الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 770
- بتاريخ: 05 - 04 - 1948
من مذكراتي اليومية:
قصة فتاة
يوم السبت 29 سبتمبر سنة 1945:
ظلت الفتاة أسبوعين بعد لقائنا في الكنتننتال تتردد فيهما على مكتبي، فلا تجد الفرصة مواتية لتقول مثل ما كانت تقول؛ ولا الجلسة خاصة لتسمع مثل ما كانت تسمع. ثم انقطع عني عيانها وخبرها فجأة، فلم أعد أراها في المكتب، ولا أسمعها في التليفون، ولا أقرأها في البريد؛ فعللت هذا الانقطاع بما يجوز من العلل في مثل هذه الحال، ولكنها لم تعْدُ أن تكون ظنوناً لا يطمئن عليها البال:
هل عادت إلى القرية؟ ولكن لماذا لم تودعني قبل سفرها؟ ولماذا لم تخبرني بعودتها وهي تعلم أني أسر بخبرها؟
هل أصابها مرض ألزمها الفراش؟ ولكنها مرضت قبل ذلك فلم يمنعها المرض أن تبعث إليّ برسالتها مرة وبرسولتها أخرى.
هل قطعت بينها وبيني الأسباب؟ ولكنها قنعت مني بالسبب الضعيف الذي لا يربط، فلا ينفعها أن تقطعه، ولا يضرها أن تصله. إذن ما عسى أن تكون العلة الصحيحة لانقطاع خبرها عن علمي هذا الشهر كله؟
كنت أدير في خاطري هذا السؤال حين ألقى إلىَّ البريد في مساء هذا اليوم كتاباً ورقه كذلك الورق، وخطه كذلك الخط؛ ولكن أسلوبه مختلف وإمضاءه مغاير! مَن (زوزو) هذه التي تكتب إلىَّ بهذا الطول وتخاطبني بهذه اللهجة؟ عرفت بعد ما قرأت أنها ابنة أختها، وأنها تقص علىَّ في هذا الكتاب مأساة خالتها، وما غاب عني من عقدة هذه المأساة ونهايتها.
سألخص كتابها في صفحة هذا اليوم وهو التاسع والعشرون من سبتمبر، لأرفه عن نفسي المحزونة بهذا الأسلوب الطريف، ولأكمل به هذه القصة التي بدأت في الربيع انتهت في الخريف!
قالت الآنسة زوزو ما معناه: أكتب إليك يا سيدي ولست غريبة عن بالك، فإنك سمعت بي ولا شك من خالتي المسكينة (س)، وقد كنت رسولتها إليك في ذات يوم لو تذكر. ولطالما حدثتني عن أثرك في نفسها فأشتهي أن أراك، وخوفتني من رأيك في مثلها فأستحي أن
تراني. ولولا أن في ذمتي عهداً لخالتي ورفيقتي أن أقص عليك عاقبة أمرها لما أبحت لنفسي أن أبكيك بذكر حادثتها الأليمة وخاتمتها المحزنة!
لقد لقيها الذئب فعلاً يا سيدي! لقيها في أصيل يوم من أيام أغسطس الأخيرة، وكان الحر فيه يزهق النفوس ويضيق الأنفاس؛ فجلسنا أنا وهي في (سان سوسى) بميدان الجيزة نستروح نسيم النيل ونستنشي عبير الرياض. وكان الذئب يجلس إلى المنضدة التي تقابلنا في زى شاب وضئ الطلعة ظريف الهيئة، فخالسَنا النظر وخالسناه، وأشار أن يجالسنا فجالسناه. وعرفنا من فحوى كلامه أنه مخبر في إحدى جرائد الصباح، فزويت وجهي عنه لأنه لم يكن من الصنف الذي أتعاطاه. ولكنه كان حسن الحديث حاضر البديهة بارع النكتة لطيف الدعابة، فاستخفَّت خالتي ظله وصغت إليه. وقضينا في مناقلة الطرائف والأسمار أربع ساعات كانت أربع سنوات في رفع الكلفة بينها وبينه. ثم عدنا مع الفتى في الترام إلى المنيرة، وهنالك ودعناه وواعدناه. وباتت خالتي على هوى جديد لم تذق مثله منذ قدمت القاهرة ونازعت الندمان كؤوس الحب!
تجدد بعد ذلك الموعد، وتعدد اللقاء، وتأكد الود، حتى أصبحت تخرج وحدها إليه، فيقضيان أواخر النهار وأوائل الليل متنقلين في القاهرة بين مقاهيها وملاهيها، وبين أرباضها ورياضها، فيتساهمان اللهو، ويتقاسمان الصفو، والشاب يبذل لها من الوعود، مقدار ما تبذل له من النقود؛ فيزعم أن أحد الأحزاب المعارضة سينشئ له صحيفة، ويشترى للصحيفة مطبعة، ويبنى للمطبعة داراً؛ وأن رئيس الحكومة قد بلغه ذلك، فهو يساومه على قلمه الحوَّل القلَّب، وعقله الخرَّاج الوَّلاج، بمورد ذهبي يتفجر في بيته كل شهر من خزانة الداخلية وخزانة الحزب. وهو على يقين جازم من أحد الموردين إن لم يكن من كليهما؛ ولذلك أمر سماسرة البيوت أن يبحثوا له عن دارة في المعادى، ووكلاءَ السيارات أن يسجلوا اسمه على سيارة (بويك)!
ماذا تصنع خالتي وقد جمع الله لها كل أمانيها في هذا الصحفي الشاب؟ حب مكنون يملأ شعاب القلب، ومنطق معسول يلائم هوى النفس، ومستقبل مأمون يضمن رفاهية العيش! أخلدت إليه بالثقة، ورفَّت عليه بالأنس، وقبلت أن تزوره في غرفته الخاصة على سطح من سطوح النازل الحقيرة! وهنالك رأت أن ثروة الشاب لا تزيد على بذلة نظيفة فوق
جسمه، ولسان ذهبي في فمه، وطمع أشعبي في قلبه! ولكن الهوى يعمى ويصم، والشباب يغوى ويصل، والشراب يغرى ويجرئ. فباتت لأول مرة في بيت غير بيتها، من دون إيذان لرفيقتها ولا استئذان من أختها!
وفى الصباح أفاقت المسكينة من سكرة الهوى فأحست بعقرة الذئب! فقالت له وهى تمزج الدم بالدمع: ما علاج هذا الأمر وأخي لا يزال على حفاظ أهل الصعيد: يفرق بين الحرية والإباحة، وبين المدنية والتبرج؛ فهو يسامح إلا في الشرف، ويغضي إلا عن العرض؟
فأجابها الفتى باسماً: العلاج الزواج! وكان قد علم من قبل أن لها مالا مدخراً وأرضاً مستغلَّة؛ فالزواج له فرصة، ولكنه لخالتي غصة. فقالت له: إن أسرتنا تشترط في الزواج التكافؤ في الطبقة والثروة؛ وحالك على ما أرى لا تطمعك في رضا أهلي. فقال لها الفتى في إصرار وقوة: المهم أن نستر بالزواج جريمة العرض؛ أما جريمة الفقر فجريرتها هينة، وعقوبتها محتملة. وسنجابه أخاك بالأمر الواقع فيثور قليلا ثم يسكن، ويغضب طويلا ثم يرضى.
وصارحت الأخت أختها بالحادث والحديث؛ فباركت أمي الخطبة وأقرت الزواج. واتفقت الحماة والعروسان على ليلة العقد وحفلة الزفاف. وتسامع الناس بالخطبة المفاجئة والقران الخفي، فظنوا الظنون، وتقولوا الأقاويل؛ وأبرق بعضهم بهذه الشائعات إلى خالي فلم يبت إلا في القاهرة.
تطلب منى المحال إذا طلبتَ أن أصف لك كيف دخل خالي الصالون فوجد المأذون وبيده الدفتر، وأبى وبإزائه العريس، وأمي وبقربها العروس، والبواب وبجانبه الشاهد الآخر، وهؤلاء جميعاً شملهم السكون وغشاهم الوجوم؛ فكأنهم يودعون مريضاً يُحتضَر، أو يشيعون ميتاً يدفن. . . تصور أنت بخيالك هذا المنظر الأليم على ما يكون المجلس عبوساً وجهامة، وفي أشنع ما يكون الجلوس خزياً وندامة.
سلم خالي إيماءً باليد ثم جلس وعيناه تلتهبان من الحنق، وشفتاه ترتجفان من الغضب، والتفت إلى أمي وقال لها بصوت فيه روعة القضاء ورهبة القدر: متى كنا يا فلانة نزوج بناتنا في مثل هذا المكان، ومن مثل هذا الإنسان، في غيبة عن الأهل وخفية من الناس؟ لقد سبقتمونا إلى (المدنية) فلم يعُد رأينا متفقاً في معنى الشرف، ولا شعورنا متحداً في
إدراك الكرامة!! ثم لحظ العروس البائسة وقال لها بلهجة صارمة: اذهبي يا فاجرة فأعدي حقيبتك وسأنتظرك أمام البيت.
حاولت أمي أن تجيب لتبرر الموقف المريب، وهمَّ أبي أن يتكلم ليدفع الخطر الداهم، وأراد المأذون أن يفتي لينقذ العقد المهدَّد، ولكن خالي أزلقَهم ببصره؛ ثم خرج وهو يتسعر من الغيظ وينتفض من الغضب كأنه لم ير أحداً ولم يسنع كلاماً. وقضى هو وأخته الليل في أحد الفنادق ثم ركبا أول قطار إلى العزبة. والقوم هناك يا سيدي يرجمون بالظنون؛ فبعضهم يزعمون أنها سجينة القصر، وأكثرهم يعتقدون أنها دفينة القبر. والأمر الذي لا مرية فيه أنها خرجت من دنيا الناس!
هذه قصة فتاتي، وما أظنها تختلف كثيراً عن قصص أكثر الفتيات اليوم! ذهبت غفر الله لها ضحية للتربية المهملة، والرقابة المغفَّلة، والتعليم الفاسد، والقدوة السيئة، والقصص الماجنة، والصحف الخليعة، والسينما المثيرة! فهل يُضطر الذين لا يزالون لسوء حظهم يغارون غلى أن يعودوا فيسألوا الله العصمة من ولادة البنات، أو يقولوا كما كان يقول الجاهليون: وأْدَ البنات من المكرمات؟
احمد حسن الزيات
الحمام الزاجل
للأستاذ أحمد رمزي بك
في الحروب الحديثة:
يعتمد فن تحريك الوحدات الكبرى وسوقها للقتال على شبكة من طرق الاتصال أصبحت بعد استعمال الراديو بأصنافه مع التلفون العادي والتلغراف عملا من أدقِّ وأصعب الأعمال لضبط المخابرات ونقل المعلومات وتوجيه الأوامر، وتصبح هذه الآلة المحكمة التنظيم عرضة للوقوف والتعطيل إذا اشتبكت الوحدات العسكرية في معركة حاسمة؛ إذ هنا تفرض الحرب نوعاً من المفاجآت قد تعطل كل ما أنتجه العقل البشري من مخترعات: ويبرز الحمام الزاجل كواسطة لنقل المعلومات لا يمكن إغفالها.
نعم إن الحرب الحديثة، الخاطفة أو الثابتة أمام الحصون، الزاحفة أو المتراصة، الهجومية أو الدفاعية بأصنافها المختلفة، تخلق أحياناً من الظروف الطارئة ما يشل عمل هذه الوسائل المستحدثة التي أوجدها العلم والتي يستطيع العلم وحده أن يبطل أثرها، فيحتم على المقاتلة العود إلى استعمال أساليب القدماء التي خيل إلينا أننا تركناها ومن بينها الحمام الزاجل الذي قد يصبح الوسيلة الوحيدة التي نتمكن بواسطتها من إنقاذ موقع محاصر أو نقل رسالة هامة يتوقف عليها مصير جيش من الجيوش أو نتيجة معركة ناشبة.
نظامه في الجيوش:
لذلك أصبح للحمام الزاجل أنظمة محكمة في جيوش العالم؛ فقد رأيت في الحروب الماضية والحرب الأخيرة عدة أبراج متنقلة للحمام مركبة على السيارات، وعرفت أن كل برج منها يحوي مجموعة من الحمام تقرب من المئة وأنها مقسمة ثلاثة أسراب:
سرب غائب، وآخر يستريح، وثالث كاحتياطي. وكانت حمائم كل سرب توزع على ثمانية مراكز أو تسعة يراعى في ترتيبها أن تكون على صف واحد بين الأبراج وتتناوب الحمائم الانتقال والتمرين عليها لنقل الرسائل.
ويقوم على خدمة الحمام جنود مدربون لهم صبر على تربيته ومران على تعليمه والاستفادة منه. والحمام الزاجل أليف يسهل تعويده وتدريبه على الرحلات ما دامت الأبراج ثابتة، أما
إذا تحركت وتبعت الوحدات في تنقلاتها احتاج الأمر إلى استخلاص نوع من الحمام المدرب الذي اعتاد اكتشاف طريق برجه ولو تغير موقعه. وهذا النوع من الحمام إذا رُبي وأحسن تدريبه يكتشف أبراجه في دائرة قطرها عشرون كيلومتراً مهما تبدّل أو تغير موقع الأبراج.
وتعلق الجيوش كما قلنا أهمية خاصة على هذا النوع الممتاز من الحمام لأنها تعتمد عليه في إنقاذ حالات لا تجدي فيها الوسائل العادية؛ إذ يرجع إليه الفضل في الحربين العالميتين الأولى والثانية ووسط قوات متحاربة تملك غاية ما أوجده العقل البشري من وسائل الاتصال، يرجع إليه الفضل في تغيير خطة عسكرية أو تقديم موعد هجوم حاسم أو تأجيله. وكم من وحدات انقطعت عنها النجدات وتعذر عليها استعمال اللاسلكي لئلا تفضح أماكن تجمعها، أنقذها الحمام الزاجل!!
الحمام الزاجل في الجيوش الإسلامية:
ويعتبر استعمال الحمام الزاجل من وسائل المخابرات التي أحكم أمرها في أنظمة الجيوش الإسلامية وخصوصاً في مصر أيام استقلالها؛ إذ كانت لها اليد الطولى في هذا المضمار: وكانت قلعة القاهرة المحروسة مركز الإرسال والوصول للمكاتبات التي يحملها الحمام الزاجل: وكان يربى في أبراجها نوع ممتاز من الحمام أطلق عليه اسم الرسائلي لاتخاذه من فصيلة أعدت لحمل الرسائل السلطانية التي كانت توضع في داخل أنابيب من المعدن الخفيف أو في داخل أكياس من الحرير.
وتفنن كتاب ديوان الإنشاء بقلعة مصر في أسلوب هذه الرسائل وبلاغتها وجعلها في منتهى الاختصار لنقل ما كانوا يريدون إيصاله من المعاني، بل حرصوا على اختيار نوع الورق الذي يكتبون عليه رسائلهم ليخف وزنه على الطائر.
وانتهى بهم الذوق إلى إكرام الحمام الناقل للبشري بتولية السلاطين أو الحمام الحامل لأنباء الظفر والانتصارات في المعارك فكانوا يطوقون جوانبه بالمسك والعنبر والروائح العطرية، كما كانوا يتعمدون طلاءه بالسواد إذا نقل أخبار الهزائم والوفاة.
حوادثه في التاريخ الإسلامي:
حينما هوجمت مصر مرتين من الشمال بالجيوش الصليبية الأولى أيام السلطان الملك الكامل بن العادل الأيوبي، والثانية أيام الملك الصالح نجم الدين أيوب، وهي حوادث أفزعت العالم الإسلامي، كانت أسراب الحمام الزاجل تنقل أخبار المعارك وشدتها فيقع كل طائر منها على أبراج القلعة وهو مجلل بالسواد دليلا على حمله للأخبار السيئة التي يعانيها المسلمون في دمياط وميادين القتال.
وكانت القاهرة تقوم لها وتقعد ويكثر الابتهال إلى الله إذ يهرع الناس إلى المساجد لإقامة الصلوات.
ولما انتصر المصريون وأمراء مصر نزل الحمام الزاجل على أبراج القلعة مطوقاً بالعطر والمسك والزعفران ينقل بشرى زوال المحن والمصائب وأنباء الانتصارات الحاسمة المتتالية: هذا ما سجله التاريخ للحمام الزاجل.
ويظهر أن الإفرنج كانوا يجهلون أمر هذا الحمام بدليل ما ورد في تاريخ حصارهم لمدينة القدس قبل فتحها؛ فقد بعث قائد القوات المصرية المحاصرة_وكانت من جنود الدولة الفاطمية_طائراً لنقل أخباره إلى خارج المدينة فلم يلتفت إليها الإفرنج لولا أن جاء من أعلمهم بأن الطير ينقل الأخبار فتربصوا به وأطلقوا النشاب عليه فأصابوا الطير، ولما وقع عثروا على القصاصة المراد إرسالها فتنبهوا إلى خطورته، وضيقوا الحصار على المدينة حتى فتحوها.
الحمام الزاجل وآل سلجوق
كانت دولة آل سلجوق من أعظم دول الأرض، وكان لحمام الزاجل معروفاً قبلها، ولكن في عهدها أدخلت أنظمة شبكات الخطوط الرسائلية في أنحاء هذه الإمبراطورية المترامية الأطراف؛ فإليها يرجع الفضل في جعل تربية الحمام وتنظيم استعماله فناً من الفنون اللازمة للدولة. وهذا كغيره من مستحدثات السلاجقة الذين لهم الأيادي التي تزال خافية. وعنهم أخذ نور الدين الشهيد بن زنكي هذا النظام السلجوقي فأحكم أمره في الشام ثم انتقل إلى آل أيوب فكانوا أول من أتقنه وأحكمه بأبراجه وأسرابه في مصر ثم بلغ منتهاه في العصور التالية.
تربيته وتدريبه والعناية به
أفتتن القدماء بالحمام الزاجل بعد أن رأوا نفعه، فأصبحت لهم دراية بتربيته والعناية به، وكانوا يقسمونه على حسب لونه وعدد الرياش المعتبرة في الأجنحة والأذناب، وفرقوا بين الذكر والأنثى؛ فجعلوا لكل عملاً خاصاً به، وصنفوا الطير، فميزوا بالفراسة ما لمسوا نجابته من صغره، واختاروا الزمان والمكان الملائمين للأفراخ، وهي أمور لم تصل إليها الجيوش الحديثة التي تربى الحمام الزاجل الآن.
ويبالغ المؤرخون فينسبون إلى أن القدماء جعلوا للطير أنساباً كأنساب الخيل، وألفوا الكتب فيها وفي أعمال الحمام الزاجل وبطولته، فنسبوا إلى خلفاء العباسيين والفاطميين أنهم دفعوا أثماناً باهظة ثمناً له، وأن ملوك الروم كانوا ينافسونهم في ذلك. فمن قبيل المبالغات أن الحمام المصري بدمشق نقل بعض أنواع الفاكهة النادرة في الشام لمصر أيام العزيز بالله ثاني خلفاء الفاطميين، أو ما ذكروه عن الطير الذي قطع المسافة بين القسطنطينية وبغداد مرة واحدة؛ إذ يندر أن تعرف الحمامة أما كنها إذ زادت المسافة عن عدد معلوم من الكيلومترات قلما يتعدى العشرين أو الثلاثين؛ كما أن سرعة سفرها محدودة ومعلومة فلا يصح أن ينسب إلى الطير مالا يصدقه العقل.
نظام القدماء في نقل الرسائل:
قلنا إن الدولة السلجوقية هي التي أتقنت نظام شبكات الحمام الزاجل لأحكام طرق الاتصال ونقل المخابرات بأسرع الطرق، وكانت الدولة المصرية في العصور الإسلامية قوية الجانب تحكم مساحات واسعة من أراضي آسيا تمتد على نهر الفرات وتصل أحياناً إلى دجلة، وكانت تسيطر في الشمال على منطقة عسكرية تحيط بها القلاع والمدن المحصنة. فكان من أول ما اهتمت به الدولة إحكام المخابرات مع هذه المناطق فاستعملت طرق البريد السريعة وإيقاد النيران لنقل الإشارات بين القلاع وبعضها ثم أحكمت نظام الحمام الزاجل.
ويعود الفضل في تنظيم المخابرات وتلقي الحمام الرسائلي إلى شبكة الأبراج ومحطات الإرسال المنشأة بين العاصمة والأماكن المختلفة وأهمها قلعة دمشق وقلعة حلب. وكانت أبراج القلعة بمصر نقطة مركزية تتلقى الحمام من دمشق وأسوان والإسكندرية على
السواء.
وتليها شبكة دمشق العاصمة الثانية في أهميتها: لأن لنائب السلطة حق المخابرة رأساً مع القاهرة وله الحمام الخاص به. وكان لنائب قلعة دمشق هذا الحق أيضاً وله الحمام الزاجل الخاص به، وحق الاتصال المباشر مع السلطان بصفته قائداً لموقع عسكري محصن. وكانت المسافة تقطع على مراحل: فالحمام الذي يطلق من دمشق يهبط الصنميني ومنها يقوم آخر إلى أبراج محطة طفس ثم قلعة أربد بفلسطين ثم بيسان ثم جنين ثم قافون ثم غزة وهي نهاية شبكة الشام.
والحمام القائم من أبراج قلعة مصر يهبط في سرياقوس ومنها إلى بلبيس ثم الصالحية ثم قطيا ثم الواردة ثم غزة وهي ملتقى الشبكة المصرية على الشامية.
أما قلاع الشمال وأهمها البهنسا وقلعة الروم أو قلاع جبل طوروس فكانت تبعث برسائلها إلى مدينة حلب ومنها إلى المعرة ثم حماة ثم حمص ثم قارة إلى قلعة دمشق وإليها تصل حمائم الأعمال الفراتية أي قلعة الرحبة وقلعة جعبر. وكانت المسافات بين هذه الأماكن تسمى مسارح الحمام بحيث لا يمكن أن يتعداها بل يجب أن يعود الحمام ثانية بعد أداء واجبه إلى أبراجه الدائمة بمحطات الإرسال. وكانت القلاع مشحونة بالجند والمقاتلة وأبراج الحمام وعلى اتصال دائم بقلعة الجبل بمصر: مركز الحكم وأبهة الملك.
بهذا حفظت مصر الحصون والثغور والقلاع وتمكن جندها من كسب الحروب الصليبية وكسر التتار عدة مرات.
كانت قوات مصر لا تقهر ولذلك سميت مصر بالمحروسة وعساكرها بالمنصورة، وأطلق عليها في المستندات والوثائق الرسمية: هذه الدولة القاهرة.
كانت الحمام الزاجل تعمل للنصر في خدمة مصر القاهرة.
أحمد رمزي
التلمود واليهود
للأستاذ نقولا الحداد
تلقيت من مجلة (الرسالة) مقالتين ضافيتين رداً على مقالي: (التلمود خدع اليهود) الذي نشر في (الرسالة) في 23 ديسمبر سنة 1947؛ إحداهما بلا تاريخ ولا ذكر لمكان صدورها ولا إمضاء سوى كلمة (عاصف). وما هي إلا عاصفة هراء وسباب وبذاء. فهذه لا تستحق إلا أن ترمى في أقصى مكان من الدار، أو أن تلقى في النار لكي يطهر جوها من عفونة الأقذار.
وأما الأخرى فعلى النقيض: هي نقد كالربت الخفيف على الكتف، من أديب أريب بتوقيع (لطيف مختار) من بغداد يدافع فيها عن التلمود واليهود، ويرد على كل فقرة في مقالي. فلو نشرت في (الرسالة) لشغلت نحو 6 صفحات على الأقل؛ ولو رددت على كل نقطة فيها لشغلت (الرسالة) كلها.
و (الرسالة) وقف على قراء ينشدون العلم والأدب الصافيين. لذلك اجتزئ عن البحث الطويل بالكلام في أمرين: التلمود ونيات اليهود.
أولاً: لم يكن التلمود مقصوراً في مقالي؛ وإنما كان المقصود موسى عليه السلام؛ لأنه هو الذي ساق بني إسرائيل من أرض مصر إلى أرض كنعان بعد أن أوصى الإسرائيليات أن يستعرن من المصريات حليهن، بحجة أن عندهن احتفالا عظيماً. فرحلن في اليوم التالي والحلي معهن. ولما بلغ موسى بهم أرض كنعان قال: إن الله يرسل أمامهم ملاكاً ويطرد من أمامهم الكنعانيين والأثوريين والحثيين والغرزيين والحويين والبيوسيين (انظر الإصحاح 33 العدد 2، والإصحاح 23، والعدد 23 من سفر الخروج. وكان كلما تذمروا من بطئهم في برية سينا مناهم بأنهم سيمتلكون منازل الكنعانيين وأثاثهم وفرشهم ولحفهم وطناجرهم ومواشيهم وكرومهم الخ.
لماذا طرد الله أولئك من أمامهم، أليسوا خليقته؟ أما كان ممكناً أن يحولهم إلى عباده؟ هذه مسألة لا هوتية لا نبحث فيها، وإنما اقتضتها سياسة موسى في قيادة بني إسرائيل.
وإذا كانوا في ذلك الزمن شعب الله المختار؛ فقد صار ملايين من البشر من عباده، أفلا يزال شعبه المختار؟ إذا كان الله قد وعدهم أرض كنعان في ذلك الزمان، أفيبقى هذا الوعد
نافذاً أربعين قرناً؟ وإذا كان نافذاً إلى اليوم، فسكان فلسطين اليوم هم من سلالة إسرائيل، ولما ظهر الإسلام أسلموا. فهم الآن في وطنهم والقادمون من وراء البحار دخلاء.
وإنما جنبت موسى هذه المسؤولية تورعاً وألقيتها على التلمود لأن التلمود هو شريعة اليهود الأولى والصحيحة، وشريعة موسى جاءت ثانوية. وإن كان التلمود قد جمع من شرائع مختلفة منذ قرنين بعد المسيح، وفيه ما ليس في التوراة من عجائب الفروض والسنن وغرائب المقدسات والمحرمات الخ كما سترى. فلا بدع أن نستند إليه في مقال أو كتاب.
يقول الأستاذ لطيف وهو يدافع عن التلمود: إنه قرأ التلمود بنفسه فلم يجد فيه إلا تعاليم إنسانية ومدنية، مما يوصي بمراعاة القريب (ومن هو القريب) وإيوائه كفرد من الأسرة إلى غير هذا من الفضائل. حسن! ولكن هل مر في أثناء مطالعته للتلمود على هذه الآيات البينات التالية:
(إن التلمود وجد قبل الخليقة. ولولا التلمود لزال الكون)(انظر سفر بشليم 54، 58 من التلمود الأصيل).
(أحذر يا بني - يقول الحاخام رابا - واتبع التلمود لا التوراة؛ فالتوراة تتضمن أحكاماً لا تستوجب مخالفتها عقاب الموت. وإما من يخالف حرفاً جاء في التلمود فالقتل عقابه. ومن يهزأ بكلمة من كلمات التلمود يغمس في الغائط ويساق فيه حياً إلى أن يموت)، (سفر رُوبين 21 حرف ب من التلمود) - ويحكم يا هؤلاء! ما فطن مأمور هتلر إلى تعذيب فظيع كهذا.
(إن الله يدرس التلمود منتصباً على قدميه)، (سفر مجيلا 21).
(من يعارض حاخاماً أو يناقشه أو يتململ منه يعارض العزة الإلهية نفسها). (كلام الحاخام إن ناقض كلام حاخام آخر هو من وحي الله أيضاً؛ فلليهودي أن يختار من الكلامين المتناقضين ما يوافقه)، (سفر شولبين وسفر جيباموت).
(إن الحاخامين ملوك، ويجب إكرامهم كملوك)، (سفر جينين 62).
(دخلت يوماً قدس الأقداس فرأيت الله جالساً على كرسي مرتفع، فقال لي: باركني يا بني. إذ باركته شكرني وسلم وانصرف)(سفر بيراشون 7 حرف أ).
(ما يقرره الحاخامون على الأرض هو شريعة الله)، (سفر روش هشاشا 8 حرف ب).
(الحاخامون يصبحون جميعاً آلهة ويُدعون بَهوَه أي: (الله). (سفر بابا تبرا 75 حرف أ).
(للحاخامين السيادة على الله، وعليه إجراء ما يرغبون فيه)(سفر مويدقنان 1 حرف أ).
(إذا احتدم الخلاف بين الحاخامين والله فالحق مع الحاخامين)(سفر بابا مزيا 86 حرف أ). وهناك كثير من هذه الطرائف.
إذا كان الأستاذ لطيف المختار لم يجد هذه الآيات في التلمود الذي طالعه فأسأله: أي تلمود قرأ؟ طبعاً لم يقرأ التلمود الأصيل بل قرأ التلمود المنقح.
التلمود الأصيل ذو 14 جزءاً جمعت محتوياته في القرن الثاني للميلاد. وقد قرَّظه الكاتبان اليهوديان: جيروم ونارو فقالا فيه: إنه مجموعة شاذة لمعتقدات وعواطف وأمال وخرافات وقصص وتقاليد وقواعد تشريعية وأدبية.
وقد ظهر من هذه المجموعة طبعات مختلفة أقدمها عهداً ظهرت في مدينة البندقية سنة 1520 ثم طبعت بعد ذلك مراراً. فما لبثت أن جاءت حجة ضد اليهود؛ فنقحها مجمع منهم واستعبد منها كل ما هو شاذ وناب وأصدر أمراً بأن لا يطبع إلا النسخة المنقحة. ولكن الناشرين ضربوا بهذا الأمر عرض الحائط. وأما النابيات فحفظت على حدة يلقنها الحاخامون لبني جلدتهم شفوياً.
والظاهر أن الأستاذ لطيف لم يطلع إلا على التلمود المنقح الذي قدمه إليه أحد اليهود الذي يخجل من إظهار التلمود الأصيل.
وإذا شاء حضرة الأستاذ أن يعرف أشياء أخرى عن التلمود الأصيل وعن أخلاق اليهود ومبادئهم ودسائسهم الخ فأنصح له أن يطلع على كتاب الصهيونية ونشأتها وأثرها الاجتماعي (الذي أخذت عنه معلومات عن التلمود في هذا المقال) بقلم م كفوري وقد طبع بمطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاءه. فإذا لم يجده في بغداد فلعل الأستاذ محمود حامي صاحب المكتبة العصرية يستطيع أن يجلبه له.
وإذا شاء الأستاذ لطيف المختار أن يعرف أسرار سلوك اليهود الخاص في جميع الأمم وكنه رغبتهم في إنشاء دولة يهودية في فلسطين يتوسلون بها إلى السيطرة على كل العالم واستعباد جميع الأمم؛ فنرشده إلى مجموعة (البروتوكولات) الأربعة والعشرين السرية التي
طبعتها
40
وثمنه شلن ونصف ما عدا البريد.
وهي خلاصة مباحثات مؤتمر مؤلف من 300 من حكماء اليهود، وهذه المجموعة تسمى قوانين شيوخ صهيون العلماء.
وهي تعتبر التلمود الجديد الذي يطبقون عليه حياتهم في هذا العصر. ففي هذه الوثائق السرية يرى حضرة الأستاذ فلسفة إبليس الرجيم. ويرى الأساليب الشيطانية لاستخدام الحرية للاستعباد، والديموقراطية للفوضى، وسلطان الذهب لدك الشعوب. وهناك يرى كيف أن الدعارة أقرب الوسائل لاستيلاء الضعفاء على الأقوياء، والخبثاء على الحكام، والمال لزلزلة كل نظام_كل ذلك توطئة لسيادة صهيون على العالم.
لست أنا مفتئتاً على اليهود وإنما أنا مستمد أخلاقهم وسلوكهم من تلمودهم ومن بروتوكولاتهم. وفي التاريخ منذ عهد إبراهيم إلى اليوم ترى في أعمالهم أدلة ناصعة على سلوكهم وتصرفاتهم. ترى سياستهم الجهنمية ظاهرة في جميع الانقلابات الدولية التي حدثت. وكان آخرها الانقلاب العثماني الذي بيت له يهود سلانيك منذ نصف قرن حتى تم على أيدي مسلمين كانوا يهوداً في الأصل فأسلموا لأجل هذه الغاية. ثم تلاه الانقلاب الروسي الهائل وكان أنصار لينين فيه كلهم يهوداً. ثم انمحقوا، وآخر من امحق منهم تروتسكي. ثم الحرب الأخيرة الآتي كان اليهود من عواملها السرية في أوروبا وأمريكا. وكان كل انقلاب ينتهي بافرنقاع اليهود من حوله. فلا يهمهم هذا الافرنقاع مادام الغرض الهدم وقد حصل.
لو يتسع المجال لاقتبسنا كثيراً من فضائح هذه البروتوكولات وفظائعها فنكتفي الآن بنزر يسير منها للدلالة على نمطها.
فبينما البند السابع من البروتوكول الأول يتكلم عن الحرية يقول (يكفي أن تدفع شعباً إلى الحكم الذاتي برهة من الزمن إلى أن يتحول إلى غوغاء بلا نظام، فلا يلبث أن نحوله نحن إلى جهاد قتَّال ثم إلى معارك بين الطبقات. وفي وسط هذه المعارك تحترق الحكومات
وتهبط أهميتها إلى رماد).
ثم يقول البند الثامن: (سواء كانت الحكومة قد انتهكت قواها في أثناء تشنجها، أو أن الشقاق في داخلها تحت أقدام عدوها_في كلتا الحالتين تعتبر ساقطة خاسرة_تصبح في قبضة يدنا. إن رأس المال الذي هو برمته في يدنا يصل منه غصن إلى الدولة وهي في إبان تخبطها، فلا بد أن نتشبث به لخلاصها من ورطتها وإلا فتهبط إلى القمر).
البند 22 يصف إحدى الوسائل للتوصل إلى القوة والسلطة (إن الجوبيم (والجوبيم هم الشعوب غير اليهودية بحسب اصطلاحهم) يتلهون بالخمرة فينشأ فتيانهم بلهاً ضعاف الأدبيات يسهل قيادهم؛ فيقودهم رسلنا الاختصاصيين من معلمين وخدم ومربيات أطفال في منازل الأثرياء، وكتبة في مكاتب الأشغال وأمثالهم، وعلى الأخص نساؤنا اللواتي في مواخير الدعارة المختلفة الدرجات التي يختلف إليها الجوبيم. وأحسب بين هؤلاء سيدات المجتمع (سيدات الصالونات) اللواتي يسعين طواعية مع أولئك في الإفساد والبذخ والترف).
البند 24 من البروتوكول الأول يقول: (إن حكومتنا وهي ماضية في سبيل النصر يمكنها أن تبدل إرهاب الحرب بأحكام الإعدام الأقل إرهاباً والأكثر تأثيراً لكي تقيم الرعب الذي يؤدي إلى الطاعة العمياء. على أن القساوة التي بلا رحمة هي العامل الأقوى في الحكومة. ليس لأجل الحصول على الفوز فقط، بل باسم الواجب، ولأجل النصر يجب أن نواظب على الشدة وعلى جعل الناس يعتقدون بصواب ما نفعله. . . لذلك ليس بالوسائل المشروعة بل بعقيدة القساوة ننتصر ونخضع جميع الحكومات إلى حكومتنا العليا. حسبهم أن يعلموا أننا بلا رحمة لكيلا يجرءوا على العصيان).
وعلى هذا الطراز تتمشى البروتوكولات الـ 24 في 60 صفحة من القطع الوسط بحرف الجرائد. وإذا سنحت الفرص نقتطف منها أيضاً وأيضاً.
وإذا ظفر الأستاذ لطيف بهذا الدستور الجديد أو التلمود الثاني، رأى ليهود العصر الأخير نيات فاضحة في هدم الفضائل المسيحية والإسلامية وغيرها، وتقويض أركان الأنظمة الاجتماعية، ونسف كل نوع من الحكم طالحاً كان أو صالحاً؛ لكى يرقوا على أنقاض خراب العالم إلى منصة السلطة. ومن هناك يملون على الأمم أنظمتهم التي تضمن لهم
السؤدد والاستبداد والاستعباد.
لا ريب أن هذه السياسة الخرقاء التي يتعلمونها سخيفة فلا يمكن أن يعوموا بها على سطح هذا الخضم الإنساني وهم مثقلون بهذه الأضاليل؛ فهم فاشلون على كل حال في فلسطين وفى أوروبا وفى أمريكا. فليجربوا حظهم في أمم الشرق الأقصى فلعلهم يفرقون هناك إلى قصر الأوقيانوس الاجتماعي، إذا لم يتوبوا من غيهم ويعودوا إلى وجدانهم السليم ويندمجوا بسائر الأمم طارحين عن عواتقهم تلمودهم. وإن أصروا على عزلتهم تكرر فيهم ما كان حظهم في ألمانيا.
فإذا لم تكن أيها الأستاذ لطيف يهودياً وإنما تتبرع للدفاع عن اليهود من قبيل العطف فشكراً لك، ولكنى لا أرى أن اليهود يستحقون العطف ما داموا يبيتون لجميع الأمم غدراً وأذى. فأرجو أن تطلع على التلمود الأصيل لا المنقح، ثم على التلمود الجديد أي مجموعة البروتوكولات، ثم قل لي ألا ترى أن التلمود خدع اليهود بإبهامهم أنهم شعب الله المختار، وانهم يمتازون على جميع الشعوب؛ فصمموا على أن ينشئوا دولة لأنفسهم على الرغم من تشتتهم ثم يغزوا سائر حكومات العالم ويخضعوها لسلطان حكومتهم العليا.
أرى أيها الأستاذ أنك رددت على مقالي بعد مرور ثلاثة أشهر على نشره في (الرسالة). فهل كان ردك هذا نتيجة مؤامرة فجاء بروتوكولا خامساً وعشرين؟ فعسى أن تكون قد نجحت فيما فعلت، ونلت ما انطوت عليه رغبتك وسلام عليك ولك.
بقيت لي كلمة أوجهها إلى اليهود أنفسهم. ألا يرى يهود العالم أنهم حيثما كانوا مصدر خوف وأذى أفلا يتساءلون فيما بينهم: لماذا كان يكرههم الشعب الألماني ثم جميع شعوب أوربا، ثم الشعب الإنكليزي الذي كان أعطف الشعوب عليهم، وقد منحهم وعد بلفور، ثم الشعب الأمريكاني وقد قسم لهم قطعة من فلسطين ثم ردها لأهلها لأسباب سياسية.
لماذا لا يعقدون مؤتمراً ويبحثون في أسباب جفاء العالم لهم، ويبحثون عن وسائل لإزالة هذه الأسباب لكي يعيشوا مع العالم بسلام؟.
وأما قولهم إن العالم يحسدهم لأنهم أذكياء؛ فهذا سبب سخيف لا يقيم وزناً.
لا نريد لهم الشر؛ فليريدوا الخير لأنفسهم والسلام.
نقولا الحداد
نعم نملك تحريم تعدد الزوجات
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
نعم نملك تحريم تعدد الزوجات، ولكن بطريق ما كان يصح أن يخفى على حضرة صاحب المعالي العالم العلامة عبد العزيز فهمي باشا، وقد سلكه أولو الأمر حديثاً في نظائر لتعدد الزوجات، ولم يتعسفوا الطريق إليها كما تعسف في طريق تحريم تعدد الزوجات فوقع فيما لا يصح أن يقع فيه مثله في علمه وفضله، لأن إباحة تعدد الزوجات من الأحكام التي جرى العمل بها في عهد النبوة والصحابة، وفى كل العهود الإسلامية إلى عهدنا الحاضر، وهو الحكم الذي يوافق تشريع الإسلام، لأنه يمتاز بأنه تشريع صالح لكل زمان ومكان.
ومن يخالف مثل هذا الحكم المظاهر يقع فيما وقع فيه الباشا حين أنكر إباحة تعدد الزوجات في الإسلام، فاضطر حين خالف بهذا ما جرى عليه العمل جيلا بعد جيل إلى تعسف لم يقع نظيره من مسلم، ولكل جواد كبوة، ولكل عالم هفوة، ولله العصمة وحده، وقد كان هذا بأن ذهب إلى أن فترة الإسلام الأولى منذ الهجرة إلى آخر الدولة الأموية كانت عهداً مملوءاً بحروب المسلمين وفتوحاتهم، والجنود في كل أمة يدللون ويتجاوز لهم عن كثير من الآثام في مقابل أنهم وهبوا حياتهم للدفاع عن أمتهم، والشباب من جند المسلمين كانت الغريزة الجنسية تتنبه عندهم في أوقات الراحة بين المواقع الحربية، ولم يكن لهم سبيل إلى إجابة داعيها بغير التزوج، لأن الزنا محرم، فكانوا يتزوجون غير زوجاتهم الآتي تركوهن في بلادهم، ثم استمروا على هذه العادة المحرمة، ولم يعدموا من يهونها عليهم بالحيل الشرعية، ثم شايعهم عليها أهلوهم ولو لم يكونوا محاربين، فانتشر العمل بها بين المسلمين في القرن الأول والثاني، ولما جاء عصر التدوين في آخر الثاني وأوائل الثالث كانت هذه العادة قد صارت من التقاليد القديمة المستقرة المحببة إلى المسلمين، فاضطر الفقهاء في كثير من الجهات إلى مسايرتها، وتدوين الواقع من متابعة الناس لها، وتساهلوا في تأويل سندها من القرآن، كما تساهل فيه المحاربون الأولون.
ولاشك أن مثل هذا الكلام لا يصح أن يقال من عالم مثل الباشا درس تاريخ المسلمين، وعرف بإخلاصه لدينه وتقاليده، لأنه لا يعقل أن يسكت المسلمون كلهم على ذلك الإثم، ولا يوجد فيهم واحد يقوم بإنكاره، وينبههم إلى حقيقة أمره، ولكن الباشا حفظه الله وأطال في
عمره يرى أن تعدد الزوجات صار غير محتمل في عصرنا بشكله الأول، وأنه لابد من تقييده بقيود تلائم ما صار إليه المسلمون الآن، فيجد من الأستاذ الفاضل إبراهيم زكى الدين بدوي ومن لا يحصى من العلماء من يقف في طريقه، ويرى أنا لا نملك أن نحرم تعدد الزوجات، لأن في هذه خروجا على إباحة الدين له، كما قبل مثل هذا عند تحديد سن الزواج ونحوه مما جرى العمل الآن به، وأله الناس بعد أن ثاروا عليه عند تشريعه، فيقابل الباشا هذا الغلو في التشدد في أمر القديم، بالغلو في محاولة إبطاله، ويوقعه هذا في خطأ الغلو مثلهم، لأن الإسلام دين وسط لا غلو فيه، وبهذا كان أصلح تشريع عرفه البشر منذ وجودهم على ظهر الأرض.
إن الإسلام قد أعطى تعدد الزوجات حكم الإباحة، ليتصرف المسلمون فيه في كل زمان ومكان بحسب المصلحة، فيأخذوا به إذا اقتضت مصلحتهم، أن يأخذوا به، ويكفوا عنه إذا اقتضت مصلحتهم أن يكفوا عنه، ويكون بهذا حكماً صالحاً لكل زمان ومكان، كما هو شأن سائراً حكام الإسلام، فلم يجعله سنة أو فرضاً على المسلمين حتى يؤخذ فيه شئ عليهم، ولم يضيق عليهم بتحريمه كما ضيق غيره من الأديان، لأن هذا التضييق لا يلائم كل زمان ومكان.
وليس معنى الإباحة في الإسلام أن يأخذ المسلمون فيها بشهوتهم، فلا يقفوا فيها عند حد، ولا يتصرفوا فيها بالحكمة لأنه أسمى من أن يطلق لشهوة المسلمين عنائها في هذا الحكم، وقد أباح لهم لباس الزينة والأكل والشرب من الطيبات، ولكنه لم يطلق لهم أمرها إطلاقاً، بل قال الله في الآية_31_من سورة المائدة (يا بنى آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين) فما ظنك بإباحة تعدد الزوجات وأمره فيها ليس كأمر الزينة والأكل والشرب، لأن كلا من هذه الثلاثة مباح مرغوب فيه، أما تعدد الزوجات فهو مباح غير مرغوب فيه، كما قال تعالى في الآية - 3 - من سورة النساء (فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا).
وقد كان الأخذ بإباحة تعدد الزوجات مقبولا في الصدر الأول لأن المسلمين كانوا عدولا متمسكين بأمر دينهم، فكانوا يعدلون بين نسائهم وأولادهم، وكانت النساء لا ترى حرجاً في ذلك التعدد لأنه كان يؤخذ بالحكمة، ولا يتأثر فيه بالشهوة، وكان الأبناء من الزوجات
المتعددة لا يجدون تفاوتا في المعاملة من آبائهم، فلا يحدث بينهم شقاق يضر بدينهم.
ولأن المسلمون كانوا في قلة بين الأمم المجاورة لهم، وقد قامت بينهم حروب متتابعة تحدث فيهم قلة إلى قلتهم، فكانوا في حاجة إلى تعدد الزوجات ليعوض ما يصيبهم في الحرب من فقد الرجال، ويزيد في عددهم حتى يمكنهم أن يدافعوا عن أنفسهم، ويكون فيه علاج لما تحدثه الحرب من نقص عدد الرجال عن عدد النساء، فيجمع بعض الرجال بين زوجتين أو ثلاث أو أربع، ممن فقدن رجالهن في الحرب، ليقمن بوظيفة النسل للمسلمين، ويجدن من يقوم بأمرهن بعد فقد أزواجهن، في حال من الحل لا يكون فيها حرج عليهن، ولا يكون فيها من الضرر بالمجتمع مثل الزنا.
ولأن المسلمين في ذلك الوقت كانوا خير أمة أخرجت للناس، فكانت كل زيادة في تلك الأمة التي أخرجها الله لتؤدى رسالتها بين الناس، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، والزيادة في الخير محبوبة، ولا شئ في أن يصار إليه بتعدد الزوجات، لأن كل وسيلة إلى الخير مقبولة.
فهل المسلمون الآن كأهل الصدر الأول؟ وهل يرجى خير من زيادتهم بتعدد الزوجات كما كان يرجى في عهد ذلك السلف الصالح؟ اللهم كلا ثم كلا.
أما الخيام فإنها كخيامهم
…
وأرى وجوه الحي غير وجوههم
فليس المسلمون الآن عدولا كما كانوا في الصدر الأول، فلا تجرى تصرفاتهم في تعدد الزوجات بالحكمة بل بالشهوة، ولا يعدلون بين نسائهم وأولادهم، ولقد كان هذا سبباً في فساد الأسرة الإسلامية، لأن الأسرة لا يستقيم حالها بغير العدل، ولقد جر فساد الأسرة إلى فساد الأمة، لأن الأمة تتألف منها، فيصلح حالها بصلاح حالها، ويفسد حالها بفساد حالها.
وليس المسلمون الآن في قلة كما كانوا في الصدر الأول، لأن عددهم يربو الآن على ثلثمائة مليون، وهذا عدد لا يستهان به إذا ربى تربية صالحة، ولا قيمة له إذا لم يؤخذ بهذه التربية، فهم الآن ليسوا في حاجة إلى زيادة العدد، وإنما هم في حاجة إلى تلك التربية الصالحة.
وليس المسلمون الآن خير أمة أخرجت للناس، حتى يكون في زيادتهم بتعدد الزوجات زيادة في خيرهم، لأنهم لم يجعلوا خير أمة أخرجت للناس بذواتهم، وإنما جعلوا كذلك لأنهم
يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فإذا لم يقوموا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كانوا كغيرهم من الأمم، بل كانوا أسوأ حالاً منهم، وهاهم أولاء الآن لا يقومون بهذه الوظيفة كما كان يقوم بها سلفهم فصاروا إلى كثرة لا خير فيها، ولا يرجى خير في زيادتها بتعدد الزوجات، بل يزيد شرها ويتفاقم كلما زادت، ويتسع خرقه بزيادته على الراقع.
نعم نحن الآن غثاء كغثاء السيل، كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأسد على فريستها، فقالوا له: أعن قلة يا رسول الله؟ قال: لا، ولكن غثاء كغثاء السيل.
ولقد كان العشرون من أهل الصدر الأول يعدون بمائتين، وكان المائة منهم يعدون بألف، بل كان الواحد منهم يعد بألف أو أكثر، أما نحن الآن فالألف منا يعدون بواحد، ولا خير في كثرتنا ونحن على هذا الحال، بل يجب أن نعمل على تقليل عدد الأسرة فينا بمنع الزيادة على زوجة واحدة، ليمكن رب الأسرة أن يربيها صالحة، ويمكننا أن نهنئ جيلاً صالحاً يعتز الإسلام به، ولا يكون كهذا الغثاء الذي يحط من شأن الإسلام، ويحط من قدر المسلمين بين الأمم.
وسيجد الباشا بعد هذا أن ما يريده من منع تعدد الزوجات كان مطلباً سهلاً لا يحتاج إلى ما تكلفه في أمره، وما كان الشارع الحكيم ليعطيه حكم التحريم الذي حاوله الباشا، وهو يزن أحكامه أعدل وزن، فلا يرضى أن يجعل تعدد الزوجات كالزنا في الحكم لأن التسوية بينهما في الحرمة يأباها العقل.
وسيجد الأستاذ إبراهيم بدوي بعد هذا أنه لم يكن له أن يقول في عنوانه (هل نملك تحريم تعدد الزوجات) لأنا نملك هذا من غير نزاع، ونزاعه مع الباشا في أن تعدد الزوجات حلال أو حرام، وهذا له عنوان غير ذلك العنوان، والحق أردت، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت.
عبد المتعال الصعيدي
في التحليل النفسي:
تخاف من العرائس
للدكتور أحمد فؤاد الأهواني
قالت إنها تخاف من العرائس، فتبادر إلى ذهني أنها تخاف من الفتيات في سن الزواج وقد أعلنت خطوبتهن وأصبحت الواحدة منهن (عروسة) كما هو الاصطلاح في تعبير العامة. وأيد هذا الظن أن السائلة فتاة حول العشرين من عمرها. فقلت لها ولماذا تخافين من العرائس، هل ترهبين الزواج ولا تريدينه؟ قالت لا، ليس الأمر كذلك، إني أعني تلك العرائس التي يصنعها الناس للزينة أو التسلية، ويتخذها الأطفال أداة للهو واللعب والعبث، ثم نطقت بالفرنسية (بوبيه).
ورأيت أن الأمر ليس سهلا كما تصورت في أول الأمر، فطلبت منها زيادة الإفصاح والبيان.
هذا وأنا آخذ حالة الفتاة مأخذ الجد، فهذا أول شرط في التحليل النفساني.
قالت: إني أخجل من نفسي خجلاً شديداً، ولا أحب أن أفضي لأحد بأمري حتى لايهزأ بي، فأنا أعلم أن العرائس لاضرر منها، وهي لاتؤذي، ولاتملك نفعاً ولاضراً؛ ثم إني قد بلغت من السن مالا ينبغي أن ينزل بقلبي الخوف من مثل هذه الأشياء التي لا تليق إلا بالصغار من الأطفال. وبلغت من الثقافة ما أعلم معه علم اليقين أننا نحن الذين نصنع هذه العرائس بأيدينا، فكيف نخاف منها.
وكانت حقاً على درجة من الثقافة، فقد تلقت العلم في مدارس فرنسية، وهي تشتغل الآن مدرسة في مدرسة ابتدائية.
واستطردت قائلة: فأنت ترى أن هذه الحالة تسبب لي متاعب كثيرة، وترهقني من أمري عسراً.
فأنا لا أطيق أن ألمس (عروسة) واضطرب اضطراباً شديداً إذا دخلت حجرة فوجدت فيها شيئاً من ذلك فأخرج منها. ولهذا السبب رفع أهلي من البيت كل عروسة، وكل تمثال للزينة، لأنني أخاف كذلك من التماثيل. وإذا علمت أن صديقة من صديقاتي تحتفظ في بيتها بعرائس أو تماثيل، أبيت أن أزورها، دون أن أبدي السبب الحقيقي لأنه مضحك حقاً.
ثم إني لا آمن إذا دخلت بيتاً، وجلست في غرفة تخلو من العرائس، أن يدخل علينا طفل يلهو بعروسة في يده، وعندئذ يحدث لي هذا الخوف الذي يبلغ حد الفزع، فأستاذن في الحال وأصرف، وأنا في موقف شديد الحرج بالنسبة إلى نفسي وبالنسبة إلى صديقتي.
ثم تصور أن أي أختا تكبرني سنا، وهي متزوجة وذات أطفال، وقد حرمت على نفسها شراء العرائس لأبنائها حتى تيسر لي زيارتها، وتستقبلني في دارها. فانظر مبلغ العنتْ الذي كنت سببه. . .
قلت لها لعل هذه العرائس قبيحة المنظر، تخيف حقاً، فهي لذلك تبعث الرعب.
قالت: الغريب أن العروسة كلما زادت جمالاً، ازددت خوفاً. فالتقطت منها هذه الكلمة، أعني (العروسة الجميلة)، وقلت في بالي هذا مفتاح أعلم منه سر نفسها. ثم ذهبت ألاحقها بالسؤال عن ذكريات الماضي وعهد الطفولة، إذ كانت العقد النفسية تتكون في الصغر بل الصبا المبكر.
قالت إنها لاتذكر متى بدأ خوفها من العرائس، ولكن أهلها يقولون إنها وهي طفلة صغيرة جداً تخاف منها. وأقدم ذكرياتها التي تعيها، أنهم كانوا يضعون تمثالاً من الجبس على هيئة امرأة ملاءة سوداء فوق الشباك بالقرب من سريرها وكانت رؤية هذا التمثال تفزعها وتبعث في خيالها وتبعث في خيالها أشنع الأوهام.
وهذا كله معقول، فالطفل الصغير قاصر الإدراك، وقد يكون أصل هذا الخوف ومبعثه إيحاء بعض أخوات هذه الفتاة وقولهم لها ما يثير الخوف، فصدقتهم، واستمرءوا هذا العمل ومضوا فيه، وأصبحت الفتاة الصغيرة ترهب هذه العرائس وترتعش أو ترتبك عند رؤيتها. وثبت في نفسها هذا الخوف مع الزمن وأصبح كما يقولون (عقدة نفسية).
ولكن حل العقدة يكون بمعرفتها، واستخراجها من باطن النفس وأغوار الماضي فيبرح عنها الخفاء. وقد علمت صاحبتنا بأمر هذه العقدة، وعلمت أن ليس في العرائس ضرر، فما هو السر إذن؟
فانصرفت إلى البحث عن هذه (العروسة الجميلة) التي تخاف منها، التمس في الجمال علة الاضطراب.
وكان من الواضح أن السائلة غير جميلة.
وشرعت أسألها عن علاقتها بهن، ولها أختان شقيقتان إحداهما تكبرها بثمانية أعوام والثانية بعامين. الكبرى متزوجة وصاحبة أبناء، والصغرى لم تتزوج بعد.
وتبين من نبرات صوتها عند الجواب أن بينها وبين أختها الثانية أشياء. فهي أجمل منها، وأكثر منها حظاً في التعليم، وتشتغل منصباً أفضل منها.
وألححت في السؤال، فقالت إنها تحترم أهلها وأخوتها وقد رباها أبوها تربية صالحة، وعلمها أن تقف من أخوتها موقف المحبة والاحترام.
ولكن الغيرة لا تعرف التقاليد والحدود الاجتماعية. والواقع أن الغيرة الشديدة قامت بين صاحبتنا وبين شقيقتها منذ الصغر فهي أجمل منها، وأحسن منها في التعليم حظاً، وأرقى من حيث المنزلة الاجتماعية، فضلا عن الغيرة الطبيعية التي تنشأ بين الأختين إذا كانتا متقاربتين في السن.
إذن فهي في صراع بين الواجب والواقع، بين واجبها نحو أختها وأهلها، وبين طبيعة نفسها التي تحدثها بالغيرة.
ولكن ما شأن أختها بالخوف من العرائس؟
لقد حدث عندها ما يعرف في علم النفس باسم (التحويل) فقد حولت خوفها من العرائس وهى الدمى التي يلعب بها، إلى أختها لما بين الاثنين من مشابهة في معنى (العروسة). والعروسة عند العامة هي الفتاة المخطوبة إلى عريس فالأخت عروسة بالمعنى الصحيح لهذه الكلمة. وأكبر الظن أن الشخص الذي كان يخيفها في الصغر، أي وهى في سن الثانية من عمرها، هي هذه الأخت.
وإذن فقد تعقدت العقدة، وتحولت من مجرد الخوف من العرائس المصنوعة للهو، إلى الخوف من (العروسة الجميلة) وهذا سر قولها إن العروسة كلما كانت جميلة، كان خوفها أشد. وكأن أختها أصبحت رمزاً حولت إليه خوفها، وغيرتها، وبغضها. . .
ويؤيد هذا كله، ما ذكرته من أنها لا ترغب في الزواج، وتمانع فيه، أو على الأقل كانت تمانع إلى عهد قريب.
ويؤيد ذلك أيضاً أنها تخشى الأطفال الحديثي الولادة، أي الذين في سن الرضاعة. قالت إنها ذهبت عند أختها الكبرى، وهى متزوجة وذات أطفال، وعرض لأختها أمر يقتضي أن
تخرج من الغرفة على عجل، فأعطت ابنها الرضيع إلى صاحبتنا، والتمست منها أن تهدئ من روعة إلى أن تعود. وحملت الفتاة الطفل بين يديها وهى ترتجف من شدة الخوف، وكادت تلقى به إلى الأرض.
ونصحها أحد الناس بأن تصنع عروسة من قماش لعل ذلك يجعلها تألف بطريقة عملية هذه العرائس فلا تعود ترهبها. وفعلت ذلك، فقصت القماش، ووضعت داخله القطن، حتى إذا أوشكت العروسة أن تكتمل، وصورت رأسها، لم تستطع أن تمضى في صنعها إلى النهاية، وبرز الخوف في نفسها.
ليس العلاج عسيراً، فإذا عرف السبب بطلت آثار الاضطراب؛ والمهم أن يقتنع المريض بصحة الأسباب، وأن يعمل على علاجها.
أما عن السبب الأول وهو الخوف من العرائس الذي كان يقع في الصغر، وصحبها إلى الكبر، فيرجع إلى الوهم والتهويل، وقد عرفت أن هذا الوهم باطل، ولا ينبغي التهويل فيه.
أما عن السبب الثاني وهو الغيرة من أختها، فقد وجدت بعض المشقة في ترويض نفسها على محبتها المحبة الأخوية الصادقة ذلك أن القضاء على الأحوال النفسية التي ثبتت في النفس مع طول الزمن من أشق الأمور، مثلنا في ذلك مثل من يعتاد التدخين أو لعب الميسر أو شرب الخمر، لا يسهل عليه أن يقطع عادته التي ألفها بين يوم وليلة.
وقد رسمنا لها الطريق المؤدى إلى كبح جماح الغيرة، وفى القضاء على الغيرة من أختها على وجه الخصوص القضاء على خوفها الموهوم من العرائس.
أحمد فؤاد الأهوانى
إلى الشرق العربي المجاهد:
ذكريات أجناس
للأستاذ محمد عبد الحليم عبد الله
(كان المرج واسعاً والماء صافياً نيراً، والعشب أخضر ملتفاً، يغرى بالرعي سارح السوائم. وقطيع البقر يجرى ههنا وههنا طاعماً من الكلأ، شارباً من الماء، موقناً أنه نامت عنه المقادير
كان ذلك كذلك، حين جاء أول إنسان، وقاد أول ثور ليضع على عنقه النير، ثم أجرَّه المحراث وشق به الأرض).
هذا ما قاله الثور الأسود والزبد يسيل من شدقيه ولا يكاد يستطيع أخذ أنفاسه، حين وقف تحت الشجرة إلى جانب الثور الأبلق لينالا علفهما ثم يعودا يحملان النير.
ولم تكن ذكريات الحرية الأولى التي أفضها على صاحبه لتخفف مما يعانيه هو. بل احمرت عيناه، ولوَّح بقرنيه في الهواء كأنما يغالب ما يدفعه إلى أن يفتك بهذا الحراث الغشوم. ولم يكن قد وضع رأسه في المذود ساعة استعاد ذكريات ماضيه الحر، كلا ولا وضع رأسه بعدها. على حين كان صاحبه يأكل التبن أكلاً لمَّا غير مبال بما يخالطه من زبد يسيل من شدقيه. فقال الأسود:
أنت يا صاحبي هادئ لم تثر في نفسك ذكريات الحرية ما قد أثارته في نفسي حتى صدتني عن الطعام. فلم يرفع الأبلق رأسه من المذود المشترك، بل مال عليه بصفحة وجهه يقول ساخراً: هيه هيه أيها المغرور!! لعلك ابن بقرة فيلسوفة قصت عليك ما حفا به تاريخنا في القديم من سعادة كخيال الأساطير. وهب هذا صحيحاً فما أنت فاعل؟ يجب أن تسلم أيها الخيالي بأن عنقك هذا القوى الغليظ لم يغلق هكذا إلا للنير.
فضرب الأسود بحافره الأرض حفاظاً وغيرة، ثم خار خورة مكتومة قال على أثرها:
- أنت يا صاحبي مظلم الغريزة مخطئ الإلهام؛ فأعناقنا لم يبد هكذا إلا لأن جدَّنا الأول حمل النير يوم قاده الطاغية من مرجه الجميل فغلظ عنقه شيئاً ورثه ابنه من بعده. ثم ما زال هذا الميراث السيئ يظهر أكثر وضوحاً على تعاقب الأجيال حتى خلقت أنا وأنت على نحو ما ترى. فتوارث العيوب وإقامة الأجيال على البغيض من أكبر البلايا التي تمنى
بها الجماعات. فلو أن الثور الأول رفض النير ما حمله الثاني من بعده. على أن الثاني ليس خالياً من التبعة كذلك، لأنه لو رفضه ما حمله الثالث وبتتبع حلقات السلسلة نصل إلى أنني وإياك يجب أن ننزل النير من على عواتقنا لنخلّص منه سلالاتنا المقبلة.
قال الأبلق وقد كف عن الأكل: لكنك في كل ما قلت تناقض مبادئ الخلقة، لأنني لا أكاد أرى نوعاً سوانا يصلح لحمل الهوان الذي نحن فيه.
فقال الأسود: لم يكذب ظني فيك فأنت حقاً مظلم الغريزة! لماذا أكلف نفسي عناء البحث عن جنس آخر يحمل النير من بعدنا؟! نريد أن نتخلص منه، ثم ليحمله الشيطان أو ليحمله الحرَّاث نفسه.
وكل ما أستطيع أن أجزم به هو أن الثور الأول لم تكن خلقته على ما نحن عليه. فلا بد أنه كان رقيقاً لطيفاً فيه من الظباء مشابه كثيرة؛ ولما صاحبه الاستعباد أتلف نسله على مرِّ الزمن.
أما سمعت عن قصة الغراب؟ لقد كان يمشى في الزمان الخالي على رجليه باعتدال، ثم طرأ عليه ما هو خارج عن خلقته فمشى على رجل واحدة وقبض الأخرى حين فشل في محاكاة العصفور ونسى مشيته الأولى!! آه. . . ثم كان الغربان على ما تراها الآن مشيها وثب: لقد ذكرني بنفسه، ها هو ذا قادم أتاه؟؟ إنه آت ليلتقط حبات الفول من أمامنا في المذود.
وتهافت الغراب باحثاً عن الحب، فطرده الأسود برأسه، ثم عاد فطرده مرة أخرى. فوقف فوق الشجرة، وترجح بأحد الأغصان، وأدار رأسه ذات اليمين وذات الشمال كأنه يفتش عن أحد من جنسه، ثم شرع يقول للأسود:
سمعت ما قلته عن الغربان أيها الملعون وأنا في طريقي إليك. لقد أورثني أبى عرجاً ولم يورثني عبودية. وهاأنذا أسخر منك قادراً على أن أسخر ممن استعبدك كذلك، فانظر ما أنا فاعل. . . أنا ابن الهواء الطلق وسليل ذوائب الأشجار.
ثم أطلق سلسلة نعيب تشاءم الحراث منها فقام عن طعامه وقذفه بحصاة، ولكنه طار عن الشجرة ساخراً مزهواً. . .
فاض على الثور الأبلق غيظ من أن سخر من جنسه ضعاف الأجناس، فرفع رأسه عن
طعامه ناظراً إلى الأسود بعينين ملتهبتين كذلك كأنه يسأله ماذا يجب أن يعمل؟ يا لتراجع الحظ! أيسخر منا كل جنس حتى الغربان؟!
قال الأسود: وأخيراً آن لك أن تعلم أنك مغلوب، وأننا كنا من قبل في مرج خلق لنا وخلقنا له، يوم خص الله كل جنس بطعام ومكان!! وبقيناهكذا حتى حجزنا الظلم عن مرعانا ومرَّ الزمان ومرَّ حتى خيَّل إليهم أنه علينا حرام. . .
كان الحرَّاث قد فرغ من طعامه واضطجع قليلَا على أحد جانبيه وعيناه إلى الثورين، فرأى الأسود لم ينل من علفه شيئاَ على حين أكل الأبلق قليلا ثم كف. فقام إلى الأسود يمسح ظهره ويطرد عن عينيه الذباب، ثم حل رباطه وأورده الماء، وأعاده إلى مكانه، ثم رمى أمامه حفنة من الفول خصه بها وعاد فاضطجع من جديد في هدوء شديد يرقب ويرى ماذا يكون؛ فتبادل الثوران نظرات السخرية حين رأيا أنه حابى الأسود ولم يهويا إلى علفهما بفم.
ومرت لحظات قام الحراث من بعدها إلى الأسود يصب عليه سوطه ثم جرهما معاً إلى المحراث ولم ينزل عنهما النير إلا بعد أن غابت الشمس.
أوى الرعاة إلى الأكواخ، وأوت السوائم إلى الحظائر، وسكن الليل فهاجت هواجس المكروبين.
ورقد الأسود بجوار الأبلق يجتران على المربط علف المساء ويراجعان حديث الصباح فقال الأبلق:
لقد كفرت بالذي قلت لي في الصباح يا صاحبي لأنني فكرت وأنا هادئ. ويخيل إِليَّ أنه كما ينسجم البلح على النخل، وينسجم الجميز على شجر الجميز، لا ينسجم النير إلا على أعناق الثيران!! تصوره مرة على رقبة جمل، ثم تصوره أخرى على رقبة زرافة، تحكم ولا شك بأنه شاذ غريب.
فنطحه الأسود برفق ليثوب إليه رشده، ثم قال:
لن ينزل عن عنقك النير حتى تؤمن بأنه لم يخلق لك. ولو رآه الناس على رقاب الجمال والزرافات طوال القرون التي رأوه فيها على رقابنا، لآمنوا وآمنت معهم بأنها خلقت للنير. إن طول الألفة للمكروه يقربه من أن يكون في نظر الضعيف حقاً، على أن الأقوياء يرقون
دائماً من حسن إلى جميل ومن تل إلى جبل.
ثم قام واقفاً على رجليه وخار خواراً عنيفاً هز أرجاء الحظيرة حتى ظن الأبلق أنه باطش به لا محالة، وقال: لا تعتبرني مغالياً إذا قلت لك: لو رأى كل ما يسكن الأرض من دابة أن البشر من قديم تحت سلطان البقر لألفت دواب الأرض كلها هذا الوضع!!
الأمر في أوله مصادفة يا صاحبي، ثم تألفت العين ما فعلته المصادفة، حتى يقال بعد طول السنين: يجب أن يكون هذا هو الجنس الغالب.
فقال الأبلق خائفاً لاهثاً: وماذا أنت مقترح أن تفعل؟! اهدأ قليلا لئلا يسمع الحراث!!
فقال الأسود: ألا فليسمع فإني أريد أن يسمع: المرج لنا كما قد خلقه الله.
قال الأبلق: وهل ينجيك هذا من النير والمحراث عند ما تشرق الشمس؟!
فرد صاحبه: لن ينجينا من الاستعباد إلا أن نعتصم كلنا بالمرج، فإما أن يكون لنا الكلأ الأخضر، وإما أن يكون لنا الموت الأحمر.
(وهجع المظلومان حتى الصباح، ولم يكونا نائمين، لأن شبح النير أفسد عليهما المنام!!). . .
محمد عبد الحليم عبد الله
زواج تولستوي
للأستاذ محمود الخفيف
(تتمة ما نشر في العددين السابقين)
وعادت الأسرة إلى موسكو فكان يزورها كل يوم، وما زال أهل الدار ما عدا صوفيا وتاتيانا يعتقدون أن الكونت يتجه بقلبه إلى ليزا. . .
وظل على هذه الحال أسبوعين بعد ذلك لا يقطع زيارته ولا يجمع عزمه على رأي؛ ولقد جاء في مذكراته في السابع من سبتمبر قوله (لقد بقيت يومين بالبيت أفكر على انفراد في أمري لا تدفع نفسك يا دوبلتسكي حيث الشباب والجمال والشعر والحب فإن لهذه أيها الشيخ من هم أصغر منك؛ إن موضعك في صومعة من صوامع العمل حيث تطلع من عزلتك في سرور وهدوء على سعادة الآخرين وحبهم. لقد عشت في هذه الصومعة وسأعود إليها) وأثبت بعد ذلك بيومين قوله (أي دوبلتسكي لا تحلم. . . لقد كتبت لها كتاباً لن أرسله، لم أستطيع أن أتم لمدة ثلاث ساعات؛ لقد حلمت وعذبت نفسي كما يفعل غلام في السادسة عشرة) وقال في اليوم التالي (إني أشعر بالحب أكثر من أي يوم سلف. . وإن الأمل لا يزال في أعماق نفسي يجب أن أحل هذه المعضلة. . . لقد بدأت أكره ليزا وإن كنت أرثى لها. . أعني يا إلهي وأرشدني. . إن أمامي ليلة طويلة فارغة أقضيها، ذلك يؤلمني أنا الذي طالما ضحكت من آلام المحبين! كم ذا رسمت من خطة كي أصرح لها ولتانيا ولكل امرئ ولكن عبثاً حاولت. . . لقد أخذت أزدري ليزا من كل قلبي).
كان مرد هذه الحيرة الشديدة إلى أنه يخشى ألا يكون ما يحسه نحوها حباً كما يكون الحب؛ كان يخاف من نفسه على حد تعبيره، ويزيده خوفاً أنه كلما تدسس إلى شعورها ليتبين ما إذا كانت بها عيوب وجد نفسه منجذباً إليها. .
وفي الثاني عشر من سبتمبر كتب في مذكراته (إنني أحب اليوم على صورة لم أكن أصدقها من قبل. . . لقد بلغ بي الجنون أني أخشى أن أقتل نفسي إذا ما لبثت على هذه الحال. لقد قضيت المساء عندهم؛ لقد بدت لي بهيجة، ولكنني دوبلتسكي القبيح يجب أن آخذ أهبتي وشيكا. لا أستطيع النكوص الآن، ولو أنني دوبلتسكي إلا أن الحب غيرني. لقد سنحت لي فرص ولكني لم أغتنمها. . منعني الخوف، ولكن كان على أن أتكلم في بساطة
إني أحب أن أعود إليهم فأذكر كل شئ أمامهم جميعاً)
وفي اليوم التالي كتب يقول (لقد سطرت كتاباً سوف أرسله إليها في غد. . . قوَّني يا إلهي. . . ما أشد خوفي من أن أموت، فأن مثل هذه السعادة تبدو لي مستحيلة. رب أعنيّ وأرشدني)
وقال بعد ذلك بيوم (لم أنم إلا ساعة ونصف ساعة، ولكني على الرغم من ذلك منتعش جد مهتاج) وفي اليوم التالي كتب يقول (أخفقت لم أحدثها. ولكني قلت لها إن لدي شيئاً أحب أن أحدثها عنه)
وذهب تولستوي في مساء السادس عشر إلى آل بيرز وفي جيبه الكتاب الذي أعده والذي لبث في جيبه ثلاثة أيام، وألفى صوفيا جالسة إلى البيان، فجلس إلى جانبها، والانفعال ملء نفسه وبدنه، وأحست انفعاله فسرى إليها قدر عظيم منه فتشاغلت بدور كانت تلعبه قبل مجيئه. ودخلت تانيا فطلبت إليها أختها أن تغني تريد بذلك أن تخفي ما في الموقف من اضطراب. . .
وغنت تاتيانا في صوتها الرائق الحلو، وناداها تولستوي باسم مغنية كبيرة هي مدام فياردو إعجاباً بها، ثم قال لنفسه إذا ختمت تاتيانا لحنها خاتمة جيدة فسوف يعطي صوفيا ذلك الكتاب؛ وكانت تاتيانا موفقة كل التوفيق إذ ختمت لحنها، وانسحبت الشيطانة الصغيرة في لباقة، وقد أحست أنها اللحظة الحاسمة، وما كادت تغادر الحجرة حتى مدَّ تولستوي يده بالكتاب إلى صوفيا قائلاً إنه ينتظر ردها، وتناولته صوفيا بيد مرتجفة، وخرجت به فأسرعت إلى حجرتها وأوصدت الباب وراءها وجلست تقرأ. . (أي سوفيا. . أصبح الأمر لا يطاق؛ لقد ظللت أقول لنفسي طيلة ثلاثة أسابيع سأبوح لها الآن، ومع ذلك كنت أخرج كل مرة وفي نفسي مزيج من الحزن والأسف والرعب والسعادة! وكنت أنظر كل ليلة نظرة إلى الماضي فأسخط على نفسي أن لم أبح لك وأسأل نفسي ماذا عساي كنت أقول لو أني تكلمت. . . لقد ظننت أني أستطيع أن أحبكم جميعاً كما أحب الأطفال، وكنت في أفتسى لا زلت أستطيع أن أقطع ما بيني وبينكم وأعود إلى خلوتي، إلى عملي الذي يشغل وقتي كله. . ولكني الآن لا أستطيع شيئاً. أشعر أني أحدثت في بيتكم شيئاً من الاضطراب، وأن صداقتكم لي كما تصادقون رجلا شريفاً قد لحقتها بعض الشوائب، ولذلك لا أستطيع
الانطلاق كما لا أستطيع البقاء. . وإني أحمل هذا الكتاب معي وسوف أقدمه إليك إذا لم أجد في نفسي من الشجاعة ما أبوح لك معه بكل شئ. . . وإني أعتقد أن أسرتك تنظر إليّ نظرة خاطئة إذ تحسب أني أحب أختك اليزابيث وليس هذا بحق، فإن قصتك لا تبرح عقلي قط، وذلك لأني بعد أن قرأتها أصبحت أعتقد أنه غير خليق بي، أنا دوبلتسكي أن أحلم بالسعادة، لقد كتبت لك ونحن في في إفتسي أقول إن شبابك ومرحك يذكراني في صورة قوية بتقدمي في السن وباستحالة السعادة عليَّ. . . ولكني حينذاك كنت أكذب على نفسي ولا زال هذا حالي؛ إنك فتاة أمينة صريحة، فدليني ويدك على قلبك دون أن تتعجلي_وإني أناشدك الله ألا تتعجلي_ماذا عسى أن أفعل؟ لو أنني علمت منذ شهر أني سوف ألقى مثل هذا الألم السار الذي عاينته طيلة هذا الشهر لضحكت حتى يقتلني الضحك. نبئيني بكل ما في نفسك من إخلاص: أتكونين زوجة لي؟ إذا كنت تستطيعين أن تقولي: نعم وان تقوليها من أعماق نفسك فقوليها، ولكن إذا كنت تحسين أدنى شك فقولي لا. . . نشدتك الله أن تفكري ملياً في الأمر، وإني لأمتلئ رعباً كلما فكرت في قولك لا، ولكني أوطن النفس على تحمل ذلك، وسوف أقوى على تحمله بيد أنه من الأمور المفجعة ألا تحبني من تكون لي زوجة بقدر ما أحبها
وسمعت سونيا دقات عنيفة على الباب، وصوتاً هو صوت أختها ليزا يناديها في إلحاح أن تفتح ففتحت فقالت أختها! ماذا كتب لك الكونت؟ نبئيني. ووقفت صوفيا جامدة والكتاب في يدها، فقالت ليزا صائحة أخبريني الساعة ماذا كتب لك الكونت فقال صوفيا في عبارة فرنسية: إنه طلب يدي؛ فأجهشت أختها قائلة: أرفضيه. . . أرفضيه من فورك!. .
ودخلت أمهما فعملت في لباقة على أن تبعد بين الأختين فتخرج بهما من هذا الموقف الكريه وكان الكونت إذ ذاك في الثوي ينتظر، والقلق ملء نفسه، ويداه خلف ظهره، وقد استند إلى الموقد وفي وجهه صفرة لم يعرف مثلها من قبلن وأرهف سمعه إلى وقع أقدام خفيفة، وإن قلبه ليثب بين ضلوعه ودخلت صوفيا فنظرت إليه قائلة: نعم. . . ثم ولت مدبرة.
وتقدمت ليزا فهنأت أختها، ثم مشت إلى الكونت فهنأنه وقبلته في كثير من الكرم والنبل؛ وجاءت الأم فهنأت صوفيا وفي نفسها من السرور بقدر ما فيها من الشفقة على ليزا.
وكان رب الدار قد مسته وعكة من قبل فتنذرع بها وتردد فلم يهنئ الكونت، ولم يبد ارتياحه لأنه كان يحب ليزا، وأظهر الطبيب الشيخ كثيراً من الرثاء لابنته، ولكن ليزا نفسها ما زالت تستحلفه والدموع في عينيها ألا يغضب أختها، حتى اطمأن فؤاده فذهب إلى تولستوي وصافحه مهنأ.
وتصادف أن كان اليوم التالي يوم ميلاد الأم، وكانت دار الطبيب بيرز ملأى بالضيوف فأعلنت الخطبة وأقبل الضيوف على العروسين مهنئين. . . وغابت ليزا عن الموائد متوارية من القوم، الأمر الذي تألم له قلب تولستوي على الرغم مما كان يفيض به من فرح، ولقد تحدث بهذا إلى عروسه، وهو الذي لا يحب منذ طفولته أن يؤلم أحداً. . .
محمود الخفيف
1_الأعلام:
محمد بك النجاري
للأستاذ محمد فهمي عبد اللطيف
أخلص الناس للعلم، وأنفعهم له وبه، هم الذين يقبلون عليه استجابة لميولهم الفطرية، وإشباعاً لرغباتهم الفكرية، ويتخذونه مجالا لرياضة الذهن وتثقيف العقل، وباباً للإفادة وتخليد الذكر، في غير ما نظر إلى إدراك مكافأة أو حصول على أجر. . ولقد كان من هؤلاء المغفور له القاضي اللغوي محمد بك النجاري طيب الله ثراه وأكرم مثواه.
نشأ النجاري نشأة بعيدة عن مجال الثقافة اللغوية والأدبية، فقد تربى في المدارس المصرية على عهدها الأول، ثم انتقل إلى مدرسة الحقوق الخديوية كما كانت تسعى في تلك الأيام، فأتم دراسة القانون فيها، وكان من المبرزين بين متخرجيها، فأوفدته الحكومة في بعثة إلى فرنسا عام 1882 لإتمام دراسة القانون بها، فبقى هناك خمس سنوات كاملة، إذ عاد سنة 1887م فعين مساعد نيابة من الدرجة الأولى، ولقد ظلّ يترقى في مناصب القضاء الأهلي حتى انتهى إلى رئاسة محكمة الزقازيق، ثم نقل إلى القضاء المختلط فعين قاضياً لمحكمة الإسكندرية، ثم لمحكمة مصر، وقد انتقل إلى جوار ربه وهو في هذا المنصب. .
وفي سجلات الحكومة مئات تربوا مثل تربية النجاري في المدارس المصرية، وقدر الله لهم التفوق في نيل الشهادات الدراسية، وبلغوا في المناصب الحكومية أرفع مما بلغ درجات ودرجات، وليس في هذا كله ما يحرك قلم الكاتب أو يثير رغّبة المؤرخ لتدوينه، وما كان النجاري جديراً بالذكر لولا أنه اتخذ لنفسه مجالا آخر، شغل به عقله، ووقف عليه جهده، ومنحه إخلاصه ورغبته، وهو مجال الثقافة اللغوية التي أحبها وعشقها، فبذل نحوها جهداً يحمد. وخلّف فيها أثراً يذكر.
وكان أول ما أبدى في ذلك أن لمس المشقة الكبيرة التي يعانيها القائمون بالترجمة من اللغة الفرنسية إلى اللغة العربية وما يجهدهم في الحصول على التعبيرات والمترادفات التي تؤدى المعنى في دقة وتعبر عن الغرض في أمانة، فعكف على تأليف معجم فرنسي عربي جمع فيه من مادة اللغتين ما وسعه الجهد، وقد أخرج هذا المعجم في ستة مجلدات كبيرة، فأدى بذلك للغة خدمة جليلة تشهد بصادق غيرته وبالغ ما بذل من جهد واجتهاد.
وكان أن اتجه إلى أداء خدمة أجل وأصدق نحو العربية، إذ عنى بإخراج كتاب المخصص تأليف أبى الحسن على بن إسماعيل النحو اللغوي الأندلسي المعروف بابن سيده، والمتوفى سنة 458 للهجرة، وكان هذا الأثر الجليل قد انتهبته أحداث الزمن، وتفرقت أجزاؤه في مكاتب الدول، فعنى النجاري بك بجمع هذه الأجزاء من مكاتب إنجلترا والبرتغال وبلاد ما بين النهرين، وضم ذلك إلى ما عثر عليه من الكتاب في دار الكتب المصرية، وبعد أن قام بترتيبه وتنسيقه تعاون جماعة من أهل الفضل وأنصار اللغة والأدب على طبعه ونشره، فخرج في سبعة عشر جزءاً كبيراً، وفى خاتمة الجزء السابع عشر أشار رئيس تصحيح الكتب العربية بالمطبعة الأميرية إلى الجهد الذي بذله العلامة النجاري في إخراج هذا الكتاب، فقال بعد أن ذكر ما لهذا السفر من قيمة جليلة:(ومن أجل ذلك قام بطبعه لتيسير تناوله وتعميم نفعه جمعية خيرية، من فضلاء المصريين وسراتهم ذوى الهمم العلية، وفى مقدمتهم حضرة العلامة المحقق صاحب الفضيلة الشيخ محمد عبده مفتى الديار المصرية. وحضرة صاحب السعادة حسن باشا عاصم رئيس ديوان خديوي، وحضرة الوجيه الفاضل صاحب العزة عبد الخالق بك ثروت أحد أعضاء لجنة المراقبة القضائية بالحقانية، وحضرة السرى الأمثل صاحب العزة محمد بك النجاري أحد قضاة المحكمة المختلطة بالإسكندرية، وهو حفظه الله كان ذا السبق والنهضة الأولى في تحقيق هذا المشروع الجليل فإنه بذل همته في استكتاب هذا الكتاب من نسخة عتيقة مغربية بالكتب خانة الأميرية المصرية قد ركض فيها البلى ولعب، وأكل منها الزمان وشرب، حتى أبلى ثوبها القشيب، وأذوى غصنها الرطيب، ولم تسعد الأيام بثانية تعززها بعد البحث والتنقيب، وبعد كتابة نسخة منها وكل تصحيحها ومقابلتها على أصلها إلى حضرة الأستاذ العلامة مرجع طلاب اللغة والأدب الشيخ محمد محمود التركزي الشنقيطي، وكان معه في المقابلة حضرة صديقنا الفاضل الشيخ عبد الغني محمود أحد علماء الأزهر الشريف. .)
وإنه كما ترى لعمل جليل، وإن مما يزيد في تقديره أن يتم من رجل يربطه منصبه بثقافة القانون والفقه لتطبيق مواده وأحكامه. على أن النجاري لم يقف عند هذا الحد، فقد رجع إلى (لسان العرب) وهو أوسع معجم في اللغة العربية فرآه مرتباً على طريقة غير سهلة ولا وافية بالحاجة في استخراج الكلمات والكشف عن معانيها، فعزم على ترتيب هذا
المعجم الضخم على حروف الهجاء، متبعاً في ذلك منهج المعاجم الحديثة في اللغات الأجنبية، وضم إليه في هذا الترتيب معجم الفيروز ابادي المعروف بالقاموس المحيط حتى يكون أوفى وأتم، وفي أثناء عمله هذا عني بجمع الكلمات العربية التي تقارب الكلمات الفرنسية في اللفظ وتتفق معها في المعنى، وأراد أن يخرجها في كتاب على حدة، وقد جمع من هذا الكلمات حوالي ثلاثة آلاف كلمة عربية فرنسية.
وشمر النجاري لإخراج هذا المعجم الذي قصد إليه ترتيباً وتنسيقاً، فأخذ يواصل الجهد لذلك حتى شارف الغاية، فأعدَّ منه تسعة عشر مجلداً، وبقي مجلد واحد أعجزه المرض عن إتمامه، فسافر إلى أوروبا للاستشفاء، ولعله يصيب من الراحة ما يعينه على إتمام هذا العمل، وقد عاد من أوروبا فعلاً يستروح روح العافية، فعكف على إنجاز الجزء الأخير في ذلك المعجم، ولكن الداء انتكس به، وعاودته العلة أقسى مما كانت، فلم يذعن للمرض هذه المرة، وظل يوالي العمل في منصبه من جهة وفي المعجم من جهة اخرى، وكأنه كان يتعجل الفراغ من هذه المهمة قبل فراغ العمر، فبينما كان يقلب صفحات أحد المعاجم وهو جالس على مكتبه في إحدى الأمسيات إذ سقط جثة هامدة وفاضت روحه إلى بارئها، ولم يبق من إتمام المعجم إلا ورقات معدودة في آخر الجزء العشرين، وكانت وفاته رحمة الله سنة 1332 هجرية - 1914 ميلادية.
وتصرمت السنون على وفاة النجاري، وطوى عمله في مطاوي النسيان. وفي الأيام الأخيرة تقدم ورثته إلى وزارة المعارف لعلها تعني بنشر هذا المعجم الذي رتبه ونسقه وبذل في سبيله أعز ما يملك وهو صحته وحياته، فأحالته الوزارة إلى المجمع اللغوي ليرى فيه رأيه، ثم كان أن أعاده المجمع إلى الوزارة، ولا يزال المعجم بين يدي الوزارة لم يستقر لها رأي إلى الآن في شأنه.
محمد فهمي عبد اللطيف
من رباعيات عثمان
للأستاذ عتمان حلمي
حانتي
هذه حانَتي وهذا مكاني
…
لستُ أنساها وإنْ نسَياني
كم ليال أطلقتُ فيها للهْوى
…
ومراحي مع الشباب عناني
ملكتني روحٌ تعربدُ في رو
…
حي فما يستقُّر منها كياني
كلما جَلجلتْ بنفسي لم أم
…
لك رقيبي على يدي ولساني
كنتُ إنْ أقبل المساءُ كأني
…
بي روحٌ قد مسها روحُ جنَّ
ظامئاً لا أُكادُ أُروى بغير ال
…
كأس في ركن هادئ مطمئن
كلما قلت هاتها أقبل السا
…
قي بكأس تثير روح التمني
فتعاطيتها وليس بنفسي
…
غاية قبل شربها أن أُثَنى
طفرت نشوتي بأول كاس
…
طفرات من وحشتي لا ئتناسى
فإذا بي ألقيتُ عن سر نفسي
…
حجباً من تزمتي واحترامي
وإذا بي نسيتُ ما آد قلبي
…
من أسى جاثم ومن وسواس
ولقد تصلحُ النفوس إذا ما
…
عولجت من همومها بالتناسي
ثم ناديت أيُّهذا الساقي
…
ثنِّ من بعدها بكأس دهاق
هاتها لي فلا رفيق سواها
…
فهي نعم الرفيق بين الرفاق
فمضى ثم جاَءني وبنفسي
…
من سُعار كلهفة المشتاق
وبكأس أُكادُ أقرأ فيها
…
آيةً من بدائع الأذواق
فطغت نشوتي وطار وقاري
…
وانجلت بهجتي وغاض ازوراري
فلقد خفَّ كلُّ ما كان بيني
…
من قُيود وبين نشوانَ جاري
طوت الحُمر كل ما حال بالأن
…
فس عن حمقها من الأستار
فتعرت عن الحفاظ فما تف
…
رق بين الإعلان والإسرار
ثم جاءً الساقي بكأس سواها
…
بلغتْ نشوتي بها مُنتهاها
زلزلتْ كل ما استقام بنفسي
…
من نهاها كما استثارت هواها
وبدت لي الأشياء في عين صفوى
…
راقصات في أي صفو تناهى
كلما شمشع الصفا بنفسي
…
زادها النور بهجة وجلاها
ما يكاد الساقي يروحُ بكاس
…
منه حتى يعود منه بكاس
دار مثل الطاحون رأسي واعو
…
جَّ لساني وأسرعت أنفاسي
وتراخت مفاصل كلما حا
…
ولتُ نهضاً لم ألق لي أيّ باس
ثم ناديت هات أخرى وقد ود
…
عتُ من بعدها رجائي ويأسي
ثم جاء الساقي بغير نداء
…
كاظما سوء نفسه الشوهاءِ
حاملاً كأسه التي لست أدري
…
عدها لو أردت دون عناءِ
ولعمري وقد نسيت وجودي
…
كيف بي ذكر أتفه الأشياء
هات أخرى لعنت يا أيها الخن
…
زير واطلب ما شئته من عطاء
عتمان حلمي
أين الخلان؟
للأستاذ علي متولي صلاح
ساءت الدنيا فلا خل وف
…
ي أصطفيهْ
أقفرت إلا من الخا
…
ئن والوغد السفيه
وخلت أربعها من
…
كل ندب أرتضيه
كل من فيها عدو
…
وظلوم لأخيه
يا زماناً أجفل الوا
…
لد فيه من بنيهْ
كل ما فيك بغيض
…
كل ما فيك كريه
كل من نلقاه في النا
…
س عدو نتقيه
ساء يومي ساء أمسى
…
كله دهري شبيه
ليت شعري يا زماني
…
أي يوم أرتجيه؟
يا فؤادي دع من الد
…
نيا عذاباً أنت فيهْ
خل عنك النبل للفا
…
جر منهم يدعيه
وابغ لؤماً وابغ مكراً
…
وابغ سيفاً تنتضيه
إنما العاقل من يعر
…
ف حرصاً يشتره
فهو للدنيا أمير
…
وعلى الناس يتيه. . .؟
(مصر القديمة)
على متولي صلاح
الأدب والفنّ في أسبوع
مواجهة الأزمات الفكرية:
ألقى الأستاذ محمد شفيق غربال بك وكيل وزارة المعارف، محاضرة موضوعها (مواجهة الأزمات الفكرية) في مساء الخميس الماضي بقاعة الدكتور عبد الحميد سعيد التذكارية بجمعية الشبان المسلمين.
قال الأستاذ المحاضر: إن الأزمات الفكرية ليست شراً، إنما الشر من عدم مواجهتها وإصلاحها؛ وهي تدل على اليقظة والحياة، لأن المجتمع الذي يتناسق في تفكيره مجتمع راكد. وقال إنني أريد أن أخرج الدعوات الحزبية السياسية من الأسباب المؤدية إلى الأزمات الفكرية، لأن هذه الدعوات، وإن أحدثت صخباً وجلية، ليست عميقة التأثير في التيارات الفكرية، وكذلك سعى طوائف من الناس لتحقيق مصالح عاجلة، فإن هذا النوع من القلق الفكري لا يعدو شعور طائفة بأنها مظلومة نتيجة لبطئ الأداة الحكومية وعدم سيرها على قواعد منتظمة، فتسلك هذا الطائفة مسلكا غير نظامي لنيل حقوقها، وهذه الظاهرة هي كذلك عمل وقتي قليل التأثير في الأزمات الفكرية. إنما تأتي هذه الأزمات من دعوة دينية أو اجتماعية، فدعوة الدين الجديد تؤدي إلى أزمات نفسية وصراع فكري بين الدعوة الجديدة وبين ما كان عليه الآباء من القديم. أما الدعوة الاجتماعية فكانت قديماً تقترن بالدين وبتتبع حوادث التاريخ يظهر أن كل دعوة إصلاحية لبست ثوب الدين. ومما يدل على الارتباط بين الدين والأفكار الاجتماعية ما يلاحظ في تاريخنا الإسلامي من اقتران الدعوة الشيعية في بعض البلاد بالفكرة الاجتماعية كثورة الزنج في العصر العباسي.
وفي العصر الحاضر لا يمكن القول بتمام الاتصال بين الدعوات الاجتماعية والدينية، فنحن نرى دعوات اجتماعية مادية لا تعبأ بالدين، وخطر هذه الدعوات أنها تجعل للمادة كل الأهمية دون اعتبار للروحية أو الدينية.
ثم قال: من الخطأ مواجهة هذه الدعوات الاجتماعية المادية الخطرة بالقمع والكبت، لأن القمع يؤدي إلى استفحالها والتمسك بها لاعتقاد أن للحاكمين مثلا مصلحة في محاربتها لظلم المحكومين، وكذلك من المواجهة المخطئة محاولة الاقتصار على التفنيد وبيان العيوب والأضرار، لأن الحجة تقارع الحجة، ولا يكون لذلك نتيجة حاسمة. أما المواجهة الحقة
النافعة فهي وضع مراس للسفينة هذه المراسي تلجأ إليها وتستقر فيها. ولوضع هذه المراسي يجب أن يكون مفهوماً أننا أمة لا تعيش في مهب الريح تتقبل كل ما يرد إليها، بل نحن أمة ذات تراث تنشئ منه العدة التي تواجه بها الظروف والطوارئ، فكل ناحية لا بد أن تصطبغ بذلك الميراث، فالتعليم ينبغي أن ينشأ فيه الناشئ متأثراً باللون التراثين ومما يؤسف له أن مادة التعليم في مصر إلى الآن عديمة اللون. والجماعة التي ينتمي إليها الأفراد سواء أكانت ثقافية أم اقتصادية أم غير ذلك. ينبغي أن يكون منهجها مشتقاً من ذلك الميراث، فلا تقتصر على الناحية الخاصة من نشاطها، بل يجب أن تتجه إلى تكوين المواطن بتثبيته في مرساه لا تزعزعه العواصف.
وقد كانت هذه المحاضرة مكتنزة دسمة، كما وصفها الدكتور منصور فهمي باشا في تعقيبه عليها، وقد ألقاها الأستاذ شفيق بك في ارتجال وإيجاز وضحت معهما مراميها البالغة.
التسجيل الثقافي في مصر وفي سوريا:
أعدت الإدارة العامة للثقافة بوزارة المعارف في الفترة الأخيرة برنامجاً لأعمال ثقافية جديدة كما أعدت الوسائل الفنية لتنفيذها، ومن هذه الأعمال إصدار سجل ثقافي سنوي يحوي مظاهر النشاط الثقافي خارج النطاق المدرسي في عام، وأنشأت له إدارة التسجيل الثقافي التي تعمل الآن في إعداد سجل سنة 1948، ومن تلك الأعمال أيضاً إحياء الذخائر الأدبية، وطبع كتب تمت ترجمتها ومراجعتها.
وأدرجت الإدارة في ميزانيتها اعتمادات لتنفيذ ذلك البرنامج ولكن مشروع الميزانية الجديد تناول بالحذف أو التخفيض جانباً كبيراً من هذه الاعتمادات، فحذف مما حذف ثلاثة آلاف جنيه كانت مخصصة لطبع السجل الثقافي، وهذا الحذف وإن كان لا يعوق إصدار السجل إذ يمكن طبعه من اعتمادات أخرى، إلا أنه مما يؤسف له أن تتجه الدولة إلى التقتير على الأعمال الثقافية الإنشائية النافعة في الوقت تسخر فيه على أمور نعتقد أنها ليست إلا وسائل لهذه الأعمال كإيفاد الأعضاء إلى المؤتمرات في البلاد الأوربية وغيرها، وهذا بصرف النظر عما تبذله الدولة من الأموال في استقدام فنانين أجانب لن تجني البلاد منهم إن جنت إلا فوائد كمالية.
هذا ف0ي الوقت الذي تلقت فيه الجامعة العربية من سوريا أن وزارة المعارف بها قررت
تأليف لجنة برياسة وزير المعارف، تكون مهمتها تتبع وتسجيل الحركات العلمية والأدبية والثقافية في البلاد العربية بجميع مظاهرها والعمل على تشجيع هذه الحركات وتوجيهها نحو الرقي والكمال عن طريق الاتصال بالهيئات والمحافل العلمية والفنية والأدبية من ناحية، والعمل على عقد مؤتمرات دورية وتأسيس جمعيات اختصاصية في مختلف فروع العلم والثقافة من ناحية أخرى. ومن مهمة هذه اللجنة أيضاً إعداد ما يلزم للاتصال باللجنة الثقافية لجامعة الدول العربية وذلك بدرس المسائل التي تكون موضوع أبحاث اللجنة المذكورة وتهيئة أسس الاقتراحات التي يجب أن تقدم إليها حول تلك المسائل، والاتصال أيضاً بهيئة التربية والعلوم والثقافة لمنظمة الأمم المتحدة، وذلك بدرس المسائل التي تدخل في مناهج أعمال الهيئة المذكورة وتهيئة المقترحات التي يجب أن تقدم إليها مع مراعاة التوجيهات والتوصيات التي تصدر بشأنها من اللجنة الثقافية لجامعة الدول العربية.
أعلام الأدب العربي في الإذاعة:
أعلنت الإذاعة أنها ستقدم سلسلة جديدة من الأحاديث الدورية، يقدم فيها قادة الأدب والفكر في مصر عرضاً مسلسلا لأكبر شخصيات الأدب العربي، وأبطال الفكر الذين كان لهم أثرهم في نهضة العقل العربي وتقدم آثاره في ميدان الفكر العالمي في مختلف فنونه من شعر ونثر. وقد افتتح هذه السلسلة الدكتور أحمد أمين بك يوم الجمعة الماضي بحديث بين فيه خصائص الأدب وآثاره في الحياة. وفي يوم الجمعة الآتي يتحدث الدكتور محمد صبري عن الشاعر الأول (امرئ القيس) بدءا من العصر الجاهلي وستتابع حلقات السلسلة مع العصور المتعاقبة.
ويلاحظ أن حلقات تلك السلسلة تتكون من شخصيات الأدب العربي المشهورة المدروسة في كتب تاريخ آداب اللغة العربية للمدارس الثانوية، كامرئ القيس والأعشى وطرفة ولبيد وحسان والفرزدق والأخطل وبشار وأبي نؤاس والبحتري وأبي تمام والمتنبي وأبي العلاء المعري. الخ.
وقد اختير لتقديم هذه السلسلة أدباء الدولة الذين تغلب عليهم الصفة الرسمية، حتى أنه روعي في اختيارهم تمثيل المعاهد والوزارات المصالح. . كما أن الشخصيات التي سيتناولها البرنامج قد أخذ تاريخها طابعاً رسمياً لاستقرارها وثباتها بالمناهج المدرسية
الرسمية فبينها وبين من اختيروا لتقديمها جناس تام. . .
ولا شك أن إذاعتنا قد شعرت بتقصيرها نحو الأدب، بالنسبة إلى الإذاعاتالعربية الأخرى التي تفتن في تقديم برامج أدبية متنوعة مشوقة، فأرادت - ولها أجر المجتهد - أن تأخذ بشيء في هذا السبيل، فعمدت إلى تقديم سلسلة أعلام الأدب العربي المذكورة. وكنا نود أن توفق إلى تقديم شئ غير مملول لتكراره، شئ فيه جدة، يستحق أن يبذل فيه أعلامنا المتحدثون مجهوداتهم وتظهر فيه ابتكاراتهم.
وعيب الإذاعة العام، هو فقرها في ذوي الاختصاص الفني، فالموظف الواحد يشرف على نواح فنية متعددة ليس من أهلها أو المبرزين فيها، وإلى هذا السبب يرجع كثير من الاضطراب في تقديم الفنون بها.
الاتحاد الثقافي
نشأت فكرة الاتحاد الثقافي في أوائل العام الماضي، على أثر الخلاف الذي قام بين أعضاء الاتحاد المصري الإنجليزي، بين المصريين منهم وبين الإنجليز، ذلك الخلاف الذي أدى إلى حل هذا الاتحاد، ورأى الأعضاء المصريين تكوين اتحاد ثقافي يحل محل الاتحاد المنحل.
وقد اجتاز الاتحاد الثقافي عقبات منها (المكان) إذ وفق أخيراً إلى اختيار الباخرة (مصر) مقراً له. وفي يوم السبت الماضي احتفل بافتتاحه، وقد خطب عبد الله بك أباظة في هذا الافتتاح فوضع فكرة الاتحاد بقوله إن هذه الفكرة اختمرت لدى نخبة من الأعضاء الذين تضامنوا في حل الاتحاد المصري الإنجليزي حينما خاب أملهم في قيامه بتحقيق الأغراض التي ساهموا فيه من أجلها وهي إقناع شركائهم فيه حينذاك بوجهات النظر المصرية الصحيحة وإيجاد جو من التفهم القائم على احترام الحقوق الوطنية خارج نطاق المحيط الحكومي والرسمي، فلم يتم لهم ذلك وتقرر حله على الوجه الذي أرادوه. وقد وصف رسالة الاتحاد بأنها ستكون ثقافية مصرية وطنية بعد أن ظلت نحو عشر سنوات مختلطة بالطابع الأجنبي.
وأهم أغراض الاتحاد ما يأتي:
1 -
توفير الوسائل الاجتماعية لتحقيق التعارف والصداقة بين الأعضاء.
2 -
تهيئة أسباب الجمع بين مختلف الثقافات في مصر.
3 -
إعداد مركز للوقوف على وجهات النظر في التفكير.
4 -
تمهيد السبل للوقوف على وجهات النظر في التفكير العالي وذلك بغية المعاونة على معالجة الشؤون العامة برأي ناضج.
ومما يستلفت النظر في تكوين هذا الاتحاد الثقافي أن أعضاءه من ذوي المناصب الكبيرة وكبار رجال السياسة والاقتصاد، وليس لأكثرهم نشاط فكري أدبي أو ثقافي. وحبذا لو نفوا عن أنفسهم صفة الأرستقراطية ويسروا سبيل الانضمام إليهم للمشتغلين بالإنتاج الأدبي والثقافي، وخاصة عنصر الشباب المثقف، وبهذا يخدمون فكرة الاتحاد، ويكون ذلك أدعى إلى تحقيق أغراضه.
الاتجاهات السياسية والاجتماعية في العالم العربي:
هذا هو عنوان المحاضرة التي ألقاها محمد صلاح الدين بك في قاعة يورت التذكارية بالجامعة الأمريكية يوم الجمعة الماضين وقد بدأ ببيان الصلات التي تجمع البلاد العربي، ومنها وحدة الآلام والآمال، أما الآلام فهي معاناة الاستعمار الأجنبي الذي يسير على طريق (فرق تسد) و (قسم تسد) و (خرب تسد) والتخريب بالتمكين للفقر والجهل والمرض: أما الآمال المشتركة فهي التخلص من هذا الاستعمار فتملك الأمة أمرها وتعالج أحوالها. ثم انتقل إلى تفصيل الاتجاهات السياسية في الحقبة الأخيرة، فقال: كان العالم العربي عندما نشبت الحرب العالمية الأولى مختلف الاتجاه، فكان القسم الشرقي منه (العراق والشام والحجاز) ضد تركيا وألمانيا والقسم الغربي (مصر وشمال إفريقيا) كان الشعور فيه مع تركيا وألمانيا ضد الإنجليز والحلفاء. ولكن بعد الحرب اتحدت الوجهة إزاء إخلاف الوعود في أثناء الحرب، ضد دول الاستعمار، وقامت الحركات الوطنية في الأمم العربية ووصلت إلى طور العمل، وكان له مظهران: الثورة والمفاوضة، وعقدت المعاهدة العراقية سنة 1930 والمعاهدة المصرية سنة 1936 ومن حسن حظ سوريا ولبنان أنهما لم ترتبطا بمعاهدة مع فرنسا قبل الحرب. ولما نشبت الحرب العالمية الثانية خدعت الأمم العربية مرة ثانية بميثاق الإطلانطيق وغيره من الوعود، فما انتهت الحرب حتى تكشفت النيات الاستعمارية السوداء، وفي هذه المرة تغير الاتجاه الوطني في العالم العربي، فقد أصر
الرأي العام على رفض المفاوضات، وسبقت الشعوب الحكومات في ذلك. وهنا تساءل المحاضر: ماذا نصنع الآن: المفاوضة غير مجدية، والهيئات العالمية تحكم للأقوياء، ولا قوة حربية لدينا، قال: ليس هنا إلا أن نجمع الكلمة ونصلح أمورنا بالقضاء على الفقر والجهل والمرض، ولا بد أن يسبق هذا ما يقال من تقوية الجيش، فلن يكون هناك جيش قوي لأمة ضعيفة ينهكها الفقر والمرض والجهل.
وقال إن الإنجليز يخيفوننا الآن بقرب وقوع حرب ثالثة لنتعاهد معهم، ونحن يجب علينا أن نبقى على الحياد حتى لو وقعت الحرب، ومن العجيب أن يخيفنا الإنجليز باستعمار روسيا ونحن لم نتخلص بعد من استعمارهم؛ وبين المحاضر ضرورة إعلان الحكومة بطلان معاهدة سنة 1936 خشية أن يتمسك بها الإنجليز عند وقوع الحرب الثالثة.
فكاهة.
كانت ليلة مرح ممتعة، تلك التي (أحياها) الأستاذ محمد مصطفى حمام في نادي نقابة الممثلين، وذلك بمحاضرته التي عرض فيها ألواناً من الفكاهات في القديم وفي الحديث، ومما اطرف به أن معالي الأستاذ إبراهيم دسوقي أباظة باشا كان مرة يتحدث مع وزير سابق، وكان الحديث أولا في الأدب ثم انتقل إلى السياسة، فقال الوزير السابق: دع لنا السياسة يا دسوقي وتكلم أنت في الأدب. فقال دسوقي باشا:
- أنا معترف بأن سعادتك في السياسة أب لي.
- وفي الأدب؟
- أمي!
العباسي
الكتُب
حديث الصومعة
رسائل من إبراهيم الدباغ لمصطفة الدباغ
ألا رحم الله إبراهيم الدباغ الشاعر الناثر الفكه الخفيف الروح، فقد كان محدثاً طليّ الحديث يحب المرح والمفاكهة، ويرى في الحياة المرسلة على السجية فلسفة ومنهجا. فلم يكن يخضع حديثه - أو شعره - للقيود التي تفرضها حياة المجتمع، ولم يكن يقول: هذا جائز خلقياً وهذا غير جائز، بل كان يمضي في الحديث مسترسلا إلى حيث يقوده، وينظم الشعر كيفما واتته القريحة. ولعل هذا سبب من الأسباب التي تحول دون نشر جانب كبير مما قرضه من الشهر، ودون تسجيل كثير من المساجلات الفكهة التي اشترك فيها الدباغ في صومعته مع زائريه وخلانه.
وكان الدباغ منذ عام تسعة وعشرين وتسعمائة وألف يبعث إلى ابن أخيه الأستاذ مصطفى الدباغ في فلسطين رسائل يطويها على آراء له، ونصائح يبديها، ودروس في اأدب والشعر يسوقها متحللا من المجاملات الشخصية، متذرعاً بالصراحة السافرة التي قد تغضب المعنيين.
وقد تجمع للأستاذ مصطفى الدباغ من رسائل عمه إبراهيم الدباغ طائفة كبيرة، فآثر أن ينشرها ويذيعها كما هي ليطلع القارئين على ما كان يعن لهذا الشاعر الفلسطيني من رأي، وعلى ما كان يعتنقه من منهج يجعله ديدنه في الحياة.
وفي هذه الرسائل تعرض لكثيرين من الأدباء في مصر وفي غير مصر، وأصدر في كل منهم حكما يتسم بالصراحة والإبانة وقال في كل منهم قولا فامتدح من رآه أهلا للمديح وذم الذين عدهم مستأهلين للمذمة.
ولنذكر على سبيل التسجيل طائفة من آرائه في المعاصرين والمحدثين من أهل الأدب.
قال في الدكتور شبلي شميل: كان شبلي يغضب للإلحاد، لا لرب العباد، ويسب الدين والديان، إذا عارضه في نظرية القرود إنسان.
وقال في الدكتور زكي أبي شادي: الدكتور أبو شادي سريع الخاطر في إنشاد القصائد، شغوف (كذا) بإذاعتها على علاتها.
وقال في الدكتور زكي مبارك: إن نشاطه ومثابرته في الحياة الأدبية والاجتماعية ليست في حاجة إلى التدليل، وآثاره تملأ الأفق وتحجب ضوء الشمس، والنثر الفني جهاد سبع سنين مع غيره من المشاغل، وقد ظهر له خلال هذه السبعة الأعوام طائفة من الكتب ولم نسمع عنه أو منه تبرماً بالوقت والناس. وهو يدون كل ما يقع تحت حسه ونظره فلا تفلت منه شاردة ولا واردة إلا وألقى لها رخاً من عقله وبازياً من براعته، وهذا ما يجب على كل أديبيحس بالحياة ويشعر بلذة العمل.
وفي الشيخ نجيب شاهين: على حديثه مسحة القرآن وأثر الاقتباس ولغته مبتذلة مع ما فيها من رنة الطربَ.
وقال في طه حسين: أعتقد أن مؤلفته كلها عقيمة، وليست ذات قيمة
وفي سلامة موسى: إنه وطه حسين أشد بخلا وإمساكا مما يتصور المتصورون، وعلى العكس مبارك وخليلمطران فلاهما مكساب مهلاك.
وفي الشعراء: بعد شوقي لا يليق أن يكون كبير شعرائنا أحد غير واحد من هؤلاء الثلاثة. مطران. محرم. الكاشف.
فالقارئ يرى أن الدباغ لا يفتقر إلى الجرأة ولا يخشى أن يصدر الرأي في قوة وثقة. وقد نختلف معه في كثير مما أرتاه ونعارضه في بعض المذاهب الاجتماعية التي دعا إليها، ولكن هذا لا يحول دون أن نذكر له أنه صاحب رأي يعرف كيف يلقيه مغمض العينين غير مبال بما يكون له من دوي.
ولقد كف بصر إبراهيم الدباغ قبيل وفاته بسنوات وسنوات فكانت هذه الملمة مدعاة لانطوائه على النفس ونفوره من الناس وإيثاره الانزواء وقعود الدار عن مخالطة أهل ندوته. وما فتئت الأمراض تقبل عليه وتنهش بدنه حتى كانت منيته ذات يوم، ونعاه الدكتور زكى مبارك وشيع بنفسه جنازته.
وهذه المحن - فيما يبدو من رسائل الدباغ - جعلته برماً بالحياة ضيقاً بكل ما فيها، أقرب إلى التشاؤم منه إلى التفاؤل وإن كانت هذه الظاهرة لم تستطيع أن تأتى على محبته للفكاهة وتعلقه بها.
وحديث الدباغ في رسائله التي جمعت في كتاب (حديث الصومعة) حديث متشعب
مستفيض يبدأ من مكان وينتهي إلى آخر ويمر في الطريق على ألوان شتى من الأفكار. ولكن هذا الحديث مشوق مبعد للملل يهيئ لك أنك تصغي بنفسك إلى إبراهيم الدباغ وتجلس معه مرهفاً السمع مصيخاً الأذن. ولك إن شئت أن تقاطعه وأن ترد عليه، لأن الجريء في إذاعة الرأي، واسع الصدر لقبول كل رأى.
وديع فلسطين
السيد البدوي
تأليف الأستاذ محمد فهمي عبد اللطيف
من هو (المريد) في اصطلاح المتصوفين؟ هو - إن لم أكن نسيت ذلك الذي يفنى في شيخه ويجعل حياته كلها طاعة وتجردا وعبادة. يأمر الشيخ فيطيع (المريد) وشيخ المريد هو قلبه الخافق، وهو عينه الباصرة، وهو وعيه، وهو إرادته. الدنيا بما حوت هي الشيخ في عين المريد، والطريق إلى الجنة في الآخرة هو الشيخ. . . هذا هو (المريد) وهذا هو شيخه.
فمن هو شيخ (المريد) محمد فهمي عبد اللطيف؟ العلم والأدب والتاريخ، هذه الأقانيم الثلاثة شيخ واحد!! له المجد، وله العلى، وفي سبيل طاعة هذا الشيخ يفنى (المريد) محمد فهمي عبد اللطيف، وإذا قلت: يفنى، فإنني أعنى مدلول هذه الكلمة في غير كناية أو مجاز. . . لأن صاحبنا يفنى حقاً في سبيل شيخه المثلث الرحمات!!
لقيته - أول ما لقيته - في ندوة دار الكاتب المصرية، منذ خمسة عشر عاماً. وكان طالباً يحصل العلم نهاراً، ويعمل في الصحافة ليلاً، لقيته في أولى مدارج شبابه، ناحل الجسم، فلوى العود، مضعضع البنيان، تراه فكأنك ترى شيخاً أوقرت ظهره السنون، ويتحدث الرفاق في ندوة الدار شتى الأحاديث، ويتشعب القول في شئون الحياة وفى أحداث السياسة، وصاحبنا صامت لا يتكلم، ويدور الحديث على كل لسان، وحديث صاحبنا الذهول والاطراق!
فإذا عرج المتحدثون على العلم أو الأدب أو التاريخ، أفاق الذاهل المطرق، الوجه الأسمر العابس، وتهللت أساريره ومضى صاحبنا يفيض بما يشاء الله أن يفيض، فما شئت من علم
وأدب وتحقيق، وما شئت من نقد وتمحيص، وكأن هذا الجسم الناحل الذاوي قد أصبح كله (شحنة) من الكهرباء تشع بالحيوية والنور والعرفان. . . وتبارك الله أقدر الخالقين.
منذ ذلك الحين تمكنت بيني وبينه أسباب المعرفة، فلم تزدني الأيام إلا إيماناً بغزارة علمه ورفيع أدبه وكريم خلقه. ومنذ ذلك الحين سلكته في عداد (المريدين) في دولة العلم والأدب والتاريخ، ومضى هو قارئاً ومحققاً ومؤلفاً، يضنيه البحث، وتنهكه القراءة، وتلح عليه، فيتداوى بالتي كانت هي الداء. الكتب أكداس على سريره، وعلى المناضد، وفوق الأرفف، وتحت المقاعد، وعلى مائدة الطعام.
ويشفق عليه خاله الكريم، فمضى به إلى الطبيب، يتجسسه ويتعرف داءه، وفى كل مرة لا يسمع المريض ولا الخال سوى كلمات مكررة معادة: الكبت الجنسي والإجهاد وشدة الحاجة إلى الانطلاق من الكتب، والراحة والرياضة. . . وهذه الأمور كلها في نظر (المريد) بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، فالأقانيم الثلاثة شيخ واحد. . . له المجد، وله العلي، وفي سبيله يمرض ويصح، وله الأمر في شأن هذا (المريد) من قبل ومن بعد.
. . حتى إنتاجه الأدبي في الصحافة فهو قراءة كتب ثم تلخيص ونقد وتحقيق وتمحيص. وحتى كتبه التي يؤلفها، فهي رحلات وأسفار شاقة مضنية في صحارى الكتب وشعاب المراجع، يقرأ مائة كتاب ليحقق منها موضوعاً عن (أبي زيد الهلالي) يقع في سلسلة كتب (اقرأ) ويعكف على دراسة (الجاحظ) فيعد في تاريخه (كتاب الجاحظ الضحكوك) ثم يدعه قبل تقديمه للطبع، ليعكف على تاريخ (السيد البدوي) أو (دولة الدراويش) فيخرج للناس في هذا الموضوع كتاباً جليل الشأن قيم الأثر، هو الآن بين أيدي القراء ينعمون فيه بما أنعم، ويجنون من شهى ثماره ما أجني.
إنه في هذا الكتاب، وفى غيره من الكتب التي أعدها، والتي يعدها، هو هو (المريد) محمد فهمي عبد اللطيف، يغوص إلى القاع، فيظفر بأنفس النفائس، ويحلق في الأجواء، فلا يهبط إلا بما يشع على موضوعاته نور العلم والمعرفة.
إنه يعيش في الكتاب وللكتاب، ولاشيء غير الكتاب، حتى لأرجح أنه لم يسمع إلى اليوم (الأوبرج) ولا يدري أين موقع (الكيت كات) ولا أستبعد أن يكون (الأوبرج) في نظره وفي مبلغ علمه نوعاً من أنواع الأطعمة الإفرنجية يقدم على موائد الموسرين، وأن يكون (الكيت
كات) كلمة محرفة عن شواء الكتكوت.!! فإذا قلت له: إن الأول ملهى من ملاهي العاصمة التي تزخر بالمتعة والهوى والشباب، وأن الثاني هو الآخر مطرح من مطارح اللهو على ضفاف النيل، لاذ بالصمت والذهول والإطراق، كأن هذا الأمر لا يعنيه، وكأن حديث دنيا غير دنياه.
وإني لأشفق على هذا الصديق مما هو فيه، ولا أدري متى يعرف لنفسه حقها من المتعة والراحة والنعيم؛ إنه ماض في طريقته الوعرة الشاقة، سادر في (تجرده) من حياة الشباب. إنه يحترق في ميعة الصبا، لا يرحم نفسه، ولا يشفق عليها. وأغلب الظن أنه يجد الراحة في هذا الشقاء، ويستروح نسمة النعيم من هذا العناء.
وأقسم لو كان أمر هذا الصديق في يدي؛ لأقمت عليه (مروضا) كالذي يقيمه الموسرين على جيادهم الأصيلة، ليقدم له الطعام في موعد، ويشرف على تضميره ورياضته بالقدر المناسب لجسمه وصحته؛ ليدخر بذلك من قوته ما يضمن له الفوز دائماً في حلبة السباق.
فإذا لم أستطع هذا طالبت بسن قانون (للحجر) عليه وعلى أمثاله المبذرين الذين ينفقون من قواهم فيعرضونها للاضمحلال والفناء. . أيكون المبذر في ماله عرضة للحجر عليه، ولا يكون المبذر في قواه وصحته وكيانه عرضة للحجر عليه؟ ويكون خاله الكريم من أبرز رجال القانون، ولا يفكر في مثل ما أفكر فيه ذلكم هو (المريد) محمد فهمي عبد اللطيف مؤلف كتاب (السيد البدوي) أو (دولة الدراويش) جليته للقراءة ممن لا يعرفونه معرفتي به. أما الكتاب فهو بين أيديهم، كما أسلفت ينعمون منه بما أنعم، ويجنون من شهي ثماره ما أجني.
عبد الله حبيب
حفنة ريح. . .
تأليف الأستاذ سعيد تقي الدين
للأدب المهجري ذاتية خاصة، وصفات مميَّزة ترفعه إلى منزلة عالية في عالم الآداب العربية.
من هذه الصفات أن الأدب المهجري هو أدب الحياة النابضة الفياضة. . . والأديب
المهجري فنان يقبل على الحياة ليعبَّ من من عِبرها، وليتزود بتجاربها، وليندمج مع حوادثها فيكوِّن آراءه نتيجة لاختبار طويل، وتجربة واقعية تامة وإدراك للأمور الحياتية. . فإذا أراد أن ينشئ أدباً عمد إلى ما ادخرته حاسته الواعية، وما التقطته مخيلته المصورة. . واستمد الوحي والإلهام من هذه الحياة التي لا ينضب معينها، ومن هذا الكون الذي لا تُبلى جدته. . وهما يمدانه بكل طريف وجديد ورائع. . ومن هنا كان الشعر المهجري صورة نابضة تحمل إليك (قِطاعاً) من الحياة، مصورة لك خوالج النفس الإنسانية ومشاعرها بإطار شعري شفاف.
ومن هذه الصفات أيضاً: هذه الروح الطليقة الشاعرية الظامئة التي تتغلغل في الأدب المهجري، وتطبعه بطابع خاص، وتضفي عليه ظلالاً فيها حرارة الروح إلى السمو، ونبضات القلب وتلهفه إلى الحب، وتسابيح الضمير ينشد عالم الحرية والانطلاق. وإنك لتحسُّ تلهفاً حاراً، وظمأ شديد يتطلعان إليك من بين السطور عند قراءتك لهذا الأدب الرائع.
ولست أنا بصدد التحدث عن الأدب المهجري فأسهب في تبيان صفاته ولكنى أودُّ أن أتحدث عن كتاب اسمه (حفنة ريح) لأديب مهجري اسمه سعيد تقي الدين. هو في نظري وفى نظر المطلعين على أدبه من أكبر كتاب المسرحية في الأدب العربي. . لا يدانيه في منزلته إلا توفيق الحكيم رائد المسرحية في الأدب العربي، على ما بينهما من اختلاف في الأسلوب، وتباين في النظرات الفنية.
فسعيد تقي الدين فنان واقعي يستمد فنه من الحياة، ومن الكون المحيط به. . فهما كفيلان بتزويده بالتجارب الكثيرة، ومده بالملاحظات القيمة. . وأشخاص مسرحيته واقعيون لا يكادون يجنحون إلى الشذوذ. فهو شديد الإخلاص للحياة، عظيم الحرص على صورها. . أما توفيق الحكيم فلا يعتمد على الحياة فيما ينشئ منذ تأليفه كتاب (يوميات نائب في الأرياف) أو من قبل ذلك. فأشخاص مسرحياته خياليون تخلقهم مخيلته؛ لأنه يرجو من ذلك خلق الجو الفكري الذي يلذه، والذي يكاد يخنق كل صوت ما عداه. . فلهذا يمتزج مع الأشخاص، ويشرف على حركاتهم، ويعين تصرفاتهم. . فهذا (فلان) يمثل الغريزة الحيوانية، و (فلان) يمثل النفس الظامئة إلى إدراك الغيبيات، و (فلان) يمثل هذا الطور أو
ذاك من أطوار الرقي الإنساني وهلم جرا. . . أما سعيد تقي الدين فلا يطرق الجو الفكري، ولا ينظم الأشخاص لتعبر عن فكر بعينها_كما يفعل الحكيم - ولكنه يصور لك صورة من الحياة بمساوئها ومحاسنها، بشرها وخيرها، بأحزانها وأفراحها. . ويهتم بالناحية النفسية أكثر من اهتمامه بأية ناحية أخرى، ويدع الأشخاص يعملون بما توحيه إليهم الحياة دون أن يتدخل في سلوكهم. .
وبالإضافة إلى هذه الفروق نضمُّ إليها فرقاً آخر وهو روح الفكاهة والسخرية التي تميز بها الأديب المهجري ولم يعرف بها الأديب المصري.
وبعد هذا كله أحدثك عن الكتاب (حفنة ريح) فأقول لك: إن الكتاب يضم مهزلة ذات فصل واحد هي (حفنة ريح) ومجموعة قصص هي (موجة نار) ومراسلات بين المؤلف والأستاذ سهيل إدريس أحد الأدباء اللبنانيين:
والمسرحية خلق فني ممتاز تقف في الصف الأول من صفوف المكتبة في الأدب العربي توافرت فيها عوامل النجاح فرفعتها إلى هذه المنزلة العالية. . وعوامل النجاح في هذه المسرحية الممتازة هي عوامل النجاح في كل مسرحية ناجحة فهي ترجع: أولاً: إلى مقدرة المؤلف في التصميم الفني المسرحي، ثانياً: وإلى إشاعة الحركة على المسرح ثالثاُ: وإلى خلق الأشخاص الذين يتصلون بأسباب قوية، ويتحركون على المسرح كما يتحركون على مسرح الحياة، رابعاً: وإلى إجراء الحوار الجميل الجاري جرياناً لا يعكره التكلف، ولا يعتريه الخفوت.
أضف إلى هذا كله تلك الفكاهة المستحبة، والروح الشفافة الطليقة، والسخرية اللاذعة. . تلك الصفات التي امتاز بها الأستاذ سعيد تقي الدين، وأطلقها في أجواء مسرحياته فكانت عاملاً من عوامل نجاحها.
وقد أشاع المؤلف في مسرحيته هذه وأهتم اهتماماً كبيراً في إبرازه (من اللحظة التي يرفع فيها الستار إلى (كعك سخن) في آخر المسرحية.
وعلى الرغم من أن التأريخ سمة من سمات المهزلة الناجحة فإن المؤلف لا يمكن أن يعتمد عليه وحده - لأن من خصائص التأريخ خلق الجو النفسي فحسب، فلهذا نلمح في (حفنة ريح) الناحية النفسية وحدها.
وأشخاص المسرحية محبوبون لأنهم واقعيون، ولأنهم من أصحاب النفوس الساذجة الكريمة، ينطقون فتبتسم لما نطقوا به، أو تنفجر ضاحكاً تعجب من هذه النفوس الغريرة الطليقة المحبوبة إلى أبعد غايات الحب. .
والمؤلف يسير مع الأشخاص أو مع الحياة أو مع ما يقتضيه الواقع في الجزء الأكبر من المسرحية حتى إذا ما وصل إلى النهاية بدا التكلف ظاهراً حيث يقنع (وجيه) اللحام الكهل بأن في استطاعته أن يعود إلى شبابه إذا قال (الله يسامحك الله بالحساب) فيتنازل عن دينه لوجيه، ويظهر التكلف بوضوح في الطريقة التي هيأ بها المؤلف زواج الأشخاص.
وأكبر الظن أن الأستاذ سعيد عندما أوشك أن يصل إلى نهاية مسرحيته وضع (العجائب السبع) التي خلقها أمامه، وكيف النهاية حسب ما تقتضيه هذه العجائب. . فجعل اللحام يسترجع شبابه بطريقة عجيبة تثير الضحك ليستخلص من ذلك العجيبة الأولى وهي (لحام يستعيد شبابه). وأغرى الشيخ نسيب بترك وظيفته الحكومية بطريقة غريبة ليستخرج من ذلك العجيبة الثانية وهي (شاب يرفض وظيفة حكومية). . وأقنع (أم ظريف) بالطريقة نفسها على أن تسامحه بالإيجار ليصل إلى العجيبة الثالثة وهي (ملاك يسامح مستأجراً). . وقس على ذلك سائر العجائب الأخرى. وهي (مؤلف أدبي نفع البشرية) و (أم تزوج أبنتها من دون مصاغ) و (ظهر في لبنان رجل يلبس أسمه من دون لقب) و (البوليس يقبض على القاتل والقتيل فار من وجه العدالة).
والملاحظ في هذه المسرحية أن الحبكة، والتسلسل الروائي والانسياب الحواري على درجة كبيرة من الإتقان تدل على رسوخ قدم الأستاذ سعيد في الفن المسرحي. . ورسالته إلى المخرج هي غاية في الدقة الفنية، فيها من الملاحظات الفنية ما ينفع المخرج والممثل والكاتب المسرحي على حد سواء.
ولنتحدث الآن عن مجموعة (موجة نار) من هذا الكتاب ولنعرض أولاً آراء المؤلف في القصة، ففي الكتاب آراء يحالفها التوفيق مرات، ويتنكب عنها أخرى:
يعرف المؤلف القصة ص 254 فيقول (القصة كما أفهمها هي حادثة غير عادية محتملة الوقوع تسرد بأسلوب جذاب سهل، وتنتهي بمفاجأة حلوة معقولة). . ولكن المؤلف يتخلى عن شرط أو شرطين من هذه الشروط الأربعة في بعض قصصه. فهناك قصة يعوزها
التصميم الفني وهي (الخطاب المبتور). وتفتقر قصة أخرى إلى الصدق الفني وهي (الدواة)؛ وهناك قصتان تحتاجان إلى الحرارة وإلى إشاعة الحياة والحركة النابضة فيهما. . أما قصة (ألام الذكرى) وقصة (موجة نار) فهما أحسن ما في المجموعة الأولى لأنها صورة إنسانية رائعة أملتها الحياة التي خاض غمارها، والثانية لأنها تبرز لنا هذه الروحية التائهة التي شغف بها المهجريون.
ولست أدري كيف يرى المؤلف (أن عنوان القصة يجب أن يكون لغزاً موسيقياً!!) ص259. . أيعد المؤلف العنوان (اللغزي الموسيقي!!) عنصراً في عناصر التشويق؟!. . وإذا كان كذلك فقد ساءلت نفسي وأنا أقرأ ما قاله المؤلف عن عنوان القصة لو لم يكن عنوان مسرحية سعيد تقي الدين (حفنة ريح) ولو لم يكن عنوان القصة (موجة نار) أأعدل عن قراءتهما؟. كلا. . . وألف كلا فليس من الضروري أن يكون العنوان (لغزاً موسيقياً) كما ليس من الضروري أن تكون (العبارة الأخيرة في القصة قنبلة ذرية تنفجر بين عيني القارئ!!) - الله يحفظ عيوننا من شر القنابل الذرية -. . ونحن لو رجعنا إلى نهاية قصص سعيد تقي الدين لما رأيناها قنبلة ذرية تنفجر، ولا (ديناً ميتاً) يثور بين عيوننا ومع ذلك فنحن لا نملك إلا الإعجاب بها.
سامح الله الأستاذ سعيد تقي الدين - لا بالحساب لأنني لا أطلب شيئاً أولاً، ولأنني لا أرجو منه أن يستعيد شبابي لأنه لم يذهب بعد ثانياً، بل سامحه الله بهذه الأمثلة التي تدل على خفة روحه أو دمه. لست أدري. .
هذا الكتاب ممتاز حمله إلينا البريد اللبناني فأطلعنا عليه، وقضينا ساعات لذيذة معه. . ولكن أين الكتب اللبنانية الأخرى التي تخرجها المطبعة اللبنانية في كل شهر؟. الجواب عند الأستاذ سهيل إدريس على إخواننا لأنهم لا يحلفون الأدب اللبناني!
غائب طعمة فرحان
كلية الآداب
البَريدُ الأدَبيّ
حول عادت النار:
في عدد الرسالة رقم 769 الصادر يوم الأحد 28 مارس قصيدة عصماء للشاعر المبدع المجدد الأستاذ محمود إسماعيل وقد التبس على منها بعض الكلمات مثل قوله: (وأصغي لأنوارها) والمعروف أن الأنوار إنما ينظر إليها لا أن يصغي لها الإنسان؛ فلو قال إنه يصغي للأصوات الحبيسة عند اندلاع النار لكان مقبولاً مستساغاً؛ ولكني لا أكاد أفهم هنا معنى الإصغاء سواء أخذ على الحقيقة أو المجاز. ثم قوله (فاهتز فيّ الرماد) لا يكاد يبين معناه. وأي رماد هذا؟ أهو رماد النيران أو رماده هو لا قدر الله؟ وهل يقصد بهذا أصل الإنسان؟
وأيضاً قوله وماض - رخيم الردى؛ فإني لم أقرأ هذا الوصف للردى من قبل؛ ولو أنه قال وماض وخيم الردى لكان مفهوماً. واستعمل الشاعر تزايل متعدية ولم ترد في القاموس والمصباح والمختار فإنه ذكر زيل فتزيل أي فرق ومنه قوله تعالى فزيلنا بينهم؛ ويقال زايله بمعنى فارقه والمصدر زيال ومزايلة؛ والتزايل التباين. فالذي يظهر من كلام الثلاثة أن تزايل لازمة لا متعدية وقد عداها الشاعر الكبير في قوله تزايلت معناه.
وبعد: فلعل الأستاذ يوافينا بالرد الكافي والجواب الشافي وله مني التحية والسلام.
يوسف عبد الله عثمان
حول (النقد الأدبي):
في العدد (769) من (الرسالة) الغراء اطلعت على مقال للأستاذ محمود رزق سليم (النقد الأدبي) من طرائف العصر المملوكي. . . ولي عليه تعقيب وهو:
لقد قال في سياق المقال: (. . . مع الإشارة إلى الحسن لم كان حسناً، وإلى النقص لم كان نقصاً. . .)
وهذا فيما أظنه خطأ.
وتكتب هكذا إذا ما أريد الصواب، وتكون في ثلاث حالات:
(1)
(. . . مع الإشارة إلى الحسَن، ولم كان حسناً؟ وإلى النقص، ولم كان نقصاً. . .)
(2)
(. . . مع الإشارة إلى الُحسن لمّا كان حُسناً، وإلى النقص لمَّا كان نقصاً. . .)
(3)
(. . . مع الإشارة إلى الحسَن. لمْ كان حسناً وإلى النقص لم كان نقصاً؟. . .) مع وضع نقطة بعد الحسن والنقص ووضع علامة استفهام بعد السؤال.
وما أردت من تعقيبي هذا الخاطف إلا الذود عن لغة الضاد مع تقديري التام لأبحاث الأستاذ. وله مني ألف تحية وشكر.
(دمنهور)
حسن العشماوي
في اللغة:
في عدد الرسالة الغراء (769) اطلعت على قصة الأستاذ مصطفى جميل مرسي (طبيعة مبهمة!) ولي عليها تعقيب لغوي ينحصر في الآتي:
1 -
قال الأستاذ المعرَّب (. . فلشد ما أثار سخطي و (أهاج) بغضي. .) فاستعمل الفعل الرباعي وهو خطأ لاشك فيه؛ إذ الفعل ثلاثي الأصل ومتعد بنفسه فضلاً عن لزومه.
تقول: هاج الغبارُ أي ثار وارتفع عموداً في السماء. وتقول: هاجه غيره أي (هيجه) وأثاره. قال الشاعر:
هاج قلبي (ذكراً وأحيا
…
ماضيات الهوى ولغوَ الشباب!
وإذا فاستعماله - رباعياً - خطأ صريح، لا يحتاج لمزيد توضيح!
2 -
كنت كتبت في (البريد الأدبي) للرسالة في العدد (768) كلمة أبين فيها الفرق بين استعمال (ثم) العاطفة و (ثم) التي بمعنى هناك للشيء البعيد دون القريب وذلك إذا لحقت التاء - مفتوحة ومربوطة - بكليهما.
ولكن في قصة الأستاذ وجدناه يقول (. . لا مجال للريب في أنه (ثمت) إنسان. .) فيكتبها بالتاء المفتوحة على غير الصواب ورجاؤنا من الأستاذ الرجوع - ولو باللمحة العابرة - إلى ما كتبناه في هذا الباب؛ ففيه كفاية ما يراد، وما تحتمه لغة الضاد، قبل النقد والنقد. والسلام.
(الزيتون)
عدنان
تعقيب على استدراك:
نشر الأستاذ هارون محمد أمين بالعدد (769) من (الرسالة) استدراكاً على صاحب العقد الفريد في ذكره غناء إبراهيم الموصلي بحضرة الأمين، فقرر أن هذا (افتراء على إبراهيم، وتجن على الأمين) حيث أن إبراهيم قد توفي في خلافة الرشيد.!
والمتأمل في القصة يدرك الوقت الذي حدثت فيه فإن إبراهيم الموصلي يخاطب الأمين بقوله (يا سيدي) مجردة عن أمير المؤمنين وهذا يدل على أن الغناء قد حدث في عهد الرشيد، والأمين ولي للعهد، ولا أظن أن الأستاذ هارون يدعي أن الغناء في ذلك الوقت كان مقصوراً على شخص أمير المؤمنين!!
هذا وقد نقل الأستاذ هارون عن إسحاق بن إبراهيم الموصلي أبياتاً في الرشيد. وقع في أولها خلل عروضي، ولعل صوابه: في بقاء الخليفة الميمون خلف عن مصيبة المحزون.
يوسف زاهر
التنويه الأدبي:
(يعلن مجمع فؤاد الأول للغة العربية أنه قد ألف لجنة لدراسة الكتب القيمة في الثقافة الأدبية العليا للتنويه الأدبي بما يراه المجمع نافعاً في بابه من هذه الكتب دالاً على جهد وابتكار على أن تكون هذه الكتب مما ألف منذ سنة 1944.
وستدرس اللجنة ما يقدم إليها من هذه الكتب أو ما يطلع عليه أعضاء المجمع، ثم يعقد المجمع في النهاية جلسة علنية للتنويه بخير الكتب وبأصحابها، وسيعلن عن موعد هذه الجلسة بعد الانتهاء إلى قرار.
كتاب تاريخ الأدب العربي:
تجرأ أحد المجرمين من الكتبيين فقلد الطبعة العاشرة من كتاب (تاريخ الأدب العربي) وعرضها للبيع، وهي طبعة ناقصة محرفة مشوهة، يعرفها القارئ لأول وهلة من صغر حجمها، وسوء طبعها، واختلاف حرفها، وخلوها من الشكل، وكتابة عناوين الأبواب بالخط
الفارسي وهي في الأصل مكتوبة بخط الثلث. وأولى علامات هذه الطبعة المزيفة أن تجد على صفحة الغلاف الأولى جملة (حقوق الطبع محفوظة) غير محصورة بحاصرتين وهي في الطبعة الأصلية محصورة بهما وشكلهما هكذا [].
وقد اتخذت الإجراءات الرسمية لضبط المزيف ومصادرة النسخ المزيفة. وإنا لننصح لحضرات القراء أن يميزوا بين الطبعتين بما ذكرنا من الفروق، وأن يتفضلوا - متى وقعت في أيديهم نسخة مزورة - فيخبروا إدارة الرسالة بمكانها ومصدرها وعلى الأخص في الأقطار العربية. وقد شرعنا نطبع الكتاب طبعته الحادية عشرة وستكون مزبدة منقحة كما عودنا القراء في كل طبعة.