الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 775
- بتاريخ: 10 - 05 - 1948
في مذاهب الأدب
للأستاذ عباس محمود العقاد
قد يغني التمثيل حيث لا يغني الدليل، ولاسيما في تلك المسائل التي تتفق فيها الآراء ولا يقع الخلاف عليها في الحقيقة إلا لاختلاف الأسماء.
ومن هذا القبيل مسألة الحكم على المذهب الرمزي بيني وبين الكاتب الألمعي الأستاذ فريد بك أبو حديد.
فقد سألني مندوب (الزمان) عن هذا المذهب فقلت له: إن كلمة الأدب الرمزي كلمة سخيفة؛ لأن الأدب قبل كل شيء إفصاح، فمن عجز عن الإفصاح فأولى أن يترك الأدب. ومن كان لا يتكلم إلا بالرموز فخير له أن يخترع له لغة أخرى غير هذه التي تواضع الناس على التفاهم بها. وليخترع إن استطاع نوعاً من الهيرغليفية القديمة تغني فيها الصور والإشارات عن الحروف والكلمات).
ووجه المندوب هذا السؤال إلى زميلنا الأستاذ أبي حديد بك فقال: (لا أوافق الأستاذ العقاد فيما ذهب إليه بخصوص الأدب الرمزي؛ فإن كان هذا الأخير من نوع بيجماليون لبرناردشو، وأهل الكهف لتوفيق الحكيم، وتاييس لأناتول فرانس، فانه يعد من أسمى أنواع الأدب. ولعل اختلاف الرأي بين العقاد وبيني يرجع إلى أن الصورة التي في ذهني عن الأدب الرمزي قد تغاير تلك الصورة التي في ذهن العقاد عنه).
وهكذا أفاد تمثيل الأستاذ فريد للأدب الرمزي المقبول عنده في التقريب - بل في التوحيد - بين القولين.
فكل هذه الروايات التي تعجب الأستاذ تعجبني، وترتقي عندي إلى المرتبة الأولى من فن المسرح والرواية.
ولكني لا أحسبها من أدب (المذهب الرمزي) الذي تكثر الدعوة إليه بين الفرنسيين خاصة في هذه السنوات الأخيرة، لأنها لا تعمي ولا تتعمد التلبيس، ولكنها من أصرح ما يقرأه القارئون
وإذا توسعنا في التعبير فهي عندي من الرمز السائغ وليست من الرمز الممنوع.
لأنني - حين أجبت عن ذلك السؤال - عنيت الرمز الذي يلجأ إليه الكاتب عمداً وله
مندوحة من الإفصاح، أو عنيت الرمز الذي يهرب من النور وليست له معذرة في الهرب منه.
أما الرمز على إطلاقه فليس هو بممنوع ولا مستهجن، وقد بينت أنواعه في مقال بمجلة الكتاب نشر في أول السنة الماضية فقلت فيه بعنوان (مسوغات الرمزية)!
(إن التعبير بالرموز عادة قديمة في تعبير الإنسان، بل عادة قديمة في بديهة الإنسان. فالحالم مثلا يعبر في منامه عن شعور الضيق أو الخوف بقصة رمزية. . والكاتب الذي لم يعرف الحروف الأبجدية يرمز إلى المعاني بالشخوص والرسوم. وكهان الديانات يرمزون ويعمدون كثيراً إلى الكنايات والألغاز. . . والنساك المتصوفون يرمزون لأنهم لا يستوضحون المعاني الغامضة التي تجيش بها نفوسهم في حالة كحالة الغيبوبة. . . وكان بعض الدول يقهر الرعية على عقيدة لا يدينون بها وقد يدينون بغيرها، فيشيرون إلى عقائدهم برموز يفهمونها. . . وقد يكون الرمز اختصاراً لعبارة مفهومة أو صورة ظاهرة. . . فالرمز شيء مألوف في تعبير الإنسان وفي طبيعة الإنسان، ولكنه مألوف على حالة واحدة لا تخلو منها معرض الرمز والكناية، وهي حالة الاضطرار والعجز عن الإفصاح. . . فإذا لوحظت هذه الحالة فالمز أسلوب متفق عليه لا يحتاج إلى مدرسة تنبه الأذهان إليه. فالخيالي لا يستشير مدرسة من المدارس لتشير عليه أن يحلم بالصور والتشبيهات. . . والشاعر لا يعاب إذا مثل لنا الكواكب والأزهار فألبسها ثياب الأحياء. ومن ضاق به اللفظ فعمد إلى التعليل والتشبيه فالناس لا يحسبونه من هذه المدرسة أو تلك؛ لأن المدرسة التي يصدر عنها في هذه الحالة هي مدرسة البديهة الإنسانية حيث كان الإنسان.
هذه الرموز الطبيعية هي الرموز التي نعجب بها كما يعجب بها الأستاذ فريد.
أما الرموز التي وصفناها بالسخف فهي تلك الرموز الملفقة في غير حاجة ولغير علة، إلا ذلك الهراء الذي يتحدثون فيه عن (اللاوعي). . . و (اللاشعور)، ويقولون إنهم يعبرون به عما لا يعيه العقل ولا يحيط به الحس الظاهر، وهي جهالة منهم يسوقهم إليها أن الكلام عن (اللاوعي) وعن (اللاشعور) شيء جديد، وكأنهم يحسبون أن الإنسان قد خلق مجرداً من هذا (الوعي الباطن) أو هذا الشعور الذي لا يعي نفسه قبل أن يتكلم عنه النفسانيون المعاصرون.
والواقع أن (اللاوعي) قديم في الإنسان، وأنه قد صدر عنه في تخيله وتفكيره قبل أن نطلق عليه هذه الأسماء، وإذا كان المعاصرون قد كشفوه أو أطلقوا عليه الأسماء فذلك أدعى إلى كشفه وتوضيحه، لا إلى طغيانه على العقل والحس وإلغاء هذا وذاك كأنهما معطلان في تعبير الإنسان وتفكيره، عاجزان عن الإبانة والأداء.
فالتعمية المقصودة لغير علة هي الرمزية السخيفة التي ننكرها ولا نسيغها، وهي وليدة التشدق بالمبتدعات الحديثة في مذاهب علم النفس عن غير فهم ولا تمييز بين ما هو حديث في الكشوف العلمية وما هو حديث في طبيعة الإنسان.
إن الكلام الحديث عن طبيعة العقل كالكلام الحديث عن طبيعة النظر أو حقائق النور والإضاءة، ونحن لا نغير نظرنا إلى الأشياء لأننا عرفنا عن دقائق العين ما لم نكن نعرف، وكذلك لا نغير شعورنا بالدنيا لأن علماء النفس أطلقوا على الملكات النفسية فينا أسماء لم يعرفها الأقدمون.
ولكن هذه الطائفة التي تسمى نفسها بالمدرسة الرمزية تظن أننا قد خلقنا خلقاً جديداً بعد ظهور تلك المصطلحات على الألسنة فتلغي ما كان من تفكير وتعبير لغير سبب، وتتعمد أساليب التعمية لأنها سمعت أن الوعي الباطن غير الوعي الظاهر، وهما في الحقيقة قد كانا كذلك منذ أول الزمان.
فليكن في الأدب (رامزون)، لأن الرمز أقرب إلى التوضيح والتأثير.
أما الرامز الذي تظهر له الحقائق فيضع يديه على عينيه لكي لا يراها، فهو لا يرينا شيئاً قط يستحق أن نراه.
وقد سألني مندوب الزمان أيضاً عن كلية الآداب، فقلت له إن هذه الكلية لم تخرج أديباً واحداً منذ نشأت، وأن الشبان الذين نبغوا منها في الأدب قد نبغوا بجهودهم وملكاتهم علىالرغم من سوء التعلمي هناك، وقيامها في الغالب على قواد الانتفاع وحب الظهور.
وسئل الأستاذ أبو حديد فقال: (أوافقه بتحفظ. وهذا التحفظ يرجع إلى أن الجامعة المصرية وليدة ربع قرن فلا ننتظر منها بعد ما ننتظره في ربع قرن آخر، وأملي أن تكون النتيجة طيبة).
ولست أريد أن أخالف الأستاذ في هذا التحفظ إلا بما يرضيه ويرضي الحقيقة.
فالأستاذ أبو حديد من خريجي مدرسة المعلمين العليا، وهذه المدرسة قد أنشئت لتخريج المعلمين ولم تنشأ خاصة لتخريج الأدباء.
ولكنها - مع هذا - لم تنقض عليها سنوات حتى أخرجت للعربية أدباء من طراز محمد السباعي وعبد الرحمن شكري وإبراهيم المازني ومحمد جلال وكامل سليم وأحمد زكي والعبادي وعوض محمد وفريد أبي حديد ومحمد بدران.
فالمسألة إذن مسألة البيئة والاستعداد لا مسألة الزمن الطويل أو القصير.
ولا فضل لمدرسة ننتظرها خمسين سنة لتخرج لنا أديباً أو جملة أدباء؛ فإن تعليم المدرسة برنامج محدود السنوات، وليست هي أمة تتولد فيها الأجيال وتحسب أطوارها بالعشرات من السنين.
وإذا تم برنامج بعد برنامج ولم نشعر لتمامه بأثر في النهضة الأدبية فذلك هو الإفلاس بعينه، أو ذلك هو الدليل على أن الأديب الذي يخرجه لنا نصف قرن من الزمان هو وليد الأمة في تطورها وليس وليد المدرسة التي كان ينبغي أن تعطيه ثمرتها في بضع سنوات.
حقق الله أمل الأستاذ في النتيجة الطيبة، ولكن قبل خمس وعشرين سنة إن شاء الله. . .!
عباس محمود العقاد
2 - عبد الله بن سبأ
للدكتور جواد علي
وجاء في تأريخ الطبري: (كان عبد الله بن سبأ يهودياً من أهل صنعاء أمه سوداء). واكتفى في مواضع أخرى من تأريخه (بابن السوداء) وفي العبارة الأولى شرح لكلمة (ابن السوداء) ويدل ما ذكره الطبري على أن أم عبد الله كانت سوداء اللون وأنها كانت قريبة من الزنوج أو من أصل زنجي قريب أو بعيد، وأن أباه كان من اليمن وإن كنا لا نعرف اسمه كما لا نعرف اسم أمه، وأنه كان يهودياً إلى أيام عثمان.
وفي البيان والتبيين) حديث جاء في بعض فقراته (فلقيني ابن السوداء وهو ابن حرب) ولست في شك من أنه يقصد (بابن السوداء) عبد الله بن سبأ الذي يتحدث عنه أصحاب كتب الفرق، لأن المقالة المنسوبة إلى هذا الرجل هي نفس المقالة التي ينسبها الرواة الآخرون إلى عبد الله بن سبأ، كما يذكر مؤرخون ورواة أن (ابن سبأ) هو (ابن السوداء) فهل عرف الجاحظ ذلك، أن أنه قصد شخصاً آخر؟ على كل حال فالمهم في الرواية أنه نص على اسم والد (ابن السوداء) فدعاه (حرباً) ولكن أي (حرب) هو؟ فهنالك مئآت من الأشخاص عرفوا بحرب. ثم من كان والد حرب؟ ومن أي قبيلة كان؟ ذلك ما لم يتحدث عنه الجاحظ ولا غير الجاحظ من الكتاب أو الرُّواة أو المؤرخين. وقد فرَّق بعض الرُّواة بين (عبد الله بن السوداء) و (عبد الله بن سبأ) فجعلوا كل واحد منهما شخصاً، ومن هؤلاء ابن عبد ربه، والبغدادي، ومن أخذ عنه مثل الاسفرائيني. ويعتقد المستشرق (إسرائيل فريد لندر) أن هذا التفريق الذي جاء في كتاب (البغدادي) سببه الرواية المنسوبة إلى الشعبي ونصها:(وقد ذكر الشعبي أن عبد الله ابن السوداء كان يُعين على قولها. وكان ابن السوداء في الأصل يهودياً من أهل الحيرة فأظهر الإسلام وأراد أن يكون له عند أهل الكوفة سوق ورياسة فذكر لهم أنه وجد في التوراة أن لكل نبي وصياً إلى آخر الرواية، وكان قد ذكر قبل لك اسم (عبد الله بن سبأ) فحدث هذا الاختلاف ولكنه كان يقصد في الواقع شخصاً واحداً لا شخصين
ويظهر مثل هذا الاختلاف ولكن بصورة أخرى في موضع من كتاب (العقد الفريد) للفقيه أحمد بن محمد بن عبد ربه الأندلسي المتوفي سنة 328 للهجرة. في الموضع الذي ذكر فيه
رواية مفصلة للشعبي عن (الرافضة) - وأكثر الروايات اليت تتعرض لبحث الرافضة هي من روايات الشعبي - جاء فيها (وقد حرقهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالنار، ونفاهم إلى المدائن: منهم عبد الله بن سبأ، نفاه إلى ساباط، وعبد الله ابن السَّبَّاب، نفاه إلى الحاذر، وابن كروَّس). فذكر الشعبي في رواياته هذه اسم شخصين: (عبد الله بن سبأ) و (عبد الله بن السباب) والذي يطالع هذا الموضع يتصور أنه الثاني من زعماء الغلاة في حب علي بن أبي طالب، وأنه كان من حزب عبد الله بن سبأ، وأن اسم والده هو السباب)
ولكن إذا ما درسنا كتب الفرق وجدنا أنها تسمى أتباع عبد الله بن سبأ (السبائية) كما تسميهم (السبابية) في ذات الوقت. جاء في كتاب البغدادي (الفرق بين الفرق)(الفصل الأول من فصول هذا الباب، في ذكر قول السبابية، وبيان خروجها عن ملة الإسلام. السبابية أتباع عبد الله بن سبأ الخ) وقد تكرر ورود هذه التسمية في كتب أخرى. وأرى أنها لم تأت عن اشتباه أو عن خطأ في الكتابة، بل جاءت من سبَّهم الخلفاء. وقد ظهر السبُّ بيهم على ما يظهر قبل أيام عثمان. ولما جاء الإمام إلى العراق أنكر عليهم ذلك. وظلت فرقة منه ماضية في سبها. كما سبَّ الخوارج سائر الصحابة ممن اشترك في الحوادث السياسية منذ عهد عثمان فما بعد. والظاهر أن القدماء كانو يطلقون على تلك الجماعة (السبابية) وعلى الوالد منهم (السبابي) نسبة إليه تمييزاً لهم عن الفرق الأخرى التي ظهرت بعد وفاة الرسول، كالذي رواه أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري المتوفي سنة 276 للهجرة في كتابه (عيون الأخبار) عن المغيرة من أنه كان (سبابياً) وأنه كان من الغلاة
وكان (المغيرة) وهو الغيرة بن سعد مولى لبجيلة من السبابين. وقد أصلح جماعة من المحققين والناشرين المخطوطات القديمة واستبدلوا (بالسبابية) السبائية و (بسبابي) سبائي لشيوع (السبائية) وشهرتها. ورد في النسخة الخطية (لعيون الأخبار)(وأما المغيرة فكان مولى لبجيلة وكان سبابياً وصاحب نير نجات) فاستبدل محقق هذا الكتاب بكلمة (سبابياً) كلمة (سبائياً) أي من السبائية (أتباع عبد الله بن سبأ. وقد اعتمد في ترجيحه هذه الكلمة على ما جاء في مفاتيح العلوم للخوارزمي وعلى ما جاء في العقد الفريد وفي القاموس
كما استبدل السيد سعيد العريان محقق (العقد الفريد)(بعبد الله بن السباب) عبد الله بن
السوداء. ومعنى هذا أن عبد الله بن السوداء شخص آخر غير عبد الله بن سبأ كما جاء ذلك لدى البغدادي. وأعتقد أنه لا داعي إلى هذا التبديل فلعل (ابن السباب) من (السبابية) وهي إحدى المصطلحات القديمة التي كانت تطلق على الجماعة التي كانت تسبُّ قسماً من الصحابة. وعلى كل فنحن لا نعرف أي شيء عن هذا الشخص الذي سماه الرواة (عبد الله بن السباب) ولا عن الشخص الآخر الذي سمَّاه صاحب العقد الفريد (ابن كروّس)
ويذهب أكثر الرُّواة إلى أن (عبد الله بن سبأ) هو من أهل اليمن. وقال بعضهم أنه من حمير؛ ولذلك قيل له (الحميري) وقد عرف (كعب الأحبار) وهو يهدي مسلم بالحميري كذلك؛ غير أننا لا نستطيع أن نقطع بأنه كان من حمير أي من صميم (حمير) فيجوز أن يكون من المنتسبين إليها بالولاء. وهنالك رجل آخر له شهرة في التأريخ قيل عنه أيضاً إنه كان يهودياً أو من أصل يهودي، هو (وهب بن منبه) ثم أسلم أو أسلم أهله. وقد ميز عن صاحبيه بلقب هو (الأبنوي) ويعني هذا اللقب أنه كان من (الأبناء) أي من أبناء جنود الفرس الذين كانوا قد جاءوا إلى اليمن قبل الإسلام لطرد الأحباش. وزعم الطبري في تأريخه أنه كان من أهل صنعاء أما الشعبي فقد ذهب إلى أن عبد الله بن السوداء كان من أهل الحيرة. ونحن لا نستطيع رفض رواية الطبري كما لا نستطيع قبولها. ولا نستطيع أيضاً تصديق رواية الشعبي ولا تكذيبها. حتى أننا إذا ما أخذنا بالرواية الثانية فإنها لا تتعارض مع الرواية الأولى إذ يجوز أن يكون من أصل يماني هاجر إلى الحيرة في العراق. كما أن من الجائز أن يكون اسم (سبأ) هو الذي أوحى إلى الرواة بهذه القصة قصة موطن (عبد الله) وانتسابه إلى اليمن ومن اليمن في صنعاء.
وأستطيع أن أقول وأؤكد أن اشتهار (عبد الله) بابن السوداء لم تكن شهرة تسره، كما لم تكن شهرة تسر أتباعه إن كان له أتباع حقاً. وقد استعملت هذه الكلمة دوماً للتحقير والازدراء. وقد عير بها (عمار بن ياسر) حينما تجاسر وتطاول على الخليفة عثمان بن عفان فكان من جملة ما قاله الخليفة (ويلي على ابن السوداء! لقد كنت به عليما) وقد عير بها (المقداد ابن الأسود) فقيل له (يا ابن السوداء). ولما غضب أبو ذر الغفاري على كعب الأحبار قال له (يا ابن اليهودية) و (يا ابن السوداء).
ويكاد يكون في حكم الإجماع بين الرواة الذين ذكروا خبر عبد الله بن سبأ أنه كان يهودياً.
وقد أيد علماء الشيعة ذلك أيضاً مثل النوبختي والكشي والكليني المحدث الشيعي الشهير صاحب كتاب (الكافي) في أحاديثه عن الإمام الصادق في عبد الله ابن سبأ. ويظهر من دراسات هذه الروايات أنها ترجع في الواقع إلى أوائل العصر العباسي وأواخر العصر الأموي.
وقد كانت (صنعاء) عاصمة اليمن في أيام الأحباش قاعدة مهمة لليهود. والظاهر أنهم أقاموا بها منذ مدة قبل غزو الأحباش لليمن. وأنهم صاروا يشعرون بطمأنينة بال وراحة في هذه المدينة، فربطوا حوادثها بالتوراة وقالوا إنها مدينة (أزال)(أوزال) التي ورد خبرها في الكتاب المقدس. فهل كان (عبد الله بن سبأ) أحد هؤلاء اليهود الذين حافظوا على ديانتهم إلى أيام الخليفة عثمان بن عفان حتى إذا أسلم تلمكته حمى التنقل من مكان إلى مكان ومن قطر إلى قطر داعياً الناس إلى دعوات غريبة، طمعاً في إثارة الفتنة وخلق الفوضى في صفوف المسلمين. فزار الحجاز وذهب إلى البصرة فالكوفة فالشام فمصر، واتصل بكل هذه الأقطار عن طريق المراسلة حتى تمكن من تأجيج نار فتنة لم تخمد حتى اليوم؟
والعجيب أن رجلا كهذا الرجل لم يسجل الرواة حوادثه ولا أخباره، ثم ينصاع له شيوخ من شيوخ المسلمين، ولا يتقدم أحد لقتله أو سجنه على هذه المقالات التي كان يظهرها وهو في صورة مسلم يدين بالإسلام.
ذكر الطبري أنه لما مضى من إمارة ابن عامر ثلاث سنين بلغه أن في عبد القيس رجلا نازلا على حكيم بن جبلة، وكان حكيم ابن جبلة لصاً، إذا قفل الجيوش خنس عنهم فسعى في أرض فارس فيغير على أهل الذمة ويتنكر لهم ويفسد في الأرض ويصيب ما شاء ثم يرجع. فشكاه أهل الذمة وأهل القبلة إلى عثمان فكتب إلى عبد الله بن عامر أن احبسه. ومن كان مثله فلا يخرجنَّ من البصرة حتى تأنسوا منه رشداً. فحبسه، فكان لا يستطيع أن يخرج منها. فلما قدم ابن السوداء نزل عليه واجتمع إليه نفر فطرح لهم ابن السوداء ولم يصرح. فقبلوا منه واستعظموه. وأرسل إليه ابن عامر فسأله ما أنت؟ فأخبره أنه رجل من أهل الكتاب رغب في الإسلام ورغب في جوارك. فقال ما يبلغني ذلك، أخرج عني. فخرج حتى أتى الكوفة فأخرج منها، فاستقر بمصر وجعل يكاتبهم ويكاتبونه ومختلف الرجال بينهم)
والمعروف أن ولاية (عبد الله بن عامر) على البصرة، بعد عزل أبي موصى الأشعري عنها، إنما كانت في سنة تسع وعشرين للهجرة في عهد الخليفة عثمان بن عفان فيكون مجيء عبد الله ابن سبأ إلى البصرة إذاً في سنة 32 - 33 للهجرة، أي في السنة الثالثة من حكمه كما أخبر بذلك الطبري. . .
(للبحث بقية)
جواد علي
لا، لا نملك تحريم تعدد الزوجات
للأستاذ إبراهيم زكي الدين بدوي
كان صديقنا الأستاذ عبد المتعال الصعيدي يقرر في رده الأول علينا أننا (نملك تحريم تعدد الزوجات) ولكن بطريق مخالف لطريق معالي عبد العزيز فهمي باشا، (وقد سلكه أولو الأمر حديثاً في نظائر لتعدد الزوجات)، وأشار إلى هذا الطريق بمثال هو (تحديد سن الزواج ونحوه مما جرى العمل الآن به، وألفه الناس بعد أن ثاروا عليه عند تشريعه)؛ مما يفهم منه بوضوح أنه طريق التشريع الوضعي القائم على استعمال ولي الأمر ما له من سلطان على عماله مأذونين كانوا أو قضاة بمنعهم من تحرير وثائق رسمية لعقود الزواج المتضمنة للتعدد أو سماع الدعاوي المترتبة على هذه العقود.
فلما بينا له - تعقيباً على رده - أنه قد أخطأ القصد إلى التحريم بما أشار إليه من طريق سلبي لا تعلق له بحل ولا بحرمة، وأن ما ينشأ بين الناس من علاقات شرعية في الأمور التي تناولها المشرع الوضعي بطريق المنع المتقدم، يعتبر صحيحاً شرعاً وقانوناً وتترتب عليه جميع الآثار المترتبة على سواه، عدا تحرير الوثيقة وسماع الدعوى وهما الأثران المعطلان خلافا لما هو النظر الصحيح في (قاعدة تخصيص القضاء)، راح - في رده الثاني - يحرر مراده بأن لو لي الأمر (أن ينهي عنه (تعدد الزوجات) إذا أساء المسلمون استعماله، فيصير حراماً لنهيه عنه، وإن كان في ذاته مباحاً (كما ينهى عن زرع القطن في أكثر من ثلث الملك) فيكون زرع القطن في أكثر من الثلث حراماً من هذه الناحية وإن كان في ذاته مباحاً. . . هكذا يقول الأستاذ.
وظاهر مما تقدم أن معالم هذا الطريق الأخير تغاير المعالم التي أقامها للطريق الأول تمام المغايرة، فذاك طريق ليس له سوابق في التشريع المصري الحديث ولا القديم على الأقل فيما يتعلق بنظائر تعدد الزوجات التي مثل لها الأستاذ نفسه بتحديد سن الزواج؛ فلا ينطبق عليه إذن القول بأنه (قد سلكه أولو الأمر حديثاً في نظائر لتعدد الزوجات)، وبالتالي لم يألف الناس هذا الطريق، فلا ينطبق عليه القول بأنه (مما جرى العمل الآن به وألفه الناس بعد أن ثاروا عليه عند تشريعه). كما أن ما ذكره الأستاذ نفسه في ختام رده الأخير من (أن الناس لم يتهيأوا بعد لفهم هذا الحق (حق ولي الأمر في التحريم)؛ بل يعدوه خروجا على
الدين) يبين بجلاء أنه لم يكن الطريق الذي عناه في رده الأول ووصفه بأن تحريم تعدد الزوجات بواسطته (كان مطلباً سهلا لا يحتاج إلى ما تكلفه (الباشا) في أمره)، والذي تنطبق عليه هذ الأوصاف كلها إنما هو الطريق الذي فهمناه من رده الأول وأشرنا إليه فيما تقدم.
والظاهر أن الأستاذ قد استشعر - قبل سواه - هذا التغاير التام بين الطريقين وأنه لا يستساغ معه اعتبار ثانيهما تحريراً للمراد من الأول، فحاول أن يعقد بينهما وشيجة قربى إذ قرر في ختام رده الأخير ما يتضمن أن العلاقة بين الطريقين علاقة الفرع بأصله. فالطريق الذي قررنا أنه هو ما عناه في رده الأول ولايمكن أن يكون قد عنى سواه، متفرع - في رأيه - على الطريق الوارد في رده الأخير ولا يعدو أن يكون (تنظيما فيه أو استثناء له من ولي الأمر بما له من حق التحريم والمنع. ولعل مما يدعو إلى هذا أن الناس لم يتهيأوا بعد لفهم هذا الحق. . . الخ) والواقع خلاف ذلك لأن الطريقين متغايران - كما قدمنا - تمام التغاير، ولا يمت أحدهما إلى الآخر بالصلة التي حاول الأستاذ عقدها بينهما ولا بما يماثلها. فهما وإن كانا من حق ولي الأمر - فيما يرى الأستاذ - إلا أن حقه في كل منهما لابد من إرجاعه لأصل مغاير لأصل الآخر؛ فحقه في منع عماله من تحرير وثائق أو سماع دعاوي معينة راجع إلى (سلطته التنظيمية) عليهم باعتبارهم أدواته في مباشرة (ولايتي التنفيذ والقضاء). أما الحق المنسوب له في التحريم فلا مندوحة من إرجاعه إلى (لسلطة تشريعية) لولي الأمر تتعلق بأفعال المكلفين عامة مما يقتضيه تعريف الحكم الشرعي.
وحتى على التسليم بأن طريقه الجديد مما يصح اعتباره تحريراً لمراده بالطريق الأول، فهو مع ذلك غير مؤد إلى الغاية التي قصد إليها إلا وهي التدليل على دعواه أننا نملك تحريم تعدد الزوجات، إذ لم يرد عن أحد من القائلين بحق ولي الأمر في النهي عن المباح أن هذا يجري فيما وردت بحله نصوص (تفصيلية) محكمة في الكتاب والسنة كما هو الحال في تعدد الزوجات (وليست هذه النصوص - فيما أعتقد - موضع خلاف بيني وبين الأستاذ عبد المتعال)، ولا تفيد عباراتهم جريانه الا فيما هو من قبيل (المصالح المرسلة) التي لم يشهد لها الشارع بحل ولا بحرمة فتكون - قبل نهي ولي الأمر - على أصل
الأباحة، أو (سد الذرائع) بالنهي عما يدخل تحت نصوص (أجمالية) بالإباحة إلا أنه يتخذ ذريعة لارتكاب محرم. والحرمة المستفادة من نهي ولي الأمر في هذه المواضع وما شابهها تكون مستندة في الواقع إلى دليل عام من الكتاب أو السنة، فلا يقال إنها شرعت بنهي ولي الأمر ابتداء. على أن مسألة نهي ولي الأمر عن المباح - حتى في نطاق هذا التحديد الذي بيناه - مسألة خلافية، القول فيها طويل والرأي غير مستقر؛ فهي، من كل الوجوه، ليست بالذي يصح أن يعول عليه في مثل هذا الباب.
أما ما استشهد به من موضوع (زراعة القطن) فلا يصلح للاستئهاد لأنه قياس مع الفارق الكبير، وهذا ظاهر.
إبراهيم زكي الدين بدوي
المتخصص في الشريعة الإسلامية والقانون من جامعات
الأزهر وباريس وفؤاد
تولستوي الحائر
للأستاذ محمود الخفيف
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
ما الحياة إلا وهم. وما سعينا فيه إلا عبث. وما أنفسنا وأولادنا إلا طعام للدود. وما مسراتنا وملاهينا إلا كأصوات الخائفين من الأطفال في ظلام الغابة اللفاء يدرأون بها عن أنفسهم الخوف. وما ذلك الذي نسميه في الحياة جمالا إلا غرور، إن كل ذلك إلا باطل؛ وإن هو إلا اللاشيء. ذلك ما أفضى به إليه تأمله، وذلك ما يعذه ويفزعه ويحيطه باليأس من جميع أقطاره
وليته ينسى! ولكن انى له النسيان وهذه الحياة نفسها تذكره أبداً بفزعه الأكبر منها؛ وهو ما فكر فيها لمجرد الفكر في ذاته، ولكن شيئاً مبهماً خفياً ظل يوجه نفسه هذه الوجهة منذ حداثته، لا ينقطع عنه إلا ليعود إليه أقوى مما كان، وما زال حتى وقف به على حافة الهاوية. .
وما قصر أو تهاون في درس أو قعد عن استقصاء. قال: (ولكني ربما كنت قد سهوت عن شيء أو أخطأت فهم شيء. ذلك ما تحدثت به إليّ نفسي مراراً؛ فليس من الممكن أن تكون مثل هذه الحال من اليأس أمراً طبيعياً في الإنسان. ثم بحثت عن تفسير لهذه المسائل في كل ناحية من نواحي المعرفة بلغها الناس، وبحثت بحثاً مؤلماً طويلا، لا لمجرد الفضول والنظر، وقضيت في بحثي الشاق زمناً، بالنهار وبالليل، أجدُّ كما يجد من أشرف على الهلاك حين يطلب النجاة؛ فلم أعد من ذلك بطائل)
لم يدع شيئاً من العلوم النظرية ولا من العلوم التجريبية، ولكنه لم يجد في العلم بغيته. فما بلغ العلماء من العلم إلا بعض ما يتصل بأبحاث المختصين والمحترفين، أما ماله صلة بالمشكلة الأساسية وهي مشكلة الحياة، فقد أهملوه أو جهلوه. يقول عن العلماء (إنهم هكذا يجيبونك: أما عن سؤالك: ماذا أنت ولم تعيش، فليس لدينا جواب، وليس هذا مما نشغل أنفسنا به. أما إذا أردت أن تعلم قوانين الضوء أو قانون الاتحاد الكيمائي أو غيرها فلدينا أجوبة واضحة محددة عن ذلك لا تقبل الجدل).
ولم يدع شيئاً مما له في الفلسفة صلة بمسائل الحياة، فقرأ سقراط وبوذا وسليمان الحكيم
وشوبنهاور واضرابهم، ولكنه لم يرجع من فلسفتهم إلا (بأن كل شي في الحياة عبث، وأن السعيد هو ذلك الذي لم يولد).
ماذا يقول سقراط؟ أليس هو القائل: (إننا نقرب من الحقيقة كلما أخذنا في الابتعاد عن الحياة، وأن حياة الجسد شر وباطل؛ وعلى ذلك فالقضاء على حياة الجسد من النعيم، وينبغي علينا أن نطلبه؟) وماذا يقول بوذا؟ أليس هو القائل: (إن من المستحيل أن نعيش وفي نفوسنا أن الألم أمر لابد منه، وأننا سوف يلحقنا الضعف ويصيبنا الكبر ويدركنا الموت. . . ألا إنه يجب علينا أن نتخلص من هذه الحياة؟).
وماذا يقول سليمان؟ أليس هو القائل (عبث في عبث وباطل في باطل، وماذا يجني الإنسان من عمله تحت الشمس؟ يمضي جيل وياتي جيل غيره والأرض هي الأرض قائمة أبداً؛ وكل ما كان هو ما سوف يكون، وما عمل هو ما سوف يعمل؛ ولا جديد تحت الشمس. ولن يذكر ما مضى من الأشياء، وكذلك ما هو آت فسوف لا يذكره من يأتي بعده).
وماذا قال شوبنهور؟ أليس هو القائل: (الحياة هي ذلك الذي كان يجب ألا يكون. . . هي الشر؛ وإن انتهاءنا إلى اللاشيء هو الخير الوحيد فيها).
وهذه الحكمة الهندية القديمة كيف تصور الحياة؟ (كان سكياموني أميراً شاباً يعيش عيشة سعيدة حُجب عنه العلم بالمرض والكهولة والموت. وخرج الأمير ذات يوم للنزهة فبصر بشيخ فقد أسنانه، يتعثر في مشيته، ويبعث منظره الرعب في النفس، فسأل ذلك الأمير الذي لم يكن له علم بالشيخوخة حتى ذلك اليوم سائق عربته، وقد أخذه العجب: ماذا يكون ذلك؟ وكيف وصل الرجل إلى هذه الحال التعسة الكريهة؟ ولما علم الأمير أن ذلك حظ الناس جميعاً، وأنه سوف يصيبه لا محالة يوماً ما، لم يستطع أن يستمر في نزهته، وأمر سائقه فعاد به إلى القصر ليتفكر في هذه الحقيقة. ثم أغلق من دونه الأبواب وجعل يتفكر. ويرَّجح أنه وجد عزاء لنفسه؛ فقد خرج ثانية للتنزه مبتهجاً سعيداً، ولكنه أبصر هذه المرة مريضاً متهدماً أعشى العينين مرتعش البدن، ولما لم يكن للأمير علم بالمرض فقد وقف وسأل عن ذلك. ولما علم أنه المرض، وأن كل إنسان عرضة له وأنه هو نفسه، وهو الأمير القوي السعيد، قد يمرض في غده، لم يطق متابعة سيره وعاد ثانية إلى قصره ليتدبر ويبحث عن عزاء ويرَّجح كذلك أنه أصاب عزاء، فقد خرج يتنزه للمرة الثالثة. ولكنه في
هذه المرة وقع على منظر جديد؛ فقد أبصر رجالا يحملون شيئاً ما، فسأل ماذا يكون؟ ولما أخبر أنه رجل ميت قال متعجباً: ميت؟ وما الميت؟ وأخبر أن الإنسان إذا أصبح مثل ذلك الرجل صار ميتاً. فدنا الأمير من الجثة وكشف عنها غطاءها ونظر فيها وسأل ماذا يحدث بعد ذلك؟ فأخبر أنها سوف تدفن في الأرض واستفهم عن سبب ذلك فأجيب: لأن الميت سوف لا يعود إلى الحياة وسوف يتعفن وينتج الدود. وسأل الأمير أذلك حظ الناس جميعاً؟ وهل يحدث لي مثل هذا؟ وهل أدفن وأتعفن وأنتج الدود؟ أتقول نعم؟ إذن فإلى القصر. ولن أخرج بعد ذلك أبداً طلبا للمتعة.
ثم إن سكياموني فقد كان عزاء، وأيقن أن الحياة أعظم شر، وجعل همه كله أن يتخلص منها ويخلص غيره).
هكذا تُصور الحكمة الهندية الحياة وهكذا يراها تولستوي، ولقد فكر كثيراً في أن يتخلص منها. . .
ولكنه يرى كثيراً غيره من الناس يعيشون لا تزعجهم الحياة ولا يكربهم التفكير فيها، فإذا كان لم يجد في العلم هداه ولا في الفلسفة، أفلا ينظر في حياة الناس ليرى كيف يرضون ولا يشقون مثل شقائه؟
وعرف من الناس في الحياة أربعة أنماط: ففريق هم الجهلاء الذين لا يدرون أن الحياة عبث وسخف، وليس له في هؤلاء فائدة؛ لأنه لا يستطيع أن يعود جاهلا. وفريق يعلمون سخفها، ولكنهم مع علمهم يوطنون أنفسهم على تحملها، وهو لا يقدر أن يجاريهم فهو متبرم ساخط. وفريق هم الجادون العاملون الذي يتخلصون من الحياة على أية صورة، وهو لا يستطيع أن يفعل فعلهم لأن شيئاً خفيا يمنعه من ذلك كلما أغراه اليأس. وفريق يرون الحياة زوراً وعبثا وأن لا خير في مستقبل ولا رجاء، ومع ذلك فهم يتعلقون بها وإن تعذبوا، وهو من هذا الفريق.
على أن هناك فريقاً خامساً لا يدخل في هذه الأنماط الأربعة، هم أولئك الذين لا يكترث لهم أحد، وينظر إليهم السادة نظرتهم إلى الدواب، وهؤلاء قد وجدوا لهم في الحياة معنى يعيشون عليه، معنى لا يتصل بالمعقول ولا بالفلسفة، وذلك هو الإيمان.
ولكن إيمان هؤلاء يقوم على أساس من الأرثوذكسية عقيدة الكنيسة الروسية الإغريقية،
وهي ما لا يستطيع أن يحمل عقله على قبوله. . .
يا للحيرة! إن العقل يفضي به إلى إنكار الحياة نفسها، وإن الإيمان يقضي أن يعطل العقل. . . أي بلاء هذا؟ وأي ليل معتم!
ولكنه علم فيما علم قول المؤمنين إنه لابد من إعداد النفس للإيمان حتى تؤمن؛ وإذاً فليدع العقل جانباً وليناقش رجال الدين، ولينظر في كلامهم لعله يصل إلى قلبه، وليقرأ ما كتبه آباء الكنيسة، وليطالع سير القديسين، وليتعبد فيقيم الشعائر جميعاً، وليزر الأديرة، وليذهب إلى الأب الصالح أمبروز، ذلك الذي كان يستعينه جوجول والذي استعانه دستويفسكي وسولوفييف؛ وفعل ذلك جميعا ولكن الشك مازال يأخذ بخناقه ويكاد يزهق روحه. . .
ويقرأ العقيدة الأرثوذكسية، وكلما أمعن فيها سخر منها وبعد عن التصديق بها. فما هذا التثليث؟ وما هذا التحول إلى دم المسيح ولحمه؟ وما تلك المعجزات التي تنسب إلى القديسين؟ وما تلك الأدعية والصلوات والطقوس؟ أذلك مما يقبله العقل؟ كلا ثم كلا
ثم يحاول أن يطرد الجحود من نفسه فربما كان الجحود هو ما يحول بينه وبين الإيمان. ويقول لنفسه دائما إنه مستعد لأن يؤمن. قال في كتابه (اعتراف) يصف ذلك: (لقد اتجهت صوب الإيمان لأني لم أجد شيئا خارجه إلى الخراب. وعلى ذلك فما دمت لا أستطيع أن أطرح عقيدتي جانبا فقد صدقت وخشعت. وقد أحسست في قلبي من القنوت والخشوع ما جعلني أفعل ذلك. ثم إني عدت فخشعت وازدردت الدم واللحم من غير سخرية في نفسي رغبة مني في أن أصدق؛ ولكني أذكر ما مر بي من صدمة وأرى ما ينتظرني فيما هو قادم، فلا أملك أن أظل مصدقا).
وإذ يرى نفسه في بحر لجي من الحيرة يسأل نفسه: ماذا يريد أن يعرف على التحديد ليلتمس السبيل إلى معرفته؟ فيكتب على رقعة: لماذا أنا حيّ؟ ما سبب حياتي وحياة غيري من الناس؟ وما هدف حياتي وحياة غيري؟ ماذا تعني ثنائية الخير والشر التي أحسها في نفسي؟ ولماذا هي قائمة فيها؟ وعلى أي وجه ينبغي أن أحيا؟ وما الموت؟ وأهم من ذلك كله وأكثره تعقيداً كيف أنجي نفسي؟ ذلك أني أحس أني هالك، فإني أعيش ثم أموت؛ وإني أحب الحياة وأخاف من الموت، فكيف أنجي نفسي؟)
وإذا لم يبق له إلا الدين والإيمان، فأي أيمان؟ إنه إذا قارن في نفسه بين تلك الأوقات التي
آمن فيها بالله وبين تلك التي أنكر فيها الله، وجد الأولى نيرة فيها شفاء للنفس، ووجد الثانية مظلمة فيها العناء، ولكن الإيمان بالله شيء، والإيمان بما تقول الكنيسة الأرثوذكسية شيء آخر. . .
ولا يزال يطيل القراءة في العقيدة الأرثوذكسية، ولا يزال يقرأ الأديان جميعاً في كتبها، ولا يزال يزور الأماكن المقدسة علها توحي إلى نفسه الإيمان، ومن ذلك مدينة كييف وما تزدحم به من كنائس وأديرة قديمة. ولا يزال يستفهم القسيسين والطيبين من الطاعنين في السن من الناس. ولا يزال يقيم الشعائر ويعظمها. . ثم لا يعود من ذلك جميعاً بشيء إلا الجحود بما تقول الكنيسة.
تلك حال ترلستوي وما صنع في تلك السنوات التي أعقبت زواجه حتى أتم كتابه (أنا كارينينا). ثم تلقى الضربة التي جعلته يتخبط في الظلام، والتي جعلته يلقى بعيداً بحبل كان في متناوله مخافة أن يشنق نفسه، ويجعل دون بندقيته قفلاً غليظاً كيلا يصوبها إلى قلبه. وما تلك الضربة إلا أنه بعد طول عنائه يرى الحياة لا شىء، ولكم يزعجه اللاشىء ويوبق روحه ويرعزع فؤاده!
ولكن إذا كان لا يحب أن يقتل نفسه فما معنى أن يستسلم لليأس؟ وكيف يحيا إذن ويطيق حياته إذا كان لا يرضى الموت ولا يرضى الحياة؟
إذن فليجاهد على وعورةّ الطريق وبعد الشقة وظلمة المفازة، ليجد معنى للحياة ترتاح له نفسه، ويسعد به البشر. ولئن وقف به ما سلف من جهاده وقفة التائه الذي يخيفه الفضاء والظلام، فلخير له أن يمضي لعله يجد بعد الضلال هدى وبعد العذاب راحة. ولأن يتحمل وعثاء السفر مهما عظمت أهوَن عليه من هذه الوقفة التي تكاد تلقيه في قرار سحيق. .
لقد قضى من عمره قرابة ثلاثين عاماً يعمل للفن، فليقض ما بقى من عمره عاملاً على تقرير معنى الحياة، وليس ما يمنع أن يكون الفن أداته فيما هو قادم إذا لزم الحال. . .
وسوف يعمل تولستوي دائباً ناصباً، حتى ليعد جهاده في سبيل غايته من أروع فصول الكفاح في خطى البشرية، فليس أبلغ في معاني البطولة من تحمل مثل ما سوف يلقاه من عذاب، ولا من الصبر على مثل ما سوف يعترض له من صعاب. ولسوف يغدو تولستوي في تاريخ الفكر الحديث، والأدب الحديث، والفن الحديث، بجهاده الهائل منقطع القرين في
إخلاصه وحميته وثباته. أجل، وسوف يرتفع إلى منزلة وسط بين الأنبياء والناس.
محمود الخفيف
لا أثر للمغازلة في روسيا
مترجمة عن مجلة انترنايشونال دايدجست
بقلم الأستاذ توفيق ضعون
هذا ما بدا لأحد سكان غربي أوروبا عندما زار موسكو، وقد عاد منها مقتنعاً أن (الرفيق كوبيد) أصبح شيئاً غير مرغوب فيه في وطن ستالين. أم روايته في هذا الصدد فهي ما يلي:
لقد ألف سكان غربي أوربا مشاهدة المطارحات الغرامية على أنواعها، وفي جملتها تبادل القبَل في الشوارع والمتنزهات، والتشجيع على المغامرة الذي يلقاه الرجال من الغواني. فلا بدع إذن أن يعجب الباريسيون أو سكان أي مدينة من كبريات المدن الأمريكية للمحافظة التامة على الآداب العمومية التي يلقونها في موسكو.
مما لا ريب فيه أن هذه المدينة التي تعج بضعفي عدد سكان باريس هي واحدة من (أنظف) بلدان العالم؛ إذ أن العلاقات اليومية بين الرجال والنساء خاضعة لقواعد التعفف والصون التي جرى عليها الأقدمون. فلا عواهر يخطرن في الأسواق، والرجال والنساء، شباباً وكهولا، لا يتبادلون القبل علانية، ولا يسيرون متشابكي الأذرع ولا متضامّين لكي يثبتوا للملأ ما يضمره أحد الفريقين للآخر من حب وإعزاز. وجل ما يراه الزائر محبان يتنزهان، وقد أخذ كل منهما بذراع الآخر في احتشام كلي، فيخيل إليه أنهما زوجان انقضى على قرانهما عقد من السنين.
ومما استرعى انتباهي بنوع خاص أنني بينما أنا واقف في مطار كاليننغراد في انتظار طائرة تقلني إلى موسكو، تجلى أمامي مشهد وداع مدهش جرى بين جندي مبتور الذراع وخطيبته الحسناء المسافرة؛ فعند ما أزف الموعد أخرجت الفتاة من محفظتها تفاحة قدمتها للجندي قتناولها مبتسما، وبادلها بدوره إهداءها بضعة من أزهار كان قد اقتطفها من حقل مجاور. والظاهر أن تعرضهما للأنظار ربكهما إلى حد أنهما افترقا دون عناق. وصعدت الفتاة إلى الطائرة حيث لبثت مستغرقة في تفكيرها لاهية عن كل ما حولها باستثناء لحظات خاطفة كانت تلقي فيها نظرة أسى من النافذة، أو تصوبها إلى طاقة الزهر الصغيرة التي زوَّدها بها خطيبها الجندي، وعبثاً حاولت الترفيه عنها، فقد رفضت بأدب وحزم كل ما
عرضته عليها من سكائر وحلوى.
وفي غضون الأسبوعين اللذين قضيتهما في موسكو تكررت أمامي المشاهد الدالة على المحافظة إلى أقصى حدودها. ولم يتفق لي ألبتة أن رأيت مطارحة من المطارحات الغزلية الشائعة المألوفة في المدن الأوروبية والأمريكية. فان تلك النظرات الخاطفة التي يتبادلها المارة عادة في باريس أو نيويورك، والتي تعبر عن التناهي بالجمال أو الأناقة أو الإعجاب بهما مفقودة تماماً في موسكو. والذي وثقت منه أن الفتاة أو المرأة في العاصمة الروسية لا تدرك معنى لأدلة الحب والإعجاب، أو هي تأخذ نفسها بواجب تجاهلها فإن أنت أطلت النظر إليها عزَت ذلك منك إلى تبينك لطخة علقت بأنفها فتحاول إزالتها بمنديلها.
وإذا رأيت مرأة جالسة على مقعد في حديقة عامة فلا تخش إذا أنت جاورتها أن تحدجك بغضب، أو تخلي مكانها؛ إذ هي لا ترى في صنيعك ما يريب أو يدعو إلى الاستهجان. وإذا جرؤت على سؤالها عن الوقت أو استطلعتها رأيها في الطقس أجابتك بكل بساطة معينة لك الساعة ومعربة عن شعورها بنقص الحر أو اشتداده بالنسبة إلى ما كان عليه في الأحد الفائت.
ولا يصح أن يُعزَى ما يبديه الذكور في موسكو من الفتور أو التحفظ إلى نقص في جاذبية إناثها، فهن على العكس من ذلك بارعات الحسن، وجمال بعضهن رائع فتان. فهناك الموسكوفيات الذهبيات الشعور السمهريات القوام، والشماليات ذوات البشرة العاجية والأعين الزرق، والقوقازيات الفاتنات اللحاظ المفترات الثغور. ولكن برغم كل هذه المغويات يندر أن يعيرهن الرجال التفاتاً. وحتى اليوم لا أعلم سبباً لهذا الفتور وعدم المبالاة يبديهما الرجال نحو أبرع النساء جمالا سوى اعتبارهم الاحتفال بالجمال إلى حد التدله، إخلالا بالآداب العامة.
ومما يلفت النظر بنوع خاص هو أنه بين زهاء الألفين من اللوحات المصرية المعروضة في المتحف الفني لا يوجد رسم واحد عار. وفي أثناء إقامتي في المدينة أعرت مديرة المنزل دفتراً أودعته ما أوحاهإليَّ خيالي من رسم عارية لآدم وحواء في الفردوس. فلم يكد يقع نظرها على الرسم الأول حتى أعادت إليَّ دفتري قائلة: (اسمح لي أن أعيد إليك
بضاعتك إذ لا سوق في روسيا للرسوم البذيئة!)، ولا يتوهمن القارئ أن بين تلك الرسوم ما يريب أو يخدش العفاف؛ فإنني لو كنت في باريس لما تحرجت أن أطلع عليها راهبة في دير سان سوبليس فلا ترى فيها ما يوجب الإغصاء. والأغرب من ذلك أن الكثيرين من أصدقائي في موسكو أكدوا لي أن تلك المديرة لا تعد من المتطرفات في التصون.
وربما كان أشد ما حيرني سلوك الرجال؛ فهم متطرفون في كتمان عواطفهم الجنسية. ومما أذكره في هذا الصدد أنني بينما كنت مسافراً في طائرة أخذت أسلي نفسي بمطالعة عدد من مجلة (ليف) حتى إذا ما استوعبت جل ما يهمني من مواده دفعته إلى ضابطين روسيين مجاورين لي، فراحا يقلبان صفحاته دون أن يستوقفهما ما حفل به من رسول الفتيات ذوات الجمال الرائع والنهدام البارع، شأنهما في ما مرا هـ دون مبالاة من صفحات المواد لجهلهما اللغة الإنكليزية. أما الصفحة الوحيدة التي أطالا فيها التحديق فهي تلك التي تضمنت إعلاناً عن معمل دراجات آلية.
ولا يزال ذلك الاحتشام المحسوس الملموس في روسيا سراً مغلقاً عليّ، وربما كان من أول الأسباب الداعية إليه هو أن النساء في الاتحاد السوفياتي، باستثناء أقلية لا يؤبه لها، أصبحن على قدم المساواة مع الرجال، ففي كل مكان تقوم المرأة بأعمال كانت وقفاً على الرجال، كقيادة الحوافل، وبيع تذاكر السفر في محطات السكك الحديدية؛ حتى أن تنظيف المجاري تقوم به النساء. وكثيراً ما تبصر إحداهم خارجة من الأعماق وقد علت وجهها وثوبها الأقذار بعد أن غاصت فيها بحذائها الساقي الضخم.
ومن الجهة الثانية نرى أن الروسيين قد أعياهم إدراك مفهوم الغربيين للأسلوب الأصلح في العلاقات بين الجنسين. ومن الأمثلة الطريفة على تقصيرهم في هذا المضمار هو ما شاهدته في (فيانا)، فقد دُعي عدد من الفتيات الفرنسيات المجندات إلى حفلة اجتماعية أقامها ضابط روسيون. ومما لا ريب فيه أن الفرنسيات لم يجاوزن في سلوكهن الحد الذي ألفنه مع أبناء جنسهن. وكان الروسيون الذين تجنبوا كل أنواع المنازلة أن رافقوا بكل أدب مدعواتهن إلى منازلهن، ولكنهم لم يتمالكوا أن أبدوا منتهى الاستغراب عندما رأوا الفتيات يودعنهن عند الباب ولم تدع واحدة منهن رفيقها للدخول وتناول فنجان من الشاي أو كأس من الشراب.
وهذا لا يعني أن الغريب المقيم على سفر في موسكو لا يستطيع. أن يصادق فتاة روسية، على أن علاقته بها تختلف كثيراً عما لو كان في باريس أو لندن أو نيويورك. مثال ذلك أن الفتاة الموسكوفية تستاء إذا حاول رفيقها أن يدفع ثمن ما تتناوله من طعام أو شراب؛ فهي تصر على دفع حصتها من النفقة، ولا تقبل هدية إلا إذا كان في استطاعتها أن تقدم ما يضارعها في أول فرصة تسنح.
وقد اتفق لي أن قدمت يوماً لفتاة عرفتها هدية صغيرة فردت عليها في الحال بطاقةٍ من الأزهار. وفي ظرف آخر قدمت لفتاة موسكوفية زجاجة عطر أتيت بها من باريس فما كان منها إلا أن قدمت إلى على الأثر كيساً من البرتقال.
وها أنا قد عدت من روسيا مندهشاً لتحرر الروسيات من سلطان الحب. ولابد لي من الاعتراف بأن العلاقات الجارية بين الجنسين في العاصمة الروسية تدهش إلى أقصى حد الرحالة الذي تتالت أمامه في كل مكان المشاهد الدالة عل ما كان للحرب من الأثر في تداعي الأخلاق، وما عقبها من الفوضى الأدبية في البلدان الأوروبية دون استثناء.
توفيق ضعون
مذبحة الأبرياء
في قرية دير ياسين
للأستاذ علي محمد سرطاوي
تقع قرية دير ياسين البالغ عدد سكانها (700) نسمة، غربي بيت المقدس، بين المستعمرات اليهودية، وكانت تعيش مع اليهود على أحسن ما تكون الصداقة، ولم يعتد أحد من سكانها على أحد من اليهود.
ويوم كانت البلاد تشيع ابنها البار، وبطلها العظيم، الشهيد عبد القادر الحسيني، بطل القسطل، إلى متواه الأخير، انقضت جموع غفيرة من اليهود المسلحين على تلك القرية وأمعنت في السكان الأمنين قتلا وذبحاً: فبلغ عدد القتلى (250) قتيلا. وكان من بينهم (25) امرأة حاملا، (50) امرأة مرضعا، و (60) امرأة أو فتاة ذبحن ذبح الخراف في أفظع مظاهر القسوة. ثم جمعوا (150) امرأة وبعد أن مزقوا ملابسهن، واعتدوا عليهن، أركبوهن سيارات مكشوفة، وطافوا بهن الأحياء اليهودية. وكان الجمهور الصهيوني المتمدن المهذب يرجمهن بالحجارة ويبصق عليهن، ويشتم دينهن، ونبيهن؛ والجلادون واقفون فوق رؤوسهن، يتباهون بهذه البطولة، والجمهور يهتف لهم، ويطيل التصفيق، حتى إذا ما أتعبهم الطواف بهن، أوصلوهن إلى طرف الأحياء العربية، وأخذوا يقذفونهن إلى الأرض، ويطلقون الرصاص فوق رؤرسهن كبرا وجبروتاً وإرهاباً!
والذي يتراءى أن الباعث النفسي الذي يحرك هؤلاء الناس، إلى أعمال وحشية من هذا النوع، لا يعود في أصله إلى وطنية صحيحة، ورغبة صادقة في العيش بسلام في جزء من الأرض، وإنما يعود إلى شعور هذه الطائفة، أفراداً وجماعات، بالعجز والجبن، والبعد عن الرجولة والشجاعة، لأن الرجل الشجاع لا يستبيح لنفسه أن يقتل طفلا أو امرأة في مثل هذه السهولة، ثم يتباهى بما عمل من بطولة، وبما صنع من معجزات.
والتاريخ الحافل بالاضطهاد الذي ذاق مرارته اليهود، في الزمن البعيد والقريب، كان كافياً ليترك في أعماق نفوسهم ثورة جامحة مدمرة، على أي عما يقترف على أيديهم، أو بسبهم، يتصل بالأساليب التي اضطهدوا بها، لو كانت لهم ضمائر تتمشى فيها الكرامة والإنسانية.
والذي ينشد الحرية والاستقلال لا يطلبهما عن طريق محاربة استقلال الآخرين وحريتهم.
وإنسان من هذا النوع خليق بأن يحرر نفسه من ذل الزمن، وأن يتحرر من القيود والنزعات الهمجية التي لا تسيطر إلا على الشعوب الساذجة التي لم تنل قسطاً من يقظة الضمير، قبل أن يرفع عينيه إلى مصادر النور!
وليس مقياس مدنية شعب من الشعوب، هو مقدار ما يملك من قوة مادية، وإنما هو مقدار ما يملك من قوة روحيه تدفعه إلى حب الخير، وإلى التمرد على الظلم في صوره ومظاهره! والعقبات الزمنية التي يقف أمامها شعب من الشعوب في طريق سيره نحو الأبد المجهول، ليست إلا اختياراً عملياً، يقدمه ذلك الشعب للحياة، لنرى مقدار ما في طبيعته من حب للشر أو الخير ليمنحه التاريخ الشادة التي يستحقها.
ولقد يخدع شعب من الشعوب نفسه، ويدور حول الحقائق ويتحلل من شخصيته الصحيحة في سيره مع تيار الحياة، ولكنه لا يلبث أن يعود إلى قواعد نفسه مهزوماً مدحوراً، كما يعود إلى نفسه وطبيعته المجرم الأفاق الذي يتظاهر بالورع المزيف، والتقوى التي ليس لها في حسه وجود.
ولقد كلف الطموح الجنوني، في الأمس القريب، ألمانيا والعالم أجمع، ضحايا، وآلاما، ومتاعب، كانت نهايتها انهيار هتلر ونظامه، ومن ورائهما ألمانيا العظيمة، تلك الأمة التي دمرها ذلك الطموح، وجرعها مرارة الذل والخضوع.
واليهود، وهم حفنة في حساب العدد، يطمحون إلى السيطرة. على سبعين مليوناً من العرب، بانتزاعهم فلسطين، وهي قلبهم الخفاق، غير مقدرين النتائج الوخيمة التي ينطوي عليها هذا الاندفاع الجنوبي.
والفظاعة المتناهية، في صور القسوة والبربرية والهمجية، التي يعتدون بها على النساء والأطفال والشيوخ، حتى على جثث الشهداء، سياسة يحسبون أن اتباعها يرهب العرب ويوصلهم إلى ما يريدون منهم. وقد نسوا أو تناسوا، أن العرب أمة عريقة في المجد، شديدة البأس، لا تلين لأساليب العنف، ولا يزيدها ذلك إلا عنفواناً وصبراً وجلداً وتصميما على الأخذ بالثأر، مهما تطاول الزمن، ومهما جسمت التضحيات.
ولقد سبق للغرب أن شن هجومه على الشرق باسم الدين، في الحرب الصليبية، وفي فلسطين نفسها، فلم يهن العرب، وبقيت الحرب بينهم وبين أوربا سجالاً قرابة قرنين من
الزمن القاسي، تمكنت في نهايته من طردهم منها. وها هو التاريخ يعيد نفسه، ويحمل إلى شواطىء فلسطين جماعات مشردة، أفاقة، مجرمة، من الهوان على أنفسهم وعلى الحقيقة، أن يحسب لهم العرب حساباً، مهما امتلأت أيديهم من أدوات الفتك والتدمير والغدر والنذالة التي يطفح بها تاريخهم القديم والحديث، إن جاز أن يكون لجماعات من هذا النوع تاريخ أو ما يشبه قصة تفوح منها روائح القبور والجيف.
إن العرب وهم شعب عريق في المجد، لن يقابل أعمال اليهود البربرية بمثلها، بل يمضي وراء أولئك الأنذال أشباه الرجال، يعلمهم درساً قاسياً، ويهدم على رؤوسهم المجرمة، صروح الأوهام، متبعاً في ذلك وصية أبي بكر، أول خليفة، لأول جيش يفيض على أطراف الهلال الخصيب من الجزيرة الجبارة، من عدم الاعتداء على النساء والأطفال والشيوخ. وحينما احتل الصليبيون بيت المقدس، تباهوا بأن خيولهم كانت تسبح في دماء النساء والأطفال والشيوخ الذين استجاروا برحاب المسجد الأقصى فذبحوهم فيه. ولكن صلاح الدين الأيوبي حقن دماء أولئك القساة، وسمح لهم بالخروج من بيت المقدس حين ثم له طردهم منها
ولو عقل اليهود، وقدر لهم، أن ينظروا إلى قلوب العرب الكريمة الرحيمة، قبل هذه البربرية، لوجدوها تفيض بالحنان والرحمة، ولتأكدوا من أنها أبر بهم وأحنى عليهم من تلك القلوب المستعمرة التي تتخذهم الآن وسيلة للاعتداء على حرية العرب الذين طالما أغدقوا عليهم العطف في كل عصور التاريخ.
والعرب في كافة أقطارهم، مصممون على سحق الصهيونية المجرمة، في فلسطين، لا حباً في سفك الدماء، ولكن دفاعاً عن الشرف العربي الذي استباحوه في رعونة جنونية. والويل لهم حينما تدنو ساعة الانتقام والثأر لشرف المسلمات في دير ياسين، اللائي طالما صرخن، وا معتصماه! وللعرب سبعة معتصمين الآن يثأرون للشرف المشباح. وسيعلم الذين ظلموا أى منقلب ينقلبون.
علي محمد سرطاوي
بين الشيوخ والشباب
للأستاذ عباس خضر
تجري بين الحين والحين مناوشات أدباء الشباب وشيوخ الأدب، تتمثل في نقدات خفيفة من الشباب للشيوخ، قليلها في أعمال أدبية معينة، وأكثرها تفنيد لمسلك بعضهم في الإنتاج التافه المسف الذي يختلف عن سابق جدهم وإبداعهم، ولبعد أكثرهم عن ملابسة الحياة وواقع الناس فيما يكتبون، فهم - في رأي الشباب وبعض الشيوخ - إما هاذرون مسغون، أو معتصمون بالقباب الذهبية. . ولا أقول الأبراج العاجية.
وتتمثل تلك المناوشات أيضاً في حملات بعض الشيوخ على الشباب ورميهم بالقصور في التحصيل واستكمال الأداة، وأنهم يحاولون هدمهم، ويقولون إن عليهم أن يجدوا ويكدوا ليصلوا إلى ما يبتغون ويظفروا بما يأملون. وقد كتب الأستاذ المازني مرة يتساءل: هل يحفر الشيوخ قبورهم بأيديهم؟ ماذا يريد هؤلاء الشباب؟ وضرب مثلا للشباب ما بذله من جهود في التحصيل وما عاناه في مقتبل حياته الأدبية.
وأخيراً كتب الأستاذ توفيق الحكيم مقالا في (أخبار اليوم) بعنوان (آمال الجيل) أشهد أنه كان لبقاً فيه، إذ بث في أوله وفي وسطه روحا طيبا في معالجة العلاقة بين الجيلين. ومما قاله (ما الذي سيحدث في العشرة أو الخمسة عشر عاماً المقبلة؟ هل الأمل معقود على طائفة من الأدباء يمكن أن تبرز بنوبتها في الصف الأول، لتمضي في رفع مشعل الأدب والفكر في هذا البلد؟! أو أنه كما يقال ليس في الإمكان أبدع مما كان؟!) وقال: (ونحن إذا جلنا اليوم في حديقة الأدب المصري لوجدنا أشجارا مملوءة بعصير الحياة، مونعة بأزهار الفن. . لا ينقصها إلا أن ننظر إليها بعين الرضا، وأن تتخيل ما ستكون عليه غدا من سموق وارتفاع. .) ومضى يتساءل عن واجبهم نحو أعلام الغد ويعترف بانصرافهم عنهم إلى أن ختم المقال بقوله: (غير أن المشكلة التي تحيرنا دائماً هي: وسيلة المعونة!. . أهي في تجنيب الجيل الجديد أخطاءنا، أم هي في إشعاره بأخطائه؟ أهي في إعداده قبل الظهور، أم في إظهاره قبل الإعداد؟! ثم أولئك الذين قطعوا في فنهم شوطا وظهروا بعض الظهور، وبدت مواهبهم متألقة كقطع النور، أعلينا إزاءهم واجب؟ ما هو؟ وما السبيل إلى الوفاء به؟. . . إنا جميعاً لعلى استعداد أن نؤدي واجبنا ولن نحجم عنه أبداً، إذا عرفنا
الوسائل وملكنا الأسباب!)
ولا أراني في حاجة إلى قدر كبير من الأولمعية لأدرك أن المقصود من المقال هو هذا الختام الذي انحسرت عنه تلك الروح الطيبة. . وقد استعان على إبراز هذا المقصود بعبارات التهكم من مثل (أم في إظهاره قبل الإعداد؟!) كما استعان على ذلك بنقط التعجب وعلاماته التي حرصت على إثباتها في مواضعها. وعلى ذلك نستطيع أن نقول إن هذا المقال من أسلحة كتلة الشيوخ. فهو يشبه (مشروع مارشال) من حيث أن كلا منهما يرمي إلى مكافحة الكتلة الأخرى. . فكأنه يقول: هؤلاء الشباب الذين يتطاولون علينا - ماذا يريدون منا؟ وماذا نصنع لهم؟
ولكي أثبت للأستاذ الحكيم حيادي وبراءة هذا الذي أكتبه من تلك الناوشات التي لن تفضي إلى حرب ذرية على أي حال - أسارع فأقره على حيرته وحيرة الشيوخ فيما يصنعون لهؤلاء الشباب) وإن في هذه الثروة الأدبية الضخمة التي كونها أدباء الجيل، لمدرسة الشباب، وقد تخرجوا فيها فعلا، فما هو الإعداد إن لم يكن هذا؟ أيعقدون لهم فصولا في النصح والإرشاد؟ ولا أخفي أنني أبتسم عندما أسمع أن كبار الأدباء قصروا نحو الجيل الجديد وأن عليهم أن يأخذوا بيدهم. . إلى آخر هذا الكلام الذي لا أرجعه إلا إلى العي. . .
على أن هناك جانبا عمليا لا يملك كل الكبار فيه شيئاً، وهو النشر والتشجيع على الإنتاج. ومن الحق أن أقرر أن من بيدهم شيء من ذلك نراهم يشجعون كثيراً من الشبان الناضجين ويقومونهم، وإن كان بعضهم يقصر عنايته على بطانته والسائرين في ركابه. .
ولا أريد أن أسترسل في ذلك الذي جرتني إليه دعوى ذوي العي والراغبين في الوصول دون عناء. أما ذوو الكفاية والكرامة من الشباب فما تلك دعواهم، إنما هم يشقون طريقهم بأقلامهم، لا ينتظرون من أحد معونة ولا يداً، وهم إزاء ما يشاهدون من إسعاف الكبار، يرون أنهم أقدر على تلبية روح عصرهم الجديد، فإن لم يتيسر لهم ذلك الآن فهم في الطريق إليه.
أما النقد الأدبي، وقد تخلى عنه الكبار لأسباب منها: المجاملات الشخصية، والرغبة في الدعة الذهنية؟ فإن الشاب يحاولونه. وتعوقهم عوائق كثيراً ما تأتي من الشخصيات التي يتناولها النقد؛ فما يكاد يظهر نقد في صحيفة حتى يصيح المنقود: هؤلاء الشباب الذين لم
يقرؤا كما كنا نقرأ. . . الخ - يريدون أن يهدمونا. . . ولا أجد غضاضة في أن أصرح بأن مجاملات المشرفين على النشر من أكبر عوائق النقد الأدبي، وهم يقولون لك: ترفق، ولا تكن عنيفاً. أكان أساتذتنا أدباء الجيل مترفقين في نقد من كان قبلهم. .؟ أو في نقد بعضهم بعضاً أيام الحماس والفتوة. . .؟ لقد كانوا يتبادلون شتائم يخرجون فيها عن حدود الذوق والفن والأدب. ولا شك أن لغة النقد الآن - على قلته - قد ارتقت وهذبت. بل هي قت إلى حد أفسدها. . . وهو حد التقارض والمصانعة.
فكيف يفزع من هذا النقد الرفيق من ذلك ماضية في النقد؟ أما الأستاذ توفيق الحكيم خاصة فليس له ماض في النقد الأدبي، وهو لا يميل إلى الاشتباك في المعارك الأدبية، ولذلك نراه يتخذ أسلوباً (حكيما) في الفزع من النقد. . يقرأ ما يكتب عنه، ثم يعقد فصلا في أخبار اليوم يتظاهر فيه بأنه يعالج موضوعاً مستقلا، وما هو في الواقع إلا تبرير لما يؤخذ عليه. . . وأستطيع أن أرجع دافع كل مقالة كتبها في ذلك إلى شيء كتب عنه. ثم جاء أخيراً يسأل: ماذا نصنع؟ تناقش يا سيدي وجهاً لوجه، وتدفع الحجة بالحجة، أو تسكت إن أخذتك العزة بالإثم. . .
والحق الصريح أن أكثر نتاج الكبار في هذه الأيام لا يعجب الشباب، ولا يعجب كثيراً من الكبار أنفسهم، ويعز على الجيل الجديد أن يفجع في أساتذته، وأن مما يمكن أن يصنعه هؤلاء الأساتذة أن ينفضوا الغبار عن تماثيلهم القديمة المقدسة لدى الشباب. .
أمنية الشاعر!
لشاعر الحب والجمال لا مرتين
بقلم الأستاذ صبحي إبراهيم الصالح
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
. . . وكأنما عز على لا مرتين أن يتعب روحه ويضنيها في البحث عن الله، أو كأنما شعر أنه أوفى من بحثه على الغاية التي يحق للبشر أن يوفوا عليها - فآثر أن يستريح راضياً بأمنية يتمناها مخافة أن يلجئه طول البحث إلى الكفران والجحود، فتأوه مشتاقاً إلى الحقيقة، ثم تمنى خاصة واحدة من خواص الملائكة، فغض بصره عن حياتهم السرمدية، وعن سعادتهم الأبدية، ولم يرج سوى الإلهام له وللناس: لأن الإلهام هو الذي أرضي الملائكة بربها فسمعت وأطاعت، وحرية التفكير هي التي بعثت البشر على الانطلاق فخضعوا طوعاً أو كرهاً؛ ولكن الذين خضعوا كارهين ما برحوا يستغربون لماذا ألهم الله غيرهم الطاعة فأنشدوا لحن الخلود، ولم يلهمهم هم فعاشوا في شقاء من بعده جحيم؟. .
(9 - إن ما أتمناه من الملائكة ليس حياتهم السرمدية، لا، ولا سعادتهم الأبدية!
ولكنه الإلهام. هذه الحاسة التي يستطيع بها القلب الجحود، أن ينشد لحن الخلود!)
ويخيل إلى الشاعر أن الله أجابه إلى رجيّته، فأنار بصيرته بوميض من الإلهام؛ فإذا هو لا يكتم فرحه بما يجول في نفسه، ولكنه يقر بأنه لا يقدر على إبداء هذا المعنى السامي الذي انكشف له، فكان أعظم من الأمواج الصاخبة، ومن الصواعق الغاضبة، فيترك سره لليل ليظهر الناس عليه:
(10 - يساور نفسي شيء أرق من الصِّبا اللعوب، سيذيعه الليل ويُفشيه!
شيء أعظم من الموج، ومن الصاعقة الغضوب، وقلبي لا يستطيع أن يبديه!)
ويقارن لامرتين بين هذا الوميض الذي انكشف لبصيرته وبين أسرار الطبيعة التي احتجبت عن بصره، ويتسمّع إلى لحن الوجود النفاذة إلى أعماق النفوس، فيرى أنه لم يؤت من الإلهام إلا قليلا، ويرى أن لثَبَج البحر لحناً أوقع من لحنه، ولجذوع الغابات نَغَماً أروع من نَغمه، وللعواصف الهوج نشيداً أقوى من نشيده، وللأنهار الجارية أغاريد أحلى من
أغاريده: فالبحر لا يقذ إلى ضفافه أمواجَه إلا ليسمع شكواها، وجذوع الغابات لا ينحنى بعضها إلى بعض إلا لتلحن نجواها، والعاصفة لا تملأ صدر السحاب إلا لتضاعف صوتها في أعماقه، والأنهار لا تتنفس إلا لتعلم الناس موسيقاها؛ فلكل منها مزمار يطلق منه أنغاماً تسبح بحمد الله وتقجَّس له، وكلُّ قد علم صلاته وتسبيحه. . . أما الإنسان فإنه مهما صفت نفسه وراق قلبه يتمنى أن يحسن الغناء كما تُحسنه الأمواج، والجذوع، والعواصف، والأنهار، وكل مظهر من مظاهر الطبيعة البكر، ثم يجد أمنيته تصّاعد في عالم مجهول، ثم لا يدري أتعود عليه بالإخفاق أو النجاح. إلا أنه أخيراً يخفق فيعلم أن مزماره من صنع يده وهو لا يصنع إلا كاملا، وأن مزامير الطبيعة من صنع الله وهو لا يصنع إلا كاملا. . .
(11 - أيها الخضم الذي يقف إلى ضفافه أمواجه الشاكية! يا جذوع الغابات المتناجية!
يا عاصفة يمتليء بها السحاب، ويا أنهاراً أنفاسها خرير! آه! لو أُوتيت هذه المزامير!)
ويلتفت الشاعر إلى نفسه، ثم يخاطب روحه التي تمنَّتْ كثيراً ولم تجب إلا قليلا، ويعجب كيف يصبر نفسه مع الحب الذي يضطرم في أحشائه كأنه نار لا ينطفيء لها لهيب، أو إعصار ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم، ويتألم لهذه الروح التي جعلت حب الله صلاتها وتسبيحها، وتقربت إليه بخفي ندائها، ولم تَرْجُهُ إلا أن يشرق عليها بنور معرفته، لينقذها من حماسة كلها لهيب، ومن ذهول كله وحشة، ثم لم يستجب لها بشيء. ولو شاء أن يستجيب، لأسر في أعماقها اسمه الحبيب؛ ولو أسر اسمه لرضيت روح الشاعر، واطمأن قلبه، واهتدى عقله.
(12 - وا روحاه! هذا الإله الذي يضرمك حبه كأنه نار. . . أو تحترقين به كأنه إعصار!
لو استجاب - وأنت مشدوهة ذاهلة - لحماسنك الجياشة اللافحة، لأسر اسمه في لفظة واحدة!)
وهنا يهتف بلامرتين صوت خفي: لا تعجل فإن الله يسر اسمه، وما عليك إلا تلتمس زمانه ومكانه فتسمعه: يسر اسمه في أُدن الطبيعة فتهمس به شفتاها وهي مختلية في صومعتها، بعيدة عن الدنيا وضجتها، قريبة من السماء ورحمتها. . . حينئذ تجلس الطبيعة إلى السماء جلسة المستعلم إلى العليم، فتحفظ منها اسم الله وتناجيه معها، ثم تنتظران كلتاهما تنفُّسَ الصبح ليفضي إليهما بأسرار الملأ الأعلى، أو ترقبان عسعسة الليل لتتسمعا سمر الكواكب،
فما يسمر منها كوكبان، إلا على ذكر الخالق الرحمان.
(13 - إن هذا الإسم لسرُّ تهمس به الطبيعة في الخلوات، كما تحفظه السموات!
وكلما طلع الفجر أفضى بهذا السر، وكلما تسامر كوكبان، كان صداهما الشجي الفتان!)
ويفرح الشاعر بما ألقى إليه الهاتف، ويظن أنه وقف منه على السر المنشود، وأنه قد وصل به إلى اسم المعبود، فما عليه إلا أن يسهر ليله فيسمع الكواكب السامرة، أو يثب مع الفجر ليعي أسراره الباهرة. . وفي هذين الوقتين السعيدين يريد أن تمسي كلها حواسه أُذناً تسمع وقلباً يعي؛ بل يريد أن تمسي العواصف والأعصار، والأرض والنيران والبحار كلها آذاناً صاغية، لأن من سكت في هذين الوقتين فإنما يسكت لنفسه، ومن ضج فإنما يضج عليها. ويريد من الرياح أن تقف لتتعلم هذا الإسم بعد أن طربت بألحانه، ومن السموات أن تسترجعه وتردده بعد أن ثَملت بخمرة عرفانه: فقد (خشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همساً).
(14 - إن العواصف والإعصار، والأرض والنيران والبحار، خليقة أن تسكن لسماعه!
وإن الرياح الطَّروبَ بألحانه، حرَّيةٌ أن تقف لعرفانه، والسموات لاسترجاعه!)
وما أحوج المتألم إلى ذكر هذا الإسم العظيم وترداده، لأن لموسيقاه رنة تشفي السقيم؛ ومن أجد من لامرتين بالراحة وهو تعب، وبالشفاء وهو عليل، وبالسرور وهو حزين؟
لقد كان في الأثناء مضطرب الفكر، موزع النفس، متزايل المشاعر، حتى أنه نظم قصيدته المعروفة (ما لورحي حزينة فلم يكن أحب إلى قلبه من وسيلة يتحول بها من أزمات نفسه الحادة إلى السكينة والاستقرار
ألا وإنه قد وجد هذه الوسيلة، وهي التي ستأسو ما جرحته يد الحياة، وهي التي ستحيل وادي أزاحه جنة أفراح. فليقذف بحزنه بعيداً، وليلق بأسأه ظهرياً، وليستدبر كل ما يعكر عين قلبه، وليستقبل الحياة من جديد برضا وارتياح!
وتغمره السعادة وتلابس روحه، ويضع في كفه ميزان ما نال من لذتها الحاضرة وفي كفة أخرى ما لازمه من ألم التعاسة الماضية، فيجد نعيمه أرجح، ويلقي التذاذه أغلب، فلا يقيم لطول الزمن وقصره وزناً، ويرى أن لحظة إيمانه تعادل إعدام حياته، ويخشى أن تفارقه هذه السعادة التي لا يمكن أن تدوم لأنها بسعادة الملائكة أشبه، وهي بين البشر كالنسيم
المعطِر يضوع بنقحاته، ثم يعود من حيث أقبل تاركاً هذا المأخوذ برائحته للأعاصير والعواصف، وللرياح والأنواء، يغالبها وتغالبه ويصارعها فتصرعه.
خاف أن تزايله هذه السعادة إذا بقى على قيد الحياة، فتمنى أن تكون ختام حياته، وآخر لحظاته، ليلقى الحقيقة التي سعى إليها بوجه ناضر، وليقف في أول شاطئ ما لخضمه من آخر: فأرسل هذه الأبيات الأخيرة بحرارة الشاعر، وحماسة المؤمن:
(15 - هذا الإسم وحده معاداً غير ممنون قمينٌ أن يأسو سقامي في هذا الوادي من الآلام!
فجدير بي أن أهتف غير محزون: لينصرمْ آخرُ أيامي، فقد مجدت الإله، ومرحى بالحمام!)
وإنك لتجس في هذه القصيدة روحاً متصوفة تذكرك بالذين سلفوا من أصحاب النزعة الروحية المجردة، فمن أين لهذا الشاعر مثل هذه الروح؟
ويزول عجلك متى علمت أن لامرتين - وإن لم يتلق التصوف علماً، أو يذقه مسلكا - كان صوفي المزاج، مستعداً للترهب لو تهيأت له الظروف لنشأته في بيت يقدس التقى والزهد والعفاف.
وإني لشاعر في قرارة نفسي بأن هذا المقال موجه إلى طائفة من الناس تتذوقه، وقد يقرؤه غيرهم فلا يجدون الحلاوة التي وجدوها. ولقد أحسن لامرتين إذ وجه هذه القصيدة مع قصائد أخرى من نوها تجاوز الأربعين في ديوانه (أنغام شعرية ودينية طائفة خاصة وصفها في مقدمة الطبعة الأولى بقوله:
(في هذه الدنيا قلوب حطمها الألم، ونبذها المجتمع، تنزع إلى عالم أفكارها وإلى عزلة أرواحها لتبكي او تنظر أو تعبد. فهل أطمع أن يدعو أصحابها أشعارٌ تقدس العزلة كما يقدسونها إلى الشعور بالارتياح نحو أنغامها، وأن يقولوا أحياناً إذا أصاخوا إليها: (إننا لندعو بأقوالك، ونبكي بدموعك، ونبتهل بأناشيدك؟).
لو أن بعض هذه الأرواح التي ليست في هذا العالم مطلقاً تستجيب في سرها لأصواتي الخافتة الضعيفة. ولو أن بعض القلوب التي ما زالت قاسية تتفتح وتذرف دمعة جديدة؛ ولو أن بعض هاتيك الأرواح الحساسة التقية تفهمني وتعرفني وتبلغ سويداء قلبي وتُتِمُّ بينها وبين نفسها ألحاناً لم أزد على أن ضربت على بعض أوتارها فإن هذا حسبي، وإن هذا لغاية متمناي، بل إن هذا لأبعد من أن أرجوه!)
وإني لأتمثل بهذه الكلمة الجياشة بأنبل العواطف الإنسانية في توجيه هذا المقال الذي أرجو مخلصاً أن يكون فاتحة لهذه الموضوعات.
وبعد. . . فهذه أمنية الشاعر كما صورها لامرتين: روح تسبح، وخيال يحلق، وقلب يؤمن، وسعادة تغمر، ورضا واطمئنان يجملان الحياة.
صبحي إبراهيم الصالح
طرائف من العصر المملوكي:
السبعة الشهب
للأستاذ محمود رزق سليم
جرت عادة الشعر، أو اعتادت الطبيعة الشاعرة في كل أمة، وفي كل جيل من أجيالها أن تنجب، وأن تلد لنفسها من نجبائها رسلا يؤدون للناس رسالتها، ويقضون دينها، ويوفون للحياة حقها. فيكونون سريرتها النابضة وبصيرتها الوامضة، وبنودها الخافقة ولسنها الناطقة. ويحيون في جيلهم دولة الشعر والأدب.
ولو أننا تتبعنا العصر المملوكي من أوله إلى آخره، وهو زهاء قرون ثلاثة، تضم أجيالا ستة - إذا قدرنا لكل نصف قرن جيلا - لوجدنا في كل جيل منها حلبة من الشعراء، جالوا في الميدان، فرسان رهان، مالكين الأعنة شارعين الأسنة. والأدب اللباب مسلس لهم في الزمام، مرخ في الخطام. ليصلوا منه إلى الغاية، ويوفوا على النهاية. ولأدركنا أن الشاعرية المصرية ما كانت قط عقيما، وأن شعراءها ما كانوا أبداً مقصرين.
وإذا ذكرنا ما كان يحيق بالعصر وأدبائه، من متبطات الهمة وموهنات العزيمة، ومن منغصات العيش ومقعدات الأمل وموئسات الأدب، ثم رأينا أن شعراءه - بالرغم من هذا - انطلقوا في كل واد، وسرحوا في كل مسرح، حتى اتسعت في القول آمادهم، وبعدت آفاقهم، وقضوا حق الشعر فخلفوا منه أفانين، وأدوا رسالة الأدب فأبدعوا منه آيات. لعرفنا أي شعراء وأي أدباء كان هؤلاء الأسلاف.
وترى بين المتعاصرين منهم - فيما ترى - وشائج الأدب موصولة، وصلاته حافلة، وروح سارية متوثبة، ودعوته قائمة منشورة. لا يخلو أحدهم من مطارحة صديق أو معارضة رفيق، أو مداعبة صاحب، أو مفاكهة خليل، أو مسامرة نجي، أو معابثة شجي. أو مسابقة إلى مكرمة شعرية، أو مباراة في مأثرة أدبية.
وأولى حلباتهم حلبة الجزار والوراق، وابن عبد الظاهر والشاب الظريف. ثم حلبة ابن نباتة والحلي والصفدي وابن الوردي والشهاب بن فضل الله. ثم حلبة القراطي والموصلي وابن مكانس وابن أبي حجلة. - وهكذا لا تكاد تخلص من حلبة إلا إلى أختها، ولا تغادر طائفة إلى إلى غيرها. وإذا ذهبنا ننوه برجال كل حلبة عادين مآثرهم، ذاكرين مفاخرهم،
لاحتاج المقال إلى أكثر من مجال.
والسبعة الشهب الذين عنونا بهم المقال، يكونون حلبة من تلك الحلبات، أو على وجه أدق هم فريق من حلبة تعاصر رجالها وتعدد أبطالها. وقد اجتمعوا في القاهرة في وقت واحد، وكان كل منهم يلقب بشهاب الدين وهم سبعة من الشعراء الذين زاع صيتهم وملأ شعرهم فجاج القاهرة وغمر أسماعها، حتى أطلق عليهم القاهريون هذه التسمية (السبعة الشهب) وعرفوا بها، وسجلتها لهم كتب الأدب والتاريخ.
هؤلاء الشهب السبعة هم: الشهاب بن حجر العسقلاني، والشهاب بن الشاب التائب، والشهاب بن أبي السعود، والشهاب ابن مباركشاه الدمشقي، والشهاب بن صالح، والشهاب الحجازي، والشهاب المنصوري.
لمعت هذه الشعب معا في سماء القاهرة في أواسط القرن التاسع الهجري، وليسوا أول الشهب اللامعة به ولا آخرها، فقد سطع بالقاهرة من الشعراء غيرهم من يدعى (شهاب الدين) مثل شهاب الدين بن العطار المصري المتوفي عام 794هـ، ولكن ميزة هؤلاء المتشابهين في ألقابهم وحرفتهم أنهم تعاصروا واجتمعوا بها فاقترنت ألقابهم، وأضفى عليهم هذا التعاصر والاجتماع ثوبا من الجلال والشهرة.
وفضلا عما اشتهر به كل منهم على حدة من الفضل، عقدت المودة أواصرها بينهم. . أو على الأقل بين بعض منهم وبعض، واتصلت بينهم وشائج الأدب وروابط الفن، فتبادلوا بالشعر مقارضات الثناء ومطارحات الإخاء، ونمت فيهم مظاهر التعاطف والألفة مع التسابق في مضمار الأدب.
أما شهاب الدين بن حجر العسقلاني فهو قاضي القضاة العالم الفقيه الحافظ الرواية المؤلف المؤرخ، صاحب كتاب (الدرر الكانتة) و (فتح الباري) و (الإصابة) وغيرها من ذخائر الفقه والتاريخ والحديث. وهو الأديب الشاعر النائر. وفي إحدى مقالاتنا السابقة جلينا صفحة من أدبه وروينا فيها طرفا من شعره، ذاكرين أن له ديوان شعر مخطوطا قيما لا يزال قابعا مجفوا في رف من رفوف دار الكتب المصرية. ولا بأس هنا أن نذكر أنه قال الشعر في أغراض عدة منها النبويات والمدائح والإخوانيات والغزل وغيرها. وقد وشح وقطع، وطارح وورى وألغز وحاجى، إلى غير ذلك.
ومن لطيف أغزاله قوله:
صب للقياك بالأشواق معمود
…
فقيد صبر عن الأحباب مفقود
ناء عن الأهل والأوطان مغترب
…
وواحد ماله في الصبر موجود
متيم قد بكى بعد الدموع دما
…
كأنما هو في عينيه مفصود
النار ذات وقود في جوانحه
…
شوقا وفي خده للدمع أخدود
يا مخجل الشمس بالأشواق إن فتى
…
طلعت في داره يوما لمسعود
أسرت قلبي ومذ حجبت عن بصري
…
تهيا فكان له بالقرب تبعيد
روى أن شهاب الدين بن مباركشاه مدح ابن حجر بقصيدة دالية. وروى أن شهاب الدين الحجازي كان يطارح ابن حجر شعراً.
وكان ابن حجر أول شهاب منهم خبا ضوءه وغاب شاعاعه، وأسلم للمغيب، وكان ذلك في عام 852هـ وقد رثاه الشهابان الحجازي والمنصوري. فقا لأولهما من قصيدة رائية:
كل البرية للمنية صائره
…
وقفو لها شيئاً فشيئاً سائره
والنفس إن رضيت بذا ربحت وإن
…
لم ترض كانت عند ذلك خاسره
ومنه يصفه:
فكأن في قبره سر غدا
…
في الصدر والأفهام عنه قاصره
وكأنه في اللحد منه ذخيرة=أعظم بها درر العلوم الفاخره
وذكر الشهاب المنصوري أنه سار في جنازته، فأمطرت السماء على نعشه، وقد قرب إلى المصلى، ولم يكن الوقت وقت مطر فقال:
قد بكت السحب على
…
قاضي القضاة بالمطر
وانهدم الكرن الذي
…
كان مشيدا من حجر
أما شهاب الدين المعروف بالشاب التائب فهو أحمد بن علي ابن محمد القرافي القاهري الشافعي. ذكر السخاوي في الضوء أنه كان أديبا فاضلا جيد الخط، أخذ العلم والأدب عن ابن الهمام والشمني والحصني، وقرأ توضيح ابن هشام. وأنه كان يطارح بشعره. وممن طارحهم الشهاب المنصوري ومن شعره موريا في حسناء اسمها شقراء:
سبقت لميدان الفؤاد بحبها
…
شقراء تجذب مهجتي بعنان
فتراكبت حمر الدموع وشبهها
…
مذ جالت الشقراء في الميدان
والشاب التائب هو ثاني المودعين من الشهب، فقد توفى عام 861هـ.
وبهذه المناسبة نذكر أن هناك شابا تائبا آخر ولد بالقاهرة سنة 767هـ، واسمه أحمد بن عمر بن أحمد، ولقبه شهاب الدين أيضاً، كان يتعاطى العلم حتى عد في الفضلاء، ويجلس على موائد الأدب حتى عد في الأدباء. وكان ينظم الشعر ويميل إلى الصوفية حتى اعتقد فيه بعض الناس، ومات بدمشق عام 832هـ. روى ذلك السخاوي في الضوء أيضاً.
أما شهاب الدين بن مباركشاه، فهو أحمد بن محمد حسين القاهري الحنفي، تلقى العلم على ابن الهمام وابن الديري، وغيرهما. وصنف بعض الكتب، ومنها كتب أدبية مثل (السفينة). وبرع في نظم الشعر، قال عنه ابن إياس:(كان من أعيان الشعراء)، حسن اتصاله بكثير من أعيان عصره ومنهم ابن حجر العسقلاني، وقد روينا أنه مدحه بقصيدة دالية. ومن شعره يشبه عشرة بعشرة قوله:
فرع جبين محيا قامة كفل
…
صدغ فم وجنات ناظر ثغر
ليل هلال صباح باتة ونقا
…
آس إقاح شقيق نرجس در
وله في القناعة:
لي في القناعة كنز لا نفاد له
…
وعزة أوطأتني جبهة الأسد
أمسي وأصبح لا مسترفدا أحدا
…
ولا ضنينا بميسور على أحد
والشهاب بن مباركشاه هو ثالث من توارى من الشهب، فقد توفى عام 862هـ.
أما الشهاب الرابع فهو شهاب الدين بن أبي السعود، وكان هو والشهاب بن صالح كثيري المطارحة. وقد توفى في مكة عام 870هـ.
وشهاب الدين بن صالح، اسمه أحمد بن محمد بن صالح، قال عنه ان إياس (كان حالما فاضلا وأديبا شاعراً ماهرا) ويعرف بابن صالح، وبسبط السعودي. والسعودي هو جده شمس الدين كان عالما وأديباً مصنفا.
وقد أكب ابن صالح على دراسة علوم الدين والعربية حتى برع في كثير منها، متتلمذا على جلة شيوخ عصره مثل القاياتي والشمني والنويري. وأقبل على فنون الأدب حتى حذقها، وأجاد في نظم الشعر، فانسجم لفظه ومعناه. وطرق أبواب المديح والإخوانيات ونظم
العلوم. وطارح أنداده من كبار الشعراء ويقال إنه كان أرق شعراء عصره نظما. ويفضله صديقه شريف الدين العطار على ابن حجر العسقلاني وابن نباتة المصري. وكان هو وشهاب الدين بن أبي السعود فرسي رهان. واتصل بأعيان عصره ومنهم الكمال ابن البارزي. وكان ذكيا سريع الإدراك. وقد نظم العقائد النسفية شعرا. ويحدثون عنه أنه هجر الشعر بأخرة وجنح إلى العلوم.
ومن شعره يشب بمن اسمه (فرج) ويورمي ومضمنا:
شكا فؤادي هم الصد يا فرج
…
وفيك أصبح صدري ضيقا حرجا
واستيئس القلب حتى رحت أنشده
…
يا مشتكي الهم دعه وانتظر فرجا
ومدح السخاوي صاحب الضوء اللامع، ومن قوله فيه:
وقد حفظ الله الحديث بحفظه
…
فلا ضائع إلا شذى منه طيب
وما زال يملا الطرس من بحر صدره
…
لآليء إذ يملي علينا ونكتب
ومات ابن صالح في عام 873هـ. وهو خامس الشهب ظعنا.
أما سادسهم فشهاب الدين الحجازي، المولود في القاهرة عام 790هـ. واسمه أحمد بن محمد بن علي الأنصاري الخزرجي الشافعي. كان سريع الحفظ. وقد بدأ حياته التعليمية بدراسة مذهب الإمام الشافعي وحفظ حديث الرسول عليه السلام. وغير ذلك من علوم الدين. ثم أقبل بجماع نفسه على الأدب، وأجاد في قرض الشعر حتى طار صيته في الآفاق، وطارح العسقلاني، وراسل الشهاب المنصوري، وغيرهما.
وكان الحجازي خفيف الروح لطيف المعاشرة طريف المحاضرة. ويبدو لنا أنه كان عالي الهمة وثابا إلى المكرمات الأدبية، فقد روى أنه جمع شعره ونثره في ديوان. وله مختصر في شرح المقامات. وله شرح على المعلقات. وصنف كتبا أدبية عدة منها تذكرة في نحو خمسين مجلدة، وكتاب قلائد النحو في جواهر البحور. وكتاب في الألغاز وكتاب في الحماقة مرتب على حروف المعجم. - وفي دار الكتب المصرية نسخة مخطوطة محلاة بالذهب من كتابه (روض الأداب) وهو مجموعة أدبية مرتبة على خمسة أبواب: المطولات والموشحات والمقاطيع والنثريات والحكايات. ويبدو أنه لم ينجب، وذلك لقوله:
قالوا إذا لم يخلف ميت ذكرا
…
ينسى، فقلت لهم في بعض أشعاري
بعد الممات أصيحابي ستذكرني
…
بما أخلف من أولاد أفكاري
ومن شعره:
قصدت رؤية خصر مذ سمعت به
…
فقال لي بلسان الحال ينشدني
انظر إلى الردف تستغني به وأنا
…
مثل المعيدي فاسمع بي ولا ترني
وقد مات الشهاب الحجازي عام 875هـ عن خمس وثمانين سنة تقريباً، فرثاه صديقه الشهاب المنصوري بقصيدة منها:
لهف نفسي على أفول الشهاب
…
تحفة القوم نزهة الأصحاب
كان في مطلع البلاغة يسري
…
فتوارى من الثرى بحجاب
فقدت بره أيامي المعاني
…
ويتامى جواهر الآداب
هطلت أدمع السحاب عليه
…
وقليل فيه دموع السحاب
وبموت الحجازي أصبح الشهاب المنصوري وحيداً لا شهاب غيره فقال يرثي زملاءه الستة:
خلت سماء المعاني من سنا الشهب
…
فالآن أظلم أفق الشعر والأدب
تقطب العيش وجها بعد رحلة من
…
تجانبوا بالمعاني مركز القطب
تعطلت خرد الأيام من درر
…
كانت تحلى بها منهم ومن ذهب
لو تعلم الأرض ماذا ضمنت بطرت
…
بهم كما يبطر الإنسان بالنسب
ولو درى المسك أن الأرض قبرهم
…
لود نشقة عرف من شذى الترب
وقد أصبح المنصوري من بعدهم شاعر عصره غير منازع، ورأس أدبائه غير مدافع. واسمه أحمد بن محمد بن خضر السملي، ويعرف بالهائم القاهري. كان جميل الهيئة متعففاً عن الناس. مهر في نظم الشعر وسلك به أبواب الغزل والوصف والمديح والرثاء وغيرها. وقد عاش بين سنتي 799هـ، و887هـ، ومات بعد أن نيف على الثمانين، وبعد فالج أصيب به فأقعده زمنا. وقد جمع شعره في ديوان كبير. وتقدم لنا من نظمه أمثلة. ومن قوله في الشكوى:
ليت شعري وفي الزمان خطوب
…
وبلاء يختص بالأحرار
هل لميت قضى عليه طبيب
…
من كفيل أو آخذ بالثار
وقال متفزلا فيمن اسمه (شاهين) مع التورية:
قد صاغك الله من لطف ومن كرم
…
وزاد حسن بالإحسان تزيينا
فاخفض جناح الرضا واصطد طيور وغى
…
من جو إخلاصنا إن كنت شاهينا
هؤلاء هم السبعة الشهب. ولو مدنا التاريخ بالكثير من أخبارهم لكان للبحث فيهم مجال أوسع، ولكن هذه الآثار التي قدمها عنهم تدل على علو كعبهم ورسوخ قدمهم في الأدب والشعر، فهي منهم كالعنوان من الكتاب، واللمعة من الشهاب.
محمود رزق سليم
مدرس الآداب بكلية اللغة العربية
نامي.
. .
للأستاذ إبراهيم محمد نجا
نامي فإن الليل قد جاَء
…
ومضى النهار، وكان ضوضاَء
والنهر نام، فلم يعد ماَء
…
لا. . بل ملاكا رائع الطهر
نامي لدى صدري؛ ففي صدري
…
دنيا من الأنغام والشعر
إن كنت أنت خميلة الزهر
…
فأنا الهزار يهيم بالمطر
واستقبلي حلم الصِّبا العذب
…
فيه تطير عرائس الحبِّ
هو صورة لنوازع القلب
…
ما أروع الصور التي تغري!
إني سأقضي الليل سهرانا
…
أرعى الصبا غضَّا وفينانا
لا. . . لا تخافي لست سكرانا
…
إني بدأت أُفيق من سكري
لا بأس إن قبَّلت يا ليلَى
…
ثغراً يضيء بنوره الليلا
أترين أني آثم؟ كلا
…
ليست أثاماً خمرة الثغر
لا بأس إن داعبت يا ليلَى
…
(كأسين!) ما أغلى وما أحلى!
أنا إن لعبت فلم أزل طفلا
…
لعب الطفولة غير ذي وِزْرِ
قومي فإن الفجر قد لاحا
…
والبلبل الغرِّيد قد راحا
يستقبل الأنوار صداحا
…
ويطير من زهر إلى زهر
والزهر داعبه الندى فصحا
…
واهتز في أوراقه فرحا
قد خلته في غصنه قدحا
…
في كفَّ أَغيدَ مائِل الخصر
وسرى النسيم مُنى وأفراحا
…
تشدو فيشدو الكون أوراحا
وتثير عطر الزهر فوَّاحا
…
فإذا الوجود يفيض بالسحر
هذا الصباح يبث في نفسي
…
دنيا من الأفراح والأُنس
هاتي المدام، وقربي كأسي
…
أو قربي شفتيك من ثغري
قومي اسمعي أنغامي السَّكْرى
…
تذكي الحنين، وتبعث الذكرى
قد أرسلتها نفسي الحيرى
…
لتذيع ما بالنفس من سِرّ
قومي نطر في أفْقنا السامي
…
أنشودة من وحي أحلامي
ذهب الظلام، وتلك أنغامي
…
تهتز بين أشعة الفجر
قومي نغني غنوة الحب
…
فو الربا الريانة العشب
ما بال هذا الواله الصب
…
لا يستقر اليوم في صدري؟!
ما باله كالطائر النزق
…
طال الحنين به إلى الأُفُق؟
تمضي الحياة به على قلق
…
من ذلة الحرمان والأسر!
قومي اسأليه الآن في عطف
…
ماذا تريد؟ وما الذي تُخفي؟
سيجيب: أمنيتي التي تشفي
…
هي قبلة من ثغرك البِكْر
هي قبلة تُهدي إلى نفسي
…
أمل الشباب، وبهجة العرس
وتنير مثل أشعة الشمس
…
فيذوب فيها كالندى عمري
ساعي البريد
للأستاذ شفيق معلوف
ساعي البريد وما ينفك منطلقاً
…
وكل باب عليه غير موصود
يسعى بأكداس أوراق مغلفة
…
تفوح منهن أطياب المواعيد
خلف النوافذ أجفان مشوقة
…
إليه تخفق من وجد وتسهيد
بدا فهز عقود الغيد مقدمه
…
هز النسيم لحبات العناقيد
كم قبلة من فم العشاق يحملها
…
علي يديه ويهديها إلى الغيد
يا ساعياً بابتسامات توزعها
…
على الشفاه بلا منٍّ وترديد
كم وجه أم عجوز إن برزت له
…
لم تُبق من أثر فيه لتجعيد
تلقي إليها كتاباً إن يصب يدها
…
شدته باليد بين النحر والجيد
كأن كل غلاف منك ملتحف
…
بابن إلى صدر تلك الأم مردود
وكم وكم رقعة كالحظ مشرقة
…
وهبتها كل كابي الحظ منكود
يا واهباً كل بشرى حين جدت بها
…
راحت تكذب عنك الفقر بالجود
أبعدَ بذْلك فينا ما بذلت نرى
…
عينيك في مأتم والناس في عيد
لو تعلم الناس يوماً أنها سلخت
…
أيامها البيض من ليلاتك السود!
شفيق معلوف
رسالة النقد
كتاب الكندي إلى المعتصم بالله
في الفلسفة الأولى
حققه وقدم لـ الدكتور أحمد فؤاد الأهواني
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
لم تمض إلا أربعة أشهر أو خمسة على كتاب (معاني الفلسفة) الذي ألفه الدكتور أحمد فؤاد الأهواني حتى أتحف جناح الفلسفة في المكتبة العربية بكتاب من كتب فيلسوف العرب يعقوب الكندي، وهو الكتاب الذي بعث به أول فيلسوف من فلاسفة العرب إلى الخليفة العباسي.
ولم يكن غريباً على فلاسفة المسلمين أن يبعثوا بكتبهم إلى الخلفاء، ولم يكن جديداً على (الكندي) نفسه أن يراسل الخلفاء في مسألة من مسائل العلم، فقد ذكر ابن أبي أصيبعة في (طبقاته) أن للكندي رسالة إلى المأمون (في العلة والمعلول).
وتحمل مراسلات الفلاسفة للخلافة والأمراء معنى تشجيع هؤلاء لأولئك، وهي في ذاتها دلالة من الواقع والتاريخ على ما كان يقوم به الخلفاء من احتضان العلماء وتقريبهم ومعونتهم على أداء الرسالة الجليلة التي نصبوا أنفسهم لها، وأضنوا أنفسهم في سبيلها.
وعنوان الرسالة نفسه (في الفلسفة الأولى) يحمل سؤالا يرد على الخاطر لأول وهلة؛ فهل هناك فلسفة أولى تقابلها فلسفة ثانية وثالثة ورابعة؟ وهل هناك فلسفة أولى تقابلها على سبيل الطباق البلاغي فلسفة آخرة؟ كما يقال في الشهور القمرية جمادي الأولى وجمادي الآخرة؟ وكما يقال في صفات الله: هو الأول والآخر؟؟
ظننت أول الأمر أن الفلسفة الأولى هي فلسفة اليونان التي اشتغل بها العرب في إبان بهضتهم في الترجمة. فقد أكبوا على فلسفة اليونان ونقلوها إلى اللسان العربي الذي كانت الفلسفة شيئاً جديداً عليه. ولكن الدكتور الأهواني يقول في مقدمته التحليلية النفيسة للرسالة إن اصطلاح (ما دون الطبيعيات) هو نفسه (الفلسفة الأولى) ص 55؛ وقد يكون ذلك مقبولا لو أن عنوان رسالة الكندي هو (كتاب الفلسفة الأولى أو ما دون الطبيعيات)، ولكن
العنوان هو كما يذكر الدكتور الأهواني (كتاب الفلسفة الأولى فيما دون الطبيعيات والتوحيد)، ويستنبط المحقق من هذا النص أن ما دون الطبيعيات غير التوحيد، ولكنه ينسى ما يقوله الكندي في أحد مواضع الرسالة أن الفلسفة هي علم الربوبية والوحدانية - أو التوحيد - وينسى ما يقوله الكندي في موطن آخر:(إن علم العلة الأولى سمى بحق الفلسفة الأولى).
ورسالة الكندي في الفلسفة الأولى لا تزيد على نصف الكتاب المطبوع اليوم إلا قليلا. أما النصف الأول فهو تحقيق علمي دقيق في ترجمة الكندي ونشأته ومنزلته في تاريخ الفلسفة الإسلامية وأسلوبه في الكتابة الفلسفية وتحليل الرسالة ذاتها، وقد أضاف هذا التحقيق كثيراً من القيمة لهذه الرسالة التي كانت للدكتور الأهواني فضل نشرها في لغة العرب لأول مرة، وهو فضل نسجلة دائماً مع الشكر لكل من يزيح ستراً عن أثر من آثار المسلمين إبان نهضتهم في زماننا هذا الذي تدعونا فيه دواع كثيرة إلى كشف الغطاء عن كل أثر إسلامي صغر أو كبر.
وإذا كنا أخذنا في عدد ماض من مجلة (الرسالة) على الأستاذ فؤاد جميعان عدم استيفاء التحقيق والتحليل لكتاب (ميزان الحكمة) الذي ألفه الحكيم الرازي، فان الدكتور الأهواني كان في الحق بعيداً عن موضع المواخذة حين أخرج رسالة الكندي في الفلسفة الأولى هذا المخرج الذي يجري على أسلم قواعد نشر المخطوطات. وإذا كان لم يقع لصديقنا الأهواني من مخطوط الكندي إلا نسخة خطية واحدة فانه في الحق قد عني نفسه في التحقيق والمراجعة على الرغم مما عاناه من رداءة الخط وكثرة التصحيف وعدم الإعجام في النسخ.
ولا أقول إن تحقيق الرسالة الكندية المعتصمية قد أوفى على الغاية، وخاصة حينما لا يكون بين يدي الناشر إلا مخطوط واحد يجتهد في تخريج الغامض من نصوصه عى ما يقتضيه السياق حيناً أو على ما يوحى به الحدس أحياناً. . . مما يحمل الناشر على أن يقول هذه العبارة التقليدية. . .:(في الأصل كذا ولعلها كذا) ولعل ما يقع من اضطراب أو غموض في أسلوب الكندي مردود في بعض الأمر إلى ما عند الناسخين من تخليط وتصحيف. والدكتور الأهواني يعترف معي بأن الكندي الذي تقع له العبارات البليغة في بعض رسائله
ويحدث له التعبير المشرق (في رسالة في الحيلة لدفع الأحزان) لا يقع له الغموض في بعض ما كتب إلا حين يحمله التفلسف على التوعر.
وأخشى أن يكون الكندي مظلوماً في الذي قيل من رداءة أسلوبه. فهل كان هو ينقل الرسائل عن اليونانية بنفسه أم كانت تنقل له؟ فاذا كانت تنقل له فليس الذنب في الأسلوب ذنبه، ولكنه ذنب الناقل. . . ألم يختلف مؤرخو الحكمة الإسلامية في كتب الكندي اختلافاً يدعو إلى العجب. . . فابن النديم يقول عن كتاب جغرافية بطليموس إنه نقل للكندي نقلا رديئاً. . . ويقول القفطي إن هذه الكتاب (نقله الكندي إلى العربية نقلا جيداً). فأنت تقف أمام هذا التناقض موقفاً لا تدري وجه الحق فيه.
ويذكر ابن النديم أيضاً أن كتاب (الإلهيات) لأرسطو نقله أسطاث المترجم للكندي الفيلسوف. فيزيدنا شكا في رسائل الكندي وصحة نقله إياها من اللسان اليوناني. . . على أن صديقنا الدكتور الأهواني لا يبالي بأمثال هذه الشكوك ويمضي في رسائل الكندي كأن الطريق إليها مأمون العثرات. . .
ويظن بعض الناس عمداً أو خطأ أن الكندي مسيحي سرياني. وقد وقع في هذا الوهم الفيكونت فيليب طرازي في كتابه القيم (عصر السريان الذهبي). ومن عجب أن هذا الكتاب طبع سنة 1946، وطبع قبله كتاب للمرحوم الشيخ مصطفى عبد الرازق وفيه نفي لمسيحية الكندي وتحقيق لهذا المسألة تحقيقا لا يدع مجالا للشك فيها. وأظن أن الكونت طرازي قد وقع له كتاب الشيخ مصطفى عبد الرازق لأنه يفتخر بمكتبته العامرة في بيروت فما معنى الإصرار على الأمر بعد تبين الحق فيه؟؟ وقد أشرت إلى ذلك في مجلة (الكتاب) عدد فبراير سنة 1946 ص 916، ولعل الدكتور الأهواني رأى أن هذه الحقيقة في إسلامية الكندي وعربيته لا تحتاج إلى مزيد من التحقيق أو التقرير.
والكندي لم يُتهم بالانتساب إلى يونان كما يقول الدكتور الأهواني في صفحة 23. والظاهر أن المسألة اختلطت على الدكتور وهو ينقلها عن (المسعودي) في كتابه (مروج الذهب) فلم يقل الكندي إنه يوناني، ولكنه كان يذهب مذهب القائلين في الأنساب أن يونان أخ لقحطان. وشتان بين هذا وذاك.
أما الشاعر الذي هجا الكندي لهذا الخلط في الأنساب فهو أبو العباس الناشيء من طبقة ابن
الرومي في الإجادة وما كان يستحق من الناشر هذا التنكير بقوله عنه (أحد الشعراء). . . وصحت البيت الأخير من أبيات (الناشيء) كما يلي:
وتخلط يونانا بقحطان ضلة
…
لعمري لقد باعدت بيهما جداً
ويظهر أن الكندي مبتلي باضطراب الناس في حياته وفي آثاره وفي قيمته الفلسفية؛ فالدكتور مدكور يقول عنه إنه كان ممهداً للفلسفة الإسلامية ولم يكن فيلسوفاً. والدكتور أبو ريدة يقول عنه إنه كان فيلسوفاً بالمعنى الواسع الذي يتمثل في فلاسفة اليونان. والمرحوم الشيخ مصفى عبد الرازق يقول إن ما بأيدينا من آثاره لا يمكن من استخلاص مذهبه الفلسفي نسقا كاملا. وأغرب ما في هذا الاضطراب أن شهرة الكندي كانت موضعاً للخلاف عند الناس. حتى أن الدكتور الأهواني يقرر في ص 36 أنه كان عديم الشهرة، وأن رداءة أسلوبه كانت علة في عدم شهرته. وأين هذا من قول الناشر نفسه في صفحة 38 بأن الكندي اشتهر بالفلسفة، وكأنه بهذا يناقض نفسه. . . وأين هذا من قول القفطي عنه:(إنه المشتهر في الملة الإسلامية بالتبحر في فنون الحكمة الخ).
بقيت كلمة واحدة في مقدمة الدكتور الأهواني لرسالة الكندي في الفلسفة الأولى، فقد بلغت من وضوح المقاصد وسلامة المنهج وسهولة التعبير مبلغاً نهنيء الأستاذ عليه، وخاصة إذا قيست بالرسالة نفسها وما فيها من غموض في بعض المواطن. وكأن الدكتور الأهواني يعني أن يقول بهذا الوضوح المقصود أن الغموض التعبيري ليس دائماً من أدوات الفلسفة ولا من لوازمها.
محمد عبد الغني حسن
الكُتب
جولات في القاهرة
تأليف ر. ل ديفنشير
هي العناية الآلهية التي أنقذت القاهرة من التدمير كلما شبت الفتن واحتدمت الحروب. فتقاصرت دونها قنابل الألمان وما حشدوا من جيش وعتاد، وتحطمت قبل أن تصل إليها قوى المغول المدمرة المخربة، وارتد عنها الصليبيون في ذلة وانكسار، وبقيت القاهرة وحدها تحمل تراث الإسلام الفني المجيد، كاملا غير منقوص، واحتفظت القاهرة بسلسلة متصلة الحلقات لكل عصور الأسر الاسلامية الحاكمة، من يوم أن شاء الله لدينه أن يستقر على ضفاف النيل. . . ونجد هذا التراث فيما ورثناه من عمائر وتحف ومخطوطات، تظل دائماً تذكرنا بجمال الماضي وعظمته وجلاله، وتظل دائماً تحفزنا على استرجاع مجد أجدادنا، فنعيد للاسلام قوته وعزته وروعته.
فإن تكن المؤلفت قد اختارت القاهرة تجول بين آثارها الاسلامية شارحة أصولها الفنية في هذا الكتاب، فقد أحسنت الاختبار الاختبار. وإن يكن للمؤلفة في أعناقنا - نحن العرب - جميلا لفرط غيرتها وتحمسها لآثار الإسلام، أو لأنها اتخذت من الصحافة منبراً تلقي من فوقه الإرشاد للعناية بآثار الإسلام، فدفعت المسئولين إلى المحافظة عليها، فإننا قوم لا ننكر الجميل. . ولكن الأمر الذي استحقت من أجله عطف جلالة الملك الراحل ورعاية جلالة الفاروق العظيم، فأنعم عليها بنشان الكمال في عيدها الثمانيني، إنما هو صدقها في دعوتها للآثار الإسلامية، نراه واضحاً فيما تكتب من مؤلفات أو تلقي من محاضرات، صححت بها شعور آلاف من الأجانب الذين كانوا لا يدرون عن القاهرة إلا تلك الاكاذيب المخترعة التي حشرها في أدمغتهم مرتزقة الاستعمار، وكتاب أقاصيص الخيال الدنيئ.
وكتاب (جولات في القاهرة) هو دراسة تاريخية وافية لمختلف العمائر الإسلامية، من مساجد وأضرحة ومدارس وتكايا وقصور ومنازل خاصة، أو قناطر وأسيلة وأسوار وبوابات مع إلمامة طيبة بمحتويات دار الآثار العربية وما ضمنت من تحف نفيسة. وقد اتبعت المؤلفة في تبويب كتابها هذا طريقة الجولات بحيث يستطيع القارئ أن يقوم بنفسه بهذه الجولات وأن يدرس الآثار الإسلامية في القاهرة جملة وتفصيلا دون أن يصعب عليه
الأمر أو يصيبه ملل أو كلال.
فيتناول الكتاب أهم الآثار القائمة فيقدم للاثر لمحة سريعة عن تاريخ حياة صاحبه، والأحوال التي بنى فيها الأثر، والآراء التي أثيرت حوله، ويرد عليها، ثم يدرسه من الناحية المعمارية، ويشرح الأساليب الفنية التي اتبعت فيها، والتأثيرات الغريبة التي اقتبسها الفنان المسلم بعد أن صقلها بما يلائم ذوقه وفنه ودينه
وبالرغم من أن الفنان المسلم كان منكراً لذاته، معتزاً بفنه، فلم يكن كثير الاهتمام يذكر اسمه على كل العمائر التي بناها، أو التحف التي صنعها، إلا أن المؤلفة تشاء أن ترد إليه حقه واعتباره الأدبي فتقول:(ويبدو لي أن الفنان المسلم الذي عاش في تلك الأيام كان عاشقاً للجمال لذاته، بل كان مخلصاً في محبته لنتاجه، فنرى مثلا صانع الفخار المصري بفرغ غابة الجهد في العناية (بشابيك القلل) وهو يعلم تماماً أنها خافية محجوبة عن الناظرين). . .
وترد على الذين يتهمون المسلمين بهدم عمائر غيرهم ليحصلوا منها على مواد البناء: (حقاً أن المسلمين كانوا يستولون على أعمدة الكنائس المسيحية والمعابد المصرية القديمة ليستعملوها في عمائرهم. . . ولكن مسيحي إيطاليا كانوا أيضاً يتبعون نفس الطريقة، فدمورا المعابد الرومانية الكلاسيكية ليحصلوا على أعمدتها). . .
وطالما نقدت احتلال القوات الانجليزية للقلعة واستعمالهم مسجد الناصر محمد بن قلاوون (ففي سنة 1885 كان هذا المسجد محولا إلى سجن حربي، إلا أن أحد الضباط الانجليز زاد الأمر سوءاً فحوله إلى مخزن للذخائر في سنة 1915 فبات عرضة للنسف بين لحظة وأخرى فيختفي من عالم الوجود أثر فني جميل).
على أن طول الاحتلال للقلعة ترك هذه المنطقة بكراً، في حاجة إلى الكشف والتنقيب (فان دراسة الأستاذ كريزويل لم تتعد الأجزاء الشمالية من قلعة صلاح الدين، أما الأجزاء الجنوبية الغريبة من القلعة فقد عثر فيها على طغراء قايتباي وبعض الأقبية والعقود التي ترجع إلى القرن الرابع عشر مما يثبت لنا وجود عمائر في هذه المنطقة).
وبعد أن أفاضت في شرح نواحي القوة في عظمة العمائر الطولونية، وفخامة المساجد الفاطمية، وجمال المدارس الأيوبية، وجلال القباب ورشاقة المآذن المماليكية، تكلمت عن
الفن الإسلامي في مصر إبان الحكم التركي، وأبانت كيف أن البلاد أصيبت بنكبة فنية قاسية على يد السلطان سليم الأول.
ويحدثنا التاريخ عن أن الأتراك ملؤوا سفائن من الفسيفساء ومصبعات الرخام وتحف خشبية منقوشة الخ. . . وحشدوا معها زبدة الفنانين المصريين وأرسلوهم إلى القسطنطينية - وأن واحدة على الأقل من هذه السفائن قد غرقت بما فيها من حمل غال ثمين.
وتنفرد دار الآثار العربية بمجموعتها المشهورة من المشكاوات الأسلامية. وتود المؤلفة أن توجه نظر القارئ ألى هذه الثروة الفنية الرائعة وتلح عليه بزيارتها والاستمتاع بجمالها. . . والحق الذي لا مراء فيه أن القاهرة تفخر بامتلاك كنزين ثمينين لم تر الدنيا مثلهما: هذه المشكاوات، وكنوز توت عنخ آمون.
والكتاب من بواكير إنتاج (دار النشر للجامعات المصرية) أخرجته في ثوب فني قشيب تنافس به كبريات دور النشر الأوربية ومحلى بحوالي نيف ومائة صورة لمختلف العمائر والتحف الإسلامية أكثر من عمل الأستاذ كريزوبل، وخريطة مساحية كبيرة مبين عليها مواقع الآثار في مدينة القاهرة، وقائمة طويلة باسماء وتواريخ أهم الآثار الإسلامية بالقاهرة مرتبة حسب التدرج الزمني.
والكتاب رغم أنه جامعي في دراساته التاريخية الأثرية، إلا أنه وضع في أسلوب رشيق جذاب وبطريقة يفيد بها المثقفين عموماً، والزائرين أصحاب الوقت المحدد، وعشاق الفنون الإسلامية المشغوفين بها.
(القاهرة)
مصطفى كامل إبراهيم
وكيل اتحاد الثقافة الأثرية
البَريدُ الأدَبي
طيبة تكشف عن أسرارها:
هاهي ذي جمعية الآثار القبطية تسجل نصراً جديداً. وهي، منذ إنشائها عام 1934، تعمل دائبة حتى نالت تقدير الأوساط العلمية في العالم. وقد استطاعت أخيراً، بفضل أريحية سيدة مصرية فاضلة، أن تباشر حفريتها الأولى. وعهدت بذلك إلى الأستاذ شارل بشتلي سكرتيرها النشط، والعضو بجمعيات علمية، مصرية وأجنبية، عديدة، والمعروف بأبحاثه القيمة في علمي الآثار والأجناس والتاريخ.
والآثار القبطية، كما نعلم، حلقة من حلقات الآثار المصرية، يبدو تاريخ مصر بدونها ناقصاً، ولقد كانت مسرحاً للمسيحية في أول عهدها الحافل بالآلام والاستشهاد. فانعزل النساك في صحاري طيبة. وكان رهبان طيبة يتكاتبون على كسرات الفخار ثم على الرقوق في عصر متأخر. فكان لرسائلهم تلك فضل الكشف عن طريقة معيشتهم ومشاغلهم والكثير من عادات عصرهم.
وفي 1914 قدر لمتحف المتروبوليتان للفن بنيويورك أن يكتشف ببلدة القرنة دير إيفانوس. وكان فيما اكتشف كسرات فخار وأوراق بردي تشير إلى دير الأنبا فيبامون.
وفي أواخر عام 1947 قام الأستاذ شارل بشتلي بالكشف عن هذه الدير.
ودير الأنبا فيبامون من القرن الرابع للميلاد. وهو يقع من الأقصر على ثمانية عشر كيلو متراً، في ظل صخرة عمودية تعلو إلى خمسة وعشرين متراً، وقد طمر تحت الرمال والأحجار. وقد وجد على الصخرة نقش جنائزي يذكر اسم راهب: الأنبا إبراهيم، واسم الدير، فقُطع الشك باليقين وشُرع في رفع الأنقاض.
وقد اكتشفت أول مخزن للنبيذ، وأكد ذلك تحليل المادة السوداء التي وجدت ببقايا الجرار. ثم الإسطبلات وحظائر الضأن والأفران والأهراء وملحقات الدير جميعاً.
واكتشف كذلك مومياوان، ولاشك أن إحداهما للأنبا إبراهيم، وهما ملفوفتان في كفن من الكتان وقد حنظتا تحنيطاً كاملا. ولم يعثر على غيرهما. ولاشك أن الرهبان الآخرين دفنوا في المقبرة القريبة من هذا المكان وقد اكتشف من عهد قريب.
وقد عثر أيضاً على الخلوات والكنيسة التي لم يبق منها غير المصاطب، وكان الرهبان
يجلسو عليها وقت القداس، ثم بعض صلبان طليت بالأحمر، وبقايا صورة حائطية، ونقوش عديدة.
ونظام الخلوات على طريقة القديس باخوميوس، أي خلوات مشتركة؛ فتتضمن الحجرة سريرين أو ثلاثة أسرة من البنيان.
ويظهر بعض الرسوم حالة المسيحيين حينذاك. فيبدو فيها آثار مصر القديمة وذكرى عهد وثني غير بعيد.
اكتشف علماء الآثار مناطق اعتزال الرهبان فعلا، كما أنهم وصلوا بفضل النقوش وغيرها إلى معرفة الكثير من عاداتهم وعادات عصرهم. ولكن دائرة الفكر والعقيدة بقيت مغلقة. فهل قدّر لهذا الكشف أن يفتح لنا ما أغلق؟ إن الأستاذ شارل بشتلي يعد تقريره ليرفعه إلى جمعية الآثار القبطية، فنرجو له التوفيق.
عدلي طاهر نور
فلسطين والأدب:
فلسطين. . . اسم إذا ذكر دمعت العيون وتحرقت الأكباد وانفطرت القلوب، لا من بغي الصهاينة ووحشيتهم، ولا من شد أزر الدول الأجنبية لهم، فلم يجل بخاطر عربي ومسلم يوماً أن يترك الصهاينة عدوانهم وشرهم، أو يهجر الإنكليز خداعهم ومكرهم، أو يعدل الفرنسيون عن خصومتهم وجنونهم، أو يُعرض الامريكان عن تألبهم علينا (وحرانهم). . ولكن الذي تتقطع النفس عليه حسرات هو هذا الجمود الذي ران على عقول بعض الكبار فأبلاها، وتغلغل إلى حبات قلوبهم فأقساها، حتى غدوا لا يمدون فلسطين في هذه المحنة العصيبة إلا بخطب وبيانات ووعود وتصريحات، والشعوب مهتاجة، والأعداء يبطشون، والدنيا تنظر، والتاريخ يرتقب، ليروا ماذا نحن فاعلون!
فمن واجب الأدباء وقادة الفكر إزاء هذا أن يشعروا هؤلاء بواجبهم وينهضوا بهمهم ويشحذوا من عزائمهم. وللأدب في هذا الميدان جولة وصولة؛ فهو الذي يفصح عن رأي الشعب ويبين عن شعوره، ويفتح العيون الساهية على الواقع المرير، ويعرك بعض الآذان لينتبه أصحابها فيشعروا بشعور الناس ويفكروا بعقول الأمة ويتقدموا بعزيمة الشعوب. . .
وها قد شق الأستاذ (الزيات) للأدباء الطريق وضرب أحسن المثل، واستن الأستاذ (نقولا الحداد) هذه السنة الحسنة
والأمل أن يسير أدباؤنا في هذا الركب وينهجوا هذا النهج. فطوبى لمن حطم الكأس وكسر الدف وودع الحب وهجر الروح وتقدم إلى حلبة الكفاح ليذكي النار ويلهب النفوس واهباً قلبه وقلمه (لفلسطين) حتى يأتي نصر الله. إلا أن نصر الله قريب.
المعادي
(فتى الفيحاء)
الاتجاهات الدينية في الفلسفة الحديثة:
هذا هو موضوع المحاضرة القيمة التي ألقاها الأستاذ البطاوي في دار جماعة ابن رشد الثقافية في الأسبوع الماضي. وقد استحق الأستاذ منا الإعجاب والتقدير حينما عالج هذا الموضوع برغم خطورته حيث تكلم عن الفوضى الإجتماعية والتضارب الفكري والمذهبي بعد الحرب الثانية، وحيث تكلم عما يبدو - (بعد اكتشاف السلاح الذري) وقوف الدول الكبرى صاحبة الأمر والنهي عليه، وعن خشية الإنسانية من الفناء إن هي أقدمت على حرب عالمية أخرى - ما يبدوا بعد كل هذا وغيره من بشائر تتجه بالفلسفة الحديثة اتجاهاً شاملا سريعاً نحو الدين لكي تنقذ الإنسانية بوضعها إياها في حماه الأمين، وخاصة بعد أن تحقق كثير من الباحثين أن الفلسفة المادية تهوي بالمثل العليا إلى الحضيض وتدفع بالأمم إلى الأنانية البغيضة والتشاحن الذي يؤدي إلى الحروب والهلاك.
على هذا النمط سار الأستاذ في محاضرته مستشهداً بأحدث الآراء في الشرق والغرب للفلاسفة والباحثين في هذا الموضوع مقارنا بينها وبين أقوال القدماء عقب الحرب السبعينية وبعد الحرب العالمية الأولى ليخلص من كل هذا إلى تلك النتيجة الخالدة: وهي أن (الفلسفة الحديثة بدأت بالفعل تتجه اتجاهاً دينياً).
إلا أن إعجابنا بمقدرته لا يمكن أن يحملنا على التغاضي عن خطأ أو سهو عرض في أثناء الحديث عن (الأثنينية) وأحب أن يتفضل فيحدد موقفه منه على صفحات هذه المجلة الغراء؛ فإن له من الأهمية والخطورة ما يدركه كل دارس للفلسفة الحديثة فلكنا يعرف أن
ديكارت لم يكن (دخيلا) على (الأثنينية) كما ذكر المحاضر في كلامه عن الفلسفة في فجر نهضتها الحديثة؛ بل نعرف أنه كان (أثنينيا) إلى أبعد حدود (الاثنينية)، وهو يعد حقاً وليس زعما كما قال - مؤسس الإثنينية التي تقول بوجود الروح مع وجود المادة في العصور الحديثة. وما كان هذا ليخفي على باحث مثل الأستاذ المحاضر يعلم تمام العلم أن جمهرة مؤرخي الفلسفة يعدون ديكارت مؤسس الفلسفة الحديثة، ويعلم من كتب ديكارت نفسه - كما ذكر في محاضرته القيمة أنه مؤمن بالله وبخلود الروح، أما جهلنكس الذي أثنى عليه الأستاذ وقدمه على ديكارت، فإني لست أعرف له من فضل سوى أنه هذب أقوال ديكارت في الأثنينية وعدّلها إلى مذهب أو (الإتفاقيين).
أما أن يكون الدخيل أصيلا والأصيل دخيلا فهذا أمر لا يستقيم أبداً ولا يمكن أن ترتاح إليه نفس.
دكتور سمير الناصري
القَصصٌ
يا حياتي
صورة في أربعة مناظر
المنظر الأول:
جلس الضابط متكئاً على أريكة في منزله، وقد وضع رجلا على رجل متصنعاً هيئة الجد والوقار التي يظهر بها في نقطة البوليس التي يشرف عليها، وجلست زوجته بجانبه مطأطئة رأسها تدعو الله في سرها أن تكون العواقب سليمة. ووقف ابنه أمامه عاري الرأس واضعاً يديه خلف ظهره وقد التمعت عيناه وبدت على وجهه أمارات هي مزيج من الخوف والتحدي. وقال الوالد بعد فترة من الصمت الذي أراد به أن يلقي الرعب في قلب ابنه كما تعود أن يلقيه في قلوب المجرمين:
- لم عدت من القاهرة؟
- أظنك علمت أن المدرسة أضربت وأغلقت لمدة شهر.
- أظنك؟!
- ألم تعلم يا بابا؟
- أهكذا يخاطب الولد أباه؟
- ماذا أقول إذن؟
- أتجيبني على سؤال بسؤال! لقد ساءت أخلاقك كثيراً في القاهرة!
- يظهر أنك متعب اليوم!
- أتسخر مني يا كلب!
وانتفض الوالد وقد احتقن وجهه وبرزت عيناه ورفع يده ليهوي بها على وجه ابنه؛ غير أن الولد قال له: لا تضرب.
وأُخِذ الرجل وارتمى على مقعده قائلا في حشرجة تشبه حشرجة المحتضرين.
- ألست أباك يا علي؟
- وأنا ألست ابنك يا بابا؟
وكانت الزوجة قد أخذت بهذا التطور السريع في سير (المعركة) فلم تستطع أن تتكلم أو تتحرك أو حتى أن تفكر، ولكنها استردت بعض جأشها فقالت لابنها: اخرج يا علي. فخرج يمشي في خطوة عسكرية كأنه طالب في الكلية الحربية أو في كلية البوليس لا في كلية الزراعة ولكن لا غرو فالولد سر أبيه.
نظرت الزوجة خلسة إلى زوجها فوجدت الدموع تترقرق في عينيه فوضعت وجهها بين يديها وأجهشت بالبكاء، فتمالك الرجل نفسه بسرعة وقال لها: لا تبكي ولا تحزني فلابد من طرده من البيت. غير أن الزوجة رفعت رأسها بسرعة وقالت له:
- ماذا تقول؟
- أقول إن هذا الولد يحزننا ويتحدانا، وسيفسد أخلاق إخوته، وقد حصل عل التوجيهية وأصبح قادراً على الاستقلال بنفسه فليذهب إلى جهنم إذن.
- ألم يكمل لك أبوك دراستك؟
- كان أبير يضربني (بالمركوب) فلا أرفع عيني فيه.
- ذلك زمن وهذا زمن.
- فهمت الآن. أنت التي دللته وأفسدت أخلاقه. أخرجي معه إذن.
- أنا أخرج معه! أتطردني!
- يجب أن يكون بيتي مثال النظام والطاعة وحسن الأخلاق
- وماذا صنع ابنك حتى استحق منك كل هذا؟!
- ألا تعلمين أنه ينفق ثلث مرتبنا وحده في القاهرة على ملذاته، ولولا الفدانان لمتنا جوعا.
- أتستطيع أنت أن تعيش الآن في القاهرة بما يعيش به؟
- كنت أعيش بربع هذا المبلغ. إن ابنك يدخن ويحب أيضاً يا عزيزتي!
- يحب! يحب من؟
- يحب طالبة معه في الكلية.
- لا تصدق هذا الكلام. إنه لا يزال في الثامنة عشرة.
- ولكنها هي تزيد على العشرين واسمها سعدية عبد العظيم.
- أهذا صحيح؟
- نعم. أنا واثق. وهو يذهب إلى بيتها كل يوم بحجة المذاكرة.
- قد يكون هذا السبب صحيحا.
- أتصدقين هذا الكلام الفارغ!
- ألا يذهب إليها بعلم أهلها!
- لا أدري!
- أنك تسيء الظن دائماً.
- وفضلا عن ذلك فهو شيوعي!
- من قال لك هذا؟
- هو نفسه عندما قدم في أجازة نصف السنة، كان يلومني على أنني أؤجر الفدان بأربعين جنيها ويطلب مني أن أؤجره بثلاثين ليستطيع الذي يزرعه أن يأكل مثلنا.
- ليتنا نستطيع ذلك!
- ونموت جوعا!
- وهل هذا دليل على أنه شيوعي!
- كل آرائه وتصرفاته وإخلاقه تدل على أنه شيوعي. وأقسم بالله إن لم يرجع عن غيه لأكونن أول المبلغين عنه. . .
المنظر الثاني:
قال حسين بك فخري للحلاج عبد العظيم مبروك:
- لا أستطيع تخفيض الإيجار يا حاج عبد العظيم، إن نفقاتنا كثيرة وستزيد علينا الضرائب.
- كفى الله الشر.
- حضرات موظفي الحكومة لا يكتفون بمرتباتهم ولا يشبعون.
- قد يكونون معذورين يا سعادة البك.
- وماذا تصنع الحكومة؟ تأخذ من جيوب الناس وتعطيهم؟
- بل تعطيهم من المالية.
- والماليه يا حاج عبد العظيم من جيوبنا.
- الذي أفهمه أن المخدوم مكلف بالانفاق على الخادم.
- وهل يجب أن يأكل خادمك اللحم والفاكهة ويلبس الحرير.
- إن خادمنا تأكل مما نأكل وتلبس مما نلبس، ولذلك فهي أمينة جداً، تحافظ لنا على اللقمة وعلى المليم.
- ارسلها لي يا حاج عبد العظيم. إن خادمي اللص اللعين سرق من محفظتي خمسين جنيها.
- حاضر.
- حاضر صحيح، أوفك مجالس؟
- يا سلام يا سعادة البيك! والله لو طلبت سعدية بنتي جارية لأرسلتها اليك.
- اشكرك! وهل هي كبيرة؟
- انها في الجامعة يا سعادة البك.
- الخادم في الجامعة؟!
- بل سعدية بنتي يا سعادة البك.
- أهي جميلة يا حاج عبد العظيم؟
- انها في نظري جميلة جداً يا سعادة البك. هذه بعض صور لها عملتها لتلص واحدة منها على البطاقة.
- بطاقة التموين؟
- بل بطاقة الدخول في الكلية بعد الأضراب.
- أكانت مضربة؟
- كانت الكليه كلها مضربة.
- حتى البنات يضربن!
- انهن يتعلمن من الذكور يا سعادة البك.
- لعنة الله على الذكور وعلى الأناث! (ما عدا سعديه طبعاً يا حاج عبد العظيم.
أشكرك يا سعادة البك.
- وإكراما لهذه الصورة سأعفيك الآن من تحديد ميعاد لدفع المتأخر.
- أشكرك يا سعادة البيك!
- على شرط أن ترسل إلى الخادم الآن.
- على العين والرأس.
المنظر الثالث:
كانت الآنسة سعدية عبد العظيم مضطجعة على سريرها تقرأ في كتاب (الكيمياء الصناعية) وكانت أمها تقف بجوارها تكاد تطفر الدموع من عينيها وتقول لها:
- ردي عليّ يا سعدية. اسمعي كلامي! أنا أمك.
- كلمة واحدة! لن أتزوجه.
- أهذا كلام عاقلة؟ حسين بك الغني العظيم ترفضه فتاة فقيرة!
- عجوز وقبيح الشكل والأخلاق!
- يا ندامة يا بنتي! الرجل عيبه جيبه. ما له حسين بك سيد الرجال!!
- لا أريده.
كوني عاقلة يا سعدية. حسين بك هو الذي يؤجر والدك أطيانه ونحن مدينون له بألفي جنيه وقد وعد بالتنازل عنها وتخفيض الإيجار أيضاً، وسيعطيك (شبكة) جميلة ثمينة ولا يطلب منا أي جهاز. وهذا كنزٌ يا ابنتي نزل علينا من السماء.
- وكانت سعدية قد عادت إلى القراءة في كتابها وكأنها لم تسمع شيئاً من هذه المحاضرة الطويلة المغرية. فابتسمت أمها وقالت: خلاص! سأقول لوالدك إنها موافقة.
- من قال ذلك؟ يستحيل! يستحيل! تزوجوه أنتم! أما أنا فلا.
وهنا لم تتمالك الأم نفسها فأخذت تجهش بالبكاء وتلطم خديها وتقول. يا خسارة التربية! ستخربين بيتنا يا فاجرة.
لا كنْتِ ولا كانت أيامك. وكأنما تأثرت ابنتها فاعتدلت وقالت لأمها بصوت كأنه صادر من القبر. سأعمل ما فيه راحتكم.
وأسرعت الأم تزف إلى زوجها هذه البشرى.
أما سعدية فكانت تناجي نفسها قائلة: يريدون أن يبيعوني له كأنني سلعة أو جارية! وما ذنبي أنا إذا كان سي حسين بك يظلم أي في الإيجار وهو يريد تخفيض الإيجار، فيطلب
من الحكومة سن قانون لتخفيضه. أما أنا فسأترك لهم منزلهم وأعول نفسي وأتمم تعليمي.
وفي اليوم التالي لم تعد سعدية إلى منزل والديها.
المنظر الرابع:
بعد هذه الحوادث بشهر واحد وفي ضحى أحد الأيام كانت الشمس المشرقة الجميلة تشرق في أنحاء الديار المصرية على المناظر الآتية:
1 -
الطالب على عبد الحميد يجلس مكتئباً في غرفته وقد أمسك بيده ورقة الفصل من الكلية لعدم تسديد المصروفات.
2 -
الضابط عبد الحميد حمدي حزيناً في منزله وبجواره زوجته يقرآن خطاباً بخصم خمسة عشر يوماً من مرتبه لاشتراكه في إضراب ضباط البوليس.
3 -
الفلاح محروس جاب الله يقف واجماً أمام جاموسته التي تباع بأبخس الأثمان لتسديد ما عليه من إيجار الفدانين للضابط عبد الحميد حمدي.
4 -
زوجة محروس جاب الله تجلس في غرفة مظلمة حاملة بين يديها طفلها الذي يئن ويتلوى وهي تظن أن عليه عفريتاً وما به إلا الحمى الشوكية اللعينة.
5 -
الآنسة سعدية عبد العظيم مبروك تجلس أمام طفل صغير لصديقة لها تعلمه وتنتهز فرصة اشتغاله بالكتابة فتخرج من حقيبتها صورة للطالب عبد الحميد وتنظر إليها بحب وإشفاق.
6 -
حرم الحاج عبد العظيم في بيت متواضع مع باقي أطفالها تبكي وفي يدها ورقة طلاقها.
7 -
الحاج عبد العظيم يتوجه إلى أحد المحامين الشرعيين ومعه إعلان من المحكمة الشرعية.
8 -
حسين بك فخري في قصره الفاخر وقد أخرج من محفظته صورة جميلة للآنسة سعدية.
وكان كل من هؤلاء يتأوه قائلا: (يا حياتي).
فؤاد السيد خليل