الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 768
- بتاريخ: 22 - 03 - 1948
من مذكراتي اليومية:
قصة فتاة
- 5 -
يوم الجمعة 11 مايو سنة 1945
كان لحديث لقائنا الأول بقية ضاق عن تسجيلها الوقت في صفحة الأمس فأنا أسجلها ملخصة في صفحة اليوم.
قلت للآنسة (س) بعد أن قصت علي مغامرتها الحمقاء بخروجها من العزبة شريدة، وسفرها إلى القاهرة فريدة: إن حكايتك في تحررك من أخيك أشبه بحكاية العنزة (بلانكيت) في تحررها من سيدها (سيجان)
قالت وما خبر هذه العنزة؟ قلت: خلاصة خبرها فيما زعم (دودية) أنها كانت عنزة جميلة الشكل خفيفة الظل ذات قرنين مفوفين، وعينين كحلاوين، وشعر أبيض ناصع، وظلف أسود لامع؛ وأنها كانت تعيش في حظيرة مولاها عيش الرافهين الأغرار، تنزو وتلعب في حبلها الطويل، وتأكل وتشرب في مذودها الحافل. وفي ذات يوم أطلت من النافذة فأبصرت الجبل يوشيه الزهر، والسهل يغشيه النبات، فقالت لنفسها: يا لله! ما أجمل الحياة هناك! وما أسعد من ترتع في تلك المروج طليقة من هذا الحبل! ما للمعز وللحظائر والقيود؟ إنها بالحمير والبقر أخلق. ومنذ تلك الساعة غرضت العنزة من المكان، وبرمت بالقيد، وعزفت عن الطعام، حتى هزل بدنها وشح لبنها. وكان السيد سيجان كلما دخل عليها الحظيرة وجدها جاثمة على الأرض أمام الباب، تنظر نظر المشوقة، وتثغو ثغاء الولهى! فأدرك آخر الأمر أن بها شيئاً تخفيه، فسألها: ماذا بك يا بلانكيت؟ لعل حبلك قصير فأطيله، أو علفك قليل فأزيده! فقالت العنزة مغضية في غير اكتراث: أرح نفسك يا سيد سيجان، فليس ما أشكوه قصر الحبل ولا قلة العلف.
- إذن ماذا تشكين؟
- أشكو القيد.
- وماذا تريدين؟
- أريد الجبل.
- الجبل؟! ألم تسمعي أن هناك الذئب؟
- بلى سمعت، ولكن لي قرنين طويلين يخشاهما الأسد.
- ليس قرناك يا مسكينة أطول من قرني أختك (رينود)، فقد صاولت الذئب بشجاعة طول الليل، ولكنه أفطر عليها في الصباح!
- يا للمسكينة! ولكن لا بأس. دعني بربك أجرب حظي مع الذئب يا سيد سيجان.
فلما رأى سيجان أن عنزته لا يقنعها المنطق ولا يعظها التاريخ، حبسها في حجرة بالحظيرة ثم أغلق عليها الباب، ولكنه نسي أن يغلق النافذة، ففرت منها إلى الجبل! ورأى الجبل في بلانكيت غير ما رأى في سائر الماعز من جمال اللون وحسن الشارة فلقيها لقاء جميلاً، وأمر أشجاره أن يظللن لها الطريق، وأزهاره أن يعطرن لها الجو. ووجدت العنزة نفسها مرسلة من كل قيد؛ فلا وتد ولا حبل ولا جدار، فأخذت تمرح في الخلاء الرحب، وتسرح في الكلأ الرطب، وتوازن في اشمئزاز بين ضيق الحظيرة وسعة المرج، وبين تفاهة العلف ومراءة العشب، فتحمد الله على ما رزقها من نعمة الحرية ومتعة العيش. فلما قضت حاجتها من الشبع والري، أخذت نثب في الهواء، وتركض على الأرض، وقفز فوق الصخور؛ ثم تبلل شعرها بماء الغدير، وترقد لتجففه بحر الشمس، ثم تنهض فتصعد في شعاف الجبل حتى تقف على قمته، فيخيل إليها من فرط العلف وسحر الغرور أنها حورية مرجه وملكة واديه! وبينما هي ترسل النظر الساخر من زروة الجبل إلى حظيرة سيجان أبصرت قطيعاً من الوعول ينال من شجر الكرم فتحلب ريقها شرهاً إليه، وما هي إلا وثبات حتى نزلت على القطيع تفسح لها المجال بأدب، وقرب إليها المنال في لطف. ثم وقع بقلبها بعض الوعول فاختلت به ساعة أو ساعتين في ظلال الغاب. وجملة القول أنها قضت يوماً من أيام الجنة لم تقضه قبلها عنز من عناز سيجان، ولا نعجة من نعاج داود.
ولكن الهواء برد والمساء أقبل، فخشعت الأصوات، وسكنت الحركات، وانبعث من جانب الحظيرة بوق السيد ىسيجان يدعو الآبقة إلى الرجوع. حينئذ تذكرت الذئب وقد أنساها إياه قصف النهار ولهوه، فاعتراها شيء من الحيرة والتردد؛ ولكنها تذكرت كذلك الوتد والحبل، فمطت شفتيها وأصمت أذنيها وقررت البقاء. وانكفأت بلانكيت تبحث عن مرقد وثير في
مغاور الجبل فرأت بين الأوراق أذنين مصرورتين تحتهما عينان تشعان الخطر، وتقدحان الشرر، فعلمت أنه الذئب! وأرادت أن تمضي في سبيلها، فضحك منها الذئب حتى بدت أنيابه المصل، واندلع لسانه الغليظ؛ فاستيقنت الموت وتذكرت ما سمعته عن مصرع العنزة رينود، فهمت بالاستسلام؛ ولكن بدا لها أن تدافع، لا لأنها تعتقد أن العنزة تقتل الذئب، ولكن لأنها تربأ بكرامتها أن تكون أقل شجاعة من رينود. والحق أن بلانكيت اضطرت الذئب أن يستريح عشر مرات أثناء المعركة، وفي كل استراحة كانت تملا فمها بالعشب الندي، وترقب طلعة الفجر في الأفق الحالك، ثم تعود إلى الصراع؛ حتى لاح الضوء الشاحب، وصاح الديك المؤذن، فخرت شهيدة الحرية بين يدي الذئب وهي تلفظ مع نفسها هذه الجملة:
الحمد لله قد بلغت أمنيتي، وإن لحقت بي منيتي!
قالت الفتاة: قصة طريفة! ولكني أعدك مادمت عندك أن الزم الحظيرة ولا أفك القيد ولا أخلع الزمام. فقلت لها: لا تنسي يا بنيتي أن حظيرتك عند أخيك لا عندي، وأن حريتك في قيده لا في قيدي، وأن زمامك بيده لا بيدي. وهيهات أن أكون لك إلا أباً يشفق أو أخاً يعين أو معلماً يرشد. فقالت وهي تنهنه عبرة تريد أن تقطر: ليكن! حسبي أن أراك وأن أسمعك! لقد حاولت أن أغويك فلم أستطع، فحاول أنت أن ترشدني فلعلك تستطيع. سأجعل في يديك مقاليد أمري، وأودع بين جنبيك مكنون سري. وسأتبين معالم الطريق في ضوء مصباحك، وأنشد سكينة القلب في ظل جناحك. فقلت لها أعانني الله وأعانك. ثم افترقنا ونفسي تغالب الضلال ونفسها تغالب الهدى، وما تدري نفسي ولا نفسها ماذا نكسب غداً!
يوم الخميس 17 مايو سنة 1945:
كان لقاؤنا الثاني في مطعم الكرسال ظهر هذا اليوم؛ وكنت قد واعدتها على هذا اللقاء ساعة انصرافنا من جروبي. وكانت هي شديدة الحرص على أن نلتقي كل يوم، ولكنني أقنعتها بأن تجعل بين اللقاءين أسبوعاً لتعرف فيه خبيئة نفسها ودخيلة هواها، لترد يوم ترد عن بينة، وتصدر حين تصدر عن بصيرة. سبقتها إلى الموعد في هذه المرة فتخيرت مائدتنا في ركن من أركان المطعم الفخم. ولم يكد يطمئن بي الجلوس حتى رأيتها مقبلة في زينتها الكاملة: فرأسها النفرتيتي الساحر قد خلص من يد الحلاق الساعة؛ وفستانها
الفيروزي الأنيق قد خرج من محل الخياط اليوم؛ وشنطة يدها اللازوردية المعلقة على كتفها قد تدلت في فراغ الخصر واستقرت على الجانب؛ وشفتاها القرمزيتان قد انفرجتا عن ثغرها الشتيت لتلقي التحية ثم تواصل الحديث. وكانت الجوقة حينئذ تعزف لحناً رقيقاً رفيقاً ينسجم مع شحوب الضوء وهدوء المكان ونشوة الجلاس، ولكنها جعلت الموسيقى دبر أذنها وفضلت أن تتكلم على أن تسمع، فأخذت تناقلني على الطعام شهي النوادر وطلي الأخبار حتى جرها الحديث إلى أنشودتها الغرامية المعتادة، فعطفتها برفق إلى حديث يوم الأحد الماضي وسألتها: لعلك في هذا الأسبوع قد وجدت النور الذي تفتقدين، والسلام الذي تنشدين!
فقالت وهي تنغض رأسها إلي: أي نور وأي سلام وقد شد الله عضد شيطاني بشياطين أخر؟ لقد وجدت في بنت أختي وأترابها من الإغواء ما يضل العابد بلفظه، ويفتن الراهبة في لحظة!
فقلت لها: إذن لا بد من الرجوع إلى العزبة.
فقالت: أرجع إلى الوتد والحبل؟ لا يا سيد سيجان! دعني بربك أجرب حظي مع الذئب!
لم أكن بعد ذلك في نصيحتي لبلانكيت إلا كمن يرقم على ماء أو ينفخ في رماد، ففوضت أمرها إلى الله ثم افترقنا على غير ميعاد.
(للقصة بقية)
أحمد حسن الزيات
الحمادون الثلاثة
للدكتور جواد علي
- 3 -
وننتقل بك أيها القارئ من حياة حماد الراوية وقد سقت لك بعض أخباره إلى حياة حماد آخر هو (حماد عجرد) وهو يفوق المرحوم صاحبنا عبثاً وزندقة، ولست أقصد من وراء هذا الحديث رواية أخبار الزنادقة، وإحياء ذكرى الزندقة، وفي عصرنا من يفوق من ذكرنا عبثاً واستهتاراً وزندقة وتفاخراً بالخروج على أنظمة البلد والمجتمع. ولكننا نقصد من وراء هذه الدراسة إظهار صورة من صور حياة الناس في ذلك العهد غامضة على كثير من القراء، ترينا لوناً من ألوان الحياة وفوضوية من تلك الفوضويات التي قوضت دعائم المجتمع العربي القديم.
وحماد عجرد الذي أريد أن أتحدث عنه هو أبو عمرو وقيل أبو يحيى حماد بن عمر بن يونس بن كليب الكوفي وقيل الواسطي. وبعد فلا تغرنك هذه الأسماء وهذا النسب الطويل العريض وتلك النسبة العربية التي تتحدث في الظاهر عن عربية أصيلة وفي الواقع غير ذلك. ولست بمبيح لك سراً إن قلت لك أن الرجل كصاحبه مولى من موالي سواءة بن عامر ابن صعصعة. شأن أكثر العابثين والمجان الذين ظهروا في هذا الوقت خاصة وقت تدهور السياسة العربية وتولي الملوك المترفين من بني أمية مقاليد الحكم في الإسلام. وفي بلد وإن كانت العروبة غالبة عليه غير أن العجمة كانت تبذر مفاسدها فيه وتؤسس نواديها في كل مكان.
لقد كان حماد عجرد على الرغم مما أتهم به من الزندقة سليط اللسان بذئ الكلام لا يقف أمامه في هذا الفن أحد. وقد عرف بشار بن برد وهو من المتهمين بالزندقة كذلك بأنه من أبذأ الناس لساناً وأنه من الهجائين والمقذعين في هجائهم. وكان مسرفاً في الهجاء حتى عجل بنهاية نفسه. ومع هذا الهجاء لم يتمكن من التغلب على حماد ولا من إسكاته وقطع انفاسه فكانت بينهما أهلج شديدة وكانت بينهما سباب وشتائم فقال حماد في بشار أهاج فاحشة جاء فيها بمعان غريبة وإقذاع فاقت حد الوصف حتى كان بشار يضج منه.
روى الصباح الكوفي قال دخلت على بشار بالبصرة فقال لي: يا أبا علي، أما أني قد
أوجعت صاحبكم وبلغت منه، يعني حماد عجرد. فقلت بماذا يا أبا معاذ؟ فقال بقولي فيه:
يا أبن نهيا رأس على ثقيل
…
واحتمال الرأسين خطب جليل
فادع غيري إلى عبادة رب
…
ين فإني بواحد مشغول
فقلت لن أدعه في عماه. ثم قلت له قد بلغ حماداً هذا الشعر وهو يرويه على خلاف هذا. قال ماذا يقول؟ قلت يقول:
فادع غيري إلى عبادة رب
…
ين فإني عن واحد مشغول
فلما سمعه أطرق وقال أحسن والله لبن الفاعلة؛ ثم قال إنني لا أحتشمك فلا تنشد أحداً هذين البيتين. وكان إذا سئل عنهما بعد ذلك قال ما هما لي.
واشتد الهجاء بين الشاعرين فكان بشار يهجو حماد وهو في البصرة وكان حماد يرد عليه أو ينظم ما هو شر منه وهو في الكوفة. فكان من جملة ما قال حماد في بشار:
والله ما الخنزير في نتنه
…
بربعه في النتن من مسه
بل ريحه أطيب من ريحه
…
ومسه ألين من مسه
ووجهه أحسن من وجهه
…
ونفسه أفضل من نفسه
وعوده أكرم من عوده
…
وجنسه أكرم من جنسه
ولما سمع بشار هذه الأبيات تظاهر بعدم الاكتراث وقال: ويلي على الزنديق! لقد نفث بما في صدره. فقي له وكيف ذاك؟ فأجاب ما أراد الزنديق إلا قول الله تعالى (لقد خلق الإنسان في أحسن تقويم) فأخرج الجحود بها مخرج هجائي. وهو قول متهم في متهم.
قال الرواة وهذا خبث من بشار وتغلل شديد. وهو خبث حقاً والتفات فطن، فيه سرعة خاطر، يتقطر غيظاً وحقداً من هذا الشاعر الأعمى على ذلك الخصم الذي يراه ولا يتمكن بشار من رؤيته فيصفه:
قال الشريف المرتضي وأول من جعل نفي الإلحاد تأكيداً للوصف به وأخرج ذلك مخرج المبالغة، مساور الوراق في حماد عجرد حيث قال:
لو أن ماني وديصانا وعصبتهم
…
جاءوا إليك لما قلناك زنديق
أنت العبادة والتوحيد مذ خلقا
…
وذا التزندق نيرنج مخاريق
ومساور الوراق صاحب هذه الأبيات شاعر رقيق ماكر من الهجائين وله في الهجاء مكانه.
وكان ممن يخشى لسانه. وهو القائل في أهل الرأي والقياس:
كنا من الدين قبل اليوم في سعة
…
حتى بلينا بأصحاب المقاييس
قاموا من السوق إذا قامت مكاسبهم
…
فاستعملوا الرأي بعد الجهد والبوس
أما الغريب فأمسوا لا عطاء لهم
…
وفي الموالي من شح علاميس
وكان موجعاً في هجائه. ويمتاز عن أقرانه الشعراء بسعة ثقافته واطلاعه على الكتب بحكم مهنته ولذلك كان يخشى المثقفون وهجاءه فكانوا يسترضونه بالدراهم ويشترون مدحه بالمال.
وكان ظريفاً صاحب مجلس ومعشر محدثاً يدل ما تبقى من شعره على خفة روحه، له قصيدة جميلة في وصف الطعام يصف فيها أنواع الأطعمة والأصناف الفاخرة من الأشربة، من أوائلها:
اسمع بنعتي للملوك ولا ترى
…
فيما سمعت كميت الأحياء
إن الملوك لهم طعام طيب
…
يستأثرون به على الفقراء
أني نعت لذيذ عيشي كله
…
والعيش ليس لذيذه بسواء
ومن الهجاء الذي قاله بشار في حماد عجرد وهو يمثل بخل المهجو وبعده عن الكرم قوله:
إذا جئته في الحي أغلق بابه
…
فلم تلقه إلا وأنت كمين
فقل لأبي يحيى متى تبلغ العلا
…
وفي كل معروف عليك يمين
وهنا لك أبيات أخرى قيل إنها في هجاء حماد عجرد وقيل أنها في هجاء حماد بن الزبرقان وهو رجل من هذه الفصيلة. وقيل بل إنها في هجاء حماد الراوية وهي:
نعم الفتى لو كان يعرف ربه
…
ويقيم وقت صلاته حماد
هدلت مشافره الدنان فأنفه
…
مثل القدوم يسنها الحداد
وأبيض من شرب المدامة وجهه
…
فبياضه يوم الحساب سواد
وكانت لحماد عجرد بطانة وجماعة ترتاح إليه ويرتاح إليها وهي على شاكلته بالطبع، مثل حريث بن عمر وكان حماد ينزل عليه وكان من المشهورين بالزندقة. ومثل مطيع بن إياس وهو علم بالزندقة لا يحتاج إلى تعريف، ومثل يحيى بن زياد. وكانوا يجتمعون ويتنادمون ويتنابزون بالألقاب. حدث علي بن الجعد فقال: (قدم علينا في أيام المهدي هؤلاء
القوم حماد عجرد ومطيع بن إياس الكناني ويحيى بن زياد فنزلوا بالقرب منا فكانوا لا يطاقون خبثاً ومجانة).
وكانت محجة القوم في الكوفة بيت رجل يقال له (ابن رامين) قدم من الحجاز ولعله كان من أصل يهودي وكان صاحب قيان ونبيذ (فكان من يسمع الغناء ويشرب النبيذ يأتونه ويقيمون عنده مثل يحيى بن زياد الحارثي وشراعة بن الزند بوذ ومطيع ابن إياس وعبد الله بن العباس المفتون وعون العبادي الجيري ومحمد بن الأشعث الزهري المغني وكان نازلاً في بني أسد في جيران إسماعيل بن عماد فكان إسماعيل يغشاه ويشرب عنده، ثم انتقل لبعد ما بينهما. وكان لابن رامين جوار ويقال لهن سلامة الزرقاء وسعدة وربيحة وكن من أحسن الناس غناء).
وقد اشتهر أهل الحجاز بالميل إلى الغناء وبإتقانهم فنونه، ولذلك كان مجلس (ابن رامين) من مجال طلاب الغناء المشهورة في الكوفة. وكان عامة من يقصده من أصحاب الفن يحسنون الغناء وقول الشعر أو روايته على الأقل. وكان إسماعيل بن عماد مثلا صاحب شعر رقيق جميل وحس مرهف يقول الشعر في (ابن رامين) وفي صاحبات ابن رامين وفي شعره نغم موسيقي. وأما محمد بن الأشعث الزهري وهو من رواد هذا المحل ومن المقيمين في بني أسد فكان مطرب النادي، كان يغني تلك الأشعار ويأتي بألوان من الغناء تهز السامعين هزاً. وكان مطيع بن إياس وهو صديق حميم من أصدقاء حماد عجرد من هؤلاء الفنانين الموهوبين أيضاً وكان ينظم الشعر ويرويه. فكانت هذه الندوة ندوة الفنانين، هذا ينظم وهذا يغني وهذا يروي وهذا ينكت، ومن هذا الخليط يتكون ذلك الجو الأدبي الذي امتازت به مدينة الكوفة كما امتازت حانات باريس وأمهات المدن الأوربية التي اشتهرت بالنتاج الأدبي فتجد فيها الشذوذ والعبقرية والسذاجة والإتقان والمتناقضات التي لا تجتمع في نوادي العاديين من الناس.
أما بضاعة هذه الطبقة التي كانت تدر عليهم الأرباح فكانت الشعر وروايته، وكانوا يحصلون على العطايا والهدايا إما عن طريق المديح وإما عن طريق الذم وهجاء الناس. وكانوا ينفقون أموالهم بغير حساب على القيان والشراب والمجالس والذهاب إلى البساتين لتمضية الوقت بين الماء والخضراء والوجوه الحسنة. وكان بستان شورين من البساتين
التي كان يقصدها إسماعيل بن عمار وصحبه وفي صحبتهم قيان بن رامين. فهنالك شراب وهنالك شواء وهنالك غناء. وهنالك الحياة التي كان يقضيها فرسان العصور الوسطى. أو جماعة من طلاب الجامعات في ألمانيا التي كانوا يقضون أوقاتهم على هذا النحو أيام الفراغ.
جواد علي
الأدب الماجن وأثره في نكبة فرنسا
للأستاذ يوسف البعيني
منذ خمسين عاماً على التقريب لمع في سماء الغرب كاتب من أوسع كتابه ثقافة، وحكيم من أعمق حكمائه فكرة - هو الأديب الفرنسي المشهور رومان رولان الذي لا يجهله أحد من قراء الأدب العالمي الحديث.
ومما طالعته لهذا الكاتب الخلاب مقالة مطولة فيها نكبة فرنسا في الحرب الأخيرة وانتهى في تحليله إلى نتيجة فلسفية رائعة أن الأمم الضعيفة الأخلاق الماجنة التفكير في أدبها وحياتها، يتسرب إليها الخمول والاستسلام تسرب الانحلال في الشجرة لنخرة. فإذا لم تتلاف الأمم هذا الداء الوبيل قاضية على جراثيمه الفتاكة إلى الانقراض على ما يذكر التاريخ.
لقد أصاب هذا المصلح الكبير في تحليله. فهذه أمم الأرض وهي بين منقرضة هجرتها الحياة وخاملة يواكبها الفناء، نرى أن الضعف الأخلاقي والأدب الماجن المستهتر والانغماس في أقذار الدعارة كانت السبب الأهم في انهيار صولتها، وانطفاء أنوارها، وانطواء أعلامها في ساح الجهاد.
ذكرني وقال رومان رولان بما قرأته من أعوام للبحاثة الأسباني (أسين بالسيوس) عن تأريخ الشعب الفارسي وقد عزا سقوط الفرس، بعد أن دوخوا الأمصار واستظهروا في مختلف مرافق الحياة، إلى الضعف الأخلاقي الذي تمشي في آدابهم وضروب معيشتهم مثبتاً صحة كلامه بشواهد عديدة تشير كلها إلى أنواع الدعارة والفحشاء والانحطاط النفسي التي تمرغوا في أوحالها مستهينين في إرضاء حواسهم البهيمة بهدم كل قانون سام ونظام اجتماعي. ومن شواهده التي أودعها كتابه المذكور هذه الدعوة الوحشية وقد شاعت في عصرها شيوعاً عظيماً وهي للحكيم (شنهار). وفيها يقول:
(الويل كل الويل، لمن يكفر بالخمرة واللذة المصحوبة بنوبة من الذهول. فإن جزاءه الجحيم إذ تكوى روحه الشريرة بالنار، وتقطع أطرافه وأوصاله بالسكاكين والكلاليب، ثم يقذف في بئر من الدم طعاماً للأفاعي والغيلان. أما الذي يقبل على تقديس الخمرة واللذة فطوبى له إذ ينال رضي خالقه فيعيش سعيداً، ويموت سعيداً).
وهذه دعوة ثانية للشاعر (سنطور) الملقب بالعطار الفارسي وقد لاقت إقبالاً كبيراً عند خاصة الفرس وعامتهم:
(ملت إلى شفة الكأس الصينية المزخرفة
لارتشف منها ما ينبه حواسي الجسدية
وبينما الشفة على الشفة،
همست شفتيها الرطيبة:
اشرب ما دمت حياً
فاللذة ستفقدها بعد حين وعندها تمسي الحياة بلا جمال)
وزاد العلامة الأسباني على أدلته البليغة في كتابه قوله: إن الشعب الفارسي لم يرض بالذل والهوان، ولم يألف الانكماش والتواني إلا بعد أن فقد أخلاقه في أدبه واتجاهات حياته. هذه حقيقة ناصعة لا تقبل التأويل والاعتراض؛ لأن انحطاط الأخلاق فاتحة لتضعضع الأفراد والجماعات وهو أشد خطراً على المجتمع من الضعف المادي نفسه. وما أصدق كلام الشاعر العربي:
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت
…
فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
وهوت الدولة الفرنسية في الحرب الخيرة أمام عدوها التاريخي اللد، فلم تغن عنها حصونها المنيعة ولم يجدها نفعاً جيشها المدرب. وغدت باريس - عاصمة النور - مسرحاً لعدوها المنتصر الذي طالما حلم بانتهاك تلك المدينة العظيمة التي ارتفعت تحت سمائها الصافية تماثل الجبابرة ودور العلم والاختراع ومتاحف الفن والجمال، وكلها تحتفظ بالذكريات الخالدة خلود الدهر.
وقد تبارى فريق من أمراء اليراعة في تشخيص هذه الفاجعة وتحليل أسبابها فقال أندريه موروا الكاتب العالمي أن تفكك بلاده كان سببه قلة السلاح. وأكد جول رومان صاحب المؤلفات القيمة في علم النفس أن تدهور أمته يعزى إلى خمول الساسة وزيغ أصحاب المقامات العليا. ونسب جاك ماريتان وشارل مورا وسواهما من انصار الملكية إنكسار الامبراطورية إلى الاشتراكية وغيرها من الآفات. . . ما خلا الحكيم الكبير والمصلح الاجتماعي رومان رولان فقد خالف أقرانه وجلا بوضوح وجرأة نكبة الشعب الفرنسي
وأسبابها التي مهد لها الضعف الأخلاقي الذي تمشى في الأوضاع الاجتماعية والأدبية بعد الحرب الأولى قاضياً على عزة النفوس، وأمسى الرجل المسئول لا يفكر إلا في قضاء شهواته الحقيرة!
فهل صحيح قول هذا الحكيم؟
إن من تدبر الأدب الفرنسي الحديث الذي ظهر بعد أن عصفت زعازع الحرب الأولى على العالم مكتسحة من الحياة كل ما يجمل الحياة. . ويقر بحقيقة ما يقوله هذا المفكر البصير الذي عالج قضايا المجتمع في كتابه (جان كريستوف) بما لم يعالجه قبله أحد من كتاب الغرب. وحسب القارئ أن يقابل بين إنتاج أعلام الماضي وأدباء اليوم حتى يدرك موطن الحق وإن يكن جارحاً، ويحبس موضع الداء وإن يكن مؤلماً.
وعندي أن هذا النوع من الأدب الحديث هو الذي جنى على الأمة الفرنسية إذ أفسد أخلاقها وأمات فيها تقديس الكرامة وتلك النزعة إلى الحرية التي اشتهرت بها على مدى العصور. وأنا لم أقرأ رواية من هذه الروايات الماجنة المستهترة التي ظهرت بعد الحرب الأولى إلا رأيت الحب الجنسي والميول الساقطة تكاد تكون كل شيء، فلا يستوقف المطالع من شؤونها الطويلة العريضة سوى تصوير أمور شاذة معيبة يندى لها الجبين حياء وخجلاً لأنها تحمل في طواياها العفونة والفساد مع الإغراء الفاضح المتهتك. . .
وأكثر من شط هذا الباب زعماء مذهب (اللاوعي) الذي يلاقي اليوم أكبر تأييد في الشرق العربي وعلى الأخص في لبنان. ولزعماء اللاوعي شبه جنون في درس المسائل الجنسية فلا يرون في العالم شيئاً خلافها يستحق الاهتمام، وهكذا لا تجري أقلامهم إلا بوصف الشهوات وتفاعيلها وبكل مثير للأهواء ودوافع إلى الاستهانة بضوابط النفس والنظم الاجتماعية.
إليك مثالاً من هذا الأدب وهو للشاعرة (جان فالكر):
(لا أريد النوم!
إذ في النوم غفلة القلب، وغياب الحب، وحياة تمر ضياعاً قد أطوق ذراعي وأنا نائمة، ولكن فمي لا يقول للحبيب: اقترب
ومتى غرقت في سبات عميق تسكن همومي فلا أعود أشعر باللوعة تضني قلبي وتحطم
جسدي. لذلك لا أريد النوم!
إني أحب آلامي الشديدة التي تضغط على كل شيء فيّ
أحب ساعات اليأس يسود فيها الجنون فتخور عزيمتي، وتضيع أنفاسي، وتتلاشى قواي
أحب الاستسلام إلى كل أنواع العذاب، لأنني بعد مجيء الصباح، أتلذذ بذكرى ما جرى لي تحت سدول الليل، لذلك (لا أريد النوم).
وإليك مثالاً ثانياً وهو للشاعرة (ماري درمار):
(كم فكرت عندما أكون بعيدة عنك قائلة في نفسي: - أي سر فيه يجذبني إليه؟ إنه ليس فتى جميلاً.
بل هو متسلط، قاس بمظاهره العنيفة!
كم قسوت علي بشراسة، وكم آلمتني حاملاً إلي العذاب بحبك الوحشي.
نعم لقد ملأت حياتي بالعذاب. ولكي أتخلص منك، أريد أن أبغضك.
ولكنني أشعر تحت تأثير قبلاتك الطائشة أنني ملكك إلى الأبد. . .)
وهاك مثالاً ثالثاً وهو للشاعر بول فرلين:
(وقفت أمام رسمه الجميل وقد لوى عنقه العاجي إلى اليمين
فعاودتني منه ذكرى ليالينا المبطنة بالآهات والدموع والغرام - وقد ذوى ربيعه، ما زال يئن في القلب قيثاره. والنظرة السارحة ألقيتها البارحة على جدث يضم رفاته الذي أمسى طعاماً للديدان.
وآهاً - كيف تعرى غصنه
حب تنوح في الدجى أشباحه
أهكذا يتلف الموت أعيادنا
ويغيَّب في الثرى أحلامنا
فيسمى بعد زهو المنى شبابنا ترابا
ويكفن النسيان بكفه العاتية،
ذكرياتنا الصَّباح العِذاب. . .
نظم فرلين هذه القصيدة بعد وفاة (صديقه) أرتور رامبو صاحب عدة مؤلفات شعرية وبينها
ديوان (الزورق السكران) وقد تمكنت بينهما علاقات مريبة شاع خبرها في أوربا ثم انتهت في عاصمة بلجيكا بعد حادثة مشؤومة لا تزال وقائعها محفوظة طي إضبارة في المكتبة الملكية بتلك العاصمة. وأنا ما جئت على ذكر هذين الأدبيين إلا لأقول أن أتباعهما منتشرون في الغرب انتشار الدمامل الخبيثة. ففي أسبانيا تزعمهم الشاعر غرسيا لوركا الذي ذهب ضحية فرنكو في الثورة الأسبانية الأخيرة وقد ترك آثاراً يندى لها جبين الشعر. وفي البورتغال يعد أنطونيو يوتو في طليعتهم. أما في البرازيل فيعرفون باسم (الاعتزاليين) وهم أكثر من هموم إبليس. . . لكن المحيط البرازيلي الراقي يواجههم بالنقد القاسي والتقريع الصارم.
وهذا المذهب العاطل بما فيه من تفكك أخلاقي مهيض لأجنحة الشعر يقوم على التغزل بالرجل دون المرأة. والتغزل بالغلمان عرفه الفرس والعرب في عصر الانحطاط.
على أن ما يحيط بهذا المذهب المغري المشوق من صور ورؤى تموج في ظلال وألوان زاهية حيناً وقاتمة أحياناً وقع من نفوس أنصاره موقع التأييد والاستحسان فحسبوا غموضه إلهاماً علوياً وإباحيته فما غريباً. وفي المحاضرة التي ألقاها الأديب الكبير بول فالري عن فرلين برهان أكيد على شذوذهم وقد جاء فيها ما يأتي:
(إن السلوك الشاذ، والصراع مع الحياة القاسية، وسكنى السجون والمستشفيات، والعربدة المتصلة، ومخالطة الأدنياء، وحتى الإجرام نفسه - كل ذلك مما يلتئم والإنتاج الشعري الرفيع. والحق أن الشاعر ليس رجلاً اجتماعياً بالمعنى المعروف لهذا الاصطلاح، فما دام الشاعر شاعراً فلن يستطيع أن ينتظم في أية هيئة من الهيئات التي تنشد مصلحتها من طريق الحرص على الخلاق والقانون، فالقوانين المدنية تلفظ أنفاسها على عتبة شعره).
ويضيق بي المجال إذا جئت أعرض لكل ما هنالك من شؤون وعبر. ولكنني بإيراد مثال واحد وهو للشاعر بول جيرالدي صاحب ديوان (أنت وأنا) الذي قال عنه الفنان والفيلسوف الأسباني المشهور ميكال أوناموتو إنه من أحط ما نظمه الشعراء.
وهاته:
(وكنا اثنين، في الغاب مجتمعين، تحجبنا أشجاره عن أعين الرقباء، فإذا ساقية تسير مترنحة، وبلبل على الأغصان يغني.
كأنهما من صدى قبلاتنا ثملان. . . مترنحان.
قلت لرفيقي - وقد غمرته نشوة الحب - أمن قوامك الأهيف، ومن شفتيك الورديتين، تمتد رعشة سحرية في الغاب وفي الأشجار، في المياه والأطيار، وفي كياني المعذب بوخز الغرام!
غرام طام كالسيل، مستعر كالنار؟
وعلى هذا النسق المتعاظل يكتب الأدباء المعاصرون كتبهم ورواياتهم ويظنون أنهم يخدعون أمتهم المسكينة التي هوت إلى حضيض الهوان فكانوا هم الجانين عليها كما يقول رومان رولان كبير مفكريها في هذا العصر. وأنا حتى لا أتهم بالتحامل والخروج على الأمة التي أحببتها ووقفت على أدبها وتاريخها كأبنائها الحقيقيين أورد فيما بلى رأي أسطفان زويك الناقد العبقري المشهور في أدباء فرنسا المعاصرين وهو: (إن أدباء فرنسا الذين لمعوا بعد الحرب الكبرى متأثرين بمذهب عار من الخلق السامي الكريم والتصور الذي لا حدود له سيجرون المثل العليا إلى الهاوية. وإني آسف الأسف كله لمصير الشعب الذي سطر في التاريخ البشري أروع الصفحات وأمجدها).
وأورد أيضاً رأي الرئيس مازاريك الذي تمتع في حياته بزعامة الأدب والسياسة وقد أدلى به إلى الوزير لويس بارتو عندما زار تشيكوسلوفاكيا في عام 1933 وهو: (إن أبطال قصصكم الجديدة عامة تحركهم الشهوات الوضيعة والحب الجنسي الشره. ويمكنكم أن تتأكدوا أننا قد مللنا، بل قد اجتوينا هذا الضرب المأفون من الروايات العاطلة السقيمة التي لا تطالعنا فيها سوى امرأة سليطة يحبها اثنان أو ثلاثة عدا زوجها (الصنديد) الذي تخدعه بشتى الحيل. وهكذا في دائرة بغير انتهاء. فهل هذا هو الفن الكتابي الرائع الذي اشتهرتم به على مدى العصور؟ ذلك لا يمكن أن يكون بل هو زيغ وكبوة في الأدباء المعاصرين، فإذا لم تقضوا على هذا الداء الوبيل دفعتم غالباً ثمن تهاونكم في المستقبل.
إن تحت قباب قوس النصر ووراءستائر البانتيون عيوناً تحدق. فحذار من تلك النظرات المخيفة، حذار منها!!)
ولقد صدق الرئيس مازاريك رحمه الله في نبوءته وأدى الشعب الفرنسي ثمناً فاحشاً لقاء رضاه عن ذلك الأدب الماجن المخدر. فهل في نكبة فرنسا درس لنا أفراداً وجماعات؟
عندما حمل المصلح الاجتماعي الكبير المرحوم أمين الريحاني على الأدب المائع السخيف لم يكن يقصد في حملته الصادقة إلا الأدب الماجن المستهتر الذي نشره في لبنان بعض الكتاب والشعراء من أنصار مذهب (اللاوعي). وقد أحسن الريحاني الفيلسوف أيامئذ إلى أمته الصغيرة التي لا تملك من مفاخر الحياة سوى خلقها العالي المتين، والأمة التي تخسر خلقها تخسر كل شيء.
إن نكبة فرنسا درساً بليغاً لكل من ضعف خلقه وانحط تفكيره. ولو أن هذه الأمة اختطت لنفسها طريقاً قويماً غير الذي سلكته في العقد الخير مستوحية تاريخها العظيم الحافل بالأمجاد والزاخر بشواهد العبقرية لما اندحرت ذلك الاندحار الأليم الذي يشبه الأحلام!!
فهل يعتبر أنصار أدب الغموض والإبهام؟
يوسف البعيني
من العصبة الأندلسية
شخصيات عباسية:
جحظة المغني الشاعر
224 -
324هـ
للشيخ محمد رجب البيومي
كان للشعر والغناء في الدولة العباسية سوق رائجة، فما ينظم شاعر قصيدة، أو يبدع مغن صوتاً، حتى تتطلع إليه الأنظار ويتصل ذكره بالرؤساء والأعيان فتخلع عليه الهبات الوافرة وتهدي إليه المنح الجزيلة، وقد يطير ذكره إلى الخليفة، فيقر به من ساحته، ويسمر معه في أطيب أوقاته، حتى يكون نديمه المحظوظ، وصفيه المختار.
لذلك أكب الناشئون على الأدب، يقيدون شوارده، ويقتنصون فرائده، فحفلت بهم المجالس، وأورثوا الثقافة العربية ثروة خلدت العصر العباسي في سجل التاريخ حتى لا يكاد يوجد نظيره في شتى عهود العربية وقد توالت عليها السنون وامتدت بها الأحقاب.
ولقد كان أبو الحسن أحمد بن جعفر بن يحيى بن خالد البرمكي أحد هؤلاء الذين أوتوا نصيباً وافراً من المعرفة، فقد سلخ من عمره وقتاً مديداً في البحث والدراسة حتى استطاع أن يكون عالماً متعدد الثقافة، ومؤلفاً غزير المادة، وشاعراً خفيف الظل ثم هو بعد ذلك مغن بارع تحن إليه المسامع وتتعلق به القلوب.
انحدر أبو الحسن - وقد اشتهر بجحظه - من سلالة البرامكة فحرص جهده على أن يكون بعيداً عن المزالق السياسية كيلا تحوم حوله الشبهة فيؤخذ بجريرة آبائه وأجداده، لا سيما وقد وجد في عصر أهدرت فيه دماء الساسة، وتناثرت أشلاء القادة من وزراء ورؤساء، بل لقد انتقل الخطر إلى أمراء المؤمنين فكان الخليفة يهوى في ليلة واحدة من القصر إلى القبر، وحسبك أن تعلم أن جحظة قد شهد في مدى عمره عشرة خلفاء فارقوا تيجانهم ما بين قتيل وجريح.
ولم يستطع أبو الحسن أن يستفيد من أدبه كما استفاد غيره لأنه كان ذا نمط خاص في حياته فلم يسر في ركاب أمير، ولم يجامل عظيماً، والرؤساء في كل زمان ومكان لا يجزلون حياءهم الوافر إلا لمن يحبر فيهم المدائح الطويلة، لاهجاً بالثناء عليهم في غدوه
ورواحه، ولهذا كان الشاعر يشكو من دهره، ويعجب من حرمانه، أضف إلى ذلك ما وقر في نفسه من إنه سليل البرامكة ذوي الأموال المصادرة، والتراث السليب، وهو بعد ذلك فقير معدم تسأله عن حاله فيجيب.
لست الذي تعرف البطحاء وطأته
…
والبيت يعرفه والحل والحرم
أنا الذي دينه إسعاف نائله
…
والفقر يعرفه والبؤس والعدم
أنا الذي حب أهل البيت أفقره
…
فالعدل مستعبر والجوْر مبتسم
وكأن السياسة قد حرمت عليه أن يتمدح بآبائه وأهله فكان يعاني من ذلك هما ناصباً وشجناً مبرحاً، وقد ينفجر صبره فيسفر عن مراده في وضوح، ويروح عن نفسه فيقول:
أنا أبن أناس موّل الناس جودهم
…
فلم يخل من إحسانهم بطن دفتر
ولقد كان الغناء يدر عليه بعض الخير والنعمة ولكنه مسرف متلاف لا يبقي على شيء فهو في حاجة ماسة إلى العطاء المتواصل، والغريب أنه ابتلى بمن يغنيه فيكتب إليه رقاعاً عديدة دون أن يأذن بصرف واحدة منها وقد يكون جحظة في ضيق من عيشه فيعلن إليه تبرمه إذ يقول:
إذا كانت صلاتكمو رقاعاً
…
تُخطّط بالأنامل والأكف
ولم تكن الرقاع تجر نفعاً
…
فها خطي خذوه بألف ألف
وشر من ذلك أن يغني جماعة فيقولون له أحسنت ثم لا يعطونه قليلاً أو كثيراً وهو ينتظر أن يحظى ببعض ما يتمتع به زملاؤه المغنون من منح وهبات فلا يسعه إلا أن يعبر عن هذه الحقيقة المريرة فيهتف.
لي صديق مغرى بقربي وشدوي
…
وله عند ذاك وجه صفيق
قوله إن شدوت أحسنت زدني
…
وبأحسنت لا يباع الدقيق
ولقد دفعه ضيق يده إلى التهافت على موائد الخلان والأصدقاء فكان لا يترك صاحباً إلا فجعه في مأكله ومشربه، فإذا صادف منه بشراً وابتساماً سكت عنه، وإذا لمح في وجهه عبوساً سلقه بهجائه المقذع، وأخذ يشهر به في كل مكان، راوياً عن بخله ما يمتع من النوادر المضحكة كأن يقول (سلمت على بعض لرؤساء وكان مبخلاً فلما أردت الانصراف قال لي يا أبا الحسن ماذا تقول في أكل القطائف؟ فقلت ما آبي ذلك، فأحضر لي جاماً فيه
قطائف فأوغلت فيها وصادفت مني سغبة، وهو ينظر إلي؟؟ فقال يا أبا الحسن أن القطائف إن كانت بجوز أتخمتك، أو كانت بلوز أبشمتك، فتعجبت من شأنه، وقلت في أمره:
دعاني صديق لي لأكل القطائف
…
فأمعنت فيها آمناً غير خائف
فقال وقد أوجعت بالأكل بطنه
…
رويدك مهلاً فهي إحدى المتالف
فقلت له ما إن سمعنا بها لك
…
ينادي عليه يا قتيل القطائف
لذلك تجد أكثر معارفه قد أقفلوا أبوابهم في وجهه حذراً من لسانه كما نهوا على الحجاب أن يصرفوه بمجرد رؤيته، وجحظة يعلم جيداً ما يبطنون له، فيشنع عليهم في تهكم يصل به إلى الوقاحة والتبجح فيقول:
ولي صاحب زرته للسلام
…
فقابلني بالحجاب الصراح
وقالوا تغيّب عن داره
…
لخوف غريم ملح وقاح
ولو كان عن داره غائباً
…
لأدخلني أهله للنكاح
وكان إذا امتدا الموائد لا يرحم معدته بل يأخذ على نفسه عهداً أن يبتلع ما تقع عينه عليه، وقد بلغ من بعض البخلاء أن ضربه فأوجعه لما صادف من نهمه الزائد، فقد دخل على هرون ابن عريب فقدم إليه (مضيرة) فأوغل فيها إيغالاً جعل ابن عريب يقول له: جعلت فداك أنت عليل، وبدنك نحيل، والعصب ثقيل. فأجابه النهم في تهكم! والعظيم الجليل، المفضل المنيل، لا أترك منها الكثير ولا القليل. فغضب هرون وضربه عشرين مقرعة، ولم يترك جحظة حادثته تمر بل سجلها في شعره فقال:
ولي صاحب لا قدس الله روحه
…
وكان من الخيرات غير قريب
أكلت طعاماً عنده في مضيرة
…
فيا لك من يوم عليّ عصيب
ومهما يكن من شيء ففي هذه الأخبار ما يدل على كلفه بالطعام ولا ريب فقد كان فمه يستولي على جانب كبير من إنتاجه وتأليفه، ولم يقتصر على ما ترغم به من الشعر في هذا الباب بل ألف كتباً خاصة ذات فصول وعناوين، والذي يقرأ هجاءه للبخلاء يعتقد أنه كان على شيء من الكرم في بيته، والحقيقة أن أبا الحسن ممن اشتهروا بالكزازة والشح فقد طار له في هذا الباب صيت بعيد، قال أبو علي الأعرابي: كنت في بيت جحظة فدخل علينا رجل من البادية ونحن نأكل فدعوناه وكان طاوي؟؟ تسع، فأتى على القصعة ونحن
نرمقهما ونضحك، فلما فرغ من مضغه قال له جحظة أتلعب معي النرد؟ قال نعم فوضعاه بينهما ولعبا فانهزم جحظة هزيمة لم تعد له، فأخرج رأسه من الخيمة ورفع يده إلى السماء قائلاً: لعمري إني لأستحق هذا لأني أشبع من أجاعه الله.
وهنا وقد أوقعه شرهه في مضحكات غريبة فقد كان يتحين الخلوة في رمضان ليشبع جوفه، وأحياناً يذهب إلى المرحاض وفي كمه كسرات من الخبز يلوكها في غفلة من العيون، قال الحسن البغدادي: كان جحظة عند أبي يوماً في شهر رمضان فأجلسته فلما انتصف النهار سرق رغيفاً ودخل المستراح، واتفق أن دخل أبي فرآه فاستعظم ذلك وقال ما هذا يا أبا الحسن؟ فقال أفت لبنات وردان ما تأكل. وبنت وردان دوبية كالخنفساء توجد كثيراً بالمستراح.
وغير كثير على جحظة أن يفعل ذلك فقد كان من المستهترين بالدين إلى أبعد حد وأقصاه، فهو يشرب الخمر، ويأتي المحرمات ويتعرض للنساء مع أن الله قد منحه من الدمامة قسطاً لا يحتمل معه تماجن وخلاعة، وقد سماه ابن المعتز بجحظة لنتوء قبيح في عينه قد شوه سحنته حتى ضرب بها المثل.
وكان فوق ذلك قذر الثياب، رث الأردان، مع إنه كان يغشى المحافل العامة ويتصدر منتديات السمر، وكذلك كان من معارفه البحتري وأبو الفرج، ولست أفهم لذلك علة غير أن هؤلاء وأمثالهم ربما أرادوا أن يحاربوا ما شاع ببغداد من الترف الفاحش في الزي والملبس، فدفعتهم المغالاة إلى ما صاروا عليه من قذارة وحطة، وإلا فلو كان جحظة قد اضطر إلى ذلك لفقره المدقع فلماذا أصر الوليد وأبو الفرج على ما كانا عليه من رثاثة وامتهان.
(البقية في العدد القادم)
محمد رجب البيومي
هل نملك تحريم تعدد الزوجات؟
للأستاذ إبراهيم زكي الدين بدوي
(تتمة)
وأقول رداً على هذا الدفع أنه بغض عما إذا كان التعدد في ذاته من حيث المبدأ خصوصية للنبي أو أن الزيادة على الأربع فيه هي وحدها الخصوصية فإن ما سبق أن سقته من الإشارة إلى الأحاديث المذكورة إنما كان للاستدلال على أن المولى جل شأنه لم يكلف إلا بالعدل المستطاع بين الزوجات المتعددات، وقد رددت فيما تقدم على ما ذكره معاليه من أن ذلك كان حكماً وقتياً. أما قوله أن النبي قد أعفى من تكليف العدل فجوابه أنه ثابت بالآثار المستفيضة أنه كان عليه السلام يحافظ على القسم بين زوجاته بالرغم من رفع التكليف عنه بذلك. وقد بين عليه السلام القسم على النحو الوارد في تلك الأحاديث فوجب على المسلمين الافتداء به في ذلك. ويؤيد هذا الآثار الواردة عن بعض الصحابة - ومنهم عمر رضي الله عنه وهو من علم تشدده في مراعاة أحكام الدين - بمعنى القسم على النحو الوارد في السنة مما يدل على إنهم كانوا يرون أنهم غير مكلفين إلا بما كلف نفسه به النبي من العدل المستطاع. هذا وقد ختم معالي الباشا رده على الاعتراض المذكور، بمعارضته بأنه إن فرض أن آية (وأن خفتم إلا تقسطوا في اليتامى فأنكحوا) مسوقة للتصريح بتعديد النساء إلى أربع فقط فإنها تقرر أيضاً وجوب الاقتصار على الواحدة عند خوف عدم العدل فلماذا لم يأمر النبي الناس بمفارقة ما زاد على واحدة لأن خوف عدم العدل يملأ كل نفس حتى نفس النبي، واقتصر على أمرهم بما هو مقتضى الشق الأول من النص أي بعدم الزيادة على الأربع وأردف هذه المعارضة بقوله (أن هذا يجعلنا نرتاب أشد الارتياب في صدق تلك الأحاديث التي يحتجون بها).
والحقيقة أن ليس فيما ورده أية مدعاة للارتياب لأنه إن أراد بالعدل هنا العدل المستطاع فليس مرد القول بالخوف من عدمه إلى النبي بالنظر إلى غيره، وإنما مرده إلى الشخص نفسه وما يشعر به من قدرته أو عدمها على إجراء هذا العدل، وهذه مسألة نسبية تختلف باختلاف الأشخاص وأحوال كل وظروفه، فلم يكن للنبي إذن ما يأمر به فيها زيادة على ما ورد في الكتابة وقد كان عليه السلام يقول في مثل هذه الأمور (سل قلبك ولو أفتوك). أما
إن أراد به العدل المطلق (وهو ما يظهر أنه مراده بدليل قوله أن الخوف من عدمه كان يملأ قلب النبي نفسه) فإن معارضته مدفوعة حينئذ بأنها مصادرة على المطلوب على الوجه الذي بينته فيما تقدم، وفيها - عدا ذلك - حجة عليه لا له، وهي أن عدم ورود أمر من النبي للناس بمفارقة ما زاد على الواحدة عند نزول الآية دليل على أن العدل المشروط فيها لجواز التعدد ليس هو العدل المطلق وإلا لأمر بمفارقة ما زاد على الواحدة للقطع بخوف الجميع عدم هذا العدل.
12 -
الاعتراض الرابع
إن الأمة قاطبة قد أجمعت قولاً وعملاً منذ عصر النبوة حتى اليوم على حل تعدد الزوجات في الإسلام؛ فهل كانوا جميعاً بما فيهم الصحابة والخلفاء الراشدون رضوان الله عليهم غير عالمين ولا فاهمين لحقيقة ما ورد به الشرع من تحريم ذلك؟ أم كانوا محلين لما حرم الله؟
وقد حاول معالي الباشا دفع هذا الاعتراض بأن الإجماع الذي يسري على المسلم ديانة له صور ثلاث: الأولى أن يقوم في أساسه على نصوص قرآنية مسلم بصحة قيامه عليها مباشرة أو بطريق القياس الصحيح. والثانية أن يقوم على سنة نبوية يطمئن الضمير على صحتها وإلى صحة قيامه عليها مباشرة أو بالقياس الصحيح كذلك. والثالثة أن يكون إقراراً من الناس كافة لعادة من المباحات لم يأمر بها كتاب ولا سنة ولم يمنع منها كتاب ولا سنة مباشرة ولا بالقياس. هذه الصورة الثالثة هي التي يصح أن يطلق عليها اصطلاح (الإجماع) أما الصورتان الأولى والثانية فإن الدليل الشرعي فيهما ليس هو إجماع الناس إنما هو نص الكتاب لو السنة أو القياس الصحيح على نص أيهما. والمسألة التي نحن بصددها غير مقول أن فيها إجماعاً من قبيل الاصطلاح المذكور بالصورة الثالثة؛ بل يقولون أن الإجماع فيها قائم على العمل مباشرة بقوله تعالى: (فانحكوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثُلاث ورُباع) وقوله من بعد (فلا تميلوا كلَّ الميل فتذروها كالمعلقة) ولا شك أن الحكم ما دام مرده إلى النص فإن لكل مسلم وإن انصاع قضاء للإجماع المرتب عليه؛ أن يعترض ويبين ما يعتقده في الأساس من خطأ التأويل.
وردي على هذا الدفع أن المتفق عليه بين القائلين بحجية الإجماع - وهم جمهور مجتهدي الأمة المعتد بآرائهم في ذلك لتأيدها بما جرى عليه العمل فعلاً في عهد الصحابة من
الاحتجاج بالإجماع والتقيد بما أقره من أحكام - أنه لا بد أن يكون له سند من النص أو القياس بمعناه الواسع الشامل للاستنباط من عمومات الشريعة.
وعلى ذلك فالصورتان الأولى والثانية من الصور الثلاث التي ذكرها الباشا هي من صور الإجماع لا محالة؛ وثمرة وجود الإجماع في هاتين الصورتين - إلى جانب سنده من النص أو القياس عليه - أن هذا السند قد يكون ظني الثبوت (كما هو الحال بالنسبة لأحاديث الآحاد ومعظم السنن منها كما هو معروف) وقد يكون ظني الدلالة (كما هو الشأن في النصوص المحتملة بظاهرها لأكثر من معنى واحد، وكما هو الشأن في القياس) وقد يكون ظني الثبوت والدلالة معاً (كما هو الشأن في بعض أحاديث الآحاد التي تحتمل بظاهرها أكثر من معنى واحد؛ أو التي يظهر بينها وبين نصوص أخرى من الكتاب أو السنة وجه تعارض) والإجماع حجة قاطعة؛ فإذا ما أقر في عصر من العصور حكماً مستنبطاً من النص نفسه أو مقيساً عليه أصبح هذا الحكم مما تحرم؟؟ مخالفته ولا يكون النص بعد ذلك محل اجتهاد، فلا يحل بعد ذلك لمسلم مخالفته بدعوى أن سند الإجماع محل اجتهاد، وإنما يحل في هذه الحالة قبل نعقاد الإجماع.
هذه هي ثمرة وجود الإجماع مع النص؛ فهو - إذا سلم معنا الباشا بحجيته وانعقاده في هذا الموضوع - مانع لمعاليه من التأويل فيما تأول فيه من النصوص بما يخالف ذلك الإجماع، ومانع للمسلمين كافة من الأخذ برأيه في ذلك إن هو أصر عليه بعد هذا البيان.
هذا ولا يفوتني أن أنبه هنا إلى ما هو الحق في نقطة أثارها الباشا في بحثه ومن شأنها أن توجب بعض اللبس على الناس في صحة انعقاد الإجماع على هذه المسألة، فقد قرر أن بعض المتطرفين قالوا بجواز التعدد إلى تسع وبعضهم إلى ثماني عشرة مستندين إلى تفسيرهم لعبارة (وثنى وثلاث ورباع) بما يوافق ذلك. والحق أنه لم ينقل عن أحد من الصحابة مثل هذا القول بل كل ما نقل عنهم يفيد العكس أي أن الحكم الشرعي جواز التعدد إلى الأربع فحسب. فإجماعهم إذن لم يخرقه أحد، وقد قررت ذلك صراحة معظم كتب الحديث والتفسير فليرجع إليها من يشاء كما نقل هذا الإجماع عدة من الثقات في هذا الباب. أما مخالفة ذلك النفر ممن سلم الباشا بتطرفهم وسفه رأيهم؛ فهي - إن ثبتت - فلا يعتد بها من خرق الإجماع المذكور لأنهم وجدوا بعد انعقاد الإجماع على هذه المسألة
واستقراره بانتهاء العصر الذي انعقد فيه؛ وذلك لأن هذا الرأي منسوب إلى بعض الظاهرية وهؤلاء لم يوجدوا إلا بعد عصر الصحابة. على أن شيوخ هذا المذهب أنكروا صدور هذا الرأي عن أحد ممن ينتمون إليهم؛ فثبوت قولهم به إن محل نظر. وحتى على التسليم جدلاً بأن خلافهم ثابت وأنه قادح في هذا الإجماع؛ فأن قدحه لا يتناول منه إلا إفادة الآية لتقييد التعدد بالأربع؛ فهو يمس ناحية الحظر في التعدد لا ناحية الإباحة التي تظل بعد ذلك قدراً متفقاً على انعقاد الإجماع على دلالة الآية عليه، وهو ما يخالف رأي الباشا القائم على الحظر وعلى أن عبارة (مثنى وثلاث ورُباع) مفيدة بظاهرها الإباحة المطلقة للتعدد الجزاف وإنها - مع ذلك - ليس مقصوداً بها حل التعدد مطلقاً ولا تفيد هذا الحكم بحقيقتها، فرأيه إذن مخالف للقدر المتفق على انعقاد الإجماع عليه قطعاً في جميع العصور. . .
ولمعالي الباشا أيضاً في دفع هذا الاعتراض - فيما يتصل بالإجماع العلمي قصة عجيبة مسلسلة الحلقات قوامها أن فترة الإسلام الأولى منذ الهجرة حتى آخر الدولة الأموية كانت عهداً مليئاً بحروب المسلمين وفتوحاتهم (والجنود في كل أمة يدللون ويتجازون لهم عن كثير من الآثام في مقابل أنهم وهبوا حياتهم. . .) والشباب من جند المسلمين كانت تتنبه فيهم الغريزة الجنسية في فترات الفراغ والراحة بين المواقع الحربية ولا سبيل لهم إلى إجابة داعيها بغير التزوج لأن الزنا محرم (لكنهم كانوا) إذ أراد الواحد منهم بعد إحدى الوقائع أن يتزوج فوق من تزوجها بعد واقعة سابقة - كانوا يجدون قوله تعالى (فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة) مانعاً من التعدد. . . ولكنهم من جهة أخرى يعرفون أن آباءهم وأجدادهم المسلمين متزوجون قبل وفاة النبي (أو كانوا في حياته وقبل وفاتهم هم متزوجين) بعدة من النساء ليس عليهم (أو ما كان عليهم) إلا العدل بينهن بقدر الاستطاعة عملاً بقوله تعالى فلا تميلوا - الآية، فيتأففون لسلبهم ميزة التعدد لمجرد تأخرهم في الوجود عمن أبقيت لهم هذه الميزة وهؤلاء كانوا من القاعدين عن القتال لتقدم السن بهم، لذلك كان الشباب المجاهدون يرون أنفسهم أجدر بهذه الميزة ممن خصوا بها مما دفعهم (إلى التحلل من حكم الآية، والى تعديد النساء واغتفر أولوا الحل والعقد للجنود هذا التجاوز. . . وبديهي أن السياسة الشرعية ما كانت تأبى هذا الاغتفار لأن النفع الذي كان يحدث للدين الإسلامي من استرضاء الجندي وتحصينه من الزنا أكثر بكثير من إثم التعدد)
(استمر الجنود إذن على التعدد كما إخال، ولكنهم في ديانة الاقتصار على واحدة، فما العمل؟ لم يعدموا من يهون عليهم هذا الوضع بالحيل الشرعية) فتلمسها لهم المتلمسون في لفظ (رباع) في الآية وحللوا لهم الأربع وألزموهم الوقوف عندها وكان لهم في السبيات الجميلات اللاتي توزعهن ملكاً لهم ما يغني عن التزوج زيادة عن الأربع بالمهيرات الثقيلات النفقة من الحرائر (ولولا هذه الظروف المسهلة لما تنازل الجنود عن التعدد ولاستحلوه إلى ما فوق الأربع ولوجدوا من يعينهم على هذا. . .)
(ولقد يخيل إلي (هذا نص كلام معاليه) أن أولئك الجنود الذين استنوا تلك السنة قد شايعتهم عليها أهلوهم (المتخلفون عن القتال ممن كان سارياً عليهم حكم (فلا تميلوا) والذين كانوا - مع ذلك - بحاجة إلى (الاستزادة من الأزواج فوق الواحدة الباقية ممن كن عندهم وقت نزول هذه العبارة، فكان من مصلحة الجميع المبادرة إلى تحبيذ سنة الجنود إلى تعميمها والسياسة الشرعية أيضاً كانت ترى المصلحة في هذه المناصرة، وذك لأن الحرب تهلك الجنود وتقلل عدد المواطنين، ومن الواجب التغاضي عن العمل بالواحدة في حق المتخلفين (أي عن القتال) وإباحة تعديد زوجاتهم بزيادة النسل. . .)
(استمرت إذن عادة الأربع. . . ودامت بدوام الحروب والثورات في القرنين الأول والثاني) فلما جاء عصر التدوين في آخر الثاني وأوائل الثالث كانت قد صارت من التقاليد القديمة المستقرة المحببة إلى المسلمين والملائمة لغرائزهم الموروثة. . . فاضطر الفقهاء في كثير منالجهات إلى مسايرتها وتدوين الواقع من متابعة الناس لها وتساهلوا في تأويل سندها القرآني كما تساهل فيه المحاربون الأولون. . وما كان في استطاعتهم غير هذا خصوصاً وليست المسألة من العقائد التي تدعو إلى التحرج ونبذ المسايرات)
ذلك تلخيص القصة التي أوردها معاليه لما قصد دفعه من هذا الاعتراض وقد أدعمنا هذا التلخيص وبنصوص كلامه نفسها كيلا تتسرب إلى القراء أدنى شك في صحة نقلنا، وندع لحضراتهم بعد ذلك الحكم على قيمة هذا الاتهام الخطير الذي تناول بالتأثيم - على الأقل - جميع الصحابة والخلفاء الراشدين والتابعين وتابعيهم والأئمة المجتهدين وفقهاء المذاهب في جميع الأزمنة والعصور، إن لم يكن بارتكاب المحرم فبإقراره بالتغاضي والسكوت عنه طوراً وابتكار الحيل التأويلية للنصوص طوراً آخر، ثم ينشر ذلك على الناس أخيراً في
عهد التدوين على أنه حكم الله في هذا الموضوع متغافلين - طبعاً - عن أنهم مسؤولون أمام الله عما أحدثوه من هذا الحدث الخطير وهذه (الجريمة المستمرة) في الإسلام بالخرق لأحكامه وتقريرهم الحرام للناس على أنه حكم الله فيما أحل ليتبعوه فاتبعوه فعلاً - في رأي معال الباشا حتى يومنا هذا، ومتغافلين عن القاعدة التي قرروها استنباطاً من عمومات الشريعة وهي أن (درء المفاسد مقدم على جلب المصالح) وعما توعد به الله من يحكم بالهوى وبغير ما أنزله.
وإنما قلت فيما تقدم أن رأي الباشا يتنازل بالتأثيم جميع من ذكرت (على الأقل) لأن الوقائع الحربية لم تبدأ منذ عهد الصحابة بل بدأت في عهد النبي عليه السلام كما هو معروف. . .
وأخيراً أدع لحضرات القراء الحكم على رأي هذا سناده في تأويل القرآن بما يخالف المتفق عليه في تفسيره، ورد السنن المؤيدة لهذا التفسير، وتسفيه الإجماع المقرر لكل ذلكقولاً وعملاً. والله أحكم الحاكمين.
إبراهيم زكي الدين بدوي
المتخصص في الشريعة الإسلامية والقانون من جامعات
الأزهر وباريس وفؤاد
زواج تولستوي
للأستاذ محمود الخفيف
- 1 -
كان الطبيب بيرز يعيش وأسرته عيشة راضية في موسكو منذ أن تزوج سنة 1742 وهو في الرابعة والثلاثين من عمره بالآنسة ليوبوف إسلافين، وكانت فتاة في السادسة عشرة. . .
كان هذا الطبيب الألماني الأصل موفور الرزق بما كان يكسب من حرفته ومن وظيفته في بلاد القيصر، وإن لم يك من ذوي الثراء الواسع؛ وكان له ولأسرته مكانة اجتماعية مردها إلى منصبه الرسمي الذي حصل فيه على لقب النبل جزاءاً على خدماته في القصر الإمبراطوري. . .
وقد أنجبت الزوجة الفتية لبعلها حتى سنة 1862 ثلاث عشرة عاش منهم ثمانية، ومن هؤلاء ثلاث بنات كانت كبراهن واسمها إليزابيث في التاسعة عشرة، ويليها سوفيا وهي دونها بسنة، ثم تاتيانا وهي دون سوفيا بسنتين. . .
ولم تكن زوجة الطبيب بيرز إلا تلك البنت التي أحبها تولستوي وهو طفل، والتي أدت به الغيرة، ذات يوم، إلى أن يدفعها من شرفة فأصابها بالعرج زمناً غير قصير؛ لم تكن إلا إسلنيف الصغيرة التي عاشت في كنف أبيه، وقد ولدتها أمها لرجل يدعى الاسكندر إسلنيف عاشت معه بعد أن هجرت زوجها ولم تستطع أن تحصل منه على الطلاق.
وقد تعلم البنات على أيدي معلمين ومعلمات من ألمان وفرنسيين، وكان أبوهن يعدهن ليكسبن قوتهن بعملهن، ولذلك كن يتعلمن ليكن معلمات. . .
وقرأ البنات، وبخاصة سوفيا، كثيراً من الكتب. وكان لقصة ترجنيف الآباء والأبناء أثر عظيم في نفوسهن، وقد اشتد عطفهن على بطل القصة بازاروف.
وفي ربيع سنة 1861 نجحت إليزابيث وصوفيا في امتحان تبيح لهما الالتحاق بجامعة موسكو.
وكان البنات في غير أوقات الدرس يخطن ويطرزن وينظفن المنزل ويقمن على مختلف شؤونه، ويعلمن اخوتهن الصغار؛ ولم يكن يكدر عليهن صفو حياتهن إلا ما يكون أحياناً من
غضب أبيهن، ولكنهن لم يرين أمهن الصبور الهادئة كيف تحتال بكل حيلة لتفتأ غضبه. فأثر ذلك فيهن أثراً حميداً.
كانت إليزابيث كبرى البنات فتاة طويلة القامة، ساحرة العينين، في ملامحها كثير من الجد والسكون؛ وكانت هادة باردة الطبع، قليلة النشاط نوعاً ما؛ وكانت أعمال البيت تضايقها وتثير نفسها الاشمئزاز، ولعل مرد ذلك إلى كسلها والى ورغبتها في القراءة؛ فكثيراً ما كان يرى في يدها كتاب، لا تكاد تفرغ من عمل حتى تعود إليه. . .
وكانت تانيا صغراهن على نقيض إليزابيث، فتاة لعوبا مرحة لا تفتأ تثب هنا وهناك حتى لتملأ البيت كله بضحكها وصوتها الساحر الجميل. وكانت تسمى في البيت (الشيطانة الصغيرة)، وكان لها ولع بالموسيقى، وكانت متقدة العاطفة؛ تملأ قلبها حرارة الشباب، تحب صاحباتها فتستغرق في الحب، ولا تني تظهر لكل من يراها إعجاباً بنفسها وفرط إحساسها بذاتها.
وكانت وسطاهن صوفيا، أو سونيا كما كانت تسمى في البيت، وسطاً بين أختيها: تميل إلى تاتيانا وتحب مرحها وتنكر من إليزابيث سكونها وانطواءها على نفسها.
وكانت سونيا موفورة العافية، نشطة متوردة الوجنتين، براقة العينين؛ وكانت ذات جمال وفتنة وبخاصة عيناها الواسعتان الرماديتان. . .
ولئن كانت تحب صوفيا مرح أختها تاتيانا، إلا أنها كانت تحس أبداً أن هاجساً خفياً لا تدريه ولا تنكره يوحي إليها شيئاً من الحزن المبهم الذي يشوب مرحها دائماً، فلا تحس سروراً إلا أحست معه شيئاً من الحزن؛ كتبت لتاتيانا ذات مرة تقول (إن تلك الموهبة التي تحسدين عليها وهي الاستمتاع بكل شيء وبكل شخص بارزة فيك كل البروز، أما أنا فعلى عكس ذلك، إذ أجد ثمة شيئاً حزيناً في كل مرح وكل سعادة).
وكانت سونيا رحيمة بأخوتها، تؤدي عمل البيت في غير ضجر أو كلال؛ وكانت مولعة بالأدب والتصوير الموسيقي؛ وقد احتفظت منذ الحادية عشرة بدفتر تثبت فيه ملاحظاتها؛ وقد جاء فيه عن قراءتها قولها (لقد أحدث كل من (عهد الطفولة لتولستوي ودافيد كوبر فيلد لدكنزي في نفسي أعظم الأثر، ولقد بكيت حين فرغت من قراءة كوبر فيلد لأني سوف أفترق عن أولئك الأشخاص الذين باتوا أعزاء إلى قلبي).
وكان يغشى بيت بيرز كثير من الأضياف، وبخاصة في يومي السبت والأحد، وكانت بنات الطبيب زينة الدار، وكانت أمهن شديدة الرقابة عليهن تحدجهن حدج الملامة أمام الضيوف، أو تنصح لهن بكلماتها إذا خلت إليهن. . .
وأخذ البنات يغشين المجتمعات ويشهدن حفلات الرقص ويشاركن فيها، وقد ذهب لهن صيت في الجمال والظرف والرشاقة وحسن الذوق.
وكان أول من أعجب بسونيا معلمها الشاب، ولكنها كانت لا تكترث له، ولا تعبأ بتنهداته، وبينما كان يعينها على نقل مقعد إذ أمسك بيدها وقبلها، فصاحت به كيف تجرؤ على ذلك؟ ثم أرادت أن تريه مدى احتقارها إياه فمسحت بمنديلها موضع شفتيه من يدها؛ ثم إنها أخبرت أمها بما فعل فلم تعفها من اللوم قائلة (لم لا تسلكين مسلك أختك إليزابيث من الجد والاحتشام) وأبعد المعلم المسكين عن البيت. . .
وأعجب بها بعده ضابط شاب، وكان ينتمي إلى أسرة غنية يدعى بولفانوف، وأحست سونيا انجذاباً نحوه، ولما قبل يديها ذات مرة لم تغضب ولم تشمئز، ولكنها أحست النشوة في هيكلها كله وباتت تتوقع ةتحلم. . .
ولما هم بالرحيل صارحها برغبته في أن يتزوجها، وجعل لها الخيار أن تعدل عن رضائها إذا رضيت، وذلك إذا اضطرته ظروف الحياة أن يغيب عنها. . . وأخذ أهلها هذا على أنه بعض عبث الشباب. . .
كانت أول زيارة ذات بال من جانب تولستوي لأسرة بيرز سنة 1856، وقد أشرنا إلى هذه الزيارة من قبل، وقد أعدت المائدة له ولمن كان معه من الضيوف إليزابيث أوليزا كما كانت تدعىوأختها سونيا، وكانتا يومئذ طفلتين فلاعبهما تولستوي وضاحكهما وجلس بعد الطعام يقص عليهما القصص من سباستبول وما كان من أنباء الحرب، وكانتا قد قرأتا (عهد الطفولة) و (عهد الشباب) وسرهما ما جاء في الكتابين عن جدهما لأمهما وقد كان كما ذكرنا صديقاً لأبيه. . . وأحست البنتان سروراً عظيماً لجلوسهما بين يدي الكاتب النابه، وداخل تولستوي السرور مما أحس في الأسرة كلها من هناءة وأعجب بالبنتين وأختهما الصغيرة وما أشعنه حولهن من مسرة. . . ولقد أسرعت سونيا بعد رحيله إلى الكرسي الذي كان يجلس عليه فربطت رجله شريطاً لتعرفه. .
وفي سنة 1861 بعد عودته من رحلته الثانية إلى أوربا، زار تولستوي أسرة بيرز، فأعجبه ما رأى من تغير البنات فقد غدون آنسات يغشين المجتمعات ويأخذن زينتهن في كل مجتمع؛ وتهفو إليهن أفئدة الشباب. . .
وتحدث إلى ليزا حديثاً في الأدب والدين وأفاض في الكلام عن مدرسته، وأوحى إليها أن تكتب شيئاً عن محمد النبي العربي وعن مارتن لوثر؛ وجلس مع سونيا إلى البيان، ولعب معها الشطرنج؛ وعابث تانيا وضاحكها وقص عليها من قصصه. . .
ولم يصرفه اهتمامه بمدرسته عن أسرة بيرز فأكثر من زيارتها، ورفعت الكلفة بينه وبينهم فكان يأتي إليهم في أي وقت وكأنه واحد منهم، وألفه البنات وألفهن، وكن يشرن إليه بقولهن (الكونت) وألفه كذلك خدم الدار وبات يحبه ويأنس بلقائه كل من يراه. . .
وتحدث الناس أنه عما قريب سوف يخطب ليزا إلى أهلها، فقد قيل إنه ذكر لأخته مرة أنه تزوج يوماً ما فستكون عروسه من آل بيرز. . .
وبلغ حديث الناس آل بيرز فسرهم ذلك أبلغ السرور، ففي زعمهم أن ليزا خير من تصلح زوجة للكونت، وبات الأبوان يرتقبان الخطبة، وسمعت بذلك ليزا فزادت من عنايتها بمظهرها، وباتت تحلم أحلام الحب والسعادة وفي نفسها عن (الكونت) أنها قد شغفته حباً. . .
ولكن تولستوي كان لا يحس في نفسه أنه يحبها، فقد جاء في مذكراته في شهر مايو سنة 1861 قوله (قضيت يوماً بهيجاً عند آل بيرز، يجب ألا أقدم على زواج ليزا) وقال في سبتمبر (أن إليزابيث بيرز تغريني، ولكني لن أدع ذلك يحدث، فإن مجرد الإغراء الذي لا يصحبه أي شعور ما غير مجد).
وأحس أن سونيا تزداد كل يوم قرباً إلى قلبه، كما كانت تزداد حسناً، وأحست الفتاة زيادة اهتمامه بها، وكان صاحبها بوليفانوف قد غاب عنها غيبة تشبه القطيعة، وكانت تتوجد أحياناً، حتى لتجهش إذا خلت إلى نفسها. ولما رأت إقبال تولستوي عليها أحست مع حسرتها على صاحبها وحيرتها من مسلك الكونت، وباتت تسأل نفسها: أهو حقاً يحبها؟ ثم لا تلبث أن ترى أنها واهمة فتذكر بوليفانوف، ولكنها لا تكاد تلقى تولستوي حتى تملأ نفسها الحيرة.
وعرج تولستوي على موسكو في صيف سنة 1862 وهو في طريقه إلى سمارا، فزار آل بيرز؛ وكانت سونيا يومئذ تميل بخيالها إلى تولستوي، ولا تكاد تذكر بوليفانوف، وكان يحس الكونت نحوها أن قد أخذ يمس قلبه الحب.
ولما قص تولستوي على الأسرة كيف اضطر إلى بيع قصته قبل أن يتمها أو يهذبها ليؤدي بثمنها دينه بعد خسارة في الميسر، لم تقو سونيا على حبس دموعها رثاء له وتألماً من مسلكه. ولما رحل عنهم كانت سونيا حزينة تطيل النظر صلواتها فدنت منها (الشيطانة الصغيرة) تاتيانا وسألتها في خبث (أتحبين الكونت يا سونيا؟) فأجابت أختها في دهشة (لست أدري. . .)
ولما عاد تولستوي من سمارا إلى قريته والغضب ملء نفسه مما فعل الشرطة بداره ومدرسته، أنساه غضبه زيارة من زوجة بيرز ومعها بناتها في أجمل ملابسهن الصيفية لأخته ماري في ياسنايا بوليانا.
وشاع في نفسه السرور بهذه الزيارة، وكانت تراه عمته تاتيانا وأخته ماري وكأنه من فرط مرحه قد عاد إلى سن العشرين، وباتتا ترتقبان أن يطلب يد ليزا.
وبلغ من حفاوة تولستوي بالفتيات أن عمل مع الخدم في إعداد سرر نومهن بنفسه، وكن في الحجرة التي جعلت لهن يؤدين بعض ما يتطلبه هذا الإعداد وكم ضحكن في مرح وغيظة والتقت عينا تولستوي بعيني سونيا، وكانت بينهما نظرة طويلة وكأنه لم يرها إلا في هذه اللحظة فإن شيئاً يحسه ولا يدري كنهه يسري في هيكله كله، وأن عينيها لتحدثانه حديثاً يفهمه حتى كأنه الهمس، وأن عينيه كذلك لتحدثانها بكل ما في نفسه. .
وضرجت الحمرة وجهها فأشردت نظرتها ولكن بعد أن نفذت إلى قلبه.
وزاره في اليوم التالي صديقه فت وبعض أصحابه فخرجوا مع البنات إلى الغابة قضوا نهارهم فيمرح كان البنات مبعثه كما كن مبعث ما شاع حولهن من جمال وفتنة.
ولما رحلن إلى إفتسي حيث أرادت أمهن أن تزور أباها في ضيعة التي ورثها من أمها في هذه القرية التي كانت تبعد نحر أربعين ميلاً عن ياسنايا، لم يطق تولستوي الوحشة بعدهن، فلحق بهن على جواد أبيض ونظرن فإذا به بينهن.
وكان القصر في افتسي حافلاً بالضيوف، وكان عدد السيدات والآنسات بينهن بنات بيرز
يتهيأن للرقص، ولكن تولستوي كان في شغل بما توسوس به نفسه عما يدور حوله، وجلس يحدث رب الدار حديثاً كانت تكدره خلجات وجدانه، فأن كل شيء من مراح الشباب وزياطه يذكره بشبابه الذي ينطوي وروحه التي تخمد؛ وإنه ليحس وهو يعد في الرابعة والثلاثين كأن بينه وبين الشباب أمداً بعيداً.
وجلس غير بعيد يترقب ويغالب ما في نفسه من حسرة، وجاءته سونيا تمشي على استحياء وقد حان وقت الرقص فقالت: ألا ترقص؟ فأجابها وهو يخفي همه بابتسامة: إني اليوم أكبر سناً من أن أفعل ذلك. .
وقد جعل باله في تلك الليلة إلى سونيا، يدور بعينيه إلى حيث تكون، وكانت سونيا تقابل نظراته بنظراتها وكأنما تقول له إنها تدرك ما في نفسه، وكان يحمر وجهها في صورة ملحوظة كلما دنت منه.
ولحظت ذلك عينا ليزا فأفلت منها زمام أعصابها وقالت لأختها الصغرى، بعد الحفلة وهي تجهش: أن سونيا لتحاول أن تأخذ مني الكونت. . ألم تري ذلك؟ إن مسلكها وان عينيها وإن رغبتها في أن تنفرد به، كل أولئك الآن يبدو جلياً. . .
(البقية في العدد القادم)
محمود الخفيف
سلافان
محنة الفردية في الأدب المعاصر
للأستاذ شكري محمد عياد
لا أعرف كاتباً صور محنة الفردية في هذا العصر كما صورها جورج ديهامل. ولك أن تقول: محنة الفردية، أو محنة الفرد حسبما يحلو لك من رغبة في التجريد الفلسفي، أو التخصيص الإنساني. . وأنت مصيب على الحالين، فهي محنة يعانيها الأفراد المثقفون اليوم، لا في فرنسا وحدها بل في كل بلد مسته الحضارة الصناعية والإنتاج بالجملة. ومصدر هذه المحنة إحساس هؤلاء المثقفين ذوي الذكاء اللامع أو الإحساس المرهف أو الخيال الوثاب بأن هذا المجتمع الحديث لم يعد محتاجاً إلى ذكائهم اللامع ولا إلى إحساسهم المرهف ولا إلى خيالهم الوثاب، بل لعله ينظر إلى هذه الأمور التي كانت تعدها الإنسانية من قبل ميزات نظرة الشك والارتياب لأنها أصبحت تعد في دنيا العمل عوائق ومعطلات. وهم يلاقون من ذلك عناء غير قليل، حتى ليضطرون إلى إحدى اثنتين: إما أن ينسوا أنهم أفراد، ويلقوا بأنفسهم إلقاء في جيش الساخطين على هذا المجتمع، المعدين العدة لتغييره وفق ما يرونه الحق والصواب. وهم على الحالين لا يستطيعون الاحتفاظ بفرديتهم، ولا تحقيق ذواتهم، وقلما ينجون من هذا القلق الذي ينوشهم من كل جانب، وقلما يصلون إلى حالة من السلام النفسي الذي ينشدونه. وأكثرهم ينطوون على أنفسهم، ويختبرون إحساساتهم، ويطعمون أحلامهم وآلامهم، وربما وجدوا في الألم لذة أكبرن لأنه لا يلوح لهم بأشياء مستحيلة، ولا يعرضهم لخيبة قاسية.
هذه الفرقة من الناس، إذاً، ظاهرة بارزة في الحياة الإنسانية لعصرنا الحاضر، يعني بها علماء الاجتماع، وعلماء النفس، والفلاسفة، والأخلاقيون، والأدباء، والفنانون. ولعل مما يزيد عنايتهم بها أن هذا الفريق من الناس هم الجمهور الأكبر من قراء الأدب والفلسفة، وأهل الفكر، ومتذوقي الفن. فكأن رجال الفكر والفن إذ يعالجون مشاكلهم هم أنفسهم في نطاق أوسع، وكأن هذا الجمهور إذ يطالع ما يكتبه له الأدباء والمفكرون إنما يطلع على مشاكله الخاصة، وما يقدمون لها من حلول.
كتب جورج ديهامل سلسلة من خمس قصص تدور كلها حول محنة الفردية في العصر
الحديث، أي حول التنافر بين الفرد ونفسه، وبين الفرد ومجتمعه. وابتدع في هذه شخصية (سلافان)، وهي شخصية لا تقل حياة ولا صدقاً ولا عمقاً عن شخصية (هملت) أو (دون كيشوت). وهي شخصية ذلك المثقف المرهف الحس الذي يلفظه المجتمع الحاضر، وتخنقه أوضاع الحياة التافهة العادية. على أن ديهامل لا يتخذ بطله من أولئك المثقفين ذوي الثقافة العالية المنظمة، ولا من أولئك المفكرين السحابيين الذين يعيشون في أبراج عاجية، وإنما هو رجل من عامة الشعب، لم ينل ما اصطلح الناس على تسميته بالثقافة العالية ولا الثقافة الثانوية، ولكنه قرأ كثيراً وفكر كثيراً. . يقول لصديق:(إنني فقير، وقد كنت فقيراً دائماً، فدرست كما يدرس الفقراء، أعني أنني درست دراسة فقيرة. وقد آلمني ذلك وبخاصة في السن التي يتألم فيها المرء لمثل هذه الأمور. ثم أخذت أثقف نفسي بنفسي، وعلى قدر استطاعتي، فأنا أعلم اليوم أكثر مما يعلمه غالبية البورجوازيين في مثل سني. ولكن الراجح أني لم أتعلم هذه الأشياء بطريقة منظمة، كما تقول. ومن ثم لا يعدني الناس مثقفاً، وأصدقك القول إنني مستني العدوى من أفكار الناس عني، فأصبحت أشك أنا أيضاً في ثقافتي. إنها لثقافة طيبة، لا تخلو من رسوخ وغنى، ولكنها ليست ثقافة (أصيلة). لا ضير! إنني مثابر على القراءة.
وهو يقضي سحابة نهاره في بعض تلك المكاتب التي تؤوي عشرات أو مئات من طبقته، يؤدون أعمالاً تافهة. وهو مشغوف بالموسيقى يعالج النفخ بالناي، ولكنه يقول عن نفسه:(والأمر المؤلم أنني لنقص الدربة والدراية والدرس أوقع بطريقة عاجزة صبيانية قطعاً أحسها إحساساً طيباً؛ إذ ينبغي أن أقول - لأكون عادلاً في الحكم على نفسي - إني مشغوف بالموسيقى، وإني أدين لها بأنبل مشاعري. ولكني حين أجاهد آلتي لا يبدو علي أنني أفهم شيئاً مما أرقعه، على حين أن أورين مثلاً - وهو ينفخ في الناي أيضاً - أورين هذا الذي لا يفهم شيئاً من الموسيقى، ولكن له أصابع متمرنة، يخيل إلي من يسمعه أنه مشبوب الوجدان).
وقد تسأل: لماذا جعل ديهامل بطله مثقفاً عامياً وفناناً عاجزاًن ولم يختره رجلاً ممتازاً في ثقافته أو فنه؟ ألا يكون في هذه الصورة الأخيرة أصدق تمثيلاً لمشكلة المثقفين في هذا العصر؟ ولكنني أذكرك بأمرين اثنين: أولهما أن ديهامل لا يعالج مشكلة المثقفين الممتازين
وحدهم، ولا مشكلة هؤلاء المثقفين الممتازين بوجه خاص، بل مشكلة كل من يتغلب فيهم جانبا الفكر والوجدان على جانب العمل، وطبيعي ألا يبلغ هؤلاء جميعاً رتبة العبقرية. والأمر الثاني أن القصة والأدب على العموم اتجها وجهة شعبية منذ ظهر المذهب الواقعي في الأدب واتخذ موضوعاته من الحياة العادية، حياة الناس العاديين. لم يبق الأدب تصويراً لحياة الأبطال وصراعهم، بل أخذ أشخاصه من زحمة الحياة العادية التي تعج بصنوف المآسي والمساخر. ولعل هذا هو الأمر الخالد للمذهب الواقعي في التراث الأدبي الإنساني، فما أظنه قد اصبح في استطاعة الأدب في حاضره أو مستقبله أن يترفع عن مشاكل جماهير الناس مهما تكن طبقتهم أو ثقافتهم أو نحلتهم، ولا أن ينتزع العواطف الإنسانية من مجالها الطبيعي، ليضعها في إطار من العظمة المصنوعة. وقد ظهر المذهب الطبيعي وعميده زولا بعد المذهب الواقعين فزاد هذا الاتجاه الأدب الفرنسي الخالد، وهو في الوقت ذاته دقيق الإحساس بالمشكلة التي يعالجها حين يختار بطله نكرة من النكرات، أو كما يقول هذا البطل عن نفسه:
(رجلاً لا يختلف في شيء عما ألفه الناس، رجلا يشبه كل الرجال إلى حد مخيف!)
ظهرت قصتنا - وهي الأولى من مجموعة سلافان - سنة 1920، ثم تلاها (رجلان) سنة 1924، و (يوميات سلافان) سنة 1926، و (نادي ليونيه) 1929، وأخيراً (كما هو) ' سنة 1932. حلل ديهامل في القصة الأولى عناصر التناقض بين الفرد ومجتمعه، وبين واقع الفرد وآماله، وبين أفكاره وأعماله. صور ذلك كله منعكساً على ذهن سلافان فهو لا يقص أحداثاً، بل أفكاراً بلغت من قوتها وتمكنها مبلغ الأحداث؛ فهي أحداث بالنسبة لصاحبها، وهي مغامرات حقهتمسك أنفاسك وأنت تقرؤها. . . أحداث هذه القصة لا تعدو أن سلافان يفصل من عمله على أثر حادثة يعدها الناس حمقاً منه وشذوذاً، ويراها هو عملاً ضرورياً يرد إليه ثقته بأنه إنسان يعيش بين أناس. وليس بعد ذلك إلا البطالة والتشرد والفاقة، وأحلام الحرمان، وأوهام القلب الوحيد.
وفي القصة التالية (رجلان) نرى سلافان الصديق. . . نراه في ضوء تلك الصلة النفسية العميقة التي تكشف من أسرار النفوس ما لا تكشفه الأفكارولا الأحلام ولا الأوهام. وصديقه رجل لا يشبهه في شيء من الأشياء، إذا كان سلافان مثال الرجل الذي لا ينسجم فكره
وعمله فإدوار مثال الرجل الذي يقيس فكره على قدر عمله. وإذا كان سلافان مثال الرجل الساخط على وجوده فإدوار مثال الرجل الراضي عن وجوده. وإذا كان سلافان مثال الرجل الذي يزداد انحداراً كل يوم، فإدوار مثال الرجل الناجح الذي يزداد كل يوم صعوداً. إدوار هو على الجملة صورة حية للمجتمع الحديث. هو الرجل الذي تخضع حياته لنظام لا يحيد أو لا يكاد يحيد. هو الرجل الذي يترجم جميع أفكاره إلى أعمال، وجميع دوافعه ونوازعه إلى مصالح. هو الرجل الذي تنسجم رغباته مع واقع الحياة، حتى لتحار أيهما يستجيب للآخر. . . أهو يكيف وجوده طبقاً لواقع حياته، أم هي أحداث الحياة تنساق مع رغباته؟ يصرف سلافان من مطعم كانا يترددان عليه وكأنه يحس فيه ضعفاً وعجزاً عن المضي في تيار الحياة الزاخر، فيود لو يسنده بذراعه القوية؛ ليزداد التذاذاً بقوته. . . ويقبل سلافان - بعد تردد - هذه اليد الممدودة إليه، ويبذل له الصديق من جاهه ومالهن ويقبل سلافان هذه الهبات أيضاً، ولكن على حساب كرامته وكبريائه، حتى إذا ضاق صدره بعد سنين طوال من هذه الصداقة غير المتكافئة، ثار على ما ألقى فيه من عبودية، وفارق صاحبه فراقاً غير جميل.
والقصص الثلاث الأخيرة تصور صراع سلافان لتحقيق فرديته، فإنه لم يحدد بعد مطلبه من الحياة، وإنما كانت نفسه أشبه بصندوق رنان، كل عمله أنه يضخم الذبذبات التي تصل إليه من الخارج: ولكنه قد بدأ يحس نزوعاً إلى إكمال نفسه، فصاحبه يقول له قبل أن يفارقه:(ما بك؟) فيجيب: (بي كل ما ليس بي. . . أشياء لا تستطيع أن تمنحني إياها يا إدوار. . . السلام. السعادة. روح خالدة. الله.)
(البقية في العدد القادم)
شكري محمد عباد
نظرات في الأدب العراقي
للأديب غائب طعمة فرمان
هل هناك أدب عراقي؟
سؤال يسأله كثيرون زلا يظفرون له بجواب مقنع، ولا برأي صائب صحيح.
أما الشيوخ فيزمون بشفاههم احتقاراً وسخرية، ويهزون رؤوسهم ضحكاً من السائل واستخفافاً بالسؤال، فيكفرون بالواقع وينكرون على العراق أدبه، وعلى الشباب يقظتهن وعلى الجيل الجديد رسالته؛ ثم يلقون عليك المواعظ والأمثال ناعين لك الأدب ساخطين على شياطينه الجديدة.
أما الشبان فيرفعون رؤوسهم افتخاراً، ويقرون بوجود أدب عراقي يواكب الحضارة، ويتفق مع روح العصر الحاضر، ويستجيب لضرورات الحياة الحاضرة، وينظر إلى الوجود كينبوع يستمد منه الأدب إلهامهن ويقتطف منه زهرات وحيه.
أما الأولون فمغالون، وأما الآخرون فمغرورون.
والأدب لن يزول عن الوجود ما دامت هناك حياة، وما دام هناك شعور بالحياة. فالوجود العامر بالشعور، المكلل بإكليل الحياة، المتنعم بنعيم الإحساس لم يفقد الأدب ولن يفقده أبد الآبدين.
لأن الأدب - في أبسط مدلولاته - مجموعات تجارب حية يسجلها الفنان في ألفاظ، ويرمز لها برموز ليستدل بها عن رصيدها الكامن من الأحاسيس والمشاعر. . . وهنا يتحدد وجود الحياة، ويترتب عليه إنشاء الفن.
وأخطل الرأي أن نتصور انعدام أدب أمة وهي ما زالت تتنعم بالحياة.
لأنك في ذلك تنكر وجودها، وتسلبها نعمة الحياة، أو تجعلها في رتبة الجماد سواء بسواء.
فلا بد من وجود أدب إذا وجدت أمة، لأنه لا بد من وجود شعور إذا وجدت حياة. والأشياء المحيطة بنا، الملازمة لنا، نتأثر بها، ونشعر بوجودها أو بمكان وجودها في مخيلتنا الواعية؛ ولهذا كله كان الأدب قديم المولد قدم الحياة، واكب الإنسانية في تاريخها، وصاحبها في نضالها، ورسم لها صورة الكفاح مع الطبيعة.
وبعض الناس لا يفرق بين وجود الأدب وازدهاره واكتمال أساليبه الفنية؛ فهم إذ قالوا: إن
العراق ليس له أدب عنوا بذلك أنه لا يملك أدباً فنياً مزدهراً.
والحقيقة أن العراق - ككل أمة حية - لها أدب، ولكنه لم يكتمل بعد أساليبه الفنية، وأن الرواد الأولين عند ابتداء القرن العشرين ليذكرون بالإجلال والاحترام لا لأنهم ارتفعوا بالأدب العراقي إلى منزلته العليا، ولا لأنهم أصابوا حظاً عظيماً من التجديد، بل لأنهم عبروا عن الجيل الناشئ، وواكبوا الشعب العراقي في قصة نضاله، وسجلوا آثاره وعواطفه وانفعالاته. ولم يتأخروا عن قافلة الحرية السائرة.
والعراق قريب عهد بنور الحضارة، وقريب عهد بنور الحرية وقريب عهد بنصر النضال والكفاح في سبيل السيادة الوطنية، والاستقلال الذاتي. وما زالت صور الاحتلال العثماني البغيض وتعسفه المؤلم، وأصداء الثورةالعراقية ترن في الآذان، ولا زالت قصة الكفاح لنيل الحقوق كاملة، والاستمتاع بالحياة حرة، والإنعتاق من القيود والأصفاد قصة الشعب العراقي المتكررة الباقية المعادة.
والعراق بلد الثورات والانتفاضات، ومهد الحرية الفكرية في عصر الإسلام الذهبي؛ والعراقي عابد الحرية والاستقلال أبداً لأنه مجبول على الاستمتاع بها، والتضحية لأجلها. وتأريخ العراق سلسلة من الثورات الداخلية والخارجية، وسلسلة من التمرد والتحرر من الوضع القائم. وقصة الشكاية قصة الشعب العراقي التي ستبقى خالدة سرمدية، يشتكي من السلطان، ويشتكي من الطبيعة، ويشتكي من الحياة، ويشتكي من الناس جميعا. ولن تنهى هذه الشكايات لأنها لازمة من لوازم طبعه أو التأمين على حياته.
فمنذ عهد مغرق في القدم كان العراق بركاناً للثورات، وناراً مضطرمة الأوار، لا تخمد نار ثورة إلا لتقوم ثورة أخرى؛ ففي العهد الإسلامي لم يهدأ في حقبة من الحقب ولم ينل منه الاستقرار أي منال. والخلفاء العباسيون لم يستطيعوا على رغم قوتهم ونفوذهم، وامتداد سلطانهم أن يهيمنوا على الوضع، ويسكتوا لهيب النار، فما فتأت الثورات تتوالى، والتمردات تتعاقب، وتراخى الزمن يزيدها عظمة واتساعاً.
والحال كانت أعظم اضطراباً، وأشد نكاية، وأكثر تلهباً عندما زال نفوذ العباسيين، واضطر حبل الأمن، وتناهبت الإمبراطورية الإسلامية أمارات، ودولة نشأت في بقع مختلفة، واشتد النزاع فيها على السيادة السياسية والفكرية، وطال الصراع ولم ينته إلا باجتياح العثمانيين
الإمبراطورية المقطعة الأوصال الكثيرة الاضطراب.
والعهد العثماني مظلم كئيب، سارت فيه المأساة بخفوت وصمت، وامتلأت النفوس غيظاً، والقلوب حقداً على الترك المحتلين، ومقتاً لهم، وحباً للتخلص من تعسفهم وظلمهم. . . ولم يسكت العراق عما يجول في ضميره، وعما يضطرم في قلبه من نوازع الحرية، ودوافع الثورة وما أنفك يطالب بالإصلاح ويعلن سخطه على الولاة الظالمين.
وفي العهد الوطني لم يسكت العراقيون، وظلوا يطالبون بالحقوق، ويلهجون بالاستقلال التام، ويتحرقون للعدالة الاجتماعية والديمقراطية الصادقة. والحكومات تتوالى والوزارات تتبع الواحدة الأخرى، والشعب دائب على إعلان السخط. .
فما سبب كل ذلك؟
ما علة التمرد الطويل، والتقلب الدائم، والسخط المستمر؟
من الشائع المفهوم أن للبيئة الأثر الأكبر في تكوين مزاج الفرد، وتلوين نفسه وتمييز طباعه.
فلننظر إلى الطبيعة العراقية لنستشف من خلالها طبائع العراقيين، وأمزجتهم الخاصة، وطابعهم المميز لهم.
الجغرافيون يقولون: أن طبيعة العراق متقلبة لا تثبت على حال، ثائرة لا تستقر على منوال. . . فهو بلد قاري متغير الطقس تغيراً سريعاً ملحوظاً: قارس الشتاء، حاد القيظ، وشمال العراق متوج بجبال عالية تكللها الثلوج، وجنوبه مكتنف بصحراء واسعة جافة، حمراء الرمال، كثيرة الزوابع فكثيراً ما تهب الرياح حاملة معها رمالاً مزعجة حمراء.
في هذا الجو الغاضب المتقلب يعيش العراقي. فماذا يكون مزاجه وطبائعه؟
فلا بد من أن يتقلب كما يتقلب جوه، ويتلون كما تتلون بيئته، ويثور كما تثور صحراؤه وتصخب.
واصطبغ الأدب العراقي الصميم - منذ عصور ازدهاره - بصبغة التمرد على الحياة، والضجر من الطبيعة، والتأفف من الناس. وهذا ما نقرأه في شعر العراقيين الذين يمثلون الطبيعة العراقية، ويستجيبون لوحي البيئة والمحيط. . . وتلك الصرخات الداوية في الشعر العراقي العباسي ما هي إلا استجابة للبيئة. والشريف الرضي والمتنبي جبلان شامخان
يبرزان في محيط الأدب العربي واضحي الدلالة، مميزي الأعلام.
ولولا الأثر الذي تركه تمازج العرب بالأمم الأجنبية، وتهافت الأجانب على العراق، وتأثير السياسة العباسية لظهر الأثر، أكثر وضوحا، وأبرز سمات.
ووسم الأدب العراقي بالسخط كما وسم بالثورة، وفقد الرجل العراقي إيمانه الثابت الراسخ بما تسن من نظم، وبما تقوم من حكومات. . . لأن مسرحه المتقلب أفقده الإيمان بالبقاء الدائم في كل ما يرى من الأشياء التي تواضع الناس عليها.
وهذه العوامل مضافاً إليها أثر الإخفاق الدائم في أغلب ما يحاول من أمور، في أعم ما يؤمن به من دساتير وحكومات - خلقت روح الكآبة المرة في نفسه، وأشاعت الألم فيه. . . والإخفاق الدائم يبلغ الفرد إلى الانطواء على نفسهن وإلى الكآبة القاتمة ويضفي روحاً تشاؤمياً خفيفاً على آرائه وعواطفه. . . فهذا لم نشهد في تاريخ العراق الطويل رجلاً نستطيع أن نضمه إلى دعاة التفاؤل، والمؤمنين بسير البشرية إلى الحياة السعيدة، وبلوغها مراتب الاطمئنان والأمان.
وللأسباب ذاتها لم يخلق في العراق فيلسوف يحسب له حسابه، ويشمخ مع الشوامخ من الفلاسفة العالميين.
والأدب الشعبي العراقي يرسم لك النفس العراقية التي صورتها لك تصويراً صادقاً تاماً.
وتلك الخطوط والملامح تعين لك الأدب العراقي وتجسمه تجسيماً واضحاً. . . ولا مناص من وجودها في الأدب العراقي الصادق.
وإذا استطاع العصر الحاضر أن يضع حداً لهذه الملامح والخطوط ويخرج لنا أدباً يميل إلى التحرر من عبودية هذه السمات فالفضل في ذلك لنور الحضارة القائمة على تقارب الأمزجة، وترابط الأمم.
فلم يعد كل قطر مهما بلغ من عزلته وانطوائه على نفسه، وحرصه على البقاء في حدود ذاتيته مستطيعاً أن يقاوم تيار الحياة الجارف القائم على الإخاء والتعاون.
ولكن حذار من أن نفهم من ذلك أن ننسى أنفسنا ونبتر قوميتنا، ونتجنى على تاريخنا ومن الخطأ أن يظن أن القومية والأخذ بأسباب الحضارة الحاضرة طرفاً نقيض. . . ومهما يكن من طغيان التيار الأممي فإن ملامح القومية لا تزول ولن تزول أبد الدهر. . . ونحن
العرب لا نزال نعتز بقوميتنا، مقدسين لتاريخنا.
والسمات والملامح التي رسمتها لن تزول كلها أبداً.
وهي قد عنيت لنا الأدب العراقي وصورته، وبينت حدوده وقسماته، وعلى ضوئها يمكن أن ندرس من نحب دراسته من شعراء العصر الجديد لنرى مصداق ما كتبت.
ويجب أن أنبه إلى ملاحظة واحدة قبل بدء الدراسة وهي: أن تلك العوامل السالفة الذكر لم تعط مجالاً لظهور الأدب الذاتي ولم نر إلا بعض الأشباح الهزيلة تظهر شفافة ضعيفة ثم تختفي. .
لأن الحياة الصاخبة القاتمة الممتلئة بالنشاط والحيوية لا تدع للأدب أن ينشئ أدباً ذاتياً بعيداً عن واقع الحياة ودوافعها، بعيداً عن أحاسيس الجمهور وشعوره.
غائب طعمة قرمان
كلية الآداب - جامعة فؤاد الأول
من ديوان (الشرق)
موت فنان
للأستاذ حسن كامل الصيرفي
رثاء فنان مسجى على فراش الموت وقد سكن كل شيء في الليل إلا من نحيب الباكين من حوله وقد حمل الأثير على أجنحته صدى صوته في أغنية من أغنياته
غناؤك العذْبُ الظلامْ
…
يرنُّ في مِسمع الزَّمن
وأنت في قبضة الحِمامْ
…
كالحُلم في قبضة الوَسنْ
أَأَنتَ يا صامتاً تؤوبْ
…
أيامُه للمَدى البعيدْ
الصادحُ المرقصُ القلوب
…
الساحرُ الفاتنُ النشيدْ؟!
أَأَنت. . .!؟ لا. . . أَنت غيرُه
…
فأين لي شدوُكَ الجميلْ؟
قد فارَق العُشَّ طيرُهُ
…
وهام كالحائر الضَّلُول
كم خيم الحُزنُ في رحابكْ
…
ونام في ساحك الرنينْ
تمزَّقُ الليلَ بانتحابكْ
…
وتُرعِشُ النجمَ بالأنين!
يا مُغرقَ الكون في الأغاني
…
الكونَ يشتاقُ للهَزارْ
غرقتَ في لُجَّة الزمان
…
فهل تعمقت للقرارْ؟
هجرتَ ألحانك العِذاب
…
وعِشتَ في صمتك الحزين
تجرَّع اليأسَ والعَذابْ
…
وتشربُ السُّقمَ والمنون
أأنت من حرَّك النفوس
…
بصوته الساحر لرؤوم؟!
أأنت من أرقص الكؤوس
…
أأنت من أرَّق النجومْ؟!
أأنت. . .؟! لا. . . أنت غيرُه
…
فأين لي صوتُك الحنون؟
قد بانَ لِلَّيل فجرُه
…
وأنت مُستلم الجفون!
أصمتك الموحشُ الكئيب
…
يا هاتف الأمس سُخريَةْ
بعالَمٍ مُغرم يذُوبْ
…
على ترانيم أُغنيهْ؟
قد غالك السُّقم واستبدْ
…
وأنت في ميْعَة الشَّبابْ
سلمتَ قيثارة الأبدْ
…
لجاهل لحنُه اضطراب
يطوف في ساحك القدر
…
مُجعَّدَ الجبهة اكتئابا
يضمُّ من كوبك الزَّهَرْ
…
ويَحطمُ الفنَّ والشَّبابا
قد خفَّ في صمتك المنون
…
برُوحك الحيَّة الصَّدى
فمتَّ في الليل. . والسكون
…
يكفكفُ الطلَّ والندى
غناؤك العذبُ في الظلام
…
يرنُّ في مسمع الزَّمن
وأنت في قبضة الحِمام
…
كالحُلم في قبضة الوَسنْ
حسن كامل الصيرفي
اذكريني.
. .
للأستاذ عبد القادر القط
افترقنا. . فاذكري الماضي ولا تنسَيْ صداهْ
والمحي في كل محزون خيالاً من رؤاه
وإذا طالعت في دنياك ألوان الحياه
من شقاء وصفاء ومهانات وجاه
فأطيلي وقفةَ الآسي على النُّبل المهين
وصُبابات أمانيَّ وجاه. . . واذكريني
وإذا رفرفَ عصفورٌ بأجواز السحتبْ
مرِحَ الخفقةِ واللفتة صدّاحَ الإياب
وتدلى. . فرأى في العش أظفاره الخراب
ورأى أفراخهُ الزُّغب دماءً في التراب
فاذْرِ في من دمعكِ الغالي على الطير الطعين
ونفوس شفَّها ذلُّ التراب. . واذكريني
وإذا ألقت بأيديها إلى القيظ الظلال
واستباحت لفحةُ الشمس محاريب الجمال
ورنا الزهرُ إلى النور بأجفان ثقال
وتمشت في رحاب الكون أنفاسُ الكلال
فأحسَّى اللفحَ والضيقَ مع الظلَّ السجين
وانشُدي الرَّوْحَ لأبناء الكلالْ. . واذكريني
وإذ أتتْ على صمت من الليل الرياح
وتوارت في دياجي السحب آفاقُ الصباح
وأفاق الطير من نجواه مذعور الجناح
وصحت من حولك الدنيا على وخز الجراح
فدعي روحك تنسابُ مع اللحن الحزين
وامنحي الرحمةَ أنضاء الجراح. . . واذكريني
وإذا ما خفق الشجو على سُمر الغصون
باكيات تاجها الأخضرَ في كفّ المنون
وتبدَّى الأفقُ الشاحبُ مقرورَ الجبين
وَطفت في خلَد الإعياء أحزان السنين
فابعثي في نفسك الممراح مطويَّ الشجون
وجراحات أَفرْتها السنين. . . واذكريني
عبد القادر القط
الأدب والفن في أسبوع
تقديم الفائزين في مسابقة المجمع اللغوي:
أتينا في العدد الماضي على نتيجة المسابقات الأدبية التي احتفل مجمع فؤاد الأول للغة العربية بإعلانها في دار الجمعية الجغرافية الملكية، وقد حملنا التهيؤ للطبع على الاقتصار بذكر أسماء الفائزين وجوائزهم، ونذكر الآن أهم ما كان في هذا الحفل وخاصة تقديم الجوائز.
ألقى الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني كلمة عن الشعر قال فيها أن الشعراء الذين يظهرون في الأمم أكثرهم ينسون، لأن الشعر كسائر الفنون، لا يخلد فيه إلا الأعلون أو الذين يقول فيكتور هيجو أن حرارة نفوسهم تبلغ درجة الغليان التي ما فوقها درجة. وما أكثر من قالوا الشعر كل أمة وكل جيل من أجيالها، وما أقل من بقيت أسماؤهم مذكورة، لأن الأوساط لا يحصون وذاكرة الدنيا أضعف وأضيق من أن تعي غير الأفذاذ، والوسط كالرديء في ميزانها أو حسابها، كلاهما يسقط من الحساب أو يميل في الميزان.
ولقد تلقى مجمعنا في هذه المسابقة أكثر من ثلاثين ديواناً كلها من الوسط، فكان بين أمرين، لن يتشبث بالمثل الأعلى وذلك عزيز، أو أن يؤثر التشجيع وسبيله أهدى، فآثره، ونطر في الشعر الذي عرض عليه متسامحاً، واستخلص أربعة دواوين قسم الجوائز بين أصحابها، لتعذر المفاضلة الصريحة مع التقارب الشديد، ومن هذه الدواوين ما يجري على النهج القديم أو التقليدي، وما يؤثر نهجاً جديداً، وما يتبع القديم حيناً وينحرف عنه حيناً، ولكن فيها كلها اجتهاداً واضحاً وإخلاصاً بيناً، وثير مما تركت إجازته ليس دون هذه كثيراً، ولكنه كان لا بد من مقياس للمفاضلة، والمقياس هو وضوح الشاعرية وحسن الأداء ووفاؤه أو على الأقل سلامته من الشوائب.
وهكذا كاد الأستاذ المازني يخلع أصحابه من الشعر (مع الفارق بينه وبين أبي موسى الأشعري) كما خلع نفسه من قبل.
وقد قدم الأستاذ الشيخ عبد الوهاب خلاف الفائز في البحث الأدبي (مهيار الديلمي وشعره) فأفاض في الثناء عليه وفي بيان قيمة بحثه، ولم يأخذ عليه شيئاً. . ومما يذكر أنه لم يقدم في مسابقة البحوث الأدبية غير هذا البحث وبحث آخر في (البيئة الأدبية في المدينة أيام
بني أمية) وكانت المفاضلة بين البحثين، ففاز الأول.
وقدم الدكتور إبراهيم بيومي مذكور الفائزين في القصة، فعرف بكل منهما وبين أثر دراسته في أدبه، وقال أن قصة الأستاذ نجيب محفوظ (خان الخليلي) تمتاز بالروعة القصصية الفنية ولكن يلاحظ على أسلوبها عدم الدقة في الناحية اللغوية أما قصة (على باب زويلة) للأستاذ محمد سعيد العريان فتمتاز بصدق التاريخ وسلامة الأسلوب وصفاء الديباجة وصحة اللغة والعمل الفني فيها مقبول.
المعجم الكبير:
من قرارات مؤتمر المجمع الموافقة علة نموذج المعجم الكبير من حيث المبدأ، على أن يتابع السير فيه ويمد بما يتطلبه العمل من موظفين وخبراء.
وهذا المعجم مقرر أن يخرج بمقتضى المرسوم الملكي بإنشاء المجمع، ليكون شاملاً لألفاظ اللغة العربية وتحقيقها وبيان مشتقاتها بأسلوب جديد وعلى نمط يلائم التقدم العلمي الحديث. وقد اتفق على أن يكون الدكتور طه حسين بك مقرراً لهذا المعجم على أن يختار له مساعدين لإعداده، ومن بين هؤلاء المساعدين من يكون ملماً باللغات السامية باحثاً في العلاقات بينها وبين اللغة العربية، وقد طلب إلى الدكتور طه حسين بك وضع نموذج لهذا العمل يعرض على المؤتمر حتى إذا أقره أمكن المضي في إعداد المعجم على أساسه، فقام الدكتور طه ومعاونوه بوضع نموذج يتضمن مادتي (أبر) و (أجر) وأظهر ما في هذا النموذج تقسيم المادة الأصلية إلى معان رئيسية تتوزع الصيغ المسموعة في هذه المعاني، على أن يصدر كل قسم من أقسام المعاني الرئيسية ببيان ما يقابله في اللغات الأكاديمية والعبرية وغيرهما من الشقائق السامية، وكذلك تضمنت المواد بيان أهم الأعلام الجغرافية والتاريخية التي توافق هاتين المادتين، وأضيف إلى الصيغ العربية الأصيلة ما جد في الاستعمال العربي من مصطلحات وكلمات تجري في الشؤون العامة مما عنى بتسجيله دوزي ولين وغيرهما.
وقد طبع هذا النموذج وعرض على أعضاءه المؤتمر لدراسته ونوقش في إحدى جلساته، وأذن المؤتمر بالجري في وضع المعجم على هذا النسق بعد إبداء ملاحظات طلب أن تكون موضع النظر.
وإدارة المجمع الآن بصدد اختيار المعاونين في وضع المعجم وعرض الأمر على مكتب المجمع لتدبير الوظائف وتقدير مكافآت المعاونين الذين يندبون من خارج المجمع.
الواجب الثقافي نحو الجنوب:
لبى الدكتور طه حسين بك دعوة رابطة الطلبة السودانيين إلى اختتام موسمها الثقافي بإلقاء محاضرة عن (واجب مصر الثقافي نحو الجنوب) بقاعة الجمعية الجغرافية الملكية يوم الجمعة.
قال الدكتور طه: أن مصر قصرت في نشر الثقافة بالسودان تقصيراً لم يكن لها فيه حيلة لأنها كانت مكرهة عليه بل هو كتقصيرها في حق نفسها، لتحكم الإنجليز في شؤونها، واستمر تقصيرها الثقافي إزاء السودان بعد أن حصلت على استقلالها الداخلي وتمكنت من تدبير أمرها في التعليم، لأن الإنجليز حالوا بينها وبين السودان بخلق المشاكل التي بدأت بقتل السردار وإخراج الجيش المصري من السودان، وظل الإنجليز يخلقون المشاكل ويضعون العقبات في سبيل الثقافة المصرية بالسودان إلى اليوم، وأشار الدكتور إلى الصعوبات التي صحبت إنشاء مدرسة الملك فاروق الثانوية بالخرطوم، تلك الصعوبات التي لا يعرفها أكثر الناس والتي لا تزال قائمة إلى الآن. قم قال: على أنني أفترض أن هذه الصعوبات والعقبات لم تكن وأن مصر خلى بينها وبين تدبير أمر الثقافة بوادي النيل شماله وجنوبه، فماذا كان يحدث؟ كان لا بد أن تولي التعليم بالجنوب من عنايتها ما تبذله للشمال، فكانت تنتشر المدارس على اختلاف درجاتها في أقاليم السودان انتشارها في أقاليم مصر، وكانت جامعة فؤاد الأول بالقاهرة تستقبل الطلبة من الجنوب كما تستقبلهم من الشمال، وحين فكرت مصر في إنشاء جامعة ثانية لم يكن مكانها إلا الخرطوم قبل الإسكندرية. ولكن الإنجليز حالوا دون كل ذلك ليفرقوا بيننا في الثقافة، وفي الوقت الذي حاربوا فيه الثقافة المصرية في الجنوب أباحوا لأنفسهم ما منعونا منه فصبغوا التعليم هناك بصبغة إنجليزية وجعلوه على أوضاع تخالف أوضاع التعليم المصري، وأن مما يؤسف له أن المدرسة المصرية الوحيدة التي أنشأتها الحكومة المصرية بالسودان على منهاج التعليم المصري، تخضع لنظم الحكومات السودانية المركزية وتحكمها، ولا تظفر هذه المدرسة من الحرية في تدبير أمرها بشيء مما تظفر به المدارس الأجنبية في مصر.
ثم انتقل الدكتور إلى الكلام على الوحدة الثقافية فقال إننا يجب أن نتفق على أن هذه الوحدة أساسها توحيد التعليم في جميع مراحله بجنوب الوادي وشماله، عدا ما تقتضيه أحوال الأقاليم الجغرافية والاقتصادية من اختلاف كالمتبع في مراحل التعليم الأولى بأقاليم القطر المصري، وقال أن وحدة الثقافة هي الخطوة الأولى والأخيرة والمتوسطة في وحدة الوادي، لأنها تشع في القلوب شعوراً واحداً وفي العقل تفكيراً واحداً وفي النفوس عاطفة واحدة، وحينما يتم ذلك لا يستطيع الإنجليز ولا مجلي الأمن ولا أية هيئة أخرى أن تفصل جنوب الوادي عن شماله.
وقال الدكتور: إننا ما دمنا مؤمنين بالوحدة الثقافية إيماناً حقاً لا رياء فيه فيجب أن نعمل على تحقيقها، وذلك بفتح المدارس المصرية على مختلف درجاتها وعلى مصاريعها للطلبة السودانيين، وإذا اختلفنا في التعليم بمصر أيكون للمصريين بالمجان أم بالثمن فلا ينبغي أن نختلف هذا الاختلاف بالنسبة إلى السودانيين، بل يجب أن يتعلموا في جميع المدارس المصرية بالمجان، ويجب أن تهيأ إلى جانب ذلك وسائل الحياة المطمئنة وتيسر لهم المشقات التي تنشأ في الانتقال من بيئة إلى بيئة، ويجب على الحكومة المصرية ألا تكتفي بذلك بل تبذل كل الوسائل لإغراء السودانيين بالتعليم في مصر. وهنا قال الدكتور: لقد احتملت مصر الامتيازات الأجنبية أربعة قرون، فمن واجبها أن تجعل للسودانيين امتيازات في التعليم نحو نصف قرن حتى يصلوا إلى المكانة التي وصلنا إليها فتعوضهم بذلك عما لحق بهم من ظلم في الماضي؛ وإلى أن يمن إنشاء المدارس في الجنوب كما في الشمال، بعد أي نوع من تعويق تعليم السودانيين في مصر إجراماً في حق الوطن.
تشجيع التأليف المسرحي:
وضعت اللجنة المالية بمجلس النواب تقريرها عن ميزانية وزارة الشؤون الاجتماعية لسنة 1948 - 1949. وقد جاء في هذا التقرير أن اللجنة رأت رفع الاعتماد المخصص لمكفآت المؤلفين للمسرح من 500 جنيه إلى 1500 جنيه، لأنها رأت أن المبلغ الأول تافه إلى حد نأى بكبار الكتاب عن الدخول في ميدان التأليف المسرحي مما أدى إلى حرمان المسرح المصري من جهود أولئك الكتاب وهبط بالمستوى الفني للمسرحية المصرية في الآونة الأخيرة بصفة عامة.
وسائل النهوض بالسينما:
ومما جاء في ذلك التقرير خاصاً بالسينما أن اللجنة رأت في العام الماضي ضرورة وضع تشريع ينظم صناعة السينما في مصر، ويضع حداً للعوامل التي أدت إلى هبوط مستواها الفني، فقد كانت صناعة السينما في مصر قبل الحرب مزدهرة، وكان لإقبال الأقطار الشقيقة وترحيبها بالأفلام المصرية أثر بارز في هذا الازدهار ثم زاد ازدهارها إبان الحرب لعدم ورود الأفلام الأجنبية، لكن رجال المال تدخلوا في هذه الصناعة بغية الكسب، واستعانوا ببعض الفنيين الذي لم تتوافر لديهم الدراية الكافية في هذا الفن لحمل هذا العبء، ومن ثم هبط المستوى الفني، مما أثار الشكوى من ضعف الأفلام. وإلى جانب هذا التشريع رأت اللجنة وجوب إيفاد بعثة فنية إلى الخارج لتزود بأحدث ما وصلت إليه هذه الصناعة، كي تساير نهضتنا السينمائية جميع مراحل التطور السينمائي. ولكن الوزارة لم تخط نحو هذا العلاج أية خطوة، فالتشريع لم يصدر، والبعوث لم توفد. لهذا تكرر اللجنة رغبتها في وضع هذا التشريع سريعاً كما ترى إدراج الاعتماد اللازم في ميزانية إدارة البعثات لإيفاد أربعة شبان إلى أوربا وأمريكا لدراسة فنون الإخراج السينمائي وغيرها مما يتعلق بصناعة السينما. وتقترح اللجنة لدعم هذه الصناعة وتوجيهها إنشاء مجلس أعلى للسينما يضم الفنيين الممتازين، وترى اللجنة أن من وسائل التشجيع وضع جوائز قيمة للذين ينتجون أحسن الأفلام العربية فنياً واجتماعياً، لأن هذه الجوائز تحفز كبار المنتجين على خوض هذا المضمار. واللجنة لا تردد في أن تخطو هذه الخطوة من جانبها فترى إدراج 500 جنيه جائزة لأحسن فلم ينشأ خلال العام، على أن يكون المجلس الأعلى هو الحكم في وضع شروط هذه الجائزة وتقدير العمل ومنحه الجائزة التي يستحقها.
العباس
البريد الأدبي
التاريخ يعيد نفسه بين المسلمين واليهود:
جاء في مقال الأستاذ عبد المتعال الصعيدي المنشور في العدد (764) من (الرسالة) الغراء تحت هذا العنوان ما يلي: (ثم سلط الله عليهم دولة الروم قبيل ظهور المسيح، فقضوا على دولتهم قضاء لا مرد له، وأجلوهم من فلسطين آخر جلاء، لأنهم كذبوا مسيحه وحاولوا قتله، وقتلوا ابن خالته يحيى بن زكريا قبله. . . الخ)
قلت: إن هذا لا يتسق والتسلسل الزمني للتاريخ، إذ كيف يقضي الروم على دولة اليهود ويجلوهم من فلسطين لأنهم كذبوا المسيح وحاولوا قتله قبل ظهوره؟
والذي تذكره المراجع التاريخية أن الروم احتلوا أورشليم على يد قائدهم بمبيوس قبيل ظهور المسيح، وظلت البلاد تحت حكمهم حتى استولى عليها العرب زمن الخليفة العادل عمر ابن الخطاب.
أما تدمير أورشليم وتشتيت شمل اليهود للمرة الثانية في التاريخ - بعد وقيعة نبوخذ نصر بهم - فكان سنة 135 ميلادية في عهد الإمبراطور دريانوس، وذلك بعد أن نفذ صبر الروم من كثرة الثورات التي كانوا يقومون بها والدسائس التي يدسونها ولن تقوم لهم قائمة إلى ما شاء الله. . .
وللأستاذ الصعيدي تحياتي وإعجابي.
(بغداد)
علي الشويكي
إلى الأستاذ علي بك حلمي:
جاء في عدد الرسالة (764) في مقالة (القتل في الشرائع) أن استشهدت على القتل في الإنجيل بما جاء في هذه الآية:
(سمعتم إنه قيل عين بعين وسن بسن، وأما أنا فأقول لهم لا تقاوموا الشر، بل من لطمك على خدك الأيسر فحول له الآخر أيضاً).
وهذه الآية لا تتضمن في معناها سوى الحض على التسامح وعدم مقابلة الشر بمثله، ولا
نلمح فيها جانباً يشير إلى القتل؛ وقد ذهبت نتيجة لذلك إلى أن الإنجيل تساهل في عقوبة القاتل. والصحيح أن الإنجيل نص على عقوبة القاتل نصاً صريحاً في الآية التالية من إنجيل متى:
(سمعتم أنه قيل للقدماء لا تقتل ومن قتل يكون مستوجب الحكم، وأما أنا فأقول لكم أن كل من يغضب على أخيه باطلاً يكون مستوجب الحكم ومن قال يا أحمق يستحق نار جهنم).
فإذا نستنج مما تقدم أن الإنجيل لم يحرم القتل ووضع له عقوبة فحسب بل حرم ما هو أقل منه بدرجات.
الرسالة - فلسطين
رزق عيسى زعرور
أسس التعليم الأولي:
أخرج الأستاذ (خورشيد عبد العزيز) المعلم بمدرسة (دميرة) باكورته الأولى. أسس التعليم الأولى في مصر (وكان ذلك نتيجة سنوات قضاها المؤلف في مزاولة مهنة التعليم، وهو في كتابه هذا يعالج مشاكل مختلفة تمس المعلم والتلميذ وغير ذلك مما هبط بذلك الضرب من التعليم. وهذه المشاكل إن عولجت فستظهر ثمرات التعليم الأولى في مصر، وسيلمس المواطنون تلك الرسالة التي يؤديها المعلم الأولى. ولم ينس المؤلف لن يسجل فضل رجالات مصر العاملين على نهضة التعليم وفي مقدمتهم أستاذنا الجليل الزيات وإنا لنحيي في المؤلف هذا المجهود والله ولي التوفيق.
علي زين العابدين منصور
تنبيه لا بد منه:
كثيراً ما يخلط الكاتبون بين استعمال (ثم) العاطفة و (ثم) التي بمعنى هناك للشيء البعيد دون القريب، وذلك بإلحاقهم التاء المفتوحة والمربوطة على كليهما دون مراعاة الأصل. والصواب ألا يدخل (ثم) العاطفة سوى تلك التاء المفتوحة لا غير. كقول من قال:
ثمت قمنا إلى جرد مسومة
…
أعرافهن لأيدينا مناديل
أو كقول الآخر:
ولقد أمر على اللئيم يسبني
…
فمضيت ثمت قلت لا يعنيني
أما (ثم) المكانية التي بمعنى هناك، فلا يلحق بها إلا التاء المربوطة تمييزاً لها عن أختها العاطفة. .
وكلاهما يستعمل في لغة البيان، غير أن ثمت العاطفة ترد في الأعم الأغلب في الشعر دون النثر وذلك للضرورة التي يقتضيها الوزن في ساق القصيدة. فتنبه شكر الله لك.
(الزيتون)
عدنان
المجمع اللغوي وتشجيع الإنتاج الأدبي:
وافق المجمع اللغوي على إجراء مسابقة جديدة لتشجيع الإنتاج الأدبي وتوزيع جوائز على الفائزين على الأساس الآتي:
مائتا جنيه لكل من احسن إنتاجاً من الشعر العربي الفصيح سواء كان مخطوطاً أو مطبوعاً ومن أحسن قصة وضعت بالعربية الفصحى سواء أكانت مخطوطة أم مطبوعة منذ أكتوبر الماضي إلى أكتوبر القادم على ألا تقل القصة المقدمة عن مائتي صفحة من القطع المتوسط.
ومائتا جنيه لأحسن بحث بالعربية الفصحى عن أثر الحروب الصليبية في الأدب العربي في مصر والشام. ومائتا جنيه لأحسن بحث بالعربية الفصحى عن أبي الفرج الاصفهاني وكتاب الأغاني وألا يقل البحث المقدم في كليهما عن مائتي صفحة من القطع المتوسط.
وعلى الراغبين في الحصول على هذه الجوائز أن يرسلوا إلى المجمع اللغوي صورتين مطبوعتين أو مكتوبتين على الآلة الكاتبة من الموضوع المتقدم للحصول على الجائزة وذلك في موعد لا يتجاوز أول أكتوبر سنة 1948 والمجمع سيحتفظ بنسختي الإنتاج الفائز وللمتبارين أن يذكروا أسماءهم أو أسماء مستعارة وعليهم أن يكتبوا عنوانهم واضحاً ويوقعوا على كل صورة يقدمونها وتقدم الموضوعات المتباري عليها باسم لجنة الأدب بالمجمع.
الكتب
ديوان أبي فراس الحمداني
حققه وحرره ووضع فهارسه الدكتور سامي الدهان
دكتوراه دولة في الآداب من باريس مع مرتبة الشرف
الممتازة
العصر الحمداني من أزهى عصور الأدب العربي عاش في ظله جمهرة من الشعراء خلد شعرهم على الزمان، وحفظت لهم العربية تراثهم في بطون الكتب يتداولها جيل بعد جيل مخطوطة بعد مخطوطة حتى كانت الطباعة فلم يلقوا منها ما لقي أقرانهم، ولم يظهروا على نورها كما ظهر أندادهم؛ فظلموا ظلماً لا يقره الأدب الرفيع وفيهم: النامي والناشئ والصنوبري وكشاجم وأبو فراس والسري الرفاء، وكلهم فحول أقوياء لو تفرقوا على العصور العربية لكان لكل منهم واحدها.
ولكن هذا الظلم قد انتهى - والحمد لله - فيما نعتقد، وانقضى اجله فيما نرى، بعد أن تصدى لهذا العصر الحمداني من عاصمة بني حمدان في القرن العشرين الأديب الباحث المحقق الدكتور سامي الدهان، يسعى في جمع تراث العصر الحمداني كله ليظهره على الناس كاملاً يزهو في القرن الرابع عشر الهجري كما كان في القرن الرابع. فهو يعمل في اختصاص دقيق كما يعمل علماء الغرب لشعرائهم سواء بسواء.
وهو إذ يخرج لنا اليوم (ديوان أبي فراس الحمداني) نرى في طيات عمله تهيئة كاملة، وإعداداً شاملاً لشعراء العصر كله، نرجو أن نرى أثره قريباً فيما ينشر من نصوصه ويظهر من متونه. ونلمس هذه المعرفة الشاملة للعصر الحمداني مما أثبت لنا حضرة الناشر في حواشي (الديوان) وتعليقاته، من وقوف على مخطوطات العصر، وشغف بمراحله، واضطلاع بكل ما فيه من شعر ونثر، وتأريخ وسير.
ونرجو أن يزهو الشعراء الحمدانيون جميعاً بعد قليل بدواوينهم كاملة كما يزهو اليوم (أبو فراس) بديوانه الجديد الذي حققه ونشره الدكتور الدهان بعد جهد نافع طويل وجد مثمر كبير، فقد مضى الشاعر وخلف بعده ما شدا به في جولاته، وما كان منه مع تلك الحياة
لقريبة ما بين طرفيها، من شعر جمعه ديوانه على تقصير في الاستيعاب، وتخلف في تحرير الكلمات، وجنف عن إقامة الأوزان، وبعد عن التيسير بالضبط والشرح.
وغبر الديوان يخرج من طبعة إلى طبعة حاملا مع الأوزار الأولى أوزاراً أخرى، والناس قانعون من شعر الشاعر بما صح لهم في مبناه ومعناه، أو بما لان لتوجيههم فاستقام، متخففين مما استعصى على الفهم، وند عن الإقامة، فعاش من الديوان قلة. هذا غير شعر غاب عن النشر كثير خفي بإخفائه جانب من حياة صاحبه، وأخفى الاستغلاق جانباً آخر. وما لدراسة يتنازعها هذان نجاء من الزلل أو قرب من السداد.
ذكرت ذلك كله وأنا أنظر في ديوان أبي فراس الجديد الذي أخرجه حضرة الباحث المحقق، فقد وجدتني بين أجزاء ثلاثة كبار تربى صفحاتها على الثمانمائة، في ثوب جد أنيق. وكنت أجدني بالمس القريب بين صفحات تبلغ المائة أو تزيد عنها، في رثاثة وبذاذة. وجدتني أطالع جهداً جديداً على النشر في الشرق طالما رقبناه ورجوناه، فهذا استقصاء في المقابلة بنسخ من الديوان جاوزت الأربعين خف إليها الدكتور يحصيها ويجمعها، وكانت هنا وهناك في مكتبات الشرق والغرب، أفادت الكثير بما زادت وحررت. وهذا شرح لابن خالويه على الديوان بين تمهيد لقصائده وتفصيل لحوادثه وإبانة عن غوامضه لا عهد للناس به من قبل. وغير هذا وهذا مما جاء من إشارات إلى أماكن شعر أبي فراس من كتب الأدب والتأريخ، وفيها نفع واستئناس. ثم ما كان من إشارات إلى أماكن الحديث عن أبي فراس في هذه المراجع. صنع الدكتور الدهان بديوان (أبي فراس) هذا وغيره فوفاه ضبطاً وشرحاً وزوده بفهارس عشرة، بعضها للشعر المروي في كتب الأدب والتاريخ، وبعضها لما تفردت به هذه الطبعة ولم يحمله ديوان لأبي فراس قبل، وبعضها للمعاني والأبواب، ثم القوافي والأعلام والقبائل والأماكن والكتب والموضوعات.
ذاك عدا دوحة انتظمت بأصولها وفروعها الأسرة وما ضمنته المراجع. وعدا جدول تكاد العين تضل في سعته جمع المقابلات بين القصائد والنسخ الخطية في بسط واستيفاء.
هذا ديوان أبي فراس الجديد يدلل على ما بذل فيه من جهد وما حمل في سبيله من عناء. وقد حبس الدكتور الناشر على هذا العمل نفسه سنين عشراً بين إعداد وطبع. وما عشر سنين بكثير على مثل هذا العمل الجليل. وما أحوجنا ونحن بسبيل إحياء نصوصنا القديمة
أن تكون لنا التفاتة إلى مثل هذا الاستقصاء لا نبالي امتد بها الأجل أم قصر.
وبين أيدينا مؤلفات عنى بها مستشرقون كتب لها الخلود وليس عليها إلا أن تعاد طبعاً؛ وليس بدونها أن يفضلها أبو فراس الحمداني. فما في الظن أنه تبقى لأبي فراس شيء في عالم الغيب لم يهتك عنه الدكتور الدهان ستراً، ولا مكتوبة من ديوانه لا تزال سراً. فما أحقه من عمل بالثناء، وأجدره من نهج بالجزاء، وأولاها من طريقة بالاقتداء. . .
إبراهيم الابياري
إبراهيم بن سيار النظام
تأليف الدكتور عبد الهادي أبو ربده
كتاب فلسفي أخرجه منذ عهد غير بعيد الدكتور عبد الهادي أبو ريدة المدرس بكلية الآداب وقد عرض فيه حياة النظام وآراءه الفلسفية سواء كانت آراء طبيعية تتصل بالجسم والحركة والخلق والكمون والتداخل، أو آراء أخلاقية أو سياسية تتصل بالخير والشر والجبر والاختيار والإرادة والاستطاعة، عرضها في نهج نظيم وأسلوب قويم. وقد تحدث الدكتور أبو ريدة إلى جانب هذا عن النظام من الناحية الفكرية فبين رأيه في الحديث ومسائل الفقه وتفسير القرآن وإعجازه، وذكر طرفاً من أدبه وشعره، ولكنه طرف موجز مقتضب؛ فالكتاب كتاب فلسفة وليس بكتاب أدب. وقد خصص الدكتور أبو ريدة فصلين في الكتاب أحدهما عن الله والآخر عن الإنسان لعلهما أروع ما في الكتاب.
ولي كلمة موجزة أحب أن أوجهها إلى الدكتور أبو ريدة بمناسبة إخراجه كتاب النظام والتمهيد للباقلاني وهي أننا كنا ننتظر منه شيئاً آخر؛ فالدكتور أبو ريدة يكاد يكون ألمانياً في حياته الخاصة ولا يرى إلا متكلماً بالألمانية بين ردهات الكلية؛ ولكن للأسف لم تستفد المكتبة العربية من ألمانيا شيئاً يذكر. وخليق به أن يترجم لنا عيون كتب الفلسفة الألمانية ويحدثنا عن الفلاسفة الألمان حديثاً مستفيضاً صحيحاً. ويظهر أن الدكتور يحس بقلة إنتاجه الفكري وقصر مدة تدريسه بالجامعة وهي سنتان فيلجأ إلى تلاميذه في البحث ومراجعة التجارب. والواقع أن الأستاذ أبو ريدة في وسعه أن ينتج كثيراً وأن ينتج شيئاً مرضياً أيضاً ولكنه يؤثر العافية! كتاب النظام كتاب قيم ما في هذا شك وقد ألجأ إلى تحليله في
فرصة أخرى.
إبراهيم جمال الدين الرمادي
شباب قريش
تأليف الأستاذ عبد المتعال الصعيدي
خصبة ممتعة تلك الأبحاث التي تكتشف لك نواحي محجبة لم يجس خلالها فكر، ولا حلق في أرجائها خيال؛ فتكون بمثابة الرائد في عالم الفكر؛ يشوقك ويحفزك إلى التطلع والمغامرة بما يعرضه من صور وما يغريك به من مشاهد؛ فيكون أثرها في إثارة الهمم وشحذ القرائح عميقاً مثمراً من هذه الأبحاث - شباب قريش - في العهد السري للإسلام - فقد تناول - المؤلف - جانباً من تلك الجوانب الكثيرة المتشعبة في حياة الدعوة الإسلامية، وهو أثر هذه الدعوة في نفوس الشباب وتدفق تيارها القوي الفعال في نضارة قلوبهم الزاخرة الجياشة وكيف كان انفعال هذه النفوس بها وإيمانهم بمبادئها! حتى غدت تلك المبادئ وقد أصبحت جزءا من كيانهم الروحي والعقلي والخلقي؛ فوثبت تلك المبادئ بشبابهم واكتسبت الدنيا من إخلاصهم ونشاطهم ذلك الرداء الروحي والاجتماعي؛ البهيج حول تلك الرسالة وتلقى شباب قريش لها وبذل كل ما يدخل في الطوق بذله في سبيل تبليغها والتمكين لها.
أقام المؤلف هذا البحث فوفق في تجلية هذه الناحية وفتح لنا طريقاً جديداً لمن يريد أن يعالج هذه النواحي من الجانب النفسي والاجتماعي والتاريخي. وقد مهد المؤلف لتاريخ أولئك الشباب بنظرات عن سبق الشباب إلى الإسلام وأسماء الشباب والشابات؛ ثم أخذ يقدم لك هؤلاء الشباب صور موجزة طلية تدعو إلى الإيمان بأن كل دعوة لا يناصرها إخلاص الشباب وفداء الشباب مقضي عليها. نأمل أن يحدث هذا الكتاب في نفوس شبابنا ما أحدثته الدعوة الإسلامية في نفوس شباب قريش.
محمد عبد الحليم أبو زيد