المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 773 - بتاريخ: 26 - 04 - 1948 - مجلة الرسالة - جـ ٧٧٣

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 773

- بتاريخ: 26 - 04 - 1948

ص: -1

‌دعويان منفصلتان

للأستاذ عباس محمود العقاد

تلقيت من الأستاذ صاحب التوقيع خطاباً جاء فيه:

(. . . قابلت فتى ممن يسمون أنفسهم بالتقدميين وهم يعلنون عن أنفسهم بصراحة. فبدأ يهاجم كعادتهم، وكان محور هجومه عمر بن الخطاب.)

(اتفقنا من حوارنا على أن الغرض الأساسي للدين هو علاج الأمراض الاجتماعية ومنها الناحية الاقتصادية. فلا يكون هناك المعدم وصاحب الملايين. قلت إن نظام الزكاة في الإسلام يحقق ذلك، فقال: تعال معي لنرى هل أفلح هذا النظام في عصر من العصور. ان محمدا قد افلح بدينه في نقل الناس من حياة العبودية إلى حياة حرة، فتطلع الناس على حقوقهم واخذوا يدركونها. وفي عصر عمر الذي بلغ فيه الإسلام اوجه، حدث انه كان هناك امرأة تطبخ الحصى لعيالها الجياع بجانب رجل يهب لبيت المال عدة ألوف من النوق. . . ولا يوجد في التشريع الضمان الاجتماعي الكافي الذي يمنع حدوث هذا الفارق. وتناولنا الكلام على الضريبة التصاعدية، فادعى إن الإسلام لا يقر النظام التصاعدي في الضرائب. . وان شخصاً مثلى - وغيري كثير - لم يؤهلهم تعليمهم للرد على هذه الدعاوى وإقناع من يضطربون من الشك من جراء ما ينفثه زملاؤهم التقدميون من آراء فاسدة. . فهلا توليت الجواب على هذه الآراء حتى تهدي الحائر وتخرس الضال. . ولكم مني الشكر، ولو على قراءة هذه الرسالة)

السيد محمد الغزي

معيد بكلية الهندسة: جامعة الفاروق

والذي نريد أن نبدأ به هو الفصل القادم بين أمرين مختلفين يجمع بينهما هؤلاء الذين يسمون أنفسهم بالتقدميين.

الأمر الأول فساد المجتمع الحاضر.

والأمر الثاني أن الشيوعية هي علاج هذا الفساد.

فمهما يكن من مرض زيد من الناس فليس هذا بشهادة طب لكل من يدعي القدرة على

ص: 1

علاجه، ولو كان من المشعوذين

زيد من الناس مريض لا شك في اشتداد المرض عليه.

سلمنا. وذهبنا في التسليم إلى غاية ما يريدون. ولكن مرضه هذا لا يشهد بالقدرة الطبية لكل من يعالجه، ولا بصحة الدواء الذي يوصف له في ذلك العلاج.

هذا شيء، وهذا شيء آخر، ولا بد من الفصل بين مرض زيد ودعوى الطبيب. لان الطبيب الجاهل أضر من المرض، أو اضر من ترك المريض بغير علاج.

والشيوعية لم تثبت قط - نظراً ولا عملا - أنها هي الطبيب الصالح لعلاج الفساد في المجتمع الحاضر. فقد كلفت روسيا أكثر من عشرين مليوناً من أبنائها ذهبوا في المجاعات والأوبئة والفتن الاهلية، وكلفتها حرية أبنائها الذين لا يملكون حق انتقاد الحكومة فيها، ومضى عليها ثلث قرن من الزمان في تطبيق دائم تعززه القوة الغالبة، فكانت نهاية المطاف أن روسيا تأخذ بنظام الطبقات وتخشى أن تنكشف للعالم، فيطلع العالم كله على فشلها، ولا تزال محتاجة إلى إثارة الفتن في كل بقعة من بقاع الأرض، لتأمن على نظامها المتصدع الذي تخشى عليه الزوال.

أما أن الغرض الأساسي للدين هو علاج الأمراض الاجتماعية، فهذا غير صحيح.

لأن الأمراض الاجتماعية عارض بتغير من عصر إلى عصر، ومن بلد إلى بلد، ومن سلالة بشرية إلى سلالة أخرى.

ولو كان الدين مسألة هذا المجتمع أو ذاك لوجب أن يكون لكل آمة دين، وأن يتغير هذا الدين في كل عشرين أو ثلاثين سنة، وهذا غير الواقع الذي نراه.

إنما الدين علاقة بين الإنسان وبين هذا الوجود كله، أو علاقة بين الموجودات الإنسانية وبين مصدر هذا الوجود.

ما الإنسان؟ ما مصيره؟ ما هو رجاؤه في حياته؟ ما هو قوام الحقائق والأخلاق في ضميره؟

هذا هو مناط الدين وهذه هي رسالة الدين.

فهو مسألة إنسانية تلازم الإنسان على توالي العصور، وعلى اختلاف المجتمعات.

ثم يأتي إصلاح المجتمع من طريق إصلاح الضمير.

ص: 2

فإذا صلح الضمير صلح المجتمع من هذا الطريق.

وإذا سلمنا بالتطور فمعنى التطور أن يكون هناك عيب يتبعه كمال، وأن يكون هناك خطأ يتبعه صواب، وأن يكون هناك سيئ يتبعه حسن، أو حسن يتبعه ما هو أحسن.

فلا يصح أن يكون النقص دليلا على فساد النظام كله، لأن التدرج يستلزم وجود النقص في كل طور من الأطوار، أملا فيما يعقبه من التمام والصلاح.

وليس الصلاح على كل حال هو منع التفاوت بين الناس.

لأن التفاوت سنة من سنن الحياة، بل علامة من علامات الارتقاء في هذه الحياة.

لا تفاوت بين ذرة وذرة من ذرات الجماد.

لا تفاوت بين خلية وخلية من خلايا الجراثيم.

لا تفاوت بين حشرة وحشرة من صغار الحشرات.

ولكن التفاوت يزداد كلما ارتقى الكائن الحي في معارج الحياة، ولا يزال هذا التفاوت مطرداً حتى يبلغ غايته في الإنسان، فيصبح الفارق بين إنسان وإنسان كالفارق بين الأرض والسماء تلك هي علامة التطور والارتقاء.

ومع هذا التفاوت الذي يلازم الارتقاء، لا معنى لإلغاء التفاوت في المراكز والأرزاق.

نعم إن المساواة واجبة في الحقوق، ولكن هذه المساواة لا ينبغي بحال من الأحوال أن تكون مساواة بين حق المجتهد وحق الكسلان.

لأن المساواة بين المجتهد والكسلان تجنى على الكسالى أنفسهم قبل جنايتها على المجتهدين.

فالحياة كلها حافز واستجابة وليس في الحوافز البشرية حافز أقوى من حافز الخوف من عاقبة الكسل والإهمال، إذا رأى الناس أن الكسل والإهمال يحرمان صاحبهما حظه من الرزق والطمأنينة.

فإذا زال هذا الحافز زال الباعث على التقدم والنشاط واستخدام القوة الكامنة في كل بنية حية، وأنحدر الإنسان إلى حضيض الحيوان

وإذا حدث هذا فالبلية فيه اعظم جداً من بلية آحاد من الناس يطبخون الحصى في وقت من الأوقات، لأنها بلية تحيط بالطبيعة البشرية كلها وتقضي على جميع حوافز الحياة.

ص: 3

وإذا كان التاريخ يروي لنا اليوم أن امرأة في عهد عمر ابن الخطاب كانت تطبخ الحصى فأنقذها عمر، فالفضل في ذلك للنظام الذي جعل هذا الحادث مثلا يروى في التاريخ، ولم يطمسه بغشاوة الظلم والكمان كما تنطمس اليوم ألوف الشيكات في مجاهل سيبريا، وفي ظلمات السجون، وفي حنايا القبور، فلا يعلم بها أحد من الناس في ساعتها، فضلا عن علمه بها بعد مئات السنين.

أما حديث صاحبك عن الضريبة التصاعدية في الإسلام فهو حديث خرافة، لأن أولي الأمر في الإسلام - مع قيام الشورى في حكومته - يستطيع أن يفرض ما يشاء، كلما اقتضته مصلحة المجموع.

ولضريبة عمر في أعناقنا بقية على ما يظهر.

فقد جاءنا أيضاً هذا السؤال عن عمر بن الخطاب من الأديب صاحب الإمضاء. قال:

(. . . في كتابكم عبقرية عمر أنه رضى الله عنه أوصى بوضع قواعد النحو، بينما يقول أستاذنا الفاضل، بأن الذي أوصى بوضعها هو علي بن أبي طالب. . . فعلا تفضلتم بشرح هذا الاختلاف؟. . .

أحمد كمال الدين الغرابلي

طالب بمدرسة العروة الوثقى الثانوية بالإسكندرية

وجوابنا للطالب الأديب أننا اعتمدنا فيما كتبناه على مسند عمر في الجامع الكبير حيث قال أبو مليكه: (قدم أعرابي في زمان عمر رضى الله عنه فقال: إن الله بريء من المشركين ورسوله) بكسر اللام في رسوله. فقال الأعرابي: أو قد بريء الله من رسوله؟ إن يكن الله قد بريء من رسوله فأنا أبرأ منه. فبلغ عمر مقالة الأعرابي فدعاه. فقال: يا أعرابي! أتبرأ من رسول الله؟ فروى له القصة. فقال عمر: ليس هكذا يا أعرابي. قال فكيف هي يا أمير المؤمنين؟ فقال: إن الله بريء من المشركين ورسولُه. فقال الأعرابي: وأنا والله أبرأ مما بريء الله ورسوله منه. فأمر عمر رضى الله عنه ألا يقرئ الناس إلا عالم باللغة، وأمر أبا الأسود فوضع النحو).

وهذه رواية يصح التعويل عليها، وقد ثبت على كل حال أن الفاروق رضى الله عنه كان

ص: 4

ينكر بعض اللحن في كلام معاصريه، ويوصي بحفظ عيون الكلام لتمكين ملكة الفصاحة وتقويم اللسان.

عباس محمود العقاد

ص: 5

‌سياسة الصهيونية المالية ونذالتهم

للأستاذ نقولا الحداد

أسأل الأستاذ لطيف مختار من بغداد، و (العاصف)(المهذب) المجهول العنوان، والفتى الأديب حسن من المنصورة؛ هؤلاء الذين لاموني فيما كتبت عن اليهود والتلمود والبروتوكولات الصهيونية - أسألهم: هل بلغ إليهم ما فعله الصهيونيون في بلدة دير يس غربي القدس، وفي بلدة ناصر الدين قرب طبرية وغيرهما من التفظيع بالأجنة في الأرحام والرضّع على الصدور والأطفال في الأحضان، ومصونات النساء في الخدور، والشيوخ الضعفاء العزل من السلاح، وما فعلوه في قرى أخرى حيث لا توجد حامية من الرجال للدفاع ضد قوة صهيونية تفوقها عدداً وعدداً خمسين مرة؟

هل عرف أولئك الذين لاموني فيما كتبت أن هؤلاء الصهيونيين الذين قرَّع بهم العالم في الجرائد والبرلمانات لأجل هذه الفظاعات يستهزئون بهذا التقريع ويفتخرون بهذه النذالة، وهل يعلم الذين لاموني أن هذه هي لأخلاق اليهود (يتمرجلون) على الأطفال والنساء، ولكنهم أمام أبطال العرب يفرون فرار الأرانب والفئران، وأنهم في معاملاتهم حيث تقوم قوة الحق لسحق الباطل يكونون كما قال القرآن الشريف:(ضُربت عليهم الذلة والمسكنة).

هؤلاء هم الذين رأيناهم ينكلون بالضعفاء، ولكنهم يخرون ساجدين أمام الرجال الأبطال. لماذا نطلب منهم المروءة والإنسانية؟ أعرب هم؟ هذه أخلاق العرب. العرب ينذرون أهل القرية قبل ضربها لكي يخرج منها النساء والأطفال.

لله ما أشرف النمور والفهود والذئاب، وما أحن الهرر وأرق قلوب الكلاب.

وهل علم الذين لاموني أن حاخام اليهود في فلسطين (حاكمهم أو حكيمهم) بعث برسالة إلى جلالة الملك عبد الله يدعى أنه استفظع هذه الفظائع التي فظَّعها اليهود والهاجاناه. لماذا يبعث الرسالة لجلالة الملك عبد الله وحده؟ هل هناك سرّ سيظهر بعدئذ؟ ونظن أن جلالة الملك عبد الله أجابه: إن كنت لا تستطيع أن تمنع هذه الفظائع فاستعفِ من منصبك وأنت زعيم المغظعين، وإن كنت لا تتحمل حقيقة وقر هذه النذالة فاذهب إلى مغارة في جبل نبو جنوبي أورشليم حيث دفن النبي ارميا تابوت العهد المحتوى على اللوحين الحجريين اللذين كتب الله بإصبعه عليهما وصاياه؛ واسمع هناك صوت الله لا تقتل)، واستغفر الله عن شعبك

ص: 6

إن كان الله يقبل الاستغفار.

هؤلاء هم الذين إذا لامهم أحد لفظائعهم قالوا: (هي حرب آباد). ولكنهم يجهلون أنهم يبيدون عن بكرة أبيهم قبل ان تبيد كتيبة من العرب. لله ما أجهلهم!

هؤلاء أيها العادلون هم اليهود الذين يريدون أن ينشئوا دولة يهودية في فلسطين تكون دولة الدول الصهيونية التي تضع تحت أقدامها جميع دول العالم. هؤلاء أيها اللاحون هم الذين يجب أن نجاورهم ونعيش بين ظهرانيهم عبيداً أذلاء إذا نجحوا.

هؤلاء هم شعب الله المختار الذي يقول إن الجوييم غير اليهود من جميع الأمم هم بهائم.

هؤلاء الذين أشفقتم عليهم من قلمي وما علمتم إن قلمي ليس إلا فاضحاً برامجهم ومواثيقهم السرية، وليست أعمالهم إلا تطبيقاً لمواثيقهم - بروتوكولاتهم. وإليك فصلا من مواثيقهم عن سياستهم المالية:

العمل ورأس المال - الميثاق السادس:

البند الأول: يجب أن ننشئ في أول فرصة احتكارات ومخازن (مصارف) احتياطية للثروات الضخمة تتوقف عليها ثروات الجوييم (الناس الذين ليسوا يهوداً) إلى أن تهبط هذه إلى القعر مع اعتمادات الحكومة على أثر الحبوط السياسي (يعني أن تضمحل هذه الثروات متى حصل انقلاب سياسي خطير).

بند 3 - يجب أن نعظم أهمية حكومتنا العليا بكل طريقة بحيث تكون ممثلة لحماية جميع الذين يخضعون طواعية لنا ولمصلحتهم (لأن هؤلاء اصبحوا في يدنا نتصرف بهم كيف نشاء).

بند 4 - ستكون قوة أرستقراطية الجوييم قد ماتت (تجاه قوة المال طبعاً) فلا ينبغي أن نحسب لها حساباً، وإنما يجب أن نحسب حساب أصحاب الأملاك منهم؛ لأنهم يظلون ضارِّين لنا بمعنى انهم يعتمدون عليها في مصادر أرزاقهم (فلا يحتاجون ألينا)، ولذلك يجب أن نبذل كل جهد في أن نجردهم من أملاكهم بأن نسعى إلى فرض الضرائب الثقيلة على هذه الأملاك ونحملها الديون الباهظة، وهذا التدبير يضعف عمليات الامتلاك، ويقلل الميل إلى التملك، وبالتالي يجعل الملاك خاضعين لنا بلا قيد ولا شرط.

(ولهم طرق آخر في تجريد الناس من أملاكهم وأموالهم منها أن يسلطوا عليهم نساءهم في

ص: 7

الندية الدعارة كما كانوا يفعلون في فلسطين وغيرها. يشترون الأملاك من أصحابها بالأثمان الباهظة والنساء يستردون هذه الأموال بثمن لا قيمة له عندهن ولا عند رجالهن، وما هذا بالأمر المنكر عندهم كما ذكرنا في البند من الميثاق الأول في مقال سابق).

بند 5 - ولما كان الأعيان من الجوييم بحكم الإرث الطبيعي والاجتماعي لا يكتفون بالقليل في إشباع شهواتهم فإذا عزَّ الكثير عليهم يتحرقون ويطيرون شعاعاً (لا ريب أن الصهيونيين مصيبون في هذه الفلسفة. فليس للأعيان صبر على المضض كما لليهود).

بند 6 - في نفس الوقت يجب أن نسيطر بكل جهدنا على التجارة والصناعة جميعاً ونجعلها تحت أرادتنا وإدارتنا. وإنما قبل كل شيء يجب أن ندير دفة المضاربات التي تلعب الدور الخطير في تهيئة الموازنة بينهما (أي في خضوع الصناعة لنظام المضاربات) لان عدم دخول الصناعة إلى دار المضاربات يضاعف رؤوس الأموال في أيدي خاصة ويساعد على تقوية الزراعة بتحرير الأرض من عبأ الدينونه لبنوك الأراضي (وهذا أمر مناقض لمساعيهم في السيطرة)، والذي نبتغيه هو أن الصناعة يجب أن تستنزف من الأرض قوة العمل ورأس المال بواسطة المضاربات، وهذه تسرب إلى أيدينا جميع أموال العالم، وحينئذ ننزل الجوييم إلى درجة العمال، وثمت يخر الجوييم ساجدين لنا رغم أنوفهم وإلا فلا يستطيعون أن يعيشوا.

(فترى مما تقدم اللعبة الشيطانية في استنزاف الأموال بواسطة المضاربات المختلفة. ولهم طرق أخرى لسلبها كاليانصيب على اختلاف انواعه، والتأمينات والمراهنات المتنوعة كالسباق وصيد الحمام وأشكال القمار ونحو ذلك. كل هذه من اختراعاتهم).

بند 7 - ولكي يتم هدم الصناعة عند الجوييم يجب أن يساعد فعل المضاربات بفعل الترف الذي نشرناه بين الجوييم. لان الترف يلتهم منهم كل شئ (المال والشرف والوطنية الخ) فيجب أن ترفع الأجور والماهيات، فإن هذه لا تنفع العمال النفع الذي يتصورونه؛ لأننا في الوقت نفسه نرفع أسعار الحاجيات زاعمين ان ارتفاع الأسعار نشأ من انحطاط نتاج الزراعة والمواشي. ويجب أن نزعزع ما أمكن مصادر الإنتاج بان نعود العمال على الفوضى والاعتصاب والإضراب وإدمان المسكرات، والى جنب ذلك نبذل كل جهد في أن نستأصل عن وجه الأرض جميع قوى الثقافة عند الجوييم.

ص: 8

(هل يمكن إبليس الرجيم أن يستنبط وسائل للهدم والتدمير أقوى من هذه؟ ان هؤلاء الحكام الصهيونيين هم أساتذة الأبالسة).

البند 8 - ولكيلا يفطن الجوييم إلى مقاصدنا هذه قبل مجيء الوقت الملائم لإعلان دولتنا يجب أن نوهمهم بأننا راغبون رغبة صادقة في خدمة طبقات العمال وتقويم المبدأ الأساسي للاقتصاد السياسي الذي نسدد أليه ومنه جميع أنواع دعاياتنا.

(أترى كيف يعملون أعمالهم الخبيثة من وراء ستار الأعمال الصالحة؟).

الميثاق التاسع:

بند 2 - إن كلمات السر - الحرية والإخاء والمساواة - التي وضناها نحن للماسونية لكي تظهر جمعية صالحة يجب أن تتغير متى تكونت مملكتنا إلى هذا التغيير: - حق الحرية وواجب المساواة ونظرية الإخاء - هكذا يجب أن نصوغها، وبها نمسك الثور من قرنيه، ونكون قد نقضنا بالفعل كل حكم ما عدا حكمنا، وان بقي بعض الأحكام السابقة قائما فلا يكون نافذا نفوذ خطير الشأن. وإذا احتج أية حكومة علينا فيكون احتجاجها صوريا فقط.

بند 3 - لا يمكن أن نقوم موانع تحدد نشاطنا. انو حكومتنا العليا تقوم في الأحوال والظروف غير الشرعية فتوصف بالدكتاتورية القوية المستبدة التي تنفذ رغائبها بالقوة القاهرة (إلى أن يقول الرئيس): أني في موقف يسمح لي أن أخبركم بضمير صاف إننا نحن الذين نسن القوانين يمكننا في بعض الأوقات المناسبة أن نتسامح في القضاء والأحكام؛ فنذبح من نذبح ونعفو عمن نشاْ، ونحن كزعماء لجماعاتنا نمتطي جواد القيادة ونحكم بقوة الإرادة المطلقة؛ لان في بيدينا شراذم الإفراد الذين كانوا قبلا الحزب القوي، وقد انتصرنا عليهم، والسلاح الذي في أيدينا هو المطامع الأشعبية التي لا حد لها والجشع الناري، والنقمة بلا رحمة، والبغض والحقد الشديدين (نعوذ بالله. هذا هو عين ما نراه في سلوك هؤلاء القوم مطابقا لهذا البند).

بند 4 - منا نحن يصدر الذعر الشامل (كذا بكل قحة) ففي خدمتنا أشخاص لهم جميع صنوف الآراء والمبادئ والتعاليم من فوضويين ودعاة واشتراكيين وشيوعيين وحالمين بالمملكة الطوباوية أشكالها المختلفة. لقد القينا على رقابهم نير العمل لغرضنا. كل واحد منهم حامل منهم حامل على حسابه الخاص البقية الباقية من الحكم القديم لكي يطرحها في

ص: 9

الهاوية، وبهذه الافتعال نرى جميع الحكومات في عناء وشدة، وكل منها تجتهد ان تنجو من هذه الشدة بأية تضحية، ولكننا لا نمنحهم السلام والراحة ما لم يعترفوا بحكوماتنا الدولية العليا، وبخضوعهم المطلق لها.

بند 6 - لقد ضجت الشعوب بوجوب تقرير أمر الاشتراكية في اتفاق عام في مؤتمر دولي، ولكن انقسامهم إلى أحزاب مختلفة دفعهم إلى بيدينا لأنهم لا يقدرون ان ينفذوا خطة لهذا النزاع إذا لم تكن عندهم أموال للنفقة، والأموال في يدنا.

(هكذا يستندون إلى المال في كل مكيدة يكيدونها).

بند 7 - يمكن أن نظن أن يتوصل ملوك الجوييم العقلاء البعيدو النظر إلى اتحاد عام (كالجامعة العربية مثلا) ولقاء هذا الاتحاد تنغمس قوة الغوغاء في هياج اعمى؛ ولكننا قد احتطنا لكل حادث من هذا القبيل، فقد أقمنا بين القوتين متراسا بشكل رعب متبادل بينهما (قوة الجند من جهة وثورة الرعاع من جهة أخرى). بهذه الطريقة تبقى قوة الشعب العمياء سندا لنا. ونحن وحدنا نجهزها بقائد، وبالتالي ندربها في الطريق الذي يؤدي إلى هدفنا.

(لا تستغرب إذا قيل لك إن معظم الحروب والثورات، ولا سيما الأخيرة منها نشأت من جراء مكايد صهيونية).

بند 13 - (يقول الزعيم القائم في مؤتمر الحكماء الشيوخ) قد يلوح لكم إن الجوييم يقومون علينا في يوم من الأيام إذا أحسوا بما هو جار من استعداداتنا قبل أن يحين الوقت الملائم لإعلان حكومتنا. اجل. ولكن عندنا في الغرب ضد ثوراتهم مناورات رهيبة تتصدع فيها القلوب الحديدية - المخابئ الخفية والسكك الحديدية تحت الأرض إلى غير ذلك من السراديب تمتد قبل مجيء الوقت المنتظر تحت العواصم والحواضر. فمن تحت الأرض تنسف هذه العواصم والمدن فتنتفض في الهواء وتندثر كل أنظمتهم وسجلاتهم الخ. وفي مقال قادم خطتهم في الصحافة.

نقولا حداد

ص: 10

‌مشاهدات مسافر

ألمانيا بعد الحرب

للدكتور محمد سامي الدهان

أجل أعود من جديد إلى هذا البلد الواسع الكبير، يحفزني أمران؛ فأنا أسعى في جمع تراثنا المخطوط من مكتبات ألمانيا المتفرقة في غنى، الموزعة في نظام. وأنا أسعى كذلك في أن أتعرف إلى الأساليب الحديثة في كل شيء: في المعرفة والحياة. . .

كان علي أن أسجل (القديم) وأن أرسمه حيث كانت ألمانيا أمة تهتز لذكرها أمم، فيهم من يرى عندها المثل الأعلى والغاية القصوى، وفيهم من يكفر بحضارتها ويطيل في ذمها. كان علي أن أسجل هذه الزيارة الطويلة الواسعة من أقصى حدود الراين، بطاحة ونجوده، حتى برلين؛ ومن هذه العاصمة حتى لينزغ ومونيخ ونور نبرغ، فالغابة السوداء وتوبنيكن ونهر الراين؛ في شهور عصيبة من عام 1938، والعالم يضع أبواباً لحدوده ويخترع الأقفال من ورائها؛ فكان لأنباء الحرب هلع في القلوب وجزع في النفوس ونار في الرماد، وحمم تتوثب، ودنيا ترتجف، وآمال تبنى، وأمان تتهدم. كان علي أن أصف كيف كانت تخوض ألمانيا حرب الأعصاب في الدعاية لجنسها والاستجابة لعرقها والجمع لشملها. وكنت وأنا أعبر الحدود البلجيكية الألمانية أقرأ في صحف باريس أن القوم أعلنوا التجنيد وجمعوا الصفوف وأنهم على أبواب حرب، وقد أقسموا أن يقفوا بين رغبة ألمانيا واستلاب السوديت.

وما من شرقي عربي يستطيع أن ينزل من القطار عشرات المرات، وأن يلبس القناع الواقي عشرات المرات، وأن يتمرن في سفره على الاستعداد مع القوم لحرب عصيبة، فلا يهتز له جنان، ولا يرتجف له قلب! فقد تعلمت الحرب عن الأدب، وجربت النضال عن الكتب، فلست أفهم فتاة تحرس النفق، وامرأة تفتش المارة، وأخرى تحمل السلاح. ولست أفهم كيف يؤمن عشرات من الملايين بالحرب في القرن العشرين، يتقدمون إلى النار في ثغور باسمة وقلوب هائمة، لا يسمعون إلا لصوت واحد في زحمة الأصوات، ولا يتلفتون إلا لنداء واحد في جلبة النداءات.

كان علي أن أصف ما شهدت من اجتماع برلين، وما سمعت من الأقطاب الأربعة من

ص: 11

خطب موتيخ، وما كان فيهما من تأخير الحرب عاماً كاملا. ولكن هذا كله غدا في التاريخ، وانطوى في الحقب، وتحدث عنه الناس فأكثروا، ووصفه الكاتبون الغربيون فأسهبوا. ولعل لي رجعة إليه حين يحلو الكلام فيه.

أما الآن، وقد هدأ غبار المعركة الصاخبة، وسكنت ثورة العاصفة الجامحة، فقد أحببت أن أعود من جديد إلى هذا البلد القديم لأرى القوم في حال غير الحال ودنيا غير الدنيا.

ولن يكون السفر عن سبيل سفارة ألمانية وقنصلية جرمانية، فقد تولى الحلفاء الأربعة في كل عاصمة منح الإذن لمن له أن يطلب المرور. وفي باريس على مقربة من ساحة (التروكاديرو) شارع ضيق طويل على البناء الأوسط كتابة عريضة تعلن عن موقع (مصلحة الأمور الألمانية والنمساوية). فإذا دخلت فسترى الضابط الإنكليزي والأمريكي والفرنسي يتجاورون في غرفة واحدة ويتحاورون في لغة واحدة، تنتقل من مكتب إلى مكتب، وأنت تتقلب بين شارات ونجوم فلا تجد أثراً للسلطة الرابعة، لأنك تستطيع أن تقصد إلى أية منطقة إلا البلد الحرام؛ حيث ركز الروس أعلامهم، وبسط السوفيت ظلالهم. فإذا كنت تلح في الزيارة فاذهب إلى برلين وهناك تستشير من بيدهم الحل، فيمنحون الأذن أو يحرمون. .

يا لله ما أعجب الدنيا تتبدل في أعوام عشرة فكأنها ما كانت، وتتغير في سنين فكأنها ما وجدت، يزورها المرء وهي بستان جامع وهضاب نضرة وبلدان عامرة ثم يعود إليها فإذا هي جرداء قاتمة وأكوام من أحجار حتى ليخيل إليه أنه يزور بلاداً أصابتها الزلازل، أو انهارت عليها البراكين، أو تقادمت عليها القرون ومسحت عليها العصور، فيحسب أنه يزور مدينة أثرية يتلمس في جنباتها التاريخ ويقرأ من خرائبها العبر. ذلك أول شعور يمس المرء حين يجتاز نهر (الراين)، ويعبر الحدود. بل لعله وهو ينتقل في قطار فخم من ربوع الألزاس يكذب الخارطة بين يديه ويتهم نفسه بالجهل بالجغرافية فلا المعالم معالم ولا الحدود حدود.

واستقبلنا على الحدود جنود ألمانيون في لباس نازي قديم بال لأنهم لا يملكون سواه، وأقبلوا يفتشون الحقائب، فما ينفكون يفتحونها ويغلقونها، فيفتحون عيونهم للمنظر الجميل من مأكل لم يعرفوا طعمه منذ حين، ولباس لم يعرفوا لمسه منذ أمد، ثم يطبقون العيون على قذى

ص: 12

ويشكرون للمسافر، ويحيلونه إلى السلطة المحتلة، فتوزعه السلطة في قطار من القطرات. ولن يشكو المسافر من القطار الذي يحمله والثمن الذي يدفعه، فله الدرجة الأولى والثانية، يمرح فيهما كما يشاء. وفي الثالثة سكان البلاد يتكدسون وقوفاً، ويتعلقون بأطراف القطر وسلالمها، كما يتعلق غلمان القاهرة بأطراف حافلات الترام سواء بسواء. وسيعجب الأجنبي للألماني كيف يحيا اليوم، فهو يقتطع الخبز الأسود الكبير لقمة بعد لقمة هي كل غذائه الذي رأيته في يومين اثنين من رحيل القطار، ويرى مناظر لا تصدقها عيناه. هذه امرأة مرضع نامت على جدار القطار وهي تحتضن وليدها، وهذا شيخ سكت رفاقه عن استبداده في الجلوس بالممر فنام جالساً؛ وهذا شاب بلغ المحطة التي إليها يقصد وهو يعرف أنه بلغها لكن القوة خانته والجوع خذله فما له حيلة في قيام ولا قعود، فآثر البقاء، وما ينتظر القطار الجياع!. . .

أما أنا فقد تعبت من مشاهد البشر، وعدت إلى مكاني من العربة أتعلق بالطبيعة فهي أم رءوم وحسناء وفية، أمتع النظر بالغابة السوداء ونحن نجتازها، نمر بين صفوف من أشجار كثيفة عالية، وقد شق القطار طريقه بينها، متلوياً في سحر لا ينسى وفتنة لا تزول، هي كل زاد المسافر في ألمانيا اليوم.

فلما أظلم الليل انتشلني النوم انتشالاً وما أيقظني إلا صوت هذه الجموع الغفيرة في المحطات، فظننت أنه العيد، فنحن يوم أحد، وقد عرفت الألمانيين من قبل يعدون للأعياد عدتها وللآحاد فرصتها، فهم يرحلون من قرية إلى قرية لا يستقرون ولا يقبعون، يتنقلون في جمال الطبيعة، يقطفون ثمرة الأسبوع، ينتجعون مواقع الزهر والعطر، والجبل المشرف، والنهر المغنى، ولكن رفيقي في السفر أفهمني أن الألماني يسافر إلى الريف يوم الأحد من كل أسبوع في اصطياد البطاطس وانتشالها من التراب، فالأرض أمٌّ لا تؤمن بمذهب، ولا تدين بسياسة، والبطاطس بعض الغذاء قبل الحرب وكل الغذاء بعد النكبة؛ فلا بأس في أن يعد الألماني أكياساً واسعة يجمع فيها كل ما تصل إليه يده في السوق السوداء طعاماً لأسبوعه.

بلغنا محطة توبينكن، فنزلت بين هذه الجموع المتراصة التي كانت تراقب القطار منذ الليل، فأخذت سبيلي في يسر غريب؛ ذلك لأن للأجنبي سبيلاً غير سبيل المواطن. غير أن

ص: 13

العسر كل العسر في أن تجد من يحمل الحقائب إلى المنزل، فقد طفقت أبحث في المحطة عمن يحملها وكنت أظنهم كثيرين لرداءة اللباس وفقر المظهر، فلم يقبل على منهم أحد، فلما أقبلت عليهم أعرضوا جميعاً، ولما لجأت إلى تفسير وشرح، فهي وحدها الرائجة وهي وحدها العملة النادرة.

وأخذت سبيلي إلى المنزل ماشياً، فليس من عربات أو سيارات ولن أطمع فيها بعد الذي رأيت.

وعزفت عن التفكير إلا فيما جئت له؛ فأنا أزور ثالث مدينة جامعية على (الراين) بعد بون وهايدلبرغ، بل هي تمتاز عنهما بأنها من مهود الاستشراق، ففيها ما ليس في الجامعتين من مخطوطات عربية نفيسة، ففيها المتنبي وأبو فراس وابن وحشية، وفيها ليتمان و (بور) وفايفايلر من مشاهير المستعربين فلا أقل من أن أقيم أياماً أستعيد بين القدامى والمحدثين ذكرى عاطرة؛ وأقوم بالتحية الطيبة قبل أن أرحل إلى الدير. . .

سامي الدهان

ص: 14

‌من ظرفاء العصر العباسي

أبو العيناء

191 -

283 م

للأستاذ صبحي إبراهيم الصالح

(تتمة ما نشر في العددين السابقين)

عرفنا أسلوب أبي العيناء مع الخلفاء والأمراء والوزراء، فما رأيناه مع أحد منهم إلا صريحاً؛ فلا يستغرب بعد ذلك إذا أفاض في مداعباته كل الإفاضة مع الطبقتين الوسطى والدنيا، لأن معارفه فيهما كانوا كثيرين، وكان - بحكم الصداقة - أشد رغبة في التفلت من كل كلفة، وأكثر طواعية في الإقبال على كل ما يدخل السلوى على محبيه.

ولا بد من الإشارة إلى تلك العلاقة القوية التي توطدت بينه وبين الجاحظ: فقد كانا صديقين لا كلفة بينهما، بل قد اشتركا سوياً في وضع حديث (فدك) كما يعرف المشتغلون بعلم الحديث. وخلاصة هذا الحديث أن السيدة فاطمة بنت الرسول صلى الله عليه وسلم طالبت بعد وفاته بنصيبها مما ترك، وأنها بكت وأبكت لتصل إلى ما تبغي. والحديث باطل من أساسه كما اعترف أبو العيناء بذلك حين قال:(أنا والجاحظ وضعنا حديث فدك) وقال إسماعيل بن محمد النحوي: (كان أبو العيناء يحدث بذلك بعدما مات الجاحظ). وقد ذكره ابن حجر في (الموضوعات).

وإن علاقة بين اثنين تسمح لهما بوضع حديث مشترك لهي علاقة متينة لحمها التفاهم وسداها الانسجام: فلا بدع إذا رأينا الجاحظ يسلك في مداعبة أبي العيناء سبيلا لا يسلكه إلا الأحبة، ويقابله الآخر برضا وارتياح. والقصة التالية تلقي ضوءاً على نوع الصداقة التي استحكمت عراها بين الرجلين.

قال أبو العيناء: (كان لي صديق فجاءني يوماً فقال لي: أريد الخروج إلى فلان العامل، وأحببت أن يكون معي إليه وسيلة، وقد سألت من صديقه؟ فقيل لي: أبو عثمان الجاحظ - وهو صديقك - فأحب أن تأخذ لي كتابة إليه بالعناية؛ فصرت إلى الجاحظ فقال لي: في أي شيء جاء أبو عبد الله؟ فقلت: مسّلماً وقاضياً للحق، وفي حاجة لبعض أصدقائي وهي كذا

ص: 15

وكذا. فقال: لا تشغلنا الساعة عن المحادثة وتعرف أخبارنا. . . إذا كان في غد وجّهت إليك بهذا الكتاب، فلما كان من الغد وجّه إلي بالكتاب، فقلت لابني: وجّه بهذا الكتاب إلى فلان ففيه حاجته. فقال لي: إن أبا عثمان بعيد الغور، فينبغي أن نفضه وننظر ما فيه. ففعل فإذا فيه: كتابي إليك مع من لا أعرفه، فقد كلمني فيه من أوجب حقه؛ فإن قضيت حاجته لم أحمدك، وإن رددته لم أذممك. فلما قرأت الكتاب مضيت إلى الجاحظ من فوري. فقال: يا أبا عبد الله قد علمت أنك أنكرت ما في الكتاب. فقلت: أو ليس موضع نكرة؟ فقال: لا، هذه علاقة بيني وبين الرجل فيمن أعتني به. فقلت: لا إله إلا الله ما رأيت أحداً أعلم بطبعك ولا بما جبلت عليه من هذا الرجل. . . علمت أنه لما قرأ الكتاب قال أمُّ الجاحظ عشرة آلاف في عشرة آلاف، أم من يسأله حاجة. فقلت يا هذا تشتم صديقنا؟ فقال هذه علامتي فيمن أشكره!)

ولم يكن الجاحظ يكتفي بمداعبته أبي العيناء على هذا النمط فإنه كان أحياناً ما يعذبه واجداً في تعذيبه ارتياحاً غامضاً في نفسه (كان الجاحظ يتقلد في خلافة إبراهيم بن العباس على ديوان الرسائل، فلما جاء إلى الديوان جاءه أبو العيناء. فلما أراد أن يخرج من عنده تقدم إلى من يحجبه أن لا يدعه يخرج ولا يدعه يرجع إليه إن أراد الرجوع. فخرج أبو العيناء يريد الانصراف فمنع من الخروج ومن الرجوع إلى الجاحظ، فنادى أبو العيناء بأعلى صوته: يا أبا عثمان قد أريتنا قدرتك فأرنا عفوك!)

ومثل هذا النمط من التعذيب في المداعبة كثيراً ما نجده بين المتفاهمين من الأصدقاء. وكان من أشد هؤلاء صلة بأبي العيناء محمد بن مكرم والعباس بن رستم اللذان سئل عنهما مرة فقال: هما الخمر والميسر، إثمهما أكبر من نفعهما. وأكبر الظن أن صلته بابن مكرم كانت أقوى، لأن مداعباته له كثيرة مشهورة.

وابن مكرم كان من هذا النوع من الأصدقاء الذي يحب أن يجد السرور لنفسه ولو بالتهكم على صديقه - وما أكثرهم في كل زمان ومكان - وكان يرى في عمى أبي العيناء فرصة لإيذائه لا رغبة في الإيذاء نفسه فلا حاجة به إليه، ولكن ليستمتع بردود أبي العيناء المبتكرة، وأجوبته اللاذعة.

حضره يوماً وأخذ يؤذيه ثم قال: الساعة والله أنصرف فقال: أبو العيناء ما رأيت من يتهدد

ص: 16

بالعافية غيرك!

وقال له يوماً يعرض بالبلد الذي نشأ فيه: كم عدد المكدين (المتسولين) بالبصرة؟ قال: مثل عدد البنائين ببغداد. فأجابه بأشد من تعريضه.

وأبو العيناء من طرائفه مع ابن مكرم يسعى إلى إيلامه برده، بمقدار تألمه من هزله وجده، وهو إذا أراد أن يرسل الجواب لا يمنعه منه مانع، ولا يصده عنا صاد، لأنه يرى أن الحرية في الدفاع أجدر من الحرية في الهجوم!

ومهما اختلف الباحثون في تحليل نفسية هذا الظريف فستحملهم النصوص الكثيرة على الاتفاق على رقة دينه، إذ كان يتعرض للدين في مختلف المناسبات غامزاً لا يعبأ ولا يبالي. قال له العباس بن رستم يوماً:(أنا أكفر منك. فقال له: لأنك تكفر ومعك خفير مثل عبيد الله بن يحيى وابن أبي دؤادوأنا أكفر بلا خفارة).

وأنا لا أصدق أن هذا من التظرف في شيء، إذ ما كان ليعترف بأنه يكفر بلا خفارة إلا لرقة دينه، وإن قوى الدين لا تسمح له نفسه أن يتظرف بشيء يتنافى مع الأدب في اعتقاده، بل يرى أن كل شيء يباح له الخوض فيه إلا الدين، فإن له حرمة لا يحل مسها لمخلوق. أما صاحبنا فيرى من الظرف والكياسة أن يتظاهر بمخالفة الدين. قال مرة:(أنا أول من أظهر العقوق في البصرة. قال لي أبي: يا بني، إن الله تعالى قرن طاعته بطاعتي، فقال: (أشكر لي ولوالديك) فقلت له: يا أبت إن الله ائتمنني عليك ولم يأتمنك عليَّ، فقال تعالى:(ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق).

وقد كتب أبو العيناء إلى صديق له ولي ولاية موعظة عجيبة أعتبرها وثيقة على ضعف دينه. واقرأ إذا شئت ما كتب (أما بعد فإني لا أعظك بموعظة الله لأنك عنها غني، ولا أخوفك إياه لأنك أعلم به مني، ولكني أقول كما قال الأول:

أحار ابن بدر قد وليت ولاية

فكن جرذاً منها تخون وتسرق

وكاثر تميما بالغنى إنما الغنى

لسان به المرء الهيوبة ينطق

وأعلم أن الخيانة فطنة، والأمانة حرفة، والجمع كيس، والمنع صرامة؛ وليس كل يوم ولاية، فاذكر أيام العطلة. ولا تحقرن صغيراً، فإن الدور إلى الدور، وإبلاء الولاية رقدة؛ فتنبه قبل أن تنبه. وأخو السلطان أعمى عن قليل سوف يبصر. وما هذه الوصية التي

ص: 17

أوصى بها يعقوب بنيه؛ ولكن رأيت الحزم في أخذ العاجل، وترك الآجل).

وهكذا خلط أبو العيناء في هذه الموعظة العجيب أسلوبها كثيراً من الهزل في الجد، فما أحب لصاحبه الأمانة لأنها حرفة الخازنين، ولا كره لصاحبه الخيانة لأنها فطنة وذكاء، وما أحب له أن يجود بماله لأن في المنع صرامة وحزماً، ولا كره له أن يجمع القناطير المقنطرة لأن في كنزها أبهة وفخراً. فلينتهز فرصة ولايته فإنها لا تسنح دائماً، وليكسب ما استطاع من الغنائم ليكون حكيما حازماً، وليضم الصغير مع الكبير، وليلق القليل على الكثير، وليجمع الفتيل والقطمير، وليفتح عينيه على كل شيء دق أوجل، فربما تعطل بعد عمل، وربما أفل نجمه بعد أمل. أما الآخرة فنعيمها آجل بعيد، أين منه نعيم الدنيا القريب؟

أفرأيت أعجب من هذه الموعظة، وأغرب من هذه الوصية؟

أما إنها - على مسحة الهزل فيها - لدعوة صارخة إلى اجتياز حدود الدين التي تضع سداً بين واجب الإنسان وطمعه، وبين مسئوليته وجشعه، وتسلك به سبيل الزهد عن ظهر غنى، والعفاف على قوة وقدرة. فما كان أضعف دينك يا أبا العيناء! وما كان أشد تساهلك أيها الراوية الظريف!!. . .

- 6 -

وإذا أضفنا إلى انحلال تدينه سفاهة لسانه بطبعه وهجيراه أصبح واضحاً لدينا أنه كان متهالكا على إرضاء هواه وإشباع شهوته، وأنه ما كان ليتورع عن الخروج على أصلح التقاليد بنفسه بعد أن خرج عليها بتعبير لسانه، لأن عفيف النفس يأبى على ألفاظه أن تكون نابية؛ أما وقد ترك صاحبنا نفسه على سجيتها فلا بدع إذا كان خبيث اللسان؛ ثم لا غرو إذا كان خبيث العمل، ثم لا عجب إذا وصمه الناس بأنه مخنث، حتى قال له ابن الجهم يوماً: يا مخنث! فأجاب: (وضَرب لنا مثلاً ونسيَ خَلقه).

ولا يعنيني هنا أن أستمتع برده فما أنتظر من مثله غيره أو أقل منه، ولكني أشير إلى أن للناس فيما أطلقوا عليه من أوصاف ما جرأهم من أعماله وتصرفاته. وهذا - على ما أعتقد - من الأسباب الجوهرية التي جعلت حفاظ الحديث يحكمون بضعف ما رواه هذا الظريف، بل إن بعضهم قد رماه بالكذب والوضع؛ فالخطيب في تاريخه - بعد أن ذكر الذين رووا عنه: وهم أحمد ابن عيسى المكي، وأبو عبد الله الحكيمي، ومحمد بن يحيى الصولي،

ص: 18

ومحمد بن العباس بن تجيح، وأبو بكر الآدمي القاري، وأحمد بن كامل القاضي - قال: ولم يسند من الحديث إلا القليل. والغالب على رواياته الأخبار والحكايات وروي عنه - لإظهار ضعفه - حديثاً ذكر سنده ثم حكم عليه بأنه غريب. وفي هذا الحديث أن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم بطائر فقال: اللهم آتني بأحب خلقك إليك يأكل معي، فجاء علي فحجيته مرتين، فجاء في الثالثة فأذنت له. فقال: يا علي ما حبسك؟ قال: هذه ثلاث مرات قد جئتها فحجبني أنس. قال: لم يا أنس؟ قال سمعت دعوتك يا رسول الله، فأحببت أن يكون رجلا من قومي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:(الرجل يحب قومه)

علق الخطيب على هذا الحديث بقوله: غريب بإسناده لم نكتبه إلا من أبي العيناء محمد بن القاسم عن أبي عاصم، وأبو الهندي مجهول - وهو أحد رجال السند - واسمه لا يعرف؛ ثم نقل عن أبي الحسن الدارقطني قوله:(أبو العيناء ليس بقوي في الحديث) وأكد هذا ابن حجر في (لسان الميزان) ثم روي عنه أنه قال: (أنا والجاحظ وضعنا حديث فدك) وهذا الحديث الباطل من أساسه قد سبقت الإشارة إليه.

ولم يستحي أبو العيناء مدى حياته من تكرار رواية هذا الحديث الموضوع حتى قال إسماعيل بن محمد النحوي: (كان أبو العيناء يحدث بذلك بعدما مات الجاحظ).

وروي عنه ابن حجر أيضاً حديث (مثل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل العين، ودواء العين ترك مسها) وعلق عليه بقول الدارقطني: (لم يروه غير أبي العيناء).

ولست أستغرب أن يضعفه حفاظ الحديث، فإن رجلا يعترف بجريمة الكذب على رسول الله ثم ينشر كذبه جدير به أن يتخيل ما شاء ليرضي ملكة الكذب المسيطرة على لسانه. وحريٌّ أن يضحك ما طاب له ليبقى ضاحكا مدى الحياة لذلك كان أسلوبه واحداً لا يتغير: فلسانه سليط مع الجميع، وربما كان أكثر تمكناً من الاسترسال مع العاديين من الناس لأنه لا يجد من الفارق بينه وبينهم ما يمنعه من التظرف كيف شاء.

قال له ابن الجماز يوماً: (هل تذكر سالف معاشرتنا؟ فقال: إذ تغنينا ونحن نستعفيك؟) وقالت له قينه: (هب لي خاتمك وأذكرك به. فقال لها: اذكري أنك طلبته مني ومنعتك)

وهو إذا استطاع أن يخفض من قدر محدثه ليكبر من قدر نفسه لا يتورع ولا يحتاط:

ص: 19

اعترضه يوماً أحمد بن سعيد فسلم عليه فقال له أبو العيناء: من أنت؟ قال أنا أحمد بن سعيد. فقال: إني بك لعارف، ولكن عهدي بصوتك يرتفع إليَّ من أسفل، فما له ينحدر عليَّ من علو؟ قال: لأني راكب. فقال: عهدي بك وأنت في طمرين لو أقسمت على الله برغيف لأعضك بما تكره).

وهو يمازح من يعرف ومن لا يعرف، ومن يروق لعينه وقد لا يروق لأعين الناس، ولا يعنيه إلا أن يكون ضاحك السن، سواء أضحك منه الفؤاد أم بات في هم دفين.

وقف عليه رجل من العامة فلما أحس به قال: (من هذا؟ قال: رجل من بني آدم. قال أبو العيناء: مرحباً بك - أطال الله بقاءك - كنت أظن أن هذا النسل قد انقطع).

وهذه الدعابات قليل من كثير تجد بعضها في معجم الأدباء في ترجمة محمد بن القاسم أبي العيناء ونلمح في كل هذه الدعابات أو أكثرها إشارة عنيفة إلى تمرده على البشر، وتشاؤمه منهم، وقلة إيمانه بهم!

وجميل بنا أن نذكر أنه عاش فقيراً، ولكنه - على قلة ذات يده - كان يملأ قلبه العطف: يطعم المسكين، ويرحم الضعاف العاجزين، ويلذ أن يداعبهم كما يداعب غيرهم لعلهم يطربون: دعا سائلا ليعشيه فلم يدع شيئاً إلا أكله فقال له: (يا هذا، دعوتك رحمة فاتركني رحمة)

بيد أنه إذا اشتدت به الحاجة لا يسأل من أي سبيل يجمع ماله: قال أبو العيناء (مررت يوماً في درب بسرَّ من رأى فقال لي غلام: يا مولاي في الدرب حَملٌ سمين والدرب خال. فأمرته أن يأخذه، وغطيته بطيلساني وصرت به إلى منزلي. فلما كان من الغد جاءتني رقعة من بعض رؤساء ذلك الدرب مكتوب فيها: جعلت فداك: ضاع لنا بالأمس حَمل فأخبرني صبيان دربنا أنك أخذته، فأمر برده متفضلا. فكتبت إليه: يا سبحان الله! ما أعجب هذا الأمر! مشايخ دربنا يزعمون أنك بغَّاء وأكذبهم أنا ولا أصدقهم، وتصدق أنت صبيان دربك أني أخذت الحمل؟ قال: فسكت ولم يعاودني).

وهو في العداوة خصيم مبين: يشمت ويتمنى الشر والضر. مر يوماً على دار عدو له فقال: ما خبر أبي محمد؟ فقالوا: كما تحب قال: فما لي لا أسمع الرنة والصياح؟)

وعلى كل حال، فقد كان هذا الشاعر الظريف من هؤلاء الأفراد الضاحكة وجوههم الباكية

ص: 20

قلوبهم، الذين نرى ظواهرهم لاهية، ويرون حقائقهم قاسية. وكأنما رأى أن الهزل يسرِّي عنه بعض ما يجده، فبقي يضحك الناس عمرا طويلاً حافلاً، وكان خير ما أرضاه أنه أراد أن يستوي على عرش الهزل استيلاء الحاكمين على عرش الجد، فكان له ما أحب منذ بلغ أشده حتى رد إلى أرذل العمر فمات.

وبعد، فكأنما كان هذا الظريف - حتى في شيخوخته - يعاند الدهر ولا يريد أن يموت: فقد ركب سنة ثلاث وثمانين ومائتين سفينة إلى البصرة وكان فيها ثمانون شخصاً، فغضبت العاصفة غضبتها، وثارت الأنواء ثورتها، فحطمت السفينة وأغرقت ركابها، فما نجا منهم سوى أبي العيناء إذ تعلق بطرف الزورق فأخرج حياً لكنه لم يستطع أن يعاند الدهر من جديد فقد عاجلته منيته في هذه السنة فمات كما جزم المسعودي في (مروج الذهب)

مات وما زال الظرفاء يتندرون بمداعبات أبي العيناء؟

مات فسكت ذلك اللسان السليط، وشلت تلك الحركة التي لا تعرف السكون!

ولكن. . . لقد عاش هذا الظريف ضاحكا طول الحياة، حتى إذا حضر الموت أرسل دمعة أو دموعاً وهو يودع الدنيا قائلا:

يا ويح هذي الأرض ما تصنع

أكل حي فوقها تصرع؟

تزرعهم حتى إذا ما أتوا

أشدهم تحصد ما تزرع!

وبعد، ففي كنوز الأدب العربي لآلئ نادرة كأبي العيناء، خليق بأيدينا أن نقع عليها لنخرجها لشبابنا الناهض فتسحر القلوب وتخطف الأبصار.

صبحي إبراهيم الصالح

ص: 21

‌من شواهد النبوة

المتنبئون

للأستاذ علي العماري

(تتمة)

وثالث الأسباب التي دفعت بعشائر المتنبئين وأصحابهم إلى الصبر والصدق في حروب المسلمين الطمع في الملك والرغبة في السيادة. ولقد عرف المتنبئون كيف يأكلون الكتف، فهم إن فاتهم - إحكام الكذب في دعواهم لم يفتهم استمالة أقوامهم بما يطمعونهم فيه من ملك العرب. وهذا أمر قد استقام لكل المتنبئين، فأما مسيلمة فقد ابتدأ أمره بأن كتب للنبي صلى الله عليه وسلم هذا الكتاب (من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله، أما بعد فأني قد أشركت معك وإن لنا نصف الأرض ولقريش نصفها، ولكن قريشاً قوم يعتدون) فرد عليه النبي (بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب. السلام على من أتبع الهدى. أما بعد، فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين) فلما جاءه كتاب الرسول أخفاه، وكتب عنه كتاب زعم أنه وصله بثبوت الشركة بينهما، وأخرج ذلك الكتاب إلى قومه فافتتنوا به. وبهذا - إلى جانب ما قدمناه من أسباب - استطاع عدو الله أن يسخر هذه الآلاف المؤلفة في حرب مبيده. وأما طليحة فقد ذكروا أن مما سجع به قوله (الحمام واليمام، والصرد الصوام، قد صمن قبلكم بأعوام، ليبلغن ملكنا العراق والشام). وسواء أصحت هذه المقالة أم لم تصح فإنها تدلنا على كل حال على الفكرة التي كان يبثها طليحة في قومه، وهي أنهم إنما يطلبون الملك، وسينالونه. وسجاح ما كان لها أن تجرر وراءها سادات قومها من تميم، ووجوه أخوالها من تغلب ألا بهذه الأمنية الجذابة:(إنما أنا امرأة من يربوع، فإن كان ملك فهو لكم) إذن فقد كانت العصا السحرية التي أمسك بها هؤلاء المتنبئون هي التلويح بالملك والسيادة لهؤلاء العرب الظامئين إلى السلطان. ولقد ألم الرافعي رحمه الله في كتابه (إعجاز القرآن) ببعض هذه الأسباب التي شرحناها. قال بعد الكلام عب بعض المتنبئين: (على أنه لا اتباع له من غير قومه، ولا يشايعه من قومه ألا طائفة يستنفرون لأمره، ويعطفون عليه جنبات الناس حتى يجمعوا له أخلاطا وضروبا،

ص: 22

وقد تبعوه وشمروا في ذلك حمية وعصيبة، وحدبا من الطباع على الطباع، فهم في غنى عن نبوته وقرآنه، وإنما رأيهم الخطار بالأنفس والأموال على ما تنزعهم إليه الطبيعة مقارنة لمن قارب صاحبهم، ومباعدة لمن باعد، وعسى أن يرد عليهم ذلك مغنما، أو ينفلهم من غيرهم، أو يجدي عليهم بالعزة والغلبة، أو يكون لهم سبيل منه إلى التوثب، أن صادفوا غرة، وأصابوا مضطربا إلى غير ذلك مما تزينه المطمعة، ويعزبه الغرور، ويقصد إليه بالسبب الواهي، وبالحادث الضئيل، وبكل طائفة من الرأي وبقية من الوهم، وتستوي فيه الشمال واليمين، وتتقدم فيه الرؤوس والأرجل، مبادرة لا يدري أيهما حامل وأيهما محمول)

يضاف إلى كل ذلك ما ذكره ابن خلدون من أن بعض هؤلاء المتنبئين وأنصارهم كان يطمع في النبوة، فلما لم تجئه عاند قال في فصل بعد الكلام على الكهان:(ثم إن هؤلاء الكهان إذ عاصروا زمن النبوة فإنهم عارفون بصدق النبي صلى الله عليه وسلم لأن لهم بعض الوجدان من أمر النبوة، ولا يصدهم عن ذلك ويوقعهم في التكذيب إلا قوة المطامع في أنها نبوة لهم فيقعون في العناد، كما وقع لأمية بن أبي الصلت، فإنه كان يطمع أن يتنبأ. وانقطعت تلك الأماني آمنوا أحسن إيمان كما وقع لطليحة الأسدي وسواد بن قارب، وكان لهما الفتوحات الإسلامية الآثار الشاهدة بحسن الإيمان).

قلنا في المقال السابق إن التنبؤ في العصر العباسي كان جنونا، فإن لم يكن فهو الحمق لا شك فيه، وإنما دعانا إلى هذا القول أنا وجدنا جمهرتهم غير جادين في هذا الإدعاء، فلا أنصار ولا اتباع ولا غايات عظيمة يقصدون إليها، كما كان هذا شأن أصحابهم السابقين، ولذلك فإنا لا نلم بأخبارهم مؤرخين، وإنما نلم بشيء منها فيه طرافة يستريح إليها الدارس، ويستمتع بها القارئ، فإن أخبارهم كما يقول صاحب العقد الفريد (حدائق مونقة، ورياض زاهرة، لما فيها من طرفة ونادرة، فكأنها أنوار مزخرفة أو حلل منشرة، دانية القطوف من جاني ثمرتها، قريبة المسافة لمن طلبها، فإذا تأملها الناظر، وأصغى إليها السامع، وجدها ملهى للسمع، ومرتعا للنظر، وسكنا للروح، ولقاحا للعقل، وسميراً في الوحدة، وأنيساً في الوحشة) وإنما كان الأمر كما يقول ابن عبد ربه لأن في أخبارهم الغريب المطرب، والطريف المعجب، بل إن ادعاءهم النبوة نفسه كان مما يضحك الثكلى، ويسري عن المحزون، لأنه اقترن بحمق وسخف. وحسبكم بقوم يفترون على الله الكذب، ويزعمون أنه

ص: 23

أرسلهم زورا وبهتانا، دون أن يكمن وراء ذلك ما يكون كفاء لهذه الكذبة البلقاء، ليس ببعيد عندي أن الإخباريين اختلقوا وتزيدوا، وأرادوا مادة للسمر والتفكه فالتمسوها في المجانين، والحمقى، وفي هؤلاء. ولعل اختيارهم لهذا النوع كان اختياراً موفقا إلى حد بعيد. نعم روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون رجلا كلهم يدعي النبوة. ولكن نحن لا ننكر أن قوماً ادعوا النبوة كما أنا لا نسلم - كذلك - أن هذه الأخبار كلها وقعت بالفعل. ومهما يكن من شيء فإن أحق جانب بالنظر في أخبار هؤلاء هو جانب الفكاهة والممالحة. على أن أصحاب السمر لم يخلوا المتنبئين القدامى من لاذع نكاتهم. وما أشك في أن قصة زواج مسيلمة بسجاح وأنه اختدعها عن نفسها وأمهرها بإقساط صلاتين عن قومها، ما أشك في أن هذه القصة وضعها مازح مفحش خبيث.

أما أخبار متنبئ العصر العباسي فإنها تدلنا في جملتها على أنهم كانوا على حظ عظيم من الحيلة وحسن التخلص أو هكذا أراد لهم الوضاع.

ادعى رجل النبوة في عهد المهدي فأدخل عليه فقال: أنت نبي؟ قال: نعم. قال: متى نبئت؟ قال: وما تصنع بالتاريخ؟ قال: ففي أي المواضع جاءتك النبوة؟ قال: وقعنا - والله - في شغل! ليس هذا من مسائل الأنبياء، إن كان رأيك أن تصدقني في كل ما قلت فاعمل به، وإن كنت عزمت على تكذيبي فدعني أذهب عنك. فقال: المهدي: هذا لا يجوز؛ إذ كان فيه فساد الدين، قال: وا عجبا! تغضب لدينك لفساده، ولا أغضب أنا لفساد نبوتي؟ ثم قال المهدي: أحاكمك فيما جاء به من قبلي من الرسل، قال: رضيت، قال أكافر أنا عندك أم مؤمن؟ قال: كافر، قال فإن الله يقول:(ولا تطع الكافرين والمنافقين، ودع أذاهم) فلا تطعني ولا تؤذني، ودعني أذهب إلى الضعفاء والمساكين فإنهم أتباع الأنبياء، وأدع الملوك والجبابرة فإنهم حطب جهنم. فضحك المهدي وخلى سبيله.!!

وإذا كان هذا لجأ إلى آية من كتاب الله يستند إليها ويتخلص بها فإن غيره كان يعتمد على النكتة البارعة، والأضحوكة الآخذة، يتلمس بها الخلاص من قبضة الخليفة وبطشه. . . أتى المأمون بإنسان تنبأ فقال له: ألك علامة؟ قال: نعم. علامتي أني أعلم ما في نفسك! قال المأمون: قربت علي، ما في نفسي؟ قال: في نفسك أني أكذب! قال: صدقت، وأمر به

ص: 24

إلى الحبس، ثم أخرجه بعد أيام، فقال: هل أوحي إليك بشيء؟ قال: لا. قال: ولم؟ قال: لأن الملائكة لا تدخل الحبس! فضحك المأمون ثم أطلقه.

وجيء بمتنبئ - مقيدا - إلى سليمان بن علي فقال له: أنت نبي مرسل؟ قال: أما الساعة فأني مقيد. قال: ويحك! من بعثك؟ قال: أبهذا تخاطب الأنبياء يا ضعيف، والله لولا أني مقيد لأمرت جبريل أن يدمدمها عليكم. قال: فالمقيد لا تجاب له دعوة؟ قال: نعم. الأنبياء خاصة إذا قيدت لم يرتفع دعاؤها.

ولا أدري ما الذي حمل الإخباريين على أن يشقوا لكل متنبئ طريق النجاة إن لم تكن الدعابة هي غايتهم؟! على أنهم إذا أوقعوا أحدهم في مكروه التمسوا الفكاهة في ناحية أخرى من خبره. ادعى رجل النبوة في زمن خالد بن عبد الله القسري الوالي الأموي وعارض القرآن، فأتى به خالد، فقال له ما تقول؟ قال: عارضت في القرآن ما يقول الله تعالى (إنا أعطيناك الكوثر) فقلت أنا ما هو أحسن من هذا: إنا أعطيناك الجماهر، فصل لربك وجاهر، ولا تطع كل كافر وساحر. فأمر به خالد فضربت عنقه وصلب، فمر به أحد الظرفاء فقال: إنا أعطيناك العمود، فصل لربك على عود، وأنا ضامن ألا تعود.

هكذا كانوا يتندرون بهم، ويسخرون منهم، ونحن لا نجد في عصرنا من يدعي الألوهية في الدين وفي غير الدين، فهل يصلي هؤلاء على عود؟!

علي العماري

مبعوث الأزهر إلى معهد العلمي بأم درمان

ص: 25

‌من أدب العراق

المرأة في شعر الرصافي

للشيخ محمد رجب البيومي

حيا الله الشعر العربي، فلقد آزر النهضة الشرقية أتم مؤازرة، فأيقظ عيوناً نائمة، وأسمع آذانا موصدة، وطاح بجبابرة قساة، وأدوا الكرامة الإنسانية، وأزهقوا العزة القومية، كما أسدلوا على الشرق الصريع ستورا مظلمة مخيفة، تنصب خلفها المكائد الدنيئة، ويتحبر في ليلها الحالك شياطين البغي والاستبداد.

ولقد كان الرصافي رحمه الله في طليعة هؤلاء العباقرة المجاهدين، فقد اتخذ من يراعه القوى صارما بتارا، تنقل به من معركة إلى معركة، فهو في ميدان السياسة يشن الغارة على السرطان الاستعماري، ويقف في وجه الطاغوت التركي؛ وهو في ميدان الاجتماع يحث على التعليم المنتج، ويدعو إلى الأخلاق الرفيعة، كما تراه يتغنى بماضي الشرق الزاهر، ويندب حاضره المنكود، حتى أثمر جهاده أي إثمار، فهب العالم العربي ينقب عن تراثه الضائع، ويستعيد مجده المغصوب.

وسأحاول اليوم أن أكشف عن أثر الرصافي في النهضة النسوية، كما أبين شعوره نحو المرأة كانسان ناضج، وكيف أوحت إليه من المعاني والأخيلة ما ارتسم واضحاً في مرآة شعره. ولا عجب فقد وجدت لزاماً بعد أن وقفت على مجهوده الموفق في هذا السبيل أن أتحدث عنه إلى القراء.

لم تكن حال المرأة في العراق خيراً منها في مصر، بل كان الحجاب والجهل من لوازمها الأكيدة في كلا القطرين، فارتفعت الدعوة بتحريرها أولا في ربوع النيل، واحتدم الجدال بين الأنصار والخصوم، فكانت معركة طاحنة تردد صداها في ربوع العراق، فنهض الرصافي والزهاوي للمطالبة بحق الفتاة، وتصديا للهجوم العنيف بما يملكان من بيان، فكانت المقالات الضافية، والقصائد الرنانة، تعبر عن آرائهما الجديدة في جرأة وعنف، وواصل الرصافي جهوده، فتألب عليه الجمهور، وتعقبه الحاكم التركي في غدوه ورواحه، وهو لا يفتأ يناضل عن حق اعتقده ويقوض أركاناً عتيدة يراها غير صالحة للبقاء!

كان قاسم أمين في مصر صاحب الرأي الأول في حركته التحريرية، وكان الشعراء

ص: 26

والمثقفون يسيرون وراءه في كثير من التحفظ والاحتياط، أما في العراق فقد كان معروف وجميل يقومان بعبء قاسم في حماسة يصل بها إلى الثوار والاندفاع، ومن هنا كانت مكانتهما الاجتماعية في بغداد أقوى من مكانة شوقي وحافظ ومطران في مصر، والفرق بين هذين وهؤلاء فرق ما بين الخطيب والمصفقين مع التسامح اليسير!!

على أن الرصافي كان في دعوته يعدد أساليبه الشعرية، فلم يسر على نمط واحد في قوافيه، فتارة يعمد إلى العاطفة، فيرسم لك صورة قاتمة لبائسة جاهلة، قضت عمرها سجينة مغلولة، حُرّم عليها العلم فهو أرفع من أن يهبط إلى مستواها الوضيع، وأذلها الفقر فهي تئن تحت براثن الجوع، ثم ضرب حولها الحصار المنيع فهي لا تسعى إلى طلب القوت. ويتساءل بعد ذلك: في أي طريق تسير؟ والعيون راصدة، والفاقة قاتلة، اسمعه يقول

لم أر بين الناس ذا ظلمة

أحق بالرحمة من مسلمه

منقوصة حتى بميراثها

محجوبة حتى عن المكرمه

قد جعلوا الجهل صوانا لها

من كل ما يدعو إلى المأثمه

والعلم أعلى رتبة عندهم

من أن تلقاه وأن تعلمه

ما تصنع المرأة محبوسة

في بيتها إن أصبحت معدمه؟

ضاقت بها العيشة إذ دونها

سدت جميع الطرق المعلمه

كم في بيوت القوم من حرة

تبكي من البؤس بعيني أمه

قد لوحت نار الطوى وجهها

وأعمل الفقر بها ميسمه

عاب عليها قومها ضلة

أن تكسب القوت وأن تطعمه

من أي وجه تبتغي كسبها

وطرقها بالجهل مستبهمة؟

وتارة يعمد الشاعر إلى الأدلة الخطابية، فيسهل الغاية، ويتفادى العاقبة حيث يستغني بالحياء عن الحجاب، وبالتهذيب والدراسة عن اللثام، ثم يغضب أن يكون رجالنا ذئابا متنمرة، ونساؤنا نعاجا مستكينة، ويقيم البرهان على تأخر الشرق بتأخر فتياته، فهن جزؤه المفلوح، ونصفه الأشل، فكيف يضمن البقاء على حاله بدون تناسب، والقاعدة غير ذلك؟ إنه يقول:

شرف المليحة أن تكون أديبة

وحجابها في الناس أن تتهذبا

ص: 27

والوجه إن كان الحياء نقابه

أغنى الفتاة الحي أن تتنقبا

واللؤم أجمع أن تكون نساؤنا

مثل النعاج وأن تكون الأذؤبا

والشرق ليس بناهض إلا إذا

أدنى الرجال من النساء وقربا

فإذا ادعيت تقدما لرجاله

جاء التأخر للنساء مكذبا

من أين ينهض قائماً من نصفه

يشكو السقام بفالح متوصبا

كيف البقاء له بدون تناسب

والدهر خصص بالبقاء الأنسبا

ولا ينسى الشاعر في دعوته التحريرية ضغنه على المستعمرين، فهو يرجع التوغل الاحتلالي إلى الأمهات وحدهن، حيث كن إماء جاهلات، فلم ينشئن أولادهن على العزة والكرامة، فهانت نفوسهم، وتحملوا جور الدخيل وتعسف الغريب، وكأنه أصطاد عصفورين بحجر واحد حين قال:

أضافوا عليهن الفضاء كأنما

يغارون من نور به وهواء

ولو أنهم أبقوا لهن كرامة

لكانوا بما أبقوا من الكرماء

ألم ترهم أمسوا عبيداً لأنهم

على الذل شبوا في حجور إماء

وهان عليهم حين هانت نفوسهم

تحمل جور الساسة الغرباء

وقد اشتهرت قصيدة معروف الرصافي التائية شهرة واسعة فتناقلتها الصحف المختلفة، وسجلتها الكتب المدرسية مرات عديدة، لأن ناظمها واضح صريح، يذكر حجج الخصوم ويدفعها بالمنطق العقلي، والدليل التاريخي. ولأمر ما تذكرني هذه القصيدة الرائعة بأخت لها ن؟ مها حافظ رحمه الله في موضوعها الهام، وكان لها من الشهرة ما لقصيدة الرصافي، ولكن روح معروف أكثر اتقادا، وتفكيره أوسع أفقا، وإن اجتمعا معا في السلاسة والعذوبة. وكلا الشاعرين قد بدأ موضوعه بالدعوة إلى الفضيلة، والتمدح بمكارم الأخلاق، فقال الرصافي

هي الأخلاق تنبت كالنبات

إذا سقيت بماء المكرمات

تقوم إذا تعهدها المربي

على ساق الفضيلة مثمرات

وتسمو للمكارم باتساق

كما اتسقت أنابيب القناة

وتنعش من صميم المجد روحاً

بأزهار لها متضوعات

ص: 28

وقال الحافظ:

أني لتطربني الخلال كريمة

طرب الغريب بأوبة وتلاقي

ويهزني ذكر المروءة والندى

بين الشمائل هزة المشتاق

ما البابلية في صفاء مزاجها

والشرب بين تنافس وسباق

يا ألذ من خلق جميل طاهر

قد مازجته سلامة الأذواق

ومضى معروف فشبه الأم بالمدرسة، وقارن بين ابن المتعلمة وابن الجاهلة، فشبه هذا بنبت الفلاة، وذاك بزهر الرياض؛ واستعان بخياله، فجعل صدر الفتاة لوحاً بديعاً تتراءى فيه صور الحنان الدافق، ثم دلف إلى آراء المحافظين فدحضها في هدوء وبساطة، وبين موقف الشريعة الإسلامية من المرأة وكيف أخطأ الجامدون فنسبوا إلى الدين ما ليس منه، واستدل بعائشة أم المؤمنين وما كانت عليه من فصاحة وفقه، ثم عاد يتساءل في تبرم

فما للأمهات جهلن حتى

أتين بكل طياش الحصاة

حنون على الرضيع بغير علم

فضاع حنو تلك المرضعات

نرى جهل الفتاة لها عفافاً

كأن الجهل حصن للفتاة

ونحتقر الحلائل لا لجرم

فنؤذيهن أنواع الأذاة

لئن وأدوا البنات فقد قبرنا

جميع نسائنا قبل الممات

حجابهن عن طلب المعالي

فعشن بجهلهن مهتكات

وقالوا إن معنى العلم شيء

تضيق به صدور الغانيات

وقالوا شرعة الإسلام تقضي

بتفضيل الذين على اللواتي

لقد كذبوا على الإسلام كذبا

تزول الشم منه مزلزلات

أأم المؤمنين إليك نشكو

مصيبتنا بجهل المؤمنات

فتلك مصيبة يا أم منها

(نكاد نغص بالماء الفرات)

(البقية في العدد القادم)

محمد رجب البيومي

ص: 29

‌2 - الأعلام

أحمد فتحي زغلول باشا

(في مارس الماضي مضى على وفاة أحمد فتحي زغلول باشا

34 عاماً)

للأستاذ محمد فهمي عبد اللطيف

ولد أحمد فتحي زغلول في قرية أبيانة بمديرية الغربية في ربيع الأول سنة 1289 هجرية، وكان أصغر أنجال الشيخ إبراهيم زغلول أحد الأعيان البارزين في تلك القرية، ولكنه حرم حنان الوالد وعطفه؛ إذ مات والده وتركه رضيعاً لم تتفتح عيناه للحياة بعد، وكان شقيقه سعد زغلول فطيما، وكانت والدتهما - وهي إحدى عقائل عائلة بركات - لا تزال شابة لا تتجاوز العشرين، فمنحت شبابها لولديها اليتيمين، ووقفت نفسها على تربيتهما تحت رعاية أخيهما الكبير لأبيهما الشناوي زغلول الذي عني بتعليمهما على ما كان معهوداً في تعليم أولاد الأعيان يومذاك، وكان أن نفع الله بالطفلين اليتيمين على خير ما يكون النفع للأمة والوطن، فصار سعد إلى ما صار إليه في زعامة الأمة وقيادتها، وانتهى فتحي إلى ما انتهى إليه، دعامة من دعائم الإصلاح التشريعي والاجتماعي، ومنارة تهدي ركب الأمة إلى سواء السبيل.

ولم يكن أسمه أحمد فتحي، وإنما كان أسمه فتح الله صبري، هكذا سماه والده، وهكذا عرف في حياته الأولى، حتى انتهى من مراحل التعليم في كتّاب القرية، وفي مدرسة رشيد الابتدائية، ثم المدرسة التجهيزية، ودخل مدرسة الألسن وصادف أن زار أحمد خيري باشا ناظر المعارف يومذاك تلك المدرسة، فأعجب بذكاء الشاب فتح الله صبري، وأدهشه ما لمس فيه من نبوغ خارق، فخلع عليه أسم أحمد، ونحت من (فتح الله) أسم فتحي، وهكذا سماه أحمد فتحي، وأصدر أمره إلى المدرسة بقبوله بالمجان، ورد ما دفع من المصاريف إليه، وكانت هذه أول شهادة بالنبوغ لفتحي زغلول. . .

وتخرج فتحي متفوقاً في دراسته، فأرسلته نظارة المعارف سنة 1884 إلى فرنسا لدراسة الحقوق، وقد رجع في سنة 1887 بعد أن حصل على شهادة الليسانس في القانون؛ فعين

ص: 30

بقلم قضايا الحكومة، ثم رقي رئيساً لنيابة الإسكندرية، ثم مفتشاً بلجنة المراقبة، ثم رئيساً لمحكمة الزقازيق فرئيساً لمحكمة مصر، ثم اختير وكيلا لنظارة الحقانية، وقد ظل في هذا المنصب حتى انتقل إلى جوار ربه. . .

تلك كانت حياة فتحي زغلول في مناصب الحكومة، وهي حياة يمكن للمؤرخ أن يجملها في سطور، وما كانت حياة الوظيفة في يوم مجال عبقرية ولا مظهر نبوغ، وإنما كان مجال عبقرية فتحي ومجال نبوغه في ناحية الإصلاح التي رادها، والتي رأى في انتهاجها خدمة للوطن ونفعاً للأمة وإفادة لشباب طامح يتوثب للنهوض، وينشد الحياة المهذبة الكريمة. فما هو ذلك المجال الذي اختاره فتحي للعمل، وآثره بجهوده ونبوغه؟

يقول فتحي باشا في كلمة من كلماته: (إن من يخبر حال هذه الأمة ويقف على كنه خلقها، ويعرف جيداً حقيقة خصالها ويدرك الصحيح من آمالها، وينعم النظر في أعمالها، يقتنع بأن التربة زكيه لا يفسد زرعها إلا شيء من البذور الرديئة، وبأن الخلق الكريم يغشاه ستار من عدم العلم التام بالواقع، وبأن الآمال كبيرة شريفة لكنها مشوبة بشكوك وأوهام تطوح بنا يوماً ذات اليمين ويوماً ذات الشمال. أما أعمالنا فثمرة هذا وذاك، نهتاج والسكون واجب، ونلهو وكل النجاح في العمل، وما كان شيء من كل هذا يكون لولا خطأ في تقدير حقيقة حالنا، وعدم التفات إلى حركة البيئة التي نحن فيها، ونسيان لشيء كثير من الماضي ولهو عن الحاضر وعدم اهتمام بما هو آت. ومحال أن تدوم هذه الحال، فلا بد لنا من إعداد العدة اللازمة لهذا التحول، وما هي إلا العلم؛ فإن العلم سلم الأمم إلى الحضارة، وكاشف ظلمات الجهل، ومسدد الآراء، ومنجح كل مجهود، وهو الذي ينفي الضمائر، ويجمع شمل المتفرقين، ويطهر السرائر، ويوحد كلمة المتنافرين، وينير البصائر فيهدينا إلى أن التآزر شرط النجاح، وأن يد الله مع الجماعة، وأن التباغض مجلبة الشر وأن التنابذ سبيل إلى الذلة). . .

هذا هو ما رآه فتحي في تشخيص داء الأمة، وتقدير الدواء لها، وعلى هذا اندفع ينشد العلم الصحيح لشفاء الأمة من دائها. العلم الذي (ينقي الضمائر، ويطهر السرائر، وينير البصائر)، العلم الذي (يقوم الأخلاق ويبصر الأمة بما لها من حقوق، وما عليها من الواجبات)، وبين غسق القرن الماضي، وغلس القرن الحاضر كانت تهز حياة الأمة

ص: 31

دعوات الإصلاح المتتالية، فكان الأستاذ الإمام محمد عبدة يدعو دعوة الإصلاح في الناحية الدينية، وكان مصطفى كامل يحمل لواء الوطنية، وكان قاسم أمين يدعو إلى النهوض بالمرأة المصرية، وكانت هذه الدعوات يكتنفها ما يكتنفها من الضجيج والتدافع. أما فتحي زغلول فقد وقف في ميدانه ينادي:(علموا الأمة، علموا الأمة)، وانتحى من ذلك ناحية هادئة، فعكف على التأليف والترجمة، ونقل الآثار النافعة، حتى يقيم من ذلك دعامة للأمة تنهض عليها إلى ما تنشده من الحرية والكرامة وقوة الشخصية.

وكان فتحي زغلول رجل ارتقاء لا رجل ثورة كما يقول أحمد لطفي السيد باشا، وكان يرى أن الوصول في الإصلاح إلى نتيجة مضمونة يقتضي إدراك الحقوق والواجبات؛ حقوق الفرد وواجباته، وحقوق الأمة وواجباتها، ولهذا ابتدأ سنة 1888 على أثر عودته من فرنسا يترجم كتاب (العقد الاجتماعي) لروسو، ولكنه بعد أن قطع فيه شوطاً بعيداً تجاوزه، وأقبل على ترجمة كتاب (أصول الشرائع) لبنتام فأتمه وأصدره بعد فترة وجيزة، ثم مضى في الترجمة والتعريب، فعرب كتاب (خواطر وسوانح في الإسلام) للكونت هانري لأدمون ديمولان، و (روح الاجتماع) و (سر تطور الأمم) و (جوامع الكلم) و (حضارة العرب) لجوستاف لوبون، و (خطاب مصطفى فاضل باشا إلى السلطان عبد العزيز) و (كتاب يورجار في الاقتصاد السياسي)، و (جمهورية أفلاطون) و (القرد ضد المملكة) لسبنسر.

ومن هذه الكتب ما تم تعريبه وطبعه، ومنها ما تم تعريبه ولم يطبع، ومنها ما تركه رهن الإنجاز والإتمام ولا ندري ما صنعت به الأيام.

أما في مجال التأليف فقد ترك (كتاب المحاماة) و (شرح القانون المدني) و (رسالة في التزوير)؛ كما ألف كتاباً (في التربية العامة) فأتمه ولكنه لم يطبع فيما علمت. وهناك كتاب وهو كتاب (حاضر المصريين وسر تأخرهم) الذي ظهر سنة 1902 من تأليف (محمد عمر)، وكتب مقدمته فتحي باشا، فإن بعض العارفين يعزون تأليف هذا الكتاب إلى فتحي زغلول باشا، ويقولون إنه أخرجه على نسق كتاب (سر تقدم الإنجليز السكسونيين) الذي ترجمه، ولكنه لم يضع اسمه عليه إيثاراً للسلامة نظراً لما تضمنه الكتاب من نقد شديد لاذع. . .

وكان لفتحي باشا في التعريب طريقة آثرها وارتضاها. كان يقرأ الكتاب ويأتي عليه جملة،

ص: 32

ويتشرب روح المؤلف ويتقمص شخصيته ثم يأخذ بعد ذلك في التعريب. قال أحمد لطفي السيد باشا: (ولفتحي باشا في تعريبه شخصية تامة ممتازة في طريقته وفي أسلوبه البياني. أما نحوه في التعريب فليس هو الالتزام الحرفي للأصل، ولا المجافاة للأصل، ولكن نحوه بين ذلك وسط مرض. وأما أسلوبه فهو عربي خالص لا يعني فيه بفضلة الزخرف والمحسنات اللفظية، ولكنه مع ذلك متين الرصف ظاهر الرشاقة جذاب جداً).

أما شخصية فتحي باشا فكانت شخصية العالم؛ فالهدوء والرزانة، والإخلاص للعمل، وأداء الواجب قبل كل شيء، والابتعاد عن مجال الضجيج والصخب. كل هذه كانت صفاته الظاهرة، حتى أنه لم يكن يرى في ميدان الحياة العامة إلا قاصداً لعيادة مريض، أو مواساة رفيق، أو متوجهاً لرد زيارة، أو مشاهداً لحفلة أنس لا بأس أن يجد فيها شيئاً من الرفاهية، وما عدا ذلك فكل وقته بين الدفاتر والقماطر، والتحرير والتحبير، كأنه كان يتعجل إنجاز مهمته قبل أن تعجله المنية. قال صديقه أحمد لطفي السيد باشا فيما رواه عنه:

(ما أنس لا أنس إذ دخلت إلى فتحي باشا في داره بهليو بوليس في يوم حر ذي لوافح محرقات. دخلت إليه وقت الهاجرة فوجدته على مكتبه، وأمامه أوراقه منثورة، وكتبه مفتوحة، يقرأ ويراجع، ويعرب ويكتب، كذلك دأبه لا ينقطع عند خلوه من عمله الرسمي إلى عمل واحد بعينه، كأن عادته في العدل بين الناس جعلته يعدل في تقسيم فراغه بين المقاصد العلمية المختلفة. أو كأنه يجد في الانتقال من عمل إلى عمل راحة وتنشيطاً. فقلت له: أتلك هي رياضتك في الإجازة وراحتك في حمارة القيظ؟ فقال وهو يبتسم: نعم هذه رياضتي. فخلفته فيما يظنه رياضة، ويتخيله سعادة، وخرجت أحمد الله على أن منا من ينفق صحته وملكاته ووقته في سبيل العالم).

هكذا عاش أحمد فتحي زغلول باشا للعلم، وفي سبيله أنفق صحته ووقته وجهده، وفي عام 1913 م أدرك أهل الفضل مدى ما أدى الرجل في هذه السبيل من مآثر ومفاخر، فأقاموا له حفلة تكريم خطب فيها أعلام القانون والبيان فأشادوا بأياديه وجهوده في خدمة التشريع والعلم، وكم كان الأسف بالغاً إذ لم تمض على ذلك شهور اختاره الله إلى جواره في 27 مارس سنة 1914، فكان الذين اجتمعوا لتكريمه؛ هم الذين اجتمعوا لتأنيبه. ولقد مضت على وفاة ذلك العالم الجليل أربع وثلاثون عاماً وما زالت الثروة العلمية التي خلفها خير

ص: 33

زاد يقدم لأبناء الأمة في فترة الانتقال التي يواجهونها، وإن من المؤلم أن تبقى بعض الآثار التي خلفها فتحي باشا ولم يمهله الرحمن حتى يقوم بإذاعتها مطوية إلى اليوم.

محمد فهمي عبد اللطيف

ص: 34

‌فلسفة حياة

الاعتراف بالعيوب

للأستاذ محمد خليفة التونسي

من العيوب ما يدل الاعتراف به عند الضرورة على شجاعة صاحبه ومعرفته الصادقة بنفسه، ومنها ما يكون إظهاره ضرباً من ضروب القحة، ومظهراً من مظاهر الاستهتار، ولا ضرورة تلجئ الإنسان إلى الاعتراف بهذه العيوب.

والنوع الأول متصل غالباً بطبيعة الإنسان، والنوع الثاني متصل بوقائعه التي سقط فيها وآثامه التي ارتكبها.

وحسب الإنسان بلاء أن يعرف الناس من ضعفه ما لا يقدر على إخفاءه، وألا يزيدهم من كشف عوراته وتقديم الشواهد التي لم يروها حتى أراهم إياها، ولم يطلعوا عليها حتى حدثهم بها.

من المفيد لمن يحاول إصلاح نفسه أن يعرف عيوبها ليسهل عليه علاجها، ومن العبر المفيدة للناس أن يروا أمامهم إنساناً ذا نقائص استطاع أن يبرئ نفسه منها، أو تفوق في حياته عليها ونجح معها، فإن هذه العبر تبعث فيهم التفاؤل فتبعثهم على البحث عن نقائصهم وطلب السلامة منها ومحاولة علاجها بطريقة هذا الإنسان أو بطريقة أخرى تلائمهم.

على أن من القحة والاستهتار، والتمادي في التهتك والفجور أن يذكر الإنسان نقائصه وخطاياه في معرض المباهاة والفخار، أو حباً فيما يسمى الصراحة، بينما هو لا يقصد من وراء ذكرها التغلب عليها، والكشف عن عواقبها الوخيمة، وأن تكون عبرة له أو عبرة لغيره.

وما نفع الناس من أن يعترف لهم إنسان بعيوبه دون مطمع إلا أن يصفوه بالصراحة أو الشجاعة أو الإنصاف ونحو ذلك بينما هو في مأمن منهم مهما صلحت الأحوال بينهم وبينه، إذ لا موثق له ببقائها على صلاحها، فهو - حين يعترف لهم بعيوبه - يكشف عن مقاتله لمن لا يستحيل ولا يستبعد أن يناصبوه العداوة والكيد.

ربما كان أقل ما يبتلى منهم أن يقابلوه بالاشمئزاز والاحتقار، وندر أن يكون فيهم من

ص: 35

يقابلون عيوبه بالعطف والرثاء، وأندر من ذلك أن يكون فيهم من يلقاها بالعلاج والإصلاح.

إن لم يكن بد للمريض بداء الكلام من الثرثرة فليثرثر بما ليس من عيوبه، فإن لم يكن له بد من الثرثرة بها فلمن يتيقن لديه علاجها أو الوقاية من عواقبها، فيكون مثله أمامه مثل المريض أمام الطبيب الحاذق الأمين حين يفضي إليه بأوجاعه دون خجل ولا ريبة، فالاعتراف على هذا النحو عون للطبيب على فهم مرضه وتمكين له من إبرائه منه، أو تخفيف آلامه عنه. وفي هذا صلاح له.

فإن لم يجد الإنسان هذا الطبيب الحاذق الأمين ولم يكن له بد من الثرثرة فعليه بمن يترقب عنده مقابلة عيوبه بالفهم والعطف ليحسن له الاعتذار والعزاه، فيمده بالثقة والأمل ويكون مثله عنده مثل الابن عند أبيه المشفق الأمين، يخطئ ابنه فيلقي خطاياه بالحنان والتسلية ولو لم يلقها بالإصلاح والتقويم، وصاحب العيوب في هذين الحالين آمن أن يقابل اعترافه بالاحتقار عند المودة، والاستغلال عند الكريهة. . .

محمد خليفة التونسي

ص: 36

‌رسالة الفن

مع الخزاف (ما يودون)

للدكتور محمد بهجت

أحسنت الحكومة صنعاً باستقدام بعض الفنانين البارزين من فرنسا لمحاضرة طلاب الفنون الجميلة العليا والتحدث إلى أساتذتهم ومبادلتهم الرأي في نواحي الفنون المختلفة، كما أحسنت كل الإحسان بإقامة معرض كبير حوى الكثير من صفوة أعمالهم بالسراي الكبرى بأرض الجمعية الزراعية، بلغ من أهميته أن حظي بزيارة ملكية.

ومع أن الإقبال عليه كان كبيراً لحد ما، إلا أن الكثرة من الطبقة المثقفة لم تستمتع به أو تفد منه شيئاً، وذلك لأن القائمين بأمره لم يعلنوا عنه الإعلان الكافي بالصحافة العربية أو بواسطة الإذاعة. ومن الناحية الأخرى أهملته تلك الصحافة إهمالاً معيباً كأن لم يقم معرض خطير للفن الحديث في القاهرة أنفقت عليه الحكومة بسخاء وأولته الصحف الأجنبية بعض العناية. وكأن لا أثر لمثل هذا المعرض القيم في تثقيف عقول الناس وإشباع نفوسهم بجمال الفن!

كانت معروضات الفنانين السبعة رائعة تسترعي الأنظار بطرافتها وقوتها، ولا يسعنا إلا إحناء رؤوسنا إعجاباً بأعمالهم واحتراماً لنبوغهم جميعاً.

غير أن واحداً منهم كان مبرزاً في الحلبة يسطع فنه بأقوى مما يقع على جانبيه من أضواء ساحرة، كان يستوقف جمهرة الزائرين لأطول وقت، ويشدههم بجمال فنه وينتزع منهم أضخم عبارات الإعجاب والإطراء - استغفر الله - بل أنهم كانوا يخلعونها عليه جزافاً سماحاً. ذلكم هو جان ما يودون الخزاف العالمي الفذ الذي مكنته إدارته الفنية لمصانع سفر الشهيرة لمدة ثلاثين عاماً أو أكثر من أن يقف على أدق أسرار هذه الصناعة قديمها وحديثها، وأن يخلق لنفسه طريقة فنية رائعة.

بجد المشاهد نفسه أمام فن جديد ذي طابع خاص، أهم مظاهره جمال عظيم في أشكال الزهريات والقوارير والصحون التي صممت بعناية فائقة وذوق سليم حتى ليكفي أن تؤثر في النفوس بجمالها الذاتي خالية من النقوش والألوان، ثم جمال ألوانها وانسجامها انسجاماً شعرياً عذباً، مع الذهب خالصاً في بعض الحالات أو مختلطاً قليلا أو كثيراً بتلك الألوان.

ص: 37

أما الرسوم التي عليها، فإما هي حيوانات زخرفية أشبه بغزلان راكضة، وإما هي أُناسي من نسيج الخيال أو من عالم الأساطير، غير أنه لا توجد أسطورة ما ممثلة، أنها لا تعني شيئاً ما بل هي مجرد أخيلة يستعين بها الفنان على إيجاد حركات جميلة أو مجموعة متناسقة من الألوان. وهو في هذه الرسوم متأثر بالفن الإغريقي لحد كبير؛ وفي بعضها يلمس المشاهد أثر ميكائيل أنجلو.

ثم أن لكل قطعة (شخصيتها) وسحرها الخاص حتى ليصعب على المرء أن يختار لنفسه واحدة منها، ويود لو يراها مجتمعة كمجموعة من الدرر الغوالي، ويكره أن ينفرط عقدها، كما أن كل واحدة منها تمثل فن (ما يودون) وتظهر خصائصه بكل وضوح، مطبوعة بطابع ذوقه الرفيع.

وبينما كنت أستمتع مرة بمشاهد معروضاته إذ قدمني إليه صديقي الأستاذ المصور أحمد صبري، فراعتني أناقته المعجبة، وقامته المديدة، وأكتافه العريضة، رأسه الكبير المكلل بشعر أشيب رتيب، وعيناه اللامعتان الفاحصتان. رما كدنا نشقق الحديث حتى بدت منه روح مرحة وحماسة فياضة ونفس إنسانية عظيمة مخلصة، شغفت بالحب والجمال، ثم تواضع عجيب هم من خلق العباقرة القادرين. سألته أ، يحدثني عن فنه فقال:

أستعمل في عجائني الطين النقي والسليبس والطباشير والزجاج. والأخيران يجعلان لأوعيتي صلابة ورنيناً. وأستعمل من الألوان أكاسيد معادن الحديد والنحاس والكروم والمنجنيز والفضة والرصاص. ثم أني أستعمل الذهب مخلوطاً مع أكسيدي الزئبق والبزموت. والحق يقال أنني متأثر إلى حد كبير بتلك المواد التي كان الفرس والعرب يستعملونها في أعمالهم.

إنني أجهز تلك المواد بنفسي، لا مساعد لي في ذلك. أحضر العجائن وأسوي منها الأوعية على أشكال شتى ثم أتركها على الأرفف لتجف، وبعد ذلك أحرقها على درجة عالية من الحرارة (1050مئوية) فتكتسب صلابة كافية وتصير صالحة للعمل عليها في الخطوات التالية. . وفي كل صباح يصحبني كلبي العزيز ونجول معاً هنيهة في حديقتي الجميلة، تذهب بعدها إلى المصنع الواقع وراء تلك الحديقة، فألقي نظرة خاطفة على الأوعية فيروقني أخذها فأنتزعه من مكانه وأرسم عليه بالقلم الرصاص رسماً ما من غير سابق

ص: 38

تحضير أو دراسة، فاجعله حيواناً أو إنساناً أو شبيهاً بهما، حسبما يتفق مع طبيعة الوعاء وقد أزيد عليه أو أنقص منه؛ فإذا ما راقني الرسم وضعت لون الخلفية، ثم أدخلته النار وحرقته على درجة الحرارة العالية المذكورة لمدة معينة، ثم أخرجه بعدها حتى يبرد، ثم أضع عليه ألوان المرسوم التي أتخيرها بعناية وأدخله النار مرة أخرى. وبعد ذلك أضع الذهب. وقد يدعوني الحال إلى إحراق الوعاء مرتين أو ثلاثا بل وست مرات حتى يكون بعدها كاملا. وأحياناً لا يعجبني رسم أو لون ما فأغيره وأعيده إلى النار. وهنا سألته عما يعني برسومه - وقد حيرني أمرها - أهي موضوعات من القصص الإغريقي أو غيره؟ فأجاب بالنفي قائلا:(إنها لمجرد الزخرفة) وإيجاد التآلف والتوازن ليس إلا. فيعطيها من الألوان الخلفية ويجعل المجموعة كلها جميلة تطرب العين والفؤاد معاً. ثم إنه وافقني على ما لاحظته من تأثره بالفن الإغريقي، وبفن مايكل أنجلو الذي كان يعكف على دراسته، وبالفن الفرنسي الذي كان سائداً في عصر لويس الرابع عشر، إلى أن قال:(ولكني أحاول أن أتحرر منها تدريجياً، وأختط لنفسي فناً خاصاً).

وبعد أن حدثني عما شاهده من الفن المصري القديم خصائصه وروائعه سألته عما تركه ذلك الفن في نفسه من أثر. وهنا حدجني بنظرة عميقة ثم اندفع يقول في حماسة ممزوجة بمرارة وألم: (كنت أظن أنني أوفيت على الغاية؛ ولكني اليوم أشعر بأنني قزم إلى جانب الفنان المصري القديم الذي يبرز الجمال بقوة، بسيطاً هادئاً، لا تكلف فيه ولا إجهاد. أصبحت أرى ضآلة عملي وتفاهته بجانب تلك الأعمال الجليلة الرائعة. إن كل هذا (مشيراً بيده إلى قطعه الجميلة) هراء معقد لا غناء فيه. لسوف أقلع عن كل ذلك. آه! لقد بدأت أفهم الآن، والآن فقط بعد أن بلغت الخامسة والخمسين، ولم يبق من العمر إلا أقله، ومن الجهد إلا أضأله. لشد ما يؤلمني ذلك! إن أخوف ما أخافه أن لا يسعفني الأجل بتحقيق ما تصبو إليه نفسي وما ينفجر به خيالي الآن. عندما أعود إلى باريس سوف أكب على العمل بهمة زائدة وأحاول أن أخرج فناً بسيطاً جميلاً حلواً. سأحاول أن أخرج بعض ما تعلمته وشاهدته هنا؛ وسيكون في ذلك نقطة التحول الهائلة في حياتي الفنية التي أوشكت على الأفول).

- وما رأيك في مستقبل فن الخزف بمصر؟

ص: 39

- لا ينقصكم شيء من عناصر النجاح على ما أرى. فتربتكم غنية بأحسن المواد الأولية اللازمة للعمل، وشبابكم على جانب وافر من الذكاء واستعداد للتوثب والابتكار. وكل ما ينقصكم هو فرن ذو حرارة عالية! هذا كل ما في الأمر. إننا نعرض عليكم بضاعتنا وفننا، ولكني أنا فرنسي أفكر برأس فرنسي، ويجب أن تفكروا أنتم كذلك برؤوس مصرية.

- هل تعود إلى مصر مرة أخرى؟

- لقد شغفتني مصر والمصريون حباً. وَأكبر ظني أنني سأعود إليكم في العام القادم حاملا بعض أعمالي الجديدة التي سأستوحيها من زيارتي لبلادكم الجميلة الغنية بالفن

وهنا أقبل بعض زملائه وأسرإليه شيئاً فاستأذن وانصرف.

أما بعد فنرجو من وزارة المعارف أن تستن هذه السنة الحميدة فتستقدم إلينا كل عام بعض أساطين الفن من مختلف الشعوب حتى يتم التلاقح الفني بيننا وبينهم؛ شأنها في ذلك شأن الفرق التمثيلية والجوقات الموسيقية، كما نرجو أن تدفع فنانينا إلى الأمام بكل وسائل الترغيب والتشجيع حتى تستطيع مصر أن تبني مجدها الفني الحديث على آثار فنها القديم.

محمد بهجت

المدير المساعد لقسم البساتين

ص: 40

‌وحشة شاعر.

. .

للشاعر السوداني أبي القاسم عثمان

أيها الليل يا عدو حياتي

ومثير الجياش من أناتي

أنا أرهقت يا غشوم تعاسا

تي وأسكرت بالغناء فلاتي

عبثاً تستخف بالغنم الحلو

وبالعطر في ظلال حياتي

مصر أوحت فأيقظت في ضلوعي

نغماً تستحثه نزواتي

هنئت فيه بالضلالة أفرا

حي وأوتاري التي في لهاتي

فتوثبت في مدارج ألحا

ني وهللت في مدى صلواتي

وتطلعت للشعاع طموحاً

ساخراً بالظلام في خلواتي

قبس الله قد أثار فتوني

وأمات المحزون من آهاتي

في روابي (سنار) ودعت أيا

مي وذرَّفت أدمعي وشكاتي

كنت أودعتها نوازع نفسي

ألهبتها قساوة الذكريات

يا رفيقي لقد لمست بقلبي

ما يعاني الغداة من صدمات

رحمتا فالضباب يزحم آفا

قي ويغتال هدأتي وثباتي

ورماد الأوهام في ليل إدلا

جي أدال المسحور من نبراتي

قهقهات الأشباح أذكت جنوني

لا رعى الله فترة القهقهات

أنا من صارع الحياة فأفنى

عمره الغض في صراع الحياة

لهف نفسي وقد حييت زماناً

في ضجيج الأغلاط والنزهات

ما الذي قدر الإله لنفس

تعبت في صياغة الأمنيات

غير أني يزفني لجهادي

عبقري الأهداف والغايات

سوف أجتاز محنتي لأغني

أغنيات الهروب والانفلات

مصر دنيا طلاقتي وكفاحي

ومنى مهجتي ومحراب ذاتي

فيك أنسيت يا كنانة أوجا

عي وأيقظت خافقي من سبات

أدركيني على البعاد فأني

قد سئمت الشرور في الفلوات

فيك يا مصر ثلة من رفاق

بهمو يستضاء في الظلمات

ص: 41

شعراء يهزهم كل معنى

من معاني التسبيح والعلسفات

فاذكروني أحبتي إن عودي

أيبسته جسارة السافيات

أمسيات الخريف ضاعفن يأسي

فذكرت النديَّ من أمسياتي

أبو القاسم عثمان

ص: 42

‌الأدب والفن في أسبوع

جائزة فؤاد الأول الأدبية:

نشرت (أخبار اليوم) أن لجنة فؤاد الأول الأدبية رأت تقسيم الجائزتين المخصصتين لسنتي 1947و1948 بين أربعة أدباء، هم الأساتذة عباس محمود العقاد والدكتور محمد حسين هيكل باشا والدكتور طه حسين بك والدكتور أحمد أمين بك، ثم قالت:(وعلم ذلك الأستاذ العقاد، فأرسل كتابا إلى وزير المعارف يحتج فيه على تقسيم الجائزة إلى جائزتين، وعلى مساواة مؤلف له 17 كتابا بمؤلف له جزء من كتاب، ويعني أنه أصدر خلال السنوات الخمس الأخيرة17 كتابا بينما لم يصدر الدكتور طه خلال هذه المدة إلا الجزء الأخير من هامش السيرة، وأن هذا الجزء ليس دراسة ولكنه تصوير لفترة من التاريخ الإسلامي. كذلك أرسل الأستاذ العقاد كتابا آخر إلى رئيس ديوان جلالة الملك - مقدم الجائزة - شرح فيه تصرف اللجنة، وقال إنه يخالف الفكرة التي أنشئت من أجلها الجائزة، وقد أرسل معالي رئيس الديوان كتاب الأستاذ العقاد إلى وزير المعارف، فأحاله إلى اللجنة وطلب إليها أن تبحث وجهة نظره، وهل تقسم الجائزة؟ ويستحسن أن يحتفظ بوحدتها لتكون تتويجا مناسباً للعمل الأدبي الذي أنتجه الفائز بها).

والواقع أن قانون الجوائز ينص على جواز التقسيم في حالة تساوي قيمة النتاج، ولكن اللجنة رجحت فكرة التوحيد لتحقيق التتويج الأدبي المقصود من الجائزة، فرأت أن يمنح كلا من الجائزتين أديب واحد. وهي الآن بصدد النظر في ثلاثة كتب، هي (عبقرية عمر) للأستاذ العقاد، و (الصديق أبو بكر) لهيكل باشا، و (ظهر الإسلام) للدكتور أحمد أمين بك. أما كتاب الدكتور طه حسين بك وهو الجزء الثالث من (على هامش السيرة) فهو لا يدخل في الموضوع الذي قررت اللجنة تخصيص هاتين الجائزتين له، وهو (الدراسات الإسلامية الأدبية) على أن تكون جوائز السنين القادمة في فنون الأدب الأخرى كالشعر والقصة. . الخ.

ولذلك استبعدت اللجنة هذا الكتاب لأنه أقرب إلى التصوير الأدبي، والمؤلف نفسه يقول في مقدمته أنه ليس دراسة ولا تاريخاً.

ويتصل ذلك بما قالته (أخبار اليوم) من أن الأستاذين المازني وتوفيق الحكيم اعتذرا من

ص: 43

عدم الاشتراك في هذه المباراة، وقد بينت فيما مضى أن جوائز فؤاد الأول ليست مباراة وإنما هي للتتويج، فهي تشبه جائزة (نوبل). وأضيف الآن إلى ذلك أن الأستاذين المازني وتوفيق الحكيم لم يؤلفا كتباً في الدراسات الإسلامية الأدبية - وهي موضوع الجائزتين - في خلال السنوات الخمس الأخيرة ولا فيما قبلها، فمم يعتذران. . .؟

عضوية المجمع اللغوي:

رأى مجمع فؤاد الأول للغة العربية في جلسته الأخيرة، أن يؤجل الآن شغل الكرسي الذي خلا بوفاه أنطوان الجميل باشا، وذلك لفترة قد تتجاوز الدورة الحالية للمجمع.

ومما يذكر أن أحد الأعضاء اقترح وضع قواعد لشغل الكراسي التي تخلو بالمجمع، كالاعتماد على الآثار العلمية والأدبية للعضو المرشح للاختيار، كما اقترح توزيع كراسي الأعضاء بحسب الاختصاص في العلوم والفنون والآداب، حتى إذا خلا مكان روعي فيمن يشغله أن يكون مختصاً في فن سلفه. ولم يبت شيء من ذلك برأي.

إمارة الشعر:

قال الأستاذ العقاد في حديث له مع محرر (الزمان) وقد سأله عن رأييه في إمارة الشعر:

الشعر مذاهب كثيرة ولكل مذهب شخصية بارزة ممثلة له. ولقد وجد في إنجلترا في عصر واحد أكثر من عشرة شعراء لا يمكنك أن تسمي واحداً منهم أميراً للشعر. ومع ذلك يمكنك أن تقول إن كلا منهم كان إماماً في شعره. فأنت لا تستطيع أن تفاضل مثلا بين بيرون وشلي وكلوردج من حيث العظمة الشعرية، ولكنك ترى لكل منهم نمطا من الشعر يتفوق فيه، فهو إمامه وإذا شئت فهو أميره. . .

الأدب الرمزي:

وقال الأستاذ أيضاً وقد سأله المحرر عن رأيه في الأدب الرمزي:

كلمة الأدب الرمزي كلمة سخيفة، لأن الأدب قبل كل شيء الافصاح، فمن عجز عن الإفصاح فأولى له أن يترك الأدب، ومن كان لا يتكلم إلا بالرموز فخير له أن يخترع له لغة أخرى غير هذه التي تواضع الناس على التفاهم بها، وليخترع إن استطاع نوعاً من الهيروغليفية القديمة تغني فيها الصور والإشارات عن الحروف والكلمات. إن ما يسمونه

ص: 44

بالأدب الرمزي سواء في مصر أو في أوربا ليس له عندي أشرف من كلمة واحدة باللغة العامة وهي (تهجيص)!

نهر النيل في الأدب:

ألقى الدكتور محمد عوض محمد بك محاضرة عنوانها (نهر النيل في الأدب) بالاتحاد المصري الثقافي يوم الثلاثاء الماضي، قال في أولها: أريد أن أطوف بالميدان الأدبي لكي أنظر إلى الشعراء أو الكتاب الذين كان النيل ملهما لهم ودافعاً إياهم إلى بعض الإنتاج الأدبي في موضوع نهر النيل، وأنا لم أحاول أن أفتش في كل الآداب عما يتصل بالنيل، فهذا العمل يحتاج إلى عصابة قوية من الباحثين، إنما أريد أن أعرض ما عثرت عليه بطريق المصادفة المحضة، ويسرني أن ألقى مساعدة من الأدباء في استكمال هذا البحث حتى تتكون لدينا مجموعة عظيمة لأدب نهر النيل تستحق أن يتألف منها مجلد ضخم.

ثم تتبع موضوع النيل في الأدب بالترتيب الزمني، فبدأ بالأدب المصري القديم وأورد منه قصائد في النيل؛ وتحدث عن ثلاث قصائد في موضوع النيل لثلاثة من كبار شعراء الإنجليز هم شلي وكيتش وهنت، فقال إن هؤلاء الشعراء الثلاثة اجتمعوا في يوم من سنة 1818م واتفقوا على أن يؤلف كل منهم أنشودة موضوعها النيل، على سبيل المنافسة الأدبية، وقال إن هذا الاتفاق يرجع إلى أن اهتمام الناس في أوروبا بنهر النيل قد أخذ ينتعش في أوائل القرن التاسع عشر، وقد أخذ بعض المستكشفين يقوم برحلات للبحث عن منابع النهر، ثم ينشر قصة رحلاته فيلفت الأنظار مرة أخرى إلى هذا الموضوع القديم.

ثم انتقل الدكتور عوض بك بعد ذلك إلى الأدب العربي فقال إننا نلاحظ أن نهر النيل لم يجد في الأدب العربي القديم من يعني بشأنه سواء من زار مصر وأقام على ضفاف النهر أو من سمع به وكان من الجائز أن يصفه على السماع كما فعل الشعراء الإنجليز. وقد أشار إليه القرآن الكريم: (أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي) ونلاحظ أن وصف الأرض بأنها تجري من تحتها الأنهار كثيراً ما ورد في وصف الفردوس. كذلك ورد ذكر مصر ونيلها في الحديث وفي الكتب التي تنسب إلى عمرو بن العاص ولكن ذكرها لم يرد على لسان الشعراء إلا قليلا. وقد زار مصر من كبار الشعراء العرب عدد ليس بالقليل منهم أبو نواس الذي مدح والى مصر (الخصيب) بشعر جميل لم يرد فيه ذكر

ص: 45

النيل ومصر إلا عرضاً كما ترى في قوله:

أنت الخصيب وهذه مصر

فتدفقا فكلا كما بحر

وقد نشأ أبو تمام في مصر ولكنه لم يذكر في شعره مصر ونيلها مع أنه كان يسقي ماء النيل بالجرة في المسجد الجامع بمصر. كذلك زار مصر المتنبي وقد ذكر النيل عرضا في شعره. وهو وأن لم يهتم بالقول في النيل إلا أنه لم ينج من أثر النيل في شعره؛ فإن أشعاره التي قالها في مصر هي أبدع وأروع مما ألفه قبل إقامته في مصر وبعدها. وأرجع الدكتور عدم اهتمام هؤلاء الشعراء بمعالجة موضوع نهر النيل إلى عدة أسباب، أهمها أن وصف الأنهار والبحار والغابات لم يكن من الموضوعات التي ألفها شعراؤنا، وأن الشعراء في أوائل العهد العربي لم يكونوا من المصريين، ولم يكثر ذكر النيل في الشعر العربي إلا بعد أن أصبحت العربية لسانا لأهل مصر ولغة أدبائهم. ومع ذلك فإن الشعراء المصريين كانوا في أول الأمر مقيدين بما ورثوه من تقاليد شعرية. ومما يلاحظ أن العصر الذي أخذ فيه الشعراء المصريون يعالجون موضوع نهر النيل كان الشعر قد أخذ ينحط كثيراً عما كان عليه في العصر العباسي الأول. وهم على كل حال كانوا يحسون بالنهر ويشعرون به فقالوا في التشوق إليه وفي وصفه وفي فيضانه والمقياس الذي يقاس به وفاء النيل وفي جزيرة الروضة ومنظر الفن في النهر وأيام اللهو على ضفته والرياض التي يجري وسطها وما إلى ذلك.

ثم انتقل الدكتور عوض إلى عصر النهضة الحديثة التي ازدهر فيها الأدب وأصبح شاعراً بوجود النيل إلى أن قال: إن شعراء مصر في عصرنا هذا قد يخصون النيل بأبيات أو مقطوعات أو إشارات، أما شوقي فقد جاراهم في هذا ولكنه بزهم بأن خص النيل بقصيدة من أروع قصائده تجمع بين الوصف الصادق والخيال المبتكر والنزعة الفلسفية والنظر إلى النيل ككائن مستقل لا كعرض من أعراض الحياة، وتجمع بين الوصف الشعري وبين حوادث التاريخ، وهي القصيدة التي أهداها شاعرنا إلى العالم المستشرق مرجليوث والتي يخاطب النهر في أولها بقوله:

من أي عهد القرى تتدفق

وبأي كف في المدائن تفدق

وقال الدكتور: بهذه القصيدة نستطيع أن نقف أمام شعراء الغرب الذين تناولوا هذا

ص: 46

الموضوع أمثال كيتس وشلي وهنت، دون أن نخجل من تقصير أدبنا عن أدبهم في موضوع شديد الصلة بحياتنا دون حياتهم.

تحول فكري في أمريكا:

في يوم الجمعة الماضي ألقى الأستاذ فؤاد صروف محاضرة في قاعة يورت بالجامعة الأمريكية، موضوعها (الاتجاهات السياسية والاجتماعية الحاضرة في الولايات المتحدة الأمريكية) وهي حلقة من سلسلة محاضرات (العالم كما هو اليوم) التي ينظمها قسم الخدمة العامة بالجامعة الأمريكية.

بين الأستاذ المحاضر ما يسود الولايات المتحدة الآن من التيارات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية، وقد أجملها في ثلاثة، فقال أن في حياة الولايات المتحدة ثلاثة تيارات عميقة، وهي خروجها من عزلتها، وميلها إلى تعزيز نظام الاجتهاد الحر الذي يقوم على مبدأ (وإن ليس للإنسان إلا ما سعى) بتوفير أسباب العدالة الاجتماعية، واتجاه أهل الفكر والتربية فيها إلى دراسة الأساس الخلفي الاجتماعي للحضارة الصناعية التي تعد الولايات المتحدة أتم مثال لها. وأوضح هذا التيار الفكري بقوله: أن قيام الدولة الأمريكية في قارة غنية صرف التربية الأمريكية خلال زمن طويل إلى تقديم دراسة التكنولوجيا (علم الحرف والصناعات) على دراسة العلوم الإنسانية، فالأب الذي يريد أن يقدم هدية إلى ابنه الصغير، يميل على الأكثر إلى تقديم مجموعة من الآلات يلهو بها، فيفكها ويركبها؛ وهذا الانصراف إلى تقديم التكنولوجيا على دراسة الآداب القديمة، هو الذي جعل تقديم أمريكا الصناعي شيئا يبهر النفس في سرعته وعظمته، ولست أريد أن ازعم أن طائفة كبيرة من الجامعات العريقة نبذت العناية بتقديم التكنولوجيا هي الغالبة. بيد أن طائفة من رجال الفكر أخذت تدعو إلى نهج جديد، فمشكلات العالم الحديث في رأيها ليست مشكلات معرفة وإنتاج وحسب، فقد تقدمت المعرفة تقدما عظيما وارتقت وسائل الإنتاج الصناعي والزراعي ارتقاء باهرا، فلم يغن كل ذلك في حل المشكلات الاجتماعية وزيارة سعادة الناس، ولكن المشكلات ترتد - في رأيها - إلى جهل ما للمعرفة ووسائل الإنتاج من قيمة اجتماعية، فالاجتماع البشري الذي يسير في طريق الكمال ليس يكفيه أن تكثر فيه المعرفة وان تتوافر فيه وسائل الإنتاج، بل ينبغي له أن تكون المعرفة طريقا إلى الحكمة، وان تفضي وفرة

ص: 47

الإنتاج إلى حسن التوزيع بين الناس، فإلى الرضا والطمأنينة والسعادة؛ وهذا التيار في التربية الأمريكية لا يزال في اوله، ولكنه قوى زاخر.

ثم قال: أن مستوى المعيشة العالي أو الكافي ليس سوى مرحلة في الطريق المفضي إلى مستوى صحيح للحياة، والرخاء لا نقع فيه إلا على قدر ما يهيئ من جو يكفل سعادة العقل وسكينة النفس. ولن نستطيع أن نقيم على سطح الأرض حضارة صالحة للبقاء، إذا أقمناها على الرخاء وحسب دون الفضائل العريقة ودون إدراك القيم الاجتماعية والروحية للأشياء المادية التي صرنا نحسن صنعها وعرضها. وإذن اتجاه الأمة الأمريكية إلى استكشاف هذه القيم ودراستها والعودة بها إلى الأصول التي قامت عليها الأمة الأمريكية في عهدها الأول هو أهم اتجاه حديث في حينها اليوم؛ لأنه إذا استطاع الشعب أن يحل مشكلة حياده الخاصة ويصون فضائله العريقة وإيمانه بالمثل التي من اجلها هجر آبائه الأولون قارة أوربا وفي سبيلها خاض حربين عالميتين، ففي وسعنا أن نطمئن إلى أن ضمان حق الحياة والحرية وطلب السعادة في حضارة تعد الرجل رجلا لا عبدا سوف يكون المصباح الذي يهتدي به الأمر يكون في علاقاتهم بسائر الناس.

العباس

ص: 48

‌البريد الأدبي

نعم نملك تحريم تعدد الزوجات:

ما كنت أظن أن يخفى ما كتبته تحت هذا العنوان بعدد الرسالة في 5 من أبريل سنة 1948م على صديق الأستاذ إبراهيم زكي الدين بدوي، حتى يرد ما لا يرد منه في عدد (772) من مجلة الرسالة، لأنه لا ينكر أحد ان ينقلب المباح حراما إذا نهى عنه أولي الأمر لمصلحة تقتضي النهى عنه، كان ينهى عن زرع القطن في اكثر من ثلث الملك، فتجب طاعته شرعا في ذلك، وتحرم مخالفته فيه، لقوله تعالى (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) فيكون زرع القطن في اكثر من الثلث حراما من هذه الناحية، وان كان في ذاته مباحا، وقد يكون هناك ضرر من إطلاق زرعه، ولكنه لا يصل إلى درجة التحريم إلا بنهي أولي الأمر عنه، لأنه ليس بالضرر الذي يقتضي الحرمة

وكذلك الأمر في تعدد الزوجات، فلولي الأمر أن ينهى عنه إذا أساء المسلمون استعماله، فيصير حراما لنهيه عنه، وان كان في ذاته مباحا. وهذا أمر معروف بين العلماء، لان الله تعالى لم يبح لنا شيئا إلا في حدود المصلحة، فإذا انتفت المصلحة انتفت الإباحة، بل نص العلماء على أن من المندوب ما ينقلب مكروها لسبب من الأسباب. وكلما ذكره الأستاذ زكي الدين في رد هذا لا يعدو أن يكون تنظيما فيه أو استثناء له من ولى الأمر، بمقتضى ماله من حق التحريم والمنع، ولعل ما يدعو إلى هذا أن الناس لم يتهيئوا بعد لفهم هذا الحق، بل يعدوه خروجا على الدين، فيحمل هذا ولي الأمر على أن يستثنى في ذلك ما يستثنى، ولا يذهب فيه إلى آخر ما جعله الله من حقه.

عبد المتعال الصعيدي

1 -

شرط رواية الحديث الضعيف:

في صباح السبت 10 من أبريل سنة 1948 حدثنا في المذياع عالم أديب عن الجهاد، وعزا الخبر المشهور (رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر. . .) إلى النبي عليه صلوات الله وسلامه.

وفي معجم المحدث العجلوني المسمى (كشف الخلفاء ومزيل الإلباس، عما اشتهر من الأحاديث على السنة الناس) ج 1 ص 424 قال الحافظ ابن حجر: هو مشهور على

ص: 49

الألسنة وهو من كلام إبراهيم بن علية. وقال العراقي: رواه البيهقي بسند ضعيف عن جابر.

ويشترط المحققون من المحدثين كالعز بن عبد السلامسلطان العلماء، وابن دقيق العيد، والنووي ان تكون صيغة رواية الضعيف صيغة تضعيف وتمريض مثل ورد ويحكى وبذكر ويروى والفقيه ابن حجر الهيتمي يثبت ولعله في كتابه الفتاوى الحديثة، عدم جواز رواية أي حديث إلا بعد معرفة درجته من الصحة العامة.

2 -

أول اكتتاب في الإسلام:

في (عيون الأثر غنون المغازى والشمائل والسير لابن سيد الناس) وغيرها أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد التوجه إلى غزوة تبوك أو العسرة لأنها كانت في زمن عسرة من الناس وجدب من البلاد حض أهل الغنى على النفقة في سبيل الله والحملان والقوة والتأسي، فحمل رجال من أهل الغنى واحتسبوا، وانفق عثمان في ذلك نفقة عظيمة لم ينفق أحد مثلها، بذل عشرة آلاف دينار وثلاثمائة جمل. وجاء أبو بكر بكل ماله وهو أربعة آلاف درهم. وجاء عمر بنصف ماله، واقتدى بهم اكثر الصحابة وأما النساء فقد تبرعن بحليهن. ومفصل أخبار تلك الغزوة في (مجمع الزوائد ومنبع الفوائد لنور الدين الهيثمي ج 6 ص 191 - 195 وج 9 ص 58.

محمد أسامة عليبة

أعضاء مراسلون للمجمع اللغوي:

أصدر معالي الدكتور السنهوري باشا وزير المعارف قرارا بتعيين المذكورين بعد أعضاء مراسلين لمجمع فؤاد الأول للغة العربية وهم حضرات الأساتذة: جبريل (روما - إيطاليا)، واربري (لندن - بريطانيا)، ولاوست (ليون - فرنسا)، ينبرج (ابسالا - النرويج)، خليل مردم وشفيق جبري والأمير مصطفى الشهابي (سوريا)، ومحمد بهجت الأثري (العراق)، وطاهر بن عاشور (تونس)، والشيخ محمد الجخوي وعلال الفاسي (مراكش)، والشيخ محمد نور الحسن (السودان)، وخير الدين الزركلي (المملكة العربي السعودية)، وعبد الله عبد الرحمن الأمين (من موظفي المعارف بالسودان).

ص: 50

وقد علمنا ان الأستاذ ميخائيل نعيمة من بين المرشحين عن فلسطين وعلمنا كذلك أن الهيئة متجهة إلى اختيار عضوين مراسلين لكل بلد. والطريقة المتبعة أن يتفق المجمع على الأسماء ثم يبلغها لمعالي وزير المعارف لإصدار القرار بتعيينهم.

حول قصيدة:

في مجلة (العالم العربي) لشهر أبريل الجاري قصيدة للآنسة الفاضلة فدوى طوقان بنابلس بعنوان (ليل وقلب). هذه القصيدة (يقضها وقضيضها) أذكر أنها نشرت في مجلة (الرسالة) الغراء العدد (741) إلا انه وقع تحريف في بيت منها؛ فهو في الرسالة:

تخاف على زهرات (الصبي) تبددها كفة القاسية

وفي العالم العربي:

تخاف على زهرات (الربيع) تبددها كفة القاسية.

ويبقى أن نسأل: كيف يجوز أن جاز نشر قصيدة بعينها في مجلتين سيارتين في (مصر) واحد وقطر واحد؟

ثم هل يقع اللوم على المرسل، أم على الناشر أن كان نقل؟ الجواب الدراك، ننتظره من هنا أو من هناك!

(عين)

ابن الأستاذ الطنطاوي:

ما لهذه الأحداث الكبيرة التي لم تلم بالشرق فتؤسيه، وبقلب المسلم فتدميه، وبدنيا العرب الهادئة الوادعة فتحيلها نارا لاهبة لا تحرك من قلم الأستاذ (الطنطاوي) ما سكن!. . ولا تثير قلبه الحي المؤمن ما كمن؟!. .

كيف لا تذكى هذه المحن الفاجعة في نفسه أوار العزة والنضال فيهب ليدافع عن الحق وكرامة الإسلام وقد عهدناه فارسا حرا لا يمل النزال!. . هل أيس من الإصلاح وكفر بالإنسان فألقى السلاح الذي جاهد به طويلا في شبابه وكهولته حين أشقى على الأربعين؟!. .

(فتى الفيحاء)

ص: 51

استفهام:

استدعى نظري قول الأستاذ (عبد القادر الناصري) في قصيدته (قلب شاعر)

حتام أظمأ والأقداح دائرة

مثل الكواكب ما بين النداماء

فقد بحثت في قاموس (الفيروز أبادي) في مادة (ندم) فلم أجد جمعا مثل قوله (النداماء) والمعروف أن الجمع إنما هو (نُدماء) و (ندامى) و (نِدام) أرجو توضيح ذلك. وحبذا لو قال (ما بين الإخلاء) وقوله في نهاية القصيدة (أن لم تكن روحه تصبو لعلياء) فالمعروف ان الفعل (صبا) يتعدى (بإلى) لا (باللام).

علي زين العابدين منصور

ص: 52

‌القصص

من الأدب الإيطالي:

ذلك الرجل!!

للشاعر الإيطالي جبريل دانونزيو

بقلم الأديب محمد فتحي عبد الوهاب

كان قصير القامة ممشوقها، تنوء رقبته برأس ضخم يميل قليلا إلى اليسار، وقد اكتسى هذا الرأس غابة كثيفة من الشعر الكستنائي المسترسل إلى كتفيه في تجعدات والتواءات، تلعب به الريح لعبها بعرف الجواد، ولحية كثة كلحية المتقشفين، تركها دون تهذيب وقد تراكمت عليها ندف صغيرة من القش. وكانت عيناه تتطلعان دائما إلى موقع قدميه العاريتين، حتى إذا ما رفعهما ظهر فيهما الغموض والابهام، ولاح فيهما الرعب، أو بدتا كما لو كانتا عينني مخبول تارة، أو رجل محموم تارة أخرى. أو تشهد فيهما ما يجعلك تفكر في الماء الأخضر الآسن الراكد في حفرة ضيقة، أو في وميض السيف اللامع.

كان يرتدي سترة قديمة حمراء، قد ألقى بها على كتفيه كأنها المعطف. وكان الناس يروون عنه شتى الأقاصيص، ويتحدثون عن حب، وخيانة، واعتداء، وهروب. . .

كنت في سن الثالثة عشرة عند ما قابلته أول مرة، فجذبني منظره. وكان ذلك في يوم من أيام الصيف الحارة والميدان الكبير تغمره الشمس، وقد أقفر إلا من بعض الكلاب تتسكع هنا وهناك، والسكون مخيم على المكان، اللهم إلا من ذلك الصرير الممل لعجلة السنان. وكنت قد اعتدت الوقوف برهة أراقب ذلك الرجل من خلف مصراعي نافذة غرفتي، فأراه يسير في بطئ تحت شمس الظهيرة، يختال في جو من العظمة، أو يزحف قرب الكلاب في هدوء حتى لا تلاحظه، ويلتقط حجرا يقذفها به في خفة ثم يهرب متظاهرا بأنه شيء غير منظور، فتقبل عليه الكلاب وتلتف حوله وهي تبصبص بأذنابها، فينظر إليها ثم ينفجر ضاحكا ضحكات قصيرة صبيانية فأشاركه ضحكه.

وفي ذات يوم تمالكت شجاعتي، وأطللت برأسي من النافذة ثم ناديته. فالتفت إلى في سرعة ثم أبتسم، والتقطت زهرة من الأقاصيص قذفت بها اليه، ومنذ ذلك الحين أصبحنا صديقين.

ص: 53

وفي مساء يوم سبت كنت واقفا على الجسر وحيدا أراقب حركة أسطول الصيادين وهو راجع من الصيد. كانت شمس يوليو البديعة تغرب، وقد احمرت السماء بالسحب الذهبية، وتوهج النهر الجاري صوب البحر وارتعشت أمواجه في تلألؤ زاه. وكانت الضفاف تحت الهضبات تلقى على الماء فتنعكس الأشجار، وتظهر قممها كأنها نائمة على صفحة الماء في ذلك الجو الحار. وجعلت القوارب تلقى مراسيها في بطئ وقد طوت أشرعتها البرتقالية الكبيرة ذات الخطوط الزخرفية السوداء. وابتدأت تفرغ حمولتها من السمك. وسرت الريح تحمل أصوات النوتية ورائحة الصخور.

والتفت فجاءة ورائي فرأيت الرجل واقفا يتصبب عرقا، وقد أخفى يده اليمنى وراء ظهره، وأضاءت فمه ابتسامته الصبيانية المعهودة. فصحت اهتف باسمه وأنا أمد يدي المتخاذلة إليه في سرور. وتقدم نحوي وقدم إلى بيده التي كان يخفيها باقة أنيقة من الخشخاش الأحمر وسنابل القمح الذهبية. فصحت وأنا أتناولها منه (أشكرك، أشكرك، ما أجملها. . .)

وسحب يده على حاجبيه، وجعل يمسح العرق المتساقط ثم ينظر إلى أصابعه المبللة ثم إلي، وأخيراً ضحك وقال (إن الخشخاش الأحمر ينمو بين القمح الأصفر هناك في الحقول، فرأيتها وأحضرتها لك فقلت لي) ما أجملها (وكانت الشمس كالنار).

كان يتكلم في خنوع، ويقف بين كل كلمة وأخرى كأنه يحاول أن يتبع خيط أفكاره. أم آلاف الصور المبهمة المضطربة كانت تتجمع في ذهنه. فيحاول أن يبززها ويتشبث باثنتين أو ثلاثة منها، تلك التي كانت أكثرها ثبوتا وأوضحها صورة، وتهرب منه الصور الباقية. كنت الحظ ذلك في عينيه فأتعجب. وكأنه شعر بما يجول في خاطري، فأدار رأسه صوب قوارب الصيد وقال وهو يفكر:

- هذا الشراع، إنه شراعان، واحد في الهواء، وواحد في الماء.

كان لا يدرك أن الشراع الأسفل انعكاس الشراع الأعلى على صفحة الماء. فجعلت اشرح له ذلك قدر امكاني، فاستمع إلي في ذهول، ثم ابتسم وتطلع إلى الأشرعة.

وسقطت زهرة من الخشخاش في النهر، فراقبها حتى اختفت مع التيار، ثم قال في صوت حزين لا يوصف (لقد رحلت بعيدا، بعيدا جدا (وكأنها شيء عزيز لديه).

وبعد لحظة من الصمت سألته (من أي قرية أتيت؟)

ص: 54

فالتفت صوب السماء يتطلع إلى صفاء لونها الزبرجدي. كانت الجبال القاتمة تظهر أمام الأفق كأنها جبار راقد. وامتد الجسر الحديدي فوق النهر يقطع السماء إلى صور صغيرة، وظهرت خلفه الأشجار الخضراء وقد استحالت إلى أشباح قاتمة. واختلطت ضحكات الجنود في الثكنات بصوت البوق.

وأخيراً قال (كان عندي منزل ابيض، نعم كان كذلك، تحفه حديقة كبيرة من الفواكه. لقد اعتادت تريزا أن تحظر في المساء. كانت جميلة، أن عينيها. . . ولكن. . .)

وكف عن الكلام وقد ظهرت على هينيه الكآبة. ولكن سرعان ما عاد إلى هدوئه، ثم انحنى لي، وسار مبتعدا عني وهو يغني.

ومنذ ذلك الحين كنت كلما أراه يمر في الطريق أناديه وأجود له ببعض الطعام. وفي ذات مرة قدمت إليه القليل من النقود الذي أعطيتني إياه والدتي، ونظر إلي في صرامة، ثم دفع بها إلى في احتقار ظاهر، وأخيراً أدار ظهره ومشى دون أن يلتفت إلى.

وفي ذلك المساء قابلته خارج الميناء الجديد، فتقدمت إليه قائلا

- سامحني، سامحني.

فهرب كأنه حيوان جافل، وفي لحظة كان قد اختفى عن أنظاري بين الأشجار. ولكن في صباح اليوم التالي كان ينتظرني على باب داري، وابتسم في شجاعة، ثم قدم إلى ياقة يانعة من زهور المرجريت. كانت عيناه محضلتين بالدموع، وشفتاه ترتعشان. . . وعادت المياه إلى مجاريها.

وفي ذات مرة، في أواخر شهر أغسطس، كنا جالسين في نهاية الطريق وكانت الشمس قد توارت بالجبال. وقد امتدت أشجار الصنوبر حتى البحر، وابتدأ القمر يرتفع في بطئ في عنان السماء بين السحب القاتمة. . .

ونظر إلى القمر ثم تمتم قائلا (انظر! الآن تستطيع أن تراه. . تستطيع أن تراه)

وجعل يتأمله لحظة ثم قال (ذلك القمر! إن له عينين وأنفاً وفما كالبشر، لست ادري ما الذي يفكر فيه. من يدري؟)

ثم جعل يدندن أغنية ذات لحن حزين، من تلك الأغنيات التي يرتلها الأهلون عند قطف الكروم في ليالي الخريف الحارة. وكان يلوح لنا عن بعد مصباحا قطار قادم في سرعة،

ص: 55

فظهرا كأنهما عينا وحش تحدقان فينا. ومر القطار يهدر ويتعالى دخانه وصفيره عند عبوره الجسر الحديدي، وعاد الصمت يخيم تدريجيا على الأرض الشاسعة.

ووقف الرجل على قدميه وصاح وهو يشير إلى القطار المبتعد (اذهب، اذهب، اذهب، بعيدا، بعيدا، انك تنساب كالتنين، والنار في داخلك، النار التي وضعها فيك الشيطان)

ولن أنسى ما حييت منظره وهو واقف في هذه اللحظة. . ولم يهدا انفعاله إلا بعد أن تلاشى صوت القطار وعاد الصمت يخيم على الطبيعة.

وعندما كنا في طريقنا إلى الدار كان لا يزال غارقا في أحلامه.

وفي ذات صباح جميل من سبتمبر ذهبنا إلى البحر. إن ذلك الاتساع السرمدي للماء الأزرق العميق كان ممتدا حتى الأفق المتألق، وكانت قوارب الصيد تبحر أزواجاً، فتظهر كأنها طيور هائلة الحجم مجهولة النوع، قد نشرت أجنحتها الصفراء القرمزية. وكانت الهضاب الرملية النحاسية ترقد على طول الساحل خلفنا وقد لاحت من ورائها الكتل الضخمة الخضراء من مزروعات شجر الصفصاف.

قال في صوت خافت وكأنه يخاطب نفسه في لهجة التعجب والشعور بالخوف (يا لهذا البحر الخضم الأزرق الضخم! ويا لهذه الأسماك الضاربة المفترسة! إن (أراكس) هناك سجين في قفص من حديد، يصيح فلا يسمع أحد صيحاته. انه لن يرجع ثانية. وهذه السفينة السابحة في الماء، إنها نجلب الموت لكل من يشاهدها؟

ثم صممت. . واقبل على الشاطئ حتى غمرت الأمواج البيض الصغيرة قدميه. من يدري ما الذي كان يحدث داخل عقل المسكين الضعيف؟

وبينما نحن مقبلان على الدار وقد التزم الصمت طول الطريق نظرت إليه فاخبرني قلبي بأشياء غريبة.

وهمس أخيراً في صوت خافت وهو يأخذ بيدي (إن لك أما في منزلك ننتظر أو بتك لتقبلك) كانت الشمس تغرب في الماء الصافي خلف الجبال، والنهر يتلألأ بشتى الانعكاسات.

فسألته والدموع تتساقط من عيني وانت، اين والدتك؟) فنظر إلى عصفورين في الطريق، والتقط حجرا سدده كأنه بندقية في يده، ثم أطلقه عليهما، فوليا كأنهما السهام.

ص: 56

وصاح وهو يراقب طيرانهما في السماء اللامعة وهو يضحك في صخب (طيرا. . طيرا. .)

ومرت الأيام فلاحظت فيه تغيرا، كأنما أصابته الحمى. كان ينطلق مسرعا إلى الحقول كأنه الجواد حتى يقع على الأرض مبهور الأنفاس، أو يرقد الساعات مفترش الثرى دون حراك يحدق بعينه في وهج شمس الظهر المحرقة. وعندما يقبل المساء كان يلقى بمعطفه الأحمر على كتفيه ويتنزه جيئة وذهابا في الميدان، يختال في خطوات طويلة بطيئة كأنه عظيم إسباني. وكان يتحاشاني، ولا يجلب لي الزهور. وتألمت لهذا الهجر. كان الناس يدعون بأنه سحرني. وفي ذات صباح ذهبت قاصدا لقياه. ولكنه لم يرفع عينيه، بل احمر وجهه كأنما مسته نار. فصحت في اضطراب (ما الأمر؟)

- لا شيء،

- بل هناك شيء.

- لا شيء.

- هذا غير صحيح.

ولاحظت انه ينظر أمامه بعينين متقدتين، فالتفت، فوجدته يتطلع إلى فتاة ريفية حسناء واقفة أمام مدخل حانوت

وتمتم وقد شحب لونه: (تريزا) ففهمت إن الرجل المسكين كان يتخيل في هذه الفتاة غادة بلدته التي أثرت على قواه العقلية

وبعد يومين قابلها في الميدان، فاقترب منها مبتسما وهو يقول:(إنك أكثر جمالا من الشمس. فلطمته بقوة على وجهه)

كان هناك بعض الصغار بالقرب منهما، فجعلوا يسخرون منه بعد أن تركته الفتاة وحيدا مصدوماً باهتاً، وابتدأت بقايا الخضر تطير فترتطم في وجهه. والتفت إلى الصبية، وهدر كالثور الجريح، ثم أمسك بواحد منهم وألقاه على الأرض كأنه من الأسمال.

ورايته، يمر أمام نافذتي بين أيدي اثنين من رجال الشرطة مقيدا، والدم يسيل من لحيته منحنى الظهر، مرتعش الجسد، والناس من خلفه يضحكون ويسخرون. نظرت إليه فامتلأت عيناه بالدموع.

ص: 57

وكان الحظ قد واتاه، فان الصبي لم يصب إلا بجروح يسيرة، وخرج من السجن بعد يومين

مسكين ذلك الرجل! كان قد تغير تغيرا تاما واصبح مكتئب الوجه لا يثق في أحد، غضوبا وكنت أراه في بعض الأحيان ينفلت مساء في سرعة كبيرة كأنه الكلب، ويختفي في طريق مظلم قذر

وفي ذات صباح مشرق الشمس صافي السماء من أكتوبر وجدوه على خط السكة الحديدية بجانب الجسر وقد تمزق إرباً حتى اصبح كتلة دامية مشوهة من اللحم، وانسحب إحدى ساقيه مع عجلات القطار الذي دهمه إلى مسافة بعيدة، وظهرت عيناه الخضراوان في رأسه المقطوع الذقن المصبوغ الشعر بالدم القاني، تحدقان في رعب هائل

مسكين ذلك الرجل! كان يود أن يشاهد القطار عن قرب، ولكنه كان يبتعد ثم يبتعد - كما يقول - ذلك الوحش الطويل ذلك التنين الذي بداخله النار التي وضعها الشيطان!

محمد فتحي عبد الوهاب

ص: 58