المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 771 - بتاريخ: 12 - 04 - 1948 - مجلة الرسالة - جـ ٧٧١

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 771

- بتاريخ: 12 - 04 - 1948

ص: -1

‌من حقيبة البريد

للأستاذ عباس محمود العقاد

في حقيبة البريد - هذا الأسبوع - شيء عن عمر، وشيء عن الفن الجميل.

أما الشيء الذي عن عمر فقد أخذت لما فيه من سوء الفهم وسوء الأدب، ولو شئت لأظنه ولم أنظر فيه، ولكن دواعي الأخذ ترجع إلى من كتبه لا إلى من كتب إليه، وقد يكون من عذر السن لمن كتبه أن ننظر في علته، عسى أن يكون فيها ما يعالج وما ينفع فيه العلاج.

والعلة الكبرى أن تنطوي نفوس ناشئة على هذه الحالة التي تتصيد أسباب الاستياء والإساءة، وهي قادرة على أن تصحح شعورها لو كان بعديها هذا التصحيح، لأن الأمر لا يحتاج منها إلى أكثر من الفهم البسيط، والفهم المستقيم.

ففي رسالة من طالبات في بعض المدارس الثانوية يسأل الكاتبات: كيف نثبت أن ديننا يحل الرشى؟ هل نأتي بآية من كتابنا تدل على أننا نحلها؟

وقد أشار الكاتبات إلى ما جاء في الصفحة ال (142) من عبقرية عمر عن رأيه في استخدام بعض الذميين من أبناء عصره وهو بنصه: (إنه لا يعدو لا النهي عن استخدام بعض الذميين). ثم عللنا ذلك تعليلاً واضحاً لا لبس فيه، لأنه خطة سياسية تجري عليها جميع الدول في جميع الأزمان مع جميع الغرباء ولو كانوا من ديانة واحدة، فقلنا:(ما نظن أحداً ينكر أن استخدام الغرباء عن الدولة خليق أن يحاط بمثل هذا الحذر وأن تجتنب فيه مثل هذه الآفة؛ إذ يكثر بين المرتزقة الذين يخدمون دولة من الدول - وهم غرباء عنها كارهون لمجدها وسلطانها - أن ينظروا إلى منفعتهم قبل أن ينظروا إلى منفعتها، وأن يساوموا على نفوذهم قبل أن يستحضروا الغيرة على سمعتها والرغبة في خيرها وخير أهلها، ولاسيما في زمن كانت الدول تميز فيه بالعقائد قبل ان تميز بالأوطان، وما من أمة في عهدنا هذا تبيح الوظائف العامة إلا بقيود وفروق تتفق عليها: أولها تحريمها على الأجانب ما لم تكن في استخدامهم منفعة عامة. . .)

وقد كان عمر ينظر إلى أناس معينين من طلاب الوظائف في ذلك الحين، وهم موظفو الدولة البيزنطية في أواخر أيامها، وكانت وظائفها يومئذ مضرب المثل في الرشوة والفساد وسوء الإدارة، فليس على الوالي الأمين من حرج أن يستريب بخدمتهم في الدولة الجديدة،

ص: 1

وقد كانوا في دولتهم التي يدينون بالولاء لها يستبيحون الرشوة والانتفاع على حساب الدولة والرعية.

وفي عصرنا الحديث تحرم الحكومات استخدام الأجانب - لو كانوا من ذوي الاستقامة - إذا كانت حكومتهم في موقف كموقف عمر من الدولة البيزنطية، فلا تسمح الحكومة الإنجليزية مثلاً باستخدام الألمان في أبان الأزمات السياسية، ولا فرق بين الإنجليز والألمان في الأصل والدين، بل لا فرق بينهم في مذهب الكنيسة في بعض الأحيان.

وقد صنع عمر مثل هذا مع أجلاء الصحابة حين خامره الشك في إقبالهم على الدنيا، وصنع من قبله أبو بكر الصديق حين أوصاه في مرض وفاته فحذره:(هؤلاء النفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين قد انتفخت أجوافهم وطمحت أبصارهم وأحب كل امرئ منهم لنفسه). . . فلما خلفه عمر كان الصحابي من هؤلاء يسأله السفر فيقول له: (إن خيراً لك ألا ترى الدنيا وألا تراك) ص263.

فلا شأن لأديان الذميين بما صنعه عمر. وإنما هو حكم عام كان رضي الله عنه يلتزمه مع كل طالب وظيفة، ولو كان من أجلاء الصحابة المعدودين.

وليس عمر بالذي يقول السوء عن أوامر السيد المسيح ونواهيه فإنه يتعلم من القرآن الكريم أن المسيح روح الله، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، بوحي من الله.

أما الكاتب الذي ألف (عبقرية عمر) فهو الكاتب الذي قال في كتابه عن الله وهو يذكر السيد المسيح: لقد (كانت بشارته أعظم فتح في عالم الروح. لأنها نقلت العبادة من المظاهر والمراسم إلى الحقائق الأبدية، أو نقلتها من عالم الحس إلى عالم الضمير. ولم يشهد التاريخ قبل السيد المسيح رسولا رفع الضمير الإنساني كما رفعته، ورد إليه العقيدة كلها كما ردها إليه. فقد جعله كفوءاً للعالم بأسره بل يزيد عليه. لأن من ربح العالم وخسر ضميره فهو الخاسر في هذه الصفقة الخاسرة. وماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟ وماذا يعطي الإنسان فداء عن نفسه؟. . . إن الطهر كل الطهر في نقاء الضمير. فمناط الخير كله فيه، ومرجع اليقين كله إليه. فليس شيء من خارج الإنسان يدنسه. بل ما يخرج من الإنسان هو الذي يدنس الإنسان. وهناك حياته وبقاؤه، فليس حياته من أمواله) الخ الخ ص 147

ص: 2

أقول هذا تفهيماً وتأديباً، ولا أقوله لملاطفة أو استرضاء. فإن الفتاة التي تسرع إلى الشتم والبغاء تستوجب التفهيم والتأديب، بل تستوجب الزجر الشديد، ولكنها لا تستحق الملاطفة ولا الاسترضاء.

وقد كان السؤال عن الفن الجميل أسئلة كثيرة، ويدور بعضها على التصوير ومنها على التمثيل.

ولا يتسع المقام هنا للكلام على التصوير لأنه يحتاج إلى أمثلة من الصور المختلفة لا يتيسر عرضها في هذا المقام.

فنكتفي بالسؤال عن التمثيل، وهو كما جاء في خطاب الأديبين صاحبي الإمضاء.

قالا: (كانت إجابتكم في المطالعات أن التمثيل في مصر مقتلة للوقت. وإنه محاكاة فردية لهذه الصناعة، وإنه تمثيل للتمثيل (ورجاؤنا أن تتفضلوا بالإدلاء برأي في المسرح المصري بعد هذا العمر الطويل الذي سلخه، وبعد أن ظهرت على خشبة المسرح فرق كثيرة، انتهى أمرها جميعاً إلى الفرقة المصرية التي تعينها الدولة) ونرجو أن نعرف: هل حققت الفرقة المصرية رسالتها الفنية التي أنشئت من أجلها؟ وما هي وسائل النهوض بالمسرح المصري. . .

محمد حسين الكاشف

أنور فتح الله

دبلوم في النقد والبحوث الفنية من المعهد العالي لفن التمثيل

العربي

وخلاصة رأيي بعد عشرين سنة من كتابة (المطالعات) أن الاشتغال بالتمثيل عندنا قد أخرج لنا آحاداً من نوابغ الممثلين، ولكنه لم يخرج لنا فرقة كاملة يتم فيها التعدد، ويتم فيها التجانس مع تعداد الأدوار.

وأول ما يلاحظ على نوابغ الممثلين عندنا أنهم ينجحون في تمثيل النماذج العامة، ويغدر بينهم من ينجح في تمثيل (الشخصيات) الخاصة، كما يشاهد مثلاً في إعطاء (بول متى) لكل من شخصيات باستور وأميل زولا وفلاح الصين والمجرم الهارب من السجن،

ص: 3

والمخبول الذي يعيش بشخصية مزدوجة، وليست كلها نموذجاً واحداً من الطبائع البشرية، لأنها تختلف في إعطائها وإخراجها أبعد اختلاف يقع بين إنسان وإنسان.

هذه القدرة قليلة عندنا إلى الآن، وعلتها أن الطراز العام هو الذي يفهمه عامة النظارة والمتفرجين، ولابد للنجاح في الأدوار الخاصة من إدراك واسع لمناحي النفس البشرية وأطوار الشخصيات المختلفة، يحبب هؤلاء النظارة والمتفرجين في تمثيل هذه الشخصيات إذا عرضت عليهم، لأنهم يشعرون بما فيها من متعة الفوارق الدقيقة بين طبائع الإنسان، وليس في طاقة الممثل أن يتفرغ لإحياء (شخصية) خاصة تكلفه الجهد واليقظة والدراسة الفنية والعلمية إذا كان قصارى الأمر أنه (كله عند العرب صابون). وغن المتفرج يقنع بما دون هذا الجهد، وقد يفضل الجهد اليسير على الجهد الكثير.

هذه الآفة في التمثيل هي بعينها آفة فن الغناء.

فإنك تستطيع أن تسمع ألف أغنية فلا ترى فيها ملامح الشخصية المختلفة، ولا تلمس فيها دقة التفصيل والتنويع، لأن التصنع فيها أبرز من الإحساس الأصيل.

وهي آفة لا يلام عليها فن التمثيل المصري على انفراد، لأنها آفة المجتمع المصري لم يخرج لنا بعد جمهوراً كاملاً لتلك الفرقة، إذا وجدت على تمامها أو تم فيها التعدد والتجانس بين جميع الأدوار.

فليس عندنا الآن جمهور كامل (مواظب) لغير نوع واحد من المسرحيات، وهو نوع التهريج والمجون وإثارة الحس بمناظر الشهوات ومناظر الشجار.

أما الفن الرفيع فله جمهور متفرق أو أشتات من جماهير عدة، لا يستقل واحد منها بإنهاض فن متقدم يثبت على قدميه.

وينتهي بنا ذلك كله إلى نتيجة واحدة: وهي أن التمثيل المصري في حاجة إلى معونة دائمة من الحكومة، ومعونة دائمة من الموسرين الغيورين على هذا الفن الجميل، لأن التمثيل في العالم كله - وفي مصر خاصة - يعبر محنته الكبرى مع الفتنة الطاغية من قبل الصور المتحركة، ولكنه هو الفن الباقي بعد هذه الفتنة وهو الينبوع الذي ينبغي أن يعتمد عليه فن الستار الأبيض، ولا تؤمن عليه العاقبة إذا ترك وحده بغير معونة وتشجيع.

عباس محمود العقاد

ص: 4

‌دولة الدول الصهيونية

للأستاذ نقولا الحداد

أيعلم العرب والعالم أجمع أن تأسيس دولة صهيونية في فلسطين هو نذير بخطر على العالم عظيم، لأن الدولة الصهيونية ستبتلع جميع دول العالم في عصر أو عصرين. والشيوعية الروسية ليست إلا صنيعة الصهيونية نفسها. وما إنشاء هذه الدولة الصهيونية إلا تتمة برنامج وضعه حكماء اليهود السابقون أي حاخاماتهم، (وكلمة الحاخام بالعبرية تعني الحكيم والحاكم معاً. وكان هذان المعنيان لشخص واحد من قديم الزمان).

والبروتوكولات التي نشرت نموذجاً منها في مقالي السابق هي ملخص محاضر جلسات أولئك الشيوخ الحكماء. وفي هذه المحاضر السرية يرى القراء ماذا يبيت الصهيونيين لجميع الأمم غير اليهودية التي يسمونها في اصطلاحهم (الجوبيم) وما يضمرونه من السيطرة والاستبداد والأذى للأمم، وسأنقل من هذه المحاضر إلى (الرسالة) أهم ما فيها من الاستعداد لهذه السيطرة والوسائل الجهنمية التي يتوسلون بها من غير أن يفطن ساسة الأمم وعلماؤهم وزعماؤهم إليها؛ أو يفطنون إليها مستهترين.

ولذلك نعرضها على القراء لكي يعلموا أن الدولة الصهيونية في فلسطين إن قامت إنما هي بدء التهام الأمم وابتلاع دولها. . . لا سمح الله.

هذه البروتوكولات كانت سرية ثم افتضح أمرها في آخر القرن المنصرم، إذ اتصل خبرها بأحد أعيان الروس الأستاذ سرجيوس بيلوس، وهي مكتوبة باللغة الروسية، وقد طبعها في سنة 1905 وكتب لها مقدمة قال فيها:(إن نسخة خطية من هذه الوثائق دفعها إليه صديق قبل وفاته في سنة 1901 بأربع سنين، وأكد له أنها ترجمة (إلى الروسية) صحيحة كل الصحة (ربما كانت عن أصل فرنسي) سرقته سيدة من شخص ذي مقام وذي نفوذ عظيم في الماسونية بعد نهاية اجتماع ماسوني عقد للتكريس في باريس؛ وكان هذا الاجتماع في وكر للمؤامرات الماسونية اليهودية (غير الماسونية العامة).

ولا يدع أن تكون فرنسا أوكاراً سرية للصهيونية لأنها بطبيعتها الثورية أرض صالحة لنمو الدسائس الصهيونية التي ألقت عليها حلة (الحرية والإخاء والمساواة) ذراً للرماد في العيون كما سيجيء بيانه.

ص: 6

وأضاف نيلوس إلى هذه القصة أنه نشر هذه النسخة الخطية مطبوعة تحت عنوان: (بروتوكولات شيوخ صهيون العلماء)، وقال إنها ليست بالضبط نصوص محاضر تلك الجلسات السرية التي عقدها هؤلاء الشيوخ؛ بل كانت كبلاغ رسمي تنقصه بعض فقر حذفها شخص قوي النفوذ.

والأستاذ نيلوس يسلم بعدم إمكان الحصول على برهان خطي أو شفهي على صحة هذه الوثائق؛ وإنما يقول: (نكتفي بأدلة الظروف الوافرة التي تؤيد صحتها. على أن مشتملات هذه الوثائق يجب أن تقنع (من لهم أذنان للسمع) لأنها واضحة ولابد أن نسمع صراخ اليهود ومن يداجيهم من غير اليهود: (إن هذه الوثائق ملفقة ومدسوسة عليهم)، وعلى الرغم من هذا فالحوادث تثبت صحتها.

وقد وردت نسخة من طبعة سرجيوس نيلوس إلى المتحف البريطاني وعليها قيد الاستلام وتاريخه في أغسطس سنة 1906 وهناك عثر عليها الأستاذ فكتور مارسدن الذي كان يراسل جريدة المورتن بوسط في موسكو أثناء الحرب الكبرى السابقة والانقلاب الروسي الذي حدث في غضونها، ولما كان ماردسن يعرف الروسية جيداً عكف على ترجمة هذه الوثائق في المتحف نفسه إلى الإنكليزية فطبعتها جمعية الطباعة البريطانية.

وقد نشرت جريدة نيويورك ورلد سنة 1921 تعليقاً على هذه الطبعة من حديث مع هنري فورد ورد فيه قوله: (ما يمكن أن أقوله الآن بشأن هذه البروتوكولات أنها تصدق على ما هو حادث الآن في العالم. لقد مر على نشرها إلى اليوم نحو 11 سنة وهي تصدق على حالة العالم في هذه المدة. نعم تصدق عليها).

أجل إن الحوادث في كل العصور تظهر خطة الأمة اليهودية التي اتفق عليها شيوخها على تمادي الزمن حتى عصرنا الحاضر. وانتشر خبرها مما تسرب منه من هؤلاء الشيوخ على الرغم من سريتها وحرصهم على كتمانها.

في 14 يوليو سنة 1922 نشرت جريدة جويش كرونكل (اليهودية) بعض مذكرات تيودور هرزل، ومنها خلاصة حديث حين زار إنكلترا مع الكولونل جولد سميد الذي كان يهودياً ثم تنصر وبقي يهودياً في قلبه. فلمح هذا اليهودي المتنصر لهرزل (إن الطريقة الوحيدة لتجويد الأعيان الإنكليز من أملاكهم لقتل نفوذهم الذي يحمون به الشعب الإنكليزي من

ص: 7

سيطرة اليهود، هو سن ضرائب ثقيلة على أملاكهم. فاستحسن هرزل هذه الطريقة. ولا يخفى أن مذكرة هرزل هذه تتفق مع البروتوكولات كما سيتضح ذلك فيما سننشره منها.

وفي 8 أكتوبر سنة 1920 نشرت جريدة جويش جارديان كلمة للدكتور ويزمان رئيس الصهيونية المعروف الآن حين وداعه لرئيس الربانيين في وليمة قبل سفره لسياحة في الإمبراطورية البريطانية قال فيها: (إن نعمة الحماية التي أسبغها الله على اليهود هي أنه شتتهم العالم) - طبعاً لكي ينشروا هذا البرنامج، وسترى هذا واضحاً البروتوكول الحادي عشر.

من هم هؤلاء الشيوخ العلماء الصهيونيين الذين ائتمروا؟؟ يستفاد مما كتبه في هذا الموضوع وولتر رانينيوا في جريدة وينر فراي برس في 24 ديسمبر سنة 1912 أن ثلاث مائة شيخ من شيوخ بني إسرائيل معروف بعضهم لبعض يقررون مصير القارة الأوروبية، وهم ينتخبون خلفاءهم ممن يحف حولهم من ذويهم وأصدقائهم.

وفي سنة 1848 ألف بنيامين إسرائيل رواية تمثيلية وردت فيها هذه العبارة بلسان بطلتها المسماة سيدونيا (ويقال إنها من آل روتشيلد الأثرياء اليهود): (هكذا ترى يا عزيزي كنز سباي (معناه الجاموس المكار) أن العالم يحكمه أفيال مختلفون عمن يتصورهم الناس الذين ليسوا وراء الستار). وإسرائيل هذا كان يهودياً فنصره أبوه لكي يتسنى له أن يتغلغل في السياسة البريطانية، وتغلغل بالفعل إلى أن صار اللورد دزرائيلي المعروف والمنافس لجلادستون. وبهذه العبارة المشار إليها كاد يصرح أن الذين وراء الستار هم اليهود، وبهذه البروتوكولات التي نحن بصددها كشفت العناية الإلهية أن الذين وراء الستار هم اليهود.

وكان دزرائيلي وراء الستار فعلا يعمل بأساليبه الخفية ويلعب بجميع الحكومات الأوروبية في عصره. فعلى جميع الأمم البيضاء تلغى مسؤولية مراقبة هذه الأمة اليهودية التي تفتخر بأنها بقيت في الوجود دون سائر الأمم القديمة والإمبراطوريات البائدة - على حد قول داروين: (بقاء الأنسب) كما يعتقدون.

ليست هذه الحركة الصهيونية بنت الأمس بل هي قديمة من عهد سليمان الحكيم وغيره من الحكماء أي منذ سنة 925 قبل المسيح. فكان الحاخامون يفكرون في الخطط الممكنة لانتصار صهيون السلمي على العالم كله، (وكلمة صهيون كانت ترادف أورشليم ثم أطلقت

ص: 8

على فلسطين).

والراجح أو الأكيد أن الماسونية كانت من جملة خططهم كما تدل عليها شعائرها وطقوسها، وما هي إلا أحبولة لاصطياد طبقات الناس على اختلاف طوائفهم ودرجاتهم واستخدامهم الأساليب الخفية لأغراض جمعيتهم السرية التي هي (جمعية ماسونية يهودية) ضمن الماسونية العامة؛ وليس للماسون العموميين علم بها. وتلك (الماسونية الخفية) تنفذ مآربها بواسطة (الماسونية العامة) من حيث لا يدري ذوو الشأن.

ولكي تنتشر الماسونية العائمة في جميع الأمم صبغوها بصبغة الإنسانية والفضيلة وجعلوا شعارها: (الحرية والإخاء والمساواة) الذي اقتبسته الثورة الفرنسية، وبهذه الطريقة دخلفيها الممتازون من عامة الناس وأصحاب المهن العالية وأصحاب النفوذ من الحكام والموظفين حتى الوزراء والأمراء والملوك، ولهذا استطاعت (الماسونية اليهودية الخاصة السرية) المكتومة عن جميع العالم أن تنفذ مآربها على يد الماسونية الشائعة. وسترى في البروتوكول الحادي عشر تحقيق ذلك بجلاء. فقد روى في صلب البند السابع من هذا البروتوكول بالنص الكامل:(فلأي فرض اخترعنا هذه السياسة (الداهية) وأدخلناها في عقول الجويبم (الناس غير اليهود) من غير أن تدع لهم أية مضنة أو شبهة لكيلا يتنبهوا لاختبار ما تنطوي عليه؟ حقاً لأي غرض فعلنا هذا إذا لم يكن قصدناأن نحصل على طريق ملتو نتوصل به إلى قومنا المشتت الذي لا تتصل به عن طريق مستقيم. هذا هو الطريق الذي نعني في جعله أساساً لمنظمتناالماسونيةالسريةالخاصة التي لا يعرفها هؤلاء الجويبمالبهائم (كذا) والتي لا يتشبهبها هؤلاء السائمة حتى ولو كانت موجهة ضدهم. إن هؤلاء الجويبم مجذوبون إليها بجاذبية هذه المظاهر الخلابة في المحافل الماسونية التي ليست إلا ذراً الرماد في العيون)

إذن فليعلم ماسونيو العالم أنهم يخدمون مآرب الصهيونية وهم غافلون.

إذا رجعنا أسباب الحوادث حتى الحروب ولا سيما الأخيرة منها لرأينا أصابع الماسونية فيعا: في الثورة الفرنسية والانقلاب العثماني والانقلاب الروسي الخ.

إن أولئك الشيوخ الحكماء (الحاخامين) الدواهي الذين وضعوا الخطط في هذه البروتوكولات وكانوا ينقحونها على طول الزمن حسب مقتضيات الحال، كانت خططهم

ص: 9

هذه تنفذ على يد أشخاص تكرسوا لهذا الغرض. قصد هؤلاء الحكماء أن يفتحوا العالم كله لأنفسهم بالأساليب السلمية، أو التي يسلمون بها من كوارثها، أو بالأحرى بأسلوب مكر الحية وخبثها كما سترى في البروتوكول الثالث. ترى فيه رأس الأفعى الرمزية يمثل اليهود الذين تخصصوا لتنفيذ خطط الإدارة اليهودية للدولة الصهيونية المنتظرة، وجسم الأفعى هو بقية الشعب اليهودي. فالإدارة تبقى سرية حتى عن الشعب اليهودي نفسه، وحيث أن الأفعى تتغلغل في قلوب الأمم حتى التي تقاومها (بواسطة الماسونية طبعاً) فهي تنقب تحت الدول غير اليهودية وتلتهم جميع حكوماتها. ولا تزال هذه الأفعى تعمل عملها بحسب الخطط المرسومة لها إلى أن يصل رأسها إلى صهيون (فلسطين)، وحينئذ تكون قد أتمت دورتها حول أوربا وطوقتها، وقد قيدتها بسلسلة، وبسطت سلطانها على ساءئر العالم. يعمل كل هذا ببذل الجهد في إخضاع سائر البلاد بالنفوذ الاقتصادي.

إن عودة رأس الأفعى إلى صهيون لا يتم إلا بعد أن تطأطئ رؤوس ممالك أوربا، وتخر ساجدة إلى إله المال أي بواسطة الأزمات الاقتصادية والخراب الشامل، وحينئذ تنهار الآداب الاجتماعية والروحية وتنحط الأخلاق. ويكون من جملة العوامل لهذا الانحطاط السيدات اليهوديات، ولا سيما الفرنسيات، والإيطاليات. هذا ما ينوه به حكماء اليهود. لا ريب أنه أفعل الوسائل لنشر الفساد في حياة الأفراد والزعماء وقادة الأمم.

يمكنك أن ترسم خريطة الأفعى الرمزية هكذا:

كانت أول خطوة لها في أوربا سنة 429 قبل المسيح في بلاد الإغريق في عهد بركابس حين شرعت الأفعى تقضم عرش تلك المملكة. والخطوة التالية في روما لعهد أوغسطس قيصر سنة 69 قبل المسيح. والثالثة في مدريد لعهد تشارلس الخامس سنة 1552 مسيحية. والرابعة في باريس نحو سنة 1790 في زمن لويس السادس عشر. والخامسة في لندن حول سنة 1814 بعد سقوط نبوليون. والسادسة في برلين سنة 1817 بعد الحرب الفرنساوية البروسية. والسابعة في بطرسبرج حيث ظهر رأس الأفعى في سنة 1881 وهذه المعلومات وغيرها مستقاة من مقدمة الترجمة الإنكليزية.

جميع هذه الممالك التي عبرتها الأفعى كانت أسسها قد تزلزلت؛ فألمانيا تزعزعت قوتها الظاهرة من غير أن تشذ عن القاعدة. وأما روسيا فقد اجتاحتها الأفعى غير مرة. وفي سنة

ص: 10

1905 تركز رأس الأفعى، ثم أتجه سعيها إلى موسكو وكييف وأودسا.

هذه هي الخريطة التي رسمها المترجم مراسل المورتن بوسط إلى زمنه. ونحن نقدر أن نزيد عليها أن الأفعى صدمت موسكو صدمة حطمت كل روسيا في الانقلاب الشيوعي وكل أوربا في الحرب السابقة. وهكذا عرفنا أين استقرت الأفعى في أوربا.

وكانت هذه الخطة مرسومة قبل إنشاء جمعية تركيا الفتاة التي أنتجت ثورة البلقان ثم الانقلاب العثماني. حتى أنه لما شبت الحرب الكبرى السابقة تحطمت تركيا وتمزقت إرباً إرباً.

ولما انتظمت خطة الحكماء الصهيونيين (التي ستراها في محاضرهم) زعم اليهود أن هذه البروتوكولات مزورة ومدسوسة عليهم. إذن فعليهم أن يفسروا لنا الأسباب الأساسية للثورات والحوادث التاريخية المشتبه فيها. ومن أمثالها:

1 -

إطلاق سراح تروتسكي (برونشتين) من الاعتقال في هاليفاكس، سكوشيا حين كان في طريقه إلى إحداث مذبحة لملايين من الروس المساكين.

2 -

تعطيل مكتب خارجية إنكلترا للمادة الحيوية في التقرير عن بلشفة أودندبك الوزير الهولاندي (وعلم هذين المثلين عند المترجم).

3 -

وعد بلفور الخ.

ويؤيد صحة البروتوكولات دزرائيلي في كتابه (لورد جورج بنتنكن) في الفصل 24 إذ يقول بعبارة جازمة: (إن اليهود يبتغون أن يدمروا النصرانية بطريقة يصفها بصراحة أنها مطابقة للبروتوكولات).

وفي رأي كاتب بعض هذه المقتبسات أن وجود قسس بلاشفة غب الكتائس واساتذة بلاشفة في الجامعات وغيرها كان مستحيلاً لو لم تكن البروتوكولات صحيحة. فالبلشفية عي مكيدة صهيونية هائلة، والقارئ يرى في أثناء قراءة البروتوكولات أدلة عديدة على صحتها.

نلفت نظر القارئ إلى ما سننقله من بنود هذه البروتوكولات ونود أن يراجع في نفسه ما يعلمه من حوادث العالم وثوراته وانقلاباته وأزماته السياسية والاقتصادية عسى أن تبدو لبصيرته اليد الصهيونية العاملة في هذه الحوادث من وراء الستار. ولولا هذه اليد الصهيونية الممتدة من عهد سليمان الحكيم إلى اليوم لكان العالم أقل توازناً وأهدأ بالاً

ص: 11

وأشمل سلاماً.

وليعلم العرب على الخصوص والعالم على العموم أن رأس الأفعى اليهودية اقترب إلى الأرض المقدسة لكي يقيم فيها ملك صهيون ويؤسس دولته ويرفع بيرق سلطانه. فإن نجح لا سمح الله فليعلم العالم أجمع أن جميع ممالكه ودوله أصبحت في حوزة هذه الأفعى. وبعبارة صريحة تصبح كلها أدوات في يد الصهيونية وآلات لرفع سؤددها وتصبح جميع الأمم عبيداً لها (فمن له أذنان فليسمع).

وليعلم ستالين أنه هو شخصياً من الجويبم الذين يلقبهم حكماء الصهيونية بالبهائم، وأنه وهو يبذل جهده في تأييد تقسيم فلسطين وإرسال شيوعيين يهود إلى فلسطين يعمل في إنشاء دولة صهيونية يكون هو أول من يخضع لها، وروسيا أول دولة تخر لها ساجدة. وليعلم أيضاً أن الشيوعية التي يبشر بها وينشرها هي من اختراع حكماء صهيون، وأن روسيا الشيوعية صائرة شيئاً فشيئاً من أملاك الدولة الصهيونية. وليعلم إنها منذ الآن في أيدي الصهيونيين، والأفعى الرقطاء لا يزال جسمها رابضاً في روسيا، ولا يزال ستالين يجهل أن اليد التي تحركه هي يد الصهيونية (إذا لم يكن ستالين يجهل أن اليد تحركه هي يد صهيونية تابعة للدولة الصهيونية العليا، وحينئذ تتلقى موسكو أوامرها من تل أبيب.

هل يعلم ستالين هذا أم لا يزال من الجاهلين المغرورين.

وليعلم المغفلون الأمريكي والإنكليزي والأوربي على العموم أن الخوف ليس من الشيوعية (الشيوعية ليست الاشتراكية، بل هي صورة أخرى للصهيونية) وإنما الخوف من هذه الشيوعية التي تنطوي أذيالها على الصهيونية. فعلى دول الغرب إن كانت تريد أن تتقي شر الشيوعية أن تقطع رأس الأفعى الصهيونية قبل أن تنفث سمومها في أرض عيسى ومحمد المقدسة.

نقولا الحداد

ص: 12

‌من ظرفاء العصر العباسي:

1 -

أبو العيناء

191 -

283

للأستاذ صبحي إبراهيم الصالح

(في هذا العالم الزاخر بالتناقضات عرش للهزل كعرشه للجد، استوى عليه أبو العيناء منذ بلغ أشده من رد إلى أرذل العمر فمات)

بقي أبو العيناء معروفاً بهذه الكنية منذ اشتهر بين أهل عصره حتى انطوت حياته الطويلة الطريفة. أما اسمه فهو محمد بن القاسم الهاشمي بالولاء؛ لأن جده خلاداً كان من رقيق اليمامة، وكان مولى لأبي جعفر المنصور؛ فقد روي الخطيب في (تاريخ بغداد) عن محمد بن صالح بن النطاح مولى بني هاشم أنه قال:(حدثني أبي قال: طلب المنصور رجالاً ليكونوا بوابين له. فقيل: إنه لا يضبط هذا إلا قوم لئام الأصول، أنذال النفوس، صلاب الوجوه، ولا تجدهم إلا في رقيق اليمامة. فكتب إلى السري عبد الله الهاشمي - وكان واليه على اليمامة - فاشترى له مائتي غلام من اليمامة، فاختار بعضهم فصيرهم بوابين، وبقي الباقون فكان ممن بقي خلاد جد أبي العيناء. . .)

ويبدو أن القاسم بن خلاد والد أبي العيناء لم يطلب له المقام في بغداد، فولى وجهه شطر الأهواز بخوزستان؛ فكان مولد ابنه في كورة من كورها سنة إحدى وتسعين ومائة بعد نكبة البرامكة بسنوات، وقبل وفاة الرشيد بسنتين: فأبو العيناء قد تم الرضاعة حين بويع للأمين بالخلافة بعد وفاة أبيه في طوس، وأضحى في السابعة من عمره لدى مقتل الأمين، ونشأ أحول العين مخضوباً بالحمرة خضاباً ليس بالشبع، فأمضى فيها بقية حداثته وكل شبابه وجانباً من كهولته، في عصر المأمون الذي دام عشرين عاماً؛ فأصبح أبو العيناء في ربيعه السابع والعشرين، ثم في عصر المعتصم الذي بقي ثمانية أعوام فأضحى أبو العيناء في السادس والثلاثين، ثم في عصر الواثق بالله الذي ظل خمسة أعوام فجاوز أبو العيناء حدود الأربعين. ويومذاك اعتلت عيناه فأمسى بعد حوله أعمى بعد مغادرته البصرة إلى دار الخلافة ليقضي فيها أكثر من نصف عمره الطويل.

ص: 13

كان ذكي القلب، هميز الفؤاد، قوي الذاكرة؛ فساعدته هذه المواهب على الإقبال على طلب العلم في صغره، فحفظ القرآن وتعلم الفرائض، وتوفر على دراسة العربية، وبرع في حفظ الروايات والأخبار، حتى أن الدارقطني روى عنه (أنه أتى عبد الله بن داود بن عامر الهمداني الخربي وهو صغير ليحدثه فقال له: نحفظ القرآن؟ فقال: قد حفظته. قال: تعلم الفرائض؟ قال: قد حذفتها. قال: فتعلم العربية؟ قال: تعلمت منها ما فيه كفاية، فامتحنه في كل ذلك فأجاد. فقال لو كنت محدثاً أحداً في سنك لحدثتك)

وهذه القصة قد رواها الخطيب في تاريخه بأطول من هذا وأوضح (ص 172 ج3) وهي إن دلت على شيء فأول ما تدل عليه تصوير صادق لاستعداد أبي العيناء الفطري الذي يؤهله لسماع الحديث وروايته، لولا صغر سنه وحداثته. ولئن ضن الخريبي على الفتى بتحديثه صغيراً فإنه لم يعدم وسيلة للتشجيع؛ إذ وجد متنفساً لرغبته، وإرضاء لنهمه في كتابة الحديث وطلب الأدب لدى أبي سعيد الأصمعي، وأبي عبيدة معمر بن المثتى، وأبي زيد الأنصاري، ومحمد بن عبد الله العتبي، وأبي عاصم النبيل، الذين كان لهم اكبر الأثر في توجيه حياته العلمية.

وفي عهد طلبه للعلم على أبي زيد الأنصاري لحقت به كنيته المشهورة (أبو العيناء)، فقد سأله رجل:(كيف كنيت أبا العيناء؟ قال: قلت لأبي زيد سعيد بن أوس الأنصاري: كيف تصغر عيناً؟ فقال: عيينا يا أبا العيناء فلحقت بي منذ ذاك)

وقد لاحظت - بعد طول البحث والتنقيب - أنه كان منصرفاً إلى العلم الانصراف كله قبل أن يجاوز الأربعين من عمره فلم يحاول الاتصال بالخلفاء والأمراء، ولم يتكسب بالشعر والرواية كما كان يتكسب في عصره أمثاله من الرواة والشعراء. فكن واثقاً أنك لن تقرأ له خبراً واحداً أو نادرة واحدة تتصل بقصر الخلافة؛ لا في أواخر عهد المأمون ولا في شيء من عهد المعتصم. ولم يكن ليحول دون ذلك سكناه بالبصرة؛ فقد كان في مكنته أن يغادرها حين يشاء إلى دار الخلافة عن طواعية واختيار؛ بيد أن انتظر الأقدار حتى أخرجته من منشئه إخراجا، يوم نكب نكبة في أواخر أيام الواثق فحمل على أثرها غليه، فاتصل عفواً بابن أبي دؤاد الذي كان له نفوذ في الدولة كبير. روى أبو العيناء عن نفسه قال: (كنت في أيام الواثق مقيماً بالبصرة، فكنت يوماً في الوراقين بها إذ رأيت منادياً مغفلاً في يده

ص: 14

مصحف مخلق الأداة فقلت له: ناد عليه بالبراءة ومما فيه - وأنا أعني به أداته - فاقبل المنادي ينادي بذلك. فاجتمع أهل السوق والمارة على المنادي وقالوا له: يا عدو الله! تنادى على مصحف بالبراءة مما فيه؟ وأوقعوا به. فقال لهم: ذلك الرجل القاعد أمرني بذلك. فتركوا المنادي وأقبلوا إلي وتجمعوا علي ورفعوني إلى الوالي وعملوا علي محضراً، وكتب في أمري إلى السلطان. فأمر بحملي فحملت مستوثقاً مني. واتصل خبري بأبي عبد الله بن أبي دؤاد، فتكفل بأمري والفحص عما قرفت به، وأخذني غليه ففك وثاقي؛ وتجمعت العامة وبالغوا في التشنيع علي، ومتابعة رفع القصص في أمري، فقلت لأبن أبي دؤاد: قد كثر تجمع هؤلاء الهمج علي وهم كثير. فقال: (كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله). فقلت: قد بالغوا في التشنيع علي فقال: (ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله). فقلت: إني على غاية الخوف من كيدهم، ولن يخرج أمري عن يدك. فقال:(لا تحزن إن الله معنا). فقلت: القاضي - اعزه الله - كما قال الصموت الكلابي:

لله درك - أي جنة خاف

ومتاع دنيا - أنت للحدثان

متخمط يطأ الرجال بنعله

وطأ الفنيق دوارج الروان

ويكبهم حتى كأن رؤوسهم

مأمومة تنحط للغربان

ويفرج الباب الشديد رتاجه

حتى يصير كأنه بابان

قال: يا غلام! للدواة والقرطاس. . . أكتب هذه الأبيات عن أبي عبد الله. فكتبت له، ولم يزل يتلطف في أمري حتى خلصني)

ولم يأسف على فراقه البصرة؛ (إذ وجد ماؤها أجاجاً، ووجدها تطيب في الوقت إلي تطيب فيه جهنم) كما وصفها للخليفة المتوكل لما سأله: ما تقول في البصرة يا أبا العيناء؟

لا، لم يأسف على فراغها لولا أن الشقاء هجم عليه، وان الدهر قسا عليه، فأخذ نور عينه!

يومئذ بكى على البصرة وضيائها، ونقم على بغداد وظلامها. يومئذ عرف قيمة البصر بعد أن فقد البصر!

ولكن الصولي - كما في تاريخ الخطيب - يحدثنا عن أبي العيناء حديثا ً لا يخلو من طرافة يصف به الباعث على رحيله عن البصرة، فإنه روى عنه انه قال: (سبب تحولي من البصرة أني رأيت غلاماً ينادي عليه بثلاثين ديناراً يساوي ثلاثمائة دينار فاشتريته.

ص: 15

وكنت أبني داراً فأعطيته عشرين ديناراً لينفقها على الصناع، فأنفق عشرة واشتري بعشرة ملبوساً له! فقلت: ما هذا! فقال: لا تعجل، فإن أرباب المروءة لا يعتبون على غلمانهم هذا. فقلت في نفسي: أنا اشتريت الأصمعي ولم أدر! ثم أردت أن أتزوج امرأة سراً من بنت عمي، فاستكتمته ودفعت إليه ديناراً يشتري به حوائج وسمكاً هازباً فاشترى غيره فغاظني. . . فقال رأيت بقراط يذم الهازبا! فقلت: يا ابن الفاعلة لم أعلم أني اشتريت جالينوس. . . فضربته عشر مقارع، فأخذني وضربني سبعاً. وقال: الأدب ثلاث يا مولاي، وإنما ضربناك سبعاً قصاصاً. فرميته فشججته، فذهب إلى بنت عمي وقال:(الدين النصيحة) و (من غشنا ليس منا) إن مولاي قد تزوج واستكتمني فقلت: لابد من تعريف مولاتي الخبر، فضربني وشجني! فمنعتني بنت عمي دخول الدار، وحللت ما بيني وبين ما فيها، وما زالت كذلك حتى طلقت المرأة. وسمته بنت عمي (الغلام الناصح)، فلم يمكني أن أكلمه فقلت: أعتق هذا وأستريح. . . فلما أعتقته لزمني وقال: الآن وجب حقك علي. ثم إنه أراد الحج فزودته، فغاب عشرين يوماً ورجع وقال: أقطع الطريق، ورأيت حقك قد وجب. ثم أراد الغزو فجهزته، فلما غاب بعت مالي بالبصرة وخرجت منها خوفاً أن يرجع).

وهذا الحديث الطريف نقله عن الخطيب ياقوت في (معجم الأدباء) وابن حجر في (لسان الميزان) على اختلاف في الألفاظ يعين، وهو - في جملته أو تفصيله - لا يعتبر تعليلاً لتحول أبي العيناء من البصرة كما هو الواقع ونفس الأمر، وإنما هو تعليل فتحوله منها كما شاء هو أن يصوره بأسلوب المتهكم، وعرضه الساخر، في رواية الأخبار.

وكنت أود أن أصل الكتابة بتحليل نفسية هذا الظريف ودراسة أطواره من خلال آثاره - بعد أن عرفت بمولده ونشأته، ومقامه وانتقاله - لولا أني وقفت أمام نص في معجم الأدباء، يدور حول عمي أبي العيناء، فدارت حوله في نفسي عوامل شتى من الشك والارتياب. يفيد هذا النص (أن جد أبي العيناء الأكبر كان يلقي علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، فأساء مرة المخاطبة بينه وبينه، فدعا عليه بالعمى - له ولولده من بعده - فكل من عمى من ولد أبي العيناء فهو صحيح النسب فيهم!).

لا أكتم القارئ الكريم أني ما إن قرأت هذه الرواية حتى شممت رائحة الوضع فيها، فقلت في نفسي: إنها لا تخرج عن أحد أمرين: إما أن راويها المعاصر لأبي العيناء المنافس له

ص: 16

يريد باختلاقها النيل منه والتعريض به؛ إذ كان له ولدان أبو جعفر وعبد الله، وكلاهما كان بصيراً غير أعمى؛ فهما إذاً دعيان لا يصح نسبهما من أبيهما - وفي هذا قذف صريح في أبي العيناء - وإما أن بعض العلويين المتشيعين الكارهين له الناقمين منه أذاعها بين الناس لا على سبيل المنافسة ولكن على سبيل العداء؛ إذ كانت تبدو منه أحياناً كلمات مقذعة في المتشيعين.

هذا ما جاء في نفسي بادئ الرأي. . إلا إن رواية شديدة الشبه بالنص السابق - في تاريخ الخطيب - قد أراحتني من الشك الطويل، وجعلتني من تغيير حكمي بسبيل، لألتمس الواقعة أي تعليل. يقول أبو العيناء نفسه في هذه الرواية الجديدة: (دعا المنصور جدي خلاداً - وكان مولاه - فقال له: أريدك لأمر قد همني وقد اخترتك له، وأنت عندي كما قال أبو ذؤيب الهلالي:

الكنى إليها وخبر الرسو - ل أعلمهم بنواحي الخير

فقال: أرجو أن أبلغ رضا أمير المؤمنين.

فقال: سر إلى المدينة على أنك من شيعة عبد الله بن حسن، وأبذل له الأموال واكتب إلي بأنفاسه وأخبار ولده. فأرضاه. ثم علم عبد الله حسن أنه أتى من قبله، فدعا عليه وعلى نسله بالعمى. قال أبو العيناء: فنحن نتوارث ذلك إلى الساعة).

فقد اتفقت هاتان الروايتان في تعليل عمي أبي العيناء، بدعاء مستجاب شق حجب السماء، وإن اختلفتا في شخص الداعي أهو علي بن أبي طالب أم عبد الله بن حسن؟ وفي شخص المدعو عليه أهو جد أبي العيناء الأكبر أم جده القريب خلاد؟

ونحن إذا سلمنا بأصل الفكرة المنتزعة من الروايتين نعود من جديد أمام أمرين: إما التصديق بهذه الواقعة - عمى أبي العيناء استجابة للدعاء - على أنها مصادفة تلاقت مع الواقع، وما أكثر ما يتلاقيان وإما اتهام هذا الظريف نفسه باختلاق القصة من أساسها وإذاعتها بين الراغبين في سماع أخباره العجيبة، ونوادره المبتكرة، فرواها هو بلفظ ورواه السامعون بلفظ آخر، وتداولتها الألسن لتكون دليلاً صريحاً على تمكن ملكة الكذب من نفسه، وسيطرتها على لسانه، فإني - كما سترى من قريب - ما عرفت لساناً أحب إليه الكذب من لسانه، ولا نفساً أرضى بما تختلق من نفسه!

ص: 17

وقد ترى غير ما رأيت، فتفرض أمراً ثالثاً وهو أن الرواية الأولى موضوعة، وأن الثانية على أبي العيناء مدسوسة. لولا أنك بهذا الغرض نتهم ياقوتاً الحموي بوضع ما لا غرض له في وضعه، ثم ترى الخطيب البغدادي بقلة تحريه وضبطه، مع أنه الحافظ المشهور الذي أجمع علماء الحديث ورجال الجرح والتعديل على قبول آثاره، ورواية أخباره.

وكيفما عللنا سبب عمى أبي العيناء، سنوافق على حوله قبل عماه، وسنؤيد المبرد في روايته عنه (أنه إذا صار أعمى بعد أن نيف على الأربعين وخرج من البصرة واعتلت عيناه فرمى فيهما بما رمى. ثم يستدل المبرد على ذلك بقوله: والدليل على ذلك قول أبي علي البصير.

قد كنت خفت يد الزما - ن عليك إذ ذهب البصر

ولم أدر أنك بالعمى

تغنى ويفتر البشر!

والخطيب في تاريخه روى هذين البيتين بضمير المتكلم لجمع (كنا نخاف من الزمان. . الخ البيت الأول. لم ندر أنك الخ البيت الثاني) ونسبهما إلى أحمد بن أبي طاهر وهما - على كل حال - علامة تستأنس بها في ان عمى أبي العيناء كان طارئاً في كبره، ولم يكن في الولادة ولا في صغره. ويؤيد هذا محاورة ابن أبي دؤاد لأبي العيناء يوم سأله:(ما أشد ما أصابك في ذهاب بصرك؟ قال خلتان، يبدؤني قومي بالسلام، وكنت أحب أن أبتدئهم، وإني بما حدثت للعرض عني وكنت أحب أن أعرف ذلك فأقطع عنه حديثي! قال أين أبي دؤاد: أما من أبتدأك بالسلام فقد كافأته بحسن النية؛ وأما من أعرض عن حديثك فما أكسب نفسه من سوء الأدب أكثر مما وصل إليك من سوء اجتماعه!)

ويزيدني اطمئناناً بصحة ما ذهبت إليه أن ليس لدينا دليل واحد على أن أبا العيناء عمى قبل الأربعين - فضلاً عن أنه ولد أعمى. والخطيب وابن حجر - وإن كانا قد أوردا خبر عمله بصيغة التمريض - إلا إنهما لم يحددا زمناً لعماه قبل هذه السن ولا بعدها. ثم إنه ليس ضرورياً أن تفهم من عبارة أبي العيناء في رواية الخطيب (نحن نتوارث ذلك - أي المعنى - إلى الساعة) أن كل من تناسل من هذه الأسرة يقضي عليه قانون هذه الوراثة بأن يولد أعمى، فإن الوراثة - كما يصح أن تكون مباشرة - يمكن أن تفعل فعلها بعد زمن يطول أو يقصر: فلنا إذا أن نطمئن إلى رواية المبرد - في هذا الموضوع - ثم لنا أن

ص: 18

نحكم بحول أبي العيناء قبل عماه من الروايات الكثيرة المتفاقرة التي نذكر منها على سبيل المثال محاورة لطيفة دارت بين أبي العيناء ومحمد بن خلف بن المرزبان.

قال أولهما للثاني: (أتعرف في شواء المحدثين رشيداً الرياحي قال محمد بن خلف: لا. قال أبو العيناء: بل هو القائل في:

نسبت لابن قاسم مأثرات

فهو للخير صاحب وقرين

أحول العين والخلائق زين

لا احولال بها ولا تلوين

ليس للمرء شائناً حول العيـ - ن إذا كان فعله لا يشين

فقال أبن خلف: وكنت قبل العمة أحول! أفمن السقم إلى البلى؟ فقال أبو العيناء: هذا أظرف خبر تعرج فيه الملائكة إلى السماء اليوم. ثم قال: أيما أصلح؟ من السقم إلى البلى أو حال العجوز - أصلحها الله - من القيادة إلى الزنا؟)

هذه رواية معجم الأدباء وشبيهة بها - مع اختلاف في اللفظ يسير - رواية تاريخ بغداد (ص 175 ج3)

والمحاورة فيها إذا ختمت بالدعاية، فقد بدئت بأقوى مظاهر الجد؛ لأن الفخر كان وما يزال حديث النفس. وحديث النفس كان وما يزال مستمداً من أعماق الشعور، والشعور كان وما يزال حاسة الواقع: فليس بغريب أن يستمد فخور بنفسه كأبي العيناء من واقعه ومن نظرة الناس إلى واقعه مدعاة إلى الاعتزاز والتعالي ما استطاع إلى ذلك سبيلا.

وهنا تبرز جوانب خاصة من شخصية هذا الظريف تبعثنا على أن نؤكد لك أنك ستبحث في طوايا الأدب العربي طويلاً حتى تجد ظريفاً كأبي العيناء يحسن الهزل في جده كما يحسن الجد في هزله، فيمزج بينهما مزجاً يحيرك، ثم لا تدري: أتلتمس من بين غصون شعره أو نثره حقيقة ترضيك، أم خيالاً يلهيك!

فهو مثلاً يريد أن يتغاضى عن حوله بعد إلى تناسي عيبه، ويمعن في اظهارك على بعض ما أورثته الحول من الخيرات، وما حمل إليه من البركات، وما أنقذه من المآزق المحرجات، ويثني على الله هذا الثناء الذي قلما نسمع بمثله ولا من مثله:

حمدت إلهي إذ بلاني بحبها

على حولي يغني عن النظر الشرر

نظرت إليها والرقيب يظنني

نظرت إليه فاسترحت من العذر!

ص: 19

هذه صورة من هزله في جده، لكن أسلوبه حين دافع عن عماه بعد أن لأخذ الله نور عينيه يختلف من بعض الوجوه عن أسلوبه ههنا، فإنه هناك أدنى ميلاً إلى الجد الذي يتجلى في فخره بنفسه، وفي اعتزازه بلطف سمعه وإرهاف حسه، وفي إعجابه بسلامة لسانه وقوة بيانه، وذكاء قلبه ورجاحة لبه، وصرامته في حماية ذاته من لهو العابثين:

إن يأخذ الله من عينيّ نورهما

ففي لساني وسمعي منهما نور!

قلب ذكي، وعقل غير ذي خطل

وفي فمي صارم كالسيف مأثور!

وقد يكون هذا الفخر بأدب كل من يشعر بنقصه من شيء ما! فإذا هو يتلمس الأسباب إلى ستر معايبه بمحاسنه. فيتجاهل الحقيقة المرة ويتفاخر بما عوضه الله من خير. . إلا أن أبا العيناء لا يكتفي بهذا، فلعله لديه ظاهر التصنع، بادي التكلف، وإنما يريد ان يجلو لك نفسه على حقيقتها كما يزعم ثم يشعرك بقيمة تلك الحقيقة، لتقتنع بقوة شخصيته، وهذا ضرب من جده في هزله.

(يتبع)

صبحي إبراهيم الصالح

ص: 20

‌ألغام الدكتور ماغنس

للأستاذ نجاتي صدقي

كان سكان حي وادي الحوز في القدس مستسلمين إلى نوم عميق بعد يوم من العمل الشاق غي سبيل المعاش، وكانت الساعة تشير وقتئذ إلى الثانية بعد منتصف الليل. فإذا وقفت في غرفتي في تلك الساعة وتطلعت من نافذتها الشرقية مخترقاً بنظرك ظلام الليل الحالك، ارتسم أمامك جبل الزيتون، وقد قامت عليه أشباح عمارات الجامعة العبرية، ومستشفى همداسا، وهي تغتسل بالفحم السائل. . .

ثم إذا ألقيت بنظرك هناك قسماً من بيوت قرية الطور وهي أيضاً تغط في نوم عميق هادئ، ولكنها آثرت أن تبقى لعض الأضواء هنا وهناك تحسباً للمفاجئات، وكم تحمل هذه المفاجئات في طياتها من جرائم مشبعة بالخسة والنذالة. وكنت أنا ساعتئذ في جملة الناس المستغرقين في نومهم، أودع يوماً واستقبل يوماً آتياً، وإذا بي استيقظ فجاءة على أزيز الرصاص ينطلق من جميع الأسلحة الآلية، من (بون) و (ستن) و (طومسون) وبنادق إنكليزية وكندية وفرنسية وألمانية، يتخللها انفجارات مروعة تهتز لها أركان البيوت، تمتزج مع أصوات نساء ورجال وصفارات، فيتجاوب صداها في الوادي الممتد من محلة الشيخ جراح حتى ضريح العذراء مريم فتخيلت نفسي في مدريد سنة 1937!. . .

كان المهاجمون جماعات من منظمة (الهاجانا) اليهود المرابطين في الجامعة العبرية وهم خليط من التلامذة والعمال، وبينهم عدد من الفتيات. . وقد اقتحموا أطراف الحي من ناحية الجبل مفتنمين فرصة خلو هذه الناحية من الحرس الوطني تقريباً، لأن السكان كانوا يعتقدون بأن الجامعة العبرية هي معهد علم وتربية وثقافة، ويستحيل أن تصدر منها طلقة واحدة.

ومما يدل على قوة اعتقاد العرب هذا، حوار جرى بيني وبين صاحب حانوت من أهل الحي، وهو رجل أمي، سليم الطوية، قلت له: أتظن أن الجامعة العبرية ستكون مصدر خطر على وادي الحوز والأحياء العربية المجاورة؟

فقال: كلا يا أبا سعيد، هذه دار علم، ونحن لا نخشاها، كما أننا لا نعتدي عليها. . . وهي على الجملة في حمى قوانين العالم!

ص: 21

وحدث أيضاً أن اعتقل الحرس الوطني صحفياً يهودياً أمريكياً واقتاده إلى مقر قيادة مدينة القدس، حيث أخذوا يحققون معه فقال في دفاعه: إنني من أنصار الدكتور ماغنس عميد الجامعة العبرية. . . وحزبنا يريد سلماً مع العرب. فأفرجوا عنه مصحوباً بحرص ليوصله إلى الأحياء اليهودية.

وبلغ مسمعي حوالي الساعة الثالثة بعد منتصف الليل أصوات آتية من وسط الوادي تقول بالعبرية: مهير. مهير. كاديما!

وأعقب تلك النداءات انفجار هائل شعرت منه أن دارنا قد تزحزحت عن مكانها، ثم استمر تبادل إطلاق النار حامياً، وكانت تصدر عن الأسلحة السريعة الطلقات أنغام غريبة تشبه الخبط على الأبواب، أو النقر على الزجاج، أو الضرب على طبلة السحر. . . ثم تنفجر أنغام الدكتور ماغنس وكأنها قرع طبول تشترك في هذا العزف الآثم.

وحين بلغت المعركة الليلة أوجها اقترب أحد المعتدين من كوخ منعزل، تركه صاحبه ليساهم في الدفاع عن الحي، ولم يبق فيه سوى زوجة وستة أطفال. . . ولما سمعت المرأة حركة عند كوخها ظنت أن زوجها عاد ليتفقد أسرته، فصرخت قائلة: من بالباب؟. . . فأجابها المعتدي: يهوديم، ثم سألها: أين زوجك؟

قالت: خرج، ولا أدري إلى أين، وليس في البيت سواي وأطفالي. . .

لعل القارئ يتصور أن المعتدي ابتعد عن الكوخ وسكانه الأبرياء الآمنين، غير أن الواقع كان على العكس من ذلك، فإنه وضع لغماً عند باب الكوخ، وأشعل فتيله، وأطلق ساقيه للريح، ملبياً صوت قائده الذي يقول له من بعيد: بوهينا اتسخاق. . . مهبرا!. . . وبعد لحظات انفجر اللغم، وقتلت المرأة مع أربعة من أطفالها، واستحال الكوخ إلى رماد.

أما الدكتور ماغنس فهو عميد الجامعة العبرية بالقدس، في حدود الخامسة والخمسين، أمريكي الجنسية، مديد القامة، نحيف الجسم، غائر العينين، ذاهل النظرات، وصاحب مائة مشروع ومشروع من أجل التقارب بين العرب واليهود.

واستمرت المعركة حتى السادسة صباحاً، فتطلعت إلى جهة الجامعة فرأيت أحد المعتدين يقذف النار من مدفع (برن)، وقد نصبه في صومعة الدكتور ماغنس، وتقع هذه الصومعة فوق سطح غرع الإنسانية التابع لكلية الآداب!. . .

ص: 22

وحوالي السابعة صباحاً هدأت المعركة، وهرع السكان إلى حيث الكوخ المنسوف، والأشلاء المبعثرة، وكان بود المعتدين أن يغتنموا هذه الفترة الملائمة، ويمطروا الحشد بوابل من الرصاص، لو لم تتدخل السماء ستاراً كثيفاً من الضباب على الجامعة العبرية لمدة نصف ساعة من الزمن.

ثم انقشع الضباب. . . وانتشر الضياء. . . وعرف العرب أمراً جديداً، هو أن في وسع العلم والجريمة أن يعيشا في الجامعة العبرية تحت سقف واحد!. . .

نجاتي صدفي

ص: 23

‌الحياة التناسلية

والتحليل النفساني

للدكتور فضل أبو بكر

مما يؤسف له حقاً أننا قلما نعالج مثل هذه الموضوعات في بلاد الشرق، وإذا تعرضنا لها في بعض الأحيان نمر عليها مراً سريعاً خاطفاً وبكثير من التحفظ. كذلك نشرح هذه الحياة للشبان والشابات في سن المراهقة وما قبلها بنفس ذلك التحفظ متحاشين ما استطعنا الخوض في الحياة التناسلية من حيث التكوين التشريحي والوظائف الفسيولوجية لتلك الأعضاء وما ينتاب تلك الحياة من أمراض جسمانية هي الأمراض التناسلية، ومسخ نفساني هو الشذوذ التناسلي وما يترتب على كل هذه الطوارئ من أضرار، وما عسى أن يتخذ من الحيطة والتدابير لاتقاء شر هذه الأمراض بمختلف أنواعها كما أن هذه التبعة تقع على كاهل الوالدين والمعلمين.

هذا التقصير ناشئ من اعتبارنا - خطأ - أن مثل هذه الحياة سرية، ومن هنا انطلقنا وما زلنا نطلق على الأمراض التي تنتابها في معظم الأحيان بالأمراض السرية، وفي قليل من الأحيان بالأمراض التناسلية، مع أن التسمية الأولى هي تسمية خاطئة ومضرة في الوقت نفسه. وما زال بعض الناس يقدسون سرية هذه الأمراض ويرفعونها إلى مستوى (سر المهنة) وينكرونها نكراناً باتاً على الطبيب المداوي نفسه ويضللونه تضليلاً يعقد الأمر ويزيد في إشكاله من حيث تشخيص المرض. وقد تحاوره وتحتال عليه بشتى الحيل ليبوح لك بالسر الرهيب وتفهمه بأن سر المهنة يقضي عليك بالا تبوح بشيء مما يدل به المريض في مثل هذه الأحوال حتى إلى أقرب الناس إليك أو أقربهم إليه؛ كما أنه في حالة الإفشاء يمكنه مقاضاتك والاقتصاص منك بواسطة القانون. وقد تلين قناته ويأنس إليك فيقص عليك حقيقة الأمر في بعض الأحيان كما يستمر في نكرانه وتضليله. غير أنه من حسن الحظ أن مضاعفات المرض نفسه، وما نتركه من آثار باقية، والنتائج التحليلية للفحص، كل ذلك كفيل بفضيحة الأمر وإفشاء السر في معظم الأحيان.

إن سبب هذا النكران يرجع إلى عدة عوامل منها (الحياء)، والحياء من الإيمان كما يقول الحديث وهو ركن حصين ودعامة قوية من دعائم الأخلاق بلا شك؛ غير أنه في مثل هذه

ص: 24

المناسبات يكون الحياء مستعملاً في غير موضعه، أو استعمل استعمالاً خاطئاً للأسباب التي سبق ذكرها. ومنها أيضاً عادة (احترام النفس) وهو شعور طبيعي في الإنسان ويجب تشجيعه وتنميته في كل نفس؛ غير أن من المعقول أن يفقد المريض قيمته أو ينحط قدره في نظر الطبيب إذا عرف أن مريضه مصاب بمرض تناسلي؛ حتى ولا في نظر المجتمع - إذا أنصف المجتمع - لانتشار هذه الأمراض. ومن ضمن هذه الأمراض ما يسمونه (بمرض الأبرياء) وخاصة مرض الزهري؛ فقد يصاب به الإنسان أحياناً من طريق غير الطريق التناسلي أو المخالطة الجنسية كما يشاهد ذلك في أكثر من مرة. كما قد يكون سبب التكتم من ناحية المريض هو عدم ثقته بالطبيب، واتهام مقدرته على كتمان السر، وأن في إذاعة هذا السر مشاكل عائلية ومضار تسبب للمريض - وهذه أيضاً حجة واهية ووهم لا محل له إلا في ذهن المريض؛ إذ أنه ما من طبيب يحترم مهنته ويقدر مسئوليته تسول له نفسه إفشاء مثل هذه الأسرار. ثم أنمه من غير المعقول أن يلجأ المريض إلى طبيب لا يثق به؛ إذ فقدان مثل هذه الثقة قد يكون مصحوباً بالشك في العلاج نفسه وفي مقدرة الطبيب. ومن هنا ينتج فقد الإيمان والاعتقاد وما يترتب على ذلك من (إيحاء) - هذا الإيحاء هو عنصر نفساني هام يساعد على الشفاء ويزيد في مناعة الجسم وحيويته في نضاله ضد الأمراض. كذلك جهل المريض بما سوف يترتب عليه من عواقب وخيمة وأضرار لنفسه أو لمن يعيشون حوله؛ كما أن هنالك خصلة مكروهة وعادة ذميمة هي عادة الكذب الذي يلجأ إليه الكثيرون من غير ما حاجة ماسة كما قد أصبح للبعض لزم لهم من الخبز اليومي.

لا نقصد مما سبق ذكره أن المريض بهذه الأمراض التناسلية يحتم عليه إذاعتها في المجالس والمنتديات أو على صفحات الصحف أو يتخذ منها مادة للسعر والتندر؛ لا نقصد إلى شيء من ذلك بل نقول بالعكس من ذلك بضرورة التستر - (وإذا بليتم فاستتروا) كما تقول الحكمة. ولكن الذي نريده وننتظره من المريض هو عدم مراوغة طبيبه وتضليله كما نطالبه باتخاذ ما يلزم من الاحتياط حتى يحول دون انتشار العدوى لغيره من الناس.

إن مشكلة الحياة التناسلية ولا سيما تحليلها من الوجهة النفسانية مشكلة عويصة معقدة. وقد شغل هذا الموضوع الحيوي حيزاً كبيراً من كبار أطباء الأمراض بالحياة العصبية والتناسلية وتأثر كل منهما بالأمر ومن أهم من عنوا بالتحليل النفساني هو العالم النمسوي

ص: 25

المعروف (فرويد) الذي كان أستاذاً في جامعة فيينا والذي يعد أكبر مرجع لهذا النوع من التحليل، كما أنه أمتاز بعمق التفكير والتأويلات البعيدة المنطقية، وبالشجاعة في إبداء آراء جريئة. وقد عانى من ذلك كثيراً ورماه البعض بالمغالاة، كما أن هنالك اعتبارات أخرى من سياسية وعنصرية، إذ كان من أصل يهودي. كل ذلك سبب له مشاكل ومتاعب، وشغر بالاضطهاد أخيراً مما أجبره على مغادرة النمسا والالتجاء إلى إنجلترا كما لجأ إليها ابن عم له من قبل هو (كارل ماركس) إذ طرد من ألمانيا لأسباب مشابهة.

تظهر الغريزة الجنسية عند الطفل في طور مبكر جداً كما يقول العالم المجري (لندنر) يقول هذا العالم أن عوارض الغريزة الجنسية ترجع إلى عهد الرضاعة؛ فهو يرى في الرضاعة عملية حيوية بالنسبة إلى الطفل، إذ تدر عليه اللبن اللازم لقوته، والذي لا تكون حياة من دونه، وتهديه إلى البحث عن هذا اللبن غريزة حب النفس وتنازع البقاء. غير أن (لندنر) و (فرويد) يقولان إن الطفل يشعر أثناء وقت الرضاعة بشعور خفي ولذة ظاهرة هي إشباع الغريزة التناسلية واللذة التي تنتج من إجابة هذه الغريزة؛ فتراه بعد أن يأخذ كفايته من اللبن لا يلذ له النوم إلا وهو ممسك بفمه ثدي أمه في نشوة ظاهرة وشعور بالطمأنينة؛ حتى إذا نما الطفل قليلاً نجده يبحث عن عضو آخر مثل إبهام يده أو غيره من أجزاء الأعضاء ليمصه واجداً في ذلك لذة كبيرة هي - حسب ما تقدم - لذة جنسية. لذلك أطلق على منطقة الفم والشفتين (بالمنطقة الجنسية) كما ذهب فرويد إلى أبعد من ذلك بقوله أن هنالك منطقة جنسية ثانية توجد في الدبر وهو يرى في عملية التبرز عند الطفل لذة تناسلية كما يقول فرويد إن هذه اللذة ما زالت آثارها كامنة عند الكبار بقوله أن الشعور الخفي بالراحة والرضى بعد أداء عملية التبرز ولا سيما بعد الإمساك الذي ينتج عنه تصلب في المواد البرازية. هذا الشعور من المعقول جداً أن يكون سببه خلاص الجسم من مواد غير مرغوب فيها كما أن هذا الشعور لا يأتي فقط من الأسباب المذكورة؛ ولكنه يكون مصحوباً في الوقت نفسه بشعور داخلي حتى منشؤه إشباع نوع من الغريزة الجنسية وما يصحب ذلك من لذة وراحة.

ذكرنا في المثالين السابقين بدأ الحياة التناسلية عند الطفل ولكنه بدأ شاذ، فالحياة التناسلية تبدأ بالشذوذ ولما يبلغ الطفل الثالثة من عمره، يبدأ اهتمامه بتكوينه التناسلي ويسترعى

ص: 26

فضوله وجود الأعضاء التناسلية في جسمه وأن كان يجهل ماهيتها وما خلقت من أجله؛ غير أن الطفل من غير شك يبدأ بمداعبة أعضائه التناسلية فيحدث عنده لذة جنسية.

ويعتبر هذا مثل ثالث آخر للشذوذ التناسلي نسميه شذوذاً تناسلياً لأن الحياة التناسلية الطبيعية السليمة الطبيعية هي البحث عن مثل هذه الملاذ الجنسية عند جنس مضاد - ذكر وأنثى - بالاختلاط الجنسي. وقد يكثر الطفل من مداعبة تلك الأعضاء بعد أن يشعر بنوع من اللذة فيستدعي ذلك اهتمام والديه فيمنعونه عن عمله الشاذ بشتى الطرق من ترهيب وترغيب؛ غير أن المنع لا يميت في نفسه ذلك الشعور وربما يزيده ويزكيه فيشعر بشيء من الغبن وبسبب له هذا المنع مركباً نفسياً ضمن المركبات النفسية الكثيرة وهو ما يسميه فرويد (بمركبات الخصيان) وهو الشعور بالغبن لدى الخصيان الذين حرموا ملاذ الحياة التناسلية.

هذا ويؤكد فرويد أن أول ما يبدأ الطفل حياته التناسلية العادية إنما يبدأها بالشعور الجنسي نحو أمه. وهذا الشعور شاذ فيما يتعلق بالعرف والمجتمع ولكنه طبيعي فيما يتعلق بالغرائز الجنسية بكونه شعوراً نحو جنس مضاد لجنسه كمل توجد مثل هذه الغريزة في الطفلة بالنسبة لأبيها، وهو شعور أشبه بالجذب والتنافر بين الأقطاب في عالم الكهرباء والمغناطيس.

لا يمكن لأحد أن ينكر الشعور الطبيعي للأطفال نحو والديهما وما فيه من حب طاهر بريء؛ ولكن براءة هذا الحب لا تنافي وجود الغرائز وسلطانها. وقد نسمع بعض الأحيان أن الطفلة تريد الزواج من أبيها، والطفل يرغب أمه؛ كل ذلك في سن مبكرة بين الثالثة والرابعة مثلاً، فيثير ذلك تسلية للوالدين وعطفاً على الأطفال لهذه السذاجة البريئة. وقد وصف هذه الظاهرة فرويد وسماها (مركب أوديب) وأديب هذا كما تقول الأسطورة الإغريقية كان ملكاً ظالماً جباراً؛ وقد أنبئ بأنه سوف يقتل أباه ويتزوج أمه وذلك من حيث لا يعلم. ولما كان قد فارق أبويه في سن مبكرة وانقطعت كل الصلات بينه وبينهم فإنهما لا يدريان على أمره شيئاً. وفي ذات مرة أحد أفراد حاشيته بوجود امرأة جميلة في مكان ما؛ فأمر في الحال بإحضارها وتزوج منها. ولم يمض إلا وقت قصير حتى تبين له بأن المقتول لم يكن غير والده وأن الزوجة لم تكن غير أمه.

ص: 27

وهكذا حلت به الكارثة وصدقت النبوءة فحزن أوديب حزناً شديداً وعاقب نفسه على ذلك بأن فقأ عينيه الاثنتين. وقد اتخذ الأدباء والشعراء من مأساة أوديب مادة خصبة دسمة مثل (سوفوكليز) و (إبوردبديز) وغيرهما من شعراء الإغريق.

أما الحياة التناسلية السليمة (والمنتجة) فهي تبدأ بعد البلوغ إذ يكتمل تكوين هذه الأعضاء تشريحياً وتتهيأ لأداء رسالتها فسيولوجياً بالتلقيح الذي ينتج النسل.

وقد يطرأ انحراف الحياة التناسلية فيطبعها بطابع المسخ والشذوذ وهذا المسخ قد يكون مخففاً أو كامناً حتى لدى من يتمتعون بحياة تناسلية طبيعية. وقد تستحكم حلقات هذا الشذوذ ويظهر جلياً عند ضعفاء العقول والمصابين بالانحلال الذهني تساعد على ذلك الوراثة المثقلة مما يجنيه الآباء على الأبناء، وكما أن هذا الشذوذ قد يؤدي إلى أمراض عقلية واختلال في التوازن الذهني الذي بدوره يساعد على تكون هذا الشذوذ؛ وهكذا كل منهما يساعد على حدوث الآخر في شبه (دائرة خبيثة).

غير أن هذا الشذوذ - من سوء الحظ - ليس محصوراً في ضعاف العقول ولكن قد يصاب به بعض المفكرين والشعراء وغيرهم ممن يتمتعون بحياة اجتماعية كبيرة عالية؛ ولكنك إذا درست حياة أولئك الكبراء والمفكرين وراقبتها عن كثب وجدت أن ذلك الشذوذ قد يعدو تلك الناحية التناسلية ويسري إلى حياتهم الخاصة والعامة. وقد تصدر منهم أحياناً بعض التصرفات الشاذة بل الجنونية ولست أجد أصدق من المثل القائل (الجنون فنون) وهي فعلاً فنون متنوعة الأشكال والألوان.

والشذوذ التناسلي على أنواع كثيرة منها يسمى - ويشمل الذكور والإناث أي العلاقة الجنسية بين فردين من نوع واحد - أي بين رجل ورجل وامرأة وامرأة ومنها ما نسميه بالعادة السرية (جلد عميرة)

ولنكتفي الآن بهذا القدر خوفاً من الملل ورفقاً (بحياء) بعض القراء وإن كان لا حياء في العلم كما لا حياء في الدين.

(باريس)

فضل أبو بكر

ص: 28

‌من العصور الوسطى إلى الأزمنة الحديثة:

1 -

الوطنية الجديدة

للأستاذ محمد محمد علي

في عام 1909 لفت اثنان من حكام المستعمرات الأوربية أحدهما إنجليزي في الهند البريطانية، والآخر روسي في التركستان، لفتا النظر إلى المتغير الذي بدأ يحدث في اليقظة الاجتماعية والثقافية لسكان المستعمرات. فقال اللورد رونالد شاي: (هناك مشكلات آخذة في الظهور، لها أثر بعيد بالنسبة للعالم عامة، ولبريطانيا خاصة، تحفز على التفكير والدراسة، أعضاء جنسيتنا، وإني أشير إلى تلك المشكلات الممثلة في الرغبة الزائدة لتأكيد الذات، التي تثير أعصاب الشرقيين. وفي الواقع أن احتكاك الفكر العربي بأفكار الشرقيين، قد أحدث تأثيراً كبيراً في جميع سكان الشرق.

وفي نفس العام، كتب الحاكم الروسي العام للتركستان:(إن الحروب قد حركت العالم الإسلامي في الفترة الحالية، فقد ظهرت أولاً فكرة الجامعة الإسلامية ثم المطامع الوطنية المتزايدة والأفكار الثورية، كل هذا حرك الجماهير الإسلامية، وأيقظ في أوساطهم فكرة الوحدة الوطنية، والأفكار الاشتراكية)

ومنذ عشرين سنة كافحت الهند من أجل الاستقلال، الذي لفت أنظار بريطانيا والعالم. وفي التركستان، حلت الجمهوريات الوطنية الاشتراكية محل الولايات الروسية التي كانت تحت سيطرة الحاكم العام. وقد عرف تفوق أوربا في ميدان العلوم الهندسية والتنظيم الفني. وبدا الناس يعرفون بالتدريج أن أوربا يمكن أن تقهر بأسلحتها، فساروا على نهج حركات التحرير الوطنية التي قامت في أوربا في القرن التاسع عشر. ولما تنبهت في شرق أوربا - أمم لا تاريخ لها - للشعور بذاتها، في القرن التاسع عشر، وحاولت أن تلعب دوراً إيجابياً في التاريخ؛ استيقظ الشرقيين من ظلمات عهود الإقطاع الوسطى، وهبوا إلى غرض واحد في شعار الوطنية ورأسمالية الطبقة الوسطى.

إذن، فالشرق قد وصل إلى عصر فيه الوطنية أعلى وأسمى الأوضاع الاجتماعية، وتفرض طابعها على العنصر.

ومنذ سنوات، كان الدين هو العامل الفعال في الشرق. وليست الوطنية ديناً خارجاً ولكنها

ص: 30

تشق طريقها بجانبه، وغالباً ما تعدل فيه بالتغيير والإصلاح.

إن الوطنية اليوم في تلاؤم مع النظم الاجتماعية الجديدة. وقد ظهر هذا في أوربا بوضوح، عندما كانت هناك حاجة إلى القضاء على الإقطاع، والوطنية المحلية القائمة على أساس الزراعة والأسواق الصغيرة والمدن والوصول إلى الوحدة الكبرى في ظل النظام الرأسمالي.

لقد كانت الوطنية هي الشكل الذي وافق حاجات الرأسمالية الناشئة والطبقة الوسطى الفتية، ولا تزال الوطنية في الشرق تواجه حاجات اجتماعية واقتصادية، سواء نظرنا إلى الموقف من وجهة نظر أوربا اليوم، أو الشرق في الماضي القريب. فنظم الصناعة الرأسمالية تشق طريقها إلى الشرق، ويسير اقتصاد النقد والتصنيع: جانب الزراعة والمبادلة. وهنالك طبقة وسطى فنية آخذة في الظهور، والشعور برسالتها، ومتأهبة للكفاح ضد نبلاء الإقطاع.

وفي الأقطار التي تجري فيها هذه العمليات، وترى أن الحركات الوطنية قد قضت على الانقسامات الدينية بين السكان، كما في مصر وسورية. وإن السياسي المنقطع النظير - ابن السعود بعيد عن روح التطور في رسالته السياسية، ويعقد الشباب العربي في سوريا وفلسطين - حتى المسيحيون - آمالهم على بدوي الصحراء المسلم ابن السعود. وعندما أعلن الأتراك الرابطة الوطنية في 28 يناير سنة 1920 - عن الولايات العربية في الإمبراطورية العثمانية، ومدن الإسلام المقدسة، الذي كان امتلاكها في غاية الأهمية لدولة الخلافة الإسلامية؛ أرسل وفد الخلافة الهندي برئاسة محمد علي إلى نائب الملك في الهند في 19 يناير سنة 1920 وإلى لويد جورج في 19 مارس، يقول إن الخليفة يجب أن يمتد نفوذه إلى المدن المقدسة الثلاث: مكة والمدينة والقدس، وإلا فإن معاهدة السلام لن يقبلها أي مسلم مؤمن.

وقد نقل (خودابكش) كلمات ولسون كاس الأمريكي: (إن شباب الإسلام اليوم مفكر بأسلوب سياسي أكثر منه دينياً، وهو متحمس جداً لنفع أمته أكثر من تحسنه الانتشار الإسلام. وإن عظمة الإسلام ليست مسألة خلافة أو شريعة، بل هي مسألة وحدة سياسية تقف في وجه الغرب).

2 -

الشباب الحديث

ص: 31

بعد الحرب العظمى (الأولى) مباشرة - عندما سادت بين الشرقيين تجربة الوحدة الوطنية، ظهر أن الاختلافات الدينية قد اختفت. فالمسلمون والأقباط في مصر، والمسلمون والمسيحيون في فلسطين وسوريا، والشيعة والسنيون في العراق، والمسلمون والهندوس في الهند؛ كل أولئك حاربوا جنباً إلى جنب من أجل الثورة على أحوالهم السياسية. ولا تزال اليقظة القومية لها وجود اليوم وإنها لعامل في تاريخ هذه الأقطار - التي ما كانت توجد بغيرها. وسوف لا تلعب الاختلافات الدينية دوراً في السياسة في محيط الحضارة العربية المصرية؛ وهذا بالرغم من السياسة الاستعمارية الرجعية وتصعيبها للنمو السياسي واليقظة القومية، وذلك بإدخال أقليات دينية وعنصرية.

إن الشباب المسلم يعمل على ربط نفسه بالتقاليد، فيفصل ما هو ذا قيمة عما لم يعد يتلاءم والوقت الحاضر، وليخلق إسلاماً مجدداً يقبل محاسن الغرب ويغالب الحضارات الأوربية، هؤلاء الشباب ينكرون إرساليات التبشير، ويرون أنفسهم، وقد واجهتهم مشكلات - كان يجهلها آباؤهم، ويقابلهم تغير مريع في أحوال الشرق الفكرية والاجتماعية. لقد دخلت في نفوسهم قوى جديدة وخلقت لأول مرة: حركة شبان مسلمين.

ومنذ قرون لم يكن في الشرق حزازات ولا اختلافات بين الآباء والأبناء. أما الآن فقد حدث تغير في علاقات الأفراد وصلتهم بالحياة والأسرة والطبيعة.

وقد أسر الشباب في الشرق: حب الرياضة والتجول، كما دخلت إلى حياتهم العاطفية مشكلات الحب والزواج. ثم إن تعليم البنات بغير العلاقة بعد الجنسين. وزيادة على ذلك يأمل الشباب - ولما يملكوا القوة بعد - أن يتخلصوا من الماضي ومما وارث من العادات في السياسة الشرقية، مثل الأساليب الرجعية، والحاجة إلى العزيمة الماضية، وانخفاض مستوى المسئولية الاجتماعية، وعدم القدرة على التضحية بالمصالح الشخصية في سبيل الصالح العام والمحسوبية!. وكانت جمعيات الشبان المسلمين مجمع هذه الآمال، إذ حاولت إنشاء مراكز ثقافية واجتماعية لشباب الإسلام. وفي إبريل 1928 - انعقد في يافا مؤتمر لجمعيات الشباب المسلمين مع مائة وعشرين مندوباً عن فلسطين. وقد أجمع المؤتمر على إصدار إعلان عن تأسيس مدارس إسلامية وطنية ودعوة الحكومة إلى فتح مدارس جديدة، وتعديل برامج الدراسة في المدارس الأجنبية بروح وطنية. كما وضع الاجتماع شارة

ص: 32

ونشيد وعلم. ومما يلفت النظر الاحتفال بيوم الجمعة وتخصيصه للعطلة الأسبوعية، وتنظيم دراسات مسائية للعمال، وتشجيع المسرح العربي، وإنشاء جمعيات إسلامية للشابات، غرضها رعاية الطفل والعلاج المجاني للمرضى الفقراء.

هذه القرارات الحازمة لم تعرف في الإسلام، ولا من عهد قريب. وليس من شك في أن هناك تأثيراً بأوربا، ولكن الشباب يجاهد لاستنبات هذه الأفكار في تربة إسلام مجدد.

وليس من يشك أيضاً في أن الجيل الناشئ من المسلمين والمسيحيين أكثر نضوجاً سياسياً من الجيل الماضي، وذلك بفضل تعاليم المدرسة الجديدة والجامعة الأوربية. ولم يقتصر عمل الشباب على وضع المطالب القومية في المقدمة فحسب، بل إنهم تيقظوا للمشكلات الاجتماعية وضرورة إيجاد حلول جديدة.

(يتبع)

محمد محمد علي

ص: 33

‌من شواهد النبوة:

المتنبئون

للأستاذ علي العماري

لم يعد خافياً على من كان له قلب أن الشواهد على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم أسطع من فلق الصبح، ولكن لا بأس أن نسوق هنا شاهداً جديداً مر عليه أكثر الناس مؤرخين، وقد سخروا منه حينا، واستطابوا السمر به في أحيان كثيرة، ولكن ما أظن أحداً منهم - على مبلغ علمي - فطن إلى المعنى الأصيل، أو كشف عن السر الإلهي الذي كمن في دعوى المتنبئين. ولا شك عندي أن التنبؤ كان من الدلائل الواضحة على صدق النبوة، وهل أدل على وجود الشمس من تضاؤل أشعة المصابيح أمامها؟ وما كان هؤلاء المتنبئون إلا كالأعلام المنصوبة على رأس الطريق تدعو الناس إليه، وتزعم أنها ترشدهم إلى المنهج القويم، فمن الناس من سلك ولكنهم لم يبعدوا حتى وجدوا الصخور والأشواك، وما لا قبل لهم به من حشرات الأرض وأفاعيها. وحينئذ استيقظت أحاسيسهم، وأدركوا خطأهم ورجعوا إلى الأعلام فحطموها، ولكن بقيت منها أشلاء تنادي كل سالك بأن الطريق المستقيم ليست من هنا ولكنها من هناك. . . هناك الطريق المستقيم الذي لا عوج فيه ولا أمت، ولا أشواك ولا حشرات. ولقد ظهر المتنبئون في الجزيرة العربية ظهور السراب الخادع، فكان من العرب من وثق ببرهان عينيه، وأيقن أنه السراب، وإنما يخيل له، وأن طريق الماء ليست إليه. ومنهم من انخدع - عن جهل أو عن علم - فسار، ولكن بعد أن حفيت قدماه، ونهكهت أعصابه، ما وجد إلا سراباً يقول له واضحاً صريحاً: إني لست ماء فالتمس الري عند غيري. وكان هذا السراب - لمن سار ولمن لم يسر - شاهداً لا سبيل إلى الشك فيه على أن الماء في غيره. . هكذا كان شأن المتنبئين. .

ومن عجب هذا الأمر في الغرب أنه لم يدعه منهم من كان يظن أن يدعوه، فقد كانت طبيعة الأشياء تقضي بأن يتنبأ رجل كأمية بن أبي الصلت، فإنه هيأ نفسه لتلقي الوحي، فدان بالحنيفية ملة إبراهيم، وقرأ الكتب المقدسة وكره عبادة الأوثان، وأخذ نفسه بالفضائل فحرم الخمر والزنا والميسر، وخالط الأحبار والرهبان، وتزيا بزيهم، وأظهر التأله، وما هي إلا غمضة عين وانتباهتها حتى يجيئه - زعم - الوحي، فلما ظهرت النبوة في قريش،

ص: 34

ونزل الوحي على محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، امتلأت نفسه حقداً وحسداً، وصد عن السبيل، وبالغ في العداء للمسلمين، وقاتلهم مع مشركي مكة، وجعل يرثي من قتل من كفار قريش في بدر، فكان طبيعياً - وقد حرم النبوة - أن يدعيها، فعنده آلاتها - على زعمه - ولكنه لم يفعل، أو يتنبأ رجل كعامر ابن الطفيل فقد كان سيد قومه، وآلى على نفسه ألا ينتهي حتى تتبع العرب عقبه، فما كان له - كما حدث عن نفسه - أن يتبع عقب هذا الفتى من قريش. وقد وفد على النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يضمر الغدر به، وعرض معه أن يجعل الأمر له سنة، ولنفسه سنة، أو يجعل له الوبر ولنفسه المدر، ولكن الرسول أبى، فقال عامر: والله لاملأنها عليك خيلاً جرداً ورجالاً مردا، ولأربطن بكل نخلة فرساً، ولكنه - مع ما كان يحرص عليه من ملك العرب - لم يدع النبوة، وإنما ادعاها قوم لم يكونوا على مقربة منها، ادعاها مسيلمة بن حبيب، وبعض كتب السيرة تحدثنا بأنه لما وفد مع قومه على رسول الله جعلوه في رحالهم ليقوم بشئونها. وادعاها طليحة بن خويلد الأسدي، وادعاها الأسود العنسي، وادعاها لقيط بن مالك الأزدي في عمان. ولم يحدثنا التاريخ عن واحد من هؤلاء قبل ادعائه النبوة بما يمكنأن يكون مؤهلاً فيه لها، عدا ما ذكروا من كهانة طليحة. ثم ادعتها امرأة، ادعتها سجاح بنت الحارث التميمية، فصحقول الشاعر:

لقد هزلت حتى بدا من هزالها

كلاها وحتى سامها كل مفلس

ولم يخف هذا الأمر على أتباعها، فقال أحدهم يسخر منها بعد أن تزوجت مسيلمة.

أمست نبيتنا أنثى نطيف بها

وأصبحت أنبياء الناس ذكرانا

والذي تستطيع أن نقوله في كل هؤلاء (ليس بمتنبئ صادق، ولا بكذاب حاذق) فإن أحداً منهم لم يستطع أن يتقن دوره الذي قام به، وأن يخدع الناس عن دعوته. نعم كان منهم الكهان الذين مرنوا على استهواء العامة، وكان منهم من تعلم الحيل ليموه بها على قومه؛ فقد قال الزمخشري في ربيع الأبرار: قال الجاحظ: كان مسيلمة قبل ادعاء النبوة يدور في الأسواق التي بين دور العرب والعجم يلتمس تعلم الخيل والغير تجات واحتيالات أصحاب الرقي والنجوم. أه. ثم جاء العصر العباسي فكان المتنبئون جماعة من الحمقى، ولم يكن لهم تأثير لا في العامة ولا في الخاصة، وإنما هو الجنون، فإن لم يكن فالحمق لا ريب فيه.

ص: 35

فكيف - أذن - استطاع هؤلاء المتنبئون أن يسخروا أقوامهم في حروب دامية مع جيوش المسلمين! وكيف استطاع مسيلمة - مثلاً - أن يحشد أربعين ألفاً يقاتلون قتالاً لا هوادة فيه ولا رفق، حتى يقول فيهم بطل المسلمين خالد بن الوليد: شهدت عشرين زحفاً فلم أر قوماً أصبر لوقع السيوف ولا أضرب بها ولا أثبت أقداماً من بني حنيفة يوم اليمامة. وحتى يقول فيهم رافع بن خديج: خرجنا ونحن أربعة آلاف، فانتهينا إلى اليمامة فتنتهي إلى قوم هم الذين قال الله فيهم (ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد). ولماذا صبر هؤلاء حتى دوخوا المسلمين، وقتلوا منهم ألفاً وثمانمائة، وضحوا من رجالهم بعشرين ألفاً؟ ليس السر قطعاً لصديقهم بنبوة صاحبهم، فما كانوا يحاربون في سبيل الدين، وقد كانوا - أو على الأقل كثير منهم - على يقين من كذب هذا الإدعاء. على أن هذا لم يكن شأن مسيلمة وقومه وحدهم، وإن كان أكثر المتنبئين إتباعاً - ولذلك سبب نحن ذاكروه متى انتهى بنا الكلام إليه - فقد كان وراء طليحة الأسدي نحو السبعمائة رجل! وقبل أن نجيب عن هذه الأسئلة نحب أن نذكر أن حركة التنبؤ تأخرت كثيراً، ولم تظهر إلا في أخريات حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ومنها ما ظهر بعد وفاته. وقد طال نظري في هذا الأمر، ثم وجدت في مقدمة ابن خلدون ما يصح تعليلاً، قال بعد أن تحدث عن النبوة والكهانة، وانقطاع الكهانة في عهد النبوة (فإنما كان ذلك الانقطاع بين يدي النبوة فقط، ولعلها عادت بعد ذلك إلى ما كانت عليه، وهذا هو الظاهر، لأن هذه المدارك كلها تخمد في زمن النبوة كما تخمد الكواكب والسرج عند وجود الشمس، لأن النبوة هي النور الأعظم الذي يخفي معه كل نور ويذهب) وهذا ولا شك تعليل نفسي جميل، فإن النبوة بقوة سطوعها في النفس تخمد فيها كل حركة توحي بها الشياطين، وتشعر النفوس معها بأنها مضروب عليها من كل نواحيها، فلا تفكر في باطل - من هذا النوع - ولا تأتيه، ولكن هذا التعليل - مع ذلك - ليس كل الحق في موضوعنا، فأني لأرى أن تأخر ظهور المتنبئين كان مرجعه إلى أن العرب تركوا قريشاً تنازل النبي، وتصطدم به، وكانوا هم على هامش المعركة، فلما كان عام الفتح، ودخل الناس في دين الله أفواجاً ورأى الأعراب أن الدعوة المحمدية قد مكن لها بدأوا يفكرون في طريق يعاندون بها هذه النبوة التي ظهرت، وكانت هناك أسباب أدت إلى ظهور حركة التنبؤ في أواخر أيامه صلى الله عليه وسلم.

ص: 36

ثم نعود إلى الإجابة على ما قدمنا من أمثلة فنقول: إن ثلاثة أمور عظيمة هي التي دفعت بهذه العشائر إلى أتون الحرب، ليس منها يقينهم بنبوات أصحابهم، أولها ما جاء به أولئك المتنبئون من وضع كثير من أوامر الدين عن أقوامهم، فقد رووا أن مسيلمة وضع عن قومه الصلاة، وأحل لهم الخمر والزنا. وفي القصة الموضوعة التي تصور لنا ما حدث بينه وبين سجاح التميمية أنه أصدقها بأن وضع عن قومها صلاتين مما جاء به محمد. والرواة يحدثوننا أن بني تميم لا يصلون صلاة الفجر ولا صلاة العشاء الآخرة لأنهما مهر فتاتهم. ويروى عن طليحة أنه كان يقول لقومه: إن الله ما يصنع بتعفير وجوهكم، وتقبيح أدباركم شيئاً، اذكروا الله، واعبدوه قياماً. على أن أهم ما في هذا الأمر أن المتنبئين أعفوا أتباعهم من الزكاة، وهي السبب الأصيل الذي أدى إلى ارتداد العرب بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. وثانيهما تلك العصبية الجامحة التي كانت لا تزال تحتل نفوس العرب، والتي تصورها لنا كلماتهم؛ فقد رووا أن طلحة النمري جاء اليمامة فقال: أين مسيلمة؟ قالوا: مع رسول الله. فقال: لا، حتى أراه، فلما جاءه قال: أنت مسيلمة؟ قال نعم. قال: من يأتيك؟ قال: رحمن. قال في نور أو في ظلمة؟ قال في ظلمة، قال طلحة: أشهد أنك كذاب، وأن محمداً صادق، ولكن كذاب ربيعة أحب إلينا من صادق مضر. ثم بقى مع مسيلمة حتى قتل في موقعة عقرباء (كما في ابن الأثير)، كما روى أن عينة بن حصن لما أتى طليحة، وكان بين غطفان وأسد حلف في الجاهلية قام وقال: إني لمجدد الحلف الذي كان بيننا في القديم ومتابع طليحة، والله لأن نتبع نبياً من الحليفين أحب إلينا من أن نتبع نبياً من قريش. على أن عيينة هذا، لم يدخل الإيمان قلبه - ولعل كل الذين ناصروا المتنبئين من سادات العرب كانوا كذلك - فقد روى أن عيينة لما أسر وطيف به المدينة وهو مكتوف جعل الصبيان يقولون: يا عدو الله! كفرت بعد إيمانك؟ فيقول: والله ما آمنت بالله طرفة عين. وهذه العصبية تفسر لنا تفسيراً واضحاً موقف كل متنبئ من عشيرته، فإن كانت العصبية قوية كثر أتباعه، وإن كانت ضعيفة قل هؤلاء التباع. ومن المشهور في التاريخ أن ربيعة كانت شديدة الحسد للمضريين لما ظهر النبي منهم، حتى قال المأمون (لم تزل ربيعة غضاباً على الله منذ أرسل نبيه من مضر) وهذا يفسر لنا كثرة أتباع مسيلمة، وشدة صبرهم على قتال المسلمين.

ص: 37

(للحديث بقية)

علي العماري

مبعوث الأزهر بالمعهد العلمي بأم درمان

ص: 38

‌الشيوعية في الإسلام

بين رأي لجنة الفتوى ورأي السيد جمال الدين الأفغاني

كتب أحد الكتاب بحثاً تناول فيه رأي العالم الصحابي أبي ذر الغفاري في توزيع المال في الإسلام، وانتهى منه إلى القول بوجود الشيوعية في الإسلام، فأحالت وزارة الداخلية هذا البحث إلى لجنة الفتوى بالأزهر لإبداء الرأي فيه، فأصدرت اللجنة فتوى بهذا الصدد قالت فيها:

(إن من مبادئ الدين الإسلامي احترام الملكية، وأن لكل امرئ أن يتخذ من الوسائل والسبل المشروعة لاكتساب المال وتنميته ما يحبه ويستطيعه، ويتملك بهذه السبل ما يشاء. وقد ذهب جمهور الصحابة وغيرهم من الفقهاء المجتهدين إلى أنه لا يجب في مال الأغنياء إلا ما أوجبه الله من الزكاة والخراج والنفقات الواجبة بسبب الزوجية أو القرابة وما يكون لعوارض مؤقتة وأسباب خاصة كإغاثة ملهوف وإطعام جائع مضطر، وكالكفارات وما يتخذ من العدة للدفاع عن الأوطان وحفظ النظام إذا كان ما في بيت مال المسلمين لا يكفي لهذا ولسائر المصالح العامة المشروعة كما هو مفصل في كتب التفسير وشروح السنة وكتب الفقه الإسلامي).

وبع أن أشارت اللجنة في فتواها إلى ما يكون من تطوع القادرين بالإنفاق في وجوه البر عرضت لمذهب أبي ذر فقالت: (وذهب أبو ذر الغفاري رضي الله عنه إلى أنه يجب على كل شخص أن يدفع ما فضل عن حاجته من مال مجموع عنده في سبيل الله، أي في سبيل البر والخير، وأنه يحرم ادخار ما زاد عن حاجته ونفقة عياله. هذا هو مذهب أبي ذر، ولا يعلم أن أحداً من الصحابة وافقه عليه، ولقد تكفل كثير من علماء المسلمين برد مذهبه، وتصويب ما ذهب إليه جمهور الصحابة والتابعين بما لا مجال للشك معه في أن أبا ذر رضي الله عنه مخطئ في هذا الرأي. والحق أن هذا مذهب غريب من صحابي جليل كأبي ذر، وذلك لبعده عن مبادئ الإسلام وعما هو الحق الظاهر الواضح، ولذلك استنكره الناس في زمنه، واستغربوه منه. . .

ولما كان مذهبه داعياً إلى الإخلال بالنظام والفتنة بين الناس طلب معاوية والي الشام من الخليفة عثمان رضي الله عنه أن يستدعيه إلى المدينة - وكان أبو ذر وقتئذ بالشام -

ص: 39

فاستدعاه الخليفة، فأخذ أبو ذر يقرر مذهبه، ويفتي به ويذيعه بين الناس، فطلب منه عثمان أن يقيم بجهة بعيدة عن الناس، فأقام بالربدة بين مكة والمدينة. . . وبها مات رضي الله عنه في خلافة عثمان. .

ويبدو لي أن اللجنة لم تفرق في فتواها بين الشيوعية والاشتراكية، مع أن بينهما فرقاً كبيراً، وعلى هذا فقد خطأت أبا ذر في رأيه، وما كان أبو ذر شيوعياً، ولا يرى هذا الرأي، ولكنه لا شك كان اشتراكياً، يدعو إلى رد مال المسلمين على المسلمين. وقبل أن أناقش حكم اللجنة هذا أورد فتوى في هذا الشأن المغفور له السيد جمال الدين الأفغاني وهي تخالف فتوى اللجنة تمام المخالفة، فقد سأله أحد الباحثين عن مذهب الاشتراكية (سوسيالست) الذي ينادي به الغربيون فيه علاجاً حاسماً للحالة الاجتماعية القائمة في بلادهم، وهل هذا المذهب مما يقره الإسلام ويرتضيه فقال السيد رضوان الله:(الاشتراكية الغربية ما أحدثها وأوجدها إلا حاسة الانتقام من جور الحكام والأحكام وعوامل الحسد في العمال من أرباب الثراء الذين استعملوا ثروتهم في السفه والسرف، وبذلوها في التبذير والترف، على مرأى من منتجها، والعامل في استخراجها من بطون الأرض. .)

(أما الاشتراكية في الإسلام، فهي ملتحمة مع الدين الإسلامي ملتصقةفي خلق أهله. . وهذا خير كافل لجعلها نافعة مفيدة، ممكن الأخذ بها، لأن الكتاب الديني وهو القرآن الكريم أشار إليها بادلة كثيرة منها: إن المسلم أول ما يقرأ من فاتحة الكتاب: الحمد لله رب العالمين، فيعلم أن للخلق رباً واحداً، وهو مع سائر الخلق من المربوبين على السواء. ويرى ويعلم أن القرآن أتى على ذكر أرباب القوة ورجال الحرب والغزاة ومن يتولى إمرتهم وحياتهم، فخاطبهم آمراً ومعلماً ومدافعاً ومبيناً حقوق المستضعفين من الأمة الذين لم يتمكنوا من الاشتراك مع من ذكر ليكون لهم من ذلك الجهاد وتلك المساعي نصيب إذ قال (واعلموا أن ما غنمتم من شيء فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شيء قدير)، فهذه آية باهرة، أوجبت على من يسعى مجاهداً ومخاطراً بحياته أن يكون مشتركاً فعلاً. . وهم لا شك من المستضعفين الذين إنما قعدوا عن الاشتراك في الجهاد والسعي وراء الغنائم لعل تختلف أشكالها وأنواعها، ولكن الله لم يجز حرمانهم، بل جعل لهم نصيباً

ص: 40

من مساعي أولئك الأشداء الأقوياء المجاهدين الخائضين غمرات الموت.)

(كل ذلك تراه مبنياً على حكمة الاشتراك، ولبث حكم هذه الآية جارياً، وكان الرضاء به شاملاً لمجموع المسلمين، من مجاهد أو قاعد عن الجهاد لعلة، فبدأ بالدرجة الأولى بعد الله ورسوله بذوي القربى من المجاهدين على درجاتهم، ثم عطف على من دونهم في المرتبة الثانية ممن ليس لهم في المجاهدين أقرباء فقال: واليتامى، ثم وسع نطاق الاشتراكية فقال: والمساكين، ثم رأى أن يأخذ نطاقاً أوسع فقال: وابن السبيل، أي عابره. ثم بذلك الشكل نوع من الاشتراكية لم يكن أوسع منه شكلاً ولا أنفع. . .)

ثم جاء بموضع آخر من الكتاب مقرعاً لمن يكنزون الذهب والفضة، ثم حبذ وأثنى على الذين يؤثرون على أنفسهم بالعطاء والإسعاف والإطعام ولو كان بهم خصاصة.

(وهكذا ترى قانون الاشتراكية المعقول في آيات القرآن تترى، فلننظر هل عمل بهذا القانون؟ وما كانت نتائج العمل به؟)

(نعم) إن الإخاء الذي عقده المصطفى صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار لهو أشرف عمل تجلى به قبول الاشتراكية قولا وعملا. فالمهاجر من المسلمين إنما استطاع أن يفر بدينه راضياً بهجر بلده، وترك مسقط رأسه، ومفارقاً أهله وذويه، والخروج من ماله ومقتناه، مسروراً أن يصل إلى دار الهجرة سالماً - والأنصاري، وهو في بلده مع أهله وذويهوماله، قبل راضياً مسروراً أن يشارك أخاه المهاجر بكل معنى الاشتراك. حتى لو تطلع الإنسان منا اليوم، وأشرف على تلك الأرواح الطاهرة لرأى من مجال الاشتراك روحاً وجسداً، ما ينبهر له عقله، ولصح اعتقاده أن عمل الدين وتأثيره في تلطيف الكثافة الجثمانية لا يضارعه مؤثر أو عامل آخر على البشرية، ولرجعوا لو كانوا يعقلون. . .)

(وبعد النبي صلوات الله عليه كان صاحب أكبر منصب وهو الخليفة لرسول الله يسير بيسيرة نبيه من الاكتفاء بالقليل من العيش والكفاف منه، ومجالسة الفقراء وبمشاركتهم بكل معنى الاشتراك في مظاهر الحياة الدنيا ونعيمها. فأهل الإسلام مع تمخض سلطان الحرية فيهم لم يروا في سيرتي الصديق والفاروق رضوان الله عليهما ما يدعوهم إلى أقل تذمر أو تململ، أو تفكير بمناهضة لسلطانهما، أو تألب على أشكال حكمهما وإمرتهما، أو إحداث شغب يعرقل مساعيهما في الفتوحات، بل كانوا يبذلون النفس والنفيس في طاعة الخلفاء

ص: 41

وتأييداً لشوكة الإسلام وتعميماً لعدل الشريعة السمحة. . .)

وبعد أن أورد السيد الأفغاني جملة من الشواهد الدالة على اشتراكية الخليفتين الأولين، وما تجلى من ذلك في سياستهما وتصرفاتهما، عرض لمذهب أبي ذر فشرحه في إفاضة وأشاد به، وسنعرض لذلك في المقال التالي.

(الجاحظ)

ص: 42

‌من ديوان (هناء):

قلب شاعر

للأستاذ عبد القادر رشيد الناصري

(ليت ملهمتي الخالدة (هناء) تصغي لهذا القلب الذي يشدو والكين تقطر دماً)

لي مضنة بين جنبي لا قرار لها

كأنها لجة ما بين أهوائي

هي الفؤاد الذي لولا نوازعه

لكنت أرفل في أبرار نعماء

لا يستقر على حال مرزأة

كالشلو تنتابه أنياب رقطاء

يمسي ويصبح خفاقاً نقلبه

على بساط المآسي أنحل الداء

تجمع الأمل الزاهي بساحته

كما حوى الحب ممزوجاً ببغضاء

فهو الذي حمل الآلام قاتلة

حتى غدا عاجزاً عن حمل سراء

وهو العليل وقد خابت مطالبه

بالطب. . يأمل تحنان الأطباء

وهو المحب وقد ظلت رغائبه

بالحب. . يأمل إحسان الأحباء

يا للجريح لقد حار الأساة به

وارحمتاه لميت بين أحياء

عجبت للشاعر الموهوب ترهقه

حياته ويوافيها بأطراء

ما باله وهو في فجر الشباب يرى

بالرغم من زهوه في زي بكاء

مدله، ذاهل، أسوان متشح

بالهم يدأب في بيداء ضراء

لا تأخذ العين منه عند رؤيته

إلا خيالاً عليه برد غماء

أبقت عليه يد الأيام طابعها

من بعد ما فتكت فيه يد الداء

كأنما الموت فيه قيد أنملة

أو قد يسير إليه سير إبطاء

إن كانت الخيبة الكبرى غنيمته

بعد الطواف وراء المأمل النائي

فليملأ اليأس منه كل جارحة

واليأس داء وترياق لأدواء

ما قيمة الأمل المنشود إن نظرت

عيني الحياة فكانت جد سوداء

يا للجمال لقد حفت فواكهه

بالمغريات وفيها متعة الرائي

هل يحرم الشاعر الموهوب لذتها

وينعم الوغد فيها بعد إقصائي

يا لروعة أجج الحرمان جذوتها

فأحرقت بلقاها كل أعضائي

ص: 43

لا تهدئي فعسى نذكو بشعلتها

ذبالة خمدت ما بين أحشائي

سبع وعشرون ما أبقت على كبدي

إلا غلالة أوجاع وأرزاء

كأنها ويد الأقدار تنسجها

قبر تشيده الدنيا لإيوائي

مرت على سنون العمر كاملة

كأنها ما وعت ترجيع أصدائي

فمن عموم منيخات إلى محن

ومن عناء إلى شكوى وبلواء

كأنني صخرة صماء لا كبد

حرى تعج بآمال وأهواء

أشكو إلى الحب قلباً ظل منفرداً

في وحدة كظلام القبر خرساء

حيران كالبلبل المأسور في قفص

وحوله جنة حفت بآلاء

حران لا أمل يزهو فيسعدني

ولا صباح الهوى بنأي بظلمائي

ولهان والنصب القتال أنهكني

هل من خميلة حسن ذات أقباء

حتام أظمأ والأقداح دائرة

مثل الكواكب ما بين الندماء

هذا الخيال الذي يسري على مهل

للقبر شعلة أفكار وآراء

بغير درب الهدى للناس في زمن

تخبطوا في رجاء خبط عشواء

أجريت قلبي ينبوعاً يلذ به

كل البرية أحبابي وأعدائي

وما رجوت صفاء من نفوسهم

وكيف أرجو صفاء الطين والماء

وقد وهبت لهم روحي وما ملكت

كفي، فلم يذكروا بالحمد آلائي

لئن ظلمتم شبابي في طروادته

فأين يا ظالمي الأفذاذ أخطائي؟

أنا الشعاع الذي يخزي ظلامكم

فليل جهلكم يعنو لأضوائي

إن كان يسعدكم ما تنعمون به

فليس يسعدني عز الأذلاء

أنا الذي تملأ الأيام سيرته

فهل يهدم مجدي كيد حرباء!

لا در در الذي يسعى لغايته

أن لم تكن روحه تصبو لعلياء

(بغداد)

عبد القادر رشيد الناصري

ص: 44

‌الأدب والفن في أسبوع

كذبة إبريل في الجامعة:

نشرت الأهرام أن مناظرة ستجري في كلية الحقوق بجامعة فؤاد الأول وموضوعها (الدستور المصري أدى رسالته ولا يحتاج إلى تعديل) وذكرت أسماء من سيؤيدون الرأي وعلى رأسهم الأستاذ عباس محمود العقاد، ومن سيعارضونه وفي مقدمتهم الأستاذ فكري أباظة. وذهبت في الموعد المحدد مع من ذهبوا، وامتلأ المدرج المعين للمناظرة على سعته بجمهور كبير من طلبة الجامعة والأزهر وغيرهم، وحل الموعد المحدد للبدء، ثم انقضى بعده نحو نصف ساعة، ولم يظهر على المنصة إلا الدكتور مظهر سعيد الأستاذ بكلية الآداب، الذي نظر إلى الحاضرين ونظروا إليه. . . ولم يظهر ما يدل على أن هناك مناظرة. . . فقد كان اليوم أول إبريل! واختلطت أصوات الضحك بصيحات الاستنكار.

وكان موقف الأستاذ حرجاً، ولكنه أخرج نفسه من هذا الموقف بلباقة، إذ نهض وقال: أيها السادة، كلية الحقوق بجامعة فؤاد الأول تحييكم تحية إبريل. . . وقد وقعنا أنا وأنتم في هذا (المقلب) ولكن لا عليكم فسأحدثكم عن (كذبة إبريل) من الوجهة النفسية والتاريخية. وقال الأستاذ: إن كذبة إبريل ظاهرة إنسانية لها اعتبارها، فالناس يشقون طول العام ويعانون ما يعانون في مشاغلهم اليومية، حتى تضيق نفوسهم بالجد المتواصل يحتاجون إلى مناسبات ومواسم يفرجون فيها عن الكرب والهموم، ولا شك أن في بيئاتنا الشرقية كثيرين يضيقون بمداعبات إبريل، على خلاف ما نقابل به البينات الغريبة من المرح والسرور.

وقال: إن التضليل الراجح لكذبة إبريل هو أن السنة كانت تبدأ في التقويم القديم بشهر إبريل، وفي القرن السادس عشر تغير هذا المبدأ، فجعل أول السنة شهر يناير، وانقسم الناس في فرنسا إلى فريقين، فريق المجددين الذين قبلوا هذا التغيير ورحبوا به، وفريق المحافظين الذين لم يعترفوا به وظلوا على اعتبار إبريل أول السنة، يقيمون فيه حفلاتهم. وكان المجدون، على مر السنين، يسخرون من المحافظين حتى بلغت سخريتهم أن كانوا يرسلون إليهم دعوات في إبريل إلى حفلات ومآرب لا حقيقة لها، ومن هنا سار الكذب عادة في هذا الموسم.

ومما قاله الدكتور مظهر أن الفرنسيين يسمون من ينخدع بكذبة إبريل (ضحكة) وفي

ص: 45

إنجلترا يسمى أول إبريل (يوم المغفلين) ولما فرغ الدكتور من كلمته انصرف (السمك) أو كما يقول الإنجليز. . .

التنويه الأدبي

أظن مجمع فؤاد الأول لغة العربية أنه قد ألف لجنة لدراسة الكتب القيمة في الثقافة الأدبية العليا للتنويه بما يراه نافعاً منها، كما نشرت (الرسالة) في البريد الأدبي من العدد الماضي.

وقد كانت النية متجهة - قبل ذلك - إلى تتويج كتاب واحد في العام، عن طريق الإشادة الأدبية. ولكن رأي أن جوائز فؤاد الأول الأدبية تحقق هذا الغرض إلى جانب المكافأة المالية. وبطبيعة الحال لن يتقيد المجمع في هذا التنويه بقيود (الميزانية) لأنه أدبي بحت، ولهذا لن يقتصر على بعض الكتب دون بعض مما يستحق التقدير، بل سيشمل كل ما يراه نافعاً دالاً على جهد وابتكار. وسيكون التنويه في حفلات تقام لهذا الغرض.

ومما يذكر أن الأمر في ذلك غير مقصور على النتاج المصري، بل سيشمل المؤلفات في جميع البلاد العربية، وقد كتب إلى حكومات هذه البلاد وإلى المجامع العلمية بها لتوافي المجمع بأحسن ما لديها من المؤلفات الأدبية.

النحت للضرورة:

كان من قرارات مؤتمر المجمع، في جلسته الأخيرة، جواز النحت عندما تلجئ إليه الضرورة العلمية. وقبل اتخاذ هذا القرار نظر المؤتمر في تقرير لجنة ألفت من بعض الأعضاء لوضع مبحث في النحت، وقد استهلت اللجنة التقرير بقولها (النحت ضرب من الاختصار وهو أخذ كلمة من كلمتين فأكثر. وقد تحثوا على منهاج الأعمال الرباعية في الأفعال والخماسية في الأسماء، فنحتوا من الجملة فقالوا سبحل سبحلة في النحت من سبحان الله وحمدل حمدلة من الحمد لله وبسمل من بسم الله. . . الخ) وبعد أن عرضت جملة من صور النحوتات في العربية وأقوال العلماء في النحت قالت: (المتقدمون على أن النحت سماعي فيوقف عند ما سمع وليس لنا أن ننحت، ولعل هذا لأن النحت اختراع ألفاظ لم تعرفها العرب فلا تدخل في لغتهم؛ وقد نقل عن بعض المتأخرين نسبة القول بقياسيته إلى ابن فارس، قال الحضرمي في حاشيته على أن ابن عقيل: ونقل عن فقه اللغة لأبن

ص: 46

فارس قياسيته، ومثل ذلك نقل عن الشمتي) إلى أن قالت:(ونحن نقول بجواز النحت في العلوم والفنون للحاجة الملحة إلى التعبير عن معانيها بألفاظ عربية موجزة. وهذا نموذج لكلمات منحوتة وضعت لمصطلحات كيمياوية، وهي من وضع لجنة الكيميا والطبيعة في المجمع).

ومن هذه الكلمات:

حلماً (حلل الماء)

شبزلالي (شبه الزلال)

حلكع، ويحلكع، حلكعة. أو حلكل، يحلكل، حلكلة (حلل الكحول) برمائي (تحت من البر والماء)

تربض (نزع الايدروجين)

شبتغراه (شبه غراء)

وجرت مناقشة قال الدكتور طه حسين بك في ختامها: (أحب أن أشير إلى شيء يجب ألا يفوتنا قبل إقرار أي كلمة من النحوت، ذلك أنه يجب أن نستقصي في البحث والدرس عند الحاجة إلى التعبير عن معنى من المعاني، لعل هناك وسيلة من وسائل الاشتقاق أو المجاز أو لعل هنالك كلمة سابقة موضوعة، فيثنى هذا أو ذاك عن النحت، فمثلاً في (شبه الغرائي) قد نصادف في الأفعال العربية أفعالاً تدل على التشابه. فأنا أرى أننا لا نلجأ إلى النحت إلا باعتباره ضرورة) ثم وافق المؤتمر على القرار السابق وهو (جواز النحت عندما تلجئ إليه الضرورة العلمية)

وبعد فهل يستطيع المشتغلون بالكيميا والطبيعة أن يشتغلوا إلى جانب تحليل الكحول بنطق (الحلكحة) وأن يعالجوا، إلى نزع الايدروجين، لفظ (تزجن)؟؟ أو ليس يكفيهم ما يلقون من عناء في النزع والتحليل. . .؟

السينما الثقافية العربية:

شهدت يوم السبت الماضي في القاعة الشرقية بالجامعة الأمريكية - فلمين، اسم أحدهما (التقدم الصناعي في المملكة السعودية) والآخر (الحياة في البحرين) ولقد عرض لنا الفلمان مناظر من هذه البلاد الشقيقة، وعرفانا حقائق في حياتهما يجب أن يعرف مثلها كل قطر

ص: 47

عربي عن شقيقه في هذا العهد الجديد عهد الجامعة والوحدة، ولكني لحظت إلى جانب هذه الحقائق ظواهر القصد إلى الدعاية بإبراز آثار الأمريكان والإنجليز في مرافق البلاد العربية.

وأود بعد ذلك أن أوجه الكلام إلى الإدارة الثقافية بالجامعة العربية، فهي مهتمة بمشروع استخدام السينما الثقافية في بلاد الجامعة، وقد علمت أنها دعت الفنيين في وزارة المعارف والجامعة الشعبية وبعض المنتجين إلى تأليف لجنة لبحث هذا الموضوع وتنظيم العمل فيه من ناحية اختيار أفلام وإنتاج أخرى تحقق للأغراض الثقافية العربية. أريد أن أنبه على أمرين:

1 -

أن يأخذ تعريف البلاد العربية بعضها ببعض، بواسطة الأفلام مكاناً لائقاً في مشروع السينما الثقافية، ولا يخفى ما في ذلك من عوامل التقريب بين الشقيقات، وما فيه من فوائد ليس أقلها وقوف كل عربي على نواحي الحياة في بلاد تمتد فيها رفعة الوطن، على المعنى العربي الشامل.

2 -

الحذر من الأجانب، وخاصة الأمريكيين الذين يهتمون بالدعاية في هذا المجال، ولا بد أن سيتقدم كثير منهم لعرض (خدماته) في هذا المشروع، فينبغي رفض هذه (الخدمات) أو مراقبتها إن كان لابد منها، ولخلص العمل لأغراضه العربية الأصيلة.

متحف ثقافي:

قررت الإدارة الثقافية بجامعة الدول العربية إنشاء متحف يجمع فيه ويعرض الوثائق المتصلة بمعارف البلاد العربية والغرض من هذه المتحف أن يجلو حالة هذه البلاد الثقافية الراهنة في صورة واضحة، ويعين على مقارنة بعضها ببعض مقارنة صحيحة ويجعل من الإدارة الثقافية مركزاً للدراسات والاستعلامات المتصلة بكافة شؤون الثقافة العربية، كما يجعل منها واسطة دعاية مجدية لها.

وقد أرسلت الإدارة بذلك إلى الحكومات العربية، وطلبت إلى كل منها موافاتها بما يأتي:

1 -

الكتب والأنظمة والقوانين والمناهج والتقارير والإحصاءات المطبوعة.

2 -

مجموعة الصور والمخطوطات التي تعطي فكرة واضحة عن المباني المدرسية والحياة العلمية والتعليمية.

ص: 48

إذاعة ما نشر:

كانت الإذاعة، فيما مضى، تقدم بعض الشعراء (ليقرأ من شعره) ولكنها جرت أخيراً على ألا تقدم إلا من يعد شيئاً للإذاعة. وهذا أمر طبيعي، لأن الإذاعة لابد أن يكون لها موضوع خاص، وهو أيضاً يحفز على الإنتاج؛ ولا يصح أن يكافأ على الكسل و (الاجترار).

وقد كتب الأستاذ محمد الأسمر بجريدة (الزمان) يقول: (وما ينشره الأدباء في المجلات أو الدواوين يجب على الإذاعة ألا تحول بينه وبين إذاعته بحجة أنه نشر، فجمهور القارئين قليل جداً بالنسبة للجماهير المستمعة التي لا تقرأ ولا تكتب).

وهل الجماهير التي لا تقرأ ولا تكتب تستمع إلى الشعر والأدب؟ ثم إن المفروض أن الإذاعة تقدم ألواناً من نتاج الحركة الأدبية المتجددة، والشاعر الذي يريد أن يدير (الاسطوانات) من ديوان كان قد أخرجه، ما شأن الإذاعة به؟

وتصور أي مهزلة تكون عندما تدعو الإذاعة عدداً من الأدباء ليتلو كل منهم ما تيسر من آياته. . .

مولد شاعر:

نشرت مجلة (العالم العربي) في عددها الأخير (12) مقالاً بعنوان (مولد شاعر) غير مذيل بتوقيع، ولكن وضع في الفهرس مكان اسم الكاتب:(أبو نؤاس) وهذا المقال، بعينه وجميع أجزاء جسمه، نشر في (الرسالة) للآنسة نعمت فؤاد منذ خمسة أشهر (العدد748 الصادر في 3 نوفمبر سنة 1947)

و (أبو نؤاس) له سرقات أدبية كثيرة أخذه بها النقاد ومؤرخو الأدب، ولكن من كان يظن أنه سيمتد به الزمن ويطول عمره حتى يسرق مقال للآنسة. . أو تراه يسرق حياً وميتاً. . أم ماذا. .؟

مؤتمر الآداب الحديثة:

يجتمع الآن في باريس بجامعة السوربون المؤتمر الدولي لتاريخ الآداب الحديثة، ويدور البحث فيه حول الأدب المصري والتطورات السياسية والاجتماعية.

ويتكون المؤتمر من ممثلي سبع عشرة أمة، وكان قد دعي إلى حضوره الدكتور طه حسين

ص: 49

بك، فاعتذر من عدم استطاعته تلبية هذه الدعوة، لأنه سيمثل مجمع فؤاد الأول للغة العربية في مؤتمر اللغويين ومؤتمر المستشرقين اللذين سيعقدان بباريس في شهر يولية المقبل، ومن المشقة أن يسافر الآن ويعود، ثم يسافر إلى هذين المؤتمرين.

العباسي

ص: 50

‌البريد الأدبي

تخيروا لنطفكم:

في مساء الجمعة 2 من إبريل سنة 1948 احتج عالم كبير في حديثه بالمذياع بخبر (تخيروا لنطفكم فإن العرق دساس) على أنه حديث نبوي.

والمحدث العجلوني يقول في كتابه (كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس) المطبوع بالقاهرة: قال ابن الجوزي: في سنده مجاهيل. وقال الخطيب البغدادي: كل طرقه ضعيفة. وقال أبو حاتم الرازي: ليس له أصل. وفي التحفة والنهاية: صححه الحاكم واعترض. .

وتصحيح الحاكم لا يوثق به، لقول الذهبي فيه: صدوق لكنه يصحح في مستدركه أحاديث ساقطة. ويرى الحافظ ابن حجر أن سبب هذا هو طوره غفلة وتخليط له في آخر عمره أثناء تأليفه المستدرك. وقال ابن ناصر الدين: فيه تشيع وتصحيح واهيات، على ما في (شذرات الذهب في أخبار من ذهب لابن العماد) ج3 ص177.

والحديث الصحيح في هذا الشأن هو (. . . فاظفر بذات الدين تربت يداك) رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي، وأحمد وأبو يعلى والبزار، وغيرهم، كما في (مجمع الزوائد ومنبع الفوائد للهيثمي) ج4 ص254.

محمد أسامة عليبة

بين تيمور والنشاشيبي:

قرأت في العدد الأخير من مجلة الكتاب ما كتبه الأستاذ محمد رجب البيومي في ترجمة المغفور له أحمد تيمور، ومما استوقف نظري قوله (وكتاب النوادر مخطوط ثمين جمع فيه المؤلف ما وقعت عليه عينه من طريف الأخبار وشتى الملمح؛ فهو يشبه نقل الأديب للأستاذ المرحوم النشاشيبي وكان تيمور يود أن يقدمه للمطبعة العربية فحالت منيته دون أمنيته) أه

والحقيقة أن كتاب النوادر يختلف عن نقل الأديب لأن الأول نوادر معينة مرتبة تحت عناوين جامعة، فباب لنوادر النحو وباب لنوادر التاريخ وهكذا، أما نقل الأديب فعدة

ص: 51

مختارات ثمينة جمعت بلا ترتيب أو تبويب. ولقد رأيت أن أنبه إلى ذلك على صفحات الرسالة، فقراؤها أعرف الناس بنقل الأديب وبالأستاذ رجب البيومي أيضاً.

منصف

أسس إصلاح التعليم الأولي في مصر:

قرأت ما تفضلت (الرسالة الغراء) بنشره للشيخ (علي زين العابدين منصور) على هذا الكتاب. . وقد كنت أطمع في أن توضح (الرسالة) أغراضه ومراميه للعامة التي تهدف إلى نقد الأوضاع الحالية الرسمية وغير الرسمية التي تقف سداً حائلاً وستاراً كثيفاً دون أن يكون للعلم في مرحلة التعليم الأولي كريماً عزيزاً في كل ناحية لينتج نفوساً كريمة عزيزة تتحكم في المجتمع المصري المنشود للمستقبل المأمول! ومن الجلي أن هذا في مبناه ومعناه متداخل في رسالة مجلة الرسالة الناطقة بلسان الشعوب العربية المعبرة عن آمالها وآلامها القومية. . . فلا غرو إذا حملناها هذه الأمانة ودعوناها إلى إنقاذ ذلك في أمد قريب. . . .

خورشيد عبد العزيز

معلم دميره

كتاب تاريخ الأدب العربي في شرق الأردن

جاءنا من شرق الأردن أن النسخ المزيفة من كتاب تاريخ الأدب العربي تتداول بين الطلبة والقراء في (اربد)، وأن الذي يتولى تصريفها هو ناظر مدرسة اربد الثانوية؛ وهو أستاذ فاضل معروف بكرم الخلق وحسن السيرة، وقد تخرج في مصر؛ فلا نشك في انه يفعل ذلك بحسن نية؛ ولكننا نرجو منه أن يساعد العدالة على كشف هذه الجريمة بأن يبلغنا أو يبلغ حكومة شرقي الأردن كيف وقعت له هذه النسخ، ومن أرسلها إليه من مصر أو من فلسطين، وعليه منا سلام الله ورحمته.

سؤال لأعضاء المجمع اللغوي:

الله: هل أصل لفظ هذه الكلمة - لاه - فدخلت عليها أل التعريف، أم هل وضع هذا اللفظ معرفاً كما هو؟ وإذا لم يوضع معرفاً فما اصله، وكيف حرف وحول حتى صار على هذه

ص: 52

الكيفية؟ لا ننكر أن لفظ الجلالة أعرف المعارف ولكن نقصد هنا الناحية اللغوية فقط وننتظر الإجابة.

(سائل)

رسالة الفن:

زار محرر (الرسالة) الفني معرض الجمعية الفوتوغرافية المصرية المقام بصالة المعهد البريطاني بسكة المغربي رقم 3 بالقاهرة، وشاهد اللوحات البارعة التي عرضها الأعضاء، ولاحظ المجهود العظيم الذي بذل في إقامة هذا المعرض الجميل.

ونحن إذ نسجل للجمعية نجاح معرضها الأول ونقدم التهنئة إلى رئيسها الأستاذ الدكتور أحمد موسى، نرجو لها اطراد النجاح في خدمة فن جميل تفتقر مصر إلى تعاون رجاله وتكاتفهم للنهوض به.

ويسر الرسالة أن تنشر لوحتين من لوحات الدكتور أحمد موسى مع أبيات من القصيدة التي هنأه بها تلميذه الفنان السيد رأفت:

في رؤى الأحلام؟ أم أين أنا؟

أم أساطير خيال هاهنا

أم هو الفنان في سبحاته

سارياً في زورق الفن بنا

يبهر الشطآن من أنعامه

لحن أرواح يهز الفتنا

لوحة السلم التي فاضت بها

روح فنان تسامى سننا

كم حسدت الطير فيها راحة

مالنا منها نصيب يرعى آمنا

يا أبا ليلى، وما ليلى سوى

زهرة الروض جمالاً وجنى

أيها الساري لمجد خالد

تتحدى في سراك الزمنا

أيها الساعي بفن باعه

أدعياء الفن في سوق الغنى

وكلوا بالجنس من أقلامهم

ريشة ذلت وعقّت وطنا

إنما الفن الذي علمتنا

عانق الروح وعاف البدنا

ص: 53

‌القصص

تضحية أم

للأديب عبد القادر صادق

(روى لي هذه القصة شيخ جليل زار الشرق الأقصى للتبشير)(الكاتب)

تشرف على المحيط الباسفيكي مدينة جميلة تسمى (أوزاكا) تمتد في جنوبها سهول فسيحة مترامية الأطراف، مبتدئة من ذلك الكوخ المتواضع، تحيط به أشجار باسقة عارية من الأوراق، أو مكتسية بها.

في أمسية من أمسيات الخريف الكئيبة لعام 1904 واليابان قد أعلنت النفير العام، إذ تأزم الخطر عليها، وأحدق بها أعداؤها الروس من الشمال الغربي؛ راح الشبان يتقاطرون زرافات ووحداناً على مكاتب التسجيل ما بين نداء الوطن. في هذه الأمسية الكئيبة، وفي هذا الكوخ البعيد عن البلدة؛ جلست الأم (شيحار) مساهمة مشردة الخواطر، موزعة الأفكار، تحيك بيديها جورباً من الغزل، على عادتها، من يوم أن توفى زوجها وترك لها ولداً في التاسعة من عمره. لقد مضى على الأم عشرة أعوام، وهي ما تزال تجد في حياكة الجوارب طوال النهار وطرفاً من الليل، لتوفر لولدها شئون الحياة وأسباب العيش، وهي تتعهده بالرعاية والعناية، ساكبة عليه كل ما في الأمومة من حنان. وكان الموقد أمامها، والنار تئز فيه أزيزاً أشبه بالوسوسة، فتبعث لها بالدفء والإيناس؛ إنها لتنتظر خبر ولدها (فوزاكي) ذلك الشاب الذي ذهب لتسجيل اسمه في عداد المجندين؛ وإنها لتتخيله، وهو الشاب الفارع القامة، المفتول العضد، القوي البأس، بالبزة العسكرية متقلداً سلاحه، وهو يشق خطوط الأعداء ويقارع كوارث الحرب، متفوقاً في فنون النزال والضرب، تزين ساعده الأشرطة العسكرية، وتملأ صدوره الأوسمة والأنواط البراقة. . .

ويقطع عليها هذا الحلم اللذيذ دخول ابنها (فوزاكي) والوجوم يغشى سحنته، والحزن يسيطر عليه، فتهب إليه الأم لتتلقاه متلهفة، تريد أن تضع في تقبيله كل حنانها لخبره السار في أن يكون من عداد المجندين، ولكنها ترتاع لمرآه الواجم وهو يأخذ يدها بين يديه، كأنه ينشد منها المعونة والعزاء، ومتجهاً بها إلى الموقد:

- أماه! ما أمر خيبتي عند ما علمت لجنة التسجيل أني وحيدك، وأن ليس من يقوم على

ص: 54

رعايتك سواي. . . ولما اعترضت على ذلك أجابوني بأن القانون لا يسمح لأمثالي بالتجنيد. . وكان بينهم رجل وقور الشيبة، جليل الهيبة، رأف بحالي وتقدم نحوي وهو يقول: لا تحزن يا بني، إن خدمة والدتك نوع من خدمة بلادك. وقد ظن أنه بذلك يستطيع تعزيتي وتبديد خجلتي، وأنا أنظر إلى رفاق طفولتي في المدرسة ولداني في المعمل وهم يرتدون البزات العسكرية. . لست أنكر أنني وحيدك، ولكن أما كان الأجمل لك والأجدر بي، أن أكون مدافعاً ومانعاً ضيم العدو لنا واستعباده لبلادنا فينصرف كيفما شاء بأرضنا ومالنا ونسائنا؟!. .

لا يمكن أن أتصور يا أماه شماتة الناي بي، ونفورهم مني وهم يشيرون إلي بسخرية قائلين: هذا الذي تخلف عن خدمة بلاده والذود عن حياضها. . يا لسقوط همته، ويا عالته على أمته! لئن تطوني الأرض بين طياتها، أحب إلي من سخريات الناس وشماتتهم. وإني لأشعر في أعماق قلبي العزم، وفي غليان دمائي البأس، يدفعانني لأن أحيا لبلادي وأموت لبلادي، وأن أحظى بشرف الجندية، حيث يشرفك هذا يا أماه! وتشرف بلادنا بالعزة والكرامة فتقضي على مطامع أعدائها. . .

كانت أمه ما تنفك حديثه تنقل طرفها الوامق بين شفتيه ووجهه الحزين، وقد أخذت رأسه بين يديها وراحت تواسيه:

- نعم ما قال هذا الرجل العطوف النصوح يا بني: أن خدمة والدتك نوع من خدمة أمتك؛ ولكن هل هناك مانع من أن تقوم والدتك بخدمة بلادك؟؟. . .

فرفع بصره إليها، ليعي ما تقول. . ولكنها راحت تتابع حديثها، متجاهلة دهشته ونظرات عينيه المستفهمة، وكأنها مصممة على أمر ما، وأناملها ما تزال تعبث بخصلات شعره الجميل؛ ثق يا بني بأنك ستكون في خدمة بلادك وستتقدم رفاقك. . . ولكن قل لي: ألست بجائع؟ أجل! أنت جائع، لاشك أنك جائع!!. .

وانفلتت نحو صوان الأكل؛ فشيعها بنظرات الوامق البار، وهي تسير بخطوات وئيدة رزينة مولية له ظهرها، ولمعت لعينيه شعرات الشيب كأسلاك من النور الساطع عندما ضاحكتها رقصات ألسنة اللهيب من الموقد وحطت على عقصة شعرها الملتفة: يا لي من أحمق! كيف لم ألحظها من قبل؟ هكذا قال لنفسه، وقد ارتد رأسه إلى راحتيه، وساورته

ص: 55

الهموم ولكن سقطة جسم على الأرض ردته إلى صوابه. . يا لهول ما رأت عيناه!. . أمه المسكينة مضرجة بدمها المتدفق. . المدية مغروسة في صدرها؟!. .

فملكته روعة المشهد الأليم، وأخذته الحيرة فما يستطيع أن يهتدي لعمل ينقذ به أمه. . .

وتقطن أمه إلى ما يريد فنقول

- لا لا يا (قوزاكي) لا تحاول إنقاذي، ولا تستدع أحداً. . فكر في إنقاذ بلادك، في أمك اليابان لا أمك (شيحار)!. .

لن أكون حائلة بين إشباع عواطفك الجائعة لخدمة بلادك، ولن أكون السبب في خيبتك وخجلتك بين أبناء قومك. . لن أحرمك شرف الجندية، ولن أحرم اليابان خدمة أبنائها. .

لقد رعيتك للبلاد فأنت ملك لها، ولست ملكاً لي، ففي سبيلها ما دعيت. . . سر على بركة الله، وإلى الأمام بالرعاية والعناية والكرامة. .

وتأخذها سكرة الموت وهي تجالده، آخذة أنفاسها بعسر ومشقة. وقد بدا على وجهها نور سماوي لست تلقاه إلا على وجوه القديسين والأولياء والصالحين من دنيانا، وراحت تقول متممة رسالتها. . .

وهناك في السموات العلى، ألتقي بك وقد رويت عواطفك الملتهبة، وقد تكللت بلادنا بالعزة والنصر. . . هناك أتلقاك لأتابع العناية بك. . .

وأطبقت أجفانها لتتابع الحلم اللذيذ. . في مجد اليابان وفي فتاها البطل العزيز.

(دمشق)

عبد القادر صادق

ص: 56