المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 774 - بتاريخ: 03 - 05 - 1948 - مجلة الرسالة - جـ ٧٧٤

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 774

- بتاريخ: 03 - 05 - 1948

ص: -1

‌من علامات الساعة.

. . .!

من علامات الساعة أن يتشجع اليهودي فيحمل سلاحاً ويشهد حرباً ويحرز نصراً ويحتل مدينة!

ومن علامات الساعة أن يخرج اليهودي من البنك إلى الثكنة، ومن الدكان إلى الميدان، ليحارب العرب على فلسطين، ويثأر لإفرنج من صلاح الدين!!

ومن علامات الساعة أن يكون لليهود جيش ينتصر على العرب في حيفا، وعلم يرفرف على المسجد في يافا، ودولة تريد أن تقوم في القدس!!

كذلك من علامات الساعة أن ينهزم العربي أمام اليهودي ولو ظاهرته مادية الأمريكان وخديعة الإنجليز وشيوعية الروس؛ فإن الثعلب يحسبه أن يشم ريح الأسد من بعيد ليجحر، وإن الفأر يحسبه أن يبصر الهر من فوق الجدار ليسقط!

يا لله ماذا نرى؟ نرى الألوف من نساء العرب وأطفال العرب يخرجون من ديارهم مشردين في البر والبحر؛ يلتمسون في الشام المأوى، ويطلبون في مصر الأمن، وأهلوهم مصر عون ثرى الوطن الحبيب السليب بعد أن قذفوا في صدر العدو آخر رصاصة، ودفعوا غائلة الجوع بآخر كسرة، وافتدوا وطن الآباء بآخر رمق!

يا لله ماذا تسمع؟ نسمع أن تل أبيب تحكم يافا، وأن راية صهيون تخفق على مسجد (حسن بك)، وأن بني إسرائيل يذبحون الأبناء ويستحيون النساء في دير ياسين!

لقد سمعنا أن اليهود يحتلون البلاد بالنساء والذهب، ولكننا لم نسمع قبل اليوم أنهم يحتلونها بالرجال والحديد!!

ماذا جرى حتى استجملت الناقة يا يهود، وماذا جرى حتى استنوق الجمل يا عرب؟! جرى أن اليهود يعملون ونحن نقول، ويجدون ونحن نهزل، ويبذلون ونحن نبخل، ويتعاونون ونحن نتخاذل، ويتكلمون ونحن نتواكل!

للجامعة العربية في كل شهر مؤتمر، وفي كل أسبوع مجتمع، وفي كل يوم قرار، وفي كل ساعة تصريح، وفي كل دقيقة خطبة؛ وكل أولئك يحمله الهواء إلى المجاهدون المجاهدين أصواتا لا تدفع سيارة، ولا ترفع طائرة، ولا تحشو مدفعاً، ولا تملأ بطنا، ولا تبعث قوة، فإذا جاء يوم العمل نظر بعضهم إلى بعض، فإذا الأول واقف لأن ترومان لم يتقدم، وإذا الثاني ساكت لأن بيفن لم يتكلم، وإذا الثالث مترجح لأن الآخرين لم يستقروا على رأي!

ص: 1

كنا قبل أن تنشأ (الجامعة العربية) أهواء متشعبة وآراء متضاربة وقوى متفرقة؛ فكنا نجد ذرنا في هذا الانقسام، ونعزو فشلنا إلى هذه الفرقة، ونهدد خصمنا بأن في جمعتنا الخلاص منه، وفي وحدتنا القضاء عليه؛ فلما أذن الله لأوطاننا أن تتصل، ولدولنا أن تتحد، ابتلانا بمحنة فلسطين ليعلم العدو المتربص ما وراء العربي إذا تجمع شمله، وما غناء الإسلام تجدد حبله

فالجامعة العربية اليوم في ميزان الأقدار وامتحان الشدائد؛ فإذا رجحت كفتها على اليهودية رجحت في كل أمة، وإذا ثبت معدنها على المحك في هذه الأزمة ثبت في كل أزمة.

إن مستقبلنا رهن بهذه المعركة؛ فإذا كسبناها كسبنا جل ما نبغي، وإذا خسرناها خسرنا كل ما نملك. ذلك لأن اليهود لا يستطيعون أن يقيموا لهم دولة في فلسطين إلا على عمد من الجهة الغربية أو الجبهة الشرقية. وأيا ما تكن هذه العمد فإنها التدمير والتكفير والفوضى إذا كانت شيوعية، وإنها الاستعمار والاستئثار والبلوى إذا كانت رأسمالية.

أحمد حسن الزيات

ص: 2

‌الصحافة في الميثاق الصهيوني

للأستاذ نقولا الحداد

قرأت أخيرا أن في العراق حركة صحفية هائلة؛ فقد صدرت تصريحات لجرائد جديدة عديدة، وأنبئنا بصراحة أن لليهود نفوذاً كبيراً فيها. وإذا كان اليهود قد مدوا أنوفهم للجرائد العراقية فلا بدع أن يفعلوا هنا في مصرا كثر من هذا وأجهر. عندنا هنا أربع جرائد إفرنجية صهيونية، ومجلة عربية شهرية. وفي كل جريدة من جرائدنا المحلية العربية صهيوني أو أكثر يسيطر عليها لقاء خدمة اقتصادية هي استجداء الإعلانات لها من أرباب المصالح اليهودية عن يد شركة الإعلانات الشرقية وهي صهيونية

وقيل لنا بالأمس إن إحدى جرائدنا الكبرى قد باعت 49 بالمئة من قيمتها لشركة الإعلانات الشرقية، وما بقى منها إلا اثنان بالمئة لكي تتحول السيطرة القانونية عليها إلى الشركة المذكورة، ولكن الشركة لا تعجز عن الحصول عليها بأية الطرق، فيصبح عنق تلك الجريدة الموقرة تحت نير الصهيونية تفلح به الدعاية الصهيونية على كيفها. ثم ما لبثنا أن قيل لنا إن الجريدة نفسها اشترت الشركة كلها. ثم قيل لنا إن الجريدة والشركة اندمجتا معاً في شركة واحدة، ولا اعتبار لأي الفريقين أثقل بدا في الشركة المزدوجة، لأن الموظفين الذين كانوا يديرون الحركة في شركة الإعلانات لا يزالون فيها وكلهم يهود. فهي شركة محايدة صورية وصهيونية فعلا كل هذا لا يهمنا كثيراً إلا أننا نعلم أن الصهيونية بسطوا يدهم على رأس الصحافة العربية المصرية. حدث هذا في الوقت الذي نسخط فيه على الصحافة الأمريكية التي أصبحت تحت سلطان الصهيونيين وصار الرأي العام الأمريكي للمئة وخمسة وثلاثين مليونا من الأمريكان بقيادة الصهيونيين. فإذا بقيت أصابع الأخطبوط الصهيوني تتغلغل في الرأي العام العربي أصبح العرب خضعا وسجدا عقلا وإحساسا واقتصاداً للنفوذ الصهيوني وإليك الميثاق الثاني عشر من برنامج الصهيونيين في الصحافة: البند الأول: إن كلمة (حرية) التي تفسر تفسيرات مختلفة نحن نفسرها هكذا:

البند 2 - الحرية هي أن يكون ذلك الحق أن تفعل ما يخوله لك القانون. إن هذا التفسير يكون في أكثر الأحيان العادية خادما لنا لأن القانون في يدنا بل نحن القانون. القانون ينفى أو يثبت ما نحن راغبون فيه طبقا لبرنامجنا. فإذا الحرية بأي معنى تكون في يدنا.

ص: 3

البند 3 - تستخدم الصحافة هكذا:

ما هو الدور الذي تلعبه الصحافة اليوم؟ الصحافة تثير العواطف التي تقتضيها غايتنا، وتهيج الاحساسات التي تخدم أنانية الأحزاب وغاياتها. والجمهور لا يعلم ولا يفهم ماذا تخدم الصحافة من الأغراض الحزبية السخيفة التافهة الباردة. نحن نسرج الشعب ونلقى على ظهره البرذعة وكذا نفعل بحاصلات المطابع والصحافة. وإلا فكيف نرد هجمات الصحافة إذا كنا أهدافا للكتب والرسالات التي تهاجمنا؟ إن نتاج الدعايات التي تستوجب النفقات الثقيلة بسبب ضرورة الرقابة عليها ستكون موردا كبيرا لدولتنا لأننا سنفرض عليها ضريبة طوابع خاصة ونطلب من أصحابها ضمانات مالية قبل أن تصدر، ورخصة لكل صحيفة ومطبعة، وهذا الإجراء يكون ضمانة لحكومتنا ضد كل هجوم نضرب غرامة ثقيلة بلا رحمة ولا شفقة. ولا يخفى أن الأحزاب لا تبخل على الجرائد بالنفقات اللازمة لها لأجل الدعاية. وإنما يمكننا أن نقفل أفواه هذه الدعايات ضدنا عند ثاني هجوم تهجمه علينا؛ بمعاقبتها بالغرامة الثقيلة لا أحد يجرأ أن يضع إصبعه على فم معصومية حكومتنا، وعندنا عذر لإغلاق أية جريدة أو مطبعة، وهي إننا ندعي أن الجريدة تقلق الرأي العام وتهيجه بلا مبرر.

(يقول خطيب جلسة الحكماء) - أرجو أن تلاحظوا أن يكون لهؤلاء المهاجمين لنا محررون لجرائد نحن أنشأناها ولكنها لا نهاجم إلا نقطاً في سياستنا وإجراً آتتا. كنا قبلا قد قررنا تنقيحها وتغييرها، فكأنها تهاجم الريح.

البند 4 - لا يذاع على الجمهور أية إذاعة إلا بإرادتنا وتحت سيطرتنا. إن الأنباء والمنشورات حتى اليوم هي تحت سيطرتنا، لأن جميع أنباء العالم مركزة في مركزة في مراكز خاصة تتهافت إليها الأخبار من جميع أقاصي الأرض وتتوزع منها إلى جميع أنحاء العالم، وجميع وكالات هذه المراكز في أيدنا فتذيع ما نمليه نحن عليه.

(يمكنك أن تقول إن هذا الحاصل اليوم).

البند 6 - فلنوجه الآن أنظارنا إلى مستقبل الصحافة: كل من يرغب أن يكون ناشراً أو كاتبا أو طابعا يجب أن يكون حاصلا على دبلوم من جامعة أو مدرسة مختصة بتخريج الناشرين والكتاب. وبحسب قانون هذا الدبلوم يمنع الناشر من النشر عند أول خطأيرتكبه.

ص: 4

هذه التدابير تكون وسيلة ثقافية في أيدي حكومتنا التي لا تسمح للجمهور أن يقاد في غير الطريق الذي نرسمه نحن إلى بركات النجاح. هل يوجد واحد منا يجهل أن هذه البركات الخيالية هي السبيل المؤدي رأسا إلى المتخيلات التي تلد علائق الفوضوية بين الناس وبينهم وبين الحكومة؛ لأن الرقى أو قصور الرقى يدخل إلى الحكومة فكرة التحرير، ولكنه يعجز عن إقامة حدود للتحرر، وجميع الذين يدعون أنهم أحرار هم فوضويون ولو بالفكر، وكل واحد منهم يحاول أن يتصيد طيف الحرية، ويقع في فوضى الاحتجاج على تقييد الحرية لا لغرض سوى حب الاحتجاج لا لأجل التحرير.

البند 7 - تأتى الآن إلى المطبوعات الدورية. فهذه سنفرض عليها وعلى كل مطبوعة ضرائب بوضع طوابع على كل صفحة، ونفرض أيضا ضمانة مالية، والكتب التي تقل عن 30 صفحة تضاعف الضريبة عليها ونعتبرها كراريس؛ أولا لكي يقل عدد الكراريس والمجلات التي هي أردأ المطبوعات السامة. وثانيا لكي يوجب هذا التدبير على الكتاب أن يتوسعوا في الكتابة وتكون كتبهم كثيرة لكي يتجنبوا عبء الضريبة. فيقل قراؤهم، وفي الوقت نفسه نجعل مطبوعاتنا التي تؤثر بها على عقلية الجمهور رخيصة في متناول كل واحد لكي يقرأ بنهم وشوق. لأن الضريبة تقلل الطموح الأدبي وتخور عزيمة الكتاب. وثقل الغرامات يجعل أرباب القلم معتمدين علينا، وإذا قام بعض الكتاب يكتبون ضدنا فلا يجدون من يطبع لهم. وعلى الناشر أو الطابع أن يحصل على إذن للطبع والنشر، وهكذا يتيسر لنا أن نعرف نيات أضدادنا فنصدها ولو بحجج واهية.

البند 9 - الأدب والصحافة هما أهم القوى الثقافية. ولذلك ستملك حكومتنا أقوى الجرائد والمجلات، وهذه تخمد أنفاس كل نفوذ لكل صحيفة مستقلة تنشر أمورا ضدنا، وبالتالي نملك بتأثير جرائدنا كل تأثير على الرأي العام. وإذا منحنا رخصا لعشر جرائد يجب أن يكون لنا ثلاثون جريدة وعلى هذه النسبة تكون الصحف المستقلة. وهذا التدبير لا يثير شبهة الشعب ضدنا، ولا سيما إذا جعلنا بعض الجرائد التي نصدرها معارضة في الظاهر لنا فتكثر ثقة الشعب بها، وإنما تكون المعارضات في السطحيات. ولذلك تقوى ثقة الشعب بنا نحن أيضاً، وتدفع إلى يدنا الخصوم المعارضين الذين يشتبهون بمقاصدنا، ويقيمون في فخاخنا، ولا ضرر منهم لنل.

ص: 5

البند 12 - تكو جرائدنا من كل لون: أرستقراطية جمهورية ثورية حتى فوضوية بحسب مقتضى الحال؛ ويكون لها يد في كل رأي عام. فإذا نبض نابض في إحدى هذه الأيدي المحركة يقود الرأي العام في اتجاه مقاصدنا. لأن الضعيف المنفعل ينفذ قوة الحكم ويذعن إلى أية إشارة منها. وهؤلاء القوم المغفلون الذين يظنون أنهم مرددون رأي جرائدهم، يرددون بالفعل الرأي الذي نحن نرغب فيه، ويظنون عبثا أنهم يتبعون رأي جرائدهم ولكنهم بالحقيقة سائرون في ظل رايتنا.

البند 14 - إن مهاجمة خصومنا لنا تخدم أغراضنا من جهات أخرى، وهي أن رعايانا يقتنعون ويعتقدون أنهم حاصلون على ملء الحرية في الكلام والنشر، وهكذا يتحول أنصارنا إلى اليقين بأن جميع الجرائد المخالفة لنا ليست إلا فقاقيع فارغة لأنها غير قادرة على أن تجد أثرا جوهريا في مخالفتها لأوامرنا.

البند 15 - إن قواعد التنظيم التي لا تراها أعين الجمهور هي من أضمن الوسائل لكسب ثقة الجمهور إلى جانب حكومتنا. إن هذه الطرق تجعلنا من حين إلى آخر في مركز يجعلنا قادرين على أن نثير العقل الاجتماعي أو أن نهدئه في المسائل السياسية حسب رغبتنا، فنقنعه أو نشوش عليه أو نضعضعه. فالآن الصدق، وغدا الكذب. ننشر الحقائق ثم ننشر ما يخالفها، نفعل هذا حسب مقتضى المصلحة، نفعله بكل حذر؛ نجس الأرض قبل أن نضع أقدامنا. سيكون لنا نصر مبين على خصومنا أو معارضينا لأنهم لا يملكون جرائد تستطيع أن تعطي التعبير الصحيح عن آرائهم بسبب خطتنا في معاملة الصحافة، ولذلك لا نضطر أن نجحدها إلا جحدا سطحيا وهم يظنون أنهم يتمتعون بحرية الصحافة.

الملخص: النفاق في مذهب الصهيونيين هو ملح الصحافة وبهارها بل هو (شطتها) أيضا. هو البهار الذي يشهي القراء للقراءة. فلذلك ترى الجرائد مبتلاة بالأخبار الكاذبة فلا تدري إن كان الخبر الذي نقرأه صادقا أو كاذبا، وشركات الأخبار مبتلاة بسيطرة الصهيونيين عليها كبلوى الجرائد. تقرأ اليوم خبراً فتصدقه لأنه معقول فلا يشعرك بغش فيه، ثم لا تلبث أن تقرأ غداً نقيضه أو تكذيبا له. ولا يمكن جمهور القراء أن يشكوا في صدق ما يقرؤون وإلا فلا يصدقون خبراً. لا يمكنهم أن يميزوا بين الخبر الصادق والخبر الكاذب؛ لأنه ليس في ما ينشر شبهة تضلل الظن. إن اختلاق الأخبار وتعويجها هو سجية في

ص: 6

الصهيونيين يستغلونها لأغراض شيطانية لا تنكشف إلا بعد حين، وقد تقرأ خبراً ضد مصلحتهم فلا تلبث أن ترى أنه كاذب ولكنه نفعهم).

(منذ صارت قضية فلسطين في هيئة الأمم كانوا يذيعون أن عندهم جيشا من الهاجاناه يبلغ 80 ألفا. ولما جاء القتال لم يظهر عندهم أكثر من 800 جندي. فكانوا كلما وقعوا في ورطة مع العرب يهرعون إلى الجيش البريطاني لكي ينجدهم. ولما بدت مسألة التقسيم وشعروا أن العرب متحفزون للدفاع أذاعوا أنهم طلبوا من أميركا 472 مليون دولار وستأتيهم تواً، فما أتاهم شئ. ثم أذاعوا أن القائد الكبير فوزي بك القاوقجي قتل في معركة فاضلة. فما لبث القاوقجي أن أذاع في الراديو أنه يفقأ حصرمة في عيونهم. وهكذا لهم كل يوم كتاب من الأكاذيب في الجرائد والمجلات والأنباء التلغرافية التي في حوزتهم. فيجب الحذر من قبول الأخبار).

البند 17 يشرح التعليمات للصحافة من حيث ارتباطها بأسرار الماسونية التي لا يباح بها، وكل صحافي مقيد بأسرارها كأنها أسرار المهنة، وكل فرد من الصحفيين يخشى أن يبوح بسر لئلا يتهم بفضيحة، وما من أحد خال من فضيحة.

البند 18 - فحواه أنه لا بد من إلهاب عقليات أهل الإقليم عند ضرورة التأثير في العاصمة، ومصدر هذه التهيجات في كل حال يكون (نحن) على قصد أن الرأي الذي قبل في العاصمة يكون حائزاً لتأييد الأقاليم.

البند 19 - حين نكون في فترة الانتقال من الحكم القديم إلى حكمنا الجديد أي إلى ما نظفر به من السيادة يجب أن لا تسلم بما نقلته الصحف من خيانة أحد من الشعب. يجب أن يكون نوع الحكم الجديد برضى كل فرد من الناس. يجب أن يرى فيه الشعب أمانيه محققة وأن الأجرام قد زال. ويجب أن يقتصر البلاغ على المجني عليه والشهود فقط. يعنى أن لا تنشر الجرائد أخبار الجرائم لكي يقتنع الشعب أن الأمن مستتب تمام الاستتباب هذا ملخص الميثاق الثاني عشر عن الصحافة، وإلى الملتقى مع القراء في حين آخر.

حاشية: قرأنا أن معظم عرب حيفا هاجروا إلى سوريا ولبنان، وفي بعض الروايات أن المهاجرين تجاوزوا الأربعين ألفاً وبعضهم رفع الرقم إلى ثمانين ألفاً. وقد قيل لنا غن بعضهم هاجروا إلى مصر لكي تتحمل مصر تبعتها من هذه النكبة. أليس مؤلماً مفزعا أن

ص: 7

يفر أهل الدار منها، وأن الضيوف المغتصبين يبقون فيها فيستولون على جميع ممتلكات العرب كما فعل بنو إسرائيل يوم (جرجرهم) موسى إلى أرض كنعان فنهبوا فرش الكنعانيين وحللهم وطناجرهم الخ - التاريخ يعيد نفسه. وإذا كانت الدول العربية لا تنقض بكل قواها على تل أبيب من جميع النواحي، ويدكونها دكا ليضطروا اليهود أن يخلوا حيفا لكي يأتوا لإنقاذ تل أبيب رغم أنوفهم - إذا لم تفعل الدول العربية كلها هكذا في وقت واحد استعجل اليهود وغزوا يافا ثم القدس وسائر مدن فلسطين، ثم انتقلوا إلى عمان فإلى دمشق فإلى بيروت فإلى مصر، إلى جميع ممالك العالم، وحينئذ يصح حلم الصهيونيين.

إن ما يتظاهر به اليهود في حيفا من الإنسانية نحو العرب إنما هو مكر فلا تصدقوه. لا يخرجون عن طبيعتهم، فحذار منهم!

نقولا الحداد

ص: 8

‌عبد الله بن سبأ

للدكتور جواد علي

هذا رجل تقرأ خبره في كل كتاب منكتب (العقائد والفرق)، وفي أكثر كتب التاريخ التي تعرضت لموضوعات (الفتنة) التي حدثت في أيام الخليفة (عثمان بن عفان)، وفي حادث مقتل الخليفة (علي بن أبي طالب) في الكوفة بعد تلك المؤامرة السياسية التي دبرها نفر من المعارضين لسياسة الخليفة وسياسة (معاوية بن أبي سفيان) و (عمرو بن العاص) بطل رواية التحكيم.

وقد وضع الدكتور طه حسين كتابا سماه (الفتنة الكبرى) بحث فيه عن عصر الخليفة الشهيد (عثمان بن عفان)، وعن العوامل التي أدت إلى حدوث تلك الفتنة التي فرقت شمل العرب بعد ألفة، وضعضعت صفوف المسلمين إلى اليوم.

وقد تعرض الدكتور في الفصل الثالث عشر من كتابه لبعد الله بن سبأ الذي كانت له يد طولي في هذه الفتنة على رأي جمهور المؤرخين. وقد ذهب الدكتور إلى أن الرواة المتأخرين قد أكبروا من شأن هذا الرجل وأسرفوا فيه حتى جعل كثير من الرواة القدماء والمتأخرين هذا اليهودي المسلم مصدرا لما كان من الاختلاف، إلى أن قال:

(ولست أدري أكان لابن سبأ خطر أيام عثمان أم لم يكن، ولكني أقطع بأن خطره - إن كان خطر - ليس ذا شأن، وما كان المسلمون في عصر عثمان ليبعث بعقولهم وآرائهم طارئ من أهل الكتاب أسلم أيام عثمان، ولم يكد يسلم حتى انتداب لنشر الفتنة وإذاعة الكيد في جميع الأقطار).

وقد علق على الكتاب جماعة من الكتاب منهم الأستاذ السيد محمود محمد شاكر الذي نشر بحثا قيما في مجلة (الرسالة) عن (الفتنة) وعن علاقة (عبد الله بن سبأ) بها، وقد أنكر على الدكتور رأيه في هذا اليهودي السلم، صاحب الفتنة، وصاحب تلك الآراء الفاسدة التي رددها ولقنها جماعة من السذج وهم في صدر الإسلام على ما يقوله أصاحب كتب العقائد والتاريخ. والواقع أن خبر (عبد الله بن سبأ)، وخبر الفرقة التي استجابت لدعوته، وخبر الفتنة التي أثارها في العراق وفي مصر خاصة، وخبر تلك المقالة المنسوبة إليه، في المال وفي الرجعة وفي الوصية، وفي الغلو في حب علي بن أبي طالب؛ كل هذه من المسائل

ص: 9

التي تحتاج إلى دراسة وبحث، ورجوع إلى المصادر، ومقارنة تلك المصادر بعضها ببعض، وترتيبها ترتيبا زمنيا، ونقد رجال الرواية، وفحصها فحصا دقيقا حتى يتمكن المؤرخ من الحكم في هذه القضية حكما قطيعا، وما تقوله لم يتم حتى الآن.

وقد لقي موضوع (عبد الله بن سبأ) عناية خاصة من المستشرقين ولا سيما من يهود المستشرقين. وأعتقد أن السبب وأضح؛ فهنالك طائفة منهم كانت على علمها وتدقيقها تتعصب على الإسلام، وتتمسك حتى بالتافه من الروايات وبالأحاديث الموضوعة التي نص علماء الحديث على كذبها، وتتخذها حجة لإثبات أثر اليهودية أو النصرانية في الإسلام وفي أصول الدين.

ومن جملة أولئك المستشرقين (هربلو) و (دي ساسي) و (فايل) و (فون كريمر) و (دوزي) و (موير) و (أوكست ميلر) و (فان فلوتن) و (كريتس) المؤرخ اليهودي المعروف، و (ولهوزن) و (هر شفلد) في مادة (عبد الله بن سبأ) في (دائرة المعارف الإسلامية)، و (إسرائيل فريد لندر) وقد بحث عن عبد الله بن سبأ بحثا مفصلا، وجمع كل ما أمكنه جمعه من الروايات التي وردت في الكتب العربية عن هذا اليهودي.

ورد خبر عبد الله بن سبأ في كتب الأدب والتاريخ، ويرجع أصل هذه الروايات إلى العصر الأموي، وإلى رواة الكوفة أو البصرة، أي رواة أهل العراق، وممن ذكرهم (الجاحظ) المتوفى سنة 255 للهجرة وهو أديب كبير صاحب أحاديث لطيفة، ذكرهم في كتابه الشهير (البيان والتبيين) في (كتاب العصا) وقد أخذ روايته عن حباب بن موسى عن مجالد، عن الشعبي، عن جرير بن قيس، الذي قال: قدمت المدائن بعد ما ضرب على ابن طالب كرم الله وجهه فلقيني ابن السوداء وهو ابن حرب فقال لي ما الخبر؟ فقلت: ضرب أمير المؤمنين ضربة يموت الرجل من أيسر منها، ويعيش من أشد منها. قال: لو جئتمونا بدماغه في مائة صرة لعلمنا أنه لا يموت حتى يذودوكم بعصاه. وقد نقل عن الجاحظ جمهور من المصنفين نقلا يمكن معرفته عند مطابقة الروايات ومقارنة بعضها ببعض.

وورد خبر (ابن سبأ) في كتاب (المعارف) لابن قتيبة المتوفى سنة 276 للهجرة؛ وقد تعرض له في معرض (الفرق) فقال: (السبأية من الرافضة ينسبون إلى عبد الله بن سبأ، وكان أول من كفر من الرافضة، وقال على رب العالمين، فأحرق على أصحابه بالنار).

ص: 10

وقد اعتمد أكثر المؤرخين على رواية أبي جعفر بن جرير الطبري المؤرخ والمفسر والفقيه الشهير، المتوفى سنة 310 للهجرة، وقد اعتمد عليه أكثر المستشرقين كذلك، نقلوا عنه نقلا بالحرف الواحد، ونقلوا عنه اقتباسا؛ فممن أخذ عنه ابن مسكويه صاحب كتاب (تجارب الأمم)، والمؤرخ المعروف (ابن الأثير) أبي الحسن علي بن أبي الكرم محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني المعروف بابن الأثير الجزري عز الدين صاحب كتاب (الكامل) في التاريخ؛ المتوفى سنة 630 للهجرة الذي اعتمد على تاريخ الطبري وضعته كتابه بعد حذف الأسانيد.

ومن المؤرخين الذين اعتمدوا على الطبري عبد الرحمن بن خلدون المتوفى سنة 808 للهجرة (1406 للميلاد) صاحب كتاب (العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر)، والعالم الشهير المقريزي المتوفى سنة 845 للهجرة (1442م)، والسيوطي المتوفى سنة 911 للهجرة في كتابه (حسن المحاضرة).

أما رواية الطبري فترجع إلى السري عن شعيب عن سيف عن عطية عن يزيد الفقسي، وسنتحدث هن هذه الساسلة بعد أن تنتهي من ذكر المصادر التي تعرضت لخبر عبد الله بن سبأ.

وتجد في (العقد الفريد) لأحمد بن محمد بن عبد ربه الأندلسي المتوفى سنة 328 للهجرة روايات عن عبد الله بن سبأ وعن أتباعه السبأية الذين قال عنهم: (السبائية أصحاب عبد الله بن سبأ عليهم لعنة الله، وفيهم يقول السيد الحميري:

قوم غلوا علىّ لا أبا لهم

وأجشموا أنفسا في حبه تعباً

قالوا هو ابن الإله جل خالقنا

من أن يكون له ابن أو يكون أباً

وقد أحرقهم على رضى الله عنه بالنار).

وقد ذكر ابن عبد ربه رواية أخرى نسبها إلى الشعبي في حديث له مع مالك بن معاوية جاء فيها (أحذرك الأهواء المضلة وشرها الرافضة، فإنها يهود هذه الأمة، يبغضون الإسلام كما ببغض اليهود النصرانية، ولم يدخلوا في الإسلام رغبة ولا رهبة من الله، ولكن مقتا لأهل الإسلام وبغيا عليهم، وقد حرقهم علي بن أبي طالب رضى الله عنه بالنار ونفاهم إلى

ص: 11

البلدان، منهم عبد الله بن سبأ إلى ساباط، وعبد الله بن السوداء، نفاه إلى الحازر وابن كروس. . .) وتجد في رواية ابن عبد ربه شيئا جديدا لا تجده في الروايات المتقدمة.

وقد سبق أن أوردنا رواية أخرى عن عبد الله بن سبأ نسبت إلى الشعبي كذلك، وهي رواية الجاحظ في كتابه (البيان والتبيين) غير أنه لم يسمه (عبد الله بن سبأ) بل دعاه (ابن السوداء)، وتجد في رواية صاحب (العقد الفريد) أن الشعبي قد فرق بين (عبد الله بن سبأ) وبين (عبد الله بن السوداء) فجعلهما رجلين مختلفين نفي أحدهما إلى (ساياط)، ونفى الثاني إلى (الحاذر)، ونجد مثل هذا التفريق في كتب أخرى.

جواد علي

ص: 12

‌الإنكليز حلقة الشر المفرغة

للأستاذ محمد البشير الإبراهيمي

رئيس تحرير (البصائر) الجزائرية

أيها العرب!

إن الإنكليز هم أول الشر ووسطه وآخره، وإنهم كالشيطان منهم يبتدئ الشر وإليهم ينتهي. وإنهم ليزيدون على الشيطان بأن همزاتهم صور مجسمة تؤلم وتؤذي وتقتل، وجنادل مسومة تهشم وتحطم وتخرب، لا لمة تلم ثم تنجلي، وطائف يمس ثم يخنس، ووسوسة تلابس ثم تفارق. ويزيدون عليه بأنهم لا يطردون باستعاذة وتذكر القلب ويقظة الشواعر، وإنما يطردون بما يطرد به اللص الوقح من الصفح والأحجار والمدر، ويدفعون بما يدفع به العدو المواثب، بالثبات للصدمة، والعزم المصمم على القطيعة وبت الحبال، والإرادة المصرة على المقاطعة في الأعمال، والإجماع المعقود على كلمة واحدة ككلمة الإيمان (إن الإنكليز لكم عدو فاتخذوهم عدوا). يرددها كل عربي بلسانه، ويجعلها عقيدة جنانة، وربيطة وجدانه، وخير ما يقدمه من قرباته. قد غركم أول الإنكليز فأعيذكم أن تغتروا بآخره بعد أن صرح شره، وافتضح سره، وانكشف لكم لينه عن الأحساك والأشواك. وقد تمرس بكم فعرف الموالج والمخارج من نفوسكم قبل أن يعرف أمثالها من بلادكم، وحلل معادن النفوس منكم قبل إن يحلل معادن الأرض من وطنكم؛ وعجم أمراءكم فوجد أكثرهم من ذلك الصنف الذي تلين أنابيبه للعاجم، وتدين عروبته للأعاجم.

قد علمتم أنه هو الذي وعد صهيون فقوى أمله، ولولاه وعده لكانت الصهيونية اليوم - كما كانت بالأمس - حلما من الأحلام يستغله (الشطار)، ويتعلل به الأغرار.

وعلمتم أنه انتدب نفسه على فلسطين فكان الخصم والحكم في قضيتها، وأنه ما انتدب إلا ليحقق وعده؛ وأن في ظل انتدابه، وبأسنة حرابه، حقق صهيون مبادئ حلمه فانتزع الأرض منكم بقوة الإنكليز، وفتن ضعفاءكم بالخوف وفقراءكم بالمال حتى أخرجهم من ديارهم، واتخذ الصنائع والسماسرة منكم، وبنى المدن بأيديكم، ومهد الأرض بأيديكم، وشاد المصانع بأيديكم، وأقام المتاجر وبيوت الأموال لامتصاص دمائكم أو أبتزز أرزاقكم. وعلمتم أن الإنكليز هم الذين سنوا الهجرة بعد الفتح ليكاثروكم بالصهيونيين على هذه

ص: 13

الرقعة من أرضكم، فلما انتبهتم للخطر غالطوكم بالمشروع منها وغير المشروع. ومتى كانت هجرة الوباء والطاعون مشروعة إلا في دين الإنكليز؟

وعلمتم أن بريطانيا هي التي جرت ضرتها البلهاء أمريكا إلى محادتكم وجرأتها على احتقاركم لتكيدها وتكيدكم، ولتحل بالسياسة ما عقده الاقتصاد بينكم وبين أمريكا من صلات؛ وأنها هي التي ألبت عليكم الأمم الصغيرة ودويلاتها حتى إذا جالت الأزلام وأيقنت بالفوز أمسكت إمساك المتعفف، وتظاهرت بالروية والحكمة، وجبرت خواطركم بالحياد، وملأت الدنيا تنويها بهذا الحياد الفاضح، فكانت كالقاتل المعزي. .

يا ضيعة الآداب الإسلامية بينكم! إن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين، وقد لدغتم من الجحر الإنكليزي مرات فلم تحتاطوا ولم تعتبروا. وخدعتم من الجانب الإنكليزي كرات فلم تتعظوا ولم تتبصروا. خدع خلفكم كما خدع سلفكم، واستهوى أمراءكم وكبراءكم ودعاكم إلى موائده الفقار فلبيتم. وما رأى منكم في كل الحالات إلا المجاملة، واستمرار المعاملة، وما أنس منكم إلا التهافت على أعتابه، والتعلق بأسبابه.

فيا ويحكم. . . أكل ذلك لأن الإنكليز أغنياء وأنتم فقراء، أو لأنهم أقوياء وأنتم ضعفاء. كلا. . . إنهم لأغنياء بكم وبأمثالكم من الأمم المستخدمة، وليسوا أغنياء عنكم. وإنهم لأقوياء بما يستمدونه من أرضكم وجيوبكم فاقطعوا عنهم المددين يضووا ويهزلوا، واخذلوهم في مواطن الرأي والبأس ينخذلوا، وعمروا جزيرتكم تخرب جزيرتهم، إن لبدة الأسد هي بعض أسبابه إلى زرع الهيئة في القلوب؛ ولكن لبدة الأسد البريطاني لبدة مستعارة، فلو أن كل أمة استرجعت شعراتها من تلك اللبدة التي تكمن وراءها الرهبة لأمسى الأسد هرا مجرد العنق معروق الصدر بادي الهزل والسلال.

إن الغنى عمل وتدبير. فلو عملتم لكنتم أغنياء. وإن يده الغنى من غنى النفس بالتعفف عن الكماليات، وفطمها عن الشهوات. وإن القوة مشيئة لا جبر، فلو شئتم أن تكونوا أقوياء لكنتم. وإن بدء القوة من قوة الأخلاق، وقوة الاتحاد هذا أول الإنكليز عرفتموه، فهل عرفتم آخرهم؟ إنهم كانوا أداة تفريقكم في الماضي، وكانوا عونا للزمان عليكم، فلما رأوا شملكم إلى اجتماع، وجامعتكم إلى تحقق، جمعوا لكم كل ما عندهم من مكائد ومصائد. . . إنهم ينطوون لكم على العظائم؛ وإن في جعبتهم ما في جعبة الحاوي من حيات. وإن في أيديهم

ص: 14

عروق الجسم العربي يضغطون على أيها شاءوا متى شاءوا. في أيديهم قضية مصر يساومون بها وبما كسون، وفي أيديهم قضية السودان يلوحون بها ويعاكسون، وفي أيديهم قضية ليبيا يشاغبون بها ويشاكسون، وفي أيديهم قضية شرق الأردن بما فيه، وما شرق الأردن إلا خيط الخنق وشريط الشنق فله الإنكليز بأيديهم وأمروا على الأيام فتله، لأمرهم بالغوه إن لم تهبوا وتذبوا، وفي أيديهم العراق ومنابعه، واليمن وتوابعه، ولهم على سوريا ولبنان يد منونة، في طيها مدية مسنونة. وفي أيديهم مفاتيح من أقفالها مفتاحاً، ولكل أمير من أمرائها مقودا من رغبة أو رهبة. ولهم مع ذلك من بينكم العيون الراصدة، والألسنة الحاصدة. وفيكم مع ذلك الآذان السامعة، والهمم الطامعة، وفي سجلاتهم ذممكم وهممكم وقيمكم، قدروها تقديرا، وأوسعوها تحليلا وتدبيرا.

إنهم ما حركوا مشروع سوريا الكبرى في ميقات معلوم إلا ليفتنوا بعضكم ببعض، ويغروا بيتا ببيت، وقريشا بتميم. فينخرق الإجماع وتفترق الجامعة. وإن هذه النقطة هي أعلى ما يصل إليه الدهاء الإنكليزي، كما أنها أعسر امتحان للضمير العربي الذي يتمنى أن يتكتل العرب ولكن بدافع من أنفسهم لا على يد عدوهم. وإن الإنكليز لقادرون على تحريك غيرها من الفتن المفرقة. وإنكم - أيها العرب - لا تردون كيدهم إلا بإجماعكم على تحديهم، واجتماعكم على إيقاف تعديهم، وإقامة جامعتكم على اعتبار مصلحة العرب ووطن العرب فوق الأغراض والأشخاص.

إنكم لا تردون كيدهم بقوة جامعة الدول العربية، حتى تسندوها بجامعة الشعوب العربية، فحركوا في وجوههم تلك الكتلة متراصة يرهبوا ثم يذهبوا.

لمسنا في هذه الكلمة حقائق مريرة، وأومأنا إلى قضايا يسوءنا أن نزيد حمأتها مدا. ولكن ما عذرنا إذا أمسكنا عن الشرح، ولو كان فيه جرح! وقد تأدى إلينا من تراث أجدادناالعرب هذه الحكمة الغالية (من كتم داءه قتله).

(الجزائر)

محمد البشير الإبراهيمي

ص: 15

‌تولستوي الحائر

للأستاذ محمود الخفيف

أتم تولستوي (أنا كارينينا) وقد أصبح في روسيا أحد رجالها المعدودين، وفي أدبائها فارسهم المعلم، وأصبح في أوربا أجد القلة الأفذاذ من أساتذة الفن وأعلامه. وإنه لذو ثراء عريض، وذو بنين، يسكن إلى زوجة اختارها لنفسه عن بينة وحب؛ وهو إلى ذلك يتمتع بالعافية، وقد وهبه الله جسما قوياً لا تسكن حيويته ولا تفتر قوته، وإن موهبته الفنية لتمد اليوم لتمد اليوم أكثر مدها وإن روسيا كلها لتنظر إليه نظرتها إلى أعظم من أنجبت من رجال القلم في تاريخها، حتى لقد اغتدى اسمه لها مفخرة قومية، واغتدت به تباهي بأن صار لها في أدب الدنيا صفحة مرقومة ومقام معلوم.

ولكنه بين عشية وضحاها ينظر فإذا بهذا كله عنده لا شئ، وإذا يشعر أنه شقي لم يذق مثل شقائه أحد أو يعذب عذابه أحد على الرغم مما يحيط به مما يراه الناس من أسباب السعادة والنعيم إنه ليتقلب على فراشه إذا جنه الليل مسهد الجفنين. ولقد بين أنين المحموم بل لقد يجهش في الظلام كما يجهش الصبى؛ وإنه ليثب من فراشه فيذرع الحجرة حتى يتنفس الصبح. . . وإنه ليجلس إلى مكتبه مطرقاً أو محدقا في الفضاء، لا يفتح كتابا ولا يرفع قلماً؛ وإنه ليعتزل زوجته، ويتكره لأبنائه أو يشيح بوجهه عنهم؛ وإنه ليدفن وجهه ساعات بين كفيه؛ وإنه ليسرع ذات مرة إلى بندقية صيده فيبعدها ويغلق من دونها بابا مخافة أن يقتل بها نفسه؛ وإنه ليترك ما يأتيه من رسائل في غلقها، ولا يحب أن يلقى أحدا من صحابته؛ وإن زوجته لتملئ فرقا وحزنا حتى لتكاد تذهب نفسها عليه حسرات؛ وإن أولاده ليعجبون ولكنهم واجمون. .

ماذا دهاه؟ إن حاله من تلقى ضربة في الظلام تركته يترنح من الألم، وكلما أوشك أن يفيق أخذه دوار فتركه يتخبط

ويهذي، لا يدري متى يعود إليه صوابه. . .

ولكن تولستوي لم يتلق الضربة على حين غفلة، فإنه منذ صدر شبابه تهجس في نفسه أسئلة عن الحياة ومعناها،

والغرض منها؛ ولقد رأينا كيف ألحت عليه هذه الأسئلة وهو في القوقاز وشغلته آماله

ص: 16

وأحلامه بالصيت والأسرة

السعيدة؛ كما شغله عمله على تحقيق هذه الآمال، وعمله في التعليم والمجلة والزراعة؛ ولكن تلك الأسئلة كانت

تعاوده بين حين وحين، وهي في كل مرة أشد إلحاحاً عليه منها فيما سلف. . . .

وعظم إلحاحها عليه بعد زواجه فقد كان قبل الزواج بعض ما كان يزيح عن نفسه هواجسها من أمل حلو. فلما

بات الأمل حقيقة ماثلة، التفتت نفسه إلى ما كان يكربها. . .

وظهر أثر تلك المخاوف قويا أثناء كتابته قصتيه الكبيرتين فيما أجراه على ألسنة بيبر والبرنس أندرو وليفن؛ ولقد

خاف ليفن أن يقتل نفسه من اليأس لأنه لا يرى في الحياة إلا العذاب ثم الموت. . .

وكان يصل به الحال أحيانا أثناء كتابته (أنا كارينينا) إلى ما يخيفه ويخيف زوجته كما أسلفنا، حتى لم يعد أكثر من مرة بينه وبين الجنون إلا خطوة، وما زاده التأمل إلا حيرة ولا دراسته الفلسفة إلا تشاؤماً وضيقاً. . .

وواجهته تلك الأسئلة بعد (أنا كارنينا) مواجهة مخيفة وعاد في إلحاح وفي ضيق يقول لنفسه: لماذا؛ ما وجودي وما الغرض منه؟ ما هذا الذي يسمى حياة؟ ولم كانت الحياة؟. قال في كتابه (اعترف) يصف هذه الحال (لقد أخذتني الحيرة حتى لا أدرى فيم أفكر؛ فإذا نظرت مثلا فيما عسى أن أعلمه أولادي قلت لنفسي: وفيم هذا؟ أو إذا فكرت فيما عساه أن ينهض بالفلاحين سألت نفسي: وماذا يعيني من هذا؟ أو إذا ذكرت ما عسى أن أكسبه من صيت بما كتبت قلت: سوف تغدو أبعد صيتا من جوجول أو بوشكين أو شكسبير أو موليير أو من كتاب الدنيا جميعا، فما جدوى ذلك؟ ولم أحر جوابا قط، وتلح الأسئلة على حتى ما تقبل ريثاً؛ فيجب أن تلقى جواباً على الفور؛ فإن لم اجب علها صار مستحيلا على أن أعيش. . . ولكنني لم أجد ما أجيب به. . . وأحسست أن ما كنت أضع عليه قدمي قد ذهب هباء، فليس ثمة ما اقف عليه؛ وما عشت زمانا عليه قد ولى، ولم يبق لي شئ. وبلغ بي الحال أن أصبحت أنا الرجل القوي الثري لا أطيق أن أعيش؛ وصارت تدفعني قوة لا تقاوم لأضع لحياتي حداً على صورة ما. ولست أستطيع القول: إني رغبت أن أقتل نفسي،

ص: 17

فإن القوة التي كانت تنتزعني من الحياة كانت أقوى وأشمل وأوسع مدى من أن تكون مجرد رغبة. لقد كانت قوة شبيهة بتلك التي كانت من قبل تربطني بالحياة ولكن في اتجاه عكسي).

ويصور لنا حاله بإحدى الخرافات قال: (هناك خرافة شرقية قديمة عن سائح أقبل نحوه وحش هائج في أحد السهول؛ فلجأ هذا السائح هربا من الوحش إلى جب ناضب، ولكنه وجد في قاع الجب غولاً قد فغر فاه ليلتقمه، ولما رأى السائح التعس أنه لا يستطيع أن يصعد من الجب مخافة أن يلتهمه الوحش الثائر وأنه كذلك لا يستطيع النزول إلى قاعه مخافة أن يلتهمه الغول، فقد أمسك بفرع من النبات انبثق من صدع في الحائط وتعلق به؛ وأحس بالتعب يدب في يديه شيئا فشيئاً، وشعر أنه سوف يسلم نفسه عما قليل لا محالة إلى الهلاك الذي يتربص به من فوقه ومن أسفل منه، ولكنه لن يزال متعلقا بالغصن؛ ثم إنه ما لبث أن رأى فأرين أحدهما أبيض والآخر أسود، وقد دارا حول ذلك الغصن، وأخذا يقرضانه؛ وأيقن السائح أن الغصن لن يلبث حتى يقطع فيسقط هو في فم الغول؛ وبينما يرى ذلك، ويعلم أنه هالك لا محالة، إذ يبصر بقطرات من الشهد على بعض أوراق الغصن فيصل إليها بلسانه ويلعقها. . . وهكذا أتعلق أنا بغصن الحياة، وإني لأوقن أن غول الموت يتربص بي وأنه سوف يمزقني كل ممزق. ولست أستطيع أن أدرك لماذا وقعت في مثل هذا العذاب. ولقد حاولت أن ألعق الشهد الذي كانت لي فيه سلوة من قبل، ولكنني لم أعد أجد في الشهد ما يلذني؛ وما برح الفأران الأسود والأبيض، وهما الليل والنهار يقرضان الغصن الذي تعلقت به، ورأيت الغول في وضوح، ولم يعد للشهد طعمه الحلو. وليس أمام ناظري إلا الغول الذي لا مهرب منه والفأران، ولن أستطيع أن أدير عيني عن ذلك؛ وليس هذا حديث خرافة، وإنما هو الحق الذي لا ينكر والذي يفطن إليه كل إنسان).

لم يجد تولستوي معنى للحياة، فما هي إلا عبث، بل إنها واللاشيء سواء؛ ذلك ما رجع به من طول تأمله ومن طول قراءته شوبنهور وكانت وغيرهما، وذلك ما أجاب به عن تلك الأسئلة التي ظلت سنين تلح عليه وتعذب نفسه.

وهذا اللاشيء هو ما أفزعه، ثم إن انتهاءه إليه بعد طول التفكر هو الضربة التي تلقاها في

ص: 18

الظلام والتي تركته يترنح ويصرخ من أعماق نفسه الحائرة: ما هذا؟ أين أنا؟ ولم جئت هنا؟ وإلى أين مصيري؟

لقد اهتدى البرنس أندور إلى الحب كما اهتدى ببير، واهتدى ليفن إلى السمو بالروح الخالدة والعزوف عن مطالب الجسد الفاني، ولكن تولستوي خالقهم لم يهتد إلى شئ، وظل حاله كما كان حال ليفن قبل هداه حين وصفه بقوله (عند ذلك تبين في جلاء أن كل حي إلى فناء وأنه هو نفسه ليس أمامه ما يتطلع إليه إلا الألم ثم الموت، ثم الفناء الأبدي، ولذلك استقر رأيه على أنه لن يستطيع بعد أ، يعيش على هذه الحال؛ فإما أن يجد تفسيراً للحياة أو فليقتل نفسه).

(البقية في العدد القادم)

محمود الخفيف

ص: 19

‌مشاهدات مسافر:

2 -

ألمانيا بعد الحرب إلى الدير. . .

للدكتور محمد سامي الدهان

هذه (توبنكين) كعهدي بها تحتضن نهر الراين في فخر وزهو فتتلوى حوله الجنائن والبيوت، وتداعب شطئانه الأبنية والجسور. ولا تزال قائمة في هندسة غريبة تتوالى صاعدة من السفح إلى القمة فتكسب الجبل الذي تقوم عليه جمالا وجلالا. ولو أتيح لك أن تنظر من القمم حولها إلى المدينة لانبسطت أمامك المدينة الحسناء خلال رقعة من الخضرة والماء فتانة خلابة لم تغير الحرب مها إلا في بيوت سقطت فأصبحت أكواما، وحوانيت خلت من البضاعة فغدت خاوية، وواجهات للمخازن أقفرت إلا من إعلان كبير عن الكمية من الزبدة والخبز والخضار التي توزع خلال الشهر. ويدهشك أن ترى الألمان وقوفا في صفوف متلاحقة أمام كل بائع، تنتظر في صبر عجيب نصيبها الضئيل من خبز يناله الألماني ليومه كله وتأتى عليه في غداء واحد؛ وزبدة ينتظرها الألماني لأسبوع بأجمعه، ونصيب مثلها في فطور واحد، ولباس قديم جديد تبعثه عبقرية الفقر والحاجة حيا بعد البلى. ويدهشك كذلك أن ترى نظام المقايضة والمبادلة بين البضائع والحاجيات، وقد عاد إلى ألمانيا في القرن العشرين بعد أن دفنته منذ قرون.

لا تزال توبنكين موطن الجامعة يقبل إليها الطلاب الناشئون مشغوفين حريصين، ويملئون مقاعد المكتبة دءوبين جشعين، يعملون حتى تضج معدهم الصغيرة بالجوع وأجسادهم الهزيلة من الغذاء. ماتت أفراحهم وحفلاتهم التقليدية حول كئوس الجعة؛ وخمدت أغانيهم وأهازيجهم في الشوارع والحفلات، وتفردت النساء والأطفال بالحدائق والحقول لأن الشباب الألماني بين العشرين والثلاثين غائب عن الميدان وهو اليوم في الأسر أو في القبر.

ولا تجد أكثر ما تجد في هذه المدينة إلا شيوخا وعجزة قد استسلموا للكنيسة أكثر أوقاتهم، أو للبيوت يزرعون حدائقها الصغيرة، منها يأكلون وعليها يقتاتون. وما هي إلا سياحة قصيرة حتى يمل المسافر النظر والنزهة، فيستريح إلى صديق ودود يستمع منه الشكوى والحرمان والشجاعة والأسى. ولي في هذا البلد أصدقاء مستشرقون منهم ليتمان وفكتور

ص: 20

بور وفايسفايلر أما الأول فما يزال يبتسم في فلسفة للحياة، في أسلوب شرقي، ويتحدث عن ماضيه في فلسطين ومصر بلهجة عربية، ويعتز بطلابه، وفيهم آنسه تترجم (الأيام) للدكتور طه حسن بك إلى اللغة الألمانية، وطالب يؤلف رسالة عن (الفيح القسي في الفتح القدسي) للعماد الأصفهاني، وآخر يؤلف عن العامة والأزجال، يسترشدون برأيه في بيته أو في معهد العلوم الشرقية. وهذا وهذا غاصان بالكتب العربية الجليلة النادرة. فمن شاء أن يعود إلى الشرق وهو في ألمانيا فليقصد الرجل. وأما فيكتور بور فهو قيم المكتبة العامة، يؤلف عن العرب والبيزنطيين في أناة ودقة وعلم عرف بها أساتيذه وأجداده وأما الثالث فليس في المنطقة، وإنما وقعت الهدنة وكان في (غوتنجن) فأصبح من نصيب المستعمر الجديد. وحظه في هذا كحظ المخطوطات العربية سافرت خلال الحرب من أماكنها إلى مخابئ أمينة. فلما انتهت الحرب أصبحت البلد في دولة مخطوطاتها في دولة. في الجنوب مخطوطات الشمال وفي الغرب مخطوطات الشرق. ففي كل منطقة مخطوطات المنطقة الأخرى، فماذا في هذه المنطقة من مخطوطات؟ لعل أصدقائي من المستشرقين لا يعرفون ذلك بل لعلهم لا يسعون إلى هذه المعرفة في هذه الظروف. . . .

والألماني يجهل ما يجري في بلاده الآن، وقد عادت به النكبة قرونا في ركب الحضارة. فقد انقطعت المواصلات الحسنة أو كادت، وتباطأ البريد حتى لكأنه معدوم، فالبرقية من برلين إلى غيرها تقطع أربعة أيام أو ستة؛ والرسالة تطوى المسافات فتفتحها أيد وتغلقها أيد في رقابة غريبة، فإذا وصلتك فأنت بها سعيد. فليس عجيبا إذا أن يجهل الألمان في منطقتهم من خزائن ثمينة، ذلك لأن الحكومة النازية نقلت أكثر المكتبات إلى مخابئ نائية وأحاطت هذا النقل بالكتمان، وحرمت إذاعة الخبر، ليجهل الخلفاء مواطن التحف، وليجنبوها غاراتهم العنيفة التي اشتدت في الشهور الأخيرة قبل الانكسار.

واختارت أحد مخابئها هذه القرية، بين جبال عالية لا تصلها الطائرات فإذا وصلتها لم تنل منها. وليس في هذه القرية الصغيرة ما يحوى الكنوز ويضم التراث ويكفل المخطوطات إلا حصن واحد جبار هو هذا البناء الكبير بناء الدير. فما من سبيل إذا إلى بلوغ أمنيتي إلا أن أدخل الدير. . .

لبثت يومين كاملين أفكر في الدير وفي السبيل إلى الدير، فقد انقطعت الأسباب بين أكثر

ص: 21

المدن الكبيرة فكيف نبلغ هذه القرية، وليس من قطار مباشر يصلنا بها، وليس من مهاجرين يقصدون إلى الدير؛ وكيف أقنع من حولي أن ثمة مخطوطات عربية يجب أن أراها؟! جزعت حين عرضت الأمر على أصدقائي من الألمان فضحكوا. إن السكان لا يبلغون المأكل والملبس، ونحن نفتش عن زينة الحياة وترف العلم، نحي الكتب القديمة ونعنى بالأوراق الصفراء، والأشخاص حولنا يتضورون جوعاً! فما أعجب الدنيا!

استطعت بعد جهد أن أقنع سيارة تقلني في شروط قاسية؛ بعضها أننا سنقطع أياما فيما يجتازه المسافر من قبل في ساعات، والسيارة هي السيارة، ولكن جهازها اليوم عجيب لا يأكل إلا الخشب وقد حرم (السائل) النادر هو كذلك. فعاج السائق إلى برميل كبير يرمى فيه قطعا من الخشب تحترق خلال بعض الساعة فإذا الجهاز يؤذن بالحركة وإذا نحن نمضي في الطريق.

لا أستطيع أن أتصور عواطفي الآن، ولست أذكر أكان على أن أضحك أم أحزن. فصوت السيارة غريب، ودخانها الأسود كان يلفح مع الربح وجوهنا، فنفرح أن السيارة جادة، وما هي إلا ساعة حتى نهدد بالوقوف لأن المحرك جاع، فلنفرغ بعض الكيس من الخشب ولنمض كذلك في مرتفعات ساحرة ووديان فتانة؛ تنسينا هزل الزمان وسخرية الأيام، وما يصنع الإنسان بالإنسان حتى بلغنا القرية التي نقصد إليها؛ وإذا القرية لا تعدو عشرات البيوت في وادي جميل عطر، وإذا بناء الدير يقوم في عظمة لحراسة الوادي والإشراف على خيراته.

دخلنا سور الدير، وقرعنا الجرس؛ فإذا الكاهن البواب يسألنا عن الغرض والغاية؛ فتولى صديقي الكلام ورجا عني أن (ألقى الأب الأول) كما يسمونه فهو رئيس الآباء وراعي الدير. فدخلت حجرة الانتظار بين صور القديسين والصلبان، ولبثت واقفا حتى فتح الباب فإذا الأب المنتظر قد سلخ في السن، وعلى عينيه نضارتان سوداوان، وعلى صدره صليه الذهبي الكبير المتلدي، فسارعت إلى الأرض جاثيا على الركبة اليسرى واستملت يده أفتش عن الخاتم الذي أقبله بشفة مرتجفة وقلب مضطرب لئلا يخونني التمثيل فيكشف أمري وتبوء مهمتي بالفشل وأعود أدراجي لا ألوى على شئ.

انفرجت أسارير الرجل المحترم ورحب بي وعرف من لهجتي الألمانية أني غريب وأني

ص: 22

قدمت المنطقة لأزور القرية للمرة الأولى، وأن ليس في القرية من سكن أرى إليه. فالفنادق مستشفيات خاصة بجرحي الحرب، وأني لاجئ إليه، وليس من سلطان للاستعمار عليه. فقد وعدت الهدنة بأن تحترم الأديان وبيوت الله، فهو وحده يحكم القرية والدير، وإليه هنا المرجع والمآب.

فهم الرجل في كلمات، وأجاب في لطف بالغ ووقار جميل بأن الدير بيت للجميع وأن ما في الدير ملك لله، وأنه موكل بصحبتي قيم المكتبة فهو دليلي إلى المخطوطات، وصديقي إلى اكتشاف المخبئات. وقرع الجرس فانحنى كاهن صغير من (الإخوان)، وانفتل يطلب الأب غالوس وسألني في هذه الفترة القصيرة وقدفهم حرمتي للمكان وغربتي بين السكان ليتأكد أني لست من البروتستانت الكثرة في ألمانيا؛ فديره للكاثوليك وهم قلة فيها يتكاتفون ويتعاونون. ولست أدري كيف أجبت، ولست أذكر كيف تكلمت، وإنما أعرف أن قلبي وقف عن الخفقان لحظة خلت أني أقضي إثرها، وإني أجبت من غير أن أعلم: أجل يا أبي الكبير أجل! فرجاني تبسط جميل أن أصطنع الحرية في طلب ما أريد، فشكرت له، وانحنيت على يده ثانية أودعه كما استقبلته لألقى الأب القادم وألقى بين يديه بمقاليد الأمر وما جئت له وما هي إلا دقائق حتى كنا ننحني في الكنيسة أمام المعبد نقدم واجبات التحية في الاحترام قبل أن يحين العشاء.

ويشاء الله أن تتابع المراسيم الصعبة في أقل من ساعة. فالدخول إلى الأكل له نظامه في الدير. يدخل الآباء واحدا بعد واحد وهم يرتلون؛ ويتبعهم الإخوان في أثرهم وهم يرتلون؛ ثم يدخل ضيوف الدير، وفيهم ثلاثة طلاب وأستاذان، وهم كذلك يرتلون، وأنا ساكت واجم أنظر يمنة وأنظر يسرة في طرف خفي وقلب وجلى، قبل الدخول، لئلا أخطئ في الحركة وأشذ عن هذا النظام الدقيق.

ووقفنا دقائق أمام المائدة ونحن خشوع سكوت ملتفين حول موائد طويلة ومقاعد من خشب في قاعة كبيرة استوعبت مئتين من الآباء والإخوان مع ستة من الضيوف جعلت في وسط القاعة، وحولنا من الجهات الأربع سكان الدير، وقد أخذوا أماكنهم في نظام عجيب. وتصدر القاعة الأب الكبير، فلما أذن لنا ارتمينا على مقاعدنا من غير أن نرفع البصر أو نحرك عضواً من الأعضاء نستمع إلى الإنجيل يتلى علينا من منبر عال باللاتينية م

ص: 23

بالألمانية. وطاف الإخوان بالأواني يحملون العشاء فأصبنا ماء ساخنا يسمونه حساء، وسلطة من العشب الأخضر عليه ماء وملح، ثم طبقا من البطاطس المطبوخ، وختمنا بالحلوى وهي من الخبر الأسود قد تناثرت على بعض أطرافه ذرات من السكر. ولكننا لم نر اللحم ولم نذقه فهو عنا غريب.

وانتهى العشاء الكامل الشامل فأرسلنا الشكر إلى البارئ وخرجنا كما دخلنا في نظام جيمل، وكل يهنئ رفيقه على الصحة ويسأله عن شهيته في أكلة اليوم - على عادة الألمان في آدابهم وولائمهم -.

لم أبال بهذا الغذاء أكان دسما أم لم يكن لأني أمني النفس بغذاء الغد من مخطوطات العرب!

فإلى الغد أيها الآباء!. . .

سامي الدهان

ص: 24

‌طرائف من العصر المملوكي:

التورية

للأستاذ محمود رزق سليم

التورية ضرب من البديع، والبديع - بلا ريب - فن جميل من فنون القول. سواء اختلفت النظرات إليه أم ائتلفت. إذ الفن في جوهره مظهر الفنان ومستجاب وحيه ومرتاض عاطفته به يصور وجدانه ويرسم فكرته، ابتغاء التأثير في سامعه وهو في هذا يجري وفق ذوقه ويسير قيد مزاجه، فإذا نهج على قواعد أخرى فإنما هي قواعد ارتضاها هذا الذوق واطمأن إليها هذا المزاج. فلا عليه إلا أن يصور ويرسم. فإن بلغ فيه من سامعيه ومعاصريه حد الإعجاب، فذلك عهد به وأمله فيه ورجاءه منه. وإلا فقد بذل ما استطاع، وقدم ما قدر عليه. وهو بين هذا وذاك فنان لا يغض من فنه نقدنا قد ولا إزراء مزر.

ولقد كان فن البديع أغلى فنون الحديث ومسالك الأسلوب عند أدباء العصر المملوكي وشعرائه. ملك على القوم أحلامهم وذلل أقلامهم فلا تجري إلا بين أرسانه، ولا تجول إلا وسط ميدانه، فوردوا موارده وعنها صدروا. ومدوا موائده وإليها ابتكروا. وكانوا بذلك أدنى أدباء عصر إلى تمثيل أهله، وأقرب شعراء حقبة إلى تصوير معاصريها.

نقول ذلك، لا على المبالغة، بل على سبيل الحق والصدق، ذلك أن الشعب المصري طبع من عهد بعيد على أن يسلك في حديثه مسالك البديع ترفيها للخطاب، وتجميلا للألفاظ، وتجميعا البديهة. فهو يجنس ويوري ويطابق ويقتبس ويضمن، ولا يني يبعث في خلال ذلك النكتة إثر النكتة والفكاهة غب الفكاهة، فيها دلالات عدة واتجاهات شئ ينم عنها اللفظ بمنطوقة مرة وبمفهومة مرة وبملابساته مرة، وهكذا.

لا نحاول هنا أن ندرس مبعث هذه الروح فيه، ولا أن تتبع أسبابها. ولا نحاول أن نرجعها إلى عواملها الطبيعية من ذكاء، أو طيب عيش أو طيب مناخ، أو إلى عواملها الاجتماعية من كبت عاطفة أو مقاساة حرمان أو كمون التياع. أو من خب في لذة، أو تطرف في ترف، أو غلو في سرف. أو غير ذلك مما يتطلب له المرء مخرجا في القول فلا يجد إلا هذه الضروب البديعة، ففيها له المتنفس والمرح. يجمع في أحدها العديد من المعاني ثم يترك السامع يقلبها بين يديه ويختار من بينها ما يلذ له ويروقه، فهو بذلك، يحمله على

ص: 25

التفكير معه، ويدفعه إلى مشاركته ويسرى بخياله إلى شئ التصورات، ويتنقل به بين مختلف المعاني، ويكفيه بذلك فنا.

سرت هذه الروح في الشعب خلال حديثه حتى كانت له سمتا وشارة، وعرفت عنه منذ أمد، ونمت نمو عجيبا في العصر المملوكي. ولعل حياة الزخرف والدهان، التي كان يفيض بها العصر، كان لمها أثرها في هذه النمو العجيب، الذي نضح على أدباء العصر وشعرائه فكانوا - كما ذكرنا - أدنى إلى تمثيله وتصويره.

واعتقادي أننا - معشر المصريين - لا نزال حتى اليوم ندرج في هذه المدارج، ونطرق تلك السبل، برغم فراهة كتابنا وحدق شعرائنا وحرية أدبائنا، وإزاحتهم ربقة البديع عن أعناقهم وتغلغلهم وراء المعاني والأفكار، وسوقهم خلف الدقائق، وأخذهم من الفلسفة وإمعان النظر بنصيب، ظهرت عوارضه على إنتاجهم وأساليبهم ولكن أعتقد أنهم - رغم حسناتهم تلك - لا يمثلون بأساليبهم العصر الذي فيه يعيشون. ومن كان في ريب من هذا، فليسر في طرقات القاهرة. وليعر السمع إلى نكات العامة ومحاورات الباعة ومحادثات المارة. فليلج الأسواق الجامعة والمنتدبات الحافلة وما شاكلها. فليصت إلى أساليب الناس في الحديث، وإلى مدى امتلائها بالتوريات اللطيفة والتضمينات الطريفة والتجنيسات والمطابقات والتلميحات وغيرها من محسنات البديع، لا تكاد تخلو منها عبارة، أو تفرغ منها إشارة. والجمهور في ذلك يصدر عن طبع وفطرة قويمة. فهو يعكس في أسلوبه تصوراته الباطنة وانفعالاته الخفية الكامنة - فإلى أي مدى صار أدباءه المعاصرين مرآة له في مسالك أسلوبه ومناهج حديثه؟

ليست عند ريبة في أن أدباء العصر المملوكي أدنى إلى تمثيل عصرهم أسلوبا وتصويرا - كما ذكرت - وإذا كان الشعب في مجموعة ذافن في مسالك القول فهؤلاء كانوا ألسنته المتكاملة وعواطفه المترجمة. فهم بدورهم فنانون صادقون ومصورون ماهرون.

وصحيح أن هناك من النقاد الحديثين من وضع لنقده مقياسا يعني فيه بالبحث عن المعاني المبتكرة والتصورات الجديدة والأفكار المفيدة. كأنه يريد من الشعر ألا يكون إلا فلسفة وإلا حكمة وإلا مثلا، وإلا دستورا صامتا من دساتير الحياة. وأن يكون كذلك في كل عصر من العصور، وبهذا المقياس يزيف أدب العصر المملوكي ويزيف شعره، حتى ليتساءل عن

ص: 26

أدبائه وشعرائه ويقول أين كانوا يعيشون؟

والحق أن جلال الأدب في أسلوبه، وجماله في طريفة أدائه وأن صدقه في أن يعبر عن عاطفة الأديب وشعوره، وأن يحسن في تصويره. ولا ريب أن ضروبا كثيرة من البديع تعين الأديب على ما هو بصدده من فن التعبير والتصوير، ومن أبرزها التورية والتضمين والجناس والطباق. وهذه كانت من أهم دعائم الأسلوب في العصر المملوكي.

أنا لا أدافع عن البديع ولا أحدث عن مذهبي فيه. وإنما أحببت له العدل، وأردت له الإنصاف. فقد كان مزاج الأدب وقوام الأسلوب في عصر من العصور المصرية. ولم يكن ذلك غريبا منه حينذاك، بل الغريب ألا يكون. وكيف كان إنتاجه فهو قمين بإعادة النظر فيه من مؤرخي الأدب بيننا. أحب ألا يتأبوا على البحث فيه، وألا يمتروا في حصافته قبل أن يبدءوا ببحثه فليعيدوا فيه النظر بعد إحسان الظن به. ويقيني أنهم سينصفونه وسيجدون فيه شيئاً جديداً مفيدا ممتعاً.

والبديع بعد هذا كله، أو قبل هذا كله، فمن - بلا ريب - جميل، كما أشرنا، وقد استطاع أدباؤه أن يبرزوا بصورة عملية واضحة ما في هذه اللغة الكريمة من مزايا ولطائف وضروب جمال في تكوين ألفاظها وتناسق كلماتها. وأبانوا كيف أقدرهم هذا التكون والتناسق على التلاعب بالأسلوب والإبداع في الحديث، فأظهروا ما خفي في هذه الألفاظ من أسرار، وأشعروا الناس بجمال الترادف والاشتراك والتضاء فيها، وجلوا اللغة في ثوبها المرن المطاط الذي كثيرا ما يتسع للمعاني المتنافرة التي تند عن الذهن حينا كيفية اجتماعها وطريقة تآخيها.

وكانت التورية أحب أنواع البديع عند أدباء العصر المملوكي وأجل ما برعوا فيه منها. وأفضل ما أبدعوا فيه المعاني، وأجمل ما أحسنوا فيه التصوير، لم يشذ منهم عن هذا النهج شاذ. وصحيح أن الصلاح الصفدي - كما بينا في مقال النقد الأدبي - أعزم بالجناس وجن به دون أدباء عصره، ولكنه إلا جانب هذا كان من شعراء التورية. قال ابن حجة الحموي:

(هذا النوع - أعني التورية - ما تنبه لمحاسنه إلا من تأخر من حذاق الشعراء وأعيان الكتاب. ولعمري إنهم بذلوا الطاقة في حسن سلوك الأدب إلى أن دخلوا إليه من باب التورية فإن التورية من أغلى فنون الأدب وأعلاها رتبة وسحرها ينفث في القلوب، ويفتح

ص: 27

أبواب عطف ومحبة. وما أبرز شمسها من غيوم النقد إلا كل ضامر مهزول. ولا أحرز قصبات سبقها من المتأخرين غير الفحول).

وقال أيضا: (وقع الإجماع على أن المتأخرين هم الذين سموا إلى أفق التورية وأطلعوا شموسها. ومازجوا بها أهل الذوق

السليم لما أداروا كئوسها. وقيل إن الضلففاضل هو الذي عصر سلافة التورية لأهل عصره. وتقدم على المتقدمين بما أودع منها في نظمه ونثره. فإنه - رحمه الله تعالى - كشف بعد طول التحجب ستر حجابها. وأنزل الناس بعد تمهيدها بساحاتها ورحابها. وممن شرب من سلافة عصره. وأخذ عنه وانتظم في سلكه بفرائد دره: القاضي ابن سناء الملك، ولم يزل هو ومن عاصره مجتمعين على دور كأسها. ومتمسكين بطيب أنفاسها. إلى أن جاءت بعدهم حلبة صاروا فرسان ميدانها. والواسطة في عقد حماتها. كالسراج الوراق وأبي الحسين الجزار، والنصير الحمامي وناصر الدين حسن ابن النقيب، والحكيم شمس الدين بن دانيال، والقاضي محي الدين بن عبد الظاهر).

وهؤلاء الأدباء الستة ذكرهم ابن حجة هم من شعراء العصر المملوكي وفي نصف القرن الأول منه تقريبا. وفد توالى من بعدهم أدباء. فحول آخرون هم حلبة ابن نباتة ومنهم الصفدي وابن الوردي وابن اللبانة والحلي والاسعردي والعمري والمعمار، وتوالت الحلبات من بعدهم - كما سنبينه أن شاء الله في مقال آخر - وكلهم يسير تحت راية التورية، وعاصرهم في بلاد الشام آخرون. قال الصلاح الصفدي يذكرهم بعضهم:

(وجاء من شعراء الشام جماعة تأخر عصرهم، وتأرز نصرهم ولأن في هذا النوع حصرهم وبعد حصرهم. كل ناظم تود الشعري لو كانت له شعرا. ويتمنى الصبح لو كان طرساً، والفسق مداداً والنثرة نثراً. ماجلا من بنات فكره خوداً إلا شاب لحسنها الوليد. وسيرها في الآفاق وبين يديها من النجوم جوار ومن الشعراء عبيد. كالشيخ شرف الدين عبد العزيز الأنصاري شيخ شيوخ حماة. والأمير مجير الدين بن تميم. وبد الدين يوسف بن لؤلؤ الذهبي. ومحي الدين قرناص الحموي. وشمس الدين ابن العفيف. وسيف الدين بن المشد).

وقال أيضا: (ولا تقل أيها الواقف على هذا التأليف: لقد أفرطت في التعصب لأهل مصر

ص: 28

والشام. على من دونهم من الأنام وهذا باطل ودعوى عدوان. وحمية لأوطانك وما جاورها من البلدان. فالجواب أن الكلام في التورية لا غير. من هنا تنقطع المادة في السير. ومن ادعى أنه يأتي بدليل وبرهان فالمقياس بيننا والشقراء والميدان).

وبعد فما هي التورية؟ قال ابن حجة يعرف بها:

(هي أن يذكر المتكلم لفظا مفردا له معنيان حقيقيان أو أحدهما حقيقة والآخر مجاز. أحدهما قريب ودلالة اللفظ عليه ظاهرة والآخر بعيد ودلالة اللفظ عليه خفية. فيريد المتكلم المعنى البعيد ويورىعنه بالمعنى القريب فيتوهم السامع لأول وهلة أنه يريد القريب وليس كذلك).

والتورية - كما يرى القارئ - تحتاج إلى إلمام باللغة وإلى نزعة أدبية سلمية، وإلى لطافة في الحس. وهي إحدى طرف أداء المعنى. والفرق بينها وبين أداء المعنى في حيز الدلالات اللفظية هو الفرق بين الأدب واللغة. والمورى مجدد لأنه يضع أمام السامع صورا من المعاني عدة متشابكة في بعض أجزائها، متماسكة في بعض ملابساتها، فيدفع السامع إلى التنقل بخياله والتجول بفكره بين صورها الشتى حتى يقع خاطره على المعنى المقصود، دون أن يشعر بثقل أو يحس بجهد، بل بالعكس يتنقل بينها كما يتنقل بين أجزاء روضة، وبين ثنيات بستان، ويكون لذلك أثره فيه فيلطف حسه ويرق خياله ويتسع تصوره، وهذه دعائم نفسية تقوم عليها دولة الأدب. وقد نقل ابن حجة قول الزمخشري في التورية حيث قال:(ولا نرى بابا في البيان أدق ولا ألطف من هذه الباب، ولا أنفع ولا أعون على تعاطي تأويل المشتبهات من كلام الله وكلام صحابته رضى الله عنهم أجمعين. فمن ذلك قوله تعالى: (الرحمن على العرش استوى) لأن الاستواء على معنيين أحدهما الاستقرار في المكان، وهو المعنى القريب الموري به الذي هو غير مقصود، لأن الحق تعالى وتقدس، منزه عن ذلك. والثاني الاستيلاء والملك وهو المعنى البعيد المقصود الذي ورى عنه بالقريب المذكور) - ويهمنا من كلام الزمخشري حديثه عن التورية. أما ما استشهد به من القرآن الكريم ففيه نظر. لأنه كان يدين بالاعتزال.

ومع ذلك فيه نظر من ناحية أخرى، إذ يعتبر تأويله هنا من باب الكناية مثلالا من باب التورية. وهذا يجرنا إلى الإشارة إلى أن التورية - في جوهرها وفيما نشعر - ليست في حدودها الضيقة التي وضعها فيها علماء البلاغة بل أنها أوسع نطاقا وأبعد آفاقا. أو أنها

ص: 29

على الأقل ذات صلة وثقى بأنواع البلاغة والبديع، كالكتابة والمجاز والإلغاز والمحاجاة والتوجيه والتلميح والإبهام والجناس، وأن بينها وبين هذه الأنواع أمورا متشابهة لا نفرق بينها إلا دقائق معنوية، وهذه الأمور تشعرنا بأنها جميعا تمت إلى التورية بأوثق الصلات. على أن هذا موضوع يحتاج إلى بحث ومعاودة ونظر جديد. فلنتركه الآن لنطرف القارئ ببعض نماذج التورية التي أثرت عن أدباء العصر المملوكي، وكثير منها في الغزل والوصف والشكوى والمدح والإخوانيات. ومنها ما يلي:

كان السراج الوراق مقيما بالروضة، فكتب إليه نصير الدين الحمامي موريا بها فقال:

كم قد ترددت للباب الكريم لكي أبل شوقي وأحيي ميت أشعاري

وأنثني خائباً مما أؤمله

وأنت في روضة والقلب في نار

فكتب إليه السراج الوراق:

الآن نزهتني في روضة عبقت

أنفاسها بين أزهار وأثمار

أسكرتني بشذاها فانثنيت بها

وكل بيت أراه بيت خمار

فلا تغالط فمن فينا السراج ومن

أولى بأن قال إن القلب في نار

وقال أبو الحسن الجزار موريا بصناعته:

إني لمن معشر سفك الدماء لهم

دأب وسل عنهم إن رمت تصديقي

تضئ بالدم إشراقاً عراصهم

فكل أيامهم أيام تشريق

وقال الجزار موريا بلفظ (المطوق):

أنت طوقتني صنيعا وأسمعتك شكراً كلاهما ما يضيع

فإذا ما شجاك سجعي فإني

أنا ذاك المطوق المسموع

وقال دانيال الموصلي موريا في (قوم):

أيا سائلي عن قد محبوبي الذي

فتنت به وجداً وهمت غراماً

أبى قصر الأغصان ثم رأى القنا

طوالا فأضحى بين ذاك قواما

من توريات الشباب الظريف في كلمة (باقل):

ولو أن قسما واصف منك وجنة

لأعجزت نبت بها وهو باقل

ومن توريات جمال الدين بن نبانة في كلمة (راحة):

ص: 30

يا غائبين تعللنا لغيبتهم

بطيب ولا والله لم يطب

ذكرت والكأس في كفى لياليكم

فالكأس في راحة والقلب في تعب

وقال أيضا في (الكمال) وهو مسمى به:

أرى جلستي عند الكمال تميتني

غبونا ونفعي بالعلوم بفوت

وما تنفع الآداب والعلم والحجا

وصاحبها عند الكمال يموت

وقال متغزلا موريا في (حمل وقد):

سألت النقا والبان أن يحيكا لنا

روادف أو أعطاف من زاد صدها

فقال كثيب الرمل ما أنا حملها

وقال قضيب البان ما أنا قدها

وروى محي الدين بن عبد الظاهر في (الأوراق) فقال متغزلا:

ذو قوام يجور منه اعتدال

كم طعين به من العشاق

سلب القضب لينها فهي غيظي

واقفات تشكوه بالأوراق

ومن طرائف التوريات ما خرج مخرج الجناس، قال ابن حجة (قد تقرر أن ركتي الجناس يتفقان في اللفظ ويختلفان في المعنى لأنه نوع لفظي لا معنوي. وهو نوع متوسط بالنسبة إلى ما فوقه من أنواع البديع: والتورية من أعز أنواعه وأعلاها رتبة فإذا جعلت الجناس تورية انحصر المعنيان في ركن واحد، وخلصت من عقادة الجناس).

ومن جناس التورية قول بدر الدين الدماميني يصف ابن حجر العسقلاني:

حمى ابن علي حوزة المجد والعلى

ومن رام أشتات المعالي وحازها

وكم مشكلات في البيان بفهمه

تبينها من غير عجب ومازها

مازها من ماز يميز أو بمعنى لم يدخله الزهو.

فأجابه ابن حجر بقوله:

بروحي بدراً في الندى ما أطاع من

نهاه وقد حاز المعالي فزانها

يسائل أن ينهي عن الجود نفسه

وها هو قد بر العفاة ومانها

ومانها، من مانه بمعنى كفاه. أو مانها من النهى.

ويطول المقام إذا ذهبنا نتحدث عن التورية نستشهد لأنواعها من شعر هذا العصر. فحسبنا ما مر.

ص: 31

محمود رزق سليم

مدرس الأدب بكلية اللغة العربية

ص: 32

‌من أدب العراق:

المرأة في شعر الرصافي

للشيخ محمد رجب البيومي

(تتمة ما نشر في العدد الماضي)

أماحافظ فقد جعل الأم مدرسة كصاحبه، وزاد فرفعها إلى قمة عالية فكانت عنده أستاذ الأساتذة الذين ملأوا الدنيا وشغلوا الناس، كما شبهها بروض زاهر، فذكر أنها ليست أثاثا يقتنى في الدور ولا درراً تصان في الأحقاق، فيجب أن تتبوأ مكانها في المجتمع. وهو مع هذه الصيحة يحتاط أكمل احتياط، وينظر إلى البداية والنهاية معا في وقت واحد، فيخوف من السفور، ويحدد مهمة المرأة الاجتماعية، فهي ربة بيت تنهض بأعبائه، وتضطلع بشؤونه.

قال شاعر النيل:

أنا لا أقول دعوا النساء سوافراً

بين الرجال يجلن في الأسواق

يدرجن حيث أردن لا من وازع

يحذرن رقيته ولا من واقي

يفعلن أفعال الرجال لواهياً

عن واجبات نواعس الأحداق

في دورهن شؤونهن كثيرة

كشؤون رب السيف والمزراق

وإذن فحافظ متحفظ في ثورته، وكل ما يريده أن تخرج الفتاة إلى مدرستها ثم ترجع إلى البيت الذي تديره، ولا كذلك الرصافي، فهو يمشي مع السفور إلى أبعد شوط، ويرى أن المرأة كالحمامة لها ريش يجب أن تطير به، وسجع يلزم أن تردده، وإلا لما خلق الله لها ذلك، وكان التعلل بالشريعة نغمة متصلة، يرددها المحافظون فأطنب الشاعر في دحض هذه الحجة، وأخذ يكرر قوافيه المتلاحقة في نقضها. ومما قاله في ذلك فوق ما قدمناه:

وأكبر ما أشكو من القوم إنهم

يعدون تشديد الحجاب من الشرع

وذلك أنا لا تزال نساؤنا

تعيش بجهل وانفصال عن الجمع

أفي الشرع إعدام الحمامة ريشها

وإسكاتها فوق الغصون عن السجع

فقد أطلق الخلاق منها جناحها

وعلمها كيف الوقوف على الزرع

ص: 33

وقصائد الرصافي في هذا الموضوع أكثر من أن تحصر؛ فقد كان يرى الدفاع عن حقوق المرأة أمانة في عنقه، يجب أن يؤديها بغير تمهل وانتظار. وقد أفلح الشاعر في دفاعه أي فلاح، وعاش حتى رأى المرأة الشرقية كما أحب لها من تقدم وصعود، فعاد يمجد في مواهبها، ويبالغ في مكانتها ويفخر بنهضتها التي نمت في وقت يسير. وما ظنك بزارع كادح بذل جهده الدائب في شق التربة وغرس الثمرة. وصادف من الصخور ما كاد يهشم معوله، ويبدد قوته وما زال يتعهد غرسه بالماء حتى رآه - بعد لأي - جنة مورقة تؤتى أكلها كل حين بإذن ربها، هكذا كان معروف!!

وهنا نتساءل بعد ما أسلفناه من جهاد الشاعر عن موقفه العاطفي من المرأة، وهل ملكت يوما زمام فؤاده؟ وماذا أوحت إليه من فاتن الغزل ورقيق النسيب؟؟

وقبل كل شئ نذكر أن الرصافي قد تزوج مرة واحدة في حياته، أثناء إقامته بتركيا، ولم يكتب له التوفيق كزوج مسؤول، فطلق امرأته بعد مدة وجيزة، وألقى العبء عن كاهله، كما صنع شاعر النيل؟

كما لم يحدثنا أحد من معارفه بأنه أحب فتاة معينة، أو أنشأ علاقة مع امرأة بذاتها، وإن كنا نعلم أنه كان إباحيا متحللا يبحث عن شهوات الجسد من أي طريق. وأنت تنظر إلى ما روى عنه من صادق النسيب، فنجده ينظر إلى النساء بمنظار واحد، فهو يغازل هذه وتلك دون أن يدخر في قلبه شجنا مبرحا، أو لوعة حارة. وإذن فمعروف يهوى الحسن مجردا عن ذاته كما يراه في كل لون ووضع؛ فهو بحب البيضاء، إذ تتألق كالبدر، ويعشق الحمراء إذ يتذكر بها طلوع الشمس، ويميل إلى السمراء والصفراء جميعا في وقت واحد!! وقد يظن الناس أن هذا خيال شاعر لا حقيقة له، والواقع غير ذلك، فالجمال لا يقف عند لونه، وإنما يتعداه إلى الخفة والمرونة. وكأني بالرصافي وقد وجد قلبه أعظم من أن يختص بواحدة، فهام بجميع الملاح. اسمعه يقول

وقفت عليكن قلبي الذي

يمر به الحب مر السحاب

فمنكن أحببت هذي وتى

وألفيت عذبا بكن العذاب

فمنكن بيضاء ما مثلها

(عدا حمرة الخد) ألا القمر

فتلك التي طاب لي وصلها

كما ليلة البدر طاب السمر

ص: 34

ومنكن حمراء جذابه

حكى وجهها الشمس عند الطلوع

أرى عينها وهي خلابة

فأمسك بالكف مني الضلوع

ومنكن صفراء في لونها

كأن قد تردت شعاع الأصيل

إذا ما تمشت على ضعفها

أصَّحت هبوب النسيم العليل

ومنكن سمراء تحكى الدمى

وتبعث في القلب ميْت الهوى

على شفتيها يلوح اللمى

فتوقد في القلب نار الجوى

ومنكن من هي مثل الرياح

لها في ذرى كل قلب هبوب

تريد غلاب جميع الملاح

وتبغي عذاب جميع القلوب

فمنكن طرا بوادي الهوى

أهيم وإن لم تعد عائدة

ألا إن حيا بقلبي انطوى

كثير فلم تكفه واحدة

وطبيعي أن يكون الرصافي فنانا ماهرا في نظرته إلى المرأة، فهو يصفها في دقة وحذق وكأنما أحاط بحركاتها واجدة فواحدة. وقد صور ملهى للرقص في بغداد، فكدنا نراه في القاهرة. والذي يهمنا منه تلك اللوحة الرائعة التي رسمها للراقصة الفاتنة؛ فقد تكلم عن ثوبها الحريري فخيل إلى أنه حائك ماهر يصفه لزميله كي يصنع مثله. وانتقل إلى حركاتها السريعة فكاد يسبقها في الخفة والوثوب، على أنه يطير معها في الجيئه والذهوب، ولن أترك القارئ حتى أضع أمامه جانبا من هذه اللوحة، فالفن يشوه بالتخليص أقبح تشويه، قال معروف:

خطرت والجمال يخطر مها

في حشا القوم جيئة وذهوبا

وعلى أرؤس الأصابع قامت

تتمطى تبخترا ووثوبا

نحن منها في الحالتين نرانا

نرقب الشمس مطلعا ومغيبا

حركات خلالها سكنات

يقف العقل ينهن سليبا

وخطّى تفضح العقول اتساقاً نظمتها تسرعا ودبيبا

لو غدا الشعر ناطقا بلسان

لتغنى بوصفها عنَدليبا

أظهرت في المجال من كل عضو

لعبا كان بالعقول لعوبا

مشهد فيه للحياة حياة

تترك الواله الحزين طروبا

ص: 35

وله من هذا السياق النضيد شئ كثير.

هذا وقد رأيت بعض من كتبوا عنه غب وفاته يعدون ما تغزل به في المرأة تقليدا واحتذاء، وحجتهم في ذلك أن الشاعر لا يهدف إلى فتاة معينة، وأنا أقول: إن من الخطأ البين ألا نفرق بين ما تفتتح به القصائد من عبارات التشبيب وبين ما يجيش بصدر الشاعر فهتف به. نعم قد يكون الأديب في إنتاجه متجها إلى عناصر غير الحب واللوعة، ولكن هل يكون معنى ذلك أنه تناسى عاطفته التي تختلج في خفاياه، وتتجاهل غريزته التي تموج في خلاياه، فإذا قال غزلا فتنا قيل له من فتاتك؟ ما اسمها؟ وفي أي بيئة نشأت؟ وبأي ثقافة تميزت؟ وإذا مر الشاعر في طري مزدحم، فوقعت عينه على حسناء ساحرة ثم اختفت عنه لجج الزحام الحاشد، دون أن يعلم عنا أي شئ، أتقول له: حطم يراعك، ومزق طرسك، لأن فتاتك غير معروفة باسمها فلا ينبغي أن تنسب بها إلا كنت صانعا أي صانع!! هذا والله شئ عجيب!!

إن شاعراً يحترم فنه كمعروف لا يمكن أن ينشئ غزلا دون أن تشتجر في صدره العواطف، لنا أن نعد من تشبيبه التقليدي ما يجئ عرضا عن المرأة في موضوع خاص، يهدف إلى فكرة خاصة، لا تتصل بالحب من قريب أو بعيد، كقوله في قصيدة (العالم شعر)

وبيضة خدر إن دعت نازح الهوى

أجاب ألا لبيك يا بيضة الخدر

تهادت تريني البدر محدقة بها

أوانس إحداق الكواكب بالبدر

فلله ما قد هجن لي من صبابة

ألفت بها طيّ الضلوع على الجمر

تصافح إحداهن في المشي أختها

فنحر إلى نحر، وصدر إلى صدر

مررن وقد أقصرت خطوى تأدبا

وأجمعت أمري في محافظة الصبر

فطأطأن للتسليم منهم أرؤسا

عليها أكاليل ضفرن من الشعر

فألقيت كفى فوق صدري مسلماً

وأطرقت نحو الأرض منحنى الظهر

وأرسلت قلبي نحوهن مشيعاً

فراح ولم يرجع إلى حيث لا أدري

وقلت وكفى نحوهن مشيرة

ألا إن هذا الشعر من أجمل الشعر

فهذه الأبيات من قصيدة وصفية، نظمها الرصافي ليعلن نأأن الطبعة ديوان شعري ممتاز، وأخذ يقلب صفحات الديوان، فرأى في سكون الليل قصيدة عامرة عدها من (أحسن)

ص: 36

الشعر، ورأى في طلوع الشمس قصيدة بارعة عدها من (أبدع) الشعر، ورأى في وحشة المقابر قصيدة باكية عدها من (أفجع) الشعر، اتجه إلى المرأة فنظم الأبيات المتقدمة لأنه يرى في ركب حواء قصيدة ساحرة من (أجمل) الشعر، وإذن فالكلام هنا عن المرأة تقليدي سلفي، حيث لم تكن صاحبة الفكرة التي تقوم عليها القصيدة. ومن الظلم أن نسحب هذا الحكم على جميع ما ترنم به معروف عن المرأة. وليت شعري من ينكر صدق العاطفة في قوله عن فتاة مجهولة.

فتنت الملائك قبل البشر

وهامت بك الشمس قبل القمر

وسرّ بك السمع قبل البصر

وغنى بك الشعر قبل الوتر

فأنت بحسنك بنت العبر

يروح شتاء وتصحو السما

ويأتي الربيع بما نمنما

فيطلع فوق الثرى أنجما

ويبتسم الزهر بعد الغما

فأنت ابتسامة ذاك الزهر

فطرفك بالفتر كم قد روى

نشيد الغرام يهد القوى

وما أنت شاعرة في الهوى

ولكنما الشعر فيك انطوى

فآية حسنك إحدى الكبر

فهذا الشعر لو روى لشاعر ممن اشتهرت صاحبته لعد من قوافيه المختارة، فهل يليق بعد ذلك أن نتساءل عن الملهمة، من هي؟

فإذا لم نجد الإجابة الواضحة، حكمنا على الشاعر بالتقليد والصنعة دون تريث!! الحق أننا سطحيون.

ولا بد لنا أن نتكلم عن اتجاه الرصافي أقاصيصه الاجتماعية فقد جعل المرأة عنصر الأقصوصة الهام، فلا مناص له من أن يصور خوالجها الهامة، ونوازعها الراجفة، مما يتطلب دراسة عميقة لنفسية حواء. ولهذا كان الشاعر فلسفي النظرة دقيق المنحى، وإن خدع قارئه برونق الديباجة وسلاسة التركيب. ولو ذهبنا نستقصي ما روى له في هذا المضمار لا متدبنا حبل البحث، ولكننا نضع أمام القارئ قصيدة (أم ليتيم) كنموذج لطريقة الشاعر، فهو يريد أن يندد بالتحزب الديني، ولتعصب المذهبي، وما يجر ذلك من نقص في

ص: 37

الأموال والأرواح، وسمع أنيناً مؤلما يرن في كوخ بائس فعرفه، حتى إذا بدأ الصبح أتاه، فرأى به أرملة حزينة - هي بطلة قصته - وأمامها طفل جائع تعلله بالطعام، وتدع معروفاً يصف لنا الأم الجائعة وما وقعت فيه من التناقض الغريب، حيث جمعت بين الضحك والبكاء في لحظة واحدة، فهو يقول.

وقفت لديها والأسى في عيونها

يكلمني عنها وإن لم تكلم

وساءلتها عنها وعنه

بكاء وقالت أيها الدمع ترجم

ولما تناهت في البكاء تضاحكت

من اليأس ضحك الهازئ المتهكم

ولكن دموع العين أثناء ضحكها

هواطل مهما يسجم الضحك تسجم

فقد جمعت ثغرا من الضحك مفعما

إلى محجر باك من الدمع مفعم

فتذرى دموعا كالجمان تناثرت

وتضحك عن مثل الجمان المنظم

فلم أر عيناً قبلها سال دمعها

بكاء وفيها نظرة التبسم

وقلت وفي قلبي من الوجد رعشة

أمجنونة يا رب فارحم وسلم

ويسير الشاعر فيذكر حنان الأم الرءوم وكيف ضمت إليها ابنها في شفقة وعطفه، وماذا قال لها الطفل وهو يسأل عن أبيه؟ وكيف أجابته بما يريده الشاعر من أقصوصة فوصفت ما دار بين المسلمين والأرمن من مذابح تجري دماؤها باسم الدين؟ استمع إلى كل ذلك في وقوله.

وظلت له ترنو بعين تجودها

بفذ من الدمع الغزير وتوأم

سلي ذا الفتى يا أم أبن مضى أبي

وهل هو بأتينا مساء بمطعم

فقالت له والعين تجري غروبها

وأنفاسها يقذفن شعلة مضرم

أبوك ترامت فيه سفرة راحل

إلى حيث لا يرجى له يوم مقدم

مشى أرمنيا في المعاهد فارتمت

به في مهاوي الموت ضربة مسلم

على حين ثارت للنوائب ثورة

أتت عن حزازات إلى الدين تنتمي

فقامت بها بين الديار مذابح

تخوّض منها الأرمنيون في الدم

ولولاك لاخترت الحمام تخلصا

بنفسي من أتعاب عيش مذمم

ومهما يكن من شئ فالمقام لا يسمح أن نلم بغير هذه القصة المشجية، ذات المغزى الرائع،

ص: 38

ممانظمه الشاعر الكبير، فقي كل قصة منظر مختلف لفتاة بائسة، داهمتها الخطوب. ولا ضير على الرصافي إذا أكثر من تصوير هذه المآسي الدامية فقد نشأ في أمة مزقتها العلل، وتحرشت بها الأحزان، فتقاطرت من عينه الدموع!!

أين أنت يا معروف؟ وكيف خمدت جذوتك الملتهبة، وسكن فؤادك الخافق الجياش؟ ووقف ذهنك الموار.

سكت فلم نسمع غناءك مشجياً

فيا بلبل القطر الشقيق ترنم!

(الكفر الجديد)

محمد رجب البيومي

ص: 39

‌ترجمة وتحليل:

1 -

أمنية الشارع!

للأستاذ صبحي إبراهيم الصالح

. . . . أما الشاعر فإنه مفخرة الأدب الفرنسي (الفونس دي لامرتين)، وأما الأمنية فإنها قصيدة عصرها من حبة قلبه، فكانت زفرة حرى تحترق بلهيبها عبرات الذواقين لهذا النوع من الشعر المثالي الرفيع.

وهذه الأمنية تصوير دقيق لما يجيش في نفس الشاعر المرهف الحس الذي لا يني يعبر عن الأفاق التي يدرك عظمتها ولا يصل إليها مهما بذل من الجهد، وعن العوالم التي يحس روعتها ولا يبلغها مهما ارتقى في الأسباب.

نظم لامرتين هذه القصيدة - كما حدث عن نفسه - (في فترة من حياته تحولت فيها فكرته - التي كانت لا تتوخى غاية، ولا تعين أمنية، ولا تعني بهذه الأرض ومن عليها - تحولا طبيعيا منتظراً نحو السماء وبانيها، ونحو الطبيعة وبارئها، فأمست أناشيده كلها دينية. يومئذ عرف أرواحا كانت تقواها ثمرة دموعها، وعرف أرواحا أخر كانت عبادتها كأريج الربيع الفواح تحت أضواء الشمس المشرقة التي تمتع القلب بالبشر والسرور. ولقد أحب أن تكون روحه من هذه الأرواح الأخر. حطم الألم أعصابه. ورده صامتا لا يبين، جاحدا لا يؤمن، يائسا لا ينتج. ثم أقبلت عليه السعادة بعد إدبار، فحببت إليه الإيمان وزينت في قلبه ألحانه، فعاد ناعم الفكر، رخي البال في تلك الفترة التي عاد فيها إلى إيمانه أو عاد إليه نظم قصيدته في مدينة من مدن إيطاليا تسمى (ليفورن) سنة 1827 ولست أدري ما الذي يربط قلبي بقلب لامرتين، فما تأملت إحدى قصائده إلا أحسست كأنه ينظمها بلساني أو أنثرها عن لسانه، أو يكتبها من لوحة قلبي وأتلوها في لوحة قلبه؛ وما أريد بهذه الكلمة أن أعلوبنفسي إلى أفق هذا الشاعر العظيم في روعة تصويره، وسحر خياله، فما ينبغي لي هذا ولا أستطيعه؛ إن أريد إلا أن أتيح لقلمي العذر في ترجمة قصائده وتحليلها كلما وجدت فراغا، وآنست رغبة. لم يبح لامرتين لنفسه تصوير أمنيته إلا بعد أن أعلن عجزه، واعترف بعي لسانه: فشعوره أسمى من أن يترجم عنه ما تيسر له من الكلمات المحدودة، وتفكيره أعلى من أن يذيعه لسانه العبي الذي لا يحسن الابتكار والتوليد.

ص: 40

1 -

(آه! لو كانت لي كلمات وصور ورموز

لترجمت عن شعوري!

ولو كان لساني العبي قادرا على التعبير

لأذاع تفكيري!)

أما وقد أبت الكلمات الحية، والصور الناطقة، والرموز الموضحة، أن تواتيه وتكون مطواعا لقلبه ولسانه - فليس أمانه إلا سلوك المنهج الذي سلكه مثول الخاشع الخاضع بين يدي السماء، وليصف حكمتها بأرفع ما يجري به لسانه من آي المديح والثناء؛ فالتقديس لها، والسرمدية عنها، والأزلية منها، لأنها ما أخرجت من ظلمات العدم شيئا إلا أدخلت عليه نور الحياة، ولا أبدعت للوجود كائنا إلا علمته لحنا ينشده فيطرب، ولا بثت في السقف المرفوع كوكبا إلا أنزلت وحيا يتلوه فيرضى، ولا حددت للمسافات موضعا إلا جعلت له مغنى تصدح بلابله فيشجي السامعون. . .

2 -

(إنها لحكمة قدسية سرمدية وروح أزلية،

تمد العالم كله بالحياة!

فللكل كائن لحنه، ولكل كوكب وحيه،

ولكل موضع مغناه!)

ويمضي لامرتين في تأمله فيرى أن ينبوع هذه الأنغام كلها نغم واحد، ولكنه ليس عاديا توقعه أنامل العاديين ثم يفتر بفتورهم، ولا عبقريا تتلاعب به قلوب العباقرة فيختنق بموتهم؛ وإنما هو نغم خالد لا يفتر، قديم لم يتغير، أزلي لن يختنق. أخذ من عيون الطبيعة سحرا يسبى القلوب، ومن وقارها هيبة تأسر النفوس، ومن خلافها العظيم رهبة تعجز العقول. ومع أن جرس هذا النغم رتيب لا يتبدل فإنه حلو في الإسماع كلما تكرر ازداد حلاوة.

3 -

(ما لهؤلاء إلا نغم واحد، ولكنه كالطبيعة ساحر مهيب، وكخلاقها عظيم ذو جلال! وإن هذا النغم الخالد، بجرسه الترتيب، لمحبوب يا إلهي في كل مجال!) وكيف لا يكون هذا النغم محبوبا وهو موسيقى مختلفة الإيقاع؟ فمنه صوت الرياح إذا هبت تداعب الأمواج، وصوت البحر إذا تنهد شوقا أو زمجر ضجراً، وصوت الصاعقة إذا توعدت إنذارا، ودوت

ص: 41

غضباً. . وهل من غبي بين البشر لا يعرف ماذا تعنى هذه الأصوات؟

4 -

(فإذا الرياح هبت على الأمواج، وإذا البحر تنهد أو زمجر، وإذ الصاعقة قدمت بالوعيد. . .

ليت شعري، هل من غبي بين البشر، يسأل عما تريد؟؟

كلا. . . لن يسأل عن مرادها سائل، فإنها تفصح بلسان مبين عن كل ما تروم: فما مداعبة الرياح للأمواج، وما تنهد البحر وزمجرته، ولا درى الصاعقة ووعيدها، إلا مظاهر من رحمة الله وقهره، تتجلى تارة في جلال وقدرته وفضله، وتارة في غضبه وانتقامه وعدله. ولو سألت الرياح عن أغانيها، والبحار عن تأوهها وأنينها، والصواعق عن إنذارها ووعيدها، لقالت: إنها تسبح بحمد الله، وإن من شئ إلا يسبح بحمده؛ ولتداعت إلى الفرار إذا ذر شارق من نور وجهه، أو لاح بارق من نور ظله؛ ولتنادت إلى السكوت، واجتمعت على الإصغاء، وائتلفت لسماع النغم الوحيد الذي يرسله من لدنه ليملأ الدنيا ألحانا وأغاريد!

5 -

(قال قائل منها: يا لجلال الله! وقال ثانيها: يا لقدرته وفضله! وقال آخرها: يا لغضبه وانتقامه!

ثم ولى أحدها هاربا من إشراق وجهه، وقال آخر: قد لاح بظله! أيتها السموات والأرض أضحى لكلامه!)

بيد أن الفرق واضح بين الإنسان وهذه الطبيعة، فإن هذه تنطق بلسان الحال فيغنيها عن لسان المقال، وذاك أوتى لسان المقال ليعبر عن لسان الحال، ومقاله متوقف على الألفاظ، وما الألفاظ إلا قوالب للمعاني لا تنبض بالحياة، ولا جناح لها فتحلق في الأجواء، أو تنطلق في الآفاق، كهذه الطيور التي تهيم في كل مكان، وتحط على كل شجرة، وتهبط كل واد، وتعلو كل جبل، وترى كل شئ، ولئن كانت فكرة الإنسان خالدة لا تموت - لأن موحيها الحي القيوم كتب لها الحياة - فإن ألفاظه المعبرة عنها لأصداء الأصوات، وما كان لصدى أن يدوم، فلا يلبث أن يزول

6 -

(لكن الإنسان الذي خلقته، هذا الذي يفهم الطبيعة، لا يتهدى بغير الألفاظ إلى المعاني الرفيعة؛

(وإن ألفاظا فاقدة الحياة مهيضة الجناح، إذا قيست بفكرته التي لا تموت كانت أصداء

ص: 42

وشيكة السكوت!)

مسكين هذا الإنسان الذي ينشد الحقيقة فلا يظفر إلا بصداها، ويروم الانطلاق من سجنه والتفلت من قيده، فيضرب بينه وبين رغبته بسور له باب، باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب: فمثله كمثل العاصفة يحدق بها الغمام من كل جانب؛ ويطبق عليها من كل مكان تعانده فيضحك، وتحاول تمزيقه فيبتسم، وتود لو انفجرت لتفارقه فيصفح عنها لتلازمه، فلا هو بتارك لها منفذاً، ولا هي بقادرة على الفرار. أو كالموجة محبوسة في هذا البحر العميق تود لو رأت عالما سواه، إلا أن الشاطئ يقف في طريقها سدا منيعا، فتثور في وجهه فتلطمه لتتغلب عليه فلا يتزحزح، وتهدأ ثائرتها فتغسل لتسترضيه فلا يبالي، وتعيد الكرة من غير أن تصيب نجاحا، فتيأس من العلو عليه، وتقنع بسجنها قناعة العاجز الساخط، لا قناعة الراضي المقتدر.

7 -

(روحه كالعاصفة. . . في الغمام تزمجر، ولا تستطيع أن تعلوه!)

والملوم على كل حال روح الإنسان لا ملهمها، لأن هذه الروح مغرورة تحاول أن تجتاز الحد الذي وضع لها، فيدركها التعب، ويسرع إليها الضنى: تريد أن تبرهن على قوتها وهي ضعيفة، على علمها وهي جاهلة، وعلى مقدرتها وهي عاجزة؛ فهي كهذا النسر الصغير الذي لم ينبت ريشه بعد، يريد أن يطير كما تطير النسور، ويريد أن يسابقها منذ تفتحت عينه على عالم النور، ولكنه يتبين ضعفه فيقنع نفسه بالوثوب على الأرض، ثم يتبين عجزه فإذا هو قانع بالترفق في دبيبه، يمشي مشية الحذر، ويبطئ إبطاء الذي يزحف شاكاً مستريباً.

8 -

(وتتعب نفسها وتضنيها كأنها نسر صغير، لم ينبت له بعد شكير

تتفتح عينه على عالمه، فيترفق في الدبيب، ترفق الزاحف المستريب!)

(التتمة في العدد القادم)

صبحي إبراهيم الصالح

ص: 43

‌عبد القادر الحسيني!

للأستاذ أحمد مخيمر

(ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون. .)

نلت الشهادة فاهنأ أيها البطل

بمثل عزمك تبنى مجدها الدول

أمامك الجنة الخضراء تفتحها

لك الدماء التي أهرقت والأسل

السابقون من الأبطال قد دخلوا

والصاعدون من الأحرار قد وصلوا

ودوا لحب الوغى لو أنهم رجعوا

ليقتلوا مرة أخرى، كما قتلوا

يعانقون ظباها، وهي هاوية

كأنما الطعن في لبَّانهم قُبل

ستلتقون على أنهارها زمراً،

وفوق أرواحكم من خلدها ظلل

والدوح يرقص والأنوار هامسة

والطير تدنو، وتستعلي، وترتحل

يا ابن الحسين! دموع الحزن جارية

وناره في طوايا القلب تشتعل

على شبابك نبكي لوعة وأسَى

وإن يكن لحياة الخلد ينتقل

شمس طوتها المنايا وهي مشرقة

صبحاً ولم يدن من آفاقها الطفل

وزهرة من نضير الزهر ذات ندى

لم يشبع الغلَّ منه غصتها الخضل

على ابتسامك، والهيجاء عابسة

والنار تصرخ، والأسياف تقتتل

على اقتحامك، والأبطال شاكية

والدماء على أبدانها سيل

على إرادة مرهوب العزيمة، لا

ريث إذا طعمت البلوى، ولا عجل

كأنها هَبَّةُ الإعصار جارفة،

ودفعة السيل، والعسَّالة الذُّبل

إن يقتلوك فبالذل الذي شربوا

من راحتيك، وبالضيم الذي نهلوا

ملأتهم بظلام الخوف؛ فانطلقوا

وفوق أعينهم من ليله سدُل

من لا تبادره بالسيف بادره

من نفسه القاتلان الجبن والوجل

لو لمُ يعنهم بغو التاميز ما حملوا

رمحاً، ولا قاتلوا لو أنهم حملوا

أخس ما شهدته الأرض من أمم

كأنهم من قرار الذل قد جلبوا

للموت ما ولدوا، للقبر ما حشدوا،

للخسر ما بذلوا، للضيم ما نسلوا

الذائقون على كفّيك مصرعهم

والتائهون، فلا سهل ولا جبل

ص: 44

والكاذبون إذا أبطالكم صدقوا

والقائلون إذا شجعانكم عملوا

والحاشدون ألوفا لا غناء بها

يوم الصدام، وخير منهم رجل

لهم من الحرب أغلال، ومسكنة،

وذلة، ولك الأسلاب والنقل. .

يا حامي القدس من كيدُ يرادُ به

خلا العرين، ومات الضيغم البطل

أغناك عزمك عن نظم، وعن خطب

فلم تزل بلسان السيف ترتجل

أرسلتها كلمات منه دامية

حمرا آذانها الأخلاد والقلل

بريقها وهي تهوى في مقاتلهم

بلاغة خشيت لألاءها المقل

لو لم تكن بك قد هامت مضاربه

لما غدا وله من حزنه أًلل

بكى فأبكى، ولم تبرح مدامعه

لما قضيت مع الباكين تنهمل

يرنو لشبليك محزوناً، ونائحة

وراء نعشك ثكلى شفها الخبل

قد أذهلتها المنايا، فهي حاسرة

بين الحشود، فلا خدر ولا كلل

لم يبُق في قلبها التوديع من جلد

إن الفراق بغيض ليس يحتمل!

يا حامي القدس، دعهم يشمتون فما

يستأخر العمر يوماً إن دنا الأجل

في حومة المجد والأرماح مشرعة

لقيت حتفك، والأبطال تنتضل

فما جبنت على يأس، كما جبنوا

ولا خذلت على روع كما خذلوا

ولا أدرت وجوه الخيل مدبرة

في الموقف الضنك من خوف وفد فعلوا

وليس أشرف من موت حظيت به

والنصر دانٍ إلى عينيك مقتبل

والنقع فوق رءوس القوم بثقله

من الدماء التي أهرقتها بلل

وللكماة على أسلابهم فرح،

وللسيوف على أشلائهم زجل

وراية العرْب تستعلي، ورايتهم

ممزق جانبيها العار والخجل. .

يا ابن الحسين تحيات نرددها

ما أشرق السبح، أو ما ابيضت الأصل

غامرت في الشرف الأعلى ففزت به

وجاذباك إليه الحب والأمل

ونلت في حومة الهيجاء ما طمحت

يوماً إلى مثله آباؤك الأول

جنات عدن إلى لقياك ظامئة

والسابقون لدار الخلد، والرسل

من لؤلؤ قصرك الثاوي على شرف

يرف في ساحته البشر، والجدل

ص: 45

والماء من ربوات الخلد يدفعه

لظله الأبد المذخور والأزل

والظل بالماء في الشطآن مقترن

والماء بالقصر دون الظل متصل

وللملائك تسبيح وهيمنة

كما ترنم شاد بالهوى زجل

فانعم بخلدك في أبهائه فرحاً

إن الخلود جزاء أيها البطل. . .

(الزقازيق)

أحمد مخيمر

ص: 46

‌الأدب والفن في أسبوع

جوائز فؤاد الأول:

كان يوم الأربعاء 28 إبريل الماضي يوم الذكرى الثانية عشرة لوفاة المغفور له الملك فؤاد الأول. وفي ذكرى فؤاد الأول احتفل بتوزيع جوائز فؤاد الأول في قاعة الاحتفالات الكبرى بجامعة فؤاد الأول، وهكذا اجتمعت كل هذه المعاني في هذا اليوم المشهود كما قال معالي وزير المعارف في كلمته التي افتتح بها الحفل. ثم أعقب معاليه معالي الأستاذ علي عبد الرزاق رئيس لجنة الفحص لجائزة الآداب، فمعالي الدكتور محمد بهي الدين بركات باشا رئيس لجنة الفحص لجائزة القانون، فسعادة الدكتور حسن صادق باشا رئيس لجنة الفحص لجائزة العلوم؛ وتحدث كل منهم عن أعمال لجنته وخصائص المؤلفات التي فاز أصحابها بالجوائز. وقد تضمنت كلمة رئيس لجنة الأدب أن اللجنة رأت نفسها إزاء كتب ثلاثة لم تستطيع أن تفاضل بينها لتختار منها اثنين لجائزتي سنة 1947 وسنة 1948 فقررت فوز كل من الثلاثة بجائزة كاملة.

وأعلن رئيس لجنة العلوم قرار اللجنة المتضمن إرجاء توزيع جائزتها إلى العام القادم.

والفائزون في الأدب هم - وفق ترتيب حروف الهجاء - الدكتور أحمد أمين بك، والأستاذ عباس محمود العقاد، والدكتور محمد حسين هيكل باشا. وقسمت جائزة القانون بين الدكتور حلمي بهجت بدري والدكتور محمود حسين أبو عافية.

الألفاظ والأساليب في المجمع اللغوي:

ألفت الألفاظ والأساليب، واختير الأستاذ أحمد أمين بك رئيسا لها والأستاذ على الجارم بك كاتب سرها، وحددت أغراضها بالبحث فيما يرد بالصحف والمؤلفات الحديثة، وما يجري على ألسنة المثقفين من ألفاظ وأساليب، لمعرفة الصحيح من غيره، وتعديل ما ليس بصحيح، ووضع بدلا مما لا يمكن تعديله؛ على أن تعرض ما ننتهي إليه على مجلس المجمع؛ ثم تذاع قراراته فيها بعد ذلك على الجمهور في الصحف.

وقد بحث اللجنة كثيراً من تلك الألفاظ والأساليب، وأعدت في اجتماعها الأخير قرارات في ستة عشر لفظا وأسلوبا، وعرضت على مجلس المجمع الذي شرع في مناقشتها بجلسة يوم الاثنين الماضي، وسيوالى النظر فيها في الجلسات التالية وستذاع عقب إقرارها. ومن

ص: 47

الألفاظ التي وافق عليها المجلس لفظ (مهرج) لمن يضحك الناس. وقد بنيت صحة هذا اللفظ على قرار سابق للمجمع يجيز تضعيف الثلاثي للتعدية والتكثير، والموجود في اللغة (هرج) ثلاثيا بمعنى خلط، فالمهرج هو الذي يخلط في كلامه لإضحاك الناس، وقد استحسن الدكتور طه حسين بك على إعداده، كل ما يعتمد من الألفاظ والأساليب التي تبحثها اللجنة.

الاستفتاء اللغوية:

ومن عمل لجنة الألفاظ والأساليب النظر فيما يرد على المجمع من استفتاءات لغوية وأسلوبية، وتتوالى الإجابة عليها، ثم ترسل هذه الإجابات إلى أصحابها.

ولعل من المفيد أن ينشر من هذه الإجابات ما يرى في نشره فائدة عامة، فأقترح على اللجنة أن تضم مثل هذا إلى الألفاظ والأساليب التي تذيعها.

وقد ردت اللجنة على ثمانية استفتاءات. ومن الطريف أن بعض هذه الاستفتاءات ورد من طبقات شعبية، وهي ظاهرة سارة لما تدل عليه من رغبة هذه الطبقات في استعمال الصحيح من اللغة، ومن ذلك استفتاء من رئيس نقابة عمال التنجيد، يسأل فيه عن كلمة (تنجيد) ليستعملوها في تسمية النقابة إن كانت صحيحة او يدلهم المجمع على صحيح بدلا منها إن لم تكن كذلك، فأرسل المجمع إليه بصحتها.

القصص الإنساني:

تنقل الأستاذ محمود تيمور بك في الأسبوع الماضي بين الجامعات الثلاث: جامعة فؤاد الأول بالقاهرة، وجامعة فاروق بالإسكندرية، والجامعة الشعبية بدمنهور، حيث ألقى محاضرات في (القصص الإنساني) وقد تضمنت هذه المحاضرات آراء شخصية للأستاذ المحاضر، بناها على تجاربه وممارسته لفن القصة فتجلت فيها أصالة البحث والتفكير، وكذلك تعرض في هذه المحاضرات للكثير من القضايا التي يتنازع فيها النقاد خاصة بالمذاهب الأدبية والفنية فقد ناقش الفكرة التي تنادى بتجنيد القصة للإصلاح الاجتماعي وتناول الأعمال الفنية للآراء والمشكلات القومية - مناقشة دقيقة خلص منها إلى القول بأن إجراء ذلك عبث بالفن، وأن الكاتب إن لم يكن حراً طليقاً فلا صدق في فنه، وأنه إذا كان

ص: 48

صادقا قوي الإلهام وستطاع أن بحس إحساسا عميقاً بمبدأ من المبادئ أو مشكلة من المشكلات، استطاع أن يعبر عنها في عمل فني يجد فيه المصلح الاجتماعي تأييداً لقضية الإصلاح أو تعزيزا لمبدأ من المبادئ. فأما أن يتكلف الكاتب معالجة إحدى هذه المشكلات أو يذعن لرغبة من الرغبات الخارجية في هذا الصدد، فإنه يكون متكلما كاذباً على نفسه وعلى الإلهام الفني.

وكان فيما تناولته المحاضرة حديث عن التاريخ بين العالم والفنان، وقد شرح الفرق بين موقف المؤرخ والقصاص من أحداث التاريخ ومشاهده، فقال إن العالم مضطرا أن يذعن للحقائق ويتحرى دقة الأرقام وصدق الوقائع، فأما الفنان فإنه يقرأ هذه الحقائق ويتمثلها، ثم يترك لوحيه الفني أن يلهمه صورة لا تكذب على التاريخ برسومها وأعلامها، ولكنها ليست ترجمة تاريخية مبنية على وقائع، ثم قال إن المؤرخ العالم قد يقرب من المؤرخ الفنان إذا اصطبغ أسلوبه وتصويره بصبغة فنية، وكذلك المؤرخ الفنان قد يقرب من المؤرخ العالم إذا التزم الدقة التاريخية جهد الإمكان، ولكن الذي لا شك فيه أن مهمة كل منهما تختلف عن مهمة الآخر وأن النظرة إلى كل منهما يجب أن تكون نظرة خاصة وأن تقدر عملهما على هذا الاعتبار.

وقد افاض المحاضر القول في مذهب ما وراء الواقع وأثره في القصة الفنية وفي الرسم والرقص والموسيقى، وقال إن هذا المذهب يستمد من العقل الباطن ويجب أن بكون له رقيب من العقل الواعي وإلا كان كالبركان يقذف بالحمم وكالعباب يطغى موجه إلى حد الإغراق.

وختم الأستاذ تيمور بك محاضرته بالإشارة إلى أن القصة الخالدة هي القصة التي يتوافر حظها من العناصر الإنسانية الثابتة بغرائزها وطبائعها، والتي لا تقتصر على جاذبية اللون المحلي والموضوعات الوقتية، والتي لا تعتمد على قضايا المنطق والحكمة ولا تؤثر الوعظ المباشر والنصح الظاهر والتأييد المكشوف للقضايا الاجتماعية. ثم ألمع إلى أن خير الطرق في تربية النشء بالقصة هو أن نضرب صفحا عن الأمثال والمواعظ الجامدة التي لا يحس الناشئ أثرها في واقع الحياة، وأن نستعيض عن ذلك بقصص إنسانية تربى في النشء فطنة وتبصراً بالحياة التي يعيشها فلا يعرف حين يمارس هذه الحياة أن أصحاب

ص: 49

الأمثال والمواعظ كانوا يتكلمون عن عالم لا صلة له به ولا وجود له في حياته.

الاتجاهات الاجتماعية في العالم العربي:

كان موضوع (الاتجاهات السياسية والاجتماعية الحاضرة في العالم العربي) أو بعبارة أدق كان استيفاء الكلام في هذا الموضوع، آخر حلقة في سلسلة (العالم كما هو اليوم) التي نظمها قسم الخدمة العامة في الجامعة الأميركية، فمنذ أسابيع تحدث فيه الأستاذ محمد صلاح الدين بك، وأوردنا خلاصة حديثه في حينه، وكان كله في الاتجاهات السياسية، أما الشق الثاني من المحاضرة وهو الاتجاهات الاجتماعية فقد ضاق عنه الوقت في المرة الأولى، فكان موضوع الحديث الذي ختمت به السلسلة في يوم الجمعة الماضي بقاعة يورت التذكارية.

قال إن الهدف الذي يرمى إليه العالم العربي الآن هو التمتع بالاستقلال والحرية، والتمتع بالحياة الدستورية الديمقراطية التي تقوم على سلطة الأمة، وتهدف إلى أن تحيا الأمة حياة إنسانية كريمة؛ والعالم الآن تسوده مبادئ اجتماعية، هي في نفس الوقت اقتصادية، يقصد بها تحقيق سعادة الناس؛ وهي الرأسمالية التي تمثلها أمريكا، والشيوعية التي تتمثل في روسيا، والاشتراكية كما طبقها الحكومة البريطانية، ومدار الخلاف بين هذه المبادئ على الإنتاج والتوزيع. فالرأسمالية تقوم على الحرية في السعي وترك ثمرات العمل لأصحاب الجهود، والمبدأ الشيوعي يجعل المجموع الذي تمثله الحكومة يملك كل شئ، وتوزع المنتجات على الجميع، ولكن هل تقسم بالمساواة المطلقة، أو على حسب الحاجة؟ الواقع أن ما يجري في البلاد الشيوعية يحجبه (الستار الحديدي) الذي يمنع تسرب الأخبار الحقيقية، على أنه يؤخذ مما يرد من الأخبار أن الملكية الآن في روسيا موجودة في غير أدوات الإنتاج، كالمنازل والأثاث، أما أدوات الإنتاج كالأراضي الزراعية والمصانع، فلا يملك الأفراد شيئا منها؛ وكل يأخذ على حسب جهده، ورجال الفكر وأهل الفنون هم أحسن الجميع حالا لكثرة مكاسبهم. وأما الاشتراكية المعتدلة فهي التي تطبقها الحكومة البريطانية وهي طبعا تقر الملكية الفردية، ولكن مبادئها تتمثل في تأميم بعض المرافق، أي تنظيم الحكومية له وقيامها عليه، وبقية المرافق يقوم بها الأفراد والشركات، كما تتمثل في رعاية الحكومة للطبقات الفقيرة وفرض الضرائب التصاعدية وغير ذلك.

ص: 50

وبعد أن أفاض المحاضر في شرح تلك المبادئ من الوجهة العملية وبيان ما يؤخذ على الرأسمالية وما تعاب به الشيوعية قال: تتسرب أخبار هذه المبادئ إلى مصر وإلى سائر البلاد العربية، فتشغل الأذهان بالتفكير في أيها يصلح أن يقوم عليه النظام الاجتماعي عندنا. وأسلم سبيل أن نسعى وراء أمر واحد، هو العدالة الاجتماعية، فنسعى لرفع مستوى الحياة عامة، وتحقيق العدل بين الطبقات، ونستطيع أن نضع خطوطا عامة لتحقيق العدالة الاجتماعية فيما يلي:

1 -

التخلص من السيطرة الأجنبية التي هي سبب ما نحن فيه من جهل وفقر ومرض.

2 -

تقريب مسافات الخلف بين الطبقات بمختلف الوسائل كالضرائب التصاعدية وتحسين أحوال الطبقات الفقيرة.

3 -

ضمان العمل لكل مواطن ورفع الأجور ووضع حد أدنى لها بحيث يكسب العامل ما يقوم بجميع حاجاته.

4 -

أن نعطى المواطنين فرصاً متساوية، وذلك بتميم التعليم والتداوي، بحيث يكون كل منهما ميسواً لكل فرد من أبناء الأمة.

5 -

الضمان الاجتماعي بجميع أنواعه، كالتأمين من العجز عن العمل والشيخوخة ورعاية من يتركهم المتوفى من الأولاد وغير ذلك.

وحذر في ختام الحاضرة من الاستجابة للدعوات الهدامة لما فيها من خطر التدخل الاستعماري، إلى مخالفتها للأديان ونظام الأسرة، وإلى ما تؤدى إليه من الحجر على الحرية العامة بالنسبة للأفراد، لأن الحكومة فيها هي صاحبة الحرية المطلقة؛ ودعا إلى التزام الحيدة في المبادئ الاجتماعية وفي السياسة العالمية.

تعقيب:

ومما يلاحظ أن المحاضرين الآخرين في الاتجاهات السياسية والاجتماعية في البلاد الغربية، كانوا يصفون الاتجاهات (الحاضرة) أما صلاح الدين بك فقد كان مجاله - كما رأيت - شرح المبادئ العالمية، وبيان ما يجب أن تكون الحال عليه عندنا؛ ويخيل إلي أنه عمد إلى ذلك فراراً من حوج الكلام في حالنا التي تبلغ غاية السوء، وماذا يقول؟ إن جميع تلك المبادئ تضع رفع مستوى المعيشة العام في مقدمة ما تعنى به، فأين نحن حتى من

ص: 51

الرأسمالية الأمريكية؟! ولو أن باحثا أراد أن يعرف المبدأ الاجتماعي الذي نسير عليه، لما وجد له غير اسم واحد، هو (الظلم الاجتماعي).

الشروق:

أصدر الأستاذ حسن كامل الصيرفي في الأسبوع الماضي ديوانه الجديد (الشروق) والأستاذ الصيرفي من رواد الشعر الحديث، له (سلوك شعري) خاص فهو لا يقول في المناسبات وقل أن يشترك في الحفلات، لا ينظم إلا بالدوافع الشعرية الخالصة، وهو يدع شعره يسير بنفسه فلا يدفعه بما يدفع به بعض الناس أشعارهم. وديوان الشروق من القليل الذي يثبت وجود الشعر في هذه الآونة.

العباسي

ص: 52

‌البريد الأدبي

معرض الرسام زهدي:

أقام الرسام زهدي معرضا في نادي الصحفيين هذا الأسبوع تحت رياسة الوزير العالم إبراهيم دسوقي أباظه باشا عرض فيه سلسلة من الرسوم تمثل الوقائع المتتابعة للتاريخ المصري والعوامل التي سيطرت على توجيهه منذ الحملة الفرنسية حتى نهاية حكم إسماعيل باشا، وليس هذا في الوقع بالعمل الهين، فإنه اتجاه يقتضي الدراسة والاستيعاب والاندماج الروحي في جو ذلك التاريخ حتى يمكن أن ينفعل إحساس الفنان بحقائقه واتجاهاته فيرسمها بريشته كأنها أجسام حية ناطقة تتمثل مشاهدها للنظر والفكر.

والتعبير عن الحقائق التاريخية بقلم المؤرخ أسهل بكثير من التعبير عنها بريشة الرسام، لأن المؤرخ يسرد لك الوقائع على ما تؤدى إليه المقدمات من نتائج، وتدل عليه الاتجاهات من حقائق، أما الرسام فإنه لابد أن يعرض عليك في هذا شيئا يستوقف النظر ويثير الإحساس ويوحي إلى الذهن، وهذا كله ما وفق إليه ذلك الرسام المصري المؤمن بفنه وبوطنه وبفكرته.

وحقائق التاريخ حين تظهر في معرض الفن تكون أروع مظهراً وأشد تأثيراً وأتقى على الزمن وأخلد، فإننا ما نزال نتغنى بحروب الإغريق ووقائعها التاريخية، لا كما دونها المؤرخون، بل كما أنشدها في القديم شاعر ضرير اسمه هوميروس.

لهذا كان اتجاه الرسام زهدي إلى تصوير حقائق التاريخ المصري ووقائعه في فترة من فترات التطور أجل خدمة نحو قوميتنا ونحو تاريخنا يؤديها الفن، ولقد تجلت في رسومه دراسة المؤرخ وتمحيصه للحقائق، إلى جانب ما تجلى من روعة الفن وبراعته، وإن من الواجب على وزارة المعارف أن تضع يدها على هذه الرسوم التي تمثل تاريخنا الحديث أروع تمثيل، فتضعه في ما قصد إليه ذلك الفنان البارع من خدمة التاريخ المصري والقومية المصرية.

لو أن فنانا أجنبيا عرض على وزارة المعارف مثل هذا العمل لوقفت أمامه خاشعة وقامت له مهللة، ويفتح في الميزانية اعتماد ضخم لإخراجه. . . ولكنه اليوم عمل فنان مصري صميم كأروع ما يجب أن يكون، فهل آن لنا أن نؤمن بالنبوغ. المصري فنؤازره وننتفع

ص: 53

به؟

محمد فهمي عبد اللطيف

النحو الجديد:

أخرجت دار الفكر العربي في هذه الأيام كتاب النحو الجديد للأستاذ عبد المتعال الصعيدي، فكان فتحا جديداً في باب التجديد، لأنه قلب نحو سيبويه رأسا على عقب، وأصابه في الصميم من أصوله وفروعه، ودل بهذا على أن دعاية التجديد بيننا ليست جمجمة لا طحن لها، وإنما هي حركة ستتناول الصميم من علومنا، وستعيدنا علماء نجتهد كما كان يجتهد ويجدد علماؤنا الأولون، ولا شك أن جمود علومنا القديمة هو الذي يقعد بنا جميعا عن النهوض، لأن التكاسل يعدي، كما قال الشاعر:

تثاءب عمرو إذ تثاءب خالدُّ

بعدوى فما أعدتني الثؤباء

لقد ابتدأ كتاب النحو الجديد بدراسة محاولات التجديد الحديثة في قواعد النحو، فدرس المحاولة الأولى للأستاذ إبراهيم مصطفى في كتاب أحباء النحو، وفي رد الأستاذ محمد عرفة عليه في كتاب النحو والنحاة بين الأزهر والجامعة، ثم درس المحاولة الثانية في تقرير اللجنة التي ألفتها وزارة المعارف لتيسير تدريس قواعد اللغة العربية. وفي تقرير اللجنة التي ألفت بدار العلوم للرد عليها، ثم درس المحاولة الثالثة للمؤلف في تيسير قواعد الإعراب بمجلة الرسالة سنة 1938م، ثم درس المحاولة الرابعة للأستاذ أمين الخولي في تذليل اضطراب الإعراب والقواعد، ثم درس المحاولة الخامسة للأستاذ شوقي ضيف في إلغاء نظرية العامل لابن مضاء القرطبي في كتاب الرد على النحاة

ثم ختم هذه الدراسة التي تسجل أعظم ثورة على نحو سيبويه بوضع آجرومية جديدة للنحو، وهي آجرومية تراعي غاية النحو الكبرى من تمثيل الإعراب لمعاني الجمل العربية، وقد حذفت على هذا الأساس كل حشو في النحو، كباب البناء وباب الاشتغال، ثم أضافت أبوابا منه إلى أبواب، لأن التفرقة بينها تخرج بالنحو عن غايته من تمثيل الإعراب للمعاني، وقد حققت مع هذا ما أرادته وزارة المعارف من تيسير قواعد الإعراب

(ص)

ص: 54

‌رسالة النقد

(طفولة نهر)

لنزار قباني

للأستاذ أنور المعداوي

نزار قباني؟. . أين كان هذا الشاعر وأين كنت؟! ما أكثر ما يقع في يدي من دواوين الشعر في هذه الأيام، فلا أكاد أقبل عليها حتى أعرض عنها. . إلا هذا الديون! لقد لقيت صاحبه منذ شهر لأول مرة، وأسمعني بعض شعره لأول مرة، ولم أنشأ يومئذ أن أقطع برأي في فنه خشية أن يكون قد قدم إلى خير قصائده. . أما الآن، فأستطيع وأنا مطمئن أن أقدم هذا الشعر إلى الناس. . وأن أقدم صاحبه. وقبل أن أضع هذه المجموعة الشعرية فوق مشرحة النقد، أقول إنها تثير مشكلة طال حولها الجدل وسوف يطول، ما دام هناك أناس ينشدون الفن للفن، وأناس ينشدون الفن للمجتمع. أما أولئك فهم الذين يفهمون الفن وأصوله، وعلى أي الدعائم يجب أن تقام. وأما هؤلاء فلا يريدون للفن إلا أن يسير في ركاب المجتمع ولو تنفس برئتين صناعتين، غافلين عن أن رسالة الفن ما هي إلا صدق التعبير عن الحياة، التعبير عما فيها من جمال وقبيح من تناسق وشذوذ، من خير وشر، من حرية وقيود! سيقول من لا يفهمون رسالة الفن إن (طفولة نهر) ما هو إلا صلوات فكر في محراب الجسد، أو صلوات روح، أو صلوات شعور. . وسأقول أنا إنه صلوات فن؛ وحين يرتفع صوت الفن بالصلاة يجب أن تخمد كل الأصوات! أن الدفاع هنا ليس دفاعاً عن صاحب هذا الشعر ولكنه دفاع عن الفن. . أن الفن الصادق لا يعرف القيود، ويوم يتشح الفن بغلالة واحدة من غلائل النفاق الاجتماعي فقل إنه قد انحرف عن الجوهر الأصيل في رسالته، وهو أن يعبر عن الحياة فيصدق في التعبير!. . عش في أعماق الحياة، واستخدم كل حواسك في تذوق هذه الأعماق فإذا استطعت أن تعبر في صدق عن انعكاس الحياة على حواسك ووقعها على شعورك فقد أنتجت فنا؛ وبهذا المقياس نستطيع أن ننظر إلى (طفولة نهر) إلى كل أثر فني تبدعه القريحة! لقد كنت أود أن أطيل الدفاع عن رسالة الفن، ولكن الشاعر سبقني فدافع عن شعره في كلمات صادقة حين قال: (الشعر يحيط

ص: 56

بالوجود كله. . وينطلق في كل الاتجاهات فترسم ريشته المليح والقبيح، وتتناول المترف والمبتذل، والرفيع والوضيع. . ويخطئ الذين يظنون أنه خط صاعد دائما، لأن الدعوة إلى الفضيلة ليست مهمة الفن، بل مهمة الأدباء وعلم الأخلاق. . وأنا أؤمن بجمال القبح، ولذة الألم، وطهارة الإثم، وهي كلها أشياء صحيحة في نظر الفنان. يقول كروتشه في نقد المذهب الأخلاقي في الفن: إن العمل الفني لا يمكن أن يكون فعلا نفعيا يتجه إلى بلوغ لذة أو استعباد ألم، لأن الفن من حيث هو فن لا شأن له بالمنفعة. وقد لوحظ من قديم الأزمان أن الفن ليس ناشئا عن الإرادة، ولئن كانت الإرادة قوام الإنسان الخير فليست قوام الإنسان الفنان؛ فقد تعبر الصور عن فعل يحمد أو يذم من الناحية الخلقية، ولكن الصورة من حيث هي صورة لا يمكن أن تحمد أو تذم من الناحية الأخلاقية؛ لأنه ليس ثمة حكم أخلاقي يمكن أن يصدر عن إنسان عاقل ويكون موضوعة صورة. إن الفنان فنان لا أكثر، أي إنسان يحب ويعبر. ليس الفنان من حيث هو فنان عالما، ولا فيلسوفاً، ولا أخلاقيا. وقد تنصب عليه صفة التخلق من حيث هو إنسان، أما من حيث هو فنان خلاق فلا نستطيع أن نطلب إليه إلا شيئا واحدا هو التكافؤ التام بين ما ينتج، وما يشعر به)

لقد وفق نزار قباني في عرض قضية الفن في هذه الكلمات الصادقة التي تخيرتها من كثير. وحين استشهد برأي كروتشه، وهو رأي يقطع خط الرجعة على الرجعيين. . وحين نفد إلى مكامن الهدف بهذه الإصابة البارعة في قوله: (ولو صح لنا أن نقبل ما زعمته المدرسة الأخلاقية في الفن لمات الفن مختنقا بأبخرة المعابد. . ولوجب أن نحطم كل التماثيل العارية التي نحتها ميشيل أنجل، والصور البارعة التي رسمها رفائيل، لأنها إثم يجب ألا تقع عليه العين؛ ولو ذهبنا مع أشياع هذه المدرسة إلى حيث يريدون، لوجب أن نخرج من حظيرة الشعر الجيد قصيدة النابغة التي قالها في زوجة النعمان سقط النصيف ولم ترد إسقاطه=فتناولته واتقتنا باليد

ولكان علينا أن نعلن النابغة، ونعتبره ضالا لا يستحق أن تقرأ سيرته وأشعاره!)

أنا مع نزار قباني ولو وقفت وحدي إلى جانبه، وسأصغي إليه بكل جوارحي حين يهمس في قصيدته (حلمة):

يا حرف نار سابحاً

في بركتي عطور

ص: 57

يا كلمة مهموسة

مكتوبة بنور

سمراء، بل حمراء، بل

لوَّنها شعوري

أم قبلة تجمدت

في نهدك الصغير

مظلة شقراء فوق

قسوة الهجير

إبريق وهج عالق

بهضبتي سرور

أم أنت شباك هوى

مطرز الستور

فراشة محروقة الجنح على غدير

دافئة كأنها. .

مرتْ على ضميري

هكذا تمضي أوزانه وقوافيه، متفقة والجو الذي يتنفس فيه شعره، جو الأوزان القصيرة والقوافي الراقصة، أما الصورة الوصفية فتستمد بذورها من خصوبة الحقل الشعري واتساع مداه. . ومن هنا تستمد الوثبة الشعرية قوتها من وثبتين أخريين، هما الوثبة الشعورية والوثبة الموسيقية.

تعال نستمع له مرة أخرى في قصيدته (وشوشة):

في ثغرها ابتهال

يهمس لي تعال

إلى انعتاق أزرق

حدوده المحال

نشرد تياري شذا

لم يخفقا ببال

لا تستحي فالورد في

طريقنا تلال

ما دمت لي مالي وما

قيل وما يقال!

وشوشة كريمة

سخية الظلال

ورغبة مبحوحة

أرى لها خيال

على فم يجوع في

عروقه السؤال

هنا ظلال من النفس تلتقي بظلال من الحياة، وبضوء من هنا وضوء من هناك يتم العمل الفني، مستمداً خطوطه من التجربة الشعورية؛ من وقدة العاطفة واشتعال الوجدان. . أرأيت إلى الرغبة المبحوحة؟ الرغبة التي تتنزى فلا تقوى على الانطلاق؟ الرغبة التي تريد أن تهتك حجب الصمت ولكنها بحت من التردد والتهيب والإحجام؟ الرغبة التي لم يبق منها

ص: 58

على الفم والإخيال يلوح ثم يختفي؟ وأي قم؟ فم يجوع السؤال في عروقه. . ولا يبوح!

ويحلق الفكر في آفاق من رهبة الفناء، وتهوم الروح في أودية النسيان التي يبلى فيها كل جديد، ولكنها تهويمات لا تخلو من يقظة تومض تحت الرماد، وتلتمس العزاء في خدعة الخلود. . وتكتمل الألوان في الصورة المنتزعة من معرض الحياة. ما الإطار فمن صنع الخيال السابح وراء الوهم، المتشوق إلى ارتياد المجهول، وتمضي التجربة الشعورية إلى منتهاها حين يقول في قصيدته (سؤال):

تقول: حبيبي إذا ما نموت

ويدرج في الأرض جثماننا

إلى أي شئ يصير هوانا

أيبلى كما هي أجسادنا؟

أيتلف هذا البريق العجيب

كما سوف تتلف أعضاؤنا؟

إذا كان للحب هذا المصير

فقد ضيعت فيه وأوقاتنا!

أحببت ومن قال أنا نموت

وتنأى عن الأرض أشباحنا؟

سنحيا. . وحين يعود الربيع

يعود شذانا وأوراقنا

إذا يذكر الورد في مجلس

مع الورد. . تسرد أخبارنا!

وحين يطول الانتظار، ويعصف القلق بجمال الرؤى والطيوف ويتوثب الشوق الملح إلى القادم الممعن في إبطائه، تكون النفس الإنسانية في ارتقابها ولهفتها قد أنكرت كل شئ، وكفرت بكل شئ. . استمع له يصف لحظة انتظار:

جعت وجاع المنحدر

ولا أزال أنتظر

أنا هنا وحدي على

شرق رمادي الستر

مستلقياً على الذرى

تلهث في رأسي الفكر

وأرقب النوافذ الزرق

على شوق كفر

هل أحسست الفكر حين يلهث، والشوق حين يكفر؟! وحين يقبل الحبيب الغائب، تقبل معه الدنيا، وتقبل الذكريات تشق طريقها من وراء الزمن. . ويقبل الصبا بجنونه وأحلامه وأوهامه:

قالت صباح الورد. .

هذا أنت صاحب الصفر

ألا تزال مثلما

كنت غلاماً ذا خطر؟

ص: 59

تجعلني على الثرى

لعباً. . وتقطيع شعر

فإن نهضنا كان في

وجوهنا ألف أثر!

فلت لها الله ما

أكرمها تلك الذكر!

أيام كنا كالعصافير. . غناء وسمر

نسابق الفراشة البيضاء. . . ثم ننتصر

ونكسر النجوم ذرات. . . ونحصي ما انكسر

فيستحيل حولنا الغروب شلال صور. . .

حكاية نحن. . فعند كل وردة خبر

إن مرة سئلت، قولي: نحن دورنا القمر!

هنا وفي كثير من القصائد الأخرى لنزار قباني، تلمس أن اكتمال الوحدة الفنية مرجعه إلى تسلل التجربة الشعورية، وتناسق الظلال المنعكسة من النفس والحياة.

وأود أن ألفت النظر إلى أن هذا الشاعر يصوغ معانيه أحيانا في ألفاظ قد تبدو لأصحاب المدرسة المادية في التعبير وكأنها قد استخدمت في غير مواضعها؛ وهي تبدو لهم كذلك لأنهم يعيشون في رحاب الظلال المادية للألفاظ، ولو عاشوا في رحاب ظلالها النفسية لوجدوا كل شئ في موضعه من الشعر، لأنه في موضعه من الشعور. . . إن الشعر ما هو إلا ترجمة صادقة للشعور الصادق، فلا ضير من أن يستخدم فيه اللفظ الذي تتفق ظلاله وظلال النفس، وتنسق إيحاءاته مع منطق الإحساس! ومهما يكن من أمر فإن لمشكلة الظلال النفسية والمادية في اللفظ قضية شغلت القدماء كما شغلت المحدثين، وهي قضية سنعرض لها في مقال تتناول فيه بالنقد أصحاب المدرسة المادية في التعبير قديما وحديثا أولئك الذين لا ينظرون إلى الألفاظ إلا من خلال هياكلها العظيمة! كل ما آخذه على صاحب (طفولة نهد)، هو تلك القوالب النثرية التي يصب فيها شعره أحيانا، وما يرد في بعض أبياته من ألفاظ ابتذلت من كثرة الاستعمال، مما يعصف بجمال القالب الشعري، ويذهب بأثر الإيقاع الموسيقي. استمع له مثلا في هذين البيتين:

ما دمت لي سر المساء معي

وهذه الأقمار أقماري

وأنجم المساء لي مئزر

وفوق جفن الشرق مشواري

ص: 60

إن كلمة (مشواري) هنا كلمة سوقية لا تتفق أبدا وهذا الجو الشعري الذي عاشت فيه، ولو وردت في النثر لما استسغتها، فما بالك بالشعر؟

واستمع له مرة أخرى في هذين البيتين:

هو الدفء لا تذعري إن رأيت قميصك نهب تدفع قمه

فما عدت يا طفلتي طفلة

سيهمي الشتاء غيمه بعد غيمه

نهب تدفع قمة؟!. . . إضافتان ثقيلتان على السمع، لا تكاد تطيقها الأذن العادية، فما بالك بالأذن الموسيقية! ألا تحس هنا أن القالب قد بدأ أقرب إلى النثر منه إلى الشعر؟

واستمع له مرة ثالثة في هذين البيتين:

لغي تحارير الهوى وأمضى

أنا في السحاب وأنت في الأرض

غوري مع الشيطان لا أسف

ولتبتلعك زوابع البغض

لست أدري كيف تحتمل الصياغة الشعرية كلمة (غوري) هذه. . لقد اهتز صرح الجمال الفني في البيتين تحت وطأة هذه الكلمة!

مآخذ قليلة كنت أرجو أن يخلو منها هذا الديوان، ومهما يكن من أمر فإنها لا تمنعني من القول بأن نزار قباني شاعر. . .

وشاعر موهوب.

أنور المعداوي

ص: 61