الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 772
- بتاريخ: 19 - 04 - 1948
من أقاصيص الجواري في عهد الرشيد:
بهيرة
(مهداة إلى صاحب المعالي إبراهيم دسوقي أباظة باشا)
- 1 -
- ما اجمل هذا الصوت! من أين مصدره؟
- من صوب النهر يا مولاي
- إن حلاوته وإيقاعه لينبئان عن ظرف بارع وصبى نضر
- لعلها قينةٌ في زورق من زوارق المخنثين ترف على لهوهم الماجن بالغناء والحسن كالعادة
- مل بنا إلى الشاطئ عسى أن نرى مصداق ما نسمع وكان الرجل الذي سال وأمر طويلاً بدين الجسم أشقر اللحية على وجه جلالة السلطان ومهابة الملك؛ أما رفيقه الذي أجاب وأطاع فكان مساوياً له في العمر، ولكنه كان ربعة القوام، رقيق البدن، أزهر اللون، تتوسم الظرف من ملامحه، وتتبين الذكاء من ألفاظه. وكانا يلبسان ملابس التجار ويمشيان مشية المستطلع بين القصور الناعمة القائمة على دجلة من كرخ بغداد في أصيل يوم من أيام أبريل. وعلى ثلاث خطوات مهما كان يسير رجل وثيق التركيب عظيم البسطة يلحظ لحظات الصقر أرعاهما بعين النمر. وكان دار السلام يومئذ في أيام العروس من عهد الرشيد، قد تجمعت فيها الدنيا بهجتها وزينتها، وفتنتها وثروتها، فهي أشعة من الجمال والسحر، وظلال من الرخاء والبشر، ونسمات من الروح والعطر، وخالية من الحب والشعر، ومتع من نعيم التمدن الإسلامي القائم على لذة الروح والجسم، وسعادة الدين والدنيا، وراحة النفس والناس
اتجه الرجلان وتابعهما الصامد نحو الصوت فجرهما إلى بستان مشرف عل انهر قد جلست على عريش منت عرائشه الكاسية بأشتات الرياحين وزهرة العمر ترسل هذا اللحن الشجي الضارع كأنها تهدهد به حباً لا يهجع، وتناجي به حبيباً لا يسمع!
فدار بين اعظم الرجلين وبينها هذا الحوار الرقيق:
- لعلك تودين أن يكون هذا الغناء الساحر سامع!
- لو كنت لما اعز علي أن أجده
- وهل خلق الله مثل هذا الصوت ليتبدد في الهواء ويضيع في هذه الخلوة؟
- سل البلبل حين يبعث الشدو: هل يريد أن يبعثه إلى اذنك؟ وسل الشمس حين ترسل الضوء: هل تريد أن ترسله إلى عينيك؟ وسل الزهرة حين تبعث العطر: هل تريد أن تبعثه لانفك؟
- تبارك الله! براعة في الغناء وبراعة في الذكاء وبراعة في الحسن! ماذا تسمين؟
- بهيرة
- ولمن تكونين؟
- لسيدي علي بن وهب
قالت ذلك بهيرة ثم حيت الرجل وصاحبيه ثم انطلقت في أشجار البستان كأنها عروس من عرائس المروج ازدهارها الربيع فطفرت من المرح راكضة راقصة
- لقد وقعت بقلي هذه الجارية يا جعفر!
- إذا شاء أمير المؤمنين كانت في ملكه من الغد
- 2 -
وفي غد ذلك اليوم انتقلت بهيرة بالشراء إلى قصر الرشيد بالرصافة، وكان بموج بالحوار والولدان موجان الفردوس، حتى بلغ ما فيه من السراي والقيان زهاء ألقى جارية من الروميات والكرجيات والجركسيات والعربيات والحبشيات، يرفلن في الأثواب الموشاة بالذهب، والعصائب المرصعة بالدر، والمناطق المنسوجة بالمسجد؛ ويخطرن بين دوائر الحرم موائس من الدلال، نشاوى من الحسن، ينفحن بالفتون والحب كما تنفح الزهور العاشقة بالعطور المغرية في ميعة الربيع.
أحلها مسرور الخصي مقصورتها الأنيقة بين مقاصير سحر وضياء وخنث (1) وأفاض عليها من الوشى والزينة والحلى ما جعلها قطعة من الفن الجمالي الخيالي لا تبلغها قريحة شاعر ولا عبقرية مصور. وانغمرت بهيرة في فيض من الجمال والنور والترف واللذة؛ ولكن هذا القصر الذي لا ثاني له في دنيا الناس لم يستطيع بما فيه من النعيم الدافق
والسرور المتصل واللهو المختلف والأشجار المحمولة من كل ارض، والأطيار المجلوبة من كل سماء، والأواوين المنجدة بالديباج والارسيم، والبرك المزدانة بالتماثيل والدمى، والسلطان الذي خضع له الدنيا، والجلال الذي اعتز به الدين؛ لم يستطع بكل أولئك أن يسمح عن وجه بهيرة هذه الكآبة الغاشية ولا هذا السهوم الملح، فقد كانت أشبه بالوردة المقطوفة على المائدة الغارقة في السرور الطافحة باللذة: وتموت وكل ما حواليها يزدهي وينتش. فهل كان قصر الخليفة أضيق من قصر التاجر؟ ام كانت سيادة ابن وهب أني على قلب بهيرة من سيادة الرشيد؟ واقع الأمر أن هذا الحال لم يطرأ على بهيرة في عيشها الجديد، وإنما كانت تلازمها وهي في ملك ابن وهب، وقد تذرع الرجل بالطب والحيلة والإله وإلى أن برفه على جاريته المحبوبة فما كانت تزداد على عنايته بها ورعايته لها إلا هما على وهم؛ حتى استراب في حبها إياه فحاول أن يصل إلى سراها ويعرف متجه هواها فما استطاع. فلما ساومه النخاس عليها بالثمن الربيع نزل عنها غير آسٍ ولا آسف
كانت بهيرة قبل عامين قد وهبت قلبها الخالي المنتظر لفتى من سراة بغداد الظرفاء فشغله كله وتغلغل فيه تغلغل السر، وشاع به شيوع السرور. ثم تقلبت عليها الأيام والأحداث وهما ثملان من رحيق الحب، وادعان في ظل الآمان، حتى نزل بالفتى ما ينزل بالمترفين المتبطلين من كساد الحال وهجوم الفاقة، فباع كل ما يملك، ثم عاش على الأماني فترة من الدهر؛ ورأى أخر الأمر أن من الإخلاص لحبيبته إلا يحملها وزر إسرافه وعواقب طيشه، فباعها على الرغم من تشبثها به وإيثارها إياه من على ابن وهب ودأب يزورها يوماً بعد يوم وهي في قصر ابن وهب، من وراء الحديقة، ومن خلال السور، وهي تنتظره في العريش الذي رآها فيه الخليفة يوم تنكره، فيستسقيان كؤوس الهوى، ويتناقلان حديث المنى، ويتشاكيان حرقة الوجد، وينظران نظرات الأسى إلى دجلة والشابا الأحباب يشرقون على وجه إشراق البسمة العذبة على ثغر السعيد، فيذكران كيف كان هذا النهر الخالد مسرحاً لصباهما اللاهي، وشاهداً على حبهما الخالص؛ وكيف نظر أليهما الدهر الخؤون فتقوض الربع الآهل، وتفرق الشمل الجميع، وآل الأمر بينهما إلى أن يكون بين قلبيهما عاذل لا يتغفل، وبين جسميهما حاجزاً لا يقتحم!
كانت بهيرة وهي في قصر ابن وهب تستطيع أن ترى سليمان وان تتحدث إليه وان تترك
للأقدار الرحيمة إسعاف حبيبها البائس بالثروة الموجودة فيستردها إلى ملكه؛ ولكنها انتقلت الآن من عش الحمام إلى غيل الأسد! فمن ذا الذي يستطيع الدنو من قصر الخلافة؟ لقد ضرب الدهر بينها وبين حبيبها إلى الأبد؛ فلا هو يستطيع الدخول إليها ولا هي تستطيع الخروج اليه؛ فكانه مات من دنياها وهي ماتت من دنياه. وبيت الخلافة من أمثالها قصر في الأول وقبر في الآخر!
- 3 -
على أن الهوى كالسكر لا يعرف المحال ولا يحس الخوف ولا يبصر العاقبة فقد احتال سليمان حتى ظفر بثياب خادم من خدام جعفر بن يحيى. فكان يدخل قصر الرشيد في هذا الزي فلا يرتاب الحراس ولا ينكره الخدم. وعرف مقصورة بهيرة فكان يتسلل إليها في الظلام أو في الغفلة، فيقضي معها ساعة من النهار أو هزيعاً من الليل ينضحان فيه غرامهما المسعور بالحديث المعسول والقبل الندية.
وفي ذات ليلة اطفي عليهما الحب وعصفت برأسيهما الصبابة فتولدت فيهما ناشئة من الأمل والعزم. قال سليمان وهو يثبت نظره المتوقد في نظر بهيرة الساجي:
- لقد أعددت عدت الخلاص ومهدت لك سبيل الهرب
- وماذا أعددت يا سليمان؟
أعددت لك هذا الثوب الغلامي فالبسيه واخرجي تحت الليل حين تخشع الأصوات وتهجع العيون ولا يدخل ولا يخرج إلا رسل الأسرار بين قصور السادة والقادة. وساكون في انتظارك لدى مشروع القصب من دجلة
فقالت بهيرة ودمعها الساجم يتقاطر على خديها تقاطر الطل:
- أنسيت يا سليمان أني ملك الخليفة فلا اخرج منه إلا بالبيع أو بالعتق!
- لم أنسى يا بهيرة، ولكن الخلاص بغير ذلك محال
وكيف يصفو لنا العيش يا سليمان وهو شقاء متصل بمعصية الله وخيانة الخليفة؟
- بربك يا بهيرة اخفتي هذا الصوت في نفسك، وفكري قليلاً في بؤسي وبؤسك. ليس لي غيرك وليس لك غيري؛ أما الخليفة فله ألف جارية، وله إضعافهن إذا شاء. والله يا بهيرة يغفر الذنوب جميعاً
- ألا تظن يا سليمان أن العذاب في الحب عذب، وان الموت في سبيله شهادة، وان هذه الساعة التي نلتقي فيها على غفلة من الرقيب بين الخوف والأمن، وبين اليأس والرجاء، أدنى إلى الحب الصحيح والسعادة الحق من العيش الغرير الناعم على مهاد الرذيلة؟
- أن العشاق يا بهيرة لا يعشون بعقول الخليين ولا يخضعون لقوانين المجتمع
- واسلس لسليمان الدمع والكلام فأوشك أن يحمل بهيرة على راية لولا أن قرع باب المقصورة قارع عنيف، فاستطير قلب العاشقين من الرعب، وأيقنا بالهلاك المحتم
- وفتح الباب ودخل مسرور قهرمان القصر وسيد الموالى وحاجب الرشيد، ومعه نفر من الحراس، فأمر بالقض على سليمان، وكان قد سمع بآذان جواسيسه ما دار بالحديث بينه وبين بهيرة.
- 4 -
سيق العاشقان إلى مجلس الخليفة الخاص متهمين بانتهاك حرم الخلافة، والمؤامرة على الفرار، والخلوة الأثيمة. فأسالهما عن جلية الخبر فأجاباه بصحته. واستفهم الشهود عن تفاصيل الحديث فأدلو به على نصبه. فكان الخليفة مفتوناً ببهيرة لما جرب به عليها من الوفاء والذكاء والصدق فعفا عنها، ودفع بسليمان إلى مسرور ينفذ فيه حكمه
فتقبل العاشق المنكود الحكم عله قبول من راض نفسه على التسليم بالقضاء المحتوم والأمر الواقع.
وذهب به الموالي إلى لقاء الموت، ولبثت بهيرة في حضرة الخليفة شاخصة لا تطرف، واجمة لا تنطق، كأنما أخرجها الجمود عن الحياة، وفصلها الذهول عن الوعي. ثم رأت بعينيها في سكون، وحركت لسانها ببطء، وألقت بنفسها على قدمي الخليفة وهي تقول:
مولاي: إني اعلم أن الجريمة إذا مست الشرف ضاق بها العفو وقصرت عنها الشفاعة؛ ولكني اعلم كذلك أن حلمك لا يستحقه غضب، وعفوك لا يتعاظمه ذنب. فهب لي دم سليمان فقد جنى عليه حبي، وسعى إلى عدمه وجودي. وهو يا مولاي صادق النية سري الخلق بريء الساحة.
فقال لها الخليفة: أن هذه الجريمة تنسى بوجهها الوقاح صورة الرحمة. فاسأليني ما شئت إلا العفو، فأني لا امنح إلا ما املك.
فقالت بهيرة: أذن تعدني يا مولاي إلا يقتل حتى أراه.
فقال لها الخليفة: لك هذا الوعد.
وراسل وراء الجلاد يأمره أن يرد عليه سليمان قبل أن يمضي قضاءه فيه.
فلما خرج الرسول أدارت بهيرة بصرها إلى السماء والفضاء والطبيعة، ثم أرجعته وهو يفيض بالدمع والأسى، ورددته في نواحي البستان، وفي جوانب المكان، وفي مرايا الجدران، وفي حلتها الذهبية، وفي حلتها اللؤلؤية، وفي وجه الخليفة؛ ثم أدخلت إصبعيها في محجريها فاقتلعت بهما عينيها
فصاح بها الخليفة وقد أفزعه ما رأى:
ويحك ماذا صنعت بنفسك؟
فديت بعيني حبيبي يا مولاي!
وكيف ذلك يا حمقاء؟
ألست وعدتني يا مولاي إلا يقتل حتى أراه؟ فالان لا أراه ولا يقتل!
كان اثر هذا الحادث بالغ في نفس الخليفة، ومهد لهما الحياة السعيدة في ظلال نعمته.
وقنعت الفادية العمياء من دينها بالعيش على نور الحب وفي كنف الحبيب!
أحمد حسن الزيات
المقاصد الصهيونية
للأستاذ نقولا الحداد
ورد لي كتاب على يد مجلة (الرسالة) بإمضاء حسن (وبس)، وليس فيه عنوان مرسله سوى إنه من المنصورة. ويقول كاتبه إنه مسلم، وأنه طالب في مدرسة الكامل. والله اعلم. ويقول أن سنه 16 سنة. ولكن عظته لي عظة 36 سنة متواضعة لطيفة رقيقة. وفحواها أنه (لا فرق بين اليهودي والمسيحي والمسلم)، وهو يتمنى تحقيق ذلك الحلم السعيد الذي نرى فيه الشعوب جميعاً شعباً واحداً، وان اليهود ما هم إلا آدميون مثلنا. فلا يجوز أن نأخذهم بجريرة أجدادهم. إلى غير ذلك من الأماني التي يتمناها كل واحد من الناس.
مرحى يا بني! أشكر لك عظيم الشكر حسن ظنك بي، وعطفك لخالص على اليهود، واعترافك لهم بأنهم بشر مثلنا. وكان يحسن بك أن تبعث بهذه العظة إلى السيد جمال الحسيني الذي ذهب إلى لايك سكسس لكي يناقش هيئة الأمم بأنهم بشر مثلنا عاشوا في البلاد آمنين مسترزقين، ولكنه يرى أن صهيوني فلسطين الوافدين عليها من مشرديهم في أوربا بالكي يمتلكونها أرضاً وشعباً ودولة؛ هؤلاء ليس بشر بل أبالسة.
نحن لا نكره اليهود، ولكنهم هم يكرهوننا، ويلقبوننا بالجوييم البهائم، وكلمة الجوييم هذه تطلق على كل من ليس يهودياً، وقد عاشوا بين الجوييم في فلسطين وغيرها قروناً وأبواب الرزق مفتوحة على مصاريعها، والقلوب مفتوحة لمحبتهم وإكرامهم، لأن مسيحنا قال:(أحبوا أعدائكم) فكيف بالأصدقاء؟ وقد تبرع لهم مسيحيو أمريكا باثنين وسبعين مليوناً من الريالات ليستعين بها المتشردون في أوربا، فإذا بهم ينفقونها في فلسطين لمكايدة العرب! وفي قرآنكم الكريم:(ولا تستوي الحسنة ولا السيئة، أدفع بالتي هي أحسن، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه وليٌ حميم)؛ وأما هم فيقولون إنه يحل لهم كل ما يملك الجوييم، يعنون النصارى والمسلمين والوثنيين على السواء من عهد موسى عليه السلام إلى اليوم والغد. وسلوكهم اليوم ناطق بهذه الأبيات الأنانية ومطابق لمنهاج استنوه لأنفسهم يعادون به الأمم، ويهيئون أنفسهم لدولة عليا تسود الدول جمعاء وتستعبد الشعوب.
نحن لا ندين اليهود بما قاله موسى، بل ندين الصهيونيين بما قاله حكمائهم في مواثيقهم، أي البروتوكولات التي سننشر ما نقتطفه منها تباعاً مما يدل على ما يبيتونه للجويين أمثالي
وأمثالك وما تنطبق عليه أعمالهم أمس واليوم والغد.
نحن لا ندين اليهود الذين قاموا بين ظهر أنينا وكانوا في أمن وطمأنينة، وإنما ندين الصهيونيين الذين جاءوا من وراء البحار ينفذون مواثيق حاخاماتهم الكبار في سبيل دولة صهيونية تسود العالم وتصبح جميع الدول تابعة لها، وجميع الأمم عبيدها، ويهود العالم كله أسياد الشعوب.
نحن لا نفتئت على اليهود وإنما ندل الجوييم مسلمين ومسيحيين على مقاصد الصهيونيين لكي يحذروا مكايدهم.
وأسمع الآن ما قالته مواثيقهم (بروتوكولاتهم) بشأن دولتهم قال الميثاق (البروتوكول) الثالث البند 6:
إن الناس الذين هم تحت قيادتنا قد محقوا الأرستقراطية (سلطة الأعيان) الذين كانوا قوة الدفاع الوحيدة عن مصالحهم المرتبطة بهناء الشعب. فبإبادة الأرستقراطية يقع الشعب في قبضة اللئام من ناهبي الذهب الذين لا رحمة عنهم والذين وضعوا نير الظلم ثقيلاً على أعناق العمال).
البند7:
(وأما نحن فنظهر على المسرح نمثل المنقذين للعامل من هذا الظلم. ومن ثم نقترح عليه أن يدخل في منظماتنا المحاربة - الاشتراكية والفوضوية والشيوعية التي نعضدها دائماً بواسطة الأخوية المزعومة المفروض أنها رباط الإنسانية، وهي الماسونية الاجتماعية (أي الماسونية العمومية غير الماسونية اليهودية السرية التي تخفى عن الماسونيين على العموم). والأرستقراطية التي بحكم الشريعة تمتعت بتعب العمال تغتبط برؤية هؤلاء العاملين يتغذون شابعين وصحتهم جيدة وأجسامهم قوية. وأما نحن فيسرنا العكس، وأنقاض عدد هؤلاء الجوييم حتى قتلهم. أن قوتنا في أنقاض الغذاء الذي أضحى داء مزمناً، وفي ضعف العامل وسقمه البدني، لأن هذين الأمرين يتضمنان عبودية العامل لإرادتنا وإنه لا يجد في حكومته أو سادته قوة لمناهضتنا.
الجوع يخلق حق الرأسمال بالتحكم في العامل أكثر مما أعطت سلطة الملوك الشرعية من الحقوق للأرستقراطية).
ترى مما تقدم أنهم بدعوى العطف على العمال (وهم يعنون بالعمال كل مسترزق) يستخدمونهم لأغراضهم التي لا يفطن لها العمال على يد ماسونيتهم.
وقد رأيت أيضاً أن الاشتراكية والفوضوية والشيوعية هي من مخترعاتهم، كما ترى في البند الثاني من الميثاق الرابع سر قوتهم غير المنظورة:
(من وماذا يستطيع أن يقاوم قوة غير منظورة كقوتنا؟ فالماسونية العمومية التي ينتظم فيها الأمم (الجوييم) وهم كالعميان لا يرون ما أمامهم وما ورائهم، وإنما هي حجاب يحجبنا ويحجب أغراضنا. وأما منهاج عمل قواتنا فيبقى للعالم سراً مجهولاً).
ومما جاء في البند 3 بعد الكلام عن الإيمان من غير وعي ولا وجدان.
(. . . بهذا الإيمان يُحكم الناس بحراسة أبرشية الكنيسة. ونسير نحن برضى وتواضع تحت قيادة الراعي الروحي خاضعين لتدبيرات الله على الأرض. هذا هو السبب أننا لنا أن ننقب تحت أساس كل إيمان لكي ننتزع من عقول الجوييم مبدأ الألوهية والروح ونضع مكانه الحسابات الرياضية والحاجات المادية)
وفي البند 4 يقول (. . . ولكي تشقق الحرية جماعات الجوييم وتدمرها يجب أن نجعل الصناعة على أساس المضاربات فتكون النتيجة أن ما يُستغل عن الأرض بالصناعة تتداوله الأيدي إلى أن يتسرب إلى أيدي جماعاتنا عن طريق المضاربات).
يعنى أن الجوييم يشتغلون في الأرض وتتسرب غلاتهم إلى أيدي الماليين بفعل المضاربات. ومن هم الماليون؟؟
وبعد أن يتكلم الميثاق الخامس عن السيطرة يقول في آخر البند الأول. . . (هذه القوانين تقتل الحريات والتسامح مما يتساهل به الجوييم يجرأ أن يقاومنا بالفعل أو بالقول).
وفي البند 6: (قيل في الأنبياء إننا نحن الذين اختارنا الله نفسه لكي نحكم كل أرض، وقد منحنا الله النبوغ لكي نستطيع أن نقوم بعملنا. فإذا كان معسكرنا معاد لمعسكرنا نبوغ يجاهد ضدنا. فالضد الجديد لا يقدر أن يقاوم القديم المستقر، فالعداء بيننا يكون مهلكا، والحرب تكون بلا هوادة ولا رحمة. حرباً لم يشهد العلم مثلها. . وإنما يكون نبوغ المعسكر الآخر قد جاء متأخراً فلا نخشاه. . . إن جميع عجلات (المكنة) الحكومية تسير بقوة السياسي الذي استنبطه شيوخنا الحكماء منح الامتياز الملكي لرأس المال - وهو في أيدينا).
فنرى في هذا البند أنهم يعتقدون اعتقاداً قلبياً أن الله اختارهم وحدهم شعباً له، ومنحهم السلطة المطلقة على كل الأرض. فكيف نستطيع أن نعيش مع شعب يعتقد هذا الاعتقاد في نفسه ويعتقد أن الشعوب الأخرى بهائم لا حقوق لها ولا حياة.
في البند العاشر من نفس الميثاق الخامس نرى حيلتهم الشيطانية في القبض على زمام الرأي العام، وهو كما لا يخفى أقوى قوة اجتماعية وهو يقول:(لكي نقبض على الرأي العام يجب أن نضع الجمهور في موضع الحيرة والارتباك بأن نبذر فيه أراء متناقضة في كل ناحية مدة طويلة حتى تتضعضع عقول الجوييم وتتيه في معارج الظلال إلى أن يروا أن الأفضل إلا يكونوا لأنفسهم رأياً سياسياً. ولا يستقروا على رأي في أية سياسة يفهمها الجمهور، بل لا يفهمها إلا القادة الذين يقودون الشعوب ويرون أنفسهم متناقضين فيها. هذا هو السر الأول في قيادة الشعوب في بيداء الجهل).
في البند 11 (السر الثاني المطلوب لنجاح حكومتنا يشتمل على ما يأتي: الإكثار من الخيبات الأهلية وانتشار العادات السيئة وتعقد ظروف الحياة المدنية بحيث يستحيل على أي واحد أن يعرف أين هو من الصواب في هذه الفوضى حتى يصبح الواحد منهم لا يفهم الآخر. هذه الحالة المربكة تخدمنا في ناحية أخرى، تزرع الشقاق في جميع الهئيات والأحزاب، وتبدد القوى المتجمعة من مواضعها، وثمة تخضع القوى التبني لا تزال ممتنعة عن الخضوع لنا، وتثبط عزيمة أي شخص في مقدرته أن يعرقل مساعينا. لا شيء أخطر لنا المفكرين المبتكرين العباقرة. فإذا كانت وراء كل مشروع نابغة من النوابغ يستطيع أن يخرب أو يعمر أكثر مما يستطيعه ملايين من الناس الذين زرعنا بينهم الشقاق. لذلك يجب أن نوجه ثقافة الجوييم بحيث أنهم إذا وقعوا على أمر يحتاج إلى ابتكار أو تفكير يسقط في أيديهم ويرتدوا مخفقين. . . أن المجهود الذي ينتج من حرية العمل يستنفذ القوى إذا اصطدم بحرية أخرى. وبهذا الاصطدام تنشأ صدمة أدبية خطيرة تفضي إلى الإخفاق. بهذه الوسائل يمكننا أن نحبط قوى الجوييم حتى يضطروا إلى تقديم قوة دولية لأجل أمن العالم فتبتلع تدريجياً جميع قوات دول العالم من غير عناء وتؤلف حكومة عليا تسيطر على العالم، وإذ نكون نحن اليد العاملة فيها بتمهيداتنا السابقة نقيم مكان حكام اليوم إدارة حكومتنا العليا ونسيطر على العالم. هذه الإدارة العليا تمتد أيديها إإلى جميع الجهات وتقبض على
أزمة جميع السلطات وحينئذ تعجز أية قوة من الجويم أن تقف في سبيلها).
هكذا قد وضع حكماء الصهيونية برنامج مساعيهم إلى مساعيهم إلى اعتلاء عرش السلطة العالمية العليا. وجميع حركات الصهيونيين الآن وقبل الآن تدل على أنهم نشطون في هذا السبيل، وأن لهدف لم يعد بعيداً عنهم كثيراً. فهاهم يشتغلون في صهيون فلسطين، وروسيا تعضدهم من وراء الستار. فإذا لم يصد العالم كله الصهيونية والشيوعية جميعاً فقد يصيبون الهدف ويكون ذلك بفضل بلاهة بعض الساسة مثل ترومان وأمثاله.
ترقب يا عزيزنا حسن المقال القادم عن برنامج الصهيونيين في ميدان العمل ورأس المال. وثم لا تعود تلومني إذا فتحت عينيك وأمثالك لمكايد الصهيونيين.
نقولا الحداد
لا، لا نملك تحريم تعدد الزوجات
للأستاذ إبراهيم زكي الدين بدوي
لم أكد ألمح بين مواد فهرس الرسالة الصادرة في 5 أبريل الجاري هذا العنوان (نعم نملك تحريم تعدد الزوجات) حتى ساءلت نفسي: ترى من هذا الذي تطوع للدفاع عن قضية بينة الخسران؟ وما أن رأيت العنوان مقرونا باسم صديقنا فضيلة الأستاذ الشيخ عبد المتعال الصعيدي حتى إشفاق على المدافع وخشيت عليه مغبة الأمر.
لكن سرعان ما تبددت مخاوفي حين طالعت المقال فوضح لي أن العنوان لا يترجم له. ويخيل إلى أن الأستاذ قد أغرى بمعارضة عنوان مقالاتنا المنشورة بمجلتي (المجتمع الجديد)(والرسالة) تحت عنوان (هل نملك تحريم تعدد الزوجات) فأوقعه ذلك - دون ما قصد - فيما ظنه مأخذاً علينا من عدم المطابقة نين العنوان والمقال. فالأستاذ يقرنا على أن الشرع قد أباح تعدد الزوجات إلى أربع ولم يحرمه بأي نوع من أنواع التحريم، ويؤيدنا في إنكارها علي معالي عبد العزيز فهمي باشا - أسبغ الله ثوب العافية - ما ذهب إليه من القول بأن الشرع يحرّم ذلك، وما ارتكبه دفاعاً عن هذا القول من (تعسف لم يقع نظيره من مسلم) بتأويله آي القرآن بما لا تحتمله، ورده السنن الواردة بالإباحة وتسفيهه الإجماع المنعقد عليها قولا وعملا في جميع العصور. . الخ لكنه (الأستاذ الصعيدي) يرى - مع ذلك - أننا (نملك تحريم تعدد الزوجات، ولكن بطريق ما كان يصح أن يخفى على حضرة صاحب المعالي العالم العلامة عبد العزيز فهمي باشا. .) ولم يبين لنا هذا الطريق صراحة وغن كان قد أشار إليه بما يفهم منه أنه طريق التشريع الوضعي القائم على استعمال ولي الأمر ماله من سلطان على عماله قضاة كانوا أو مأذونين بمنعهم من تحرير وثائق رسمية لعقود الزواج المتضمنة للتعدد أو سماع الدعاوى المترتبة على هذه العقود.
فأن كان هذا معناه - ولا يمكن أن يكون قد عنى سوى - فقد أخطأ القصد إلى التحريم وإلى حقيقة هدف الباشا وما خفي وما لا يخف على معاليه. ذلك أن الطريق الذي أشار إلية قد لجأ إليه الشارع المصري حقيقة في نظائر لتعدد الزوجات تحقيقاً لمقاصده الإصلاحية بما يناسب تطور الزمن وتغيير الأوضاع. ومن هذه النظائر مسائل إثبات النسب، والنفقة، والعدة، وتحديد سن الزواج الذي أشار إلية الأستاذ لكن هذا الشارع لم يتناول هذه الأمور
بتحريم قط، وما كان له أن يفعل إذ الحل والحرمة حكمان دينيان، والحاكم هو الله وحده جل شأنه، وإنما سلك الشارع المصري طريقاً سلبياً لا علاقة له بحل ولا حرمة، وهو كما قدمنا - طريق منع القضاة والمأذونين من سماع بعض الدعاوى وتحرير بعض الوثائق الخاصة بهذه الأمور. فلا ينبني على ذلك أن ينقلب الحرام منها حلالاً أو الحلال حراماً حتى يصح القول بأننا (نملك التحريم) وكل ما هنالك أنه عطل من الآثار المترتبة على هذه الأمور ما يستلزم الوصول إليه قضاء القاضي أو تحرير الوثيقة وترك الناس بعد ذلك أحراراً يتزاوجون ويقر بعضهم لبعض بالنسب ويؤدون لزوجاتهم ما عليهم لهن من نفقات غير مقيدين في ذلك إلا في بأحكام الدين. ويعتبر صحيحاً كل ما ينشئون بينهم من علاقات على هذا النحو، وتترتب عليه جميع الآثار الشرعية عدا ما ذكرنا من الآثار المعطلة. فلو طلق مسلم مصري زوجته ثم ولدت بعد الطلاق بأكثر من سنة ولم ينكر المطلق الولد ثبت نسبه منه شرعاً وترتبت للولد والوالد كافة الحقوق من نفقة وحضانة وولاية وتوارث وغيرها. ولو تزوج من يقل سنه عن ثماني عشرة سنة بمن يقل سنها عن ست عشرة سنة فزواجهما صحيح شرعاً تترتب عليه كافة الآثار الشرعية عدا المعطل منها. وكذلك الحال في باقي الأمور التي سلك فيها الشارع هذا الطريق السلبي.
بل أن العلاقات التي تنشأ من هذا القبيل في حدود الأوضاع الدينية صحيحة قانوناً أيضاَ وتترتب عليها كافة الآثار عدا ما نص على تعطيله. ومن ذلك أن مواقعه الزوج لزوجته التي يقل سنها عن ست عشرة سنة لا تعتبر جريمة، فلو لم يكن هذا الزواج صحيحاً قانوناً لاعتبارات جريمة هتك عرض ولا نطبق على الزوج حكم المادة 269 من قانون العقوبات - ومن ذلك أيضاً أن محكمة النقض والإبرام قد أصدرت في 29 نوفمبر سنة 1930 برياسة معالي عبد العزيز فهمي باشا نفسه حكمها المشهور بعدم اعتبار ذكر الشهود سناً غير حقيقية لأحد الزوجين في وثيقة العقد مع علمهم بسنه الحقيقية، جناية تزوير بناء على أن واقعة السن ليست من الأركان الأساسية في عقد الزواج لأنه يصح وينفذ وتترتب عليه أثاره الشرعية بدونها.
ولهذه الاعتبارات المتقدمة نرى الشارع المصري يعبر عما تناوله من هذه الأمور بتعبير يتفق وحقيقة ما قصد إليه من معنى سلبي لا يتعرض فيه لحل ولا حرمة، فيقول مثلاً (لا
تسمع الدعوى لنفقة عدة تزيد عن سنة من تاريخ الطلاق، كما أنه لا تسمع عند الإنكار دعوى الإرث بسبب الزوجية لمطلقة توفى عنها زوجها بعد سنة تاريخ الطلاق) (المادة 17 من المرسوم بقانون رقم 25 لسنة 1929) بخلاف الأحكام التي أوردها متفقة وأحكام الشريعة ولو في بعض المذاهب فقط، كقوله (لا يقع طلاق الكران والمكره)(المادة 1 من المرسوم بقانون سالف الذكر).
على أن سلوك المشرع المصري لهذا الطريق السلبي مبنى على قاعدة شرعية مقررة وهي (تخصيص القضاء بالمكان والزمان والحادثة) إلا أن تطبيق هذه القاعدة في مصر محل نظر ليس هنا مجال التبسيط فيه. وحسبي أن أجتزئ ببيان أن المقصود بهذه القاعدة وما يتفق مع ما حدث من تطبيقها في جميع عصور الإسلام المتقدمة، هو تخويل ولي الأمر، بما له من الولاية القضائية العامة، الحق في تنظيم هذه الولاية بين قضاته بما يتفق والصالح العام ومصلحة المتقاضين وحال القضية من أن بعضهم أكثر صلاحية للحكم في بلد دون آخر، وفي زمان معين دون زمان آخر، وفي بعض الدعاوى دون بعض. وليس المقصود بهذه القاعدة حرمان المتقاضين من التمتع بالآثار المترتبة على ما أحله الشرع، وإلا كان في ذلك تعطيل لبعض أحكامه الخاصة بترتب الآثار المتقدمة على تصرفات أجازها مما لا يدخل في نطاق هذه القاعدة ولا يمكن أن يكون مقصوداً بها. ولهذا قرر جميع من تعرضوا لبيان هذه القاعدة من أمثال أبن فروجون في تذكرته والماوردي في أحكامه السلطانية أنه إذا كف ولي الأمر جميع قضاته عن سماع الدعوى بناء على هذه القاعدة، وجب عليه أن يسمعها بنفسه كي لا تتعطل بعض أحكام الشرع، فليرجع إلى ذلك من شاء.
ومما تقدم يتبين بجلاء للأستاذ عبد المتعال أن الطريق السلبي الذي أشار إليه ليس طريقاً للتحريم بحال في وضعه الحالي، بل ولا يجوز (شرعاً) أن يترتب عليه تعطيل لبعض الأحكام المترتبة على تصرفات شرعية صحيحة ولذلك لم يقل به معالي عبد العزيز فهمي باشا في مسألة تعدد الزوجات، وما كان هذا الطريق ليخفى على مثل معاليه، ولكنه أراد شيئاً، مغايراً لما عناه الأستاذ، أراد (تقرير) التحريم بقانون على أنه حكم الشرع كما فهمه معاليه من النصوص القرآنية، لا (إنشاء) حكم جديد فعنوان مقالاتي في الرد على معاليه
يطابق موضوع النزاع بيني وبينه تمام المطابقة.
إبراهيم زكي الدين بدوي
من جامعات الأزهر وباريس وفؤاد
المتخصص في الشريعة الإسلامية والقانون
مجلس الشورى لا إبليس
لشاعر الهند المرحوم الدكتور محمد إقبال
بمناسبة أسبوعه الذي سيقام في (لاهور) آخر هذا الشهر
احتفالاً بذكراه
ترجمة الدكتور السيد محمد يوسف
كلمة المترجم
لا يزال العالم مسرحاً للنزاع بين الحق والباطل ولئن كانت كفة الحق رجحت في فترات من التاريخ ولا سيما إبان ظهور الإسلام ففي عصرنا هذا نرى الدنيا تعاني نظاماً إبليسياً يقوم على أساس استعباد الإنسان للإنسان. ومما يدعم هذا النظام أن الدين لم يعد يلعب دوراً إيجابياً في الحياة البشرية مع أنه بقى منه عناصر شتى في صورة مشوهة ممسوخة تعمل عمل الأفيون في تنويم الطبقات المهضومة الحقوق، مثل الاعتقاد بقضاء الله وقدره، ولكن أصبح من المقرر أخيراً أن الإنسانية متبرمة من هذا النظام وربما ظهرت هناك تيارات في الفكر واتجاهات في العمل تدل على أن الإنسان قد بدأ يتفقد نوع النظام الذي يكفل له ما يعوزه تحت النظام الحاضر، فتارة تسمع الأصوات تعلو مدوية ب (الحكم للأمة) وتارة أخرى نرى الناس يعجبون بتعاليم ماركس، ويهرعون إلى مبادئ الشيوعية التي كانت الفاشستية تعد قوتها لمناوئتها والقضاء عليها حين نظم الدكتور إقبال أبياته للترجمة فيما بعد في سنة 1936 - نعم نلاحظ جميع هذه التيارات المتضاربة فيخل إلينا أن النظام الإبليسي قد صار على وشك الانهيار وأن فجر السعادة سينبلج عن قريب. ولا غرو إذا غرو إذا أستدعى هذا الحال عقد جلسة هامة لمجلس الشورى لإبليس يوم كانت بوادر الحرب الماضية قد لاحت في الأفق لكل ذي بصيرة وخبرة. وها هو ذا الشاعر يطلعنا على ما جرى في تلك الجلسة بين إبليس ومستشاريه. والآن بعد أن اشتعلت الحرب العالمية ثم وضعت أوزارها، وفرعت الشعوب المختلفة من وضع القائمة لربحها وخسارتها - الآن نحن في موقف يسهل علينا فيه أن نحكم على حسن تدبير إبليس أو بعبارة أخرى صدق تبؤ الدكتور إقبال وبعد نظرة فيما صرح به من أن جميع الحركات الإصلاحية
ليست في الحقيقة إلا أجزاء من خطة واحدة مدبرة من تلقاء إبليس الذي لا يهدر سلطانه إلا الإسلام.
أما الإسلام فإنه وإن كان خطراً عظيماً بالقوة لكنه ليس بخطر بالفعل؛ لأن المسلم قد فقد الإيمان برسالته والثقة بنفسه؛ فأعتزل معترك الحياة وتنازل عن الدنيا فلا يهمه مصير الإنسانية وأوضاع العالم إذا هو شغل فكره في الترف العلمي المفسد لقوة العمل مثل الإلهيات والكلام؛ وإذن فليس على إبليس للاحتفاظ بسيادته على الأرض إلا أن يستمر في صرف نظر المسلم - عدوه الوحيد - عن الحياة والجهاد في سبيلها.
ولكن مهما يكن الحال باعثاً على الاطمئنان من ناحية المسلم فالخطر لا يزال متمثلاً أمام إبليس في طبيعة الإسلام وجوهره؛ لأن الإسلام ينطوي على استنكار الاستعباد بجميع أنواعه وتزكية الثروة وجعلها أمانة في يد المنعمين. وهاتان الناحيتان - السياسية والاقتصادية - هما اللتان تهمان الإنسانية في الوقت الحاضر. فلو اهتدت بمقتضى الظروف إلى اكتشاف مبادئ الإسلام - الملك لله والأرض لله - لفسد الأمر على إبليس فلذلك نراه يسهر على حجب هذا الطريق المستقيم عن أنظار الجمهور المتلمسين طريقه في الظلام ليبقوا حيارى متطرفين تارة إلى اليمين وتارة إلى الشمال.
ومما يجب التنبيه إليه أن رسالة إقبال - رسالة الجد والعمل المنتجين - هي تسخير الأسباب المادية والسيطرة التامة على الأحوال والنظم الاجتماعية دون الخضوع لها؛ فهو دائماً شديد الاغتباط بمظاهر الحركة والنشاط حتى في حياة إبليس ولا يملك الاستهزاء بالركود والجمود في الملائكة المشتغلين بالتسبيح والتقديس فقط كأنه يريد التأكيد بأن الفضل كل الفضل في المغامرة والمخاطرة لا في الانحياز وسلامة النفس. وهذا أسلوب مطرد للدكتور إقبال في معالجته لشخصيات موسوليني ولينين وماركس؛ فإنه ينوه بحيويته دون أن يتقيد بمراميهم. وسنرى هذا الأسلوب ينجلي أمامنا بصورة بارزة في هذه الأبيات المترجمة.
السنة سنة 1936 م
إبليس - هذه الدنيا لعبة العناصر من قدم، تقطعت أمال سكان العرش الأعظم حسرات عليها قد أزمع الآن على خرابها ذلك المصرف للأمور الذي سماها عالم الكاف والنون أما
أنا فقد أريت الإفرنج حلم الملوكية وأبطلت سحر المسجد والدير والكنيسة، وإني لقنت المعدمين درس القدر؛ وألهمت المنعمين جنون الرأسمالية. أفيطيق أحد إطفاء النار المستعمرة فيما تستند وقائعها إلى لوعة في قلب إبليس؟ وهل يطيق أحد قلع تلك النخلة التي تمتد أغصانها بتربيتنا نحن؟
المستشار الأول - لا شك أن هذا النظام الإبليسي محكم، إذ تأصل من جرائه العوام في طريق الاستعباد. هؤلاء المساكين قد قدر عليهم السجود من الأزل حتى أصبحت الصلاة بدون القيام من مقتضيات فطرتهم، لا يمكن أبداً يتولد فيهم أمل. ولئن ولد أحياناً فلابد من أن يموت أو يبقى فجاً ناقصاً. أن من معجزات سعينا المتواصل أن أصبح المتصوفون وأئمة الدين كلهم من عباد الفردية وإنما هذا الأفيون يوافق طبع الشرق، وإلا فعلم (الكلام) لا يقل شيئاً عن مزامير القوال. ولو بقى الاحتفال بالطواف والحج يهمنا من أمره؟ إذ أن سيف المؤمن المسلول قد فُل، وعلى قنوط مَن يدل هذا الفرمان الجديد أي قولهم أن الجهاد محرم على المسلم في هذا العصر؟
المستشار الثاني - أخبر هذا الضجيج بشأن (الحكم للجمهور) أم إذ لست مطلعاً على الفتن الناشئة في الدنيا
المستشار الأول - إني على علم، ولكن خبرتي بالدنيا ترشدني إلى أنه لا داعي للخطر أبداً من ناحية ما هو قناع للملوكية ليس إلا. نحن بأنفسنا خلعنا على الملوكية زي الجمهورية إذا تنبه ابن آدم قليلاً إلى عرفان نفسه وتقدير ذاته. أن أمر الملكية يمتاز بماهيته الخاصة بحيث لا يقتصر أبداً على وجود (الأمير والسلطان) سواء أكان هناك مجلس الملة أم أركان دولة أبرويز، (السلطان) عبارة عن كل ما يطمح ببصره إلى زرع غيره. أو لم تر إلى النظام الجمهوري في الغرب؟ الظاهر مشرق، أما الباطن فهو أظلم من جنكيز!
المستشار الثالث - كلما بقيت روح الفردية فلا داعي إلى الاضطراب. ولكن كيف تتسنى المعارضة لفتنة ذلك اليهودي الذي هو الكليم؟ إلا أنه ينقصه التجلي وهو المسيح؛ بيد أنه ليس معه صليب. ما هو بنبي ولكنه متأبط كتاباً. يعوزني التعبير عن نظرة ذلك الكافر الهتاك للأستاذ كأنما هي القيامة لأقوام الشرق والغرب. وهل يكون هناك أشنع من فساد الطبع هذا؟ أعنى أن الأرقاء قوضوا إطناب خيام مواليهم.
المستشار الرابع - انظر تر معارضة تلك الفتن في إيوان روما الكبرى؛ فإنا نحن قد جعلنا آل قيصر يحلمون بحلم قيصر مرة ثانية. من الذي يلتف بأمواج بحر الروم، يعلو تارة مثل الصنوبر، ويزمجر تارة أخرى مثل الرباب؟
المستشار الثالث - أنا لا أسلم في التبصر في العواقب لمن فضح سياسة الإنجليز بمثل هذا الطريق.
المستشار الخامس - (مخاطباً إبليس): يا من بحرارة أنفاسه يقوم أمر العالم! كلما شئت أنت هتكت آية خبية. بفضل حرارتك يتحول (الماء والطين) إلى عالم الحرقة والزمجرة؛ كما بأنه بإرشادك يصبح أبله الجنة بصيراً بالأمور. أن الذي يعرف بين العباد الساذجين باسم (الرب) لا يبزك أبداً في الخبرة بفطرة آدم. أن الذين يشتغلون بالتسبيح والتقديس والطواف لا غير، لا يزالون خجلين ناكسي الرؤوس أمام غيرتك. لئن كان جميع السحرة الإنجليز مطيعين لإرشادك على الرغم من ذلك فإني فقدت الثقة بفراستهم. ذلك اليهودي الفاتن الذي برز فيه مزادك قد أوشك أن يتمزق كل رداء من جراء جنونه. وقد أصبح الزاغ الصحراوي مساوياً لشاهين والصقر. ما أسرع طبيعة الدهر تبدلاً! تلك التي ظنناها قبضة من الغبار قد تبعثرت وحجبت الأملاك، وبلغ الذعر من الفتنة المنتظرة بالغد إلى أن ارتعدت منه الجبال والمروج وضعاف الأنهار. يا مولاي أن العالم الذي يعول على سيادتك فقط، ذلك العالم على وشك الانقلاب إبليس - (يخاطب مستشاريه): أن عالم اللون والرائحة بما فيه من الأرض والشمس والقمر والسماء طبقاً على طبق، إنما هو طوع بناني. وسيشهد الشرق والغرب بعينها ما يعجبهما إذا ما أحميت أنا دم أقوام أوربا. إنما تكفى صرخة واحدة منى لحمل كل إمام من أئمة السياسة وشيوخ الكنيسة على الغلواء. ولو كان أحد من السفهاء يرى أن الثقافة الحاضرة من صنع الزجاج فليجرب بنفسه كسر أدواتها من الكأس والكوب. أن الجيوب التي مزقتها يد الفطرة لا يمكن أبداً أن ترفأ بإبرة المنطق المزدكي. أنى يمكن أن يهولني هؤلاء الشيوعيون المترددون إلى الأزقة قلقي الأحوال موزعي الفكر مختلطي الأصوات؟ ولكن لو كنت أشعر بخطر فهو من جهة تلك الأمة التي ما تزال شرارة الأمل مخبأة تحت رمادها. لا يزال بين هؤلاء القوم عدد قليل من الظالمين الذين يتوضئون بالدموع بالأبكار. كل مطلع على بواطن الأيام يتأكد من أن فتنة الغد هي الإسلام لا
المزدكية.
- 2 -
أنا أعرف أن هذه الأمة لم تبق حاملة للقرآن، وأن الرأسمالية هي بعينها أصبحت ديناً للعبد المؤمن. ولا يغيب عنى أن أكمام شيوخ الحرم من اليد البيضاء للإضاءة في ليل الشرق البهيم. ولكني أخاف من مقتضيات هذا العصر أن تؤدي إلى تبيان الشريعة النبوية. وحذار ثم حذار من الدستور النبوي فأنه حافظ لناموس المرأة، ومبتلي المرء ومكونه. إنما هو إنذار بالموت لجميع أنواع الاستعباد حتى لا يبقى بعده لا الفغور أو الخاقان ولا المسكين المرابط بالطريق. هو يطهر الثروة ويزكيها من كل رجس ويجعل المنعمين أمناء على المال والثروة. وهل يكون انقلاب في الفكر والعمل فوق هذا:(الأرض لله لا للملوك) يا حبذا لو بقى دستور كهذا مخبأ عن عيون العالم. ومن المغانم أن المؤمن نفسه يعدم اليقين والخير في أن يبقى هو مشتبكاً في الإلهيات مشغولا في أوجه تأويل كتاب الله.
- 3 -
لا أضاء الليل المظلم للمتقي الذي تبطل تكبيراته طلسم الجهات الستة! هل مات ابن مريم أم هو حي خالد؟ هل صفات ذات الحق هي عين الذات أو منفصلة عنها؟ هل المقصود من (الموعود) هو المسيح الناصري أو المجدد المتصف بصفات ابن مريم؟ هل ألفاظ كلام الله قديمة أو حادثة؟ بأية عقيدة تنحصر نجاة الأمة المرحومة؟ هذه المجموعة من اللات ومناة من صنع الإلهيات. أولاً هي لشغل المسلم في هذا العصر؟ عليكم أن تجنبوه عالم العمل حتى تفشل كل خطة له في ميدان الحياة. الخير كله في أن يبقى المؤمن مستعبداً إلى يوم القيامة، متنازلا لمصلحة الآخرين عن هذا العالم الذي لا ثبات له. إنما يليق به الشعر والتصوف اللذان يحجبان عن نظرة مسرح الحياة. أنا لا أزال متخوفاً كل لحظة من يقظة هذه الأمة التي تنطوي حقيقة دينها على احتساب الكائنات. عليكم أن تشغلوه عن نفسه بالذكر والفكر وأن تحصروه في المزاج الخانقاهي (أي الرهبانية).
السيد محمد يوسف الهندي
ظواهر في حياتنا الأدبية
للأستاذ أنور المعداوي
في حياتنا الأدبية ظواهر تستوقف النظر، وتغرى بالبحث، وتدعو إلى التأمل والمراجعة. وتستطيع أن تسمى كل ظاهرة من هذه الظواهر مشكلة تتعدد فيها الجوانب، وتتشعب الزوايا، وتبقى بعد ذلك في انتظار العلاج! ولك أن تضع مشكلة النقد الأدبي في مقدمة المشكلات التي تعانيها الحياة الأدبية عندنا في هذه الأيام؛ فالنقد الأدبي في مصر هو (نقد الأغمار) كما سماه الأستاذ العقاد وأصاب في التسمية. ولقد تناول الأستاذ العقاد هذه المشكلة في معرض حديثه عن أحد الكتب التي ظهرت حديثاً حول فتنة عثمان، تناولها من زاوية الإشارة ولفت الأنظار، لا من زاوية النفاذ إلى مكامن العلل والأسباب، ومن هنا كانت اللفتة العابرة في حديثه أشبه بلقطة (الكاميرا) السريعة التي تجيد اختيار الزاوية عند التقاط الصورة. . . أما أنا فأحب أن ألتقط الصورة من زواياها المتعددة لأستطيع أن أعرض للمشكلة لوحة لا تنقصها وفرة (الرتوشن)! أول زاوية يمكن أن ننظر منها إلى المشكلة هي أن أكثر الذين يتولون صناعة النقد لا يصلحون لها؛ فبعضهم تنقصه الثقافة الرفيعة فهو من أنصاف المثقفين، وبعضهم تنقصه التجربة الكاملة فهو من المبتدئين، وبعضهم ينقصه الذوق المرهف فهو من ضعاف الملكة وقاصرى الأداة. هذه الأركان الثلاثة من أركان النقد الأدبي نضعها مجتمعة في كفة، لنضع في الكفة الأخرى ذلك الركن الخطير الرابع ونعنى به الضمير الأدبي. . . وهو وحده مشكلة المشكلات وماذا تجدي الثقافة، وماذا تجدي التجربة، وماذا يجدي الذوق، إذا كان الضمير الأدبي لاوجود له؟ لاشيء يجدي على الإطلاق، لأن الضمير يوجه الثقافة فلا تجوز، ويهدي التجربة فلا تضل، ويرشد الذوق فلا ينحرف. . . وماذا نفعل وأصحاب الضمير الأدبي في مصر هم فئة من ذوى الأهواء والأغراض، يسيرون في ركاب هذا ذاك، يصفقون وليس هناك ما يدعو إلى ما يدعو إلى التصفيق، ويهتفون وليس هناك ما يدعو إلى الهتاف؟! الضمير الأدبي في مصر هو مشكلة المشكلات. وأعجب العجب أن الذين يتولون صناعة النقد في هذه الأيام لا يشعرون بأنهم معرضون لميزان الناقدين، وأنهم حين يظفرون بثناء بعض الناس يفقدون احترام الآخرين. . . إنهم لا يشعرون بشيء من هذا لأنهم أغمار، ولأنهم أصحاب أهواء وأغراض!
النقد الأدبي في مصر تنقصه هذه الدعائم الأربع مجتمعة: الثقافة، والذوق، والتجربة، والضمير. . . وأقوال مجتمعة لأن هناك المثقف المحروم من الذوق، فهو قد يوفق حين يقدم إليك نظرية في النقد الأدبي؛ ولكنه يخفق إذا ما وصل إلى مرحلة التمثيل والتطبيق؛ نملك لأن موهبة الذوق الفني عنده لم تنضج كل النضوج، والنقد في أصدق صوره وأكملها لا يقوم إلا على التوفيق بين القاعدة والمثال. . . وهناك المثقف الذي لم يمد ثقافته بروافد من التجربة الكاملة، ونعنى بها معالجة الكتابة في النقد الأدبي على هدى الإحاطة التامة بأصوله ومناهجه. . . وهناك المثقف الذي مجتمع له الثقافة والذوق والتجربة ولكنه يتخلى عن ضميره لقاء غرض من الأغراض!
هذه هي بعض الزوايا التي ننظر منها إلى من يتولون صناعة النقد في هذه الأيام، وتبقى بعد ذلك زاوية لا تقل عن سابقاتها خطورة، وهي أن هؤلاء الناس تنقصهم صفة التخصص؛ فبعضهم يتحدث عن القصة وهو لا يعرف شيئاً في فن القصة، وعن المسرحية وهو لا يدرك على أي الدعائم يجب أن يقوم البناء الفني للمسرحية وعن التاريخ الأدبي وهو لا يستطيع أن يفرق بينه وبين غيره من ألوان الدراسة الأدبية، وعن الشعر وهو محروم من نعمة الشعور! ومما يبعث على الأسى والأسف أن بعض الأدباء ممن كانوا يحذقون صناعة النقد قد انصرفوا عنها إلى الكتابة في الصحف اليومية جرياً وراء المادة، غير مبالين بالفراغ الذي تحسه المكتبة العربية في هذا المجال منذ سنين!
ونترك النقد الأدبي لنتحدث عن مشكلة أخرى هي مشكلة القصة المصرية الحديثة. . . وأول شيء نقرره هو أن القصة عندنا لا تزال تخطو فتتعثر، سواء في ذلك القصة الطويلة أو القصيرة التحليلية أو الموضوعية، التاريخية أو الذاتية، ومرجع هذا إلى أن كتابنا القصصيين لا يسيرون على القاعدة التي وضعها مارك سوان حين قال:(يجب أن يكون للقصة تصميم فني كذلك الذي يضعه المهندس المعماري للبناء؛ أو كتلك المذكرات التي يعدها المحامي قبل مباشرة إحدى قضاياه). . القصة عندنا ينقصها التصميم الفني؛ ينقصها كيف تبدأ، وكيف تسير، وكيف تنتهي؛ دون أن يكون هناك شذوذ أو اضطراب في هذه المراحل الثلاث! وكتاب القصة عندنا ينقصهم الفهم الصادق لأصول الفن القصصي في كثير من الأحيان؛ فمنهم من يعتقد أن الواقعية في القصة مثلا هي أن ينقل عن الواقع،
المادي المحس، نقلاً يتركز في لفظ أو يتمثل في عبارة! الواقعية هي أن تنقل الحياة إلى الورق - لا كما كانت - ولكن كما يمكن أن تكون. . . الواقعية هي أن تسير الحادثة مع مجرى الحياة. . . الواقعية هي أصدق في التعبير بحيث لا يطغى الخيال على الواقع، ولا يجوز الفن على الطبيعة. الواقعية بمعنى آخر هي الدقة في تصوير انعكاس الحياة على حواس الفنان. فأين كتاب القصة المصرية من هذه المعاني؟! إنهم لا يفرقون في كثير من الأحيان بين أصول القصة التحليلية والموضوعية، ومن هنا تجدهم يحفلون في كل قصة من هذا اللون أو ذاك بالنهاية المفتعلة والعقدة المنافية لمجرى الحياة، ليحدثوا شيئاً من المفاجأة يثيرون به إعجاب القارئ، ولو كانت تلك المفاجأة على حساب الفن. . . مع أن القصة التحليلية حين تبلغ غايتها من تشريح العواطف والأهواء، لا تكون محتاجة في الغالب إلى المفاجآت؛ لأن هدفها الأول هو وضع العواطف الإنسانية تحت مجهر التحليل النفسي!
وتلمس إلى جانب ما ذكرت بعض الظواهر الأخرى التي لا تزال تترك أثرها العميق في بناء القصة المصرية، تلمس الحوار المصنوع، لأن كتابنا القصصيين يتخيلون أن فن الحوار يتمثل في اللفظ الأنيق، والمعنى الرشيق، والعبارة الموشاة، دون أن يرجعوا إلى الحياة ليروا أن كانت تطيق هذا كله أو لا تطيقه. الفن في الحوار في الصناعة اللفظية، ولكنه إنطاق الشخوص بما يمكن أن تنطقها به الحياة، فلا يتحدث أحد الخدم مثلا كما يتحدث سارتر أو كسير كجورد، ولا ينطق أحد الجهلاء كما ينطق بيكون أو ديكارت! وتنظر فتجد أكثرهم يحركون في قصصهم شخوصاً من صنع المخيلة لا من صنع الحياة، مخيلتهم هي التي ترتب المنظر، وتحرك الشخوص، وتصنع الحوار، فاكون النتيجة زيفاً في العمل الفني يبعد القارئ عن جو الواقعية الذي تنشده كل قصة يرجى لها البقاء؟ وتبحث عن تصوير الجو الشرقي والروح المصرية فلا تقع عليه في كثير مما أخرجه كتاب القصة في السنين الأخيرة. وهذا راجع إلى السطو على الفكرة في القصة الغربية ونقلها بمهارة إلى القصة المصرية كما يفعل الأستاذ توفيق الحكيم، تماماً كما تأتي من غانيات باريس فتنزع عنها آخر ما ابتكرته محال الأزياء الباريسية ثم تلبسها (الملاءة اللف!) قد تكون أجمل، وقد تكون أكثر فتة، ولكنها تتعثر في مشيتها ولا تستطيع أن
تواصل السير. وكيف تستطيع وهذا اللباس الغريب يحد من حرية الجسم ورشاقة الحركة؟!
وكثير من قصاصينا تنقصهم صفة الخروج إلى الحياة. . . ومن هنا تفوح من قصصهم رائحة (الجدران المغلقة)، ونعني بها تلك الأركان المنعزلة التي يقبعون فيها ليرسموا للحياة لوحة تستمد ظلالها وأضواءها وألوانها من جو المحال العامة والأندية الخاصة. . . الفنان الحق ومن يخرج إلى الحياة ليستخدم كل حواسه في تذوق معانيها، ونقل كل ما يمكن أن يلهب الخيال فيها إلى لوحات من التصوير الفني، والفن - كما قلت غير مرة - ما لم يتصل، بالحياة فهو همود وجمود وموت!
وإذا ما انتقلنا إلى المشكلة الثالثة وهي مشكلة المسرحية المصرية الحديثة في أي لون من ألوانها سواء كان هذا اللون هو الدرامة أو الميلودرامة أو الكوميديا، وجدنا أن خطوات العمل الفني فيها أكثر تعثراً منه في القصة، ومرجع هذا أيضاً إلى أن من يعالجون كتابة المسرحية في مصر أناس لا يلمون كل الإلمام بأصول الفن المسرحي. إن نجاح المسرحية يتوقف إلى حد بعيد على توفيق الكاتب في اختيار الفكرة أولاً، ثم على تهيئة الجو المسرحي لفكرته تهيئة تعتمد أول ما تعتمد على بعث الحياة والحركة في الحوار، وفيما يعرض من نماذج بشرية يتعمد في تحريكها عن جو الدُّمى وقطع الشطرنج، وعلى عنصري التشويق والمفاجأة، وعلى لتسلسل الفني في عرض الحوادث عرضاً لا تحس فيه انقطاع الصلة بين الفن والحياة أما أساس العمل الفني في المسرحية فهو (الصراع)؛ النفسي والفكري والفني كما يقسمه واضع الدعامة الأولى للأدب المسرحي الحديث هنريك إبسن، وأما الصراع النفسي فهو ذلك الذي يكون بين ميول نفسية، والفكري هو ذلك الذي يكون بين ميول ذهنية، والفني هو ذلك الذي يتمثل في عملية الحوار، من ناحية صدق الصلة بينه وبين كل شخصية تلعب دورها على المسرح. كل هذه الدعائم لابد من توفرها ليتم البناء الكامل للمسرحية الناجحة، وقد تجد بعض هذه الدعائم متوفراً في المسرحية المصرية؛ ولكن مصدر إخفاقها هو خلوها في كثير من الأحيان من عملية (الصراع) بأركانه الثلاثة مجتمعة، وبخاصة الصراع النفسي، فليس منه إلا ومضات قليلة مبعثرة تشع هنا وهناك.!
هذه هي الظواهر التي خرجت بها من دراستي لبعض جوانب حياتنا الأدبية في السنين
الأخيرة، وهي ظواهر تستطيع كما قلت لك أن تلمس في كل منها مشكلة تتعدد فيها الجوانب، وتتشعب الزوايا، وتبقى بعد ذلك في انتظار العلاج!
أنور المعداوي
من ظرفاء العصر العباسي:
2 -
أبو العيناء
191 -
283 هـ
للأستاذ صبحي إبراهيم الصالح
وما أستطيع - ولا أحسبك تستطيع - أن تكتم إعجابها بهذا الظريف وهو يدلك على مواطن الغنى من نفسه، ومواضع العزة في تصرفاته، إذ يوحي إليك أنه غض الطرف عن زهرة الحياة الدنيا، وكف البصر من متاعها القليل وعرضها الأدنى. فينشد مزهواً مرفوع الهامة:
الحمد لله ليس لي فرس
…
ولا على باب منزلي حرس
ولا غلام إذا هتفت به
…
بادر نحوي كأنه قبس
ابني غلامي وزوجتي وأمَتي
…
ملكنها المِلاك والعرس
غنيت باليأس واعتصمت به
…
عن كل فرد بوجهه عبس
فما يراني ببابه أبداً
…
المحيا سمح ولا شرس
إذن هو يحمد الله - الذي لا يحمد على مكروه سواه - على أنه لم يجعل له مالا ممدودا؛ فليس له خيل مسومة، وأفراس مطهمة، وليس له على الأبواب، حراس ولا حجاب؛ ولا له غلمان وجوار، كأنهم في المبادرة نحوه شعلة من نار: وإنما غلامه الوحيد ابنه وفلذة كبده، وجاريته الفريدة هي زوجته التي دفع إلى أوليائها مهرها فملكها بعد وليمة عرسه. . . فحسبه اليأس مما في أيدي الناس، فأن فيه غني النفس يعتصمن به عن الذين يصعرون الخد، ويقطبون الجبين؛ بل ليأخذن ميثاق نفسه لما أفقرته هزاهز الدهر ثم قعدت به الأيام عن طلب الرزق ليعتزن بكرامته، فلا يقرع باب مخلوق متزلفاً متملقاً، ولا يسأل من الناس سمحاً ليناً لطيفاً، ولا شرساً قاسياً عنيفاً، أعطوه أو منعوه!
يالها من مهارة!
أما وإن هذه المهارة عند أبي العيناء في إبراز شخصيته هي التي أكسبته ثقة بنفسه لا تتزعزع، وأخافت كثيرين من التصدي لمعارضته، لأنه كان سريع الجواب حاضر البديهة
لاذع النكتة؛ ما جابه إنساناً غلا غلبه، ولا ناقشه إلا أقحمه، ولا جادله إلا ظهر عليه.
ولا ريب أن لسماعه من الأصمعي وأبي عبيدة والأنصاري والعتبى وأبي عاصم النبيل الذين سبق أن ذكرنا أسمائهم فضلا كبيراً على فصاحته وبلاغته، ولسنه وظرفته؛ وعذوبة شعره وسهولة نثره، وحسن اختياره، في رواية أخباره!
ولقد كانت حياة هذا الظريف حافلة بكل مدهش وغريب، فإذا كان قد عاصر المأمون والمعتصم والواثق، فأنه عاصر بعد عماه المتوكل الذي دام أربعة عشر عاماً فأمسى أبو العيناء في السادس والخمسين، ثم عاصر ابنه الذي دام ستة أشهر فأتم أبو العيناء السابع والخمسين، ثم المستعين الذي خلع بعد أن بقى أربعة أعوام فصار أبو العيناء في الواحد والستين، ثم المعتز الذي خلع نفسه بعد ثلاثة أعوام فأصبح أبو العيناء في الرابع والستين، ثم المهتدي الذي خلع بعد أقل من عام فأضحى أبو العيناء في الخامس والستين، ثم المعتمد الذي ظل ثلاثة وعشرين عاماً فأشرف أبو العيناء على الثامن والثمانين، ثم المفوض الذي خلع نفسه في السنة ذاتها، وأخيراً حضر ثلاث سنوات أو أربعاً من خلافة المعتضد توفى على أثرها سنة اثنتين وثمانين ومائتين كما قال الدارقطني، أو سنة ثلاث وثمانين ومائتين كما قال أبو جعفر بن أبي العيناء. ولا يأس إذا رجحنا رواية الابن في هذا المقام. وهكذا فقد عاش أبو العيناء ثلاثة وتسعين عاماً، أو قل إنه عاش قرناً إلا قليلاً!
وما بهذا بالعمر القصير. . . فقد تقلبت في حياة أبي العيناء عصور كثيرة فرأى في خلالها تعز وتذل، وحكومات تحيا وتموت، وأبطالا يسوقون الناس غلى الموت ثم يساقون إلى الموت، ورجالا أكبروا النظام وبنوا، جماعات استحبوا الفوضى فهدموا وحطموا: وكان لهذه المشاهد في نفسه آثار كانت تتفاوت قوة وضعفاً، وإيجاباً وسلباً، وغموضاً ووضوحاً فتعلم الثقة بنفسه حين ألقى ثقته بالناس لا تنفعه، ورأى بهجة الدنيا لا تستحق العناء لما قاسها بمصائبها التي تكدر صفوها، فإذا هو يبكي على حرمانه، ثم يزهد زهادة الفقير الضعيف، ثم يتشكى إلى نفسه، وينشد من صميم قلبه:
تولت بهجة الدنيا
…
فكل جديدها خلَق
وخان الناس كلهم
…
فما أدى بمن أثق
رأيت معالم الخيرا
…
ت سدت دونها الطرق
فلا حسب ولا أدب
…
ولا دين ولا خلق!
وإن مجتمعاً خالياً من روح الثقة بين أفراده وجماعاته، قد سدت الطرق دون معالم الخيرات فيه، حتى أبطأ بالحسيب حسبه حين لم يسرع، به عمله وجنى على الأديب أدبه حين كسدت بضاعته، ولم يرفع المتين دينه حين ضعفت مكانته، ولم يعز الفاضل خلقه حين ضاعت كرامته - إن مجتمعاً هذه بعض أوصافه ليس بالمستقر الصالح، ولا المثابة الآمنة.
لكن أبا العيناء - على سخريته بمجتمعه، واستخفافه بأهل زمانه - قد أدرك الحقيقة التي لا تخفى على الحكيم، وعرف كثيراً من أسرار القلوب وخبايا النفوس التي لا تكشفها إلا التجارب، فوازن بين فصاحة الفصحاء وسوء حالهم، وبين دراهم الأغنياء ونعومة عيشهم، فعصر الألم فلبه وأنطق لسانه، ففاض شعره بالحسرة وهو يقول:
من كان يملك درهمين تعلمت
…
شفتاه أنواع الكلام فقالا
وتقدم الفصحاء فاستمعوا له
…
ورأيته بين الورى مختالا
لولا دراهمه التي في كيسه
…
لرأيته شر البرية حالا
إن الغني إذا تكلم كاذباً
…
قالوا صدقت وما نطقت محالا
وإذا الفقير أصاب قالوا لم تصب
…
وكذبت يا هذا وقلت ضلالا
إن الدراهم في المواطن كلها
…
تكسو الرجال مهابة وجلالا
فهي اللسان لمن أراد فصاحة
…
وهي السلاح لمن أراد قتالا
ولما آمن الدراهم هي لسان الفصيح، وسلاح المقاتل، بحث عنها فلم يجدها، أو قل إنه وجد القليل منها، فأخذ يعزى نفسه بالنكتة اللاذعة، والداعبة الموفقة، والرواية الطريفة، يدخل بها السرور على قلبه المحزون وعلى قلوب جلسائه ومعارفه، حتى اشتهر أمره بين أهل عصره، وذاع صيته بين أعلى الطبقات وأوسطها وأدناها، فنادم بعض الخلفاء والأمراء والوزراء، كما حاور الأدباء والشعراء والظرفاء، ثم ساير العامة العاديين: فكان الجميع معه على أمرهم مغلوبين!. . .
- 4 -
ويبدو أن المتوكل كان أشد الخلفاء رغبة في اتخاذ أبي العيناء نديماً، حتى قال ذات مرة لجلسائه:(لولا أنه ضرير لنادمناه) فلمما بلغه ذلك قال: أن أعفاني من رؤية الأهلة ونقش
الفصوص صلحت للمنادمة) هذه رواية معجم الأدباء، وتجد مثلها في تاريخ بغداد (ص174 ج3). وكان هذا الجواب باعثاً على إرسال المتوكل في طلبه. فلما دخل عليه في قصره المعروف بالجعفري سنة ست وأربعين ومائتين قال له:(ما تقول في دارنا هذه؟ فقال أبو العيناء: أن الناس بنوا الدور في الدني، وأنت بنيت الدنيا في دارك: فاستحسن كلامه ثم قال له: كيف شربك للخمر؟ قال: أعجز عن قليله، وأفتضح عند كثيره. فقال له: دع هذا عنك ونادمنا. فقال: أنا رجل مكفوف، وكل من في مجلسك يخدمك وأنا محتاج أن أخدم. ولست أمن من أن تنظر إليَّ بعين راض وقلبك على غضبان، أو بعين غضبان وقلبك راض، ومتى لم أميز بين هذين هلكت؛ فأختار العافية على التعرض للبلاء. فقال: بلغني عنك بذاء في لسانك. . . فقال: يا أمير المؤمنين، قد مدح الله تعالى وذم فقال (نعم العبد إنه أواب) وقال عزوجل (هماز مشاء بنميم) وقال الشاعر:
إذا أنا بالمعروف
…
ولم أشتم النكس اللئيم المذمما
ففيم عرفت الخير والشر باسمه
…
وشق لي الله المسامع والفما؟
ما أحسنه من تخلص!
يعتذر أبو العيناء عن خبث لسانه بأنه لا يشتم إلا اللئيم، ولا يهجو إلا الذميم، كما أنه لا يثنى إلا على صاحب المعروف، ولا يمدح إلا الحقيق بالمدح، كأنه يريد أن يقنع السامع بصدقه في شتمه وهجائه، وفي مدحه وثنائه؛ لأنه يذكرك بأن معرفة الشر باسمه، أو الخير برسمه، تدل على تفكير ساذج لا يعدو ظواهر الأمور، ولصاحبه أذن لا يسمع بها، ولسان لا ينطق به: لأن الإنسان الذي لا يعبر عما يسمع وتفهَّم ملتو بيانه، مائل ميزانه.
ولنا - أمام هذا العرض الواضح - أن نقرر أن أبا العيناء كان شديد الصراحة في التعبير عن رأيه الخاص، يحب مجابهة كل إنسان بما يلمس فيه من عيب، وللعيب مقياس شخصي عنده لا يوافقه عليه كثير من الناس. ويبرز لنا هذا المعنى من نفسه جوابه الشافي لمن سأله:(إلى متى تمدح الناس وتهجوهم؟ قال: مادام المحسن يحسن، ومادام المسئ يسئوأعوذ بالله أن أكون كالعقرب تلسع النبي والذمي!).
وقد تبلغ به الصراحة مبلغاً يحمله على الاعتراف بما يؤذيه، ولا سيما إذا غلبته على أمره. فاه ساعتئذ ينساق مع ما يجيش في نفسه، ومع ما يلذ لسماعه، ولو اتهم برقة في دينه،
وضعف في يقينه، وزلزلة في عقيدته.
دخل يوماً على المتوكل فقدم إليه طعام؛ فغمس لقمته في خل كان حاضراً وأكلها. فتأذى بالحموضة، وفطن الخليفة له فجعل يضحك. فقال:(لا تلمني يا أمير المؤمنين! فقد محت حلاوة الإيمان من قلبي)!
وإن رجلاً يعرض بمحو حلاوة الإيمان من قلبه ليستر امتعاضه بدعابته - لرجل صريح ما في ذلك ريب. ومثله لا يرى في بذاءة اللسان عند اللزوم إلا وصفاً للواقع، فهو في سفاهته يتحدث عن صراحته، لا يسأل عمن أمامه، ولا يكترث بما يحيط به. . .
كان المتوكل يكره التشيع لعلي بن أبي طالب وآله. فسأل أبا العيناء: (هل رأيت ببغداد منذ ثلاثين واحداً. قال: نجده كان مؤاجراً (يؤجر نفسه) وكنت أنت تقود عليه. فقال: يا أمير المؤمنين أو يبلغ هذا من فراغي؟ أدع موالي مع كثرتهم وأقود على غرباء؟
فقال المتوكل للفتح: أردت أن أشفي لهم مني!) وهذه صراحة منفعة النظير لم يشجع أبا العيناء عليها استخفاف المتوكل بالطالبين ورميه إياهم بعبارات لا تليق بقدر ما شجعه عليها اعتقاده الخاص بآل البيت ورغبته في إفحام الخليفة نفسه. ولست أ ' ني بهذا أنه كان متشيعاً لآل البيت، فما يكون يأبه لشيء من هذا، وإنما كان يكون لنفسه رأياً خاصاً في كل من يلفاه: يصاحب من يريد، ويخاصم من يريد، ويهمه - قبل كل شيء - إلا يعلو عليه مخلوق.
وكما ظهر أبو العيناء بمظهر المدافع عن آل البيت ليفحم الخليفة المتوكل بجوابه، خاصم يوماً علوياً ولم يكترث بتشيعه. فقال له العلوي:(تخاصمني وقد أمرت أن تقول: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد؟ فقال: لكني أقول الطيبين الطاهرين فتخرج أنت!).
فالرجل معارض من الطراز الأول، ومولع بأن تظفر معارضته حيث كان، وأمام كل إنسان مهما كان؛ ولكنه إذا سمع ما فيه مقنع لنفسه بعد طول الحوار يرضى به ويبدي إعجابه ولو صدر من صبي أو غلام. نعرف هذا من قوله (أخجلني ابن صغير لعبد الله ابن خاقان قلت له: وددت أن لي إبناً مثلك. قال: هذا بيدك! قلت: كيف ذلك؟ قال: تحمل أبي على امرأتك فتلد لك ابناً مثلي).
وأظن هذا عائداً إلى صراحته حتى بعثه إعجابه بالصغير على الخجل منع وعلى تسجيل
هذا الخجل على نفسه. فلا تتغرب منه بعد ذلك أي موقف أمام المتوكل وغيره وترك فيه نفسه على سجيتها، ولم يتكلف ولم يصطنع.
أنظر إليه وقد دخل على عبيد الله بن عبد الله بن ظاهر وهو يلعب بالشطرنج فقال: في أي الحيزين أنت؟ فقال: في حيز الأمير أيده الله. وغلب عبيد الله فقال: يا أبا العيناء قد غلبنا. وقد أصابك خمسون رطل ثلج. فقال ومضى إلى ابن ثوابه وقال: أن الأمير يدعوك. فلما دخلا قال: أيد الله الأمير؛ قد جئتك بجبل همذان وما سبذان ثلجاً فخذ لمداعبة الأمير غلا ابن ثوابة، فاتهمه بالبرودة وجعله جبلاً من الثلج؛ فما رجا لأبن ثوابة وقاراً، ولا استحيا من الأمير!
وموقفه مع جميع الأمراء كمواقفه مع الدهماء. ولقد حجبه أمير ثم كتب إليه يعتذر منه فقال: (تجابهني مشافهة وتعتذر إلى مكاتبة؟)، وشكا تأخر أرزاقه إلى عبيد الله بن سليمان، فقال له:(ألم نكن كتبنا لك إلى أبن المدبر؟ فما فعل في أمرك؟ قال: جرني على شوك المطل، وحرمني ثورة الوعد. فقال: أنت اخترته. فقال: وما عليّ وقد (اختار موسى قومه سبعين رجلاً) فما كان منهم رشيد (فأخذتهم الرجفة)، واختار النبي صلى الله عليه وسلم أبن أبي سرح كاتباً فلحق بالمشركين مرتداً، واختار علي أبن أبي طالب أبا موسى الأشعري حكماً فحكم عليه؟).
أما نوادره مع الوزراء فأكثر من أن تحصى، وأبدع من أن تروى، ولا معدي لنا عن ذكر بعضها من غير تعليق تمثيلاً للقارئ وترويحاً عن نفسه:
دخل على أبي صقر إسماعيل بن بلبل الوزير فقال له: (ما الذي أخرك عنا يا أبا العيناء؟ فقال: سرق حماري. فقال: وكيف سرق؟ قال: لم أكن مع اللص فأخبرك. قال: فهلا أتيتنا على غيره؟ قال: قعد بي عن الشراء قلة يساري، وكرهت ذل المكارى ومنة العوارى).
ووعده ابن المدبر يوماً أن يعطيه بغلاً، فلقيه في الطريق. فقال:(كيف أصبحت يا أبا العيناء. فقال أصبحت بلا بغل) فضحك منه وبعث به إليه.
وحمله وزير على دابة؛ فانتظر علفها. فلما أبطأ عليه قال: (أيها الوزير! هذه الدابة حملتني عليها أو حملتها عليّ!).
وكان يتطاول على الوزير أحمد بن الخصيب حتى وضع كتاباً في ذمه حكى فيه: (أن
جماعة من الفضلاء اجتمعوا في مجلس، وكل منهم يكره أبن الخصيب لما كان فيه من الفدامة والجهالة والتغفل، فتجاذبوا أطراف الملح في ذمه؛ فقال أحدهم: كان جهله غامراً لعقله، وسفهه قاهراً لحلمه. وقال آخر: لو كان دابة لتقاعس عن عنانه، وحرن في ميدانه. وقال آخر: كنت إذا وقع لفظه في سمعي أحسست النقصان في عقلي. وقال بعض كتابه: كنت أرى قلم أبن الخصيب، يكتب بما لا يصيب، ولو نطق لنطق بنوك عجيب. وقال آخر: لو غابت عنه القافية لنسيها. وقال أبو العيناء في آخر هذا التصنيف: (كان أبو الخصيب إذا ناظر شغب، وربما رفس من ناظره إذا عجز عن الجواب، وخفي على الصواب، واستولت عليه البلادة، وعرى كلامه من الإفادة؛ وكان إذا دنوت منه غرك، وإن بعدت عنه ضرك، فحياته لا تنفع وموته لا يضر.
لذلك هجاه قائلاً:
قل للخليفة يا أبن عم محمد
…
أشكل وزيرك إنه ركال
قد أحجم المتظلمون مخافة
…
منه، وقالوا ما نروم منه مجال
ما دام مطلق علينا رجله
…
أو دام للنزق الجهول مقال
قد نال من أعراضنا بلسانه
…
ولرجله بين الصدور مجال
امنعه من ركل الرجال وإن ترد
…
مالا فعند وزيرك الأموال
فما زاد أبو العيناء على أن جعل أبن الخصيب ركالاً يطلق رجله على الناس، وطالب الخليفة بأن يضع فيه الشكال الذي تقيد به الدابة. وأحسب أن هذا منتهى ما يصل إليه الهجاء!
(البقية في العدد القادم)
صبحي إبراهيم الصالح
من العصور الوسطى
إلى الأزمنة الحديثة
تأليف هانز كوهين
3 -
المرأة الجديدة
خطت تركيا والشعوب الإسلامية في الاتحاد السوفيتي خطوة حاسمة في العصر الحديث نحو تحرير نسائهم، ومساواتهن بالرجال أمام القانون وفي الحياة العامة. ولكن لا تزال مصر والأقطار العربية في مفترق الطرق. وقد نشطت حركة تحرير المرأة في مصر والبلاد العربية في الجيل الماضي، وأحرزت نجاحاً في مسالة قانون الزواج. ولعبت المرأة دوراً إيجابياً في الجهود الوطنية من أجل الاستقلال منذ الحرب العظمى (الأولى).
وكانت صفية زغلول تقف دائماً إلى جانب سعد، ومثلته وهو في منفاه، واستحقت لقب الشرف: أم المصريين. إذ التفت حولها مجموعة من سيدات المجتمع، ونشطن في نصرة زغلول.
وقد قامت الحركة النسائية في مصر بدور معقول تحت رئاسة هدى هانم شعراوي أرملة شعراوي باشا الذي اصطحب سعداً في نوفمبر 1918 عندما ذهب إلى المندوب السامي البريطاني لعرض المطالب المصرية. وفي مارس 1923 أنشئ اتحاد نسائي مصري. فأرسل وفداً إلى الاتحاد النسائي الدولي بروما. وقد أشارت هدى هانم شعراوي في خطابها إلى التصورات الزائفة عن مركز المرأة في الإسلام التي تسود الغرب.
وأعلنت إن الذي تحتاجه المرأة هو التعليم وتعديل قانون الزواج، لضمان مركزها اللائق بها.
وكان من نتيجة الحركة الوطنية الكبرى في 1919 أن ظهرت المصريات بعد طول حجاب، في وقت كانت الأمة في حاجة إلى كل قواها لنيل الاستقلال. فاتحدت النساء مع الرجال، ولعبن دوراً عظيماً في الكفاح، كاتبات في الصحف ومؤسسات للجرائد. وأسسن من مواردهن الخاصة مدارس للصناعات اليدوية للفقراء، وفتحن العيادات للأطفال المشردين، ونظمن الجماعات الأدبية والثقافية.
وقد يعتبر المشروع الذي يناقش قانون الزواج الإسلامي - المقدم في عام 1929 - نجاحاً أحرزته الحركة النسائية المصرية، إذ يجعل الطلاق اكثر صعوبة، وللزوجة الحق في طلب الطلاق إذا أساء الزوج المعاملة لدرجة تجعل حياتهما غير محتملة.
ويمكنها طلب الطلاق إذا هجرها زوجها لأكثر من عام، وبدون سبب وجيه، أو إذا حكم عليه بالحبس ثلاثة أشهر على الأقل. وفي المشروع قواعد جديدة تتحكم في رفض الزوج إبقاء زوجته، وحالات النزاع حول الصداق. وترك الأبناء مع أمهم حتى سن التاسعة، والبنات حتى الحادية عشرة، وذلك في حالة الشقاق والانفصال.
ويبطل الطلاق إذا أعلنه الزوج مضطراً، أو في حالة سكر. وليس للقاضيأن يرفض طلاقاً، ولكن عليه مناقشة الأسباب ومحاولة النصح بالصلح. ومع أن هذه الشروط تمثل حدوداً واضحة في تفسير القانون السابق، ألا أن شرط العقوبة على الزوج الذي نطق بالطلاق بدون القاضي الشرعي - قد أحدث تغيراً عظيم الأهمية.
هذه الإصلاحات - إن لم تكن مست التقاليد - ترمي إلى اتخاذ مستويات قانونية ثابتةللأوضاع الاجتماعية. ولم يمانع المشروع في تعدد الزوجات، بل جعل الزواج الثاني أكثر صعوبة. وذلك بأن حتم على الزوج أن يبرهن أمام القاضي الشرعي أنه في مركز يمكنه - مالياً وأخلاقياً - بالقيام بحاجات زوجاته ومن يعولهم.
وفي مسألة تحرير المرأة نجد أن مصراً أكثر تقدماً من سوريا والعراق، وأن برنامج الحركة النسائية اجتماعي قبلكل شيء. فهو يقضي بإنشاء مدارس ومراكز تعليمية للنساء والفتيات المحتاجات، وتعليم بنات الطبقات الدنيا في مدارس لتدبير المنزل، وتدريب ممرضات لرعاية الأطفال والمرضى.
وليست هناك معارضة جدية للحجاب سواء في مصر أو سوريا. ولكن حادثاً وقع في بيروت في مايو 1928 يدل على التغير التدريجي في الآراء. فقد زاد عدد المسلمات اللائى ظهرن في المجتمع سافرات في هذا الثغر. وقامت حركة احتجاج، ووزعت المنشورات تدعو المسلمين لاتخاذ خطوات ضد السافرات. وفي الجمعة التالية تكلم الخطباء في المساجد ضد هذه المنشورات، وطالبوا باحترام الحرية الفردية. ثم نظمت الحركات النسائية في سوريا وفلسطين والعراق.
وفي إبريل 1928 انعقد أول اجتماع للنساء السوريات لمناقشة مسائل التعليم والتدريب المهني، وتعديل قانون الزواج. واقتراح الاتحاد عقد مؤتمرات سنوية لنساء العرب، تنعقد بالتتابع في مصر وسوريا وفلسطين والعراق. وكان غرض الحركة النسائية في فلسطين مناصرة الكفاح من أجل استقلال العرب. وفي مصر وسوريا توجد صحافة تدعو لمصالح المرأة، وكثيرا ما يحررها النساء
وفي يوليه 1930 أنعقد مؤتمر لنساء البلاد العربية، وكان يعتبر دليل للوحدة الشرقية. وجاءت الوفود وأرسلت التقارير منالحجاز والعراق وتركيا وإيران وأفغانستان والهند الإسلامية كما أرسل الاتحاد النسائي الدولي مندوبة وقد أكدت رئيسة المؤتمر نور حمادة ضرورة حصر الكفاح في رفع مستوى المرأة ثقافياً واجتماعياً، وليس في المطالبة بالحقوق السياسية. لقد كان حجاب المسلمة منافياً للطبيعة، وسوف يزول من نفسه بارتفاع مستوى التعليم. ناقش المؤتمر تعديلات قانون الزواج ومسألة الخدمة الاجتماعية، وطالب بإصلاح التقاليد الزوجية. فيجب على الرجل وزوجته أن يعرف كل منهما الآخر قبل الزواج، وينبغي تقليل أهمية بين المسلمين والصداق بين المسيحيين. وأعلن أن اتحاد المسلمات مع المسيحيات في مصر والأقطار العربية سيجعل من الحركة النسائية عاملاً هاماً في التقدم الثقافي والاجتماعي.
ويعلل دخول الفلسطينيات في هذا المحيط من الوجهة الجغرافية فقط؛ فالنساء في الدوائر الأرثوذكسية واليهودية متساويات مع النساء العرب في الثقافة والاجتماع. ثم إن اليهوديات اللائى هاجرن إلى فلسطين - من أوربا في الخمس سنوات السابقة - قد أتين بالأفكار التقدمية في النشاط الثقافي والاجتماعي والسياسي. فتذهب الفتيات كالفتيان إلى المدرسة، وتلعب الجمعيات النسائية دورها في الصحة والخدمة الاجتماعية. وبفضل جهود اليهوديات ضمن النساء المساواة التامة في فلسطين. ولكن اعتبارات قومية تحول دون وقوع احتكاك مباشر بين الحركات النسائية اليهودية والعربية في فلسطين.
وليس من شك في أن الجماهير قد تنبهت إلى اليقظة الوطنية والسياسية، وكفى بعواطفهم السياسية الملتهبة أمثلة واضحة. فشعروا بالمسئولية لمحو الأمية وإنشاء مكتبات شعبية، وتأسيس المدارس وإقامة حلقات ثقافية.
حقاً، إن الصحف السياسية تقرأ على نطاق واسع مدهش، حتى الذين لا يعرفون القراءة في القرى، يستمعون إلى محتوياتها بصوت عال. ولكن مدى قراءة الكتب الجيدة أقل اتساعاً، وغالباً ما تجهلها الطبقات، ثم إن معظم الصحف فقيرة في المادة الثقافية.
وعندما تتحقق الأغراض الوطنية والسياسية، فإن قوى الحركة يمكنها أن تتجه إلى الغايات الثقافية.
(يتبع)
ترجمة محمد محمد علي
بين شيخ وشاب وفتاة
للأستاذ ثروت أباظة
أما الشاب فأديب قانع من الأدب بتذوقه وتلذذه. قرأ أكثر ما كتبه المتقدمون، فلما كتب المتحدثون عزف عن القراءة، ولم يجد ما يبرر به هذا العزوف إلا أن يقول لم يعد في البلد أدب، أصبح هم الكاتب أن يكتب عن الحب والمرأة، كأن الدنيا قد خلت من كل شيء إلا الحب والمرأة. . فلم يعد فيها مجال للمثل العليا ولا نصيب للموعظة الحسنة. . أين كتاب الأدب القديم وشعراؤه؟ أين فلسفة المعري، وحكمة أبي تمام، وأمثال المتنبي؟ أين روائع ابن العميد، وبدائع عبد الحميد، ورقائق ابن الزيات؟ رحم الله الأدب!
وهكذا كان يعزي الشيخ نفسه عناجتوائها حديث الشباب، حديث الحب والمرأة.
وأما الشاب فهو ابنه، أراده على أن يكون أديباً فكان، ولكنه كان على غير طراز أبيه. . كان الأب يؤثر الأدب القديم ويجب أن ينهل ابنه من موارده، فأخذ يحفظه الأشعار المختارة لعباقرة الجاهلية والإسلام؛ ولكن ابن القرن العشرين لم يكن ليحتمل أن يقرأ كل كلمة مرتين: مرة في الكتاب ومرة في المعجم. فكره الأدب القديم بعد أن تزود منه ما يكفيه أساساً ونبراساً. ولما رأى أبنه تارك الأدب لو بقى مقصوراً على قدميه سمح لح أن يقرأ ما يشاء، فقرأ أكثر ما كتب في الأدب الحديث.
وأما الفتاة فهي زوجة الشاب، وهي أيضاً أديبة بفطرتها، لم توجه نفسها توجيهاً معيناً، ولكنها مع ذلك ذات حس فني دقيق وذوق أدبي مرهف.
أسرة تربطها أواصر القرابة والنسب، ثم توثق هذه الرابطة بينها رابطة الأدب. . أحببت هذه العائلة وأصبح من بواعث الغبطة في نفسي أن أزورها كلما تهيأت لي الفرصة. . وكان أن ذهبت، فوجدت (الرسالة) بين أيديهم، وكانت بها الحلقة الثالثة من (قصة فتاة). . وهي التي يصف فيها الأستاذ الزيات الفتاة حبيسة في الغربة، تلح عليه أن يجاوبها حباً بحب، لا حباً بنصيحة. ويصفها بقصتها مع الجاموسة، ثم بروايتها مع ابن البستاني.
رأيت الشيخ يتوثب على كرسيه، وقد رده الحنق شاباً؛ ورأيت الفتاة مهتاجة فكأنما هي صاحبة القصة، وكأن (س) اسمها الحقيقي؛ ورأيت الشاب يكتم فرحة تفيض على محياه، فبدا في وقاره وكأنه الشيخ. . . وعجبت أن يغضب الشيخ والفتاة لسبب واحد؛ إذ العادة أنه
إذا غضب الشيخ رضيت الفتاة، وإن رضى غضبت. ولكن السبب، وإن اتحد في جوهره وهو المقال، تشعب في عرضه، قال الشيخ:
- لو لم يكن هو صاحب الرسالة لوثقت أن هذا المقال مزور عليه. . لا حول ولا قوة إلا بالله! لقد كان أسلوبه وأدبه عزائي عما أصابني في الأدب الحديث. إنه وحده الذي كان يظهر جمال الأدب الجديد حين يكسوه بالأدب القديم، أيكتب هو أيضاً عن الحب؟ وأي حب! وعن الشهوة؟ وأي شهوة! لا، لا يصلح قلم الزيات لهذا الأمر. . ثم التفت إلي وقال: قل له يرجع إلى ما كان عليه فإنه أولى به وأحرى.
قالت الفتاة: لا بأس يا عماه أن يكتب في الحب، ولكن أهكذا يكون حب الفتاة؟ أهي لا تحب إلا بهذه الصورة التي رسمها لها؟ إن الكاتب حين يكتب عن جنس بذاته يختار من بينه شخصية تتفق عناصرها وأغلب أفراد هذا الجنس
أفتاته (س) هي نموذج الفتاة العصرية؟ أكل فتاة عصرية ترى في الخطبة تجريباً وتدريباً ومتعة، وأن هذا التجريب يكون. . . لم يدعها الشاب تتم الحديث بل اندفع قائلاً:
- حسبك. . حسبك. . فو الله ما غضب لجنسك الجروح أن يتهم، ولكن غضبت لأنه يكشف الستار عن خبيئته، ويبدد ذلك الوهم الذي يرين على دخيلته. تضحكن على الرجال فتدعين غموضه وإيغاله في الاستخفاء. . وضللنا نحن المساكين نقع في حبائلكن ونرتمي في شباككن، محاولين الوصول إلى ما تخفيه نفوسكن حتى نتمكن بعد ذلك من إقامة الحياة في سننها الواضح. . ولكن أبيتن هذا علينا. حتى جاءت فتاة فكشفت عن أهم جزء من ذلك السر، فغضبت أنت وثرت. . ولكنك لم تعرفي كيف توجهين ثورتك، مع إنها واضحة الهدف.
رأيت النقاش يطول فقلت:
- لقد والله ذكرتموني بالمستمعين إلى شاعر الربابة، حين كانوا ينصبون المعركة قبل أن يعرفوا النهاية. . انتظروا قليلاً حتى نكمل القصة.
وكملت القصة خريفاً وكانت قد ابتدأت ربيعاً. هكذا كملت حقيقة، أما على صفحات الرسالة فقد كملت أمس. فذهبت إلى هناك، فإذا الشيخ ضاحك، وإذا الفتاة جذلة، وإذا الشاب يكفكف من فرح الشيخ، ويخفف من سرور الفتاة. . قال الشيخ:
- ألم أقل إن الزيات لا يمكن أن يكتب في الحب لمجرد الحب. . لقد صدقضني فيه. إن القصة نصيحة مبذولة للفتيات من رجل خبر الدنيا وجربها. . وأبى أن يقصر تجاربها على نفسه. ألم تر إليه يقص قصة بلانكيت والخراف ثم الذئب ورواية الفتاة والشبان ثم الذئب أيضاً. إنها نصيحة احسن تغليفها حتى تخفف على السمع وتصل إلى القلب.
قالت الفتاة:
- لقد نالت تلك الفتاة جزاءها. . ولئن كشفت عن أسرار جنسها فإن أخاها قد أخذ بالثأر؛ وما أظن مآلها إلا الموت المحقق قال الشاب: (رويدك يا أبي! وحسبك يا زوجتي! فإن الرجل وإن ختم قصته بالنصيحة، فما ذاك بمانع القصة أن تهدف إلى أهدافها الأخرى. فهي فن قبل أن تكون إرشاداً، وهي تحليل نفسي قبل أن تكون هديا. . أما أنت فما هذا الكلام الغريب؟ تعزين نفسك بأن البنت قد نالت جزاءها، فهل ذلك هو الرد على حقيقة ما قالته عنكن! لشد ما تهرفن أيتها النسوة حين تفحمكن الحجة. حاول الشيخ أن يجيب، وحاولت الفتاة أن تغضب، ولكنني قطعت عليهما القول والغضب:
- إن القصة حلوة ومرة؛ يستطيع كل منكم أن يلتذ هذه الحلاوة وأن يكابد تلك المرارة. لينظر كل أليها من الناحية التي ترضيه. ولئن هذه النواحي فإن ثمة زاوية لو نظرتم منها جميعا ًما اختلفتم: القصة قصة الفن والأسلوب أسلوب الزيات.
ثروت أباظة
2 - الشيوعية في الإسلام
رأي لجنة الفتوى ورأي السيد جمال الدين الأفغاني
أوردنا في المقال السابق ما أذاعته لجنة الفتوى بالأزهر عن (الشيوعية في الإسلام) وما حكمت به على مذهب أبي ذر الغفاري من المخالفة للإجماع على مبدأ الإسلام، ثم أوردنا فتوى السيد جمال الأفغاني عن (الاشتراكية في الإسلام) وفي هذا المقال نورد ما قاله السيد عن مذهب أبي ذر وما أبدى من استحسان هذا المذهب. قال السيد رضوان الله عليه:(في زمن قصير من خلافة عثمان تغيرت الحالة الروحية في الأمة تغيراً محسوساً. ولشد ما كان منها ظهوراً في سير العمال والأمراء وذوي القربى من الخليفة وأرباب الثروة بصورة صار يكمن بها الإحساس بوجود طبقة تدعى (أمراء) وطبقة تدعى (أشراف) وثالثة (أهل ثروة وثراء وبذخ) وانفصل عن تلك الطبقات طبقة العمال وأبناء المجاهدين، ومن أرباب الحمية والسباقة في تأسيس الملك الإسلامي وفتوحاتة، ونشر الدعوة، وصار يعوزهم المال الذي يتطلبه طرز الحياة، والذي أحدثته الحضارة الإسلامية، إذ كانوا مع كل جريهم وسعيهم وراء تدارك معاشهم لا يستطيعون اللحاق بالمنتمين إلى العمالورجال الدولة. وقد فشت العزة والأثرة والاستطالة، وتوفرت مهيئات الترف في حاشية الأمراء وأهل عصبيتهم، وفي العمال وبمن استعملوه وولوه من الأعمال. . فنتج من مجموع تلك المظاهر التي أحدثها وجود الطبقات المتميزة عن طبقة العاملين والمستضعفين في المسلمين، تكون طبقة أخذت تتحسس بشيء من الظلم وتتحفز للمطالبة بحقهم المكتسب من مورد النص، ومن سيرتي الخليفة الأول والثاني أبي بكر وعمر
كان أول من تنبه لهذا الخطر الذي يتهدد الملك والجامعة الإسلامية، الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري، فجاء إلى معاوية إبن أبي سفيان وهو في الشام، وخاطبه بوجوب الرجوع إلى سيرة السلف وبتقليل دواعي السرف والترف وعدم التمادي في مسببات الحسد، والعمل على نزعها من العاملين من رجال المسلمين، وذكر مواعظ كثيرة، وعدد أخطاراً جمة من وجود طبقة فقيرة عاملة مفكرة من المسلمين، يكتنفها شظف العيش وقلة ذات اليد بين ظهراني قوم أكثرهم ممن لا سابقة لهم في الإسلام ولا لآبائهم، ولا من الطبقات المحمودة، ولا من المجهودات أو المميزات العلمية والجسدية، ما يوليهم أو يعطيهم حق ما هم فيه من
النعيم، وطيب العيش والرخاء، غير محض الانتماء والإدلاء بولاء لآل حرب وعمالهم.
فأجابه معاوية بما معناه: يا أبا ذر، إن ما تقوله هو الحق، ولكني ليس في استطاعتي الرجوع لا إلى سيرة الصديق وسيره، ولا إلى العمل الذي كان يعمله الفاروق، وغاية ما في إمكاني الحث على بذل الصدقات والقول اللين إرشاداً لتخفيف دواعي الحسد، وغير ذلك فلا سبيل إليه.
قال أبو ذر: قد نصحتك يا معاوية، والدين النصيحة، فأحذر أنت والخليفة عثمان مغبة ما أنتما عليه. وذهب من مجلس معاوية مغاضباً، واجتمع مع طبقة المتألمين والمتذمرين من المسلمين وقص عليهم من سيرة السلف أشياء، وأطلعهم على ما قاله عامل الشام معاوية بن أبي سفيان، وأردفها بإعلانه مشاركته لهم في كل ما يحسون به قلباً وقالباً. وبمختصر القول إنه شجعهم على النهضة والمطالبة بحق صريح لهم اهتضمه جماعة بغير وجه شرعي، ولا باجتهاد إمام السلف، فكان من وراء عمل أبي ذر هذا أن حصل شيء من التهيج والانفعال النفسي ما خشي معه معاوية وأعوانه سوء المصير.
فجمع معاوية كيده، واستنجد دهاءه، وبعث لأبي ذر ليلاً بألف دينار، فقبلها أبو ذر، وفي الحال بادر لتفريقها على الفقراء والمعوزين من المسلمين. وفي ثاني يوم أرسل معاوية رسولاً وقال: يا أبا ذر، أنفذني من عذاب معاوية، فأن الآلف دينار لم يرسلها إليك وإنما غلطت، فقال أبو ذر، والله لم يبقى معي من دنانيره ولا دينار، فليمهلني حتى آخذها ممن وزعتها عليهم من المستحقين في المسلمين. وعلم معاوية صدفة وضاق به ذرعاً، فكتب إلى الخليفة عثمان مستجيراً من إلغاآت أبي ذر، وما أحدثه من التأثير في النفوس. فأجابه متعجلاً أرسل أبي ذر إليه، فأرسله، ولما تقابل مع عثمان لم يسمع منه أكثر مما سمع من معاوية، وأنه لا يمكنه أن يفعل ما فعله الفاروق مع العمال من مصادرة ما عندهم من الثروة، ولا أن يرجع ما كان من حالة مجموع المسلمين في عهدي الصديق والفاروق إلا عن طريق الحث على بذل الصدقات والإحسان فقط. فقال أبو ذر: يا عثمان، أما تذكر حديث رسول الله ومعناه:(إذا وصل البناء إلى سلع (جبل في المدينة) واستعلى في المدينة. . الحديث) وجبت الهجرة. وفي رواية أنه قال: يا عثمان: إن النبي صلى الله عليه وسلم أمرني بالخروج منها إذا بلغ البناء سلعاً، وها قد استعلى بناؤك وبناء قريبك معاوية
وأعوانكما. والله من ورائكم محيط. فألح عليه عثمان أن لا يفعل، فقال أبو ذر: إن رسول الله أولى أن يتبع، وهاجر من المدينة. كان في عمل أبي ذر هذا أنه أخذ بمحض النصح لخليفة المسلمين إذ ذاك (عثمان) وبنصح عماله، وبالدفاع عن حقوق المسلمين كي لا تتكون طبقة اشتراكية يكون رائدها الانتقام، بل إلى العمل بنص القرآن والاقتداء بمن طبق ذلك النص عملاً من الخلفاء كأبي بكر وعمر. .
وبعد، فهذه هي فتوى السيد جمال الدين الأفغاني فيما كان من رأي أبي ذر الغفاري وخلافه مع ولاة الأمور على توزيع مال المسلمين على المسلمين. وشتان بين رأي لجنة الفتوى في مذهب ذلك الصحابي الجليل، ورأي السيد الأفغاني؛ فبينما ترى اللجنة إنه أخطأ الاجتهاد وخالف الإجماع يشهد الأفغاني برجاحة رأيه وسلامة مذهبه. وسنعود في المقال التالي للتعقيب على فتوى اللجنة بما يوضح هذه المسألة التي تشغل الأذهان في هذه الأيام. . .
(الجاحظ)
الأدب والفن في أسبوع
الفكاهة والكاريكاتير في الأدب العربي:
كان هذا عنوان محاضرة الأستاذ كامل كيلاني في دار الاتحاد النسائي يوم الجمعة الماضي، وقد كان أكثر من هناك من الجنس الناعم، أوانس وسيدات، ولذلك رأى الأستاذ أن يستعمل نون النسوة في خطاب الحاضرين أو الحاضرات (على مذهبه) ولم يعبأ بنا ولا بالنحويين. . . ولكن هل أرضاهن بهذا الصنيع؟ أو لسن هن المطالبات بإلغاء نون النسوة؟ وقد احتججن عليه بعد الفراغ من الحاصرة احتجاجاً رقيقاً؛ وهن - وإن أنكرن نون الإناث - لم تفارقهن لوازمها في أثناء المحاضرة، فهذه إحداهن تشتغل (بالتريكو) ولا يفوتها أن تبتسم لبعض الفكاهات التي تأتي في سياق المحاضرة، وتلك أخرى تفتح حقيبة يدها وتستغرق في النظر إلى مرآتها وتصلح شيئاً من زينتها. . . ولا إلى المحاضرة إلا ضحكات صواحبها من تلك الفكاهات. أفلا ترى الأستاذ على حق في تجاهلنا واستمساكه بنون النسوة. . .؟
بدأ الأستاذ كامل كيلاني بشرح لغوي خفيف لمعنى الفكاهة حتى قال: الفاكهة ثمرة الأرض والفاكهة ثمرة العقل. ثم قال إن الإنسان يبلغ بالفكاهة البارعة ما لا يبلغه بكثير الكلام، واستشهد بما قاله (سوفيت) مؤلف (جلفر) في بعض قصصه:(ثم صفعة في احترام وأدب) وبمقالة برنادشو لأحد اللوردات وقد قال له إنك تبغي المال من رواياتك، قال له برنادشو: وماذا تبغي أنت من أعمالك؟ قال: الشرف. قال كل منا يسعى في طلب ما ينقصه.
ثم قال إن الأدب العربي زاخر بالفكاهات التي تجسم الأشياء والمعاني تجسيماً (كاريكاتيرياً) فتبرز المقصود إبراز بالغاً يشبه في الأدب فن (الكاريكاتير) في التصوير؛ ومثل لذلك بقول الجاحظ في كيسان النحوي (أعرف رجلاً يسمع غير ما يقال له، ويكتب غير ما سمع، ويقرأ غير ما كتب، ويفهم غير ما قرأ) وقد نظم هذا أحد الشعراء فقال:
تقول له زيد فيكتب خالداً
…
ويقرؤه بكراً ويفهمه عمراً
ومما مثل به من هذه الصور الأدبية (الكاريكاتيرية) قول بعضهم:
أفرط نسياني إلى غاية
…
لم يدع النسيان لي حسا
فصرت مهما عرضت حاجة
…
مهمة أودعتها الطرسا
وصرت أنسى في راحتي
…
وصرت أنسى إنني أنسى
وقول ابن الرومي:
إن تطل لحية عليك وتعرض
…
فالمخالي معروفة للحمير
علق الله في عذاريك مخلاة
…
ولكنها بغير شعير
لو غدا حكمها إلى لطارت
…
في مهب الرياح كل مطير
وقوله
أبو سليمان لا ترضى طريقته
…
لا في غناء ولا تعليم صبيان
له إذا جاوب الطنبور محتفياً
…
صوت بمصر وضرب في خراسان
وتحسب العين فكيه إذا اختلفا
…
عند التنغم فكي بغل طحان
وقول المتنبي
وإذا أشار محدثاً فكأنه
…
قرد يقهقه أو عجوز تلطم
وقول أبي الفرج في بعض قصصه بالأغاني: (ثم خرجت من الخوخة لحية حمراء يتبعها رجل) ولعل محرر (آخر ساعة) نظر إلي عندما كتب منذ عشر سنوات في الحديث عن رجل من رجال السياسة كان معروفاً بطول شاربيه: (ثم خرج من السيارة شاربان يتبعهما رجل).
وقال لي الأستاذ كامل كيلاني، وقد عبرت له عن استحساني لتسميته هذا الموضوع، قال: كان بعض الغربيين ومن يحاكيهم يعيبون الأدب بالمغالاة، وهذا هو نوع من المغالاة نراه مطابقاً في التعبير لطريقة فن من الفنون الحديثة.
أبو القاسم الشابي:
ألقى الأستاذ صالح جودت محاضرة عن أبي القاسم الشابي، يوم الخميس الماضي بنادي الاتحاد الأرثوذكسي. قال: عرف الأدب العربي هذا الشاعر لأول مرة في سنة 1933 حينما نشرت له مجلة (أبولو) قصيدته المشهورة (صلوات في هيكل الحب) التي أثارت اهتماماً عظيماً وأنشأت مدرسة جديدة في الشعر الحديث. كان أبو القاسم يؤمن بالسمو، ويرى أن الشعر ليس إلا تصويراً للحياة في صورة رفيعة تتكافأ مع ما للشاعر من قدسية الفن وجلالته؛ ومصداق هذه النظرة في قصيدته التي أشرنا إليها، هذه الأبيات في نجوى
حبيبته:
أنت، أنت في قدسها السا
…
مي وفي سحرها الشجي الفريد
أنت فوق الخيال والفن
…
وفوق النهى وفوق الحدود
أنت قدسي ومعبدي وصباحي
…
وربيعي ونشوتي وخلودي
ثم قال: ولد أبو القاسم سنة 1909 في بلدة توروز بتونس، وحفظ القرآن، ثم التحق بالمعهد الزيتوني، ثم بكلية الحقوق وتخرج منها سنة 1929 وكانت وفاته سنة 1934 في المنفى الذي اختاره لنفسه في مكان يقال له باب حومة العلوج.
وقال أحد الأدباء التونسيين: إن أكبر مؤثر في حياة الشابي، موت حبيبته، غير أننا لا نجد في شعره ما يشير إلى صحة هذه الواقعة. إن حبيبته موجودة في أكثر شعره، أما موتها فلا أثر له.
أما المؤثر الثاني في حياة الشابي وشعره، فهو أنه كان مجددا جريئا صاحب دعوة تقدمية كبيرة في الأدب التونسي، أثارت عليه أدباء البيئة الجامدة المحافظة التي يعيش فيها، فلقي منهم حربا شعواء. حاربوا آراءه في الأدب، وأخيلته في الشعر، كما أنه لقي من ناحية أخرى كثيرا من عنت الفرنسيين المستعمرين لبلاده، لأنه كان في شعره الوطني فولتير العربي، الذي دعا شعبه إلى الثورة من أجل الحرية في كثير من القصائد الصارخة، ومنها قصيدة رائعة مطلعها:
إذا الشعب يوما أراد الحياة
…
فلابد أن يستجيب القدر
ولابد لليل أن ينجلي
…
ولابد للقيد أن ينكسر
ولكن الشعب لم يستمع إلى هذه الصرخات المدوية، ولم يثر على القيد، فوقف أبو القاسم يتهكم ويتألم في قصيدة مدوية عنوانها إلى الشعب، ومنها:
أنت يا كاهن الظلام حياة
…
تعبد الموت، أنت روح شقي
كانوا بالحياة والنور، لا يصغي
…
إلى الكون قلبه الحجري
أنت دنيا يظلها أفق الماضي
…
وليل الكآبة الأبدي
والشقي الشقي في الأرض شعب
…
يزمه ميت وماضيه حي
وهكذا اجتمعت على أبي القاسم حروب ثلاث، حرب من الأدباء والشعراء الجامدين أو
الحاقدين، وحرب من الفرنسيين المستعمرين، وحرب من نومة الشعب وعدم استجابته لصرخات الحرية. وقد كان كل هذا كفيلا بأن يهد كيانه، فأصابته ذات الرئة، وعاش عمرا كعمر الزهر عند باب حومة العلوج، يقرأ، وينظم الشعر، ويرعى الأغنام، حتى مات ولما يتجاوز الخامسة والعشرين.
شعر الثقافة الأزهرية:
مما يحمد لفضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر اهتمامه بنشر الثقافة الأزهرية بين الشعوب العربية والإسلامية، وقد تحدث أخيرا إلى أحد زعماء العرب فقال إنه يسعده أن يستطيع الأزهر إنشاء فروع له وتوجيه بعوث منه إلى كل البلاد الإسلامية، ولكنه يرى أن على الأزهر أن يوجه اهتمامه أولا إلى الشعوب التي لا ثقافة لها، وأن هذا هو ما اعتزمه، إذ قرر إرسال بعوث إلى جنوب أفريقية وشرقها وإلى أوغندا وارتيريا، أما البلاد العربية التي تتوافر لها الآن عوامل الثقافة فهي في غنى عن ذلك، ومع هذا فإن الأزهر مستعد لأن يمدها بالمدرسين كلما طلبت حكوماتها إليه ذلك.
وبهذه المناسبة نلفت النظر إلى أمر يتعلق بنشر الثقافة الأزهرية في سائر البلاد العربية، ذلك أن في الأزهر كثيرا من البعوث الوافدة إليه من مختلف البلاد الإسلامية، ومن المفهوم طبعا أن الغرض من هذه البعوث هو أن يتزود أفرادها من الثقافة الإسلامية بالأزهر، لينفعوا بها قومهم إذا رجعوا إليهم، ولكن كثيرين من هؤلاء يقضون الأعمار في مصر، وتظل أرزاقهم من الأزهر جارية عليهم، ولا يعودون إلى بلادهم. وأحسب أني لست بحاجة إلى أن أقول إن مصر لا تضيق بهؤلاء الإخوان، فهي ترحب بهم دائما ولا تعتبرهم غرباء. ولكن المسألة هي أنهم، بإقامتهم الدائمة هنا، يفوتون الغرض الذيتنشده منهم بلادهم، والذي من أجله أرسلتهم إلى الأزهر.
العربية في الباكستان:
من أنباء الباكستان أن جماعة الثقافة العربية تطالب بتعميم تعليم اللغة العربية في المدارس، حتى تصبح هي لغة التعليم هناك، وأن من أغراض هذه الجماعة نشر الثقافة العربية في الباكستان، وأنها ترمي إلى تكوين جمهور يقرأ المؤلفات ودواوين الشعراء التي تصدر في
البلاد العربية.
وهذا أمر طبيعي، فقد عرف المسلمون الهنود منذ الفتح الإسلامي بالإقبال على تعلم اللغة العربية، وقد نبغ منهم فيها كثيرين في الأدب وعلوم الدين؛ ولغة التخاطب الحالية تحتوي على كثير من الألفاظ والتراكيب العربية. وشعور المسلمين في الباكستان يتجه الآن نحو البلاد العربية، وقد بدا أخيرا في تأييدهم لقضية فلسطين، ولاشك أن اللغة العربية وآدابها وثقافاتها، هي أهم ما يربطها بالبلاد العربية، وهي وسيلتها إلى كتلة الجامعة العربية.
العربية وهيئة الثقافة الدولية:
عاد الأستاذ شفيق غربال بك من باريس، حيث حضر اجتماع اللجنة التنفيذية لهيئة التربية والتعليم والثقافة الدولية (الأونيسكو) وهو عضو دائم فيها.
وقد قام الأستاذ شفيق بك بمساع لجعل اللغة العربية لغة رسمية لمؤتمر الهيئة إلى جانب اللغتين الإنجليزية والفرنسية، فكللت مساعيه بالنجاح.
ومن المعلوم أن هذه الهيئة تدعو إلى حسن التفاهم العالمي عن طريق التقارب الثقافي، فمن أغراضها محاربة طرق التربية التي تغرس في نفوس الناشئة فكرة السيادة العنصرية، وهي لهذا تعني إعادة نشر التعاليم الديمقراطية في ألمانيا واليابان.
وستعقد الدورة الثالثة لمؤتمر الهيئة العام في بيروت ابتداء من يوم 14 أكتوبر القادم ويتمثل به الدول العربية، وتهتم الإدارة الثقافية بالجامعة العربية، بتنسيق الصلة بهذا المؤتمر.
القصة والشعر:
ظهر من إحصاء في الولايات المتحدة أن المجلات الخاصة بالشعر من أكسد المجلات، ويقابلها المجلات القصصية التي تعد من أروجها؛ والحال عندنا تشبه ذلك من حيث قلة الاهتمام بقراءة الشعر والإقبال على قراءة القصص؛ وإن كان ليس لدينا الآن مجلة خاصة بالشعر بعد مجلة (أبولو) التي كان يصدرها الدكتور زكي أبو شادي وقد تعطلت منذ سنين؛ كما أنه ليس لدينا مجلة خالصة لفن القصة الرفيع بعد مجلة (الرواية) التي أدغمت في (الرسالة) وأرى أنه يجب المبادرة بفك هذا الإدغام لضرورة الاحتفاظ بمستوى القصة
باعتبارها فنا من فنون الأدب، لأن التسابق على تقديم مواد تافهة للقراءة السهلة، يكاد ينحدر بالقصة إلى مستوى هذه المواد.
كتابة التسلية:
في مقال بمجلة النداء عنوانه (الصحافة المصرية. . . تطورت!!) قال الأستاذ سلامة موسى:
(إن الكتاب التافهين قد فشوا في هذا المناخ الصحفي الجديد، وصار دأبهم تسلية القراء دون أن ينفعوهم، وهناك مجلات أسبوعية ليس فيها شيء آخر غير التسلية، وهي حرب على الذكاء والفهم كما أنها تنشر الأمية السياسية بين القراء. والأب الذكي والأم المستنيرة التي تبصر للمستقبل يجب أن يقاطعا مجلات التسلية حتى ينشأ أبناؤهما على جد ونقد وذكاء في معالجة الشؤون السياسية والاجتماعية، أن جرائد التسلية تبلد الذهن وتجعل القارئ يهتم بالتافه دون الجدي من الشؤون، ويصبح هذا الاتجاه خطته في الحياة لا في القراءة فحسب).
كتب مصرية لجامعة ألمانية:
طلبت إحدى الجامعات الألمانية إلى بعض المراسلين الألمان في مصر، أن يتصلوا بالمؤلفين المصريين ويطلبوا منهم نسخا من مؤلفاتهم ليرسلوها إلى هذه الجامعة، حتى تستطيع بذلك أن تعوض ما فقدته، بسبب القنابل في الحرب الأخيرة، ومن الكتب والمخطوطات العربية التي كانت تحتويها مكتبتها.
معهد السينما:
اجتمعت لجنة النهوض بشؤون السينما يوم الأربعاء الماضي برياسة وزير الشؤون الاجتماعية، لمواصلة بحث وسائل ترفيه فن السينما؛ وفي اجتماعها الأخير عهدت إلى يوسف وهبي بك وأحمد بدرخان ومحمد عبد العظيم، وضع برنامج الدراسة في معهد السينما المزمع إنشاؤه. وينتظر أن تبدأ الدراسة في هذا المعهد في العام الدراسي القادم، وسيكون مستواه التعليمي مماثلا لمعهد التمثيل العالي، وستتجه الدراسة فيه إلى الناحية النظرية والعملية في وقت معا.
العباس
البريد الأدبي
إلى معالي وزير العدل:
زار أحد الشعراء معالي أحمد موسى بدر بك وزير العدل في مكتبه بالوزارة، فوجد من تواضعه وحسن استقباله وفرحته بلقاء الأدب ما أنطقه بهذه الأبيات:
أبى الله إلا أن تزيد تساميا
…
فما زادك الكرسي إلا تدانيا
وما حاجة العدل بأصل وسؤدد
…
ليطلب من جاه الوزارة عاليا
وما عجب جمع النقيضين في امرئ
…
بعدت، ولكن كنت بالفضل دانيا
فما بدل الكرسي منك جوانبا
…
ولا غيَّر الكرسي منك نواحيا
ترى المجد أعمالا كبارا وهمة
…
وغيرك يلقاه منى وأمانيا
وأوليتني بالعطف منك مآثرا
…
فقلدت جيد الشعر منك غواليا
وكدت أمني النفس بالظلم مرة
…
لعلي ألاقي الحق عندك ثانيا
لن الزمخشرية:
كتب الأستاذ هارون محمد أمين في بريد الرسالة الأدبي عدد 765 تعليقا تحت عنوان (لن لا تفيد تأكيدا ولا تأييدا) تعقب فيه ما جاء في كلام معالي عبد العزيز فهمي باشا من إفادتها لذلك وقال (والذي أعلمه أن لن كما ذهبت إليه جمهرة النحاة لا تقضي تأييد النفي ولا تأكيده ولم يقل بذلك إلا الزمخشري) الخ. ثم ذكر في التدليل على إبطال ما ذهب إليه الزمخشري قوله (واذكر في الرد عليه أدلة منها أنه لم يقم دليل على كونها للتأييد وأنها لو كانت كذلك للزم التناقض بذكر اليوم في قوله تعالى: فلن أكلم اليوم إنسيا، وللزم التكرار بذكر الأبد في قوله تعالى: قل لن تخرجوا معي أبدا) ولا ريب أن ما ذكره الأستاذ هارون مبين في مثل القاموس والمغني وغيرهما؛ غير أن كثيرا من المحققين قد بحثوا هذا الموضوع وأتوا بما يختلف مع ما نقله الأستاذ هارون فرأيت أن ألفت النظر إليه:
ذكر الإمام الزمخشري في كشافه ومفصله: أن لن معناها تأكيد النفي، ووافقه على ذلك كثير من النحاة كما ذكره الصبان في حواشي الأشموني والجلال السيوطي في همع الهوامع. ونقل الأخير في الإتقان أن العرب تنفي الشكوك بلا، والظنون بلن. وفي كلام سيبويه ما يؤيد هذا الرأي إذ يذكر أن لا نفي ليفعل، ولن نفي لسيفعل والأخير مؤكد في الإثبات فكذلك
يكون نفيه. وقال السعد: إن منع إفادتها للتأكيد مكابرة.
أما دلالتها على التأييد فقد نسبت للزمخشري في بعض نسخ أنموذجه وبعضها الآخر يتفق مع الكشاف والمفصل في التعبير بالتأكيد دون التأييد. ومهام يكن فنقطة الخلاف بين ما نسب إلى الزمخشري وبين الجمهور هي: هل أن لن تستعمل على وجه الحقيقة في غير التأييد أم تختص به؟ فالجمهور يقول بالأول والزمخشري بالثاني. قال ابن مالك في التسهيل: (وينصب المضارع بلن مستقبلا بحد وبغير حد، خلافا لمن خصها بالتأييد). وانتقد رأي الزمخشري هذا بما ذكره الأستاذ هارون. واتهمه ابن مالك بأن الحامل له على دعوى التأييد اعتقاده بأن الله لا يرى في الآخرة. وانتصر له بعض المحققين وأجاب عن التناقض المزعوم في قوله تعالى: فلن اكلم اليوم إنسيا. بأن الزمخشري لا يمانع في استعمالها في غير التأييد مجازا حتى يحصل التناقض. وعن التكرار في: قل لن تخرجوا معي أبدا بأنه على تسليم وجوده لا محذور فيه؛ إذ التكرار يرد في كلام البلغاء للتأكيد. ورد على ابن مالك في توجيه تلك التهمة بقوله: (إن ذلك خروج عن منصب المباحثة؛ إذ يعد ثبوت إمامته في العربية باتفاق أئمتها كيف ينسب إليه مثل ذلك الذي لا يصدر عن الجهلة؟ فالإنصاف أن اجتهاده في العربية المسلم له المبني على تتبع مواطن الاستعمال قضى بحسب ما ظن بتأييد نفيها؛ وعليه خرج الآية الموافقة بحسب ظاهرها لمذهبه، فقد بنى مذهبه على الاستعمال اللغوي دون العكس. على أن في هذا البناء توقفا، إذ لا يمنع من التجوز في الألفاظ، فليس لما ذهب إليه كغيره من طائفته إلا الأدلة العقلية المبينة بردودها) ومما تقدم يتلخص أن لن تفيد تأكيد النفي عند كثير من المحققين كما أنها تستعمل حقيقة في الدلالة على تأييده وإن لم تتعين له خلافا لما جاء في كلام الأستاذ هارون، وأن الزمخشري لم ينفرد إلا بدعوى التعيين، على أن هذه الدعوى قد وافقه عليها ابن عطية أيضا.
طرابلس الغرب
عبد الرحمن الفلهود
نشيد العربي!!:
(اقترحت دائرة التوجيه الوطني في الهيئة العربية العليا (نشيدا يتفق مع روح الجهاد القائم
في أقطار العروبة، يتضمن معنى الغناء في أوزانه، وينبض رجولة في كل لازمة منه، على أن يكون محدودا لا يقل ويمل. . .) وقد تخيرت هذا النشيد.)
نحن أبناء الصناديد الأباه
…
قد ورثنا المجد لا نرضى سواه
فنهضنا نبتغي عز الحياة
…
بقلوب كالرواسي لا تلين
لن ترى فينا جبان
…
إن دعا يوم الرهان
وحمانا رغم أنف الحدثان:
…
لن يهان! لن يهان!
سوف نمضي قدما بين الأمم
…
لا نبالي الموت، لا نخشى الحمم
نبذل الروح إذا الخصم دهم
…
ونوالي موكب النصر المبين
قد برزنا للجلاد
…
مذ دعانا الاتحاد
وتعالى صوتنا في كل واد
…
الجهاد الجهاد!
يا شباب العرب هيا للكفاح
…
جردوا من عزمكم أمضى سلاح
وانزعوا من قبضة الدهر النجاح
…
فلقد هان الذليل المستكين
أنت حر لا تضام
…
يا فتى العرب الهمام
فتقدم لا تبالي بالحمام
…
للأمام! للأمام
رام الله - فلسطين
محمد سليم الرشداق
ماجستير في الآداب واللغات السامية
بين تيمور والنشاشيبي:
أحب أن أؤكد للأستاذ الفاضل (منصف) أن ما ذكرته في مجلة الكتاب عن مخطوط (النوادر) هو الصحيح، فقد رجعت في ذلك إلى أناس قرأوا الكتاب بأعينهم، ووصفوه بما ذكرت. ولو كنت بالقاهرة لنقلت له ما قاله الأستاذ محمد كردعلي والسيد محمد الببلاوي في هذا الصدد، ولكن ما كل ما يتمنى المرء يدركه.
على أن النسخة الخطية للكتاب لا تزال في حوزة اللجنة المؤلفة لنشر مخطوطات تيمور، فلا أقل من أين يتفضل أحد أعضائها الأفاضل فيحكم بيننا في هذا الموضوع.
وقد يكون الأستاذ (منصف) قد قرأ في النوادر نادرتين متتابعتين أو أكثر في موضوع واحد، فظن أن الكتاب مبوب مقسم، والحقيقة أن هذا من قبيل التصادف فحسب، وفي نقل الأديب ما يماثل ذلك، بل إن النشاشيبي رحمه الله قد أفرد قبل وفاته عدة صحائف من نقله في موضوع واحد، هو الحث على الجهاد، وكان ذلك بمناسبة الدفاع عن فلسطين. . .
هذا وللأستاذ المنصف تحياتي.
(الكفر الجديد)
محمد رجب البيومي
حول قصة تضحية أم:
طالعت في العدد الماضي من الرسالة القصة القيمة التي كتبها الأديب عبد القادر صادق من دمشق والتي قدم لها بأن رواها له شيخ جليل زار الشرق الأقصى للتبشير!
ولقد لاحظت أنها وقعت في حرب 1904، وهي سنة متقدمة جدا بالنسبة لسن الكاتب الفاضل، وللمبشر الجليل!
ويؤسفني أن أقرر هنا للحقيقة والتاريخ، أن هذه من صنع مصر، لم يصنعها خيال الأديب الكاتب، ولا رواية الشيخ المبشر، ولكن صاغها قلم هذا الضعيف - حسين الغنام - ونشرها فيما نشر من صور بطلات النساء التي كان ينشرها في (جريدة الجلاء) بمدينة الإسكندرية. وكان ذلك عام 1938. . .
حتى أسماء الأبطال هي أسماء الأبطال، مع تحوير طفيف، وسبحان جامع الخواطر. . .!
هذا مع اعتقادي أن للقصة أصلا عربيا صرفا. . .
حسين مهدي الغنام
تصحيح:
في مقال الأستاذ (الجاحظ)(الشيوعية في الإسلام) في العدد (771) من (الرسالة الغراء) ورد استدلال في كلام (جمال الدين الأفغاني) بقوله تعالى (وأعلموا إنما غنمتم من شيء فلله خمسه) والصواب (فأن لله خمسه) وجاء بعد ذلك (ولذوي القربى) والصواب (ولذي
القربى) والله الموفق.
علي زين العابدين منصور
رسالة النقد
(نار ونور)
ديوان شعر للأستاذ محمد مجذوب
شعرنا العربي في العصر الحاضر يعاني أزمة. .
ومعنى ذلك أنن نعاني أزمة شعورية. . . أي أننا لا نستطيع أن نستوحي الحياة لنستمد منها الإلهام، ولا نتعمق النفس الإنسانية نسبر غورها. . . ولا نمد أبصارنا إلى هذا الكون الواسع لنجول بأفكارنا فيه. . أي أننا لا نستطيع أن نخلو إلى أنفسنا ساعة نستوحيها، ولا نعتمد على شخصياتنا لنستقل بأنفسنا، ونؤمن بنظرتنا الذاتية.
نعم! إن الشعر العربي في أزمة محكمة. .
أساسها أننا لا نزال غير متفقين على معنى الشعر. . فكثيرون يحسبون أن كل من سطر أبياتا وقيدها بالوزن وسجنها في (قارورة) القافية شاعرا من شعراء عصرنا المعدودين. .
وشعرنا يتلوى بين فئتين: فئة تغرق في الإغراب، وتولع في الطلاسم والأحاجي، ولا تفرق بين الرموز السحرية، والألفاظ الشعرية، فتأتي بما لا يفهمه الناس ولا يتذوقونه. . ولا يمكن أن ينسب إلى الشعر في أية حال من الأحوال؛ فتختفي العاطفة، وتملأ شعرها بالصور المضطربة المتهالكة التي لا تستند إلى ركن من المعقول. .
وفئة لا تزال تعيش في القرن الرابع الهجري؛ تحسب الشعر تقليد الشعراء القدامى، والسير على مناهجهم، وإحياء المديح والرثاء المتكلف، وتظن الشعر كلمات محنطة، وجملا متراصة، وقوافي مسجونة لا يربطها نظام، ولا تصل بينها وشائج قربى، فترى الناس بالغت، وتعرض عليهم معارض للألفاظ المحنطة التي لا تحمل رصيدا من عاطفة، ولا خفقة من إحساس، ولا ذرة من إدراك. .
ونحن الآن في عصر الذرة، وعصر النور الكهرباء، عصر التيقظ والاندفاع إلى الأمام، وكسر القيود، وإدراك القيم السامية للحياة، والتفكير العميق بالمثل العليا التي يجب أن تكون عليها الإنسانية لترفل في برد السعادة، وتتمتع بثمار الطبيعة، وتنعم بأفياء الجهاد. . . نحن في عصر القومية، عصر الاستقلال الذاتي، فإذا رأينا فئة تلغز فلا نفهم شيئا، وأخرى تعبث ولا تصدر عن شيء، فماذا يكون موقفنا منهما؟
موقفنا منهما أن ننتصر لأمتنا الناهضة الباسلة، ولقوميتنا النامية المتحفزة، ولذاتيتنا التي تريد أن تستقل، وتكون كيانا خاصا بنا. . . نحن أبناء العرب وبني العصر الحاضر. . - فإذا حددنا موقفنا رسمنا خطتنا بازاء من يعتدي على قوميتنا، ويلهو بنا، ويسعى إلى الحط من شعرنا العربي عن قصد أو عن غير قصد.
وديوان (نار ونور) يمثل الفئة الثانية تمثيلا صادقا! ويعبر عن العقلية المحدودة، والنظرة الضيقة، والعاطفة الميتة التي عرف بها شعراء هذه الفئة. فلننظر في هذا الديوان:
الشعر - كما أفهمه - تجربة نفسية صادقة، وتصوير دقيق لهذه التجربة. . فهو نتيجة لاستجابة عاطفية أو فكرية للمؤثرات الخارجية معروضة في تعبير لغوي دقيق. . . فنحن نعيش في هذا العالم محاطين بأشياء كثيرة، أحياء وجمادا. . والحياة التي تحقق بين جوانحنا تدفعنا إلى التأثر بهذه الأشياء إيجابا أو سلبا. فما علينا إلا أن ننقل إحساسنا الصادق إلى القرطاس.
هذا هو الشعر في ابسط تعاريفه ذو ركنين من العاطفة والتعبير الصادق.
فماذا حقق لنا الأستاذ المجذوب من هذين الركنين؟
في الديوان قصائد أملتها المناسبات، وقصائد أخر تعبر عن آراء الشاعر في الناس، ونظرته إلى الحياة.
وأنا أمقت شعر المناسبات لأنه (كالسخرة) الأدبية وكالتجارة التي يلتجأ فيها الشاعر إلى المراوغة والكذب، وإلى الخداع والتضليل، أضف إلى ذلك أن شعر المناسبات يقيد شخصية الشاعر التي يجب أن تظهر واضحة جلية طليقة في كل ما ينظم. . وشعر المناسبات يدفع الشاعر إلى إرضاء الجماهير، وإرضاء الممدوح، وتملق العواطف.
وفي قصائد المناسبات من هذا الديوان تظهر نفسية الشاعر المضطربة: يتكلف المعاني ويسرف في التكلف حتى يخيل إلينا أنه يعبث عبث الصبيان، وينشا من غير عاطفة أحسها، ومن غير شعور اختلج في نفسه. .
وتلك هي النكبة الكبرى في هذا الديوان. فالشاعر يعرف الشعر رصف كلمة جنب أخرى، ووضع بيت تحت بيت، فتراه يرثي رجلا، ويمدح محسنا، ويحتفل بمولد طفل، وينظم برقية تعزية!. . وهذا أعجب ما عرفت في هذا الباب.
فلنفرض على القارئ الكريم شعر المناسبات هذا. . شعر المناسبات الذي دافع عنه الشاعر ولم يحسن الدفاع كما لم يحسن التطبيق. . ولتكن عندنا أناة وصبر لنعرف منزلة هذا الشاعر الكبير. . ولنقرأ مدحه لعلي مظهر باشا رسلان الذي يقول فيه:
آية الفن أن يفيض على الظلم
…
سعيرا وفي الجمال فنونا!
فأدرها صهباء في عرس الحق
…
ترد الوجود شعرا مبينا
المنى في يديك قاصرة الطر
…
ف فمتع بحسنهن (الجفونا)!
لفها النور في وشاح من الخل
…
د أراق الدجى عليه الشؤونا (؟)
وذرا فوقه الكواكب حمرا
…
ء عليها دم الضحايا سخينا!
أقرأت هذا العبث اللفظي الذي لا طائل وراءه؟. . . أرأيت دم الضحايا (السخين). . ثم اقرأ هذا المدح، وافهم الصفة التي أطلقها الشاعر على ممدوحه:
يا رسول السلام والرحمة الكبر
…
ى وترب الجحاجيح المنقذينا
ومنار الهداة للمدلج السا
…
ري وغيث السماء للمجدينا
لو بيعت هذه الألقاب في السوق فهل تعرف كم يكون ثمنها؟
إننا نمقت شعر المناسبات لأنه يطلق الألقاب دون استحياء ولا خجل؛ فهذا رسول السلام، وذاك رب الرحمة، وآخر غوث السماء، ورابع إمام الفصيلة والإحسان والجود. . .
ولننتقل إلى الرثاء لنقرأ رثاءه لغازي حيث يقول:
اختنق يا لواء حزنا فإن الشم
…
س مخنوقة السنا في الأعالي
اختنق إن في اختناقك معنى
…
غصة الدمع في صدور الرجال
اختنق فالمصاب بالبطل المر
…
موق (من شرفة النهى والخيال)
اختنق فالشام سكرى وبغدا
…
د ثكول والقدس في زلزال!!
ولم يختنق إلا القراء المساكين من هذه المبالغات الغريبة.
إن رثاء الأستاذ المجذوب يذكرنا بشعراء الفترة المظلمة، حين نعوا الفضيلة، وكسفوا الشمس، وخربوا الدنيا، ورثوا الحق والإنصاف والكرم والمثل العليا. . لماذا؟. . لأن صاحبهم مات. . الله يرحمه. . أما سائر شعر المناسبات فلنتركه لمن أصابه السهاد!
ولنأت إلى أشعاره التي تضمنت آراءه في الناس وفي الحياة.
والأستاذ المجذوب في هذا الباب يحاول تقليد الصافي النجفي الشاعر الإنساني الساخر. . وهيهات أن يبلغ ذلك!. . لأن الصافي شاعر دقيق الملاحظة، فياض الإحساس، عاطفي المزاج، إنساني النزعة، يفكر فينفذ إلى الأعماق، ويصدر عن شخصيته القوية التي طبعت شعره بطابع خاص. تلك الشخصية التي كونتها حياة الصافي الخاصة، وظروفه المحيطة به.
أما الأستاذ الشاعر فسخريته مصطنعة، وآراءه غير عميقة؛ فإذا أراد أن يسخر استهزأ بالناس، ولعن القدر والحياة. . كأن السخرية استهزاء بالناس وعبث بالأوضاع.
والهجوم على الناس أصبح (موضة) هذا العصر. . فإذا أراد رجل أن يرفع نفسه، ويسمو متكبرا على حساب الآخرين ذم الناس والدنيا، وكفر بكل شيء. . وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على (مركب نقص). . فالنفس الكبيرة تحترم النفوس وإن كانت صغيرة. وأنا لا أنكر أن في الدنيا شرا كثيرا، وأن أوضاع الناس قائمة على شيء من الظلم والقسوة. . ولكني أود أن لا ننخدع بالمظاهر الكذابة ولا أريد أن نلهو بالفقاقيع. . بل أريد الشاعر أن يختص بالانفعالات النفسية، وبالخلجات القلبية أريد الشعر أن يرتفع إلى أعلى لا ليتحدث عن الصدق والكذب، وعن غرور الناس وضلالهم حديث الحكيم أو الواعظ. . بل أريده تصويرا صادقا للواقع، وعرضا دقيقا للحياة.
والأستاذ المجذوب ينظم باللغة المهلهلة، ولا يفرق بين لغة الشعر ولغة الجرائد اليومية. . والوزن والقافية جنيا عليه جناية كبيرة. . وكثيرا ما يفلت من يديه الوزن فيضطرب. . أما الحشو فكثيرا ما يلجأ إليه الشاعر للمحافظة على الوزن. ومن أمثلة (الزمان النائي، والظلام المبيد، والساحل المنكود). .
والأخطاء اللغوية كثيرة أردت أن أحصيها فمللت. والخلاصة أني تكلمت عن هذا الديوان لأعرض صورة من صور هذه الأزمة الشعرية في أدبنا العربي. . ولا نستطيع أن نظفر في الديوان كله بغير قصيدة واحدة ترتفع إلى منزلة الشعر، وهي (رثاء مستنقع) والحق أنها من أبدع الشعر وأصدقه وأكثره عاطفة وشعورا.
غائب طعمة فرحان