في الذات كل الاختلاف، وتتشابهان في المعنى بعض التشابه: فتاة العزبة في نفسي كزنبقة الروضة المطلولة، بضة الجسم، لدنة القوام، مطهمة الوجه، قد نظرت
وجنتيها النعمة، وغلظت شفتيها اللذة، وسوت خلقها الطبيعة؛ وفتاة (جروبي) في حسي نوارة من نوار الفول أبطأ عن حقله الغيث؛ فهي رقيقة البدن، مخروطة الوجه، دعجاء العين، فاترة اللحظ، طويلة الأنف، ظمياء الشفة، حلوة الافترار، هواها أكبر من جثنانها، وقلمها أجرأ من لسانها، وخبرها أضخم من عيانها؛ ولكنها على الجملة وضيئة الطلعة، مليحة القسمات، لطيفة الروح، تحمل الرجل بصباحة وجهها وصراحة قلبها على أن يأنس بها إذا حضرت، وأن يفكر فيها إذا غابت.
قلت لها بعد التحيات المنوعة والترحيب المكرر والأسئلة المعتادة: لقد انقطعت رسائلك عني منذ شهر فلم أعرف الأسباب التي أقدمتك إلى القاهرة؛ وما احسبني أعلم أن لك هنا أقارب تصلين رحمتهم بالزيارة، وتمنحين كرمهم بالضيافة. فلعلك قدمت مع أخيك أو بعض أهلك لغرض من الأغراض الخاصة أرجو ألا يكون من بينها المرض. فقالت الفتاة وقد أرسلت نفسها على سجيتها بعد احتشام من اللقاء الأول لم يدم طويلاً: ليس بجسمي والحمد لله ما أشكوه؛ ولنا في حي المنيرة منزل موروث تقيم فيه أختي الكبرى وزوجها وابنتاها، فأنا نازلة عليها به، ومطمئنة إلى حياتي فيه. وأما سبب قدومي فله حديث عرفت بعضه وغاب عنك بعضه، ولو كنت مطلقة اليد لما انقطعت رسائلي عنك، ولا التبست أموري عليك. ذكرت لك في رسالتي الأخيرة - لو تتذكر - ما كان بيني وبين ابن البستاني، وكيف استرقت زوجة أخي هذا السر من أفواه الخدم وأفشته إلى زوجها، وما أعقب ذلك من الضرب المبرح، والحجاب الكثيف، والمراقبة الشديدة. وكنت أظن أن لذلك العقاب حداً يقف عنده ووقتاً ينتهي فيه؛ ولكن العذاب أشتد وأمتد حتى ضاق مكاني في البيت، وساء مقامي في الأسرة؛ فأخي يعاملني بقسوة، وزوجته تكلمني بجفوة، وخادماته القرويات ينظرن إلي بازدراء. ومما سود نهاري وأطال ليلي أن أخي صادر بريدي فحرمني أن أقرأ ما أحب، وأن أكتب إلى من أريد، فأصبحت كسجينة الزنزانة محرومة من اعتبار النفس واستشعار الأنس واستحضار الوجود.
كان لا بد للإناء أن يطفح، وللجلد أن يهي، وللصبر أن ينفذ، فوطنت نفسي على الفرار إلى القاهرة. ولكن كيف الفرار وليس في يدي مال ولا في قدرتي مشي ولا في أسرتي مساعد؟ الأمر سهل! بين العزبة والقرية مسافة قصيرة وسكة معبدة، وبين أخي وعمدتها صداقة
وثيقة ومعاملة متصلة. وهو يعرفني منذ أن كنت طفلة، ويسأل عني كلما زار الأسرة؛ فإذا ذهبت إليه وطلبت منه باسم أخي بعض المال فما أظنه يمتنع أو يتلكأ أو يستريب. على أن معي خواتمي وأساوري فأستطيع أن أستعين ببعضها إذا حبطت هذه الخطة. وفي تباشير الصبح قبل أن يتيقظ البيت ويسرح الفلاحون وضعت ألزم أشيائي وأخفها في حقيبة صغيرة، ثم تسللت إلى الطريق الذاهب إلى القرية، وكانت الأرض قد طلنا الندى، والنبات قد كلله الحباب، والطبيعة الراقدة تحت جنح الليل قد أخذت تستفيق وتنتعش وتتحرك؛ فالطير تصدح بأغاريد الصباح، والشجر يتجه بالتحيات إلى الشمس، وآحاد من الفلاحين المبكرين ينقلون كالأشباح خطاهم الوئيدة على ضفاف القنوات وحواشي الزروع، وأنا في هذه الصحوة الجميلة أسير بين حقول القمح خائفة مسرعة، أترقب كل أمر، وأتأهب لكل طارئ، فأعد لكل سؤال جواباً، ولكل تصرف علة. وستر الله علي حتى بلغت القرية وطرقت باب العمدة، فتلقاني أهله بوجوه منطلقة وصدور رحبة، ثم قدموا إلى الفطور فملت منه ما ينال العجلان القلق. ثم دخلت على العمدة في غرفته وقلت له: أن أخي غائب في المدينة، وقد أبرقت أختي إلي تنبئني أن ابنتها في نزاع الروح وأنها في حاجة إلي، فلا بد من سفري في قطار الصباح وليس معي نقود فما كان جواب الرجل إلا أن قدم إلي عشرة جنيهات وأمر الحوذي أن يهيئ لي العربة.
دخلت القاهرة عشية يوم الأحد الماضي، وكان حالي وأنا أسير في زحمة الخارجين من المحطة حال الهارب من السجن، يتوهم في كل مكان جاسوساً يسمعه، وفي كل طريق شرطياً يتبعه. فلم تكد عيني تقع على سيارة عامة بجانب الإفريز حتى دخلت فيها وقلت للسائق: المنيرة، شارع كذا، رقم كذا. وما هي إلا عشر دقائق حتى وقفت السيارة أمام البيت، فصعدت الدرج، وغمزت الجرس، فأسرعن أختي في لهفة إلى باب الشقة وفتحته وهي ترتجف، وعانقتني وهي تنتحب! وكان مبعث ذلك كله أن أخي أرسل برقية إلى زوج أختي يعلن إليه هربي، ويلح عليه في طلبي، فساورت أختي الهموم، وتنازعتها الظنون، وعللت هذا الهرب بما أقاسيه في العزبة من العدوان المستمر، والحرمان المتصل؛ لأن أخي لا يهتم بها فهي تسيء به الظن، ولأن امرأته لا تخف على قلبها فهي تعتقد فيها الظلم! وقويت أنا في نفسها هذا التعليل بما افتريت من الأكاذيب واختلقت من المظالم.
فكتبت أختي إلى أخيه تسترضيه عني وتسأله أن يأذن لي في البقاء معها أياماً لتجلو عن جسمي هذا المرض، وتكشف عن نفسي هذا الهم. ولكنني قطعت العزم على أن أموت هنا ولا أعيش هناك، وأن أخسر رضا الناس أجمعين إذا كسبت رضاك. .
(للقصة بقية)
أحمد حسن الزيات
حول كتاب (عثمان)
حكومة النبي وخلفائه
للأستاذ عباس محمود العقاد
(يقول. . . الدكتور طه حسين في كتابه عثمان! (إن حكومة الرسول والخلفاء الراشدين من بعده كانت وضعيته وليس للدين الإسلامي يد فيها. ويستنتج من هذا أن لا فرق بين المسيحية والإسلام من هذه الوجهة وأعنى نظام الحكم والمجتمع، ويأتي بدليل قوله تعالى: وشاورهم في الأمر ويقصد الأمور الدنيوية بأسرها. . .
(ولكن ألم يقرأ قوله تعالى عز من قائل: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون.
(هل كانت حكومة المسلمين من وضع محمد عليه الصلاة والسلام دون إيحاء من رب السماء؟ وهل كان أبو بكر وعمر يقومان بأعمالهما من تلقاء نفسيهما وليست هي من جوهر الإسلام في شيء؟ وهل كان عمر رضي الله عنه يقصد من قوله: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لأخذت فضول أموال الأغنياء فرددتها على الفقراء). . . أقول هل كان يقصد الأموال بأنواعها كما يعتقد الدكتور، أو يقصد الزكاة والصدقات؟
أرجو إيضاح ذلك على صفحات الرسالة الغراء. . . الخ
(الأعظمية)
عبد الكريم الوهاب
جاءنا هذا الكتاب فحذفنا منه بعض العبارات التي لا تدخل في السؤال، واكتفينا منه بما نشرناه.
والذي نراه أن الأديب صاحب السؤال قد ظلم الفكرة التي نقلها عن كتاب عثمان، لأن الدكتور طه حسين لم يقل شيئاً مما فهمه في سؤاله، وكل ما يفهم من كلام الدكتور طه أن حكومة النبي عليه السلام لم تكن حكومة (ثيوقراطية) أي حكومة تستأثر بها طائفة من الكهان والأحبار ولا تشرك فيها الأمة برأي في اختيار الحاكم وتقرير الأحكام.
وهذا في رأينا صحيح.
فمسألة الحكم في الإسلام حق لجميع المسلمين يتولاه من يصلح له وتتفق جمهرة المسلمين
على صلاحه. وليس العالم بالفقه فيه إلا كالعالم بأصول الحكم في هذه الأيام، يختار لحاجة المجتمع إلى هذه الأصول، ولا يختار لأن علمه يجعل الولاية حكراً له أو حقاً محصوراً فيه وفي طائفة من أمثاله.
وليس رأي المسلمين في صلاح الحاكم بمانع أن تكون أصول الشريعة التي يحكم بها من عند الله، وكل ما يمنعه أن يعتبر (الحق الإلهي) الذي ادعاه بعض ملوك أوربة وسيلة إلى إنكار حق الرعية في الشورى والرقابة على الحكومة. وقد أبى الإسلام هذه الدعوى فكانت سنته هذه مزية بين الأديان.
وقد أوضح الدكتور طه حسين هذا المعنى فقال يرد على القائلين بالثيوقراطية في الإسلام أنهم قد يرون: (أن الحكومة التي كانت تحكم المسلمين في هذا العهد إنما كانت تستمد سلطانها من الله، ومن الله وحده، لا ترى أن للناس شأناً في هذا السلطان ولا ترى أن من حقهم أن يشاركوا فيه أو يعترضوا عليه أو ينكروا منه قليلاً أو كثيراً).
فالواقع أن الإسلام لا يعترف للحاكم بحق إلهي يمنع الناس من حسابه والتعقيب على حكمه، وهذا الذي فهمناه من كتاب عثمان حين رجعنا إليه، فلا غبار في رأينا عليه.
أما كلمة عمر عن الأموال فقد عقبنا عليها في كتابنا عن عبقرية عمر فقلنا: (إنه لم يرد في كلامه تفصيل لهذه النية. ولكن الذي نعلمه من آرائه في هذا الصدد كان لاستخلاص ما كان ينويه. فعمر على حبه للمساواة بين الناس كان يفرق أبداً بين المساواة في الآداب النفسية والمساواة في السنن الاجتماعية. . ولم تكن المساواة في أدب النفس عند عمر مما ينفي التفاضل بالدرجات، ولم يكن يرضيه كذلك أن يعتمد الفقراء على الصدقات والعطايا، ويعرضوا عن العمل واتخاذ المهنة، فكان يقول لهم في خطبه: يا معشر الفقراء ارفعوا رؤوسكم فقد وضح الطريق، فاستبقوا الخيرات ولا تكونوا عيالاً على المسلمين. وكان يوصي الفقراء والأغنياء معاً أن يتعلموا المهنة، فإنه يوشك أن يحتاج أحدهم إلى مهنة وإن كان من الأغنياء. . . فيسوغ لنا أن نفهم من هذا جميعه معنى ما انتواه من أخذ فضول الغني وتقسيمه بين ذوي الحاجة، وهو تحصيل بعض الضرائب من الثروات الفاضلة وتقسيمها في وجوه البر والإصلاح).
هذا مجمل رأينا في سؤال الأستاذ الوهاب.
وقد تلقينا كنباً أخرى في هذا السياق يسأل كتابها عن مواطن في كتاب عثمان لا نرى حاجة إلى تفسيرها، لأن إنعام النظر في الكتاب نفسه يغني عن ذلك التفسير.
على أننا نعتقد أن الذين يستقبلون كتاب عثمان بمثل هذا النقد لم يظلموه كما ظلمه المقرظون له بلسان التزلف والدهان، فإنهم يقولون فيه ما لا يقوله إلا عاجز عن التقدير الصحيح. وهو كاف لإعطاء الكتاب حقه من الثناء.
فهؤلاء العجزة عن التقدير الصحيح يزعمون أن الفتنة الكبرى لم تبحث على قواعد التاريخ أو على قواعد السنن الطبيعية قبل كتاب عثمان.
ومن جرأة الجهل أن يصدر مثل هذا الادعاء في هذه السنوات على التخصيص؛ لأن هذه السنوات قد ظهر فيها كتاب يسمى عبقرية الإمام، طبعت منه طبعات قبل ظهور كتاب عثمان، وترجم إلى اللغات الشرقية، وانتشر في جميع الأقطار الإسلامية، وقرأه عشرات الألوف من أقصى المشرق الإسلامي في الهند إلى أقصى المغرب الإسلامي في مراكش وإفريقية.
وفي هذا الكتاب كلام عن الفتنة الكبرى التي برزت في أيام عثمان ودامت إلى قيام الدولة الإسلامية.
وقد وصف عصر عثمان وقال: (إنه هو العصر الذي تكون فيه المجتمع الإسلامي بعد نشأة الدولة الجديدة، فيه نظام جديد على أساس الثروة المجلوبة من الأقطار المفتوحة، وعلى أساس الولايات التي تولاها بعض الطبقات المرشحة للرئاسة من العلية وأشباهها).
وأحصى الكتاب أسباب التذمر سبباً سبباً فقال في مسألة الثروة: (كثر المترفون من جانب وكثر المتربون من جانب آخر، وشاع بين الجانبين ما يشيع دائماً في أمثال هذه الأحوال من الملاحاة والبغضاء).
وقال عن قلق أبناء الولايات: (إن المتذمرين توافدوا من الولايات إلى المدينة مجندين وغير مجندين، وتولى زعامة المتذمرين في بعض الأحيان جماعة من أجلاء الصحابة كتبوا صحيفة وقعوها وأشهدوا فيها المسلمين على مآخذ الخليفة).
وقال عن التنافس بين العواصم (إن التنافس كان على أشده بين العاصمتين الحجازيتين وبين الكوفة، لا يرضي أهل المدينة بما يرضي أهل مكة، ولا يرضي أهل الكوفة بما
يرضي هؤلاء وهؤلاء).
وقال عن أثره قريش: إن قبائل البادية (كانت تنفس على قريش غنائم الولاية ومناصب الدولة وينظرون إليهم نظرتهم إلى القوى المستأثر بجاه الدين والدنيا وحق الخلافة والسطوة).
وقال عن طبقات المسخرين (كان العبيد والموالي والأعراب المحرومون حانقين متبرمين لا يرضون عن حظهم من العيش بعد أن علمهم الإسلام حقوق المساواة وشرع لهم شريعة الإنصاف).
وقال عن جمهرة القراء والحفاظ وأصحاب النسك والفقه والشريعة: (إنهم خلق كثير يعدون بالألوف ويتفرقون في الحواضر والبوادي ولا يزالون كأنبياء بني إسرائيل منذرين متوعدين ساخطين على ترف المترفين).
وقال إن أبا بكر وعثمان كانا يمسكان الصحابة بالحجاز ويحذران منهم أن ينطلقوا في الأرض فيقبلوا على الدنيا، وأن عثمان أهمل هذه السياسة الحكيمة وشق عليه أن يطيل حبسهم بالحجاز والهيمنة عليهم بجواره.
وقال غير ذلك مما لا يخرج عنه سبب واحد من أسباب الفتنة، ولخصها كلها في مرجع واحد وهو افتراق عهد الخلافة وعهد الملك، وأن الموقف كان في خلافة عثمان (ملتبساً. . . متشابكاً؛ لأنه كان نصف ملك ونصف خلافة، أو كان نصف زعامة دينية ونصف إمارة دنيوية. فوجب أولاً أن يتضح الموقف بينهما وأن يزول الالتباس وتقابل الضدان اللذان لا يتفقان - أن يبلغ الخلاف مداه، ولن يزال قائماً حتى تكتب الغلبة لمبدأ من المبدأين وحكم من الحكمين).
هذا بعض ما جاء من عبقرية الإمام عم أسباب الفتنة الكبرى ما تردد في صفحات الكتاب كله في تفسير تلك العوارض الاجتماعية.
فمن الجرأة التي لا توصف إلا بأنها جرأة الجهل، أن يحاول غمر من الأغمار ستر هذه الحقيقة عن الأعين، وهي تعد بعشرات الألوف.
ونحن لا يعنينا الأمر، لأنه لا يضير كتابنا عن عبقرية الإمام؛ فإن عبقرية الإمام لا يحبه كلام يلغط به غمر من الأغمار.
ولكننا ننبه إليه؛ لأن سكوتنا عنه يعد عجيباً جداً في هذا الزمن وفيما بعد هذا الزمن، ولأن وقحة الجهل خليقة أن تزجر، ليتعلم الجهلاء كيف يكتبون حين يريدون الثناء على مؤلف من طراز كتاب عثمان.
فهذا الكتاب من مؤلفات العصر التي يستطيع الناقد الخبير أن يثني عليها ولا يقول فيها إلا حقاً. فإذا لجأ إلى الباطل في الثناء عليه فإنما يسيء إلى نفسه ويسيء إلى الكتاب: يسيء إلى نفسه، لأنه يفضح عجزه؛ ويسيء إلى الكتاب، لأنه يرى الناس أنه محتاج إلى الباطل ليظفر ببعض الثناء.
عباس محمد العقاد
2 - الحمادون الثلاثة
للدكتور جواد علي
وروى الرواة قصة حماد التي ذكرناها بشكل آخر قابل للتصديق موافق للعقل، فلم تدخل إليها المبالغة على الطريقة التي رأيناها في قصته مع هشام وردت في كتاب (العقد الفريد) بهذه الصورة: جلس الوليد يوماً وجارية تغنيه، فأنشدت الوليد
قينة في يمينها إبريق.
فاستنشده حماد الرواية، فقال:
ثم نادى إلا اصبحوني فقامت
…
قيْنَةٌ في يمينها إبريق
قدَّمته على عُقار كعين الديك صفى سلافه الراووق
حرة قبل مزجها فإذا ما
…
مزجت لذ طعمها من يذوق
وهي نفس الحكاية كما رأيت غير أنها دون مبالغات ولا تهويل، كما أن الخليفة الذي حدثت معه هذه الحكاية هو الوليد وليس الخليفة هشام وهو أمر مقبول معقول يجوز صدوره من الوليد، ولم يذكر بهذه الرواية عن أمر استدعائه شيئاً.
وفي (الأغاني) قصة أخرى مصدرها (حماد) والخليفة صاحب القصة هو الوليد، وردت على هذه الصورة:
كتب الوليد بن يزيد إلى يوسف بن عمر:
أما بعد فإذا قرأت كتابي هذا فسرح إلى حماداً الراوية على أحب دابة من دواب البريد وأعطه عشرة آلاف درهم يتهيأ بها.
قال فأناه الكتاب وأنا عنده فنبذه إلي، فقلت السمع والطاعة، فقال يا دكين، مر شجرة يعطيه عشرة آلا فدرهم، فأخذتها. فلما كان اليوم الذي أردت الخروج فيه أتيت يوسف بن عمر فقال يا حماد، أنا بالموضع الذي عرفته من أمير المؤمنين، ولست مستغنياً عن ثنائك. فقلت أصلح الله الأمير (أن العوان لا تعرف الخمرة) وسيبلغك قولي وثنائي. فخرجت حتى انتهيت إلى الوليد وهو بالبخراء، فاستأذنت عليه فأذن لي، فإذا هو على سرير ممهد، وعليه ثوبان أصفران: إزار ورداء يقيئان الزعفران قيئاً، وإذا عنده معبد ومالك بن أسمح وأبو السمح وأبو كامل مولاه، فتركني حتى سكن جأشي، ثم قال أنشدني:
أمن المنون وريبها تتوجع
…
فأنشدته حتى أتيت على آخرها
ولا تستبعد حكاية طلب الوليد لحماد فقد كان (حماد) من المقربين للوليد، وقال كان يقصده عند الحاجة فيحصل على هداياه ثم يرجع كما كان يجالسه ويدخل مجلسه. وكان الوليد يميل إلى الشعراء والأدباء وأهل الفن. ويجوز أن يكون فيما ذكره عن (يوسف بن عمر الثقفي) مبالغة إذ لم تكن صلاته بالوليد على الصورة التي ذكرها (حماد): كان على العكس مقرباً لديه طيلة مدة الحكم (الوليد) إلى أن قتل، فغضب عليه (يزيد) وعزله عن العراق ثم قتل بعد ذلك سنة 116 للهجرة.
كان حماد شيطاناً خبيثاً ماكراً يستطيع استخراج ما في القلوب. وكان يمضي وقته بالمداعبات والمهاترات وقول الشعر جاء في العقد الفريد: إنه كانت في أبي عطاء السندي لثغة قبيحة، فاجتمع يوماً في مجلس بالكوفة فيه حماد الرواية، وحماد عجرد، وحماد بن الزبرقان، وبكر بن مصعب، فنظر بعضهم إلى بعض وقالوا: ما بقى شيء إلا وقد تهيأ في مجلسنا هذا. فلو بعثنا إلى أبي عطاء السندي؛ فأرسلوا إليه فأقبل يقول مرهباً، مرهباً هياكم الله. وقد كان قال أحدهم: من يحتال لأبي عطاء حتى يقول جرادة، وزج، وشيطان؟ فقال حماد أنا، فقال يا أبا عطاء، كيف علمك باللغز؟ قال هسن، يريد حسن، فقال له.
فما صفراء تكني أم عوف
…
كأن سويقتيها مِنجلان
قال زرادة؛ فقال أصبت، ثم قال:
أتعرف مسجداً لبني تميم
…
فويق الميل دون بني أبان؟
قال في بني سيتان، فقال أصبت، ثم قال:
فما أسم حديدة في الرمح ترمي
…
دوين الصدر ليست بالسنان
فقال زُزّ، فقال أصبت
وكان حماد كسائر أهل الكوفة يفضل (الأعشى) على شعراء الجاهلية. قال يحيى بن سليم الكاتب:
بعثني أبو جعفر أمير المؤمنين بالكوفة إلى حماد الراوية أسأله عن أشعر الشعراء، فأتيت باب حماد فاستأذنت وقلت: يا غلام! فأجابني إنسان من أقصى بيت في الدار فقال من أنت؟ فقلت يحيى ابن سليم رسول أمير المؤمنين. قال أدخل رحمك الله! فدخلت أتسمت الصوت
حتى وقفت على باب البيت فإذا حماد عريان على فرجه دستجه شاهسفرم، فقلت إن أمير المؤمنين يسألك عن أشعر الناس، فقال نعم، ذلك الأعشى صناجها.
وهذه القصة على ما يخيل إلي هي من وضع رواة الكوفة الذين كانوا يتعصبون للأعشى على سائر الشعراء ويقدمونه على الجميع؛ وإلا فقد كان بوسع الخليفة استدعاء الرواية إليه واستطلاع رأيه وأخذ الدليل. وكان أهل الكوفة يتعصبون للأعشى نكاية بالبصريين الذين كانوا يتعصبون لامرئ القيس.
والظاهر أن العباسيين لم يكونوا يعطفون عليه حتى ولا أعوانهم مثل أبي مسلم الخراساني، بل كان الرواية يخاف منهم ويبتعد عنهم كلما استطاع ذلك. كالذي جاء في حديث حماد عن استدعاء أبي مسلم الخراساني له حيث يقول: أرسل إلي أبو مسلم ليلاً، فراعني ذلك، فلبست أكفاني ومضيت، فلما دخلت عليه تركني حتى سكن جأشي، ثم قال لي ما شعر فيه أوتاد؟ قلت من قائله أصلح الله الأمير؟ قال لا أدري. قال فأطرقت حيناً أفكر فيه حتى بدر إلي وهمي شعر الأفوه الأزدري حيث يقول:
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم
…
ولا سراة إذا جهاً لهم سادوا
والبيت لا يبتني إلا له عمد
…
ولا عماد إذا لم ترس أوتادُ
فإن تجمع أوتاد وأعمدة
…
يوماً فقد بلغوا الأمر الذي كادوا
فقلت هو قول الأفوه الأزدري أصلح الله الأمير، وأنشدته الأبيات، فقال صدقت، انصرف إذ شئت! فقمت، فلما خطوت الباب لحقني أعوان له ومعهم بدرة فصحبوني إلى الباب، فلما أردت أن أقبضها منهم قالوا لا بد من إدخالها إلى موضع منامك فدخلوا معي، فعرضت أن أعطيهم منها شيئاً فقالوا لا نقدم على الأمير. ثم من يدري فلعل الخوف هو الذي أوحى إلى حماد الراوية بهذا الشعر الذي لا يمكن نظمه إلا من رجل حضري على طراز حماد، أو لعل القصة موضوعة من أساسها أن أردنا أن نذهب مذهب الشك في أكثر أقوال حماد.
والظاهر أن إعراض العباسيين عن (حماد) الذي كان يلتجئ إلى الأمويين هو الذي حمله على مغادرة (بغداد) في أيام المنصور بعد أن وفد إليها يلتمس الرزق في قصور خلفاء بني العباس. والظاهر أن الحظ كان قد ابتعد عنه وظل يبتعد عنه ولا سيما في أيام المهدي عدو الزنادقة اللدود. وكان حظ أكثرهم مثل حظ حماد. ويقال إنه سافر بعد ذلك من الكوفة إلى
البصرة حيث كانت له هنالك عصابة ثم عاد بعدئذ إلى بغداد. ولكنه وجد إعراضاً من المهدي ومطاردة فاضطر إلى مغادرة العاصمة إلى أن توفي عام 155 أو 156 أو 158 للهجرة.
مسكين حماد! كلن شاعراً مجيداً من الشعراء المجيدين. وكان ذكياً شاطراً ما في ذلك شك، وكان حافظاً ما في ذلك شك أيضاً؛ غير أنه لم يستغل ذكاءه ولم يستعمل مواهبه في قول الشعر فكان كصاحبه خلف الأحمر ينظم باسم الغير، ويقول الشعر ثم ينسبه إلى القدماء. ولعله كان يجد في ذلك رواجاً أكثر من رواج النظم المنسوب إلى نفسه، وهو رجل يريد أن يعيش كثير من أترابه الشعراء على حساب شعرهم!
لقد كان خلف الأحمر أحسن منه حظاً ولا شك، فقد حفظ الرواة عنه ما لم يحفظوه عن حماد، وذكروا عنه ما لم يذكروه عن زميله حماد. ولم نجد في الكتب من أخبار حماد غير اليسير مع كل المبالغات التي رويت عن محفوظه من الشعر، لقد ذهبت معه إلى القبر فقبرت معه إلى أبد الآبين.
والعادة كما يقول العوام أن تطول رجل الإنسان بعد الموت؛ غير أن رجل حماد ظلت قصيرة، فلم يتبار الناس في رثائه، ولم يعبأ إخوانه على ما يظهر لوفاته، إنهم لا يقيمون وزناً إلا للأحياء؛ أما الأموات فإلى أناس آخرين، فلم يرد مما قيل في رثائه غير ما رثاه به عبد الأعلى بن عبد الله بن خليفة أبو يحيى محمد بن كناسة بقوله:
لو كان ينجي من الردى حذر
…
نجاك مما أصابك الحذر
يرحمك الله من أخي ثقة
…
لم يك في صفو ودّه كدر
فهكذا يفسد الزمان ويفني العلم فيه ويدرس الأثر.
وحماد هو الذي جمع السبع الطوال فيما ذكره أبو جعفر النحاس والتي يقال لها (المعلقات السبع). جمعها من قصائد كثيرة واختارها من بين الشعر الجاهلي اختياراً، والتي قيل عنا إنها كانت قد كتبت بالذهب وعلقت بالكعبة. والتي شرحها جماعة من الشراح. والتي جاء عنها في (جمهرة أشعار العرب).
(وقال المفضل القول عندنا ما قاله أبو عبيدة في ترتيب طبقاتهم وهو أن أول طبقاتهم أصحاب السبع معلقات وهم أمرؤ القيس وزهير النابغة والأعشى ولبيد وعمرو بن كلثوم
وطرفه ابن العبد. قال المفضل هؤلاء أصحاب السبع الطوال التي تسميها العرب بالسموط ومن زعم غير ذلك فقد خالف جمهور العلماء. .) وقد أورد أبو زيد محمد القرشي أسماء الطبقات الأخرى مثل المجمهرات والمذهبات. . الخ.
ويرى المستشرق (نولدكه) أن اسم (السموط) هو الذي أوحى إلى مخيلة الرواة بوضع تلك القصص من المعلقات السبع وعن تعليقها في جوف الكعبة دون دليل قائم ولا حجة مقنعة، ومع أن رواة السيرة والمغازي لم يذكروا عند بحثهم فتح مكة من أمر هذه المعلقات شيئاً كما أن الحديث النبوي لم يتعرض لها. وهذا ما يجعلنا نشك في صحة ما ورد من روايات.
الدكتور جواد علي
2 - غاندي الصوام
للأستاذ حسين مهدي الغنام
من أقوال غاندي المأثورة قوله: (إن المواطن الذي يريد أن يخدم وطنه، يجب عليه أن يحتفظ بجسده وعقله طاهرين، حتى يجعل من نفسه أداة صالحة لخدمة هذا الوطن. والإنسان الذي يخدم السلم والإنسانية، عليه ألا يتجه في نضاله إلى الأشخاص، بل عليه أن يجارب النظم الفاسدة ويستأصل روح الشر التي تسيطر على بعض الناس).
وكان هذا الرأي دستور غاندي في حياته، ومبدأه ومذهبه الفلسفي الذي نادى به، ثم اعتنقه عملياً وأداه بنفسه في حياته، وعمل على نشره في العالمين. . .
فلما بدأ حركة العصيان المدني أمر أتباعه أن يتخلوا عن كل متاعهم الدنيوي، ويهبوا أنفسهم لخدمة غرضهم الأسمى، ويتطهروا روحاً وجسماً ويتهيأوا لمحاربة الشر الكامن في الإنسان، حرباً روحية بلا عنف أو قسوة.
وبدأ الرجل حركته الجديدة. وتبعه مريدوه وتلامذته.
ولكن إحدى تابعاته ضلت، فانقطعت عنهم واحداً وعشرين يوماً، عادت بعدها تستغفر زعيمها، فاستيقن من صدق تويتها، عزم أمره على شراء خطاياها بالصوم واحداً وعشرين يوماً. . .
وهكذا بدأ غاندي سياسة الصوم، التي تتلخص فيها فلسفته!
والذي قاله السردار إقبال على شاه عن قوة غاندي الروحية وتأثيرها على الهنود، صحيح في جملته. وكان سلاح الرجل الوحيد ذلك السلاح الهادئ الذي لا يحدث صوتاً ولا فرقعة، سلاح الصوم، والصوم يعني الإنسانية العليا والصبر والقناعة والرضى.
وكان هذا السلاح ذا تأثير عظيم في الهنود، بل لم تكن مجموعة من القنابل الذرية بكافية لأن تهز ملايين الهنود كما يزلزلها صيام ذلك الشيخ الهندوكي الواهن الجسم.
كان المتنبئون والروحيون من الهنود يقدرون لزعيمهم أنه سيعمر ما بين 125 و 133 عاماً. وكان غاندي يعتقد مثل هذا الاعتقاد. ولكنه قبل اغتياله نذر أن يصوم حتى الموت إذا لم ينفذ الهندوس ما طلب منهم في صالح المسلمين واتحادهم معاً.
ولطالما عمد غاندي إلى الصوم الذي كان أشد أسلحته، فكان هذا الصوم يقف الاضطرابات
الطائفية في بلاده، فتنقلب دعوات البغضاء إلى أغاني حب. وكان يتلافى الأزمات الحادة التي كانت تجر الخراب والمار على الملايين، ويهدئ الأعصاب والثورات، ويحفظ اتحاد الهنود، وينقذ أرواح الملايين، بهذا السلاح الضعيف القوي، الذي برع فيه فكان يفل عزائم الأبطال. . .
ولقد هدأ غاندي ثورة كلكتا مرة، بأن صام، ففعل صومه ما لم يستطع فعله 55 ألف جندي لم يستطيعوا حفظ السلام في مقاطعة البنجاب.
وكان غاندي، أشهر صائم في العالم، لا يشجع غيره على تقليده في الصوم بلا روح.
لما أفطر بعد صومه الخامس عشر الذي استغرق 121 ساعة قال لأبناء وطنه: (في هذا العصر المقلد بلا تمييز ولا شعور، أحذركم وأقول إنه لمن الغباء من أي شخص آخر أن يفعل مثلي وينتظر نتائج سريعة، فستذهب آماله وآلامه هباء، فإنه للصيام مؤهلات قاسية يجب أن تتوفر في القائم به، إذ يجب أن يكون صاحب عقيدة صادقة في الله، وأن يكون صومه بدعوة من الله ودعاء له. وبهذا يكون للصوم أثره ونتائجه التي أدى من أجلها وقبل أن يؤدي يجب أن يمهد له بتمهيدات طويلة، فلا تدعو إنساناً ما أن يقوم إذن بهذا الصيام ما لم يكن مستعداً له استعداداً قلبياً خالصاً. . . إنه ليس مجرد تقليد).
وقبل سنين طويلة كتب غاندي عن الصيام فقال: (أن الصيام نظام قديم قدم آدم. وكان يتخذ إما وسيلة لتطهير النفوس وإما لغايات نبيلة أو رذيلة. ومن قبل صام بوذا وعيسى ومحمد حتى يتمكنوا من رؤية الله وجهاً لوجه. أن الصيام قطعة من كياني، وأني أتمسك به، لأنه وسيلة كل باحث عن الحقيقة)
وقد كتب طبيب غاندي الذي كان يعني به أيام صيامه، وهو الدكتور روي:(أن الصيام عند غاندي عقيدة دينية. فقد كان يبدؤه بالصلاة، ثم يختتمه بالصلاة، كما كان في أثناء صومه - طال أم قصر - يبدو كأنه متصل بقوة روحية عليا)
وقبل أربع وعشرين سنة صام غاندي 21 يوماً في دلهي، لكي يربط بين الهندوس والمسلمين. ثم صام لنفس الغرض في كلكتا هذا العام، وقد أدى صيامه إلى نتائج طيبة، كما صام في سبتمبر الماضي في ثانية المدن الكبرى في الكومنولث الإنجليزي، وكانت الاضطرابات بين الطوائف تهددها وتهدد أهليها بالدمار والفناء، وأدى صومه إلى نتيجة
عظيمة، حتى سمى هذا الصوم معجزة كلكتا. . .
وبدأ غاندي صيامه التاسع عندما اعتقل أثناء الحرب الماضية في (فيلا) أغا خان في بونا، ثم رفض عرضاً بريطانياً بإطلاق سراحه إذا أنهى صومه، وقد أطلقوا سراحه عام 1944.
ولقد لعبت غاندي دوراً عظيماً في جميع المحادثات التي أدت إلى استقلال الهند في أغسطس من العام المنصرم، فأعلن قبل تحقيق حلم حياته الذهبي بأيام قلائل، إنه أعتزم أن يعتزل السياسة، واصطحب معه حسين السهروردي - الزعيم المسلم المعروف - وعاشا في اكثر أحياء كلكتا اضطراباً وشغباً، ثم بدأ في أول سبتمبر صومه حتى يعود إلى كلكتا عقلها!
وقد أنهى صيامه بعد أربعة أيام حينما بدأت قوة (بوليس) شمالي كلكتا صيامها لمدة أربع وعشرين ساعة، مشاركة للزعيم وكان في تلك القوة ضباط أوربيون وانجليز وهنود كثيرون.
وفي السادس من سبتمبر الماضي، قبل أن يغادر غاندي كلكتا، أخبر المصلين معه أنه إذا أقلق سلام كلكتا مرة أخرى، فليس أمامه إلا الصوم حتى الموت. . .
وفي الثالث عشر من يناير هذا العام، بدأ صيامه إلى أجل غير معلوم، ليحقق اتحاد الهندوس والمسلمين. وعندئذ أرسلت الهند والباكستان، مندوبيهما (ليك سكسس) ليقدموا إلى مجلس الأمن وجهات أنظارهما عن ولاية كشمير، ولكن المهاتما قال أنه لا شأن لصيامه بأعمال الأمم المتحدة.
وفي الثاني عشر من نفس الشهر، عندما وقعت حكومة الهند ورؤساء أحزابها تعهداً بتحقيق شروط غاندي السبعة التي اشترطها عليهم في صالح المسلمين، أنهى صومه، وكانت مدته 121 ساعة ثم قال:(لا أستطيع أن أعتقد في استحالة الصداقة والأخوة بين الهندوس والمسلمين والسيخ والمسيحيين واليهود والفارسيين فإذا تحطمت هذه الصداقة التقليدية تحطم الشعب الهندي كله. وإذا تحقق هذا العهد، فأني أؤكد لكم أن تحقيقه سينعش قوتي وسيضاعف ابتهالي إلى الله، وسيعينني هذا على أن أحيا بقية حياتي قرير العين، مؤدياً للإنسانية الخدمة التي فرضتها علي حتى اللحظة الخيرة من حياتي، التي يقدر لها بعض المتنبئين أنها ستكون 125 سنة، ويقول البعض الآخر بل ستكون 133 عاماً)
ومن حوادث صومه الطريفة، صومه الذي قام ع مشاركاً (أباشد تواردهان) الذي رفض أن يقوم بعمل (الزبال) في سجن (برفادا)، ورفض كذلك أن يمس أي طعام حتى لا يقوم بعمل الكناس كما أمر، فصام، وصام غاندي معه، وهنا خشيت السلطات على حياة الزعيم فأعفت (أباشد) من أوامرها، وهنا أفطر الرجلان. . .
وكان من ثمرات صيامه الطيبة، صومه ضد الحكم الذي تبع محادثات ماكدونالد سنة 1932، ضد المنبوذين، وهم أحط الهنود حياة وأشدهم فقراً، فكان من نتائج هذا الصوم أن تفتحت أبواب المعابد الهندية الضخمة للمنبوذين، ومنذ ذلك اليوم صاروا يعرفون باسم (الهاريجان) وهي تعني أحباب الله!
وفي الخامسة والعشرين من يونيو سنة 1934 حاول شخص مجهول أن يلقى قنبلة على غاندي في بونا، فأخطأته ولكنها أصابت سبعة أشخاص. وكان لهذا العمل الإرهابي أثره، فبعد أسبوعين استعمل أحد أنصار قضية (الهاريجان) العنف في التعبير عن اعتقاداته في مقاومة الهندوس، فصام غاندي سبعة أيام ليشعر هذا الخاطئ بخطيئته.
وقد قال البانديت نهرو مرة عن المهاتما: (لشد ما كان غاندي لغزاً غامضاً محيراً، ليس للحكومة الإنجليزية وحدها، بل لشعبه أيضاً، بل لأقرب المقربين إليه من أنصاره ومريديه)
ثم قتل هذا اللغز البسيط المعقد، الذي لم يفهمه أحد حق فهمه، فقضى شهيد اتحاد الهند، وشهيد الإنسانية في هذا العصر المادي المضطرب، ولكنه مات ميتة نبي. . . والأنبياء - كما قيل قديماً - غرباء في أوطانهم، بل في العالم، لأنه لا يفهمهم في حياتهم فهماً صحيحاً. . .
ولقد قتل غاندي قتلة دنيئة - وهو ذاهب للصلاة - بيد احد ابناء وطنه ودينه، فمات ميتة الأنبياء الشهداء الغرباء في أوطانهم.
ولكن العالم كله عرف غاندي، وأن لم يدن بمبادئه، مع اعترافه بها، إلا أنه تخبط في طريقه إلى تحقيق أهدافها العليا وهي أهداف كانت منذ الأزل وما برحت رسالة الأنبياء والشعراء والمرسلين.
حسين مهدي الغنام.
على نفسها جنت براقش
للأستاذ نقولا الحداد
صرنا في هذه الأيام نسمع قول بعض الساسة أنه إذا لم ينفذ تقسيم فلسطين فهيئة الأمم تفقد هيبتها. أجل تفقد هيبتها من غير شك. ومشروع التقسيم لن ينفذ على الإطلاق، وهيئة الأمم ستفقد هيبتها حتماً؛ ويكون موتها فجأة لا كموت جمعية الأمم المرحومة، لأن هذه كانت مريضة بالسل وهيئتنا مريضة بالذبحة الصدرية. فبنوبة اخرى تقضي نحبها.
من الملوم على هذا المصير الفادح؟
هيئة الأمم نفسها ملومة. وعلى نفسها جنت براقش.
لأنها لم تكن محكمة للقضاء العادل كما كنا نظن، بل ظهر لنا أنها كمحكمة صلح، لا تقضي بين محكمتين بل تحاول مصالحة العرب واليهود مصالحة قهرية. ولكنها مصالحة مستحيلة، لأنه ما من أحد في الدنيا يصالحك على بيته وأنت تحتله عنوة وتعمد إلى اقتسام شطر منه وليس لك فيه حق لا أولاً ولا آخراً.
أجل لم تكن هيئة الأمم محكمة قضاء ولا محكمة صلح؛ بل كانت سوقاً للمساومة على المصالح الشخصية على حساب صاحبها. فالإنصاف لا يمكن أن يكون رائدها بتاتاً. بل كانت ساحة مناوأة بين الدول ذوات المصالح التي كانت تتذرع بالمسألة الفلسطينية إلى اقتناص أغراض اقتصادية واستراتيجية ونحوها.
وقد رأينا في عرض قضية فلسطين في هيئة الأمم كيف كانت هذه الأغراض تتبارى بلؤم ودناءة. فلكي يرقى شخص واحد لا عبقرية له إلى كرسي الرئاسة يستغيث باليهود القابضين على زمام الدعاية. وقد ساعده مركزه الوقتي في كرسي الرئاسة على أن يضغط على بعض الدول الصغيرة بالوعود والوعيد لكي يصوتوا مع التقسيم، فأطاعوا كما يطيع صبيان المدارس. ولما كسب مشروع التقسيم الأكثرية ظن الصهيونيون أنهم امتلكوا نصف فلسطين وأنهم سيمتلكونها كلها ثم يمتلكون جميع البلاد العربية من النيل إلى الفرات. فصاروا يرقصون في الشوارع. ولكن ما لبث هذا الرقص أن تحول إلى مناحات.
والغريب العجيب المدهش أن اليهود والذين انحازوا إلى جانبهم لم يفكروا في كيفية تنفيذ هذا المشروع السخيف بل ظنوا أنهم بمجرد صدوره يصبح العرب أمام أمر واقع وأن
العرب يسلمون حالاً ويخنعون. وما عتموا إن رأوا أن دون التنفيذ خرط القتاد. وأن الأمر الواقع هو العكس.
تطاولوا على العرب كما تطاولوا على الإنجليز. ولكنهم ما لبثوا أن رأوا أن العرب لا يستخذون لهم كما يستخذي الإنجليز بل كالوا لهم الصاع صاعين. فزعوا وجعلوا يستغيثون بالقوة الإنجليزية لكي تحميهم من العرب.
أين السبعون ألف هاجانة الذين طلبوا للعالم بهم؟ لم يظهر من السبعين ألفاً سبعون صعلوكاً. وأخيراً اعترفوا في الأسبوع الماضي أن عندهم ثلاثة آلاف وخمس مئة، وسيجندون عشرة آلاف آخرين ثم 15 ألفاً! هذا ما يدعونه الآن وهم كاذبون.
وهكذا على الرغم من انفضاح كذبهم ما زالوا يخدعون العالم بقوتهم الوهمية وبضعف العرب الذي يزعمونه. فلماذا إذن يستغيثون بهيئة الأمم وبمجلس الأمن وبأمريكا كلها لكي ترسل لهم قوة بوليسية لكي تنفذ التقسيم؟ وما هي وظيفة الهاجاناه إذن؟
ولكن ليس لمجلي الأمن بوليس دولي ليقوم بدور التنفيذ. وما من أميركي أو غير أميركي يبعث إلى فلسطين لكي يوطد دولة يهودية وما من أحد ممن صوتوا لقرار التقسيم يتجاسر أن يطلب من دولته أن تساهم بقوة عسكرية لتنفيذ التقسيم بل أن كلا منهم يقول: لقد أعطيناكم أصواتنا ، أفلا تكفي؟ والآن تطلبون جنودنا أيضاً! ما هو فضلكم على البشرية؟ حكمنا لكم بنصف فلسطين. فخذوه إن كنتم قادرين.
إني أراهن على أن مجلس الأمن لا يستطيع أن يحصل على جندي واحد لكي يرسله إلى فلسطين لأجل زرقة عيون الصهيونيين وشقرة وجوههم وصفرة شعورهم. كما إني أراهن على أن لجنة الدول الخمس لن تأتي إلى فلسطين لكي تنفذ التقسيم. لأنه ما من أحد منهم بائع دمه جزافاً لأجل خاطر كوهين وليفي وشارول وإضرابهم.
إن الصهيونيين الماكرين خدعوا ترومان وأمثاله من أنصار التقسيم بأكاذيبهم في جرائدهم ودعاياتهم لكي يوهموا أن عندهم سبعين ألفاً من الهاجانة وكذا ألوفاً من الإرهابيين مدججين بالسلاح الحديث، وأن العرب تنقصهم الشجاعة والسلاح والإنفاق فلا يمكن قرار التقسيم حتى يخروا ساجدين مستسلمين للأمر الواقع.
طالما طلبوا وزمروا بهذه الدعاية حتى تجاوبت أصداؤها في أقاصي الدنيا، وصدقهم سذج
الأمير كان وعلى رأس قائمة الساذجين السيد ترومان فانحازوا إلى جانبهم. وقبل أن يجيء دور التنفيذ رآهم أولئك المنخدعون يستغيثون طالبين النجدة.
في أثناء كتابة هذه العجالة ينعقد مجلس الأمن للنظر في القضية. ولا يلبث أن يقع في حيص بيص لا يدري ماذا يفعل فيها لأنه يدرك أن التنفيذ لا يمكن إلا بإرسال قوة عسكرية. وهو ليس عنده من القوة ظلها. وزد على هذا أن الخواجة ترومان هرب إلى جزر الكاريبي لكيلا يمشي في جنازة المشروع ولا يرى النائحين اللاطمين وقد أدرك بعضهم هذه الخيبة فرأى أن يتداركها باقتراح تأجيل القضية عسى أن تمكن تسوية الأمر بين العرب واليهود بطريقة ودية. رأي سخيف مضحك. ما أسخف منه إلا رسالة ترومان إلى حكومة العراق يناشدها بأن ترد العرب عن اليهود في هذا الصراع الرهيب.
فما أدرك هذا المخدوع أن اتفاق اللصوص معه على سرقة منزله أسهل جداً وأمكن من اتفاق العرب واليهود. أفما علم حتى الآن أن العراق وكل دولة عربية تحسب نفسها ضلعاً من فلسطين.
ليست هيئة الأمم ومجلس الأمن والحكومة الأميركية أقل حيرة في هذه القضية وأقل ارتباكاً من الصهيونيين الذين رأوا أنفسهم الآن أمام أمر واقع عكس ما كانوا يتوقعونه. لم يخدعوا العالم بأكاذيبهم وتهويلهم أكثر مما خدعوا أنفسهم. هم الآن في ورطة لا يدرون كيف يخرجون منها.
لقد عرضوا في أول الأمر على بريطانيا أن تحسب دولتهم من جملة الدومنيون التابعة لها، يعني أن تجعلهم تحت حمايتها. فظهر أن إنكلترا لم تطمئن لمعاملة اليهود فنفرت من اقتراحهم هذا. ثم جعلوا يتقربون إلى روسيا. ولكن هذه السياسة الخرقاء لا تجوز على بريطانيا وأميركا ولا على روسيا.
لم يبق في قوس الصبر منزع. لقد جنت على نفسها براقش وقد وقعت الحرب بين العرب والصهيونيين فلم يعد في وسع هيئة الأمم ولا مجلس الأمن ولا أميركا ولا دول أوروبا الصغيرة أن تنقذهم من براثن العرب الأشاوس.
مهما تكن نتائج مساعيهم ومساعي أحبابهم فقد استل السيف من غمده ولا يمكن أن يغمد في غمده ثانية إلا بأحد أمرين: إما أن يقاتلوا حتى يفنوا ويبقى العرب أهل بلادهم ولا شركاء
لهم فيها، أو أن يرجعوا قانعين بالسلامة.
وأما أن يقترحوا اقتراحات متوسطة أو أن يأملوا أن يكونوا وطنيين في الحكومة العربية المستقلة ذات السيادة فلم يعد العرب يقبلون اقتراحات كهذه. لقد خسروا القضية فخير لهم أن يرحلوا. وأن قبلت الحكومة الفلسطينية بقاءهم فلا يعتبرون فلسطينيين لهم ما للشعب الفلسطيني بل يعتبرون غرباء عن البلاد.
كل يوم تذيعون أن مالاً يجمع لكم من أميركا فمهما وفر هذا المال المزعوم المكذوب فلا يكفيكم لأن الألف التي تكفي المجاهدين العرب تحتاجون مقابلها إلى مليون، فلا تهولوا بملايينكم.
أنتم في الشرق لا تبلغون مليوناً. والعرب يبلغون الثلاثين مليوناً على الأقل. فقبل أن يفنى من العرب ألف يكون مليونكم قد فنى. فعودوا إلى رشدكم وارحلوا قبل أن تفنوا.
نقولا الحداد
3 - فن المسرح
للأستاذ عبد الفتاح البارودي
ربما يكون من المناسب - قبل أن استطرد في حدثي عن القيم المسرحية - أن أناقش ما أثاره الأستاذ (رمزي خليل) من خلاف حول قولي (بالعدد 759): إن البانتوميم والميم فنان رومانيان إذ قال (بالعدد 760) ما نصه: (. . . إن اليونان عرفوا هذين النوعين بل إن أهر ممثليها هو بيلادس الممثل اليوناني المعروف وإذن يكون هذا الفنانان يونانيين وليسا رومانيين).
وقد كان من الممكن أن أحسم هذا الخلاف بنقل عبارة تكاد تكون مشتركة في شتى المعاجم الأدبية بصددهما وهي: أي ابتداع روماني بحت) ولكني أوثر أن أنساق مع حجة الأستاذ المعترض إلى أقصى ما تحمله من فروض. وقبل كل شيء أبادر فأوافقه على أن بيلادس ممثل يوناني. . ولكن ما العلاقة الحتمية بين جنسية الممثل وبين الفن الذي يمثله؟ ألا يجوز أن تمثل (الفرقة المصرية) رواية فرنسية ثم يظل الممثلون مصريين وتظل الرواية فرنسية؟ لو أن بيلادس هو الذي ابتدع البانتوميم والميم ابتداعاً لجاز أن نجد مبرراً، وأن كان بمفرده ضعيفاً، لعزوهما إلى جنسه. أما وهو مجرد ممثل من جهة وهناك من هو أشهر منه - كما سنوضح بعد - من جهة ثانية ومقر تمثيلياته روما من جهة ثالثة وشهرته قاصرة على البانتوميم وحده دون الميم من جهة رابعة. فكيف يتأتى لنا إذن أن ننسبهما معاً إليه؟! وحتى لو فرضنا إن هذا الممثل بالذات ابتدع فناً ما - أي فن - لما صح أن نعزوه إلى (اليونانية) إلا بتحامل شديد؛ لأن المصطلح عليه في الآداب والفنون القديمة أن العصر اليوناني أو الهليني ينتهي بانتهاء الكلاسيكية اليونانية في أواخر القرن الرابع ق. م ثم يبدأ العصر الهلينستي مزدهراً في المدرسة الإسكندرية التي حملت لراء النهضة العلمية والأدبية بعد أثينا. ثم تزدهر روما بانتقال النفوذ السياسي إليها ويمتد عصرها الأدبي من منتصف القرن الثاني ق. م إلى القرن الخامس ب. م تقريباً. فإذا عرفنا بعد ذلك أن بيلادس بلغ أقصى شهرته في فن البانتوميم حوالي عام 20 ق. م. أدركنا بسهولة أن عصر بيلادس كله واقع في العصر الروماني الأدبي.
ومع هذا فلعل من المستحسن أن نتحدث بإيجاز عن كل من البانتوميم والميم زيادة في
التعريف بهما وشرحاً لما قد يكتنفهما من غموض وغرابة.
(البانوميم) لون من ألوان التمثيليات ابتدعته روما لمجرد (التسلية) وتستمد موضوعاته من الأساطير غالباً. وبينما تنشد الجوقة أناشيدها يؤدي الممثل دوره برقص معبر يعتمد على الحركة لا أكثر. وقد زاد الممثل اليوناني بيلادس الذي أسلفنا ذكره عدد أفراد الأوركسترا زيادة كبيرة؛ وهذا هو مصدر شهرته. وكان للروايات مناظر مناسبة، ولكن لم يزد عدد الممثلين عن ممثل واحد فقط يكون بمختلف الأدوار مستعيناً على أداء كل منها بالتقنع بقناع خاص به. ويعتبر باثيلس أشهر ممثلي البانتوميم وقد بلغت شهرته إلى حد أن اسمه صار يطلق على كل من يمثل هذا اللون.
أما (الميم) فقد عرفه الدوريون والسيراكوزيون في حالة ساذجة. ويعد هيروداس (300 - 250 ق. م.) من أبرع واضعيه. والى هنا لا يمكن اعتباره فناً بالمعنى الصحيح بل لا يعدو أن يكون تصويراً تهكمياً لبعض حوادث الحياة اليومية العادية في المدن مقصوداً به (تسلية) الجمهور بين فصول الروايات التمثيلية، وقوامه الحركة المعبرة بمصاحبة الآلات الموسيقية وأهمها (الفلوت) وبغير كلام إطلاقاً. ثم ظل يتطور إلى أن صار فناً في القرن الأول ق. م. منذ استطلاع لابريس أن يتخذاه وسيلة هامة من وسائل النقد اجتماعياً وسياسياً. ومما يجدر ذكره أن البانتوميم أدى إلى انحطاط التراجيديا، وكذلك أدى الميم إلى انزواء الكوميديا.
ويعزى شيوع هذين الفنين وبين الرومان إلى أن مجتمعهم كلن مكوناً من طبقتين: قلة ضئيلة مثقفة مؤمنة بعظمة التراث الإغريقي وتحاول تقليده. . . وكثرة عابثة تنشد التسلية ولا تحس بصلة بينها وبين ذاك التراث الغريب عنها. فاتجاه الفئة الأولى نحو الإغريق باعد بين الجماهير والأدب فأصبحوا يكرهون التراجيديا ويفضلون عليها الملاهي بصفة عامة. وانتهى الأمر بأن هجروا المسارح التي تقدم مسرحيات يونانية مترجمة أو مقتبسة إلى دور تعرض البانتوميم والميم.
وأظن في هذا الكفاية ولا بأس من العودة لى حديثنا المعتاد.
المسرح وقيمته الاجتماعية
الفن المسرحي فن اجتماعي الغاية والوسيلة معاً. فهو بواسطة مجتمع مصغر فوق المسرح
يصور للمجتمع الكبير في الحياة: نزواته ونزعاته وميوله تصويراً يبرز له عيوبها ويحضه على إصلاحها. وقد تكون لبعض الفنون الأخرى علاقة مباشرة بالمجتمع ولكنها على الأرجح لا تستطيع أن تجاري المسرح في معالجة مشكلاته؛ لأنها إما أن تتناولها من بعيد بالإيماء والرمز فلا تفيد الجماهير أو بالشرح والتفصيل فتبعث الملل فضلاً عن أنه بهذا وذاك تتعارض غالباً مع أصول الفن فيها. أما المسرح فإنه بطبيعته الفنية يقوم على تمثيل (الفعل ورد الفعل) في صورة تتفق مع مجتمع إنساني، بمعنى أن أشخاص الرواية يجسمون المشكلات بشتى نواحيها تجسيماً لا يلزم ما قد لا يتاح له في سائر الفنون. وإنه لمن المعجز أن نجد بالاستقراء بين شتى الفنون في شتى العصور فناً أوثق صلة بالمجتمع من المسرح. بل أكثر من ذلك أننا نجد أن المسرحيات تبلغ أوجها كلما حافظت على هذه الصلة وتهوى إلى الحضيض إذا أغفلتها مهما كانت الظروف والاعتبارات. فبالرغم من أن مسرحيات أرستوفانيس مثلاً كانت أرستقراطية النزعة إلا أنها نجحت في المجتمع اليوناني الديمقراطي لأنها كانت مستوحاة من ذلك المجتمع ذاته. وعلى النقيض أخفقت الروايات الرومانية التي يطلق عليها أو أخفق معظمها. ولو أنها كانت مستمدة من التراث اليوناني العظيم وذلك لأن هذا التراث على عظمته التي لا شك فيها لم يكن معبراً عن العواطف الجياشة في المجتمع الروماني وتكاد تكون الصلة الوثيقة بين المجتمع والمسرح أهم الالتزامات الواجب مراعاتها في التأليف المسرحي لضمان نجاحه. وصحيح أن نجاح أو إخفاق المسرحيات يرجع - إلى حد كبير - إلى براعة المؤلف؟ لأن الصور المسرحية النهائية لها تطور داخلي خاص خاضع له. ولكن الشيء الذي لا جدال فيه أن هذا التطور ذاته يتأثر وينفعل مع التغيرات العامة التي تطرأ على المجتمع. من هنا يرى بل يشترط بعض النقاد على المؤلفين ضرورة استيحاء المجتمع الذي فيه حتى في الروايات التاريخية التي تدور حوادثها في الماضي السحيق ولا تمت إلى حاضرهم بصلة مباشرة. وأغلب الظن أن هذا هو ما حدا بمؤلف مسرحي عظيم مثل برناردشو إلى استهلال روايته التاريخية (قيصر وكليوباترة) ببداية تدور حول المجتمع الإنجليزي الحالي! إذ يخرج الإله حورس من الظلام ويحدث الجمهور عن الإنجليز وعقائدهم وخصالهم مندداً متهكماً عليهم مقارناً في ذلك جميعاً بين الإنسان الحالي والإنسان في العصور القديمة مستنتجاً من ذلك
جميعاً أن الإنسانية لم تتقدم منذ عصر قيصر إلى الآن إلا تقدماً آلياً لا ينبغي أن يؤبه له مادام لا يصاحبه التقدم المنشود في المشاعر والاحساسات.
وقد يقال أن ارتباط المسرح بالمجتمع هكذا يجعله (تابعاً) خاضعاً له وبذلك يفقده قوته الإصلاحية المزعومة! ولا جدال في أن هذه التبعية حقيقة ملحوظة بل إنها غير مقصورة على النواحي الفنية والأدبية. فالناحية الأقتصادية أيضاً لا يمكن تجاهلها؛ إذ المسرح يخضع إلى أبعد الحدود لقانون العرض والطلب؛ ولذا يحاول - ما وسعه - أرضاء الجماهير ولو على حساب الفن أحياناً، حتى لقد جاز لناقد كبير مثل وليم آرتشر أن يطالب المؤلفين (بأن لا يضعوا شيئاً جوهرياً في المنظر الأول من الفصل الأول من مسرحياتهم) لغير ما سبب سوى أن الجماهير من طبعها التلكؤ. وقلما تصل إلى مكان العرض في موعده المحدد أي لسبب لا علاقة له بصميم الفن.
فكيف يتسنى للمسرح أن تكون له قوة إصلاحية وهو خاضع على هذا النحو للجماهير التي كثيراً ما تثور على كل إصلاح؟ الواقع إنه على الرغم من كل هذه الاعتبارات وعلى الرغم من أن كل فن مقيد بقيود مختلفة بالمجتمع إلى حد ما فليس هناك فن يمكن أن يخلص من أكبر عدد ممكن من هذه القيود مثل المسرح لسبب صغير جداً هو أن في أوضاعه من المرونة والجاذبية ما يهيئ للمؤلف المسرحي البارع الفرصة لبث آرائه بسهولة. ومهما تكن مخالفة لعقائد المجتمع، فكثيراً جداً ما يستطيع بالإفصاح والإيضاح والإلحاح أن يتغلب في النهاية. إذن فحرية المسرحي ليست منعدمة كما أنها ليست مطلقة ولا مفر له من أن يعمل في حدود ممكنات الفن ومزاج المجتمع ولكن البراعة في الملاءمة بينهما. ومهمته هذه في غاية الدقة والمشقة. فليس أغنى للمجتمع من المسرحيات ذات الآراء الإصلاحية ولكن بشرط أن تتصل به اتصالاً ناعماً ليناً رفيقاً وتفتح له الطريق سهلاً ممهداً وتنيره له إلى حيث تهدف في رضى وطمأنينة.
والمجتمع في مراحل تقدمه لا يكاد يذكر فضل فن عليه كما يذكر فضل المسرح؛ فمسرحيات موباسان وأمثالها في فرنسا، ومسرحيات جوزيف أديسون وأمثالها في إنجلترا، ومسرحيات تولستوي وأمثالها في روسيا، هي من أهم العوامل التي انتشلت المجتمع الأوروبي من نزعات المجون التي كانت مستولية عليه فعلاً. وقل مثل ذلك عن شتى
المسرحيات قديماً وحديثاً في أغلب النهضات الاجتماعية.
على أن المجتمع الإنساني في العالم كله لم يكن في حاجة إلى المسرح في وقت من الأوقات كما هو الآن. فقد سبب له الحرب الأخيرة ومشكلاتها ونتائجها كثيراً من الاضطرابات التي غيرت القيم وحجرت العواطف وألقت في روعه حب المال واقتناص الفرص. ومثل هذه الانحرافات لا يكفل علاجها غير المسرح لأنه أقمن الفنون بتحليل أسبابها الدفينة وإظهار المجتمع عليها وبذلك يمهد له إعادة بناء مقوماته الصحيحة ويساعده - كما يقول هيكل - على استرداد قوة التنسيق بين العقل والشهوات وبين الفطرة والشذوذ.
للبحث بقية
عبد الفتاح البارودي
هل نملك تحريم تعدد الزوجات؟
للأستاذ إبراهيم زكي الدين بدوي
- 3 -
الاعتراضات ما زالت متوجهة
في تعقيبي السابق على حديث معالي الباشا وجهت إليه جملة اعتراضات فصلت القول في بعضها واجتزأت بالإشارة إلى باقيها، وقد حاول معاليه - في بحثه الأخير دفع كل منها بما لا مقنع فيه، وهاك البيان.
9 -
الاعتراض الأول: أن معاليه قد اغفل في رأيه الوارد في حديثه والنصوص القرآنية التي استدل لهذا الرأي قوله تعالى. (فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالملعقة) هذا النص الذي هو تتمة الآية التي جعلها معاليه مناطاً للتأييد رأيه، وهي قوله تعالى (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم) وأن عمل معاليه في أغفال هذا النص الذي هو موطن الحكم الصحيح في هذا الموضوع كعمل من يستدل على تحريم الصلاة بقوله (فويل للمصلين) ضارباً صفحاً عن باقي الآية.
وقد حاول الباشا دفع هذا الاعتراض من ناحيتين: ناحية الشكل حيث قرر أن القياس مع الفارق وأن الشأن في إغفال باقي آية النص الذي أغفله معاليه يختلف عن الشأن في إغفال باقي آية (فويل للمصلين) وسواء أكان ما قرره معاليه في ذلك أو ما قررته أنا صحيحاً فلا أحب أن أضيع الوقت في مناقشته في هذه النقطة الشكلية البحت. وحسبي أن معاليه قد اقرني ضمناً في رده على أن للنص الذي أغفله وهو جزء متمم للآية التي استشهد بها شأناً أي شأن في الموضوع الذي كان بصدد الإدلاء عن رأيه فيما هو حكم الشرع فيه، بدليل تسليمه بأنه موطن الحكم في الآية كلها (ولن تستطيعوا لت تعدلوا بين النساء ولو حرصتم، فلا تميلوا) وإن كان اعتبره حكماً موقوتاً، وبدليل احتياجه في محاولة دفع ايراده عليه إلى تكليف ما تكلف من افتراض حدوث محن وأمور بين العرب عند نزول آية (فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فأن خفتم ألا تعدلوا فواحدة) وهو ما ورد به على الاعتراض من ناحية الموضوع مستدلاً بذلك في الوقت نفسه على صحة رأيه وقد بسطنا
القول في ذلك وفي الرد عليه في كلامنا السابق عما استدل به معاليه للعنصر الثالث من رأيه.
10 -
الاعتراض الثاني: إذا كان المولى سبحانه قد عني بالآيتين اللتين استشهد بهما معاليه مجرد تحريم التعدد، ففيم كان الأخذ والرد بإباحته في إحداهما التعدد بشرط العدل، ثم بتقريره في الثانية أن العدل غير مستطاع إطلاقاً، وتوزيع المعنى بذلك بين آيتين وكانت آية واحدة تجزئ في تحريم التعدد وبيان علته وهي عدم استطاعة العدل الواجب. . . وفيم التعبير بمثنى وثلاث ورباع؟!
وقد أجاب عن ذلك بما سبق أن أشرنا إليه من تأويله عبارة (مثنى وثلاث ورباع) بما لا تحتمله ولا يناسب المقام ولا سياق النص؛ وقد فندنا هذا التأويل فيما تقدم بما في الكفاية فلا حاجة إلى تكراره هنا.
كما أجاب أيضاً محاولاً دفع ما يشوب النصوص - على أساس تأويله - من الأخذ والرد وتوزيع المعنى بغير مقتض، بما سبق أن أشرنا إليه في التمهيد من أن المولى سبحانه أراد ألا يجابه العرب دفعة واحدة بحكم تحريم التعدد الذي كان من عاداتهم المتأصلة (فتدرج) معهم في هذا الحكم كشأنه في كثير من الأحكام الواردة لمعالجة نقائض العرب بطريق التدرج. فتحداهم أولاً بما يبيح - في ظاهره التعدد بشرط العدل ثم أبان لهم بعد ذلك أن العدل غير مستطاع إطلاقاً.
وردنا على هذا الوجه من الدفع أن ما ذكره ليس من قبيل (التدرج) في الأحكام؛ إذ التدرج فيها - كما هو مفهوم اللفظ بداهة وكما وقع فعلاً بالنسبة للأحكام الواردة حقيقة على طريقة التدرج كحكم الخمر مثلاً - هو إتيان المشرع بحكمين أو أكثر منتقلاً من التخفيف إلى التشديد، والوارد في التعدد من أول الأمر على رأي معاليه - حكم واحد هو التحريم لأن العدل في ذاته غير مستطاع. ويؤيد ذلك ما افترضه معاليه نفسه من اضطراب النبي والمسلمين وتململهم وجأرهم بالشكوى عند نزول الآية الأولى لعلمهم أن العدل في ذاته غير مستطاع إطلاقاً مما استجاب له المولى - في رأي معاليه أيضاً - بتخفيف الحكم بالآية الثانية بجعله العدل المطلق غير مشروط في الزوجات الموجودات فعلاً وقت النزول، فلولا أنهم فهموا الحكم من أول الأمر على أنه التحريم لما تململوا وجأروا بالشكوى. فليس ثمة
أذن تعدد أحكام تدرجت إلى حكم أخير. أما التعديل الوارد للحكم فيما يرى معاليه فليس تعديلاً دائماً بل موقوتاً. وهو تعديل إلى التخفيف لا إلى التشديد، فأين التدرج إذن؟
11 -
الاعتراض الثالث: أن أحاديث كثيرة قد وردت بأمر النبي لمن كان تحته من الصحابة أكثر من أربع زوجات عند نزول الآية الأولى، بالإبقاء على أربع منهن ومفارقة الباقيات كما وردت أحاديث أخرى مختلفة الألفاظ وتؤول كلها إلى معنى واحد هو أنه عليه السلام طلب من ربه ألا يلومه على اجترائه بما يملك من العدل المستطاع بين زوجاته دون العدل المطلق مما يدل على أن الأول هو المراد بالعدل المشروط لجواز التعدد.
وقد رد معاليه على الأحاديث الأولى بأنها تقضي إلى الظلم بتشتيت بعض الزوجات اللائي كن موجودات من قبل وما قد يكون لهن من أطفال مما يعتبر اعتداء على الحقوق المكتسبة فلا يعقل أن تاتي به شريعة سماوية أو وضعية.
ولو أن معالي الباشا ناقشني في إسناد هذه الأحاديث - والأمانة العلمية تقتضيني أن أصرح بأن في إسناد بعضها مقالاً من رجال الإسناد - لقلت له وجهة نظر وإن كانت مدفوعة كما سأبين ذلك فيما يلي، لكنه اقتصر على مناقشتي في المتن، فأجيبه عن ذلك بأن ليس فيما ذكره ظلم ولا اعتداء إذ لم يطلب إلى الرجال سوى استعمال ما لهم من حقوق سابقة في التطليق الذي كانت الزوجات معرضات لوقوعه عليهن قبل ورود الشرع بتحديد التعدد. فأين هو الحق المكتسب لهن إذن مع وجود حق الطلاق للرجال؟ وإذا قيل أن الطلاق وإن كان حلالاً فهو أبغض الحلال كما وردت بذلك ألسنة فلا ينبغي أن يستعمل إلا عند وجود مسوغاته، رددت على ذلك بأن في مقدمة المسوغات وضع حد لعلاقات دمغها الشارع بالفساد، بتحريمها، ومهما بلغت درجة البغض في الحلال فهي لا تنتقل به إلى مرتبة الحرام، ففي الأمر باستعمال هذا الحق ارتكاب أخف الضررين مما يتفق وعمومات الشريعة. ثم أن شانهن بعد الطلاق كشأن سائر المطلقات في احترام حقوقهن المتخلفة عن الزواج السابق وإمكان التزوج بهن في نطاق أحكام الشرع، كما أن أطفالهن لا يظلمون بفقد شيء من حقوقهم على آبائهم بل تظل لهم كافة الحقوق كما كانت قبل الطلاق. فما هو الظلم في ذلك؟
على أن ما يجري في أوامر النبي المتقدمة يجري أيضاً في أوامر الخاصة بباقي من ورد
الشرع بتحريم ما كان من نكاحهن في الجاهلية، كزوجات الآباء والختين المجموع بينهما، وقد يرى معالي الباشا أن هذه الأحاديث مفضية بدورها إلى الظلم مما لا يمكن معه الاطمئنان إلى صحتها؟
ورد معاليه على النوع الثاني من الأحاديث رداً مسهباً عن زوجات النبي عليه السلام وظروف زواجه بكل منهن، وانتهى إلى أن التعدد كان من خصوصيات النبي التي ابتلاه بها ربه جل وعلا فلا محل للاستشهاد بالأحاديث الواردة عنها، وأن النبي لم يكن مكلفاً فيما يختص بزوجاته الموجودات وقت نزول آية التعدد إلا بما كلف به سائر المسلمين حينذاك من وجوب مراعاة (العدل المستطاع) بل أنه رفع عنه هذا التكليف مراعاة لظروف؟؟ وذلك بقوله تعالى (ترجى من تشاء منهن وتؤوى إليك من تشاء ومن ابتغت ممن عزلت فلا جناح عليك).
(البقية في العدد القادم)
إبراهيم زكي الدين بدوي
المتخصص في الشريعة الإسلامية والقانون من جامعات
الأزهر وباريس وفؤاد
طرائف من العصر المملوكي
صفى بلاط بني أرتق
للأستاذ محمود رزق سليم
قد نشعر في هذا المقال أننا نبعد عن ديار مصر والشام وهما محور الحديث في العصر المملوكي، وأننا نيمم شطر ديار أخرى هي ديار بني أرتق بماردين وديار بكر. ولكنا مع هذا لا نزال في صميم العصر. فأن الشاعر صفي الدين الحلي من أجل شعرائه، وكان هو وجمال الدين بن نباتة فرسي ميدان فيه، لا يشآهما شاعر آخر من رجال حلبتهما. فإذا تحدثنا عن صفي الدين وعلاقته ببني أرتق فإنما نتحدث عن خاصة بارزة من خواص أحد شعراء العصر، وعن وشيجة أثيرة من وشائجه كان لها أثر كبير في أدبه.
وحقاً ولد صفي الدين بالحلة بالعراق عام 677هـ ويبدو أنها (حلة بابل) التي عناها بقوله بعد انتزاحه عنها وعن قومه فيها إلى ملوك الدولة الأرتقية:
ألا أبلغ - هديت - سماة قومي
…
بحلة بابل عند الورود
ألا لا تشغلوا قلباً لبعدي
…
فإني كل يوم في مزيد
لأني قد حللت حمى ملوك
…
ربوع عبيدهم كهف الطريد
ثم انتزح إلى الملكة الأرتقية وطوف في آفاق الديار الحلبية والشامية والحجازية، ولكنه عرج آنا على مصر وأقام بها ردحاً من الزمن، اتصل من خلاله بسلطانها العظيم الناصر محمد بن قلاوون وكاتب سره النابه علاء الدين تأثر - بلا ريب - بالثقافة المصرية، وتأثر بالمدرسة الأدبية المصرية التي قدست مناهج القاضي الفاضل في الكتابة والشعر، وقدست من بعده مناهج ابن نباتة فيهما، وعنيت اكثر ما عنيت بالتورية والتضمين. غير أن صفي الدين مع هذا كان نسيج وبخاصة في شعره، وافتن في هذا الشعر افتناناً ليس الآن مجال الحديث عنه، سوى أننا نشير إلى أنه سلك البديع فيه، ولج في هذا السلوك حتى لنشعر أن ألفاظ اللغة أصبحت كالعبد رهن يديه يصرفها كيف يشاء. وحتى استطاع أن يكون من مبتكري فن شعري جديد هو فن البديعيات، والبديعيات في الشعر تعادل المقامات في النثر، بلغ بها الفن البديعي أوجه شعراً، كما بلغ بالمقامات أوجه نثراً. وللبديعيات حديث طويل قد نعود إليه في مقال جديد. ويعنينا أن نتحدث عن صلة صفي الدين ببني
أرتق وأثر هذه الصلة في أدبه.
فمن هم بنو أرتق؟ هم ملوك ماردين وديار بكر منذ أواخر الخامس الهجري. وهم بقايا من الدول التي خلفتها الدولة السلجوقية الناشئة في أواخر القرن الرابع الهجري وامتد ملكها مكن أواسط آسيا إلى غربها، واستولت علة بغداد والعراق في نحو منتصف القرن الخامس الهجري. ثم تشققت فيما بعد وانبثق منها دويلات عدة، كان في جملتها الدولة الأرتقية. وينتسب ملوك هذه الدويلة إلى جدهم أرتق الذي كان أحد قواد السلاجقة. فملك بيت المقدس زمناً ثم ملكها من بعده ابناه؛ فدهمتهما جيوش الدولة الفاطمية عام 489هـ وانتزعت منهما بيت المقدس، فسار إلى الجزيرة الفراتية فملكها بها ديار بكر وقلعة ماردين واستقر بها عام 491هـ. وتتابعت أبناؤهما من بعدهما حتى ملك منهم المنصور وابنه الصالح اللذان عاشا في أوائل القرن الثامن الهجري، وهما اللذان اتصل بهما صفي الدين اتصالاً وثيقاً، وعاش في حاشيتهما زمناً طويلاً.
وكان صفي الدين من قبل هذا يعيش بين قومه في الحلة. ويبدو أن العشائر العربية فيها كانت لا تزال تعلق بها أشياء من الروح القبلية والعصبية الجاهلية. وكان قوم صفي الدين فريقين: فريق أبيه بنو سبنس من طي، وفريق أمه بنو محاسن. وكان بنو محاسن هؤلاء ذوي رياسة وثراء ومنهم (صفي الدين بن محاسن) وأخوه (جلال الدين بن محاسن). نشأ الشاعر بين هؤلاء وهؤلاء فأحس بما لقومه من عراقة في الأصل وفراهة في الحسب فحميت نفسه ووثبها الشباب فنشط شعره في باب الحماسة والفخر وربأ عن التكسب بالشعر. ثم وقعت الوقيعة بين أخواله، وآل أبي الفضل، فغدروا خاله (صفي الدين) وقتلوه بمسجده، فثارت ثائرة قومه وفي مقدمتهم شاعرهم صفي الدين الذي أهاب بخاله (جلال الدين) أن ينتقم. وما زالوا حتى أوقعوا بأعدائهم وأمعنوا فيهم كيداً وإذلالاً، فكان هذا ضراماً جديداً لحماسة الشاعر وفخره.
ويبدو أن الشاعر لم تهدأ ثائرته، ولم تثب أناته، ولم يقنع بهذا الانتقام، فظل يؤلب قومه على أعدائهم ويضري بين الفريقين نار العداوة والبغضاء حتى اصبح شجى في حلوق الأعداء وأصبحوا يتلمسون منه مقتلاً. فملكه الخوف، فآثر الفرار.
فر صفي الدين إلى بني أرتق يتطلب في كنفهم ملجأ يأوى إليه، ودرعاً يستجن بها فأجاروه
وأكرموا مستقبله، واستمعوا لحديثه، وأصغوا لشكاته. ورفعوا مكانته ووهبوا له الكثير من النعيم؛ مما الهج لسانه بشكرهم، وأبهج بيانه بذكرهم، ونظم في مديحهم أجود القصيد وأخلده استجابة لداعي الوفاء والولاء.
قال يمدح المنصور وإجارته له.
وأجارني إذا حاولت دمي العدا
…
ورأت شفاء صدورها من ورده
من كل مذَّاق تبسم ثغره
…
وتوقدت في الصدر جذوة حقده
ولذلك لم يرني بمنظر شاعر
…
تبغي قصائده جوائز قصده
بل بامرئ أسدى إليه سماحه
…
نعماً فكان المدح غاية جهده
هذه الأبيات من قصيدة له في مدح الملك الصالح بن المنصور تغزل في مطلعها فقال:
دبت عقارب صدغه في خده
…
وسعى على الأرداف أرقم جعده
وبدا محياه ففوق لحظه
…
نبلا يذود بشوكه عن ورده
ومنها يمدحه:
الصالح الملك الذي صلحت به
…
رتب العلاء ولاح طالع سعده
ملك حوى رتب الفخار بسعيه
…
والملك إرثاً عن أبيه وجده
متسهل في دست رتبة ملكه
…
متعصب من فوق صهوة جرده
فإذا بدا ملأ العيون مهابة
…
وإذا سخا ملأ الأكف برفده
كالغيث يولي الناس جوداً بعدما
…
بهر العقول ببرقه وبرعده
وهكذا يرى القارئ كيف انساق صفي الدين إلى المديح وإلى التكسب بالشعر وهو الذي يقول: (وكنت عاهدت نفسي ألا أمدح كريماً وإن جل، ولا أهجو لئماً وإن ذل).
ولعل أول مدائحه للملك المنصور فائيته التي يقول فيها:
لاقيتنا ملقى الكريم لضيفه
…
وضممتنا ضم الكمي لسيفه
وجعلت ربعك المؤمل كعبة
…
هي رحلة لشتائه ولصيفه
يا من اشتبه الصواب أعاره
…
رأياً يخلص نقده من زيفه
وإذا أتى أرض العدو فوحشها
…
من وفده ونسورها من ضيفه الخ
انضم صفي الدين إلى حاشية الملك المنصور وبنيهن وأصبح من سمارهم وجلسائهم ثم
أصبح شاعرهم الأثير، يفيضون عليه بصنوف من النعم، حتى حسده على مكانته أهل ديار بكر. وفي ذلك يقول مخاطباً المنصور:
حسدت أهيل ديار بكر منطقي
…
فيها كما حسد الهزار اللقلق
أعيت أكابرها أصاغر لفظها
…
ولربما أعيا الرخاخ البيدق
جاءوك بذاك جبلة جبلية
…
لكن رأيت الفضل عندك ينفق
قالوا خلقت موفقاً لمديحه
…
فأجبتهم أن السعيد موفق
هكذا كانت منزلة صفي الدين عند بني أرتق. وكلما زادوه براً زادهم ذكراً، وكلما جادوه عطاء جادهم بقاء، وكلما آثروه قربا آثرهم حبا، وكان لذلك أثره الكبير في إنتاجه الأدبي؛ إذ نظم عدة من القصائد في مدح المنصور سميت (المنصوريات) وهي من أجود آثاره الأدبية: ونظم تسعاً وعشرين قصيدة مرتبة على حروف الهجاء سميت (الأرتقيات). وكأنما أراد بهذه الأرتقيات أن يطلع ملكية على ضرب من فن النظم الشعري جديد، وعلى منزع من منازع الشعر لم يحوم حوله شاعر من قبل ليدله بذلك على ثبات قدمه في صناعته، وعلو كعبه في حرفته، وعلى امتلاكه ناصية الافتنان إلى حد الافتتان.
والأرتقيات بعدد حروف الهجاء فلكل حرف قصيدة. فواحدة همزية وواحدة بائية وهلم جرا. . . والتزم أن يبدأ كل بيت في القصيدة بحرف رويها، وأن تكون عدة أبياتها تسعة وعشرين. وقد يكون هذا الالتزام كله من عبث الصناعة ومن عبث الفراغ. ولكن إذا علمنا أن الشاعر قل أن سقط في بيت منها، بلغنا به حد العجب وشهدنا بمجادته وإجادته بالرغم من كل هذه القيود التي تعلق بها.
والأرتقيات - وإن كانت مسوقة للمدح - بدت مسرحاً لفنون غير المدح عدة، كالغزل والخمريات، والفخر والشكوى. ومن رقيق أبياتها ما صدر به أرتقيته الكافية حيث قال:
كفي القتال وفكي قيد أسراك
…
يكفيك ما فعلت بالناس عيناك
كلت لحاظك مما قد فتكت بنا
…
فمن ترى في دم العشاق أفتاك
كفاك ما أنت بالعشاق فاعلة
…
لو أنصف الدهر في العشاق عزاك
كملت أوصاف حسن غير ناقصة
…
لو أن حسنك مقرون بحسناك
كيف انثنيت إلى الأعداء كاشفة
…
غوامض السر لما استنطقوا فاك
كتمت سرك حتى قال فيك فمي
…
شعراً ولم يدر أن القلب يهواك. الخ
لم يعش صفي الدين في الدولة الأرتقية عيش الشاعر المادح المتكسب، بل تهذيب منزلته، وتوطدت مكانته حتى بلغ مبلغ المشير، وكأنما أصبحت له ضلع في سياسة الدولة وتوجيه ملوكها. تشعرنا بهذا قصائده، فقد رفع إلى المنصور عام 702هـ قصيدة بارعة، وكان المنصور قد أرسل جنوده ليحاصروا أعداءه في (قلعة إربل) ولم يرافقهم في المسير إليها. فحرضه صفي الدين في قصيدته تلك على اللحاق بهم ليشد بوجوده أزرهم ويشحذ همتهم، ويكون خوفاً لأعدائه، ومضطرباً بصفوفهم. ومزج في هذه القصيدة المدح بالنصح، والتحريض الجرئ بالتأدب. واستخلص من الحوادث ما توحي به من حكم وأمثال، مع دقة تمثيل وكثرة تشبيه، وتنقل بالفكرة بين حججها وبراهينها، إغراء بالأخذ بها، ومنها يقول:
أبد سنا وجهك من حجابه
…
فالسيف لا يقطع في قرابه
والليث لا يرهب من زئيره
…
إذا اغتدى محتجباً بغابه
والنجم لا يهدي السبيل سارياً
…
إلا إذا أسفر عن حجابه
والشهد لولا السبيل طعمه
…
لما غدا مميزاً عن صابه
إذا بدا نورك لا يصده
…
تزاحم الموكب في ارتكابه
ويقول:
قم - غير مأمور - ولكن مثلما
…
هز الحسام ساعة اجتذابه
فالعمى لا تعلم إرزام الحيا
…
حتى يكون الرعد في سحابه
كم مدرك في يومه بعزمه
…
ما لم يكن بالأمس في حسابه
ومنها يغريه بأعدائه ويرسم له طريق معاملتهم:
لا تبذل الحلم لغير شاكر
…
فإنه يفضي إلى إعجابه
ويقول:
لا تقبل العذر فإن ربه
…
قد أضمر التصحيف في كتابه
فتربة المقلع إثر ذنبه
…
وتوبة الغادر مع عقابه
لو أنهم خافوا كفاء ذنبهم
…
لم يقدموا يوماً على ارتكابه
ويقول في خاتمتها معتذراً عن التحريض، ومنسلاً إلى الفخر بنفسه على عادته:
لم يك تحريضي لكم إساءة
…
ولم أحل في القول عن آدابه
ولا يعبث السيف وهو صارم
…
هزُّ يد الجاذب في انتدابه
ذكرك مشهور ونظمي سائر
…
كلاهما أمعن في اغترابه
ذكر جميل غير أن نظمه
…
يزيده حسناً مع اصطحابه
كالدر لا يُظهر حسنَ عقده
…
إلا جواز السلك في أثقابه
ولما مات المنصور وولي الملك من بعده ابنه العادل فالصالح، حسنت صلة صفي الدين بالصالح بعد لأي، ومدحه بجملة من الروائع سميت (الصالحيات). وتشعرنا هي الأخرى بسمو مكانته لدى الصالح، بل لتشعرنا أنه كان عنده أقرب وآثر مما كان لدى المنصور حتى سماه صفي الدين بولي نعمته، وتشعرنا أنه كان أكثر دالة عليه، حتى كان في خطابه له أجرأ مما كان في خطابه للمنصور ويشير إلى المنصور في مدحة رفعها إلى الملك الصالح فقال مبيناً سبب ندحه بعد أن كان قد طوى بساط المدح بعد المنصور:
ولقد عهدت إلى عرائس فكرتي
…
ألا تزف إلى منعم بعده
لكنك الفرع الذي هو أصله
…
شرفاً ومجدك بضعة من مجده
ونجيه في سره ووصيه
…
في أمره وصفيه من بعده
ويقول منها:
لله كم قلدتني من ملَّة
…
والقطر أعظم أن يحاط بعده
ويقول:
فاستجل دراً أنت لجة بحره
…
والبس ثناء أنت ناسج برده
يزداد حسناً كلما كررته
…
كالتبر يظهر حسنه في نقده
وقد عاود صفي الدين النصح للصالح كما كان ينصح لأبيه من قبله، ويحرضه على أعدائه ويلحب له الطريق إلى المعاملتهم ويجنبه الحلم والعفو، فيقول من قصيدة:
فيا ملكاً قد أطمع الناس حلمه
…
لكثرة ما تهفو فيعفو ويصفح
أعد - غير مأمور - على الضد كيده
…
وأذك النار التي بات يقدح
فقد أيقن الأعداء أنك راحم
…
فباهوا بأفعال الخنا وتبججوا
ويقول منها:
تهن بعيد النحر وانحر به العدى
…
فجودك عيد للورى ليس يبرح الخ
عاش صفي الدين ما عاش واتصل بغير بني أرتق من ملوك وأمراء ورؤساء، وافتن في الشعر ما شاء له الافتنان حتى مات عام 750هـ بعد أن ترك أدباً خالداً وتراثاً ماجداً.
محمود رزق سليم
مدرس الأدب بكلية اللغة العربية
-
من نوادر المخطوطات:
شرح المشكل من شعر أبي تمام
لأبي علي أحمد بن الحسن المرزوقي المتوفي سنة 421هـ
للأستاذ برهان الدين الداغستاني
في أواخر سبتمبر سنة1946 كنت في حلب انتظر قطار طوروس، في طريقي إلى الموصل، للقيام بتدريس اللغة العربية وآدابها في كلية الموصل، فكلفني أحد الأصدقاء أن أبحث له عن بعض المخطوطات الواردة في كتاب مخطوطات الموصل للدكتور داود الجلبي، فأصف له بعضها وصفاً علمياً واضحاً، وأبحث عن مؤلفي بعضها مما لا وجود له في كتاب الدكتور الجلبي.
وكان من تلك المخطوطات التي كتبها صديقي في ورقة صغيرة (شرح مشكلات أبي تمام)، وكان المطلوب وصفه والتعريف بمؤلفه، ولما بلغت الموصل، وأستقر بي المقام بها، ذهبت ابحث عن (شرح مشكلات أبي تمام)، فكان مما وقفت عليه:
(كتاب شرح مشكلات ديوان أبي تمام حبيب بن أوس الطائي مخطوط في 132 صفحة، في كل صفحة19 سطراً مكتوب بخط نسخي جميل بقلم محمد صالح الشريف، ضبط الكثير من كلماته الغريبة بالشكل الكامل. كتبت الأبيات المشكلة من شعر أبي تمام بالمداد الأحمر، والشرح بالمداد الأسود، للتفريق بين المتن والشرح، فرغ من كتابة هذه النسخة في 24 من المحرم سنة 1156هـ.
وهذا الكتاب مما اهداه السيد أحمد بك الجليلي إلى النادي العلمي بالموصل في 27 من شهر صفر سنة 1337هت، ولما انحل النادي العلمي ضمت كتبه إلى المدرسة الإسلامية - الفيصلية العلمية الآن - وفي بعض المواضيع تقييدات واستدراكات وتصحيحات لما ورد في الشرح بقلم صادق.
هذا كل ما أمكن الوقوف عليه في وصف كتاب (شرح مشكلات ديوان أبي تمام)، وأما موضوعه فإني أفضل أن أنقل إلى القارئ نص مقدمة المؤلف ليرى بنفسه أي كتاب هو هذا الذي نكتب عنه وهذه هي المقدمة (بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين وسلم.
جاريتني - أيدك الله - أمر شعر أبي تمام حبيب بن أوس الطائي، وما فيه من عويص
الأبيات، وبديع المعاني والألفاظ إلى غير ذلك مما يستبديه فنه فلا يساهم؛ ويختص به نهجه فلا يقاسم، ثم سألت أن أتتبع مشاهير كلماته، فألتقط من فقرها ما يفتقر إلى تبيين، ومن بيوتها ما يحوج إلى تفسير، ثم أتبع كلا منه ما يحتمل من تلخيص بأوجز ما أمكن من لفظ، وأقرب ما أعرض من يسط. لنجعل ذلك دليلاً إلى الأغمض من باقيه، ومعيناً إلى ألطف ما فيه.
وقد نظرت في عظم ديوانه، وجمعت منه جل ما يلقى في المجالس من أبياته، ثم تحريت في شرحها مسارك، وتوخيت فيما سهل منه أو توعر تحصيل مرادك. غير محتفل بما يلحق من كد، ولا مفكر فيما يعرض من تعب. حتى حصل على حد يملك الناظر فيه - مع أدنى تأمل له - عنان هذا الشعر وزمامه، ويخبر المذاكر - بعد أيسر تمرن به - غرض هذا الشاعر وسهامه. فمتى جارى فيه سبق، وإذا ناضل به قرطس.
والله أسأل التوفيق، وإياه أعبد واستعين، وهو حسبي ونعم الوكيل).
هذا هو وصف كتاب شرح مشكلات شعر أبي تمام من حيث شكله، وهذه هي مقدمته التي تبين عن موضوعه وتشرحه، ولكن بقي شيء آخر لم نعرفه إلى الآن وهو من هو مؤلف هذا الكتاب؟
الواقع أن هذا السؤال لا يزال بلا جاوب إلى الآن. فأني قرأت الكتاب وفحصت كل جوانبه وحواشيه، فلم أجد أي إشارة إلى اسم مؤلفه، فأخذت أسأل كل أصدقائي معارفي، فلما أعيتني الحيلة كتبت كتاباً إلى الأستاذ كوركيس عواد الموظف بمكتبة المتحف العراقي ببغداد، أشرح له خبر العثور على هذه التحفة الفنية، وسأله إن كان يعرف شيئاً عن مؤلف هذا الكتاب، فكتب إلي كتاباً مؤرخاً في 22 - 1 - 1946 يقول فيه:. . . أما شرح مشكلات أبي تمام، فقد تملكني الفرح لوقوفكم على نسخة منه. بحثت كثيراً عن هذا الكتاب، وراجعت فهارس المخطوطات العربية لخزائن الكتب المختلفة في بلدان الشرق والغرب! غير أنني لم أجد ذكراً لكتاب بهذا العنوان، فضلاً عن معرفة مؤلفه! الخ والأستاذ كوركيس عواد رجل عرف بالدقة والأمانة فيما يتناول من عمل، فهو عندما يقول: إنه لم يجد ذكراً لكتاب بهذا العنوان، يقول ذلك بعدما استفرغ الجهد في البحث والدرس، ولكن هل يكون هذا مثبطاً لعزمي، واقطع الأمل في معرفة المؤلف؟
وذات يوم كنا نتجاذب الحديث على شاطئ دجلة مع نفر من كرام رجال التعليم في الموصل، فاخبرني الأستاذ الصديق السيد عبد النافع حكيم أنه قرأ - فيما قرأ - أن كتاب شرح مشكلات أبي تمام هو للمرزوقي، ويغلب على الظن أنه قرأ هذا في مقدمة أخبار أبي تمام للصولى الذي نشرته لجنة التأليف والترجمة والنشر في القاهرة.
ولما رجعت إلى مقدمة أخبار أبي تمام للصولى، وجدت أن الناشرين ذكروا فيها أن للمرزوقي كتاباً باسم شرح المشكل من شعر أبي تمام، وأن في مكتبة الجامعة المصرية صورة شمسية من هذا الكتاب مأخوذة عن أصل محفوظ في الأستانة.
والى هنا استطعت أن أمسك بأول الخيط في سبيل معرفة مؤلف هذا الكتاب، ولكن لا سبيل إلى المضي في البحث أو الجزم بنسبة كتابنا الذي بين أيدينا إلى المرزوقي حتى نرى نسخة الجامعة المصرية، ونقارن بينها وبين نسختنا لنعرف هل هما كتاب واحد أم لا؟ فلنترك هذا الآن لنبحث عن المرزوقي هذا من هو؟
يقول ياقوت الحموي في إرشاد الأريب - ج5 ص34 - 35 - : أحمد بن محمد بن الحسن المرزوقي، أبو علي بن أصبهان كان غاية في الذكاء والفطنة وحسن التصنيف وإقامة الحجج وحسن الاختيار. وتصانيفه لا مزيد عليها في الجودة، وكان قد قرأ كتاب سيبويه على أبي علي الفارسي، وتتلمذ له بعد أن كان رأساً بنفسه، وله من الكتب: كتاب شرح الفصيح، كتاب شرح أشعار هذيل، كتاب الأزمنة، كتاب شرح الموجز، كتاب شرح النحو؛ ثم ينقل ياقوت عن الأبيوردي أن المرزوقي كان يتفاصح في تصانيفه كابن جني، وأنه كان معلم أولاد بني بويه باصبهان، ودخل عليه الصاحب بن عباد، فما قام له، فلما أفضت الوزارة إلى الصاحب جفاه.
ثم نقل عن ابن مندة أن المرزوقي توفي في ذي الحجة سنة إحدى وعشرين وأربعمائة. هذه خلاصة وافية من ترجمة المرزوقي التي ذكرها ياقوت، ونقل السيوطي في بغية الوعاة بعض ما ذكره ياقوت من غير أن يزيد عليه شيئاً.
وقد لاحظت أن كتاب شرح مشكلات ديوان أبي تمام لم يذكر في كتبه التي أوردها ياقوت في إرشاد الأريب والسيوطي في بغية الوعاة.
ولما عدت إلى القاهرة في أواخر سبتمبر سنة 1947 سارعت بالذهاب إلى مكتبة الجامعة
المصرية، فوجدت الصورة الشمسية لكتاب شرح مشكل ديوان أبي تمام - وهو برقم (48 - 24) أدب معارة للأستاذ عبده عزام أحد مدرسي كلية الآداب في الجامعة المصرية لأن الأستاذ عبده عزام يشتغل من أمد بعيد في إخراج شرح التبريزي لديوان أبي تمام إخراجاً علمياً.
فبعثت بقطعة من نسخة الموصل لمقارنتها بالصورة الشمسية التي لدى الأستاذ عزام بواسطة الصديق الكريم الأستاذ محمد رشاد عبد المطلب الموظف بالقسم الثقافي بالجامعة العربية، وظهر من المقارنة أن النسختين لكتاب واحد هو شرح مشكل ديوان أبي تمام كما ظهر أنه لا دليل على أن الكتاب للمرزوقي إلا ما كتب على ظهر نسخة الآستانة.
ولكن هل تكفي هذه الكتابة التي على ظهر النسخة الآستانة لإثبات أن الكتاب للمرزوقي، مع أن مترجمي المرزوقي لم يذكروا في كتبه اسم هذا الكتاب؟ ومما قوى هذا الشك في نسبة هذا الكتاب إلى المرزوقي أن صاحب كشف الظنون أيضاً لم يعرض لذكر هذا الكتاب مع أنه ذكر كتاباً آخر للمرزوقي لم يذكره مترجموه. وهو كتاب (الانتصار لأبي تمام من ظلمته) وهو - كما ورد في دائرة المعارف الإسلامية ج5 ص321 - كتاب ألفه المرزوقي في الرد على كتاب لأحمد ابن عبيد الله القطربلي المعروف بالفريد أظهر فيه أخطاء أبي تمام في الأسلوب وغيره.
أليس من الممكن أن يكون كتاب (شرح مشكلات ديوان أبي تمام) الذي بين أيدينا هو كتاب (الانتصار لأبي تمام من ظلمته؟) وهذا شك جديد يلقي ظله على اسم الكتاب الذي نحن بصدده غير أني اطلعت أخيراً في دار الكتب المصرية على كتاب (النظام في شرح شعر المتنبي وأبي تمام) لأبي البركات المبارك بن أحمد بن المستوفي الأربلي المتوفى سنة 637هـ فوجدت أنه يذكر في المقدمة الكتب التي أعتمد عليها في شرح ديوان أبي تمام إلى أن يقول: (وعلى كتابي أبي تمام على أحمد بن محمد ابن الحسن المرزوقي، أحدهما في شرح مشكل أبياته المفردة، والآخر في الانتصار لأبي تمام من ظلمته) فكان هذا نصاً صريحاً من ابن المستوفي الأربلي المتوفى بعد المرزوقي بنحو مائتي سنة باب للمرزوقي كتابين - غير الكتب التي ذكرها ياقوت والسيوطي هما: (شرح المشكل) و (الانتصار).
ويذكر ابن المستوفي في مقدمة كتابه أنه ينقل في كتابه نصوص الكتب التي اعتمد عليها
فراجعت إلى كتاب (النظام) وقابلت ما نقله بن المستوفي عن المرزوقي بالنسخة الخطية التي استنسختها عن نسخة الموصل لشرح مشكل ديوان أبي تمام، فوجدت النصوص متحدة لا تزيد حرفاً ولا تنقص حرفاً.
وبعد فإني - الآن - أستطيع الجزم - وأنا مطمئن القلب - بأن كتاب (شرح المشكل من شعر ابي تمام)(المحفوظ في خزانة المدرسة الفيصلية العلمية بالموصل هو لأبي علي أحمد بن محمد بن الحسن المرزوقي المتوفى سنة 421هـ، وأن لهذا الكتاب نسخة في إحدى مكاتب الآستانة وصورة شمسية في مكتبة الجامعة المصرية، ونسخة أخرى مدرجة في كتاب (النظام في شرح شعر المتنبي وأبي تمام) لابن المستوفي الأربلي.
وأرجو أن أكون وفقت بعض التوفيق في وصف كتاب المشكل من شعر أبي تمام والتعريف بمؤلفه.
برهان الدين الداغستاني
من هي.
. .؟
للأستاذ إبراهيم محمد نجا
أنا لا أهوى سواها
…
ملأ القلب هواها
إن تناَءت قلت: آها!
…
أو تراَءت قلت: واها!
ألهمتني الشعر سحريَّ
…
المعاني - مقلتاها
وسقتني الحب عطريَّ
…
الأماني - شفتاها
وجلت للقلب فجراً
…
وربيعاً من صباها
فتغني في رباها
…
وتهادي في سناها
هي عذراء براها الله
…
في أبهى مثالِ
فتراءت مثلما كن - ت أراها في خيالي
وتهادت فتنة يق - ظي بأحلام الليالي
وحواليها رؤى السح - ر، وأطياف الجمال
ولها إشراقة النو - ر، وأسرار الظلال
فهفا قلبي إليها
…
بحنيني وابتهالي
كنت من قبل هواها
…
حائراً بين الغواني
لا أرى الروح الذي أب - حث عنه في زماني
ذلك الروح الذي يد - عوه روحي وكياني
والتقينا فتعارف - نا كأنا توءَمان
ونشأنا في ربا الحب،
…
وفي ظل التداني
وشربنا الصفو خمراً
…
في كئوس من حنان
سالتني ذات يوم
…
وعراها ما عراها!
من تراها ألهمتك الشعر
…
سحراً؟ من تراها؟
قلت: يا أحلام أيامي
…
، ويا سر مناها
أنت أغنيَّة حب
…
وأنا شعري صداها
أنت في صحراءِ عمري
…
روْضة طاب شذاها
وأنا البلبل يحيا
…
شادياً فوق رباها
كل حرف في قصيدي
…
مهجة تهفو إليك
كل لحن في نشيدي
…
لهفة تحنو عليك
إن أفراح شبابي
…
نبعُها السامي لديك
وصبابات فؤادي
…
سرها في ناظريك
وأزاهير غرامي
…
عطرها في وجنتيك
وحياتي - يا حياتي -
…
كلها ملْك يديك
سوف يبقى لك في رو - حي وفي قلبي حنينُ
سوف يبقى لأسمك المح - بوب في شعري رنين
قلت فيك الشعر حتى
…
ذهبت فيك الظنون
واشتهي رؤياك أص - حابي وقالوا: من تكون؟
يا صاحبي: حسبكم أو - صافها، فهي تبين
يا صاحبي: إنها سرُّ به
…
قلبي ضنين
مع المطر
للأستاذ إدوار حنا سعد
على نافذتي بنان المطر
…
تدق فتوقظني للسمر
لنا ألفة من زمان الطفو - لة في صفحتيها تنام الذَّكر
فتحت لها شرفتي مثلما
…
تلاقي الحبيبان بعد السفر
تقبلني قطرات الرذاذ
…
ويندى بها خديَ المستعر
وقد مال للغرب غصن الظلام
…
ونوّر في الشرق ورد السحر
تتابع وقعك فوق الطريق=شجي الرنين رتيب الخطى
غسلت الهموم ومر الموا - جد عن مهجتي وأذبت الأسى
شعرت بروحي تندى كما - ترف الأزاهير تحت الندى
وتورق، كالغصن إن جدته
…
وتفرح، كالقفر بعد الظما
وتلمع مثل الطريق الجديد
…
إذا نمت فيه، زها وازدهى
فيا لبن السمو ويا ابن الصفاء
…
إلى عنصريك تناهي الرجاء
فلم يبق فوق الثرى - للسماء
…
سوى نفحة من شذى الأنبياء
سوى شاعر يستشف الآله
…
بكل جمال - خبا أو أضاء
سوى عاشق أريحي الحنين
…
كيعقوب أو عيسوي الحياء
فيغني بأحبابه ذاته
…
ويعرف في الله معنى الفناء
كلانا على الأرض، ملقي بها
…
ومنبعنا من كروم السما
إذا ما تسامى بأرواحنا
…
جناح الصفا - وهي وارتمي
فلما نزل بين تصعيدة
…
وإسفافة، شردا حوما
أيكرهنا نفر في الحمى
…
ونحن نجن هوى بالحمى
إذا جدت لمتم، فيا ويحكم
…
وإن جرت لم أجد اللوما
من وراء المنظار
صدقة ترفض
الصباح بارد الأنفاس يلذع نسيمه الوجوه وينفذ إلى العظم، والأرض مبتلة من أثر مطر خفيف، وليس خارج داره بل ليس خارج فراشه إلا من يغدو إلى عمله فما يملك أن يتراخى أو يقعد.
ووقفت أنتظر إحدى السيارات العامة، وأنقل بصري في وجوه السابلة أرى كيف يسعى الناس سعيهم في سبيل العيش، وكيف تقوم الحياة في المدينة على كدح من لا يأبه لهم، وأتبين ذلك الجد المحبوب في خطوات الناس وفي صفحات وجوههم الصابرة الشاحبة التي محا الإشراق منا الغلاء والكدح. . .
وانعطف أحد بائعي اللبن على عجلته المثقلة بصفائحه من أحد الشوارع وهو غلام في نحو الثامنة عشرة، فما كاد يستقيم حيث أقف حتى أنزلقت به العجلة فوقعت على الأرض، وهوى المسكين على جنبه واللبن يتدفق فيجري على الأسفلت دفاقاً. . .
وخف إليه بعض السابلة فأنهضوه ورفعوا العجلة يحفظون ما بقي من اللبن، وراح بعضهم يحوقل، وراح البعض يمص شفتيه يظهر الأسف، ولكن لم يخل الحال من ماجنين راحوا يصيحون من هنا ومن هناك: عليه ميه. . . عليه ميه! وأخذوا يضحكون في غير مبالاة كأنما يشتمون من الغلام شماتة الواثق من أنه أضاف إلى اللبن ماء. . .
وذهل الغلام عن نفسه لحظة ثم نظر إلى اللبن يجري بين يديه ومن خلفه، فما أحسبه والله لو أنه كان ينظر إلى دمه يجري هكذا على الأرض ما كان يبدو أكثر مما بدا جزعاً وهلعاً. . . لقد كانت ترتعد فرائص المسكين كأن بهما زلزلة، وكأن مفاصله لا تقوى على حمله، وكان يمسك العجلة بيد مرتجفة ويلطم وجهه بالأخرى وفي هذا الوجه صفرة كصفرة الموتى. . . ثم كان يصرخ بين الفينة والفينة صرخة أشبه بصرخة الثاكلة تزفر النار على كبدها ويرمض الحزن مهجتها، وكان يلفظ لفظة من ألفاظ الثكالى يعبر بها عن ألمه. . .
ورأيتني على رغمي أمام صورة من صور الفزع الإنساني اشمئز منها خاطري وتحرك لها قلبي، ففيها مع الخوف الذلة والمكنة وما أثقل على قلبي رؤية ضعيف في موقف الضعف فما بالك بموقف الفجيعة والخوف.
وأدخل بعضنا أيديهم في جيوبهم ثم مدوها بما جادوا به إلى فتى نبأتني كتبه ودفاتره أنه من الطلبة، تولى جمع صدقة لذلك المكين واجتمع عدد من السابلة يواسونه بكلماتهم التي كان يمجها سمعه فما فيها غناء تلقاء هذه الكارثة. . . ودنا منه أحدهم وهو شاب في ملابس العمال فقال له في لهجة قوية. وماذا جرى حتى تفعل هذا كله. . . عيب. . . أسكت. . . خليك جدع. . . وقال المسكين: سيطردني الخواجة فلا أجد عملاً. . . واقترب منه عدد من العمال وفي يد كل منهم بعض أدوات حرفته أو منديل طعامه، وكان جميعاً يستشعرون العار مما يفعل، فكانوا يطلبون إليه أن يكف وهو في حيرة من أمثال كلماتهم. . . (بلاش عبط)(خليك عاقل و (إيه يعني) وإضرابها لا يرى فيها حلاً لورطته القطيعة. . .
ونظر هؤلاء العمال إلى ذلك الطالب الذي كان يجمع الصدقة، فارتاحت نفوسهم، وإن بدا شيء من الخجل في وجوه بعضهم؛ ومشى الطالب إلى كهل بادي الوجاهة شهد الحادث من أوله، فرجا منه أن يجود بشيء؛ فتكره لح واحمر من الغضب وجهه، وحار لحظة ماذا يذكر من علة للرفض؟ ثم انفرجت شفتاه الغليظتان الصارمتان عن قوله، وهو يشير إلى اللبن بسبابته: من غير شك دا عليه ميه!
وضحكت، وما كان أحوجني إلى الضحك ساعتئذ، فقد أثقل الألم قلبي. . . ونظر إليه العمال نظرات كريهة، ومشى الطالب إلى بائع اللبن المسكين يعطيه ما جمع له، فما كان أشد عجبي أن رأيت أحد هؤلاء العمال يعود إلينا بتلك القروش ويطلب إلى كل منا أن يسترد ما أعطى؛ ونظرت فإذا بهم يخرجون أيديهم من جيوبهم الفقيرة بالقروش يدفعونها للغلام المسكين ويكفكفون بها دمعه، ومضيت وما سرى عن قلبي ما أثقله إلا ما في عملهم هذا من مغزى: لقد رفضوا الصدقة التي صحبها الأذى واحلوا محلها العون، وقالوا لنا، وإن لم ينطقوا: لسنا في حاجة إلى عطفكم وأن كنتم إلى سعينا وكدحنا أبداً محتاجين. .
الخفيف
الأدب والفن في أسبوع
مسابقة المجمع اللغوي:
احتفل مجمع فؤاد الأول مساء الأربعاء الماضي في الجمعية الجغرافية الملكية، بإعلان نتيجة المسابقة الأدبية لسنة 1948 وهي كما يلي:
فاز في الشعر الأستاذ علي الجندي عن ديوان (أغاريد السحر) والأستاذ عثمان حلمي عما أرسله إلى المجمع من شعره، وجائزة كل منهما ثمانون جنيهاً؛ والأستاذ محمود حسن إسماعيل عن ديوان (الملك) والأستاذ إلياس فرحات من المهارجين اللبنانيين بالبرازيل عما أرسله إلى المجمع من شعره، وجائزة كل منهما سبعون جنيهاً. وفاز في القصة الأستاذ نجيب محفوظ عن قصة (خان الخليلي) والأستاذ محمد سعيد العريان عن قصة (على باب زويلة) وجائزة كل منهما مائة خمسون جنيهاً.
وفاز في البحث الأدبي الأستاذ علي علي الفلال عن بحث (مهيار الديلمي) بجائزة مائتي جنيه.
وقد قدم الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني الشعراء الفائزين وألقى كلمة عن الشعر، وقدم الفائزين في القصة الدكتور إبراهيم مذكور وتحدث عن فن القصة، وألقى الأستاذ الشيخ عبد الوهاب خلاف كلمة عن البحث الأدبي وقدم الفائز فيه.
مؤتمر المجمع وقراراته:
عقد مؤتمر مجمع فؤاد الأول للغة العربية لسنة 1948 اثنتي عشرة جلسة، كانت أخراها في أواخر فبراير الماضي؛ ومؤتمر المجمع هم الاجتماعات السنوية التي يحضرها جميع الأعضاء من أجانب ومصريين، وتكون في أوائل السنة، وهو غير مجلس المجمع الذي يحضره المصريون فقط، وينعقد في غير أوقات المؤتمر ويستمر طوال السنة عدا الإجازة الصيفية.
وقد ألقيت في جلسات المؤتمر هذا العام محاضرات، منها محاضرة عن صلة اللغة العربية باللغات السامية للدكتور عبد الوهاب عزام بك، ومحاضرة عن الاصطلاحات الفقهية للشيخ عبد الوهاب خلاف، ومحاضرة عن نشأة المصطلحات الفلسفية للدكتور إبراهيم بيومي مدكور؛ وعرضت عليه بحوث في الإملاء وموقف العامية من الفصحى، والنحت، ووصف
جمع غير العاقل بصيغة فعلاء، وملاحظات بين اللغة والنحو؛ ونوقشت في هذه الجلسات طائفة من المقترحات. وقد انتهى المؤتمر إلى القرارات الآتية:
1 -
اختيار الدكتور طه حسين بك والدكتور إبراهيم بيومي مدكور لمثلا المجمع في مؤتمر اللغويين السادس ومؤتمر المستشرقين الحادي عشر اللذين سيعقدان بباريس في شهر يوليه المقبل.
2 -
ضرورة شرح المصطلحات العلمية الجديدة شرحاً يوضحها، على أن تنشر مقرونة بشرحها في الأوساط العلمية بمختلف البلاد العربية بعد إقرار المجلس لها، وإذا ما استكملت وسائل نشرها عرضت على المؤتمر مصحوبة بتعاريفها النهائية ثم تسجل في جزازات خاصة.
3 -
الموافقة على نموذج المعجم الكبير من حيث المبدأ، على أن يتابع السير فيه ويمد بما يتطلبه العمل من موظفين وخبراء.
4 -
تشجيع دراسة العامية واللهجات المختلفة تحقيقاً لما رمى إليه مرسوم إنشاء المجمع واختيار بعض الخبراء لذلك كي يعملوا تحت إشراف لجنتي اللهجات وألفاظ الحضارة.
5 -
إحالة مشروع تيسير الإملاء إلى المجلس، كي يبحث في ضوء قرارات المؤتمر الثقافي العربي الذي عقد بلبنان في العام الماضي، ثم تقدم نتيجة ذلك إلى مؤتمر المجمع في دورته القادمة.
6 -
تكوين لجنة لوضع كتاب في النحو طبقاً لقواعد تيسيره التي أقرها المجمع من قبل.
7 -
الموافقة على جواز وصف جمع غير عاقل بصيغة فعلاء إلى جانب الصيغ الأخرى التي يستسيغها الذوق العربي.
8 -
الموافقة على جواز النحت عندما تلجئ إليه الضرورة العلمية.
9 -
الموافقة علة جواز توهم أصالة الحروف في بعض الكلمات العربية.
وسنرجع إلى بيان بعض هذه القرارات في الأعداد القادمة بمشيئة الله.
أعضاء مراسلون بالمجمع:
وقد عرض على المؤتمر في جلسته الأخيرة موضوع اختيار أعضاء مراسلين بالمجمع من الخارج، وبعد مناقشة اتفق على ترشيح الآتية أسماؤهم.
الأستاذ جبرييل من روما، والأستاذ أربري من لندن، والأستاذ لاوست من ليون، والأستاذ نيبرج من أبسال، والأستاذ خليل مردم والأستاذ شفيق جبري والأمير مصطفى الشهابي والأستاذ جميل صليبا والأستاذ عارف النكدي من سوريا، والأستاذ محمد بهجة الأثري من العراق، والأستاذ الشيخ طاهر ابن عاشور، والأستاذ الشيخ علال الفاسي من تونس، والأستاذ الشيخ محمد الحجوي من مراكش، والأستاذ الشيخ محمد نور الحسن من السودان ومدرس بالأزهر.
وستعرض هذه الأسماء على مجلس المجمع لاتباع ما يقضي به مرسوم المجمع ولائحته في شأن تعيين الأعضاء المراسلين.
ضيفان من لبنان:
في القاهرة الآن ضيفان كريمان من إخواننا أدباء لبنان، هما الأستاذ سعيد تقي الدين، والأستاذ سهيل إدريس، والأستاذ سعيد هو قنصل لبنان في الفلبين، وقد قضى في هذه البلاد بعيداً عن البلاد العربية اثنين وعشرين عاماً، وقد بدا نشاطه الأدبي في السنوات الأخيرة بما نشره في صحف لبنان وما ألفه من الكتب في القصص والنقد الأدبي، وآخر كتاب ظهر له (حفنة ريح). والأستاذ في طريقه من أمريكا إلى لبنان بعد هذه الغيبة الطويلة، وقد تحدث إلي عن شعوره لما حل بمصر فعبر عن سروره بتطور الشعور القومي العربي وقال إن هذا الشعور قد تجاوز الرسميين والمتقين إلى أفراد الشعب، كما قال أن التمازج بين شعوب العرب هو غاية الفكرة العربية.
أما الأستاذ سهيل إدريس فقد جاء من لبنان للقاء الأستاذ سعيد تقي الدين بمصر، وهو يهتم في هذه الزيارة القصيرة بالتعارف مع أدباء مصر والوقوف على نواحي النشاط الأدبي فيها.
الأدب الشعبي:
سمعت يوم الجمعة من محطة الشرق الأدنى للإذاعة العربية، حواراً بين الأساتذة شوقي أمين وكامل عجلان ومصطفى حبيب، كان موضوعه (توحيد المنهج الأدبي بين الأمم العربية) وقد تتبعت حديثهم باهتمام لأرى كيف يختلفون في هذا الموضوع، فلم أجد بينهم
خلافاً في الصميم، فأصل القضية أن الأمم العربية ذات لغة واحدة تصوغ بها آدابها التي تجتمع في خصائص عامة، ولم يكن بين الأساتذة المتحاورين من يقول بغير ذلك، وإنما كانوا يشققون الكلام دائرين حول ذلك المحور. ولكنهم أثاروا في ضمن الموضوع مسألة الأدب الشعبي فاختلفوا فيها حقاً، فقد قال الأستاذ عجلان: أريد أن تكون حياة الشعوب العربية في فنها الرفيع صورة متحدة، وهذا يدعوني إلى أن أغضي عن الأدب الشعبي الذي لا ينفذ إلى طوايا الخلود. فقال الأستاذ حبيب: أنا لا أوافق على الغض من الأدب الشعبي، لأنه الأدب الحي الذي يمثل مشاعر الشعب وآماله وآلامه. فقال الأستاذ شوقي: أثرتما حديث الأدب الشعبي وكأنكما تجاهلتما أننا اتفقنا على ضرورة التوحيد اللغوي بين العلم العربي، فإذا فهم من الأدب الشعبي أنه لن يقوى على البقاء، فاللغات العامية في تطور وشيك، وهي بتعميم الثقافة تتعرض للتداعي، وستذهب جهود أولئك الأدباء الشعبيين هباء بعد سنوات هي وأن كثرت قليلة في عمر الزمان، وإن المصري اليوم ليعجز عن تفهم قطعة كتبت بالعامية منذ نصف قرن فقط؛ وأما أن أريد بالأدب الشعبي الذي يصور منازع الطبقات العامية ويجلو أوضاع حياتها فإن هذا الأدب أن كان مكتوباً باللغة العربية كان بقاؤه مرهوناً بالدرجة التي هو عليها من الجودة والروعة، وقد بقيت لنا روائع في الأدب العربي بقوة تصويرها لا بجلالة موضوعها ولا بأنها تمثل أدب الخاصة.
النهضة التعليمية في القرن الأخير:
هذا عنوان المحاضرة التي ألقاها يوم الخميس الأستاذ إسماعيل القباني بك المستشار الفني لوزارة المعارف بنادي اتحاد خريجي الجامعة، وقد استعرض فيها المراحل التي مر بها التعليم في مصر منذ عصر محمد علي، وعني بإبراز مشاكله الحاضرة مبيناً أن أصولها ترجع إلى ذلك العصر؛ فقد كان بمصر قبل محمد علي تعليم ديني بالأزهر والكتاتيب، وكان هذا التعليم يتفق مع الشعب وعواطفه، ولكنه لم يكن بلائم الحضارة الأوربية التي أخذ بها محمد علي في الإصلاح والنهوض بالبلاد، فلجأ إلى إرسال البعوث وإنشاء المدارس لتخريج فنيين يستعين بهم على ما اختطه من الإصلاح، فلم يكن الغرض نشر التعليم بين أفراد الشعب وإنما كان وسيلة إلى إعداد طائفة من الفنيين؛ فكان هناك تعليمان، تعليم شعبي وهو الديني، وتعليم خاص يعد الموظفين والحكام، فنشأ عن هذا مشكلة
الازدواج في التعليم التي لا تزال الدولة تعالجها بالعمل على توحيد المرحلة الأولى في التعليم.
وبين الأستاذ اتجاه التعليم في عصر إسماعيل وما تلاه إلى ناحية الشعب ونشر الثقافة بين أفراده، حتى نكبت البلاد بالاحتلال الذي عمل على قصر مهمة المدارس على تخريج موظفين، وقال إنه يلاحظ أن النهضات التعليمية في مائة السنة الأخيرة اقترنت بالشعور الوطني القومي، وذلك يتمثل في اجتماع مجلس الشورى في عهد إسماعيل الذي نادى بوجوب الاهتمام بالتعليم فكانت نهضته وكان تنظيمه على يد باشا مبارك سنة 1866، وفي الحركة الأعرابية اهتم الخديو توفيق بإصلاح التعليم، فوضعت النظم لنشره في جميع أنحاء البلاد، ولكن الاحتلال لم يمهل هذه النظم لتؤتي ثمراتها، ويتمثل ذلك أيضاً في دعوة مصطفى كامل إلى إنشاء المدارس الأهلية وفي الدعوة إلى إنشاء الجامعة المصرية وفي مجاراة حكومة الاحتلال للشعور الوطني بإنشاء مدارس مجالس المديريات، ثم يتمثل في أوائل العهد الدستوري سنة 1925 وما صاحبه من توسيع التعليم، ويتمثل أخيراً في اشتداد الوعي الاجتماعي والقومي الحالي وما يجري معه من العمل على تهيئة فرص التعليم للجميع.
ومما قاله الأستاذ القباني بك أن التعليم كان منذ محمد علي إلى وقت الاحتلال بالمجان، وكانت مجانيته حقيقية لا كالمجانية الحالية التي أخذ بها في التعليم الابتدائي، لأن المدارس إذ ذاك كانت مفتوحة لكل راغب في التعليم مع ملاحظة قلة الراغبين، أما الآن فإن المدارس لا تتسع للجميع؛ لأن الدولة لا تستطيع أن تلبي كل الرغبات لقصر وسائلها، ولأن تكون المجانية محققة حتى تستطيع الدولة أن تفتح أبواب مدارسها لجميع أبناء الأمة على السواء في تعليم موحد.
تعريب الأفلام:
شغل الوسط السينمائي والصحف الفنية في هذا الأسبوع بموضوع ترجمة الأفلام الأجنبية إلى اللغة العربية المعروفة بعملية (الدبلاج) وقد أثار هذا الموضوع عرض فلم (لص بغداد) الأمريكي بسينما ستوديو مصر ناطقاً باللغة العربية. وقد أبدى السينمائيون المصريون سخطهم واحتجاجهم على هذا العمل بدعوى أنه خطر على الأفلام المصرية ويهدد عمال
السينما بالتعطل. والى جانب هذا يرى بعض النقاد أنه لا خطر على السينما المصرية من الدبلاج بل هو يؤدي إلى ترقيتها؛ لأن المنافسة القوية تبعث على الإجادة، ويرى بعضهم أن الذي يهدد السينما المصرية حقاً إنما هو هذه الأفلام التي كثرت أخيراً وسادها التهريج والابتذال والاستخفاف بالجماهير وتخديرها واستغلال جهلها، وأنه إذا كان السينمائيون يطالبون بحمايتهم من المنافسة الأجنبية فالواجب قبل ذلك هو حماية الفن السينمائي الصحيح وحماية الجمهور من الفوضى والاستغلال. وقد تلقى منتجو هذه الأفلام الدرس القاسي من الجمهور بإعراضه أخيراً قبل أن يهددهم به الدبلاج.
والعجب أن منتجي الأفلام المصرية يثورون الآن على تعريب الأفلام الأجنبية وهم يزاولون هذا التعريب في أفلامهم مع التمصير والمسخ والتشويه. . . ثم ادعاء التأليف!
هذا وقد تألفت لجنة للنظر في هذا الموضوع برياسة معالي وزير الشؤون الاجتماعية، واجتمعت وقررت السماح بإطلاق تعريب الأفلام العلمية والثقافية وتحديده للأفلام التاريخية والتمثيلية بثلاثة أفلام في السنة، كما وافقت اللجنة على السماح بتعريب أفلام الدول التي تستورد أفلاماً من مصر، على أن يكون عدد الأفلام الأجنبية التي يسمح بتعريبها في هذه الحالة مساوياً لعدد الأفلام المصدرة من مصر إلى هذه الدول ،
العباسي
البريد الأدبي
رد على نقد:
نشر الأستاذ (زيتون) في الثقافة نقداً لكتبي الثلاثة: أحمد عرابي وإبراهام ومن وراء المنظار؛ ومما جاء في نقده قوله: (وأحب أن أقدم للقارئ مفتاحاً لكل ما كتب الأستاذ الخفيف وما سيكتب، بل مفتاحاً لكل ما تحدث به إذا ما تحدث، فقد وجدت هذا المفتاح إذ كنت أقرأ له هذه الكتب الثلاثة التي أخرجها وهو جماع ظاهرتين معروفتين في علم النفس، أما أولاهما فهي ما يسمونه اتحاد المدرك بالمدرك وأما الثانية فهي ما يسمونه بتفكير المتمني).
جعل الأستاذ هاتين الظاهرتين أساس ما أكتبه بل ما سأكتبه وذلك أعجب، وقال (فلا تقرأ له هذا التاريخ الذي سطره بحيث تحاسبه الحساب العسير الذي تحاسب به مؤرخاً أخذ على نفسه أن يثبت لك الحق أجرد بارداً، بل أقرأه قراءتك لأديب قادر ماهر أضفى خياله ألواناً زاهية على ما يكتب وما يصور من مواقف).
عجبت إذ قرأت هذا، وازداد عجبي لأن كاتبه هو الأستاذ (زيتون) بالذات، وهو من أعلم رجاحة عقل وصدق نظر وسعة أطلاع، وأنه ليعلم كما أعلم أن تفكير المتمني أن جاز في القصة فهو لا يجوز في التاريخ؛ لأن التاريخ مسائل تقرر أو تنقض بالدليل فإن (جرى فيه الفكر بما يتمنى الكاتب أن يكون هو الواقع) لم يعد تاريخاً وإنما أصبح قصة. والأستاذ (زيتون) قد قرأ كتبي كما قال، وأنا من ناحيتي قد بنيت كتابي وبخاصة الأول على الوثائق أستخرج منها الدليل، وأحسب أني ما قدمت رأياً واحداً بغير برهان أو عدة براهين أرجعتها إلى مصادرها، وهذا هو ما تفضل بعض حضرات القراء فأثنوا به على كتابي (أحمد عرابي)؛ وإذا كان الأمر كذلك فلي أن أعجب من تفكير المتمني) هذا الذي نسبه إلى الناقد الفاضل وجاء في نقده قوله عني (اقرأه قراءتك لخطيب أخذ يلوح بيديه لسامعيه ويرفع ويخفض من صوته، لا يعنيه أن يقول الحق جافاً كما تفهمه العلوم، بل يريد أن يقع من نفوس سامعيه بما أراد أن يقع) والأستاذ (زيتون) يعلم كذلك كما أعلم أن لكتابة التاريخ طرقاً منها أن يكون حول شخصيته، ولهذه الطريقة دعاة كثيرون اليوم وهو في هذه الحال مزج بين الأدب والتاريخ كما يصنع أساطين كتاب التراجم المحدثين من أمثال زويج
ولدوج وكما فعل بلوتارخ في الأقدمين، ومن المؤرخين من أصطنع هذا في غير الشخصيات كذلك، وما أظن خلود جيبون إلا لأنه كان أديباً في كتابه ومؤرخاً معاً، وأنا أستطيع أن أفعل مثل ذلك على قدر طاقتي، واحسبني فعلته في كتابي فأوردت الحقائق وتقيدت بها ثم أضفى خيالي الأدبي ما شاء (من ألوان زاهية على ما كتبت وما صورت من مواقف) ولكن دون أن أضحي بالحقائق أو أفكر تفكير المتمني؛ وإذا كان الأستاذ الناقد قد أورد ما أورد من الشواهد ليؤيد بها خطابتي، فليت شعري لم اقتصر عليها، ولم يورد شواهد من براهيني ومناقشاتي وتحليلي؟ أذلك لأنه يريد أن يجعلني على رغمي أفكر تفكير المتمني؟
أؤكد للأستاذ الفاضل (زيتون) أني ما أردت بردي هذا دفاعاً عن كتبي بقدر ما أردت أن أبرهن له أن ما سماه تفكير المتمني لن يكون في كتابة كاتب وتسمى مع ذلك تأريخ فقط، وأنا أعاهده وأشهد القراء على عهد هذا، أنه أن دلني على شيء فيما كتبت لا يستند إلى دليل، أخطأت فيه أو أصبت، فلن أكتب تاريخاً بعد ذلك أبداً، ولعله لا يتبرم، بما في عهدي هذا من خطابة، ولعله واجد فيه منطقاً، أو على الأقل، شيئاً يشبه أن يكون منطقاً.
أما عن وراء المنظار، فإنه يقول: أن دقة التصوير التي زادت فيه عن حدها قد أنقصت بعض الشيء من قيمة هذا الكتاب الفنية، وأحب أن أقول أن هذه الدقة التي زادت عن حدها هي أقوى مدح يوجه إلى مثل هذا الكتاب وهي جوهر فنه، فهو ليس بقصة فيها أحذف شيئاً من الطبيعة وأضيف شيئاً)، وإنما هو (من وراء المنظار) أعني أني أكتب ما أرى وكلما توافى لي من الدقة قدر كنت إلى هدفي أقرب. . . وليت لي حقاً هذه الدقة التي زادت عن حدها، فإنه لم ينلها إلا كل طويل الباع من القصصيين الواقعيين وهي مجال سبقهم وموضع تبريزهم.
هذا، وللأستاذ (زيتون) صادق مودتي وعظيم شكري على ما تفضل به علي من ثناء أرجو أن أظل عاملاً عليه.
الخفيف
القصص
أقصوصة من روائع الأدب الإيطالي:
من شابه أباه
بقلم الأستاذ مصطفى جميل مرسي
عاش قدماً من بلاد (الإغريق) ملك ذو بأس وسلطان عظيم، يدعى (فيليب). . . وقد ألقى ذلك الملك في غياهب السجن بأحد العلماء الراسخين في العلم. . . لما قارفه من أثم وركبه من عدوان!. .
وكان ذلك العالم ممن حباهم الله بالحكمة وآثاهم المعرفة. . حتى ذاع صيته في كل أفق. . وجرى ذكره على كل لسان. .
وحدث ذات يوم أن أهدى ملك (أسبانيا) إلى الملك (فيليب) جواداً كريماً الأصل جميل الشكل أشهب اللون ذا جرم عظيم. . .! فأرسل الملك في طلب (البيطار) ليعلمه الرأي في هذا الحصان، بيد أن هذا أسر في أذنه أن الحكيم الإغريقي هو أعلم أهل الأرض بكل أمر، وأخبرهم بكل شيء!. .
فدعاه الملك من شجنه!. وقال له: (أيها السيد. . لقد ألقى في روعي ما أصبت من العلم البعيد، وترامى إلى سمعي ما جنيت من الخبرة العميقة!. فخبرني بما تراه في هذا الجواد؟!.)
فلما أنعم الحكيم فيه النظر، وفحصه عن دقة وبينة. . تبسم وقال للملك:(يا مولاي. . إن هذا الجواد جميل حقاً وسريع الركض!. بيد أنه أرضع لبن الحمير!. .)
فأوقد الملك (فيليب) إلى (أسبانيا)! ليلموا بجلية الأمر، فانثنوا على أعقابهم يسوقون له اليقين على أن التي أرضعت الجواد حمارة. . فقد نفقت أمة إثر ولادته!. .
فأخذت الدهشة الملك وتولاه الإعجاب!. . وأمر بأن يقدم إلى الحكيم في سجنه، نصف رغيف من الخبز - جزاء له على صدق ما نظر - من نفقة القصر!.
ثم حدث بعد ذلك أن جلس الملك إلى مجموعة من جواهره الثمينة ولآلئه الغالية، يختبرها. . فلم يلبث أن بعث إلى الحكيم يدعوه!. وقال له سيدي إن غور علمك بعيد لا يدرك له
العقل نهاية ولا يبلغ منه غاية! ويلوح أنك عليم خبير بكل دقيقة في هذا الوجود!. وها هي ذي أحجاري الثمينة التي أعتز بها، وأهتز زهواً لها! فدعني - بربك - أعلم أيها أعظم - في نظرك الثاقب - قيمة وأكرم معدناً. .) فأجابه الحكيم هازئاً:(هلا أنبأتني يا مولاي أي واحدة تحسبها أثمن هذه الجواهر وأكرمها؟)
فانتقى الملك من بينها جوهرة تتألق جمالاً وتفيض بهاء. . ومد يده بها إلى الحكيم وهو يقول (إن هذه - أيها السعيد الجليل - تبدو لي أشد حسناً وأرفع قيمة!. .)
فتناولها (الحكيم الإغريقي) وراح يفحصها بين أنامله ويقلبها في راحته، ثم أدناها من مسمعه، وأصغى برهة إليها! ثم قال في صوت هادئ رزين:(يخيل إلي يا مولاي. . أن هذا الحجر يضم في جوفه حشرة حية!. .) فأمر الملك - مستغرباً: - بالجوهرة أن تكسر في رفق!. . فخرجت منها أمام ناظريه - دودة تسعى!
فزاد دهش الملك وعظم إعجابه بحكمة الإغريقي، وعقله الفذ وعلمه العجيب. . وأمر بأن يقدم له - في سجنه - رغيف كامل كل يوم!. .
وانسلخت أيام وانقضت شهور، وكان الشك لا يفتأ ينتاب الملك، والظنة لا تبرح تراوده بين حين وحين في نسبه إلى أبيه!. فأرسل في طلب الحكيم، وقال له:(أيها الرجل العليم. . . أن بلاءك اليوم لعظيم. . أريدك على أن تخبرني إبن من أنا؟ ّ)
فأجابه العجوز - مظهراً الدهشة - في صوته الهادئ وحكمته الرزينة: (يا مولاي. . إن هذا لعجيب! لا ريب في أنك إبن سلفك الملك العظيم. . والدك!. (فصاح الملك حانقاً في غلظة: (إياك والمراوغة من سؤالي: أخبرني الحقيقة وأنت آمن! فإن خالجك تردد، فسوف أضرب عنقك كخائن حقير!)
فأجابه الإغريقي: (إذن يا مولاي! لا تثريب علي ولا حرج، أني أخبرك أنك سليل خباز!) فدخل الملك (فيليب) على (الملكة لوالدة). . قلقاً ظامئاً إلى جلاء الحقيقة. . وهددها وشدد النكير عليها. . فاعترفت له بأن الحكيم لم يتجاوز الحق فيما قاله!.
حينئذ بلغ إعجاب الملك بالحكيم حداً عظيماً، فاحتبسه معه في غرفة بمنأى عن القوم - وقال له:(يا سيدي الجليل!. . لقد تجلت لي آيات بينات من علمك، وبراهين ساطعة على قدرتك! وقد حان أن تكشف لي النقاب عن سر معرفتك بها وحكمك عليها!. .)
فأجابه الحكيم - وهو يبتسم في لطف -: (يا مولاي! سأنبئك بتأويل ما لم تحط به خبراً!. . . أما الحصان فقد علمت أنه رضع لبن حمير من أذنيه المتدليتين المتراخيتين، وليست هذه من طبيعة الخيل!. . وعلمت أن في جوف الجوهرة حشرة حية، لأني استشعرت حرارة لما قبضت عليها. . وعهدنا بالأحجار باردة! ومن الحلي أن الحرارة لا تصدر إلا عن كائن حي داخلها)
ثم سكت الحكيم. . فقال له الملك مستحثاً: -
(هه. . وكيف فطنت إلى أني ابن خباز؟)
فاستطرد الحكيم في قوله وهو يبتسم في خبث ورقة: (حينما أخبرتك بحقيقة الحصان لم تجد علي إلا بنصف رغيف من الخبز، وعندما أنبأتك عن الحشرة الحية في بطن الجوهرة أمرت لي برغيف كامل من الخبز كل يوم! فأدركت عن يقين من هو أبوك!
فلو أنك ولدت من صلب ملك حقاً لوهبتني مدينة بأسرها كمنحة أستحقها. . ولكنك اكتفيت برغيف من الخبز وهو ما كان يفعله أبوك الخباز!. . ومن شابه أباه فما ظلم!. .)
حينئذ خجل الملك من ضعة أصله ودناءة سجاياه! وأطلق أسر (الحكيم الإغريقي) ورد عليه حريته. .! ثم أعاده إلى أهله مثقلاً بالعطايا. . وولاه منصباً رفيعاً!. .
مصطفى جميل مرسي
صانع الخير
للكاتب الإنجليزي أوسكار وايلد
كان الوقت ليلاً،؟؟؟؟؟؟؟؟؟ فلاحت له من بعيد أسوار مدينة مخططة على شكل دائرة، فوجد خطاه نحوها. ولما دنا منها سمع في داخلها خفق أرجل طروبة، وقهقهة أفواه جذلة وأنغام وقيثارات كثيرة صادحة؛ فقرع الباب ففتح له البوابون فرأى أمامه قصراً من المرمر، أعمدته الرخامية الرائعة الجمال متوجة بأكاليل الأزهار، وفي داخله وخارجه مشاعل مضاءة من الأرز. فدخله وبعد أن أجتاز ردهات من العقيق الأبيض الخلكيدوني وأواوين من اليشم وبلغ قاعة الوليمة المستطيلة رأى على متكأ من الأرجوان شاباً مكلل الشعر بالورود، قرمزي الشفتين من أثار الخمر. فدنا منه ولمس كتفه قائلاً:(لماذا تعيش هذه المعيشة؟) فالتفت الشاب ورآه فعرفه وقال: (قد كنت أبرص فأتيت أنت وشفيتني. فكيف أعيش غير هذه العيشة؟).
ترك القصر وخرج إلى الجادة ورأى بعد هنيهة امرأة موشاة الثياب بالنقوش تنتعل حذاء مرصعاً باللؤلؤ، ورأى شاباً مرتدياً ثوباً ذا لونين يسير في أثرها الهويناء مترقباً كأنه صياد. وكان وجه المرأة شبيهاً بوجوه الدمى الجميلة، وعينا الشاب تشتعلان لذة وتدفقان شهوة، فتأثرهما مسرعاً حتى داناهما. فلمس يدي الشاب وقال له:(لماذا تنظر إلى تلك المرأة هذه النظرات؟). فالتفت الشاب ورآه فعرفه وقال: (قد كنت فيما مضى أعمى فأرجعت إلي بصري. فإلي أي شيء لأنظر إذا لم أنظر إلى ما ترى؟).
فتركه وتبع المرأة حتى أدركها. فمس ثيابها المزركشة وقال لها: (أليس من سبيل غير سبيل الخطيئة؟). فالتفتت المرأة إليه وعرفته فضحكت وقالت: (ولكنك قد غفرت لي ما أسلفت من خطايا من قبل. وهذا السبيل طريق المسرات!)
فخرج من المدينة حتى إذا كان في ظاهرها رأي شاباً ينتحب على قارعة الطريق فاقترب منه، ولمس غدائره المسترسلة وسأله. (لماذا تبكي؟) فرفع الشاب طرفه إليه فعرفه وقال له:
(لقد كنت ميتاً، فجئت أنت فأحييتني، فماذا أصنع غير البكاء؟)
عبد الوهاب مصطفى