الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 777
- بتاريخ: 24 - 05 - 1948
مقاييس الأعمال
للأستاذ عباس محمود العقاد
أعمال الناس لا تقاس بمقياس واحد.
لأنها قد تقاس بحسب النيات، وقد تقاس بحسب الغايات، وقد تقاس بحسب الأشخاص الذين يتولونها، وقد تقاس بحسب المناسبات التي تقع فيها.
فتختلف المقاييس على حسب اختلاف هذه الأحوال.
مثال ذلك أنك تنهي الطفل الصغير عن طعام يثقل عليه وتستبيح أنت تناوله، وتكون على صواب في الحالتين.
وأنك قد تنهاه في حالة المرض عن طعام تبيحه إياه في حالة الصحة، ولا تخطيء في هذا الاختلاف.
وأنك قد تمنع أخاك الصغير عن معاشرة أناس، ولا ترى أنت حرجاً في معاشرتهم، لأنك لا تخشى منهم على نفسك كما تخشى منهم عليه.
وقد يحدث العمل الواحد فيتلقاه رجل بالاستخفاف ويتلقاه غيره بالغضب، ولا اختلاف في الأمر غير اختلاف المزاج.
وقد يغتفر إنسان ما ليس يغتفره غيره، لتفاوت بينهما في وجهة النظر، وإن كان كلاهما من أفاضل الناس.
هذه الملاحظة، أو هذه الملاحظات، تزيل كثيراً من اللبس فيما يعرض في سيرة عمر بن الخطاب من الاختلاف بين حكمه على بعض الأعمال وحكم النبي عليه السلام على تلك الأعمال، وكل ما يستفاد من ذلك أن أفق الأخلاق الإنسانية واسع فسيح، وأنها تتسع لكثير من العوارض والأطوار، ولا يستفاد من ذلك حتماً أن هناك تناقضاً في الأعمال والأحكام.
وقد سألني الطالب النجيب (حسين حسين الجزار)، بمدرسة فاروق عن بعض هذه الأعمال التي اختلفت فيها وجهات النظر بين النبي والفاروق، فرأيت من المفيد في دراسة النفس الإنسانية، وفي دراسة العظماء على الخصوص، أن أبين الوجه الصحيح في النظر إلى هذه الفروق، بحيث يبدو من هذا النظر أن عمل النبي جائز من النبي، وأن عمل الفاروق جائز من الفاروق، ولا تناقض هناك، ولا غرابة في كلا الأمرين.
سألني الطالب الأديب عن قصة الجارية التي كانت تضرب بالدف بين يدي النبي، فما هو إلا أن دخل عمر حتى وجمت الجارية وأسرعت إلى الدف تخفيه. فقال النبي إن الشيطان - أو إن شيطانها - ليخاف منك يا عمر!
وموضع العجب عند الطالب النجيب أن تعمل الجارية في حضرة النبي ما لا تعمله في حضرة الفاروق.
ولا عجب هناك؛ فإن كل ما هنالك من الفرق بين الأمرين أن الجارية أنست إلى سماحة النبي، ولم تأنس إلى شدة عمر. ولا غرابة في الشدة هنا أو السماحة هناك.
والكلام في هذه القصة عن شيطان الأغاني والشعر والأهازيج: أي عن شيطان الفنون على الإجمال، وليس شيطان الفنون في حكم الدين أو الأخلاق كشيطان المعاصي والشرور.
والمرجع - بعد - في هذه القصة إلى الجارية ومن تأنس إليه. وقد تغني جارية في حضرة السلطان، ولا تغني في حضرة رئيس الشرطة مثلا أو قائد الجيوش، ولا يقال إن هذا أو ذاك أعظم عندها من السلطان. فإنما المسألة كلها في هذه المواقف مسألة الأنس والارتياح. وليس لنا أن نسأل مغنياً أو فناناً، لماذا يرتاح إلى هذا المقام، ولا يرتاح إلى ذلك المقام.
ولم يكن عمر رضي الله عنه يحرم ما أحله النبي عليه السلام في هذا الصدد. فقد قرأ الطالب الأديب ولا شك أن عمر سمع ضجة في مكان فقيل له إنه عرس. فقال: هلا حركوا غرابيلهم: أي طبولهم. فلا تحريم في الأمر ولا تحليل، وإنما هو كما قدمنا مسألة ارتياح (شخصي) لا يحاسب عليه صاحبه بحساب الإلزام.
وسأل الطالب الأديب كذلك عن قصة الأسود بن شريع، الذي كان ينشد النبي بعض الأماديح، فاستنصته النبي مرتين إذ دخل عليهما عمر والشاعر لا يعرفه. فصاح: واثكلاه! من هذا الذي أسكت له عند النبي؟ فقال النبي: هذا عمر. هذا رجل لا يحب الباطل.
ويسأل الطالب. كيف يقبل النبي ما لا يقبله الفاروق؟
وينبغي أن نعرف أولا ما هو معنى الباطل المقصود في هذه القصة. فإن الباطل قد يكون بمعنى المزاح: يقال بطل في حديثه بطالة أي هزل ومزح. وقد يكون بمعنى الشيء الذي لا غناء فيه، أو الشيء الضائع، أو الشيء الذي تقل جدواه، وقد يكون مقابلا للحق مقابلة الشيء وما لا يشبهه، لا بمقابلة النقيض للنقيض.
وموضع السؤال الحق هنا: أي الرجلين كان أولى بحفاوة النبي عليه السلام؟ الأسود بن شريع أو عمر بن الخطاب؟
ولا خلاف في الجواب.
أما أن النبي يتسع صدره لكلام لا يتسع له صدر عمر، فليس من اللازم أن يمنع النبي كل ما يمنعه أصحابه، ولو كانوا على صواب. ونحن نرى مصداق ذلك في كل شريعة وكل نظام وفي كل زمان. فإن القضاء قد يدين مجرماً بحكم القانون، ثم يعفو عنه الملك لسبب يراه، ولا يقال إن في الأمر مخالفة للعدل أو للشريعة، وإنما هو اختلاف للتقدير الذي قضى بالعفو، والتقدير الذي قضى بالعقاب.
واختلاف التقديرين بين النبي العظيم وصاحبه العظيم، كما قلنا في عبقرية عمر (هو الفارق بين إنسان عظيم ورجل عظيم. فالنبي لا يكون رجلا عظيما وكفى، بل لابد أن يكون إنساناً عظيماً، فيه كل خصائص الإنسانية الشاملة التي تعم الرجولة والأنوثة والأقوياء والضعفاء، وتهيؤه للفهم عن كل جانب من جوانب بني آدم، فيكون عارفاً بها وإن لم يكن متصفاً بها، قادراً على علاجها، وإن لم يكن معرضاً لأدوائها، شاملا لها بعطفه، وإن كان ينكرها بفكره وروحه، لأنه أكبر من أن يلقاها لقاء الأنداد، وأعذر من أن يلقاها لقاء القضاة).
والمعنى البسيط الذي يفهم من هذا الفارق، ومن جميع الفوارق، أن النبي ليس هو عمر، وأن عمر ليس هو النبي، وأنهما لا يلزم أن يكونا على نمط في الفهم والشعور، وإن كان لكل منهما نصيب من العظمة ومكارم الأخلاق.
وسؤال آخر في علم النفس يسأل عنه الطالب الأديب فيقول: (إن العالم الإيطالي يقرر أن من صفات العبقرية الطول البائن، أو القصر البين) ثم يسألني: (لماذا لا يحد الأستاذ من هذا القول! أليس الطول البائن زيادة عن الحد المطلوب، أو عن تناسب القوام؟).
ومن الواجب أن نذكر أننا لا نتكلم هنا في فروض وتقديرات، ولكننا نتكلم في واقع لا شك فيه، وهو أن عمر كان طويلا مفرطاً في الطول، وكان كما وصفوه يمشي كأنه راكب، وكان مع هذا عبقرياً بشهادة النبي وشهادة الصحابة وشهادة الأعمال.
فلا حيلة لنا في هذه الصفة، ولا مخرج منها بالفروض والتقديرات. . كان طويلا وكان
عبقرياً. فلماذا نقول إن لمبروزو قد أخطأ في تصويره لملازمات العبقرية، وهو قد أصاب؟
وبعد فالكلام عن العبقرية غير الكلام عن التناسب. لأن العبقرية تفوق خارق للعادة، والتناسب محافظة على نسب الأشياء التي جرت بها العادة، فلا يمكن أن يكون الشي خارقا للعادة، ومتناسباً على حسب العرف المألوف في سائر المناسبات.
إن خرق العادة يستلزم بنفسه مخالفة العادات، ولهذا كان لزاماً أن ترى في جملة العباقرة صفات يخالفون بها سواد الناس، وقد تكون هذه المخالفة شذوذاً في حالات، ورجحاناً في حالات أخرى. بل قد يكون الرجحان كما يقولون (على حساب) صفات أخرى ينقص فيها العبقري عن سواد الناس، لأنه زائد عليهم في ملكات العبقرية والنبوغ.
فلم يخطئ لمبروزو حين سجل هذه الملاحظات، وهو لم يسجلها ظناً منه وتخميناً لا يستند إلى دليل، بل سجلها وهو يقرنها بالصفات العروفة عن كثير من عباقرة العلم والفنون والسياسة والحروب، فإذا بفريق منهم بالغ في الطول، وفريق بالغ في القصر، وإذا بأناس منهم تبرز فضائلهم كما تبرز نقائصهم على طرفين متقابلين. وقد رأينا في التاريخ الحديث دهاة سياسيين تجاوزوا الطول المألوف من أمثال ريشليو وبسمارك وبيكنسفيلد وتاليران، ورأينا فيه عباقرة دهاة أقصر من القوام المعتدل بين الناس، كنابليون وعبد الحميد وموسوليني، فلم يكن في هذه المشاهدات تفنيد لرأي العالم الإيطالي، بل كان فيه تعزيز وتأييد
ومن مزايا الدراسات النفسية ولا ريب أنها ترينا الصفة وما يقابلها في معارج العظمة والعبقرية. فلا تقول إننا نتناقض ونتعارض، بل نقول إن العظمة الإنسانية أفق رحيب يتسع لشتى الأطوار وشتى الصفات.
عباس محمود العقاد
للحقيقة والتاريخ:
واحة جغبوب
في مذكرات دولة إسماعيل صدقي باشا
للأستاذ أحمد رمزي بك
1 -
تلقى العالم العربي بترحاب مذكرات دولة صدقي باشا لأنها كشفت بعض ما خفي من أسرار السياسة، وأصبحت تتم حلقات الوثائق التاريخية. وقد انتظر الكثيرون أن يكون لها نفس الروعة والأثر اللذين تتركهما في نفس القارئ مذكرات تشرشل وغيره من جبابرة السياسة في القرن العشرين.
2 -
والمطلع عليها في مجلة المصور يشهد بأن دولته قد بذل جهداً في تحريرها وجمع موادها بعد مضي فترة طويلة على الحوادث، بدليل أنه لم ينقل إلينا شيئاً واقعياً حياً أو صورة حية لما سجله قلمه وقتئذ، ولكنه تناول بأسهاب بعض المسائل العامة، ومر مروراً على حوادث أخرى. وإني ألتمس له العذر في ذلك لأن صفحات المجلة لا تتسع لأكثر من ذلك.
3 -
ومن قبيل ما تناوله دولته باختصار مسألة واحة جغبوب وخليج السلوم: فقد رسمها بقلمه ليقنع القارئ بأن السياسة الحزبية صورت الاتفاق بصورة سوداء، مع أنه وفق في حل هذه المسألة توفيقاً انتهى به إلى نتائج معلومة سبق أن وضعتها السياسة المصرية أمام أعينها، وأنه بهذا الاتفاق حقق لمصر أهدافاً معينة هي من عمله وحده.
4 -
والذي نعلمه هو أن الحدود العثمانية القديمة كانت تجعل السلوم داخل الأراضي الطرابلسية، وأن احتلال السلوم حدث مرتين: الأولى في سنة 1911 بواسطة الجنود المصريين عقب إعلان الحرب بين تركيا وإيطاليا مباشرة، والأخرى في الحرب العالمية الثانية عقب انسحاب القوات السنوسية منها، وبقيت بيد القوات المصرية منذ ذلك التاريخ إلى أن عقد الاتفاق المشار إليه بين مصر وإيطاليا.
5 -
جاء الاحتلال الأول بناء على أوامر كتشنر تنفيذاً للاتفاقات السرية التي عقدتها الحكومة البريطانية مع إيطاليا التي تنص على إدخال جزء من الأراضي العثمانية في
الأراضي المصرية مقابل الحصول على صمت الحكومة البريطانية، وحياد مصر إزاء اعتداء إيطاليا على أملاك الدولة العثمانية في طرابلس.
6 -
وهذه الاتفاقات من قبيل اتفاق سنة 1906 الخاص بتعيين حدود مصر الشرقية في سينا: غير أن الأولى سرية مكتومة والثاني اتفاق عام بين مصر المحتلة والدولة التي كانت يوماً ما صاحبة السيادة صورق عليه ونشر على العالم.
ولكل منها هدف واحد: هو ضمان الدفاع عن الأراضي المصرية في حالة حرب سواء كان الهجوم من جهة الشرق أو الغرب.
7 -
ويعجب القارئ أن هذا الهدف كان من ضمن ما أوصت به قرارات لجنة الدفاع الدائمة للإمبراطورية في وزارة الحربية البريطانية منذ عام 1906، وبعد حرب البوير 1901 وانتهائها مباشرة.
8 -
ففي سنة 1915 انتهت حملة الدردنيل بالفشل، واضطرب الحكومة البريطانية إلى إيجاد لجنة تحقيق لمعرفة نتائج أسباب هذه الفشل: واستعرضت اللجنة قرارات وخطط الدفاع البريطانية، فظهر أن تفاصيل حملة مهاجمة المضايق وضعتها وزارة الحربية البريطانية مع اشتراك الأميرالية في عام 1906، وأن مشاكل الدفاع عن الأراضي المصرية درست من ذلك العهد، وأن توصيات لجنة الدفاع نفذت باتفاق 1906 لأبعاد الحدود العثمانية عن منطقة القنال، وكان من ضمن أبحاثها دراسة الحدد الغربية والحصول على خليج السلوم بناء على إلحاح الأميرالية.
9 -
والدليل على ذلك اتفاق ملنر - شالوبا بين بريطانيا وإيطاليا عقب انتهاء الحرب العالمية الأولى مباشرة، وهو يؤكد ما ورد بالاتفاقات السرية الخاصة بتوزيع أسلاب الدولة العثمانية بعد الحرب، وفيه تعترف بريطانيا بسيادة إيطاليا على جغبوب، وتعترف إيطاليا بضم السلوم وما يتبعها إلى مصر.
10 -
إذن فالمفاوضات التي أشار إليها دولته، وهدد بقطعها وسافر من أجلها، كانت تتناول مسائل شكلية للحدود الجديدة بوضع علامات عليها وتعديلها لإدخال بعض الآثار، ولا تتناول لب الموضوع بل تقر حالة سابقة مهدت لها الدبلوماسية الأوربية كل المراحل بين دولتين عظيمتين تحددان مناطق نفوذهما وقواعد الحوار بينهما، ولم ينقصها سوى إقرار
الحكومة المصرية لتسجيل حالة قائمة من المبدأ.
11 -
والمستندات والوثائق وأقوال الرجال الذين اشتركوا في هذه المفاوضات كلها تدل على أن الجانب المصري، أخذ الناحية المظهرية لأسباب عدة يرجع معظمها إلى المتاعب الداخلية التي تلقاها الحكومة من المعارضة. وقد سمعنا هذا من رجال إيطاليين تولوا مناصب هامة، واشتركوا في هذه المفاوضات من المبدأ؛ فقد صرحوا بأن اللجنة المصرية الإيطالية نفذت بالضبط ما كان قد اتفق عليه بين إيطاليا وبريطانيا، وكان موقف الجانب المصري، مظهرياً أكثر منه جدياً: ومنهم السنيور كوخ، وزير إيطاليا المفوض والذي كان يشغل وظيفة مستشار بسفارة أنقرة، وكان من ضمن من اشتركوا في هذه المباحثات.
12 -
وعلى كل حال فان موقف دولته إزاء إيطاليا كان مشرباً بروح المودة بدليل زيارته لموسوليني، وهي زيارة لم تكن قاصرة على مسألة السلوم وجغبوب، وإنما كانت لتقدم الشكر على تمهل الدكتاتور سنوات في عدم احتلال واحة جغبوب، حتى يتم الاتفاق مع الحكومة المصرية عليه: وقد حاء هذا بالنص في كتاب (تقويم القوات الإيطالية المسلحة) طبعة 1927 (صفحة 1011): إن الحكومة الإيطالية لم تشأ أن تحتل الواحة عسكرياً قبل أن تحصل على اعتراف الحكومة المصرية لها بهذا الحق). هذا طبعاً حفظاً لتقاليد الوداد التي لا تريد أن تمسها: ولا نستبعد أن يكون الثمن الذي طلبه الدكتاتور بصبره الطويل، هو إتمام هذه الزيارة، وكان يهمه موافقة بريطانيا عليها.
13 -
ذلك لأنه كان في وسعها احتلال جغبوب بعد اتفاق (ملنر شالوبا) مباشرة، ولكنه انتظر حتى تم امضاء الاتفاق المصري، فاحتلت جغبوب يوم 7 فبراير سنة 1926 بقوتين مسلحتين قامتا في وقت واحد، إحداهما من طبرق، والأخرى من البردية، وتلاقتا في الواحة، لإسدال الستار على مأساة بدأت في عام 1902 حينما دخلت إيطاليا في مفاوضات مع دول الاتفاق الثنائي فرنسا وروسيا. والذي أصبح ثلاثيا بانضمام بريطانيا إليه نهائياً، ولا تخلو فترة ولا مرحلة فيه من دون تفاهم واتفاق على احتلال أماكن استراتيجية، أو الاعتداء على حق من حقوق الأمم المظلومة: ثمناً لخروج إيطاليا من تحالف، ودخولها في تحالف مضاد للدول
أحمد رمزي
الإنسانية الصادقة
روح القصة الفنية
للأستاذ محمود تيمور بك
الإنسانية في القصة لا تكبر أو تصغر بما تحفل به من نوع الشخصيات وطراز الحوادث، وإنما تقوى الإنسانية في القصة بمقدار نصيبها من الصدق في تقمص المشاهد والمرئيات، سواء أكانت حيواناً أم جماداً أم من النبات، وسواء أكانت من سنة الطبيعة أم من الخوارق والمعجزات والأساطير.
فما دام الكاتب يتقمص الموضوع، ويسبغ عليه ذاتيته، فإن الشخصية القصصية تبدو على وضعها الحق، وتنطق بما هو مقدار عليها أن تقوله، وتجري الحوادث في مجرها الذي لا حِوَلَ عنه، وتتواثق المشاهد في ألفة وانسجام، فتخرج القصة وحدة متناسقة لا يحس القارئ فيها من نفرة ولا شذوذ، على الرغم مما قد تحتويه من تهاويل وتعاجيب.
لا يوهن من إنسانية القصة إلا ضعف التقمص، وانغلاق الإحساس الذي ينحدر بالكاتب إلى مزالق الكذب والتزوير، سترا للضعف، وتعوضاً من ذلك الانغلاق.
فأما الخوارق أو الأساطير أو ضروب الجماد والنبات وما إليها، فتلك لا تحول بين القصة واتصالها بالإنسانية، إذا عرف الكاتب القصصي كيف تمتزج روحه بالطبيعة والوجود ويحيا الكون فيه كما يحيا هو في الكون، فيستطيع أن يحيى تلك الموضوعات في نفسه، ويهبها من ذاته، ويكون كأنما قد عاش عيشتها، وكتبت عليه حياتها. . .
ليس روح الفن الإنساني إلا أن يمتزج الفنان بما يحيط به من موجودات، يبادلها الحياة والشعور وكأن بينه وبينها (وحدة وجود). . .
وعلى أساس هذه الحقيقة بقيت القصة الإغريقية خالدة الأثر وأُقيمت بها دعامة القصة العالمية، مع أن قصص الإغريق مناطلها الأساطير والخوارق، ولكنها أساطير تهتز فيها خفقات الحياة، وخوارق تتمثل فيها نزعات النفس. ولذلك ظلت تستجيب لها الأزمنة والعصور على تعاقبها، لما يسري فيها من روح إنسانية صادقة.
ويا رب تمثال لفنان صادق التعبير قوي الأداء، تقف أمام حجره فلا تكاد تتوسم سماته الناطقة، حتى تحس أواصر الإنسانية تؤلف بينك وبينه، ويا رب شخصية قصصية رسمتها
أنامل كاتب فنان، لا يكاد يطالعها القارئ حتى يحس لها وجوداً في المجتمع وأصالة في الحياة، فيعيش معها كأنها حي متميز من بين الأحياء الذين تربطه بهم مختلفف الصلات.
فلا غرو أن نرى أبطالا من خلق الفنانين تتوهج ذكراهم، وتتمثل حياتهم، فيزاحمون بشخصياتهم الممتازة أولئك الأبطال الآدميين الذين يعمر بهم تاريخ العصور.
وعنصر الصدق في التعبير الإنساني، قد يبلغ من قوته في الأعمال الفنية أن يكتب الخلود لمحاولات بدائية يعوزها الكثير من عناصر الفن الأخرى.
فمما لا ريب فيه أننا نهتز لمشاهدة قطعة من الفن البدائي، تمثالاً كانت أو صورة أو قصة، إذا توسمنا فيها لوامع إنسانية تثير فينا شعور الصلة بيننا وبينها. ولعل هذا سر بقاء القصص الشعبي على تعاقب الحقب مثاراً لشعورنا، ومهزة لإعجابنا، مع افتقار هذا اللون من القصص إلى كثير من عناصر القصص الفني القمينة بأن تخلده على وجه الزمان.
ولا يتوافر الصدق في التعبير الفني إلا لمن أوتي قدرة على التقمص الحق، أو الاستيحاء والاستلهام لما يريد التعبير عنه من موجودات الكون وموضوعات المجتمع وشئون الحياة.
وكلما قوي تقمص الفنان صدقت إنسانيته فجاد عمله، وإنما تنقص درجة الجودة، ويضعف التعبير، على قدر الوهن الذي يعتري الفنان في تقمصه.
ففي ميدان الرقص مثلا هيهات أن تحس الراقصة تأدية موضوعها إلا إذا عاشت فيه وتمثلته كل التمثل، فتؤدي بحركاتها وإيماءاتها واختلاجاتها حياة الموضوع الذي اتخذته مادة للتعبير.
وهل في طوق راقصة أن تؤدي الرقصة المعروفة بـ (موت البجعة) حق أدائها إن لم تتقمص روح هذا الضرب من الطير وتمزج نفسيتها بنفسيته، فكأنما هي الطائر، تعبر عنه بمقدار بمقدار فهمها لكنهه واستصغائها لسريرته؟
على أن القدرة على التقمص لا تكفي في اكتسابها الرغبة والإرادة والمحاولة، وإنما هي في أغلب ما تكون استجابات نفسية تستبد بما بين أحناء الضلوع.
وهذه القدرة على التقمص لا تسلس بالمظاهر، ولا تتأتى بضروب التكلف والصنعة، فلابد أن تستند إلى مؤثرات طبيعية وتأثرات باطنة.
وحسبنا مثلا لذلك شخصية (المتعبد)، فقد تعاقب على محاولة تقمصها ألوف من سدنة
المعابد وعمار الصوامع متخذين لها أقصى ما في الوسع من ظواهر ورسوم، يسبغون المسوح ويرددون الأناشيد ويرتلون الصلوات، ولكن القليلين من هؤلاء جميعا هم الذين استطاعوا أن يتقمصوا شخصية (المتعبد) على حقيقتها، فوسموا تعبيرهم عن هذه الشخصية بميسم الخلود. وهذه أناشيد (أخناتون) التي يناجي بها ربه ما تزال تتقد فيها حرارة الإيمان، لأنها وحي قوي لمتعبد صادق الإحساس، صادق الأداء.
محمود تيمور
عبد الله بن سبأ
للدكتور جواد علي
- 4 -
رأيت أن مجيء عبد الله بن سبأ إلى البصرة ونزوله على بين عبد القيس إنما كان على زعم (يزيد الفقعسي) في السنة الثالثة من حكم عبد الله بن عامر الذي ولى إمارة البصرة في عام 29 للهجرة. أي في سنة 32 - 33 للهجرة. وإنه نزل على حكيم ابن جبلة، ويزعم صاحب هذا الحديث الذي دونه الطبري أنه، أي حكيم بن جبلة كان من أشرار الناس ومن مشاهير قطاع الطرق وأنه كان يذهب إلى أرض فارس (فيغير على أهل الذمة ويتنكر لهم ويفسد في الأرض ويصيب من يشاء ثم يرجع. فشكاه أهل الذمة وأهل القبلة إلى عثمان بن عفان فكتب إلى عبد الله بن عامر أن احبسه؛ ومن كان مثله، فلا يخرجن من البصرة حتى تأنسوا منه رشداً. فحبسه، فكان لا يستطيع أن يخرج منها) وقد كان (حكيم بن جبلة) من الناقمين والمشاغبين على الحكومة، وكان على رأس الجماعة التي ذهبت إلى المدينة واشتركت في الفتنة المؤسفة التي أدت إلى استشهاد الخليفة، وكان قد أظهر أنه يريد الحج، وكان في الواقع على اتفاق مع سائر المشاغبين وعلى اتصال محكم بمشاغبي الكوفة وأهل مصر.
ولست أزعم لك أن نزول عبد الله بن سبأ في دار هذا اللص المشاغب كان حقاً، ولست أزعم لك أيضاً أن ذلك كان باطلاً؛ ولكني لا أبيح لك سراً أن قلت لك بأني غير مطمئن إلى هذا الحديث الذي يرويه (يزيد الفقعسي) ولا إلى أكثر أحاديث هذا الراوية. لقد كان هوى (ابن جبلة) وجماعته من أهل البصرة مع (طلحة) فلم اختار ابن سبأ النزول على هذا الرجل من بين سائر رجال البصرة. وقد كان هواه مع علي. وقد كان في البصرة أناس يميلون إلى علي أيضاً، والذي أنزل هذا الرجل على (حكيم بن جبلة) في نظري هو (يزيد) نفسه صاحب هذا الحديث لغرض سينجلي لك فيما بعد.
لم يتحدث الطبري عن نشاط عبد الله بن سبأ في البصرة ولا عن الفتنة التي أثارها في جنوب العراق. وكل ما قاله أن الوالي بعد ما سمع بخبر هذا الذمي (الذي رغب في الإسلام ورغب في جوار ابن عامر) قال له (أخرج عني، فخرج حتى أتى الكوفة فأخرج منها
فاستقر بمصر.
ولم يتحدث الطبري ولا غيره عن نشاط هذا الذمي في الكوفة. والظاهر من كلامه أن إقامته بها كانت قصيرة، وأنه لم يحصل على النتائج التي كان يريدها من هذا البلد، فسافر إلى الشام. ولا ندري بالطبع متى وصل الشام، والذي نستطيع أن نقوله أبه بلغ مقر (معاوية بن أبي سفيان) بعد خروجه من الكوفة، وأن ذلك كان بعد سنة 32 - 33 للهجرة.
ويدعي الطبري استناداً على أقوال (يزيد الفقعسي) أيضاً أنه
(لما ورد ابن السوداء لقى أبا ذر، ألا تعجب إلى معاوية يقول: المال مال الله؛ ألا إن كل شئ لله؟ كأنه يريد أن يحتجه دون المسلمين ويمحو اسم المسلمين) فتأثر أبو ذر من مقالته وذهب إلى معاوية فقال: (ما يدعوك إلى أن تسمى مال المسلمين مال الله؟ قال: يرحمك الله يا أبا ذر، ألسنا عباد الله والمال ماله والخلق خلقه والأمر أمره؟ قال تقله. قال فإني لا أقول إنه ليس لله، ولكن سأقول مال المسلمين)
وخرج أبو ذر مغضباً من معاوية غير مقتنع بقوله، وصار ينادي في أهل الشام ويقول:(يا معشر الأغنياء واسوا الفقراء. بشر الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله بمكاو من نار تكوي بها جباههم وجنوبهم وظهورهم. فما زال حتى ولع الفقراء بمثل ذاك وأوجبوه على الأغنياء، وحتى شكا الأغنياء، ما يلقون من الناس، فكتب معاوية إلى عثمان أن أبا ذر قد أعضل بي، وقد كان من أمره كيت وكيت. فكتب إليه عثمان أن الفتنة قد أخرجت خطمها وعينها، فلم يبق إلا أن تشب فلا تنكا القرح. وجهز أبا ذر إليَّ وابعث معه دليلاً وزوده وارفق به وكفكف الناس ونفسك ما استطعت، فإنما تمسك ما استمسكت. فبعث بأبي ذر ومعه دليل)
وذهب (ابن سبأ) وهو بالشام إلى رجل آخر توسم فيه الانقياد والإذعان لمقالته بسهولة، وهذا الرجل هو (أبو الدرداء) وتحدث إليه بالحديث الذي ذكره لأبي ذر محاولاً إغراءه غير أن (أبا الدرداء) كان حذراً ذكياً فقال له (من أنت؟ أظنك والله يهوديا) فأتى عبادة نب الصامت وأظهر له نفس المقالة (فتعلق به فأني به معاوية فقال: هذا والله الذي بعث عليك أبا ذر).
فيظهر من حديث (يزيدالفقعسي) الذي حكاه الطبري عن طريق (سيف) أن نداء (أبي ذر)
هذا وتحريكه الفقراء على الأغنياء إنما كان بتحريض (ابن سبأ) والحديث كله كما قلت في حاجة إلى تمحيص. فقد غادر (أبو ذر) الشام في عام 30 للهجرة، وترك (المدينة) في نفس السنة إلى الربذة حيث أقام بها إلى أن اختاره الله إلى جواره في سنة اثنتين وثلاثين للهجرة أي قبل مجيء (ابن سبأ) إلى البصرة. ومعنى هذا أن مجيء (عبد الله بن سبأ) إلى الشام كان بعد وفاة (أبي ذر) وبعد خروجه من الشام بما يزيد على سنتين.
ثم إن صاحبنا (أبو ذر) لم يكن من أولئك الرجال البسطاء السذج الذين كانوا يستجيبون لدعوة رجل لا يعرف من أمره شيئاً، وقد رأيت أنه سبٌّ (كعب الأحبار) وقد كان أعلى من هذا النكرة (ابن سبأ) درجة وعلماً ومقاماً، وأقدم من أخيه في الدين إسلاماً، حينما تعرض لبحث في حضرة الخليفة الشهيد ورجل يقول لكعب الأحبار (يا أبن اليهودية ما أنت وما ههنا والله لتسمعن مني أو لأدخل عليك). أو (يا ابن اليهوديين أتعلمنا ديننا). ثم لا يكتفي بذلك وهو في حضرة خليفة بل يرفع محجنه فيشبج ناصية كعب حتى يضطر الخليفة إلى استرضاء كعب والاعتذار منه. إن رجلاً مثل هذا لا يمكن أن يسلم نفسه إلى مسلم حديث العهد بالإسلام لم يعرف من أمره غير المشاغبة والتجول بين الأقطار. ثم يقنع بدعوته بمثل تلك السهولة التي لا تناسب مع ما عرف عنه من صلابة أبي ذر وشدة تمسكه برأيه.
وقد روي كثير من المؤرخين قصة (أبي ذر) بشكل آخر قالوا إنه كان يتلو قوله تعالى: (والذين يكنزوُنَ الذَّهبَ والفضَّةَ وَلا يُنفقونها فِي سبيل اللهِ فبشرهُمْ بِعذَاب أليم) وتعليقاته المعروفة الواردة في حديث (يزيد الفقعسي) أيام كان في المدينة، وقبل ذهابه إلى الشام كان يقول ذلك لما شاهد من الثراء الذي انهال على بني أمية وآل مروان، فضاق أغنياء المدينة به ذرعاً فنفي إلى الشام لعلمهم بأن (معاوية) رجل ذكيّ حليم يكفيهم هذا الرجل ويلهيه. فلما يئس منه ووجد أنه أصبح خطراً على أهل الشام أعاده إلى المدينة، ثم استقر بالربذة إلى أن وافاه الأجل في سنة اثنتين وثلاثين للهجرة. والمعروف عنه أنه كان زاهداً وكان ينفق ما يصيبه من مال ويدعو إلى ذلك منذ أيام الرسول. فقصة (عبد الله بن سبأ) مع (أبي ذر) قصة موضوعة أعتقد أن واضعها هو (يزيد) أو (سيف) ولم يؤيدها رواة آخرون مثل (زيد بن وهب) وغيرهم ممن ذكروا سبب نفي أبي ذر.
ولم يتحدث (يزيد الفقعسي) صاحب أحاديث عبد الله ابن سبأ عن نشاط هذا الذمي في
الشام وعن مدة إقامته في هذا البلد. والذي يفهم من أقواله أنه لم يتمكن من عمل أي شيء في (دمشق) وأن (معاوية) لم يقبض عليه، وأنه غادر أرض (بني أمية) إلى أرض أخرى هي (مصر) ليزرع في ذلك البلد بذور الفتنة التي زرعها في العراق
وفي (مصر) على ما يظهر من روايات الطبري لقى (ابن سبأ) نجاحاً كبيراً، وترأس في هذا القطر الفتنة التي أدَّت إلى استشهاد الخليفة. ويظهر من أقوال (يزيد الفقعسي) أنه جاء وهو في مصر بمقالة جديدة تضمنت عدة آراء فيها (الرجعة) و (الوصية) و (الإمامة) ثم اختم كل هذه المسائل الهامة (بالطعن على الأمراء) وبالمكاتبة مع الأمصار الأخرى في عيوب الولاة. وقد تمكن بأساليبه المعروفة من إهاجة الرأى العام ومن تسهيم الأقطار فكان أن غادر وفد مصر يريد الحجاز، وكان أن غادر وفد البصرة متظاهراً أنه يريد الحج، وكان أن تألبت كل هذه الوفود على الخليفة ولم ترحل عن مدينة الرسول حتى قتل. وكان من أهم أبطال الفتنة بمصر (عبد الله بن السوداء وخالد بن ملجم وسودان بن حمران وكنانة بن بشر).
وأما الذي يظهر من أقوال الرواة الآخرين فهو أن هذه المقالات المنسوبة إلى (ابن سبأ) إنما كان قد وضعها في العراق وأنه وضعها في مكان مناسب جداً لمثل هذه الآراء وهو (الكوفة) التي عرفت بميلها إلى علي وأولاده، وبانقلانها على عليّ وأولاده في الوقت نفسه.
والواقع أن محيط الكوفة هو صورة صادقة للمحيط الوسط الذي كان بين الحضارة وبين البداوة. وبين الإطاعة للأمراء وبين الميل إلى الفوضى ومعصية الأمراء والطعن على أصحاب الحل والعقد. ولا غرابة في ذلك فقد كانت هذه البلدة على سيف الصحراء، وقد كانت معصرة عصرت فيها أجناس وأنواع من البشر، فلا عجب إن رأينا فيها ذلك الخليط العجيب وذلك الانقلاب السريع.
ولم يذكر أحد من الرواة غير (يزيد الفقعسي) هذه المقالة على أنها كانت من صنع (ابن سبأ) في مصر. وحديث (عبد الله بن سبأ) في مصر هو من روايات هذا الرواية ليس غير. أما أصحاب الأخبار الذين تحدثوا عن (عبد الله بن سبأ) مثل (الشعبي) وأمثاله فقد وضعوه في العراق وجعلوا مكانه الكوفة ومنفاه (ساباط المدائن) ولم يبعدوه إلى أكثر من ذلك كالذي فعله (يزيد).
(للكلام صلة)
جواد علي
من مغموري العلماء
للأستاذ محمد كرد علي بك
علي ابن ربن
في المؤلفين من لم نعرفهم إلا بصفحات قليلة مما أبقت عليه الأيام من ألوف صفحات كتبوها، ومنهم علي بن ربَّن الطبيب الفيلسوف المتفرد بالطبيعيات. نشأ هذا العظيم في طبرستان؛ يتصرف في خدمة ولاتها، وكتب للمازيار بن قارن، ووقعت فتنة في بلاده فخرج إلى الري، وهناك قرأ عليه محمد بن زكريا الرازي الحكيم المشهور، واستفاد منه علماً كثيراً. ثم رحل ابن ربَّن إلى العراق فبان فضله، وأسلم على يد المعتصم؛ فقربه، وظهر بالحضرة فضله، وصار من أطباء البيت العباسي، وأدخله المتوكل على الله في جملة ندمائه. وقالوا إنه كان بموضع من الأدب.
ألف ابن ربَّن كثيراً في الطب والصحة، وأهم كتبه على ما يظهر كتاب فردوس الحكمة، وهو معْلمة (انسيكلوبيذيا) طبية عامة أنجزه في بغداد. وهناك أخذ عنه حنين بن إسحق. وله كتاب في الآداب والأمثال على مذاهب الفرس والروم والعرب. وعرفنا ابن ربن من كتاب له صغير أسماه:(الدين والدولة) أثبت فيه نبوة الرسول (ص) إثبات عالم عارف بالأديان الأخرى، ولاسيما اليهودية والنصرانية. وكتابه هذا يدل على اضطلاعه بالحكمة، وأنه ما انتحل الإسلام إلا عن بصيرة. وقد جوّد الكلام عن الصحابة، وجميل سيرتهم، وعفتهم عن المال والرفاهية؛ كما جوده في فصل أُمية الرسول (ص).
ومن أجمل ما في كتاب الدين والدولة نقول عن الكتاب المقدس والنبوات، عليها مسحة من البلاغة أكثر من الترجمات المتداولة، ولعلها منقولة عن الترجمات الضائعة من التوراة والإنجيل؛ إذ أنه ترجمها هو بنفسه لما كتب كتابه. ويطالعك هذا الكتاب: بأن مؤلفه الحكيم الطبيب العظيم هو من أعظم علماء الأديان، وأنه دان بالإسلام وهو رجل، وعرف صورة الاحتجاج على أرباب الأديان الأخرى وإفحامهم ببراهينه. وقيل إن امير المؤمنين المتوكل ساعده على هذا التأليف. ولو لم تبقى الأيام عليه لنسى حتى اسم علي بن ربَّن؛ اللهم عند أفراد قلائل يعانون درس الحكمة القديمة والطب القديم.
مثال من كلام ابن ربن: قال في الدلائل على تصحيح الأخبار: رأينا أمماً كثيرة العدد،
عظيمة القدر، موصوفة بالأفهام والإصلاح، يشهدون لعدة من الخبثة الكذابين بجميع ما ادعوه؛ مثل الزنادقة والمجوس؛ إما تقليداً أو إلفاً، وإما غباوة ومحكا، وإما إجباراً أو كرهاً، كما فعل زرادشت متنبيء المجوس فانه لم يزل يتأتى لبشتاسف الملك حتى وصل إليه، وزرع من وساوسه في صدره؛ ثم لم يزل يختله بذكر الله، والدعاء إليه، ويفتل في الذِّروة والغارب حتى فَتله عن دينه، ولواه إلى رأيه. ثم أظهر له ما كان يضمره من الشرك، وزين له نكاح الأمهات والبنات، وأكل القذر المذر من النجاسات؛ فكان الملك بعد ذلك هو الذي أكره أهل مملكته على دينه. وفعل ماني شبيهاً بذلك؛ فإنه ظهر في زمان كان الغالب فيه دينان: النصرانية والمجوسية؛ فاختدع النصارى بأن قال لهم إنه رسول المسيح عليه السلام، وخلب المجوس بأن وافقهم على الأصلين. فلما وجدنا من الإجماع ما هو هكذا، ووجدنا منه ما هو كالإسلام؛ علمنا أن قبول كل إجماع فتنة، ورد كل إجماع ضلالة. . .
ابن حبان
كان أبو حاتم محمد بن حبان البستي (354) مكثراً من الحديث والرحلة والشيوخ عالماً بالمتون والأسانيد، أخرج من علوم الحديث ما عجز عنه غيره، فعدَّ من طبقة البخاري فيه؛ حتى قيل إن صحيحه أصح من سنن ابن ماجه. سافر ما بين الشاش والإسكندرية، وأدرك العلماء والأئمة والأسانيد العالية. وكان وعاء من أوعية العلم في اللغة والفقه والحديث والوعظ، عارفاً بالطب والنجوم والكلام، عاقلا معدوداً في الرجال. صنف فخرج له من التصنيف في الحديث ما لم يسبق إليه. وولى قضاء سمرقند وغيرها من المدن، ثم صُرف عن القضاء فيما قيل بدعوى أنه زعم أن النبوات علم وعمل. وصنف لأبي الطيب المصعبي كتاباً في القرامطة، والقرامطة كانوا يهددون ملك العباسيين. وقال بعضهم إن له أوهاماً أُنكرت فطعن عليه بهفوة منه بدرت، ولها محل لو قبلت. وقتله الخليفة بدعوى أنه يعرف بعض العلوم الرياضية وهو في الثمانين من عمره. والغالب أن قتله كان سياسياً في أمر يضر ببني العباس. فقالوا كانت الرحلة بخراسان إلى مصنفاته وقد سبَّلها ووقفها وجمعها في دار رسمها بها جعلها لأصحابه، واتخذ مسكناً للغرباء الذين يقيمون بها وأهل الحديث والمتفقهة، وجعل لهم جرايات يستنفقونها داره، وأوصى وصيته أن يبذل كتبه لمن يريد نسخ شيء منها من غير أن يخرجها منها. وذكروا أن السبب في ذهاب كتبه تطاول
الزمان، وضعف السلطان، واستيلاء ذوي العيث والفساد، على تلك البلاد، وجهل أهلها، فلم تعاور بالنسخ؛ فضاع أصلها، ولم يكثر فرعها.
قال أحمد بن ثابت: ومن الكتب التي تكثر منافعها، إن كانت على قدر ما ترجمها به واصفها، مصنفات أبي حاتم محمد بن حبان البستي، ومنها كتاب الصحابة وكتاب التابعين وكتاب أتباع التابعين، والفصل بين النقلة، وعلل أوهام أصحاب التواريخ، وعلل حديث الزهري، وعلل حديث مالك، وعلل مناقب أبي حنيفة ومثالبه، وعلل ما استند إليه أبو حنفية، وغرائب الأخبار، وما أغرب الكوفيون عن البصريين، وما اغرب البصريون عن الكوفيين، وكتاب أسامي من يعرف بالكنى وكنى من يعرف بالأسامي، والفصل والوصل، ومناقب مالك، ومناقب الشافعي، ووصف العلوم وأنواعها، والهداية إلى علم السنن، ومحجة المبتدئين، والعالم والمتعلم، والوداع والفراق، والتوكل والتقاسيم، والأنواع، وكتاب الثقات، وكتاب الجرح والتعديل، وكتاب شعب الإيمان، وكتاب صفة الصلاة، ومراعاة الإخوان؛ إلى عشرات غيرها من الأجزاء في الشريعة والحديث والفقه خاصة.
ولم يطبع من جميع هذه الكتب المحررة سوى كتابه: (روضة العقلاء) قسمه إلى زهاء خمسين مطلباً أبتدأ كل مطلب بحديث يتعلق به، وأتبعه بما قصد بيانه، ووشاه بشواهد كثيرة من الشعر وغيره ببيان باهر ساحر، يستفيد منه الكبير والصغير، ويتأدب به الأمير والأجير، ويغني غناءه في تهذيب الرجال والنساء وينقل المؤلف الكلام المنظوم والمنثور بالرواية على أصول المحدثين، ومنظومة كله جدير بالاستظهار والاستشهاد لما ضمنه من عظات ونكات، يتكلم من عنده كلاماً يدل على العقل الواسع، ولطف الأداء، وقد يورد في أكثر الفصول قصصاً تروق العامة والخاصة، ويخاطب العقل وما يجدر بصاحبه عمله. وقد نسق تأليفه تنسيقاً عجيباً لم يخلَّ به من أوله إلى آخره؛ فجاءت مطالبه متساوية الحجم والفائدة، آخذة من الحسن ولإحسان بأوفر نصيب.
ومما قاله: لا يكون المرء بالمصيب في الأشياء حتى تكون له خبرة بالتجارب. والعاقل يكون حسن المأخذ في صغره، صحيح الاعتبار في صباه، حسن العفة عند إدراكه، رضي الشمائل في شبابه، ذا الرأي والحزم في كهولته؛ يضع نفسه دون غايته برتوة (خطوة) ثم يجعل لنفسه غاية يقف عندها، لأن من جاوز الغاية في كل شيء صار إلى النقص، ولا
ينفع العقل إلا بالاستعمال، كما لا تنفع الأعوان إلا عند الفرصة، ولا ينفع الرأي إلا بالانتحال، كما لا تتم الفرصة إلا بحضور الأعوان. ومن لم يكن عقله أغلب خصال الخير عليه، أخاف أن يكون حتفه في أقرب الأشياء إليه. رأس العقل المعرفة بما يمكن كونه قبل أن يكون. والواجب على العاقل أن يتجنب أشياء ثلاثة، فانها أسرع في إفساد العقل من النار في يبس العوسج: الاستغراق في الضحك، وكثرة التمني، وسوء التثبت. لأن العاقل لا يتكلف ما لا يطيق، ولا يسعى إلا لما يدرك، ولا يعِدْ إلا بما يقدر عليه، ولا ينفق إلا بقدر مايستفيد، ولا يطلب من الجزاء، إلا بقدر ما عنده من الغناء، ولا يفرح بما نال إلا بما أجدى عليه نفعه منه. وهنا رأينا في بعض كلامه ما أثر قبل زمنه لعبد الله بن المقنع. وختم هذا الكلام بما أنشده عبد الرحمن بن محمد المقاتلي:
فمن كان ذا عقل ولم يك ذا غنى
…
يكون كذي رجل وليست له نعل
من كان ذا مال ولم يك ذا حجى
…
يكون كذي نعل وليست له رجل
محمد كرد علي
من تاريخ الطب الإسلامي
لصاحب السعادة الدكتور قاسم غني
سفير إيران بمصر
- 2 -
3 -
تعريب الكتب الطبية:
ظهر الدين الإسلامي في أوائل القرن السابع للميلاد وفي خلال سنوات قليلة قهر المسلمون الامبراطوريات وامتد نفوذ الإسلام إلى البلاد الواقعة في ما بين السند والقوقاز وعمها جميعاً، ثم بلغ أفريقية الشمالية وأسبانيا حتى بعض جزر بحر الروم مثل صقلية وسردينية وغيرهما.
وانقضى القرن الأول من الهجرة بالغزو والفتح وتأسيس الحكومات العربية العظيمة فاستولى المسلمون على بلاد كانت مراكز للحضارة، ودخلت بلاد، كانت تعتبر حواضر للعلوم والفنون مثل دمشق وقيصرية والإسكندرية في حيازتهم؛ وفي أثناء هذه الفتوح وعندما كان المسلمون مشغولين بتدعيم أسس ممالكهم أدركوا أن من المحتم عليهم أن يقتبسوا من حضارات البلاد المفتوحة والأمم المغلوبة ما يمكن اقتباسه، فبدأوا بذلك وبلغت هذه الفكرة شأوها بوجه خاص في عهد الخلفاء العباسيين حينما كان للإيرانيين شأن كبير في إدارة أمور المملكة الإسلامية، فألحق بكل مسجد مدرسة، وأنشئت مكتبات، وأسست مستشفيات، وبدأوا في تدريس جميع العلوم ولاسيما علوم الشريعة والطب والفلسفة في مدارسهم.
قلنا إن النسطوريين وحكماء الإسكندرية الذين سبقت لهم الهجرة إلى المشرق ثم اليهود والأقباط والسريان كانوا قد هيأوا مقدمات هذه النهضة الفكرية قبل بدئها بقرنين ولاسيما السريان منهم وهم من أبناء عمومة العرب، وذلك بنقل علوم اليونان من السريانية إلى العربية. وسنذكر فيما بعد لمحة عن الترجمة عند العرب
يمكننا أن نقسم المسلمين الذين اشتغلوا بالعلوم المختلفة ومنها الطب إلى طبقتين: المترجمين والمؤلفين.
فالمترجمون منهم كانت براعتهم مقصورة على القيام بالترجمة، وكانوا يتقنون اللغة العربية كما يتقنون السريانية أو اليونانية أو كلتيهما فيقومون بترجمة العلوم من إحدى هاتين اللغتين إلى العربية وكان هذا كل عملهم.
أما المؤلفون فهم الذين كانوا قد درسوا كل المؤلفات والآثار المترجمة وكان لهم بحث ونظر وآراء خاصة حول ما درسوه وتآليف ظهرت فيها شخصياتهم العلمية بصورة واضحة. كان بعضهم يدخل ضمن كلتا الطبقتين مثل يعقوب الكندي في الفلسفة، ويوحنا بن ماسوية وحنين بن اسحق في الطب، فإنهم مترجمون كما أنهم في الوقت نفسه مؤلفون وأصحاب نظر ورأي خاص. فقد كان حنين بن اسحق (ويسميه مترجمو اللغة اللاتينية في القرون الوسطة يوهاينتيوس من نصارى الحيرة وكان في شبابه يبيع العقاقير الطبية ويدرس الطب في نفس الوقت على يوحنا بن ماسويه. ويروي أنه ألقى على أستاذه يوما في مجلس درسه كثيراً من الأسئلة مما أثار غضب الأستاذ، فقال له ما لأهل الحيرة وللطب؟ كان الأجدر بك أن تطوف بأزقة الحيرة وتصرف النقود فتألم حنين من كلام أستاذه وآلى على نفسه أن يتعلم اليونانية ليستغني بها عن أستاذه في تعلم الطب، وقد أتقنها ثم عاد إلى جند يسابور وبرز في فنه حتى عد من طراز جبرائيل بن بختيشوع وابن ماسويه وأضرابهما أي أنه يدخل ضمن الطائفتين المؤلفين والمترجمين.
وكان خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان أول أمير من بني أمية اهتم بعلوم اليونان اهتماما خاصاً حتى لقب (بحكيم آل مروان) فقد جمع هذا الأمير نظراً لشغفه بكشف أكسير الكيمياء حكماء اليونان المقيمين في مصر في رحابه وطلب إليهم أن يعربوا المؤلفات اليونانية والمصرية عن أكسير الكيمياء عن اللغتين اليونانية والقبطية، وهذا حسب ما يعتقد ابن النديم أول نقل في الإسلام من لغة إلى لغة.
يقول برتلو في مؤلفه عن تاريخ الكيمياء في القرون الوسطى: (كان جل هم الكيماويين الحصول على الأكسير الأعظم وحجر الفلاسفة، غير أنهم خلال تجاربهم للوصول إلى هدفهم هذا وفقوا لاكتشافات كبيرة في الكيمياء ولا تزال المصطلحات الكيماوية التي وضعها العرب مثل الكحول - والأنبيق - وغيرهما متداولة في جميع اللغات الأروبية تشهد بما كان للعرب في هذا الفن من سابقة وفضل).
وهناك أمر هام أرى لزاما على أن أشير إليه وهو أن لوكلرك يشير في مؤلفه (تاريخ طب العرب) إلى أنه يعتقد أن مبدأ تاريخ اقتباس العرب من علوم اليونان يجب أن يرجع إلى ما قبل زمن خالد بن يزيد بمائة سنة أي أنه يعتقد أن تاريخ فتح مصر يجب أن يعتبر مبدأ لعهد اقتباس العرب من علوم اليونان؛ فإن يحيى النحوي وكان من ملازمي عمرو بن العاص وخواصه هو نفسه - حسب معتقد لوكلرك - يوحنا فيلويونوس شارح كتاب أرسطو وكان في الأصل من القسس اليعقوبيين وقام بترجمة بعض المؤلفات اليونانية إلى العربية بعد إسلامه. ويشير ابن النديم في الفهرست ضمن ذكر أسماء مؤلفاته ومقالاته إلى أن قام بشرح بعض مؤلفات جالينوس الطبية.
وعلى أي الأحوال فإن من المسلم به أنه قد ترجمت في زمن خالد ابن يزيد بن معاوية كتب في الكيمياء والطب وعلوم أخرى من اليونانية.
ويذكر ابن النديم مترجما باسم (اصطفن القديم) ويقول إنه قد ترجم كتباً في الصنعة أي الكيمياء وغيرها إلى العربية لخالد بن يزيد. وكان هذه الحقبة مقدمة لظهور العلماء أصحاب الرأي والنظر.
ففي عهد المترجمين في القرن الأول الهجري أو بعد ذلك بقليل كانت تراجم كتب الطب وسائر العلوم من اليونانية مزيجاً من الأصل المترجم عنه مع عادات المسلمين ومبادئ الصحة في الإسلام، ونادرا ما تجد طبيباً مسلماً يبدي رأياً أو نظراً خاصاً، بل كانوا على الأغلب الأعم يسيرون على النهج الذي سار عليه القدماء في حين أنا نجد في العصور التالية أي في عصور النهضة العلمية الإسلامية علماء كبارا تجاوزوا مرحلة الترجمة والتتلمذ فكان لهم استقلال في الرأي والنظر. ومع أن أساس معارفهم مقتبس ومأخوذ من علوم اليونان - ومع أنهم معترفون بفضل بقراط وجالينوس اللذين يذكرون دائما أسميهما بكل تجلة واحترام - إلا أن النظر والرأي ظاهران بصورة جلية في مؤلفاتهم. وتجد فيها أحياناً نقداً لآثار القدماء ومؤلفاتهم، فترى الأطباء المسلمين يقومون بتجارب جديدة في الطب، وتراهم يطبقون تعاليم طبية مفيدة على المرضى في المستشفيات كما ترى منهم شيئاً كثيراً من الابتكار والابتداع ولاسيما في طرق العلاج واستعمال الأدوية والعقاقير. وقد ترك علماء هذا العهد مؤلفات كثيرة قيمة في هذا الصدد.
وفي هذا العهد نرى الرازي يبدي شكوكا على أقوال جالينوس كما نرى ابن سينا ينتقد فلسفة المشائين في مقدمة مؤلفه حكمة المشرقيين. وفي هذه العصور أصبحت الأندلس وبغداد من مراكز الطب المهمة حتى قيل إنه كان في مكتبة قرطبة وحدها ثلاثمائة ألف مجلد في مختلف العلوم والفنون.
ويختلف حكم الناس بالنسبة للخدمة التي أسداها المسلمون لعلم الطب؛ ففريق يعقتد أنه لو لم توجد الحضارة الإسلامية لضاعت آثار بقراط وجالينوس وأمثالهما في ظلام القرون الوسطى ولخسرها العالم إلى الأبد، وان بقاء هذه الآثار العلمية والمؤلفات كان بفضل وجود المسلمين واهتماهم بها، وإن هذا التراث العلمي الغالي لم يسلم بفضلهم من الفناء والضياع فحسب، بل أضيف إليه الشيء الكثير.
ولما ضعف المسلمون فيما بعد وخرج كثير من البلاد كالأندلس من يدهم كان خير ما تركوه لأخلافهم ذلك التراث العظيم من العلوم والفنون.
هذا رأي فريق، غير أن فريقاً آخر يرى، ورأي معظمهم ناشيء عن الجهل أو الغرض أو التعصب، أن خدمة الملسمين للطب ليست بذات بال، فان هذا التراث العلمي بقي مدة كأمانة لدى المسلمين ورجال الكنيسة، لكنهم لم يضيفوا إليه شيئاً من عندهم حتى جاءت النهضة الأروبية فتسلمه منهم رجال ذلك العهد واستفادوا منه.
والحق وسط بين هاتين العقيدتين المتضادتين المتطرفتين، فلا ريب أنه لو لم يقم المسلمون - بجمع آثار المتقدمين من العلماء وترجمتها ونقدها وشرحها وتفسيرها بتلك الدقة العظيمة لضاع الشيء الكثير من آثار اليونان العلمية. وخير شاهد على ذلك أن كثيراً من مؤلفات اليونان في الطب قد ضاعت نسخها الأصلية ولم يبق منها إلا ترجمتها العربية مثل الكتاب السابع من التشريح لجالينوس؛ فالموجود منه الآن - هو ترجمته العربية ليس غير.
زد على ذلك أن بعض الأطباء من المسلمين قد أسدوا إلى عالم الطب خدمات عظيمة ولاسيما في الطب العملي والجراحة؛ وقد برز كثير منهم في هذا المجال أمثال علي بن العباس المجوسي الأهوازي وأبي القاسم بن خلف الزهراوي.
فان لم نقل إن كل ما وجد في القرون الوسطى من علوم الطب كان بفضل الأطباء المسلمين فلا أقل من انصافهم بذكر الحقيقة وهي أن الطب في القرون الوسطى مدين
للطب الإسلامي والأطباء المسلمين ديناً عظيما.
والذين يقصرون فضل حفظ التراث العلمي القديم على العرب فحسب مبالغون في قولهم هذا كذلك؛ فهؤلاء يقولون أنه لولا المسلمون لانقطعت الصلة تماما بين النهضة الأوروبية والعلوم اليونانية القديمة. وليس ما يقولونه كل الحق فان قسطاً عظيما من الكتب العلمية اليونانية كان موجوداً في أديرة المسيحية، وقد درسها وبحث فيها عدد من رجال العلم وحفظوا للعالم علوم اليونان وطرائق بحثهم ودراستهم العلمية.
وأهمية الطب الإسلامي تقتصر على أنه كان طوال قرون عديدة أي منذ انحطاط الحضارة والعلوم عند اليونان إلى زمن النهضة الأوربية أهم مصادر علوم اليونان وأصدقها. ولا يفتنا أن نذكر هنا أن الطب الإسلامي كسائر العلوم التي انتشرت بين المسلمين - وإن كان معظمه مأخوذاً عن مؤلفات اليونان وكتبهم فان قسطأص منه مأخوذ ولا شك عن مصادر إيرانية وهندية وسريانية. ومن أراد التفصيل فليراجع الفهرست (طبعة مصر صفحة 340 وما بعدها) وفيه أسماء المترجمين الذين ترجموا إلى العربية من اللغات المختلفة ومنهم ابن المقفع وكثير من آل نوبخت الذين نقلوا إلى العربية كثيراً من الكتب الفارسية.
ويجدر بنا أن نشير في هذا المقام إلى أن كثيراً من هذه الكتب التي عربت عن الفارسية الساسانية كان أصلها يونانيا ترجمت إلى الفارسية في عهد الساسانيين ثم قام بتعريبها الإيرانيون أنفسهم؛ ومن هذه الكتب كتب في المنطق والطب ترجمها ابن المقفع إلى العربية، وكتاب في الطب أيضاً لثياذوسيوس الطبيب الخاص لسابور الثاني عرب من الفارسية
وقد كان للإيرانيين أثر واضح في الطب بصفة خاصة عن طريق مدرسة جند يسابور. فبرغم أن أساس التعليم الطبي في تلك المدرسة كان الطب اليوناني إلا أنه قد اصطبغ بصبغة إيرانية بالتدريج، وكان للقريحة الإيرانية أثر كبير ونفوذ عظيم في منهج التعليم بها.
وقد ترجمت كتب أخرى من اللغات الهندية والقبطية إلى العربية ذكر ابن النديم كثيراً من أسمائها وأسماء الذين قاموا بتعريبها.
(يتبع)
من لندن:
معركة العروبة في فلسطين
أهدافها ووسائلها
للأستاذ إبراهيم زكي أباظه
قد لا يصل هذا العدد من الرسالة إلى أيدي القراء إلا بعد انتهاء الانتداب البريطاني المشئوم على فلسطين، ودخول الجيوش العربية إليها وسحق الأخطبوط الصهيوني الذي يبث الويل والدمار حيثما سار وحل. . . وفي حمأة هذه الحوادث وهذا الاختلاط في الوضع، تطيش رؤوس وتضيع حقائق هي أجدر ألا تغيب عن أنظار الباحث الحكيم والمخطط البعيد النظر. . . إذ بينما يسير انتباه العالم بكامله الآن نحو الطرفين الرئيسيين في القضية وهما العرب واليهود ليرى نتيجة صراعهما، نجد من النادر وجود امرئ يحدد مسئولية بريطانيا ويفيها حقها من اللوم على ما يجري في البلاد المقدسة من سفك دماء وتدمير. . .
إن كل عليم بتطورات القضية الفلسطينية ليدرك تمام الإدراك أن بريطانيا هي الجانية الأولى والأخيرة في كل ما وقع وسيقع؛ وإنه لمما يؤلم ضمير كل محب للعدالة، أن يجد في بريطانيا اليوم ممثلة لأعظم مهزلة، بل وإنه ليجد في سلوكها وتصرفاتها الحاضرة كل ما هو تدنيس للحقيقة وتدليس لحرمة التاريخ وقداسته ذلك أنها بعد أن خلقت المشاكل بمناصرتها للوطن القومي اليهودي وباستخدامها الحراب لحمايته ووضع أسسه، تجدها الآن وقد وقفت تندب حظها في أن العرب واليهود يصبون عليها اللوم والعقاب بلا مبرر على حد رأَيها، بل وإنك لتراها تتباكى بسبب ما نزل بأبنائها من قتل وشنق وهي في ذلك كله تتخذ موقف البريء المجني عليه، والنبيل العادل الذي افُترِى عليه. . . ولسان حالها يقول كالشيطان الذي قال بعد أن حبب الكفر إلى قلوب العباد. إني بريء مما تشركون. . إن العالم والتاريخ والعدالة لتخط اليوم لبريطانيا صفحة مذلة وعار وخزي بتمثيل هذا الدور الشائن والذي لم يقتصر على الادعاء بالبراءة بل تعداه إلى ترك بلاد مقدسة طوال الثلاثين عاماً الماضية تحت رحمة صهيونية آثمة، تتسلح علنا ولا من محتج، وتستعد للحرب
والفتك بالأبرياء وليس من إدارة تحاسبها على ذلك في كثير أو قليل، وتعمد إلى إرهاب ينمو ويتسع وينتظم تحت سمعها وبصرها وليس من تحذير أو ردع، حتى بات العرب العزل يجابهون مجزرة بربرية في دير ياسين وغيرها لا تقل إجراماً وتعطشا للدماء عن مذبحة سانت باثلمبو أو مذابح سبتمبر. . . ومع ذلك لم تقدم انجلترا على عمل تتخذه لحماية الأرواح. . . هذه حقائق ما كان أجدر بنا أن نعلمها حق العلم ونحن نخوض هذه المعركة الحاسمة ضد عدو غادر أثيم كالصهيونية. . . بل وعند انسحاب البريطانيين انسحاب الجاني المتلبس بجريمته.
الصهيونية والشيوعية:
ليست علاقات الصهيونية بالشيوعية بالشيء الحديث، وليست بخافية على كل من له إلمام بسير التاريخ الحاضر، بل وليست من سوء الحظ بالشيء البسيط الوحيد الذي غفل عنه قادتنا ورجالاتنا. . . إذ من ينسى أن منشئ الشيوعية الأول هو ماركس اليهودي؟ وهل من الجائز أن تنسى البلشفية الحاضرة دينها له؟ هل تنسى اليهودية صلة النسب بهذا الرجل ومذهبه؟ وهل من الجائز أن ينسى ستالين وأعوانه ذلك وينسوا واجبهم في معاهدة التوسع الصهيوني؟ ثم من ينسى أن نظام الاستقرار والاستعمار الزراعي في فلسطين هو تطبيق نموذجي للأصول الشيوعية كما هي في روسيا قلبا وقالبا؟ ومن ينسى أن من بين المهاجرين اليهود الأولين لفلسطين، جماعات روسية ركزت نفسها في الزوايا والنقاط الحيوية في فلسطين حيث جعلت منها مراكز لخزن السلاح وتدريس أصول الإرهاب وبث التعاليم الفوضية؟ وعلى من يجهل ذلك أن يذهب إلى مستعمرات شمال شرق فلسطين ومرج ابن عامر ليجد ألوف النشرات المعنونة بـ (مبادئ القومية) و (وبدعة الديانة) التي جلبها معهم يهود شرق أوربا؟ وليجد هذه كلها مع الكميات الهائلة من الذخيرة والأسلحة. . . هذا منذ عام 1920 وكما يعترف به اليهود الروس آنئذ. . . ثم من يجهل أن يهود البلقان - تلك البلاد التي هي الموطن التقليدي للأرهاب المحترف في العصر الحاضر - يقيمون الآن في فلسطين في عدد هائل وكلهم متدرب فائق الخبرة بالفنون العسكرية التي اكتسبها أثناء الحرب الحاضرة في حركات المقاومة، وجميعهم يرحب بروسيا كحامية للبلقان، ويرحب بأن يكون لها العون والنصير لإيجاد قاعدة بل وقواعد نشاط في الشرق الأوسط
بادئين بفلسطين؟ إن الشرق الأوسط كله الآن يعج بهذه القوى الخفية والوكلاء السريين، كما تعج بهم موانئ دول البلقان، وكلهم متلهف للعمل، تواق للفتك والمغامرة من أجل فلسطين والصهيونية، وروسيا راعيتها الأولى. . . فعلينا أن نذكر هذا ونفكر في عواقبه!!
مجموعة من الأخطار:
إن كل عليم بأصول الحضارة والتاريخ والعقلية اليهودية لابدّ أن يفطن إلى فكرة على جانب من الأهمية وهي (أن الروح التجارية صفة بارزة في الشخصية اليهودية أينما حلت ومهما بلغت من علم وثقافة، وهي المعيار الوحيد في نشاطهم الدنيوي والأخروي سواء أكان ذلك في شراء بيضة، أو إنجاز صفقة، أو أداء صلاة، أو الحصول على فلسطين) ولا يصد اليهودي عن نيل ما يبتغيه إلا أن يرى أن إهدار دمائه هو الثمن لما يرجو الحصول عليه؛ وعندئذ يردع خاسئاً مدحورا، ولكن ليعاود ذلك بوقاحة وتكرار، وبكل ما أوتيه من غدر واحتيال، لا يردعه عن ذلك رادع إنساني أو مثل أعلى. . . وكم يجدر بقادتنا أن يفهموا هذه الميزة البارزة في عقلية الصهاينة ونشاطهم في هذا الكون. . .
بالأمس طالبوا بوطن روحي في فلسطين، ثم ببضعة أفدنة يزرعونها، ثم ببيوت ومدن يبنونها، ثم بالحصون والقلاع يرفعون سمنها، ثم بالدولة يضعون أسسها. . ثم ماذا؟ مطالب أثر مطالب. إذا ما أفلحوا فيها - لا سمح الله - فسيطالبون باللقمة في فم العربي يسلبونها ومعها يسلبون دعامة الحياة والبقاء.
بالأمس عُلق البريطانيون على أعواد المشانق وبالأمس اغتيل قادتهم في القاهرة وروما وبريطانيا نفسها، بقنابل بريدية، ونسف البنايات ودك المعاقل. . . إلى آخر ما هنالك من وسائل لن تقف عند حد في وحشيتها كل ذلك لأن الصهيونية تخيلت أن هذا البريطاني أو ذلك كفر بمطالب الصهيونية، أو لأنه احتج على أمر نبا عنه ذوقه، أو لأنه أعرب عن رأي لم يوافق إنجيل الصهيونية ومطامحها الخطيرةـ فكان جزاؤه سفك الدم! ثم نما الخنجر الصهيوني فإذا به ذو حدين مرهفين، أخذ ثانيهما يفتك بالعدو الأصيل - العرب، فمن قرى تدمر، وأطفال ونساء حوامل تبقر بطونها، وتنهش لحومها، وذلك على مرأى من العالم المتمدين وعلى مرأى من الجيوش العربية. . .!! فأمام هذا البلاء وأما هذا الكابوس الذي فرضه الأرهاب الصهيوني على أعدائه السياسيين وعلى الرأي العام العالمي، من
يجرؤ على القول أن المصير المشئوم الذي ناله الكثيرون، بعيد عن أن ينال ملوكنا في قصورهم، وقادتنا في بيوتهم، وأطفالنا في أحضان أمهاتهم، ومساجدنا وكنائسنا، وقبورنا وآثارنا، ومقدساتنا وحرماتنا!! ومن يضمن أن يترفع هذا الإرهاب الأثيم والغدر البربري عن تدمير كل ما شدناه من آثار وتاريخ وأمجاد وحضارة؟ إن سلامة الشرق الأوسط بأسره في كفه الميزان؛ فعلى الملوك والعواهل والوزراء أن يحزموا أمرهم ويجمعوا رأيهم لتقليم هذا الأخطبوط الصهيوني الخطر. . .! وإلا فليس من البعيد أن يقال في عهد الملك الفلاني، ضاعت فلسطين ثم بتفريطه في الدفاع عنها، حلت ببلاده هو النوائب والبلايا. . . وفي عهد القائد الفلاني فقدت فلسطين ومنها سارت جيوش الأعداء واحتلت بلاده. هذه أفكار ليس للتشاؤم دخل فيها، ولكن علينا أن نتأهب للأمر وألا نلدغ من جحر مرتين. . . لقد قللنا من خطر الصهيونية وخفي علينا ما في البلاد من أوكار ومكامن، ومن قوى وأخطار وجيوش انقلبت بين عشية وضحاها إلى قوى نظامية قادرة على صب الويلات، وإهراق الدماء بدون مقاومة تذكر.
منذ عشرين قرنا من الاضطهاد المزعوم الذي جلبه اليهود على أنفسهم، غليت قلوبهم بالحقد والضغينة على الإنسانية جمعاء، أخذ يتطور الآن بعد تكتلهم في فلسطين إلى حملة من الانتقام تهدف لتصفية الحساب مع كل فرد أو مجموعة سبق في زعمهم أن ساهموا في تعذيب اليهود واضطهادهم، وهذه ملفات الوكالة اليهودية حافلة بخطط الانتقام، ولم ينس الصهاينة حوادث العراق عام 1941، ولا حوادث الشعوب التي اعتدت أفرادها على أقلياتهم في بلادها، ومن بين هذه الشعوب الشعب البريطاني والشعب الألماني، ولكن في المقدمة سيأتي طبعاً كل ما يزعمونه ويختلقونه من اضطهاد حل بهم في البلاد العربية المجاورة، كما أن كل كلمة فاه بها أمير أو زعيم كلها مرقومة في سجلاتهم، وهم متعطشون لتسديد الحساب بلا رفق ولا هوادة، وكلما استقر بهم المقام في فلسطين وتمكن لهم الحال فيها تعاظمت الأخطار وهذبت الخطط لانتقام مروع دام يصبونه على العروبة ودولها.
أبرزت الحوادث العديدة في السنين العشر الماضية الصلة الوثيقة بين صهيوني فلسطين ويهود الأقطار العربية، والنشاط السري الواسع، والوكالات والمنظمات التي يدبرها هؤلاء الآخرون حتى ثبت الآن أن أفراد العصابات الإرهابية التي تفتك بالآمنين في فلسطين
يتألف أغلبها من يهود عرب جُلبوا ودربوا تحت إشراف الخبراء اليهود الأوربيين، وبسبب معرفتهم العربية وملامحهم العربية سهل عليهم تنفيذ تلك المهمات الإجرامية التي عهدت إليهم. ولا يسعنا أن نغفل هنا ذكر سارة أرنسون وأفراد أسرتها التي اختصت بالتجسس في الشرق وبين القبائل في الصحراء السورية في الحرب العالمية الأولى. وأن لهذه الأسرة وكلاء لا يزالون يقومون بنفس المهمة، كما أن الخدمة السرية للوكالة اليهودية لها قلم خاص للاستخبارات في الشرق الأوسط العربي، وهو نشيط وله أساليب هدامة مريعة في تنفيذ خططه. وقد أثبت يهود اليمن وعدن ويهود حلب بصورة خاصة مهارة تذكر في هذا السبيل. . . إن يهود البلاد العربية جيوب غدر وأعوان هجوم، خطرها بالغ وسمها نقيع إذا ما اقترن غدرها بالتوجيه العصري والتنظيم الأخصائي تحت إرشاد الأخطبوط الصهيوني في فلسطين.
أما توزع اليهود في العالم فله ميزة بالغة استغلها اليهود كل الاستغلال وعصروا كل خبرات الأمم التي عاشوا بينها وجلبوها إلى فلسطين لا للاستقرار فحسب، بل للامتداد والتوسع. وإذا ما علمنا نتاج اليهود الاقتصادي وقوتهم المالية أدركنا الاحتمالات الأكيدة الناجمة عن ذلك فيما لو سمح لهم بالتركز في الأرض المقدسة، وليس إنشاء أسطول ضخم، وجيش عصري ومصرف دولي، وإذاعة قوية، وجامعات ومعاهد، وحصون وقلاع، وقواعد غزو، إلا نماذج من هذه التوسع العتيد الأكيد.
إن هذه مجموعة من الأخطار نقدمها هدية - قبل فوات الأوان - إلى أولئك الذين يتقلدون المناصب ويتحكمون في توجيه الرأي العام العربي، ويوجهون سياسته ويناصرون العروبة ويشدون أزرها، لا بدافع التشاؤم والوجل بل كصرخة يرسلها عالم متألم، يؤمن بأن الاعتراف بالحقيقة مهما كانت مُرة قاسية هي أولى الخطوات لتسديد الخطر، وحزم الأمر وخوض المعركة بصبر وبلاء يجدر بالصادقين الذين عاهدوا الله على النصر أو الفناء، دفاعاً عن العروبة وأمجادها وتراثها الغالي التليد.
مبررات دخول الجيوش العربية:
مضى على انفجار الغدر الصهيوني أكثر من شهرين، أريقت خلالها دماء، وأزهقت أرواح، واحتلت مدن، واقترفت جرائم هزت وعي الإنسانية، وروعت أحاسيس البشرية،
وستبقى مذبحة دير ياسين الشاهد الدامي على جريمة فاقت بربرية النازيين، بل غطت على فظاعة القتل بالغاز والخنق وجرائم القرون الوسطى، وكل ذلك من جماعات متشردة أعدت ودربت للفتك وفرض دولة يهودية في الشرق، وليس لأحد منهم صلة أو حق بهذه الأرض العربية الصميمة. ومما لا شك فيه أن يهود العالم يمولون الاعتداء والجرائم الصهيونية في فلسطين، كما أن حركة التجنيد اليهودية على قدم وساق في كافة الأقطار وتحت أسماء مختلفة أغلبها تحت اسم (حركة الشباب العبري) ولهم معسكرات في كل مكان تعد الجند وتجمع القوى، كما صدرت نماذج التحاق بالجيش لكافة الشباب اليهودي العالمي للخدمة في ميادين فلسطين في الحال عندما يطلب إليهم ذلك، كما أخذ الكثير من هؤلاء يتسرب إلى فلسطين بكافة الطرق ومعهم تدريبهم العسكري الفائق، هذا وإن الأخصائيين الروسيين يقودون الآن الفرق اليهودية المرابطة في عشرات الموانيء في البلقان، وكلها عازمة على غزو عام مسلح للأراضي المقدسة.
وعلى العموم فكفة السلم في الشرق الأوسط الآن هي فريسة لتيارات عنيفة عسكرية وسياسية واقتصادية. وإذا ما علمنا أن دول الشرق فتية الاستقلال حديثة العهد، وجدنا لأنفسانا كل مبرر يمليه الحق والعدل والأمن والسلام. وكلها تفرض واجباً سريعاً حاسماً لدخول الجيوش العربية واجتثاث الصهيونية حتى لا تعود إلى شرورها وأخطارها الفادحة.
خطط وأهداف:
القضاء على الصهيونية كقوة عسكرية، وخنق انتشارها كعقيدة سياسية، وإدماج فلسطين كدولة عربية، كجزء في جامعتنا، وإيجاد إدارة مدنية شاملة لكافة الرعايا - هذه هي بالايجاز ما يجب أن تهدف له الجيوش العربية عند دخولها إلى فلسطين. . .
تقوم في تل أبيب الآن معاقل إرهاب ومستودعات أسلحة ومصانع تجعل من المدينة خطراً يهدد سلامة الشرق، وإذا رأى الإنجليز في تدمير برلين العمل الوحيد لصون السلم العالمي والقضاء على رأس الثعبان النازي، فدمار تل أبيب ونزعها، كنواة لدولة يهودية، من مخلية اليهود، علم ضروري لا مفر منه إذا أردنا ان نكون عمليين في أعمالنا وخططنا لحفظ السلم في الشرق. فهذا الوكر الذي يحتله ربع مليون إرهابي عنيد يجب أن يلقى نفس المصير الذي لقيته برلين وخاريحوف وهامبرج، ووجودها على قيد الحياة بكل ما يمكن
فيها من أخطار سيكون برهانا - يوماً ما - على عقم تفكيرنا، وقصر نظرنا.
إن الصهيونية كالنازية في أهدافها ووسائلها؛ هي مذهب خالط الدم واللحم واختراقه إلى العظم في جسم كل يهودي، لذا أصبح من الواجب على القيادة العربية، إعداد منهج يحفظ لليهود حياتهم كأفراد خالين من شوائب الصهيونية، كمبدأ هدم وسيطرة، والاستعاضة عنها بثقافة سليمة أخوية تمكن لليهودي العيش بهدوء وأمن مع الجمهرة العربية في فلسطين. . . إن محق الصهيونية كمبدأ خفي هو إنقاذ لمستقبل الشرق. وكخطوة جوهرية في هذا، يجب على القيادة ألا تغفل عن فرض رقابة شريعة في الدقيقة التي تدخل جيوشها الأراضي المقدسة على الشواطئ وإيقاف الغزو الذي ستقوم به ألوف صهيونية عدة تنتظر الأوامر بالنزول إلى البر. . . إن كل صهيوني يقدم حديثاً إلى فلسطين، هو خبير عسكري مُنتدب لمهمة خاصة في الدولة الصهيونية المزعوم إنشاؤها. .
إن دخول الجيوش العربية حادث بالغ الأهمية في تاريخ العروبة؛ فهو أول عمل مشترك تقوم به الجامعة لحفظ حياتها، وسيشخص العالم بأبصاره ليرى كفاءتها وحنكتها في مراحل حياتها الأولى، وسيقبل حكمها وحلها لقضية فلسطين، حتى ولو فرض بالقوة كما يتطلب الموقف الآن، وسيكون حقيقة واقعة إذا ما اقترن ذلك بإيجاد إدارة مدنية ذات كفاءة وحنكة حتى ولو كانت عربية صميمة. إن الحنكة والشجاعة من القائد البارع تخضع لهما رقاب الأعداء ولو كان ظالماً. هذا درس تعلمته البشرية خلال تجارب عديدة برغم عدم اعترافها به. وإن كل هوادة، أو تراخ في هذه المرحلة الحاسمة معناها الانهزام أمام الإرهاب وانتحار الجامعة العربية، وتحطيم الأهداف والمبادئ والمطامح التي علقتها عليها ملايين الشباب في أطراف العالم العربي
هذا يوم تشخص فيه عيون الأيتام والأطفال والنساء، والمروعين حتى الطامحين إلى القتال، ولكن يعوزهم السلاح والدراية، بل وعيون العالم أجمع، لنرى جيوش العروبة تخوض معركة التحرير لإنقاذ فلسطين وإراحة العالم من قلق وخوف عجزت بريطانيا وهيئة الأمم المتحدة بسبب مطامحها وأنانيتها عن إيجاد الحل العادل لها.
إن هذا يوم له في تاريخ العروبة ما بعده، فاجعلوه مشهوداً أغر - وللعروبة نصر محتوم وظفر محقق.
(لندن) 1151948
إبراهيم زكي أباظه
المحامي
الربيع الخالد.
. .
(إلى جيش النصر الظافر. . . في فلسطين)
للأستاذ أحمد أحمد العجمي
ليس الربيع لنا دوحاً وأنهاراً
…
ولا غناء وأنداء وأزهارا
ولا رُبى مرحات الأيك وارفة
…
كجنة الخلد آصالا وأسحارا
ولا نسيما تحس الغيد نفحته
…
عطراً ولفحته في القلب إعصارا
ولا أهازيج أطيار تسيل كما
…
سال الندى عبقاً من كف آذارا
بل الربيع الموشى في مباهجه
…
روح الحياة بدا كما لنبع ثرارا!
روح تغلغل في الدنيا فبد لها
…
بالجدب خصباً وبالظلماء أنوارا
يرى على الأرض أشجاراً وأودية
…
وفي السموات أطيافاً وأطيارا
وإنما هو سر لا قرار له
…
وإن تبلج أزهاراً وأقمارا
أرى الربيع شباباً ضاحكاً نضراً
…
كالبحر مصطفقاً والنجم سيارا
فإن توارى شتاء فهو أجنحة
…
تهيم في الأرض إقبالاً وإدبارا
وتقتنيه الصحارى في بواطنها
…
تشكون صدىً ثار في أعماقها نارا
فيعتلي السحب يزجيها ويوسعها
…
رعداً وبرقاً فيهمي الغيث مدرارا!
وللطبيعة إحساس تحس به
…
نور الدجى وترى للجهر أسرارا
ليست زهور الروابي في خمائلها
…
إلا قلوباً وأسماعاً وأبصارا!
وللطبيعة أسرار يبوح بها
…
فم الربيع عشيات وأبكارا
تفيض بالبهجة الكبرى مواكبه
…
أُنسا وبشرا وأضواء وأعطارا
منذ يراه ربيعاً واحداً ألقاً
…
وقد تعدد أطواراً وأوطارا؟
لكل نفس ربيع في قرارتها
…
رأته رأياً ولم تبصره إبصارا!
والعين لا تبصر الأكوان حالية
…
إلا بنفس ترى الأوكار أفكارا!
ورب ذي بصر أعمى البصيرة لا
…
يرى بشائر حسن هز (بشارا)
إذا رأى الشمس والأقمار سافرة
…
فقد رأى حجباً شتى وأستارا
وأنت يا فتنة للقلب آسرة
…
يا روضة من رياض الخلد معطارا
يا صورة لربيع الحب مؤتلقاً
…
ندى وندّاً وأزهاراً وأثمارا
أرى بعينك لي سحراً وساحرة
…
وفي محياك لي خمراً وخمارا
أنت الحياة التي تجلو الربيع لنا
…
يعانق الشرق إجلالا وإكبارا
وما الربيع سوى الحرية انبعثت
…
في الشرق عزماً على الأعداء جبارا
ليعلم الغرب أن الشرق ناجزه
…
بالنار ناراً وبالبتار بتارا!
حتى نجدد للتاريخ سيرتنا
…
مهاجرين كما كنا وأنصارا
وما فلسطين إلا الجنة اقتربت
…
لمن يذيق (اليهود) النار والعارا
هيا إليها على أشلائهم لنرى
…
معنى الربيع وجيش النصر جرارا
العرب كم رفعوا للحق ألوية
…
ومصركم حررت بالسيف أمصارا
خواطر مسجوعة:
الحكمة
للأستاذ حامد بدر
قيل لِمض لمْ تطل في مقالك؟ قلت وما عيب ذلك؟. إن المعنى العزيز، في اللفظ الوجيز، كالحسناء الرشيقة، في الحلة الأنيقة. والمعنى الضئيل، في اللفظ الطويل، كالجسم الغث، في الثوب الرث. وقد تأتي الحكمة في كليمات، ولا تأتي في صفحات. كما يجزل لك السخي العطاء، ولا يشعرك بعناء. ويثقلك الشحيح بمن طويل، لو يعطيك القليل!
فالحكمة درس كبير، في أوجز تعبير، يمليه قلب بصير، ويؤيده تجريب كثير، فتعجب من سطور، تتيه على الشذور، لأنها أغنى من الكتب، وأغلى من الذهب، ينبعث نورها من حلك المداد، كنور القلب ينبعث من السواد. فخذ من الحكمة ثراء كبيراً، (ومنْ يُؤتَ الحكمةَ فقدْ أوتي خيراً كثيراً)
أجل في الحكمة ثراء، يفتقر إليه الأثرياء، ونور لا تغني عنه سعة البصرين، ولا أشعة القمرين. ثراء يملأ الجنان، بالرضا والإيمان، ونور تتضاءل عنده الأنوار، وتنكشف أمامه الأسرارن فقلب الحكيم غني بما فيه، عامر بما يحويه، وعينه نافذة وإن لم تكن نجلاء، وحسبك أبو العلاء!
والحكيم إن فكر ارتقى، وأن عبر انتقى. فالحكمة بنت الفكرة العالية، في العبارة الغالية، بل هي من الأدب غايته، ومن البيان آيته. وكثيراً ما تمتُّ إلى الشعر بلحمة، (وإن من الشعر لحكمة) إلا أنها ليست حكما لطبع جائز، ولا وحياً لشعور ثائر. بل تجيء عند هدوء النفس، واعتدال الحس، بعيدة عن عسف الغلواء، بريئة من سرف الأهواء.
الأدب والفنّ في اسبُوع
الثقافة والمثقفون:
هذا هو عنوان المحاضرة التي ألقاها الدكتور محمود عزمي بك يوم الثلاثاء الماضي في الاتحاد الثقافي المصري.
تتبع المحاضر مدلول الثقافة في العصور المختلفة حتى العصر الحديث، وانتهى من ذلك إلى تعريف (الثقافة) بأنها الجانب العقلي للحياة الاجتماعية، وأنها تشمل المعارف ذات الأثر العملي النافع في الحياة، فهي شاملة بمعنى أن المثقف هو الذي يأخذ من كل فن بطرف، وهي ذات صبغة حيوية لارتباط المعلومات بالحياة العملية الواقعة.
ولذلك لا يعد الباحث المختص في أي فرع من فروع العلم، أو فن من الفنون، مثقفاً، ما لم يلم ببقية العلوم والفنون إلماماً نافعاً. وأشار المحاضر إلى ما توصف به الثقافة من نحو (الثقافة الفرنسية) أو (الثقافة العلمية) قائلا إن معنى الشمول الذي تدل عليه (الثقافة) لا يتفق مع هذا التخصيص.
وقال إن الكلمة التي كانت تدل على ذلك المعنى الشامل لألوان المعرفة في العصور العربية المتوسطة، هي كلمة (أدب) فقد كلنت تطلق على الشعر والنثر والتاريخ والفقه والتفسير والحديث والفلسفة والمنطق وغير ذلك. ولكن في العصر الحديث أخذت كلمة (أدب) المعنى الفني المعروف. وهنا قص المحا ضر قصة طريفة تدور حول البحث عن كلمة عربية تقابل كلمة (كلتير) الإفرنجية حتى اهتدى إلى (الثقافة) فأطلقت على هذا المعنى. قال: كنا طلبة في باريس من مختلف البلاد العربية في وقت ثار فيه هناك جدل حول معنى الثقافة، فألفنا جمعية أسميناها (جمعية التهذيبات العربية) ولما عدت إلى مصر واشتغلت بالتدريس، كنت أحتاج إلى كثير من الأسماء العربية للمدلولات الحديثة، ودلني بعض الناس إلى كتاب (المخصص) لابن سيده، فاستفدت كثيراً منه، وقيل لي إنه مما ينفع في هذا المجال مؤلفات خريجي دار العلوم الذين تعلموا في بعثات بأوربا، وقرأت هذه المؤلفات ووجدت فيها كثيراً مما أطلب، ومرة وقعت على كتاب لأحدهم وهو الأستاذ حسن توفيق العدل، إسمه (سياسة الفحول في تثقيف العقول) فأمسكت بكلمة (تثقيف) وراجعت بعض المعاجم حتى وجدت في (أساس البلاغة) كلمة (الثقافة) بمعنى طلب العلوم والمعارف، ثم كتبت مقالا بجريدة
السياسة عنوانه (الثقافة البيضاء المتوسطة) فعقب عليه الدكتور طه حسين في فصل من فصوله التي كان يكتبها بعنوان (حديث الاربعاء) واستحسن كلمة (الثقافة) ولكن لم يعجبه وصفها بالبيضاء المتوسطة. . ذاهباً إلى أن الإضافة أحسن فيقال (ثقافة البحر الأبيض المتوسط) بدلا من ذلك العنوان. . وبعد ذلك سارت الكلمة حتى الآن. وقال المحاضر إنه رجع إلى مجمع فؤاد الأول للغة العربية وسأل عن مكان كلمة (الثقافة) في أعماله، فقيل له إن المجمع لم يتعرض لها بشيء حتى الآن، سوى ما تضمنته الأصول المعدة للمعجم الوسيط من أن (الثقافة) هي الإلمام بالمعرف المختلفة إلماماً حسناً.
تصوير الكاتب لغير بيئته:
نشط الأستاذ محمود تيمور بك أخيراً في الكتابة عن القضايا والمذاهب الأدبية، ومن ذلك ما يشرته له مجلة (الاستديو) في عددها الأخير بعنوان (هل يحيا القصاص حياة أبطاله؟) وقد تعرض في هذا المقال لاتصال الفنان ببيئته وغير بيئته وأثر ذلك في فنه، وقال (ولبعض النقاد عذرهم فيما يرتأون من أن القاص يجب أن يكون قد مارس حياة الصعلكة مثلا ليجيد التصوير لشخصية الصعلوك، وأن يكون قد عاش عيشة الفلاح ليتحدث عن نفسية الفلاح) ثم قال: (على أن هذه الفكرة في وجاهتها وأصالتها، وفي صدق أمثلتها، ليست كل الرأي في هذا الصدد؛ ولا يمكن أن تكون هي الحتم اللزام الذي لا سبيل غيره إلى تجويد وإتقان؛ فقد يكفي أن يخالط الفنان طبقة من الناس، ولوناً من الحياة، نوعاً من المخالطو قل أو كثر، فسرعان ما يتأثر بهذه الطبقة وذلك اللون، وسرعان ما يجد في هذا التأثر مدرجة لإجادة الوصف والتعبير، تسعفه الفطنة، وتمده البصيرة، ويحلق به الخيال في الآفاق والأعماق).
وقال أيضاً: (ومن الطريف أن في صميم الميدان الأدبي أمثلة تثبت عكس ما يراه النقاد من أن ابن البيئة أولى من يجيد تصويرها، فقد يكون الفنان نزاعاً إلى نوع من الحياة غير الذي يحياه، طلاعاً إلى جديد من العيش، وإن كان أدنى من عيشه، وأحفل بالمشقة والكبد؛ فيبعثه الحرمان والنزوع إلى تمثل تلك الحياةالمنشودة والاستمتاع بها في عالم الخيال، ومن ثم يستبين تعبيره قوياً حياً يصور بيئة غير بيئته، وطبقة غير طبقته، وحياة غير حياته).
ولك أن تلاحظ أن ذلك ينطبق على الأستاذ تيمور نفسه، لما يشيع في قصصه من تصوير ألوان من الناس بعيدة عن حياته في طبقته، فهو إذ يفصل القول في هذه القضية، إنما
يصدر عن إحساس وتجربة. على أنني أضيف إلى ما بينه، أن الفنان الذي يطرأ على بيئة جديدة يسترعي انتباهه فيها ما يراه الفنان المقيم بها أمراً عادياً لا يستحق الالتفات، لطول الألفة والمعاشرة
مثال:
ثم أريد من تلك الفقرات التي نقلتها من كتابة تيمور أن تكون مثالا لتعليق (الرسالة) على ما كتبه الدكتور الأهواني بالعدد الماضي عن أسلوب تيمور، ولعله يرى أن هذه الكتابة أقرب إلى (ترسل الجاحظ) منها إلى كثير مما يكتبه بعض الكتاب في هذه الأيام. . . وهي كتابة تيمور التي عدَّ الدكتور من مزاياها أن تبعدنا عن ترسل الجاحظ!. .
معرض الكتاب للطفل والناشيء:
أقامت وزارة المعارف بدار خدمة الشباب (7 - شارع سليمان باشا)(معرض الكتاب للطفل والناشيء) وهو يضم مجموعات من الكتب العربية والإنجليزية والفرنسية والأمريكية الخاصة برياض الأطفال والمدارس الابتدائية والثانوية، وقد شاهدت بينها مجموعة لابأس بها من الكتب الأدبية العامة (غير المدرسية) وقد ضمها المعرض لأنها مقررة للقراءة الأدبية في مكتبات المدارس الثانوية؛ والمعرض بطبيعة الحال لا يضم كل الكتب المؤلفة للطفل والناشيء، وإنما يحتوي على كثير منها، ولاسيما الكتب غير العربية، والمعروض منها هو المستعمل بمصر في المدارس المصرية أو الأجنبية، ومع هذا فإن القسم العربي أقل من كل قسممن الأقسام الأخرى، ولم يعجبني أن تأخذ هذه الأقسام صدارة المكان، فقد كان يجب أن يقدم القسم العربي مهما كان حظه من الكمية والمادة والمظهر.
والغرض من هذا المعر ض أن يقف الزائرون من رجال التعليم والمؤلفين والناشرين والآباء والأمهات - على مدى ما وسلت إليه كتب الأطفال والناشئين. وقد رأيت المعرض زاخراً بعدد كبير من السيدات (الأجنبيات) يتأملن ويتصفحن باحثات عن الغذاء العقلي لأولادهن، وأرسلت البصر في جوانب المكان فلم تقع عيني على امرأة مصرية. . وليس ذلك لاحتجابها، فقد رفع الحجاب؛ ولا لاحتشامها، فهي في السينما
الطبيعة بين الشعر والعلم:
ألقى الدكتور محمد حسين هيكل باشا يوم الجمعة الماضي محاضرة بنادي رابطة خريجي معاهد فرنسا وبلجيكا وسويسرا، كان موضوعها (الطبيعة بين الشعر والعلم) استهلها ببيان أنه سيتحدث حديثاً قوامه رواية مشاهد وليس القصد منه التفكير في نظريات أو مذاهب وآراء. ثم بدأ بالحديث عن (مساقط النياجرا) التي تقع بين أمريكا وكندا، فقال إنها من عجائب الدنيا السبع، ومناظرها بما يحيط بها من حدائق من أجمل مناظر الدنيا، ومن عجيب أمرها أن المقبل عليها لا يبهره أول ما تقع عليه عينه من مشاهدها، ولكن كلما أنعم الناظر في مفاتنها أحاط بها وتجلت له عظمة الطبيعة على نحو يعجز عن وصفه أبلغ الكتال وأقدر الشعراء. وحول هذه الساقط جنات فسيحة متدرجة في الارتفاع بحيث يرى الإنسان المساقط من أي مكان فيها. ومما يزيدها جمالاً بالليل ما يسلط عليها من الأشعة الكهربية الملونة؛ وكل ذلك قد جعل منها بحق (جنة شهر العسل) وهنا ساق هيكل باشا دعابة قال فيها إنه عندما زار هذه المساقط لم يكن مثل الكثيرين الذين يقضون فيها شهر العسل، لأن الذي كان يرافقه إنما هو الأستاذ جورج حبيب سكرتير فني مجلس الشيوخ. . ولذلك لم يكن تأثيرها الشعري فيه بالغاً، وإنما راعه كثيراً، عناية أهل تلك الجهات باستخدام العلم في تجميلها والانتفاع بها، فأنشأوا مهابط كهربية (عكس المصاعد) تهبط إلى عمق خمسين متراً في الأرض، فإذا نزل النازل لبس ثياباً من الجلد لأنه يكون قريباً من مستوى رشاش الماء، فيستمتع بمنظر لا مثيل له؛ وبالقرب من المساقط محطة كهربية قةتها حوالي 175 حصاناً كلها مستمدة من مياه المساقط التي تنحدر إليها في جوف الأرض. ثم قال: هناك يشعر الإنسان بقوة الطبيعة وعظمة العلم. قلت في نفسي وقد شهدت المساقط والمحطة الكهربية: أيهما أبدع وأروع سحر الطبيعة أو عقل الإنسان، الطبيعة كما هي أو بعد تهذيب الإنسان لها وتلسطه عليها؟ أعتقد أن علم الإنسان حين يختلط بالطبيعة وحين يندمج فيها، هو بعض هذه الطبيعة، كالصخور التي تتغير أوضاعها بفعل الطبيعة، فالإنسان قوة من قوى الطبيعة.
ثم انتقل هيك باشا إلى (الريفيرا) فتحدث عن جمالها واقتران العلم بالشعر هناك أيضاً، وقال إن زرقة البحر الأبيض المتوسط جميلة في الإسكندرية ومرس مطروح، وفي غيرهما، ولكنها لا تبدو رائعة أخاذة كما تبدو على ساحل (الريفرا) الممتد من مرسيليا إلى
جنوة. ثم قال: منذ ثماني عشرة سنة زرت الأقصر، وركبت الباخرة منها إلى أسوان ثم من أسوان إلى القاهرة، وكنت من خلال الرحلة أشعر بالرضى والطمأنينة لجمال النيل وزرقة مائه ولما كنت أستشعره من الآثار المصرية القديمة القائمة على شواطئه، ولكن هل استطعنا أن نخلق على شط النيل (جنة لشهر العسل؟) ونحن نخطر فوق مياهه فهل ارتقينا (بالإنسان) المقيم في واديه إلى مرتبة الإنسان؟ لا أزال أذكر منظراً رأيته مكرراً في تلكم الرحلة، الفلاح يزرع قطعة من الأرض يقتات منها هو وعياله، ينقل الماء إليها من النيل بوساطة رجل عند المجرى يرفع الماء إى ثان، والثاني يرفعه إلى ثالث، والرابع يوزعه على الزرع. ولاشك أن الحال لم تتغير إلى الآن، وقد بلغنا عن طريق العلم ما بلغنا في معرفة طرق رفع المياه، ولكن لم نستخدمه في راحة هؤلاء الناس. . أليس مما يجرح القلب أن نهمل هؤلاء الناس وندعهم يشقون؟ أليس واجباً أن نعمل وأن ننشر آراءنا في الناس؟ أقول هذا وأنا أعترف أني من المسئولين عن التقصير في هذا المجال. . .
من طرف المجالس:
اعتدت أن ألقي بعض الأصدقاء يوماً من الأسبوع بمشرب في القاهرة، وكثيراً ما أجد هناك من لا أرتاح إلى مجلسه، فأعتبر ذلك ضريبة للقاء الأصدقاء!
وذات يوم أقيل علينا صديق من غيبة طويلة، ففرحنا به وشاعت البهجة في نفوسنا لقدومه. وبينما نحن نمرح ونمزح إذا (ضريبة تصاعدية) تفرض علينا في شخص صاحب يأبى إلا أن يكون شاعراً، قد أعد قصيدة طويلة من الشعر (الوسط) فنغص علينا بإلقائها على أسماعنا. . . والبلوى بهذا الصاحب أنه لا عيب فيه إلا شعره الذي يحرص على ألا تفوتنا بدائعه! فلو أنه ممن لا تقتضي صحبته المودة لسهل التخلص من الإنصات لإنشاده. .
أفضيت بأمر هذا الشاعر إلى الأستاذ كامل كيلاني، فابتسم ثم قال: ألا تعرف أني قلت في مثله أبياتاً منها:
فزكاة صحبته سماع قصيدة
…
أبياتها قد زلزلت زلزالا
فإذا أبيت فقد عققت صداقة
…
وإذا رضيت فقد حملت جبالا
أوربا فقط:
دعت رابطة (مصر - أوربا) إلى حفلة ساهرة يوم الخميس الماضي بالنادي اليوناني الذي تتخذه مقراً مؤقتاً لها، أو هكذا تقول. . فقد كان كل ما في الحفلة التي دعت إليها (رابطة مصر - أوربا) أوربيا، كان هناك موسيقى أوربية وغناء أوربي. أما مصر، وهي الشطر الأول من اسم الرابطة، فلم يكن يدل عليها هناك إلا طربوش رئيس الرابطة المصري. وكانت الرابطة قد دعت قبل هذه الحفلة بنحو أسبوع إلى سماع محاضرة لأحد الأجانب باللغة الفرنسية، ولم تدع مرة إلى محاضرة عربية، فلماذا لم يسموها (رابطة أوربا) من غير إقحام مصر المسكينة. .؟
هل رابطة (مصر - أوربا) اتحاد مصري انجليزي آخر.؟
التأليف المسرحي:
عانت الفرقة المصرية في العام المنصرم أزمة في التأليف المسرحي فلم تقدم في هذا الموسم من الروايات المؤلفة الجديدة سوى رواية واحدة هي (الناصر) لعزيز أباظة باشا، وباقي ما قدمته إما مترجم أو مقتبس أو مؤلف قديم. ولم يبد إلى الآن ما يد على انفراج هذه الأزمة، على رغم ما قيل من اعتماد مبالغ من المال لتشجيع التأليف للمسرح.
ومما يدل على ذلك ان لجنة ترقية التمثيل العربي، لما أرادت أن تكمل هذا النقص في وضع برنامج الفرقة في الموسم القادم، قالت إن الظروف الحاضرة لا تسعف الفرقة بالمسرحيات التي تؤدي رسالة الأدب المسرحي الرفيع على الوجه الأكمل، وهي لذلك ترى ضرورة الاستعانة بالمسرحيات القديمة التي سبق أن أخرجتها الفرقة القومية وأحرزت النجاح. ومن هذه المسرحيات (مجنون ليلى وكليوبترا) لشوقي، و (قيس ولبنى والعباسة والناصر) لعزيز أباظة، و (حواء الخالدة) لمحمود تيمور، وتقدم مع هذه الروايات مسرحيات مترجمة سبق إخراجها وتمثيلها أيضاً.
وقد انكشفت الضجة التي ثارت حول المسرح في أواخر هذا العام، عن انضمام يوسف وهبي إلى الفرقة المصرية، أما تزويد الفرقة بمؤلفات مسرحية جديدة فلا تزال بإزائه علامتا أسف واستفهام. .
العباس
البَريدُ الأدَبي
فلسطين والأدب:
قرأت ما كتبه (فتى الفيحاء) في العدد السابق من (الرسالة) فاهتز كياني وكادت تذهب نفسي حسرات لما قارنت بين موقف أدبائنا وشعرائنا من أبناء وطنهم وأشقائهم، وموقف بيرون الشاعر الانجليزي من يونان.
فبيرون لم تكن تربطه باليونان لغة أو وطن أو جنس، ومع ذلك أيت عليه نفسه أن يرى طلاب الحرية وخطاب المجد يكافحون الغاصب ويدفعون المحتل ولا يكون لهم من نصرنه نصيب، فهجر راحته ووقف نفسه على اليونان ليكون له في إعانة الضعفاء قسط وفي بناء الحرية مقام.
فصرخت من أعماق نفسي واخجلتاه! أعقمت الأمة العربية فلم تلد بيروتاً واحدا؟
ولكن سرعان ما تبدل الخوف أمنا حين رأيت (الرسالة) تفتتح معركة فلسطين الأدبية فأرسلها صاحبها مدوية مجلجلة تنعي على ساسة أوربا وقادة أمريكا لصوصيتهم الكافرة وصليبيتهم المتطرفة، وتأليبهم الجائر على العرب ابتغاء مرضى يهوذا ومصانعة لأبناء صهيون. ثم ثنى على ذلك فصور نفسية اليهودي وقد اقتربت الفريسة منه بعد أن أحكم لها الشباك، ثم بدا له فارتد عنها مذعوراً، فلم يغره في هذه المدة وهج الذهب الذي عبده منذ خلق، ولم تأسره المادة التي ما زجت نفسه وانحدرت إلى عروقه من أسلافه، لأن ذلك قد يعوق سير الصهيونية ويضر مسلحة إسرائيل. ثم ثالث فأنذر بقيام ساعة العرب قريبا وكيف لا تكون قريبة وقد استنوق الجمل واستجملت الناقة، فحمل اليهود السلاح وشهدوا الحرب وأحرزوا النصر واحتلوا المدن؟
ثم انتظرنا بعد ذلك أن يستجيب أدباؤنا الكبار لنداء العروبة والأخوة فتتوارد على (الرسالة) مقالاتهم وقصائدهم لتسجل في ديوان العرب المشترك محنة فلسطين، فتشجع الخائف وتطمئن الحائر وتضيف عزيمة إلى عزائم المجاهدين. انتظرنا أن يحرك سقوط حيفا ومذابح دير ياسين وتشريد أبناء فلسطين مواطن العطف من نفوس شعرائنا فيبرز رثاء لمن استشهد، ومواساة لمن شرّد، وناراً تلظى على نفاية البشر وشذاذ الآفاق!
ولكن انتظارنا ذهب عبثا!
وبعد فأنا لنرجو من أدبائنا أن يصححوا موقفهم من فلسطين وأن ينظروا من أبراجهم العاجية بمنظار يكبر لهم الآلام الشديدة والمحن القاسية ليروها، فينصروا أهلها بألسنتهم وأقلامهم ويضموا إلى مجدهم الأدبي شرف الجهاد في سبيل حماية المسجد الأقصى وعروبة فلسطين.
(شبرا)
أحمد الجنادي
عضو البعثة السورية
حول الفن الإنساني:
قلت في العدد الماضي من الرسالة وأنا أتحدث عن الفن الإنساني، إن قصة (أدولف) للكاتب الفرنسي بنجامان كونستان تعد في رأي النقاد أكثر القصص الذاتية بقاء على الزمن، لأنها أكثرها إنسانية. . فهي أبقى من (آلام فرتر) لجوته و (رينيه) لشاتوبريان و (رفائيل) للامرتين؛ وإن الفارق بينها وبين (أدولف) هو الفارق بين الفن التصويري الذي يقف بك عند فترة من الزمن لا يتعداها، وبين الفن الإنساني الذي يتخطى حدود الزمن والمكان.
قلت هذا فعقبت الرسالة عليه بقولها: إن هذا رأي نسمعه لأول مرة، فكان على الكاتب أن يذكر النص الذي اعتمد عليه، والدليل الذي استند إليه
وردي على هذا التعقيب هو أني كتبت في مجال العرض والتحليل لا في مجال التحقيق العلمي. . وإذا كانت الرسالة تريد النص والدليل، فحسبي أن أنقل للقارئ رأيين في (أدولف) يتفقان في المعنى وما ذهبت إليه، أحدهما للكاتب الفرنسي الكبير يول بورجيه، والآخر للناقد الفرنسي فردينان برونتيير. يقول بورجيه:(إن أدولف لتعد مثلا أعلى للقصة الذاتية، ولقد بقيت من كل القصص التي ظهرت في القرن التاسع عشر أحفلها بالحياة، وأكثرها إنسانية، وأشدها أسراً للشعور، ولا توجد قصة أخرى تهزني كما هزتني هذه القصة). ويقول برونتيير: (إن أدولف قصة إنسانية لا يمكن أن ترقى إلى حقيقتها التحليلية قصة أخرى). ويلاحظ أن الرأي الأول قد شمل في مجال التفضيل قرناً كاملا هو القرن
التاسع عشر، وفي هذا القرن ظهرت آلام فرتر ورينيه ورفائيل.
وإذا كانت الرسالة تريد دليلا فحسبي أن أقول إن كلا من القصص الأربع تصور حياة مؤلفها ممثلة في عواطفه الإنسانية وتجاربه النفسية. . وهنا يقف الناقد ليلمس ظاهرة فريدة تحدد القيم الذاتية للأثر الفني، هي أن (أدولف) تصور العواطف الإنسانية عند كونستان وغير كونستان، من أصحاب الشعور والوجدان. . وأن آلام قرتر ورينيه ورفائيل لا تصور هذه العواطف إلا عند جوته وشاتوبريان ولامرتين!
هذا حكم يصدره النقد إذا ما أقام الدراسة الفنية على أسس وطيدة من الفهم النفسي، ولا عجب بعد ذلك إذا ما قررت أن أن الفارق بين (أدولف) وبين القصص الثلاث هو ما ذكرت ولعلي أكون قد قدمت النص والدليل. . .
أنور المعداوي
(الرسالة): لأ، يا أستاذ أنور! إن شرط النقل الصحة، والصحة
لا تتحقق في النص إلا إذا نقل بلغته من كتاب معلوم، وصفحة
مرقمة، وطبعة معينة. أما دليلك فلا ينهض إلا إذا أثبت
بالطريق العلمي أن الإنسانية في جوته وشاتوبريان ولا مرتين
من نوع خاص فتعبيرهم عنها لا يعم، وأنها في كونستان وحده
من نوع عام فتعبيره عنها لا يخص. ويبقى أن تقنعنا إذا سلمنا
لك صحة النقل أن هذين الناقدين الفرنسيين قد حكما لأدولف
هذا الحكم بالنسبة للأدب الأوربي لا بالنسبة للأدب الفرنسي
حتى يجوز أن يدخل (فرتر) في هذا الحكم.
شرح وإيضاح:
أراد الأستاذ الفاضل السيد علي زين العابدين منصور في العدد 773 من مجلة الرسالة الغراء، أن نوضح له كيف جوزنا لفظة (نداماء) الواردة في قصيدتنا (قلب شاعر) المنشورة في العدد 771 من الرسالة الغراء:
حتام أظمأ والأقداحُ دائرةٌ
…
مثل الكوابك ما بين النداماء
مع أنه بحث في قاموس (الفيروزابادي) في مادة (ندم) فلم يجد لها جميعاً سوى، ندماء، وندام، وندامى. ونود أن نقول للأستاذ منصور أن مد المقصور وقصر الممدود ضرورة من الضرورات التي أجازها علماء العروض، ولما كانت لفظة - ندامى - مقصورة فيكون مدها (نداماء) وكذلك لفظة (مولاي) مقصورة، وعند مدهتا يقال (مولائي) وقد استعمل ذلك أبو نواس كثيراً في شعره، فيقال من قصيدة منشورة في ديوانه المطبوع بالمطبعة الحميدية المصرية عام 1322هـ ص - 2، 2 في باب الخمريات:
إني لأشرب من عينيه صافية
…
صرفاً وأشرب أخرى مع ندامائي
وهذا البيت من قصيدة له مطلعها:
يا رب مجلس فتيان سموتٌ له
…
والليلٌ محتبس في ثوب ظلماء
ولا نظن أن أبا نواس الشاعر، وهو حجة في اللغة، يورد لفظة في شعره دون أن يكون متأكداً من أن علماء اللغة أجازوها
أما قول الأستاذ منصور أن فعل (صبا) يتعدى بـ (إلى) لا بـ (اللام) في قولنا (إن لم تكن روحه تصبو لعلياء) فهذا اعتراض ضعيف لأن (اللام) تقوم مقام (إلى) في كثير من الأحايين. فنحن نقول: ذهب إليه وذهب له، كما نقول: صبوت إليه وصبوت له.
هذا ما عن لي كتابته جواباً على استفهام الناقد الفاضل، وعسى أن يتصدى عالم جليل من علماء اللغة، فيشرح لنا ذلك. وللرسالة وصاحبها الجليل، فائق تحياتنا، وشكرنا على فضله وأدبه.
بغداد
عبد القادر رشيد الناصري
رد. . . وعجب
كنت نشرت في العدد (771) من الرسالة الزاهرة (قصة تضحية أم) ولشد ما تملكني العجب حين طالعت في العدد (772) الذي تأخر وصوله عشرة أيام بسبب أزمة النقل البريدي المستحكمة في هذه الأيام؛ كلمة للأستاذ الفاضل حسين مهدي الغنام تحت عنوان (حول قصة تضحية أم) نفي فيها صياغتي للقصة، ورواية الأستاذ الجليل جمال الدين الجيلاني في أصلها وأسماء شخصياتها، وادعى أنه نشرها في جريدة (الجلاء) بمدينة الإسكندرية عام 1938. وهو العام الذي كنت فيه، في الرابعة عشرة من عمري؛ وأنا لم أسمع باسم هذه الجريدة من قبل، وأظن أنها لم ترد للشام بعد؛ وأن الأستاذ الراوي كان مقرئا في بلاط حيدر آباد الهندي آنئذ؛ ثم ماذا يمنع رواية قصة أو حادثة قد قضى على حدوثها خمسمئة سنة مثلا.! وبعد فهذا عجب. ولعله يزيد عجبي لو أطلع على صورة هذه القصة التي صنعها قلم الأستاذ حسين مهدي الغنام لأعرف مقدار التحوير والتصوير واجتماع الخواطر!
عبد القادر صادق
تصويب:
قال الأستاذ العماري في العدد الأخير من الرسالة (والذي ساق بعض شباب الجيل إلى هذه التعبيرات السمجة هو ما قاله شوقي في رثاء اسماعيل صبري.
أو كان للذكر الحكيم بقية
…
لم تأت بعد رثيت في الأعراف
والحقيقة أن الكاتب قد أدخل بيتين خالدين لشوقي في بيت واحد، فقد قال شوقي أولا في رثاء مصطفى كامل.
أو كان للذكر الحكيم بقية
…
لم تأت بعد رثيت في القرآن
ثم قال ثانياً بعد خمسة عشر عاماً في رثاء اسماعيل صبري.
لو أن عمراناً نجارك لم تسد
…
حتى يشار إليك في الأعراف
(سرس الليان)
محمد محمد القاضي
الكُتبُ
في الأدب الحديث
تأليف الأستاذ عمر الدسوقي
الأستاذ عمر الدسوقي من أُدبائنا المبرزين، الواسعي الاطلاع، الدائبين على البحث والتنقيب، القادرين على التمحيص والتحقيق، وهو ذو قلم بارع سيال، وأسلوب قوي متين، يشهدله بتمكنه من الآداب العربية والآداب الأجنبية على السواء.
أخرج لنا حديثاً كتابه (في الأدب الحديث) وهو من الكتب الجليلة القيمة التي استوفت حظَّها من البحث والتحقيق، ولقد قرأ مؤلِّفه الفاضل واستقصى كل ماله علاقة بالأدب الحديث حتى بلغت مراجعه أكثر من خمسة وثمانين مرجعاً بعضها عربي وبعضها أجنبي، وبعد أن هضم هذه المراجع أخرجها لقراء العربية في هذا الثوب القشيب، المركز المعلومات، الممحص المباحث، في أسلوب عربي مبين، وعرض رائع جذاب.
استعرض المؤلف الفاضل الأدب الحديث من يوم أن بدأ يحبو إلى أن شب واكتهل وصار مارداً عملاقاً في جيلنا الحاضر.
استعرض النهضة في عصر محمد علي. شارحاً السبل التي سلكها للنهوض بالشعب المصري، ورفعه إلى مستوى الأمم الناهضة، مبينا أن الاتجاه في عصر محمد علي كان علمياً بحتاً لحاجة النهضة إلى العلوم، وأن الآداب لم يكن لها إلا نصيب ضئيل، ثم انتقل إلى عصر اسماعيل فتكلم عن النهضة في عصره، وعن الجمعيات العلمية التي قامت، والمدارس الأدبية التي نشأت، مترجماً لأصحاب هذه المدارس، وواقفاً عند البارودي باعث الشعر الحديث وقفة طويلة، خرج منها مبيناً إلى أي حد حاكى البارودي القدماء وقلدهم، وإلى أي حد جدد واخترع. وعرج منها على النهضة في بلاد الشام مبيناً أثر الإرساليات التبشرية فيها، وانتقل من ذلك إلى النهضة الجديدة في الأدب العربي التي اتخذت لها لوناً خاصاً، والتي ظهر فجرها في أخريات إسماعيل وعهد توفيق حينما منيت مصر بالاحتلال الأجنبي وازدياد نفوذ الأجانب وما كان من تنبه المصريين إلى الخطر الداهم، ومصادفة ذلك وجود السيد جمال الدين الأفغاني الذي ألهب النفوس وحرك العزائم وأيقظ الهمم، وما كان من جراء ذلك من ظهور الأدب القومي.
ثم انتقل إلى الكلام عن الاحتلال الانجليزي وفرض اللغة الانجليزية على تلاميذ المدارس المصرية، وما كان من أثر ذلك من اتصال الأدب العربي والفكر العربي اتصالا مباشراً بالفكر الغربي، وما كان من أثر هذا من اتجاه الأدب العربي إلى المسلك الذي سلكه حتى يومنا هذا.
ولقد بين إلى حد أثر الأدب الغربي في الفكر العربي وفي ألوان الأدب واتجاهاته وأساليبه نثراً وشعراً، دارساً بعض الألوان الجديدة التي قدمت للقارئ في أخريات القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.
وبعد أن بين ما للترجمة من النهضة الأدبية الحديثة واتصال بالفكر الأوروبي بين ما للمستشرقين من جهد في سبيل اللغة العربية وأدابها وبحث العقيدة الإسلامية ومذاهبها، ونشر ما عفت عليه الدهور وأغفلته يد النسيان من كنوز اللغة العربية معرفاً بأشهر المستشرقين المحدثين ومنتهياً من ذلك كله إلى الكلام عن القصة والمقالة، وهما الثوبات الجديدان اللذان ظهر فيهما النثر الحديث.
ولقد دعاه كلامه عن القصة إلى أن يتعرض بالتخطئة إلى ما قاله المستشرقون ومن حذا حذوهم كالأستاذ أحمد أمين بك، من عقم الخيال العربي لخلو الأدب العربي من القصة، على أننا نخالف الأستاذ عمر الدسوقي في ذلك وتؤيد الأستاذ أحمد أمين بك، وسنفرد هذا ببحث خاص ليس هذا مقامه.
والحق أن هذا الكتاب في رأينا من أحسن المؤلفات في دراسة هذا العصر الحديث، ولقد وفق فيه مؤلفه توفيقاً كبيراً يستحق عليه كل شكر وإعجاب.
(كرمة ابن هانيء)
كمال بسيوني
تربية سلامه موسى
تأليف الأستاذ سلامه موسى
ما قرأت في اللغة العربية سيرةً كتبها صاحبها عن نفسه فحالفه فيها توفيق كالتوفيق الذي أصابه الأستاذ صلامه موسى لما سجل أخيراً سيرته وأصدرها في كتاب عنوانه (تربية سلامه موسى). فهو كتاب أصيل فريد يمتاز بالصدق والإخلاص، ويبسط آراء الكاتب وانفعالاته وما استثاره من أحداث، وما استفزه على التفكير، ويرد لأساتذته المفكرين ديناً، ويرشد أبناء الجيل الجديد إلى وسائل الكفاح الذهني وطرق التجاوب بين الإنسان والمجتمع الذي يحيط به.
والأستاذ سلامه موسى إنسان، بشري، يؤمن بالإنسانية وبالبشرية، ويرى أن العالم (قرية) لجميع قطانه، وأن الفضيلة موجودة في كل مكان حتى عند الزنجي الجلف الذي جافته الحضارة وطمست الجهالة مسام ذهنه. وهو ما فتئ يعطف على كل كائن: على الفراشة، وعلى الدابة؛ وما برح يؤكد كل حركة إصلاحية مستقبلية، سواء كانت هذه الحركة من جانب المرأة للتحرر من قيود الرجعية الآسرة، أو من جانب المستذلين من الشعوب، أو من جانب الراسفين في أغلال الجهل الواقعين فرائس للمرض والفقر. والأستاذ سلامة صريح صراحة غير مألوفة في مصر وفي الشرق، حتى إنه ليقول عن نفسه (أخطأت حين اعتنقت المذهب النباتي) و (كتبت مقالا عربدت فيه وفسقت) ويقول (وقعت في فجر شبابي في عربدة جنسية ذاتية) ويقول (تقاضيت جنيهين من شهر مرتباً من وزارة الشئون الاجتماعية)، ويوغل في اعترافاته إيغالا لا ضابط له إلا الحقيقة.
وقد يسأل القارئ: وما دخل (حياة) سلامه موسى في (تربيته)؟
والواقع أن الأستاذ سلامه ما سرد سيرته إلا ليوطئ بها لبسط فلسفته في التربية والتهذيب الذاتي. فهو يتحدث عن نشأته والبيئة التي أنبتته والمشكلات التي اعترضته ليبين كيف تسنى له أن يستجيب لهذه العوامل وكيف تحقق له أن يتلمس أسباب العلاج فكان يصيب أحياناً ويخطئ أحياناً شأن كل راغب في الاستطلاع، تواق إلى تحصيل معارف كونية موسوعية.
وناحية ذات شأن تعرض لها الكاتب في كتابه هي الحديث عن تاريخ الكفاح المصري في
سبيل الاستقلال، والجهاد لنفض غبار الاستعمار عن أديم الوادي، وتصويره لهذه الأحداث تصوير انفعالي قوي. ألا ترى كيف بكى يوم قال له فرنسي وقح (الانجليز أسيادكم) وعاد إلى فندقه يتبرز دماً ومخاطاً. ألا ترى كيف أن حادث دنشواي الفاجع جعله في حالة غثيان وذهول لا يستطيع الطعام أياماً. أو لا ترى أن الشيء الوحيد الذي أعرب الأستاذ سلامه عن أسفه عليه في كتابه هذا هو أن الرقابة قيدة حرية كتابته خمسة عشر عاماً في الحربين العالميتين الأولى والثانية. ولم يأسف على فقد أمه ولا على فقد شقيقاته ولا على السجن الذي زج به فيه قدر أسفه على تكبيل حرية قلمه في هذه الفترة الطويلة.
والأستاذ سلامه يعيش للمستقبل لا للماضي فيقول إن الطاقة الذرية أنشأت عنده مركب نقض ما فتئ يعانيه منذ ما انفجرت قنبلة نيومكسيكو ثم قنبلة هيروشيما. ويقول إنه في السنوات العشر القادمة - إذا جاز له أن يرجو مد عمره فيها - سيدرس الذرة درساً مستفيضاً ولو اقتضاه ذلك استئجار مدرس خاص لأن خطورتها أكبر من أن يهملها رجل مثقف. وأمنيته في هذه السنوات التي لما تجيء هو أن يزور أوربا ويطوف في أرجائها، ولكنه يخشى إن فعل أن تعمد السلطات المصرية إلى تجريده من جنسيته كما فعلت من قبل بالأستاذ محمود حسني العرابي حين انتهزت فرصة سفره إلى ألمانيا وجردته من جنسيته لا لسبب إلا لدعوته التحررية الفكرية. وهو يريد أن يختم حياته في الريف المصري لأنه يرى فيه جمالا لا يراه في المدن، يريد أن يصادق الخراف والحمير والبقر والشجر، يريد أن يتحدث إلى النجوم ويحيي الشمس في الصباح ويضحك مع الماء يجري بين النبات ويأكل الخس والفجل على حرف القناة.
وبعد، فهذا كتاب تلونه مرتين وأرجو أن أتلوه مرتين أخريين على القليل فقد شغل تفكيري ونشط حواسي وأنهض عزيمتي وأرشدني إلى آفاق كان حرياً أن لا أقف عليها. كتاب بدل عندي قيم الأشياء وجعلني أستعير من الطفل رغبته الدائمة في الاستطلاع وإلحاحه المستمر في الاستفهام والسؤال.
وكأني بالأستاذ سلامه موسى يريد أن يقول لقرائه: كونوا كونيين. . . إفتحوا أذهانكم لكل جديد. . . لا تعيشوا بعيداً عن الواقع. . . انهلوا من موارد المعرفة غزيراً،. . . قاوموا السلفية والتأخرية والجمود. . . تعصبوا للبشرية عامة. . . آمنوا فبغير الإيمان لا يكون
للحياة معنى. . . أطلبوا مزيداً من الحياة لتزدادوا ثقافة واتساع فكر.
وديع فلسطين
(المحرر بالمقطم - القاهرة)
الفعل الارادي
تأليف الدكتور أبو مدين الشافعي
في مصر اليوم حركة ظاهرة ونشاط ملموس من جانب المهتمين بالدراسات النفسية.
ولدراسة علم النفس مكانتها في العصر الحديث ولقد فطنا في مصر أخيراً إلى هذا، فصار عندنا علماء أفاضل يعملون على نشر علم النفس ودراسته بالأساليب الحديثة والوسائل العلمية.
والكتاب الذي أعرض له الآن، هو للدكتور أبو مدين الشافعي مدرس علم النفس بكلية الآداب، وهو نتيجة دراسات طويلة وتجارب كثيرة وعمل متصل في هذا الباب. ولذا استوفى الكتاب جانب العرض النظري للافكار المتعلقة بالإرادة والأفعال الإنسانية وفكرة الجبر والاختيار، كما أنه شمل كثيراً من التجارب الدقيقة التي استفاد الدكتور من إجرائها إيماه الشخصي بالعمل الذي يؤديه والنتائج التي قول بها غير معتمد في هذا على الأعمال التي انتهى بها مؤلفوا الغرب وعلماؤه إلا من ناحية التوجيه والأسلوب فحسب. ولذلك كثيراً ما تراه يخالف الرأي الذي يذهبون إليه ويجمعون عليه خصوصاً وأنه في دراسته إنما يهتم بالشخصية المصرية التي لها من الظروف والأحوال ما يختلف اختلافاً كبيراً عن سواها.
والذي يدلك على أن الدكتور يقدم إليك مادة استوفى بحثها واستكمل أداتها هو أنه قد تخصص في هذا الموضوع بالذات. فله كتاب سابق هو كتاب الانتباه الإرادي وكتاب آخر باسم التعب. فدراسته ليست مرتجلة، بل هي نتيجة تخصص وعناية طويلة بالموضوع. وهذا يظهر لك من قوله: (يمكن عد الانتباه الإرادي أهم ركن للفعل الإداري، إذاً فدراسة الانتباه هي المقدمة الضرورية لدراسة هذا الفعل.
فهو إذاً قد نظم عمله بحيث بدأ بدراسة الانتباه ليخصل في النهاية إلى دراسة الفعل الإرادي نفسه. وهو لا يدرسه نظريا على الطريقة القديمة، وإنما يعمد إلى التجارب فيستمد منها الدليل على الخطوات التي يخطوها في هذا السبيل. ولذلك كان عمله متصلاً بجسم الإنسان ونفسه معا بحسبانهما وحدة لا يمكن أن يدرس منها جانب على انفراد. (وليمكن الوقوف على هذه المرحلة من الفعل الإرادي لابد من إلقاء نظرة على أسسه البيولوجية لنوضح
الفروق بين أنواع الفعل بوجه عام، ولنصل إلى مميزات الفعل الإرادي، وما هو دور الكف والتركيز في عملية التنفيذ) وهو لا يعني بالجسم وأوضاعه على هذا الوجه فحسب، بل يؤمن أيضاً من ناحية أخرى بأنه لابد من بحث صلة الفعل الإرادي بالعوامل النفسية البحتة قبل التطور الذهني والانفعال والضبط، على أن يكون هذا البحث على نمط علمي بعد أن طال النقاش حوله في الميدان الفلسفي).
فأساس نظريته إذاً هو التكامل. وهذا يتجلى بوضوح في محاولة الربط بين العوامل النفسية في الفعل الإرادي وبين الحديث عن الوسائل التي تحدد لنا حالات الجسم. هذا من جهة، ومن جهة أخرى يقول بوجود صلة بين النشاط الإرادي وما يسميه بالمجال الحيوي وهو المجال الذي يضمن للشخص توازناً عاماً يحقق به أغراضه الحيوية. وعنده أن المجال الحيوي يتوقف على مجالات أخرى مثل المجال الجسمي والمجال الاجتماعي والمجال الطبيعي والمجال الذهني، فالمجالات الثلاثة الأولى يشمل كل منها المجال الذي يسبقه، فالمجال الطبيعي يشمل المجال الاجتماعي، ويشمل هذا بدوره المجال الجسمي، وأما المجال الذهني فإنه يربط بين هذه المجالات كلها.
فهو إذن عالم يدرس مسائل الاجتماع ومظاهر الطبيعة، وحالة الإنسان، ينتهي منها جميعاً إلى الرأي الذي يعمل به في علاج الحالات المرضية المختلفة. وليس أدل على نزاهته العلمية من قوله:(ولم يكن بيير جانيه مخطئاً حين نسب إلى النشاط الحركي وإلى العمل العضلي قدراً من المجهود أكبر مما يبذله النشاط الذهني، وذلك لأن الأفعال الفكرية، أفسح حرية من الأفعال الحركية الخارجية). فهذا الرأي يخالف ما هو شائع بين عامة الأدباء الذين يريدون أن ينسبوا إلى أنفسهم امتيازاً على العامة في المجهود الذي يبذلونه، والمشاق التي يتكبدونها، والذين يقولون دائماً أن نشاط الذهن أثقل على النفس وأدعى للتعب من المجهود اليدوي.
والذي أعتقد أن الذي أفاد الدكتور كثيراً في دراسته هو عنايته بالدراسة العملية من جهة واشتغاله بمعالجة الحالات المرضية من جهة أخرى. ولذلك كثرت في كتابه الأمثلة التي يذكرها تأييداً لفكرته في أنه إذا شئنا معالجة المرض النفسي فعلينا أولا وقبل كل شيء أن نغير من المجال الذي يعمل فيه الشخص المريض، كما أنه من الواجب أن نوفر له الجو
الذي يتلاءم مع طبيعة مرضه؛ فالحالات المرضية الداخلة في نطاق علم النفس تحتاج إلى معرفة طرق التغيير وا تكتفي بالوقوف على الحالة الراهنة وعلى نوع المرض. ففكرة المجالات الحيوية من شأنها أن توجد لنا حلولا كثيرة لأمراض بقيت ألغازا إلى يومنا هذا وعلى هذا الأساس قال بصراحة الطبيب والعالم معا؛ (فالعدد الكبير من المصابين بالامراض العقلية في العالم لا يمكنه أن يجد الشفاء بين جدران المستشفيات، ويتطلب أغلبهم مجالا خاصاً يساعدهم على استرجاع توازنهم العقلي وضبطهم الإرادي. فمن العبث إذاً محاولة علاج المصاب بالشعور بالنقص عن طريق الوعظ أو الحقن، فلابد من أن نضعه في المجال الذي يرجع له ثقته بنفسه ليقاوم حسب مقدرته الخاضة).
والذي آخذه على الدكتور هو أنه كان يذكر أحياناً كثيرة بعض أسماء العلماء باللغات الأجنبية دون محاولة ترجمتها صوتياً في ألفاظ عربية. وكذلك كان يفعل أحياناً عند ذكر الكتب وأسمائها. والأفضل أن يذكر الكتاب بلغته الأصلية وبالترحبة العربية لاسمه في الوقت نفسه. ومن حيث المراجع التي أشار إليها في أسفل الصفحات تعد دقيقة ومتقنة، بيد أنه ينقصها الترجمة بل إن الترجمة العربية لها وحدها تكفي طالب علم النفس والقارئ العادي. وآخذ عليه أيضاً أنه مقل في الكتب التي يظهرها مع حاجتنا الماسة إلى مجهود كبير في هذا الباب من الدراسات النفسية. ونحن في بدء نهضة عملية من هذا النوع يفيدها الاطلاع والقراءة أكثر مما يفيدها عمل الدكتور الخاص في معمله أو في عيادته. وحبذا لو قام مع بعض تلاميذه بترجمة بعض الكتب الهامة التي تعد من المراجع الأساسية في علم النفس. وأما من جهة اللغة التي كتب بها الكتاب فعلى الرغم من سلامتها ومن امتيازها على كتاباته السابقة فإنها ينقصها عنصر المرونة والتوضيح. فكثيراً ما كان الدكتور يكتفي بالفكرة يذكرها عارية في جملة أو جملتين دون أن يحاول تفنينها وربطها بما يليها ربطاً جيداً. ومن هنا بدا الكتاب جملة من اللمحات والضربات الخاطفة. . .
وهذا، على كل حال، لا ينقص من قدر الكتاب، بل على العكس يدل على أن الكمال الإنساني مستحيل. وللدكتور منا الإعجاب بعمله القيم النفيس.
عبد الفتاح الديدي
القَصصٌ
ليلة في القبر
للأستاذ نجاتي صدقي
مات الأديب بعد أن قضى عمراً حافلاً بالإنتاج الأدبي، فقد ترك ثروة أدبية تقع في ثلاثة عشر كتاباً، وهي تعالج مواضيع مختلفة من تاريخية، وعلمية، واقتصادية، وروايات وقصص.
وفي منتصف الليلة الأولى من دخول الأديب القبر جاءه الملكان الكريمان منكر ونكير، ويا لها من ليلة!
فنبه ناكر الميت قائلا: إيه يا رجل قم!. .
وقال له نكير: هيا انزع عنك هذا الرداء الأبيض لنرى ما يضم في طياته من صفحات سود!. . .
فذعر الأديب لهذه المفاجأة ونهض متثاقلا، فرأى نفسه قبالة ملكين جبارين يحمل أحدهما هراوة حديدية ضخمة، ويحمل الثاني تحت إبطه كتاباً كبيراً.
وقالا له: نحن الملكان اللذان أخبرك عنهما الشيخ أثناء إيداعك هذه الحفرة. . فرجاؤنا ألا تنزعج من زيارتنا غير المنتظرة، فنحن لم نأت إلا للقيام بواجباتنا المقدسة، وإنا لنتمتع بسلطات لا حد لها، فنطرق القبور دون استئذان، ولا نُميز بين غني أو فقير، رجل أو امرأة، فتى أو فتاة، طفل أو طفلة. .
وسنشرع الآن في محاسبتك حساباً تمهيدياً، وعليك أن تكون معنا صريحاً، وتيقن بأننا لن نرحمك إن حاولت المداورة أو المراوغة.
وسأله منكر حامل الهراوة: ما اسمك؟. وما مهنتك؟ فأجاب الميت - اسمي (. . .) ومهنتي الأدب!. .
ففتح نكير الكتاب الكبير، وقلب صفحاته قليلا إلى أن عثر على اسم المرحوم. . وانكب يطالع مع ناكر ما كتب عنه في عشر صفحات طوال، ولما بلغا نهاية ترجمة حياته التفتا إليه والشرر يتطاير من أعينهما.
وقال له نكير: حياتك مليئة بالآثام، وسنحاسبك الآن حساباً عسيراً، قل لنا أأنت صاحب
كتاب (النجاة في الصدق) وغيره من الكتب الكثيرة؟. . . الميت: نعم. .
نكير: أتعترف بأنك كنت تدس السم في هذا الكتاب وفي غيره، وأنك كنت تنشر الإلحاد في الناس، وتبث فيهم الإباحية؟. .
الميت: هذه تهم باطلة، وإني لأحتج عليها بكل ما أوتيت من قوة. . إنك أيها الملك الكريم تردد ما قاله خصومي في. والواقع أنني كنت أنشر المعرفة في قرائي، وأبث فيهم روح الحرية. . كنت أرفع الغشاوة عن أعينهم وأدلهم على طريق الهدى والصواب.
نكير: لقد بدأت تراوغ؟. . والتفت إلى منكر وقال له: اضرب!
وهوى منكر بالهرواة على ظهر المرحوم وقدميه بضربات شديدة جعلت سكان القبور المجاورة يرتعدون فرقاً من هول ما يجري في قبر جارهم الجديد، وكان الأديب يصرخ وسط هذا العذاب ويقول: إن عماكما هذا غير شرعي. . وستظهر براءتي في يوم الحساب الأكبر. . ماذا تريدان مني؟. . إنني نشرت المحامد في قرائي، وكشفت النقاب عن مساويء الناس وشرورهم، وبينت لهم أخطاءهم ونقائصهم. . ثم إنني إذا كنت قد وضعت مؤلفات وأنا على قيد الحياة مشبعة بشيء من الحرية والصراحة، فثقا بأنني عوقبت عليها، وسجنت، واضطهدت، وليس لديكما مبرر لمعاقبتي مرة أخرى!.
فتوقف منكر عن الضرب، وتابع نكير قوله للمرحوم الأديب: إسمع أيها المتهم. . نحن نضاعف العقاب على الكتاب المفكرين ونجعلهم في المرتبة الأولى بين المتهمين ويليهم الأشقياء واللصوص!. . فالشقي عندنا ينتهي أمره بموته. . أما الكاتب فجريمته لا تنتهي بموته، بل على النقيض من ذلك فإن مفعول سمومه يزداد جيلا بعد جيل. . وهذاعين ما فعلته كتاباتك وما ستفعله في المستقبل.
والتفت إلى منكر وقال له بحزم: اضرب!. . اضربه بشدة على أصابعه التي كانت تقبض على القلم!. .
وهوت الهراوة على يدي المرحوم، وكان يصرخ ويتلوى من شدة الألم، ثم حاول المقاومة لكن رأسه ارتطم بحجر فانطرح مغشياً عليه، فمسح ناكر وجهه بيده فأفاق ثانية وقال رحماكما أيها الملكان الكريمان. إنني دعوت في كتاباتي إلى حرية الإنسان، فقبحت جميع أنواع الظلم والطغيان، ونبهت في قرائي حب الفنون، وحدثتهم عن الحب، والموسيقى،
والغناء، كما حدثتهم عن لؤم النفس ومساوئها، ومظاهر خستها وانحطاطها؛ وقد فعلت ذلك متمتعاً بحرية القول التي خولتني إياها الهيأة الاجتماعية، وكان رائدي دائماً الإصلاح، والإصلاح لا غير.
فقاطعه نكير قائلا: قلت لك لا تحاول أن تضللنا، إنك منهم بتفرقة الأبناء عن الآباء، وبإيقاع الشقاق بين أسرة وأخرى، وحي وآخر، وجماعات وجماعات، هذا والله وحده يعلم ما ستسفر عنه كتبك من شرور في الأجيال القادمة.
والتفت إلى منكر قائلا للمرة الثالثة: اضرب وافهمه بأنه لا زال في دون التحقيق!. .
وانهال منكر على الأديب بالهراوة، وهذا ينقلب على نفسه، ويعول مستنجداً ولكن دون جدوى.
وهنا تدخل نكير وأشار على منكر بإيقاف الضرب منبهاً إياه إلى أن الساعة بلغت الثانية بعد منتصف الليل، ثم التفت إلى المرحوم الأديب وقال له: نكتفي بهذا القدر هذه الليلة، وانتظر قدومنا غداً عند منتصف الليل أيضاً فلنا معك حساب بصدد مجموعة قصصك المسماة) المدينة الشقية - وقصص أخرى) ثم إننا سنوالي زياراتنا إليك في ثلاث عشرة ليلة على التوالي لنبحث معك في كل ليلة آثام كل كتاب على حدة. . فإلى الغد أيها المتهم.
وعاد الملكان الكريمان في منتصف الليلة الثانية إلى قبر الأديب ولكن لشد ما أدهشهما أنهما وجدا القبر خاوياً!. .
نجاتي صدقي